شبكة روايتي الثقافية

شبكة روايتي الثقافية (https://www.rewity.com/forum/index.php)
-   روايات أحلام المكتوبة (https://www.rewity.com/forum/f203/)
-   -   223-أشياء لاتباع -مارغريت واي-(كتابة /كاملة) (https://www.rewity.com/forum/t396736.html)

Just Faith 24-11-17 02:26 AM

223-أشياء لاتباع -مارغريت واي-(كتابة /كاملة)
 
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

https://1.bp.blogspot.com/-zd3gc7Qm_...77513e4803.jpg

https://lh3.googleusercontent.com/kl...g=w130-h212-no


ازيكم أعضاء روايتي الحلوين والحلوات
اليوم مبارك بجد علينا وعليكم
عشرأعوام أكمل منتدنا من سنينه عشرة
قراءة ممتعة لكم جميعا




https://www7.0zz0.com/2012/08/03/16/724194078.gif




روايات احلام

223- اشياء لا تباع - مارغريت مايو

الملخص

- هل أنت سعيدة

عندما يصبح الحب خطأ والمال لعنة، والشك حاجزا

بين الحبيبين فماذا يبقى للسعادة؟

- سأكون سعيدة فقط لو وثق بى حبيبى!

هذا ما قد تجيب به آنا ولكن لان هذه الامنية مستحيلة فقد رحلت بعد أن

تخلى عنها أوليفر بكل بساطة من أجل اتهامات لا أساس لها

وعندما أتى باحثا عنها بدا لها أن شيئا لم يتغي :

- ماذا عسانى أفعل لتغفر لى ؟ أأجثو على ركبتى وأرجوك!

- لن يكون ذلك كافيا، لاشئ سيكفينى ... ليس لديك فكرة عن

الجراح التى حفرتها عميقا فى روحى، جراح لن تندمل ما دمت

حية. لن أسامحك قط وأنا على قيد الحياة . . .

_________________



يجب ان ترد لمشاهدة المحتوى المخفي


الرواية منقولة شكرا لمن كتبها

Just Faith 26-11-17 07:04 PM

1 - ضربة حب
- هل أنت سعيدة ؟
اقتربت آنا من أوليفر لتشعر بدفئة وأومأت برأسها. كانت تلك احدى اللحظات الرومانسية الخيالية التى تستحيل حقيقة. مضى أسبوعان على تعارفهما وها هى الان غرقة فى الحب من رأسها حتى أخمص قدميها .
كانا على ظهر المركب فى طريقهما الى انكلترا، وقد طلب منها الزواج، فشعرت بالفعل انها أسعد فتاة فى هذا العالم. هل من الضرورى أن يسألها أوليفر عما اذا كانت سعيدة ؟ ألم يكن ذلك باديا بشكل جلى على وجهها المتلألئ ، وعلى عينيها اللتين تحدقان فيه بهيام؟ وعلى لمساتها وهمساتها له؟ لقد كان رائعا، بسحره وجاذبيته، فلم ترد قط أن تدعه يبتعد عنها.
كان لقاؤها به فى تلك الرحلة، ومن ثم ظهوره على عتبة بابها بعد بضعة ايام، أمرا مدهشا تماما، كأنها تشاهد فيلما سينمائيا. ولم تكترث لكيفية عثوره عليها، بل اكتفت بانه فعل فلم تتردد قط فى دعوته للدخول ومن ثم قبول دعواته للخروج .
انه حقا جذاب وخلاب الى حد الجنون انه الغريب المثالى بقامته الفارعة وبشرته الداكنة ووسامته وعينيه الذهبيتين الرائعتين اللتين تضفيان عليه جاذبية ساحقة .
لقد كانت رحلة لا تنسى من فيشغارد الى روسلير كان المركب يشق طريقه بصعوبه عبر الامواج القوية، وعندما ترنحت آنا وكادت تقع أمام أوليفر لانغفورد فى متجر الهدايا، التفت ذراعاه بعفوية وتلقائية حولها ليحول دون وقوعها . وما لبثت أن شعرت فى اللحظة نفسها بتيار كهربائى يمر عبر كل خلية من جسدها، واحست بتجاوب مباشر ومخيف معه لم تكن تتوقعه .
تمتمت وهى تجهد للتكلم بصعوبة :- أنا آسفة .
بدا كأن الهواء من حولهما قد ازدادت كثافة، مما جعل التنفس امرا مستحيلا، لكأن غمامة غشيت كل الحاضرين فى المتجر لتعزلهما هى وهذا الغريب فى هالة من الاثارة.
- لقد سررت بذلك .
تناهى صوته أبحا كما لو أن احاسيسه هو أيضا قد تنبهت واضطربت عند ملامستها، كما لو أنه هو ايضا لم يعد متنبها لوجود احد من حولهما. لم يستطيع ان يشيح بنظره عنها فراحت عيناه تغوصان عميقا فى روحها بحثا عن اجابات عن أسئلة لم تعلم اى شئ عنها.
- هل تودين أن ارافقك الى مقعدك ؟
وبقيت عيناه مسمرتين فى عينيها. بدا كأنه يلتهمها، ويبعث فيها حمى من المشاعر لم يسبق ان عرفت لها مثيلا من قبل. كيف لرجل غريب أن يبعث فيها مثل تلك الاحاسيس؟ لم تجد لذلك اى تفسير منطقى، أنى لرجل متشح بالسواد أن يحدث فى نفسها هذا الوقع الذى رمى بها فى دوامة من المشاعر المثيرة ؟ لم تجد جوابا لأى من تلك الاسئلة .
تلوت مبتعدة عنه بقوة قائلة:- أستطيع تدبر أمرى .
كانت نبرتها تنم عن كبرياء هادئة، متجاهلة النيران التى اشتعلت فى عينيها الزمرديتين، وما أحدثته فى نفس الرجل الذى حال دون وقوعها. عادت بهدوء الى مقعدها ولم تره ثانية الى أن ظهر على عتبة باب الكوخ لم تكن قد نسيته، بل استمرت فى التفكير فيه بشكل متواصل، فكانت صدمتها كبيرة عند رؤيته الى حد بعث فى نفسها الذعر. كان الامر كما لو أنها استحضرته من ذهنها بمجرد التفكير به .
لكن هذين الاسبوعين غمراها بفيض من السعادة التى لا تنسى. لقد ذهبت الى تلك المنطقة الجميلة فى جنوبى ايرلندا لتنعم بالسلام والهدوء بعد أن ساءت أعمالها، الا أنها وجدت عوضا عن ذلك الحب والاثارة اللذين يفوقان الخيال، الحب الذى توجه أوليفر بطلب يدها للزواج به .
- ما الذى تفكرين فيه .
مرر أوليفر اصبعه بلطف على أنف آنا الشامخ الجميل . أخيرا أنصفه القدر بعد طول انتظار. كانت آنا تمثل صورة نقيضة لكل النساء الاخريات اللواتى عرفهن، بحيث أنه لم يصدق الحظ الجيد الذى حالفه .
رفعت رأسها نحو رأسه وعيناها تبتسمان وشعرها الاحمر الحريرى يبرز جمال بشرتها النقية الجذابة بحبيبات النمش المنتشرة عليها.
أقرت آنا :- كنت أفكر فى لحظة لقاءنا ، وفى السرعة التى تم بها كل شئ فمنذ أسبوعين اثنين لم أعرفك، والان قد قبلت الزواج بك هل جننت أم ماذا؟
ابتسم أوليفر وهو يجيبها:- ان كنت قد جننت فأنا أشاركك الجنون نفسه، فمنذ أسبوعين اثنين كنت قد قررت الابتعاد عن النساء كلهن أما أنت ، فأمرأة مميزة جدا يا ( آنا بايج) هل تعلمين ذلك ؟ أظن أنك ساحرة متنكرة ومتخفية فى أى زى آخر تمارسين سحرك الفتان على واظن أن علينا الانتهاء من ترتيبات زفافنا ما ان نصل الى البيت .
- ألا تعتقد ان علينا التروى والانتظار قليلا لنتأكد ؟
- أنا متأكد أريد أن أمضى ما تبقى من حياتى معك. أريد أن أنجب الاطفال منك . أريد .. كل شئ . أريد حبك وأخلاصك ، وصداقتك والتزامك. هذا ما أنوى تقديمه لك . هل أطلب منك الكثير ؟
حبس أنفاسه بانتظار جوابها. لكنه سرعان ما انفرجت اساريره حينابتسمت آنا واقتربت منه تعانقه وهى تهمس له :- هذا ما أريده انا ايضا .
شعر أوليفر بحبها الصادق له ينبض فى قلبها ، فعانقها شاكرا القدر على سعادته.
ان الذعر هو الذى دفع به للحاق بها بعد نزولها من المركب ففكرة عدم رؤيتها ثانية أسقمته ، ولعن المؤتمر الذى أبعده عنها لثلاثة أيام . خطر له انه مجنون لآنه لم يشعر بمثل هذا الانجذاب المميت نحو امرأة من قبل ، وما انفك يتخيلها مع رجل آخر . لم يصدق أن أمرأة بجمال آنا وتألقها ليس لها حبيب .
لقد سيطر عليه الخوف وهو بقرع باب الكوخ الذى تقيم فيه. لذا تحقق حلمه حين اكتشف أنها وحيدة . وحين أبدت القدر نفسه من السرور والاثارة عند رؤيته . سألته :- متى تقترح أن نتم الزواج ؟
- فى أول فرصة تسنح لنا .
أجابها وهو يملأ رئتيه من شذى عطرها الذى ينبه أحاسيسه كلما اقترب منها كانت فى الواقع تفقده صوابه باستمرار، حتى مجرد التفكير فيها عندما يبتعد أحدهما عن الاخر. مهما تكن المدة قصيرة يكون كفيلا بتنشيط أحاسيسه وأثارتها. كان فى حالة دائمة من الاثارة .
- لا يمكننى المخاطرة فى ان أدع أحدا آخر يخطفك منى .
افتر ثغرها عن ابتسامة عذبة واثقة :- ما من سبيل الى ذلك ، فلقد سحرتنى أنت أيضا.
الا أنه لم ينو المجازفة، بل سيسعى لاتمام زفافهما بأسرع ما يمكنه. لم يسبق له من قبل أن التقى بأمرأة اطمأن معها لرغبته فى تمضية ما تبقى من حياته معها . كانت آنا مختلفة ، عرف ذلك عن طريق حدسه، ولم يرد اضاعه المزيد من الوقت الثمين .
ما أن زلا عن متن المركب حتى بدأ يخطط لاصطحابها الى منزله فى كامبريدج للقاء والده ، وأمل فى أن تمضى آنا الليلة هناك قبل أن تعود الى شقتها فى لندن . أرعبته الفكرة القائلة ( بعيد عن العين ، بعيد عن القلب ) لكنه تقبل على مضض عودتها الى لندن لحاجتها الى ترتيب أمورها قبل أن تنتقل للعيش معه.
أن الاسبوعين الحميمين اللذين أمضياهما فى ايرلندا جعلاه يدرك مدى تعلقه بها لأنها اصبحت جزءا منه بحيث أن الحياة بعيدا عنها باتت مستحيلة لكن ردة الفعل التى أبداها والده هى ما لم يتوقعه :
- أبى ، أريد ان اعرفك بآنا بايج ، الفتاة التى سأتزوجها .
ابتسمت آنا له بابتهاج. لم يكن فارع القامة كأبنه بل أكثر ضخامه، لكن له نفس العينين المفترستين نفسيهما وقد غطى رأسه شعر ابيض كثيف مسرح الى الوراء كالفرس .
مدت يدها لتصافحه فأصابتها الدهشة حين لم يأت بأى حركة . فى المقابل ، راحت عيناه تفترسانها بشراسة وادانه ورفض واضح لها . لم تكن لديها أى فكرة عن السبب . وبعد أن جالت عيناه عليها من أعلى الى أسفل بازدراء باد على شفتيه الملتويتين كما لو انها لا تستحق حتى التواجد معه فى الغرفة نفسها، عاد لينظر الى أبنه قائلا :- هل فقدت صوابك يا أوليفر؟
شعرت بأوليفر ينقبض وراحت يدها تبحث عن يده لتمسكها متسائلة عما يحدث هنا .
أجاب أوليفر بحزم :- لا، يا أبى ، لم أفعل . فأنا أحب آنا .
- الحب ! بالله عليك ! منذ متى تعرفها ؟
- منذ أسبوعين .
شد بيده على يد آنا مطمئنا ، كأنما يقول لها بصمت ان غضب والده وانفعاله لا يدعوان للخوف أو القلق . وتابع قائلا لأبيه :- لكن الوقت ليس له أى شأن هنا أنا أحب آنا ، وليس مهما ما تقول ، يا أبى . سأتزوج بها ما أن أنتهى من أتمام اجراءات الزفاف . لا أرى سببا يدعونى للانتظار .
- انت غبى
تحول لون وجه العجوز الى الاحمر القانى من شدة الحنق . فتكلمت آنا أخيرا :- ان كان غبيا فانا كذلك ايضا . أنا أبادل أوليفر المشاعر نفسها، وأريد الزواج به من دون تأخير . يؤسفنى أن تكون غاضبا سيد لانغفورد ، ولكنى أؤكد لك أن ...
قاطع آنا احد مستخدمى السيد ادوارد ليقول له انه مطلوب على الهاتف لحالة طارئة بسبب مشكلة وقعت فى أحد المواقع . أمر ادوارد أوليفر بحزم :- تول أنت هذا الامر الرب وحده يعلم كم من المشاكل واجهنا أثناء غيابك .
نظر أوليفر الى آنا مقطبا فعلمت أنه يخشى أن يتركها وحدها ، طمأنته بأبتسامة واثقة قائلة :- لا بأس .
كان قد أخبرها من قبل ان والده لم يعد يعمل فى شركة تطوير الممتلكات خاصته بسبب مشاكل صحية تتعلق بالقلب، وترك ابنه يتولى زمام الاعمال كلها لذلك كان من الصواب أن يهتم أوليفر الان بادارة الامور والسهر على حسن سيرها .
ما ان خرج أوليفر من الغرفة حتى استشاط والده غيظا سائلا آنا :- هل لديك أدنى فكرة عن السبب الذى دفع بأوليفر لطلب يدك للزواج ؟
دفعها سؤاله الى رفع حاجبيها دهشة لكنها أبت أن تسمح له باحراجها فأجابته :- لأنه يحبنى ، يا سيد لانغفورد ، كما أحبه انا . هل تلمح الى وجود سبب آخر ؟
- أنا لا ألمح أو أقترح ، بل أنا متأكد من وجود سبب آخر، فهو مغرم بأمرأة أخرى . يبدو أنهما تشاجرا فقال لها أوليفر أن كل شئ انتهى بينهما . لكنه قال ذلك مرات عديدة من قبل، وكانا يعودان لبعضهما دائما .
سألته آنا بحدة :- هل يصدف أن يكون أسمها ميلانى .
ارتفع حاجبا ادوارد لانغفورد دهشة :- لقد أخبرك عنها ؟
احنت آنا رأسها :- من الطبيعى ان يفعل . فلم يخف أحدنا شيئا عن الاخر على الزواج الناجح أن يتأسس على الثقة والتفاهم ، وقد كنا منفتحين تمام فى التكلم عن ماضينا . كانت آنا قد أخبرت أوليفر عن تونى ، الرجل الذى كان خطيبها فى ما مضى . وأخبرها هو بأمر ميلانى ، الفتاة التى أراد والده أن يزوجه بها .
- لقد أمسكت به فى فترة ضعفه .
قال لها ايضا انه سعيد لتخلصه منها . فهى ابنه صديق مقرب من ادوارد، وهى أيضا ابنة والده بالمعمودية ، وقد اكتشف أوليفر انها كانت تتباهى امام أصدقائها بكونه صفقة مربحة بالنسبة اليها ، تستطيع ان تحصل منه على ما تريد من المال كلما رغبت فى ذلك .
- عانى ابنى من عدد كاف من الطفيليين ومطاردى الاثروات بحيث استطيع التعرف اليهن عن بعد ميل .
نظر ادوارد لانغفورد الى آنا بعينين يتطاير الشرر منهما مما بعث الخوف فى نفسها ، واضاف :- أنت تفوقين بعضهن ذكاء بقدر قليل اقتربت منه وهو فى حالة من الضعف البالغ لكن ماله هو مالى أنا لقد صعد سلم التجاح فى شركتى انا ، وكنت حريصا على ان يتكبد مشقة الارتقاء والنجاح،لكن كل قرش يدخل الى جيبه آت منى بطريقة غير مباشرة. ولن أسمح لاحدى النساء الفاجرات الوقحات أن تأتى وتسلبه ماله .
حدقت آنا فى الرجل العجوز ببرود، وهى تجهد للحفاظ على بريق الثقة فى عينيها ثم قالت :- عندما التقيت بأوليفر سيد لانغفورد لم أعلم انه من عائلة ثرية، أو حتى انه يملك المال . لقد أغرمت بأوليفر الرجل . كان من المحتمل ان يكون عاطلا عن العمل . لم يكن الامر ليثيراهتمامى أو ليدفعنى الى التراجع . فالمال لا يهمنى الا بالقدر الذى اتمكن فيه من ستر نفسى ببعض الثياب وملء معدتى ببعض الطعام . وما دمت أملك هذا القدر فقط ، أكون فى غاية السعادة .
لم تؤثر كلماتها فى نفس الرجل العجوز الذى طفقلا يحدق فيها بعدائية بالغة قائلا :- تتوقعين منى أن أصدق كلامط اليس كذلك ؟ حسن دعينى أقول لك ، يا أنسة ، أن ما من امرأة على وجه هذه الارض لا تتأثر بالمال .
عبر الغرفة نحو طاولة المكتب والتقط دفتر شيكات مصرفية وراح يدون على أحدها ، قبل ان ينتزعه ويمد يده به الى آنا ، قائلا :- هاك خذى هذا وليكن ذلك النهاية لهذا الوضع المستحيل .
كان المبلغ كبيرا جدا يكفى بأعالتها لما تبقى من حياتها ، لكن آنا لم تكترث له. بل شعرت فى الواقع بالاهانة جراء هذا . جل ما كانت تبغيه هو الزواج بالرجل الذى تحب .
رمقته بازدراء واشتدت كل مفاصلها وهى تقول :- لا أريد مالك يا سيد لانغفورد. أرى أنك لا تؤمن بالحب ، لكنى أفعل ، وكذلك أوليفر ، وكل ما نريده هو أن نكون معا .
أمسكت آنا بالشيك ببطء، وشرعت تمزقه الى أجزاء صغيرة صغيرة قبل أن ترميها على الارض مضيفة :- هذا ما تستطيع أن تفعله بمالك .
حدجها الرجل بعينين تقدحان شررا لكنه حافظ على رباطة جأشه وبقى بعيدا عنها :- أنت فتاة صغيرة حمقاء أنت تقترفين أكبر خطأ فى حياتك .
- لا أظن ذلك، لكن رأيك يخصك وحدك .
- ان كنت عاجزا عن جعلك تتراجعين عما فى بالك وتعزفين عن اتمام هذا الزواج المستحيل، فانى أحذرك ان أقدمت مرة على أى شئ لالحاق الاذى بأبنى يا انسة بايج أى شئ على الاطلاق سيكون عليك التعامل معى انا شخصيا . لا تخطئى ابدا فى التقدير .
عندما عاد أوليفرالى الغرفة كانت آنا وحدها وقد وضعت الشيك الممزق فى حقيبتها لتتخلص منه لاحقا. قطب أوليفرحاجبيه وهو يسألها:-أين أبى؟
لم ترد آنا أن تفسد عليه فرحته باطلاعه على ما فعله والده ، فأجابته بلا مبالاة :- أظن أنه وجد شيئا آخر يقوم به .
- انا آسف حقا لانك لم تلقى منه الترحيب الذى تستحقينه حقا لم أتوقع قط أن يبدى ردة الفعل تلك .
جذبها نحوه وشرعت عيناه تداعبان عينيها الخضراوين .
ليس هذا بالامر الهام ، فأنت هو من سأتزوج، وأنت هو من أحب .
- لنذهب الى البيت ، فلدينا الكثير لنقوم به. لم تأسف آنا لمغادرتها منزل ويستون ، بيت العائلة الكبير المرهب المبنى على أرض شاسعة فى ضواحى كامبريدج.
كان أولبفر يسكن فى منزل مستقل تابع لمنزل العائلة لكى يبقى قريبا من والده عندما يحتاج اليه هذا الاخير، ولكى يتمكن فى الوقت عينه من التمتع باستقلاليته .
- أنا أحب المكان هنا ، أنه يعجبنى .
شعرت آنا بالفرحة وهما يدخلان الى المنزل ، كان المكان واسعا نوعا ما لكنه لا يشبه منزل العائلة ، بل يطغى عليه جو دافئ مريح بغرفة الواسعة وأثاثة المريح . فسألته :- هل سنعيش هنا بعد زواجنا ؟ .
- نعم بالتأكيد . وهنا سنمضى الليلة ايضا. دعينى أرشدك الى غرفة نومك.
أبعدت آنا عن ذهنها الاحداث التى جرت عند لقائها السيد لانغفورد وأطلقت لسعادتها العنان لتنعم بكل لحظة تمضيها برفقة أوليفر الحبيب.
********************************

Just Faith 26-11-17 07:04 PM

2 - جسر الموت
كان يوما رائعا من ايام الربيع، اكتظت الكنيسة بالورود، الورود البيضاء بكل الانواع التى يمكن تخيلها، من الورد الجورى الى الزنبق والقرنفل والسوسن كما تدلت الاشرطة الحريرية البيضاء على الجدران وعلت الاقواس الممر الذى سارت عليه آنا متأبطة ذراع والدها وهى تتجه نحو المذبح تغمرها سعادة لم تعرف لها مثيلا من قبل فى حياتها .
حرص أوليفر على أن يتم الزفاف فى أفضل الظروف، فأولى عناية خاصة لأدق التفاصيل كل ما كان عليها فعله هو اختيار ثوب زفافها وثوب وصيفتها، واهتم أوليفر ووالداها بالباقى . كيف استطاعوا انجاز كل ذلك فى أسبوع واحد؟ هذا ما لم تعرفه آنا قط .
الفرق كان واضحا بين الترحيب الذى لقيه أوليفر من والديها، وبين الطريقة التى هددها بها أدوارد لانغفورد . عمدت عن قصد الى أغفال عدائيته ونسيانها محدثة نفسها بأن الوقت كفيل بأن يحمل والد أوليفر على تقبلها، لكنها لم تستطع منع نفسها من التفكير فيه أحيانا .
استدار أوليفر عندما وصلت اليه آنا فسطعت عيناه ببريق الحب الذى لم يستعر بمثل هذه القوة من قبل. قال لها بنعومة: - كم تبدين جميلة وكأنك احدى آلهات الحب الاسطورية. أنا من أشد الرجال حظا فى العالم .
همست:- انا محظوظة ايضا ، أحبك أوليفر لانغفورد .
لم يحضر والده حفل الزفاف، لكن ذلك لم ينغص على آنا يومها. فى الواقع، لو كان أدوارد موجودا، لأقلقها ذلك وحال دون سعادتها .فى المقابل ، كل شئ كان كاملا ومثاليا .
بما أن أوليفر كان مرتبطا بمواعيد هامة فى العمل، فقد أجلا شهر العسل ، لكن آنا لم تنزعج قط من ذلك. كانت آنا فى الواقع تشعر أنهما فى عسل دائم منذ أن التقت به الى الان .
بدا أوليفر سعيدا ايضا ، وكان يظهر ذلك فى مناسبات مختلفة، وهو حتما لم يكن تواقا الى استعادة حبه القديم الضائع . ولم يستطع أخوها أن يحضر الزفاف بسبب ارتباطات فى العمل فى أوربا لكنه عاد الان وشعرت بسرور بالغ عندما أتى لزيارتها لم يكن يبدو عليهما أنهما شقيقان، فكريس يكبرها بخمس سنوات، وهو أشقر الشعر وليس أحمر مثل آنا، وعيناه بزرقة البحر كان فارع القامة ووسيما للغاية .
كان يدير شركة اعلانات، ةيبدى حبا وتعلقا شديدين بأخته الصغرى قالت له عندما زارها :- يؤسفنى أن أوليفر ليس موجودا هنا . أريدك حقا أن تلتقى به أدخل وأجلس ، فلدينا الكثير لنتحدث عنه .
بدت على ملامح وجه كريس الجدية فجأة وهو يقول :- كنت أعلم أن أوليفر لن يكون فى المنزل. لهذا السبب اخترت أن آتى الان فى الوقت الذى تكونين فيه وحيدة .قطبت آنا حاجبيها حين تلاشى بعض من سعادتها ليحل محله شعور مفاجئ بالانزعاج .
- لماذا؟ ألست موافقا؟ هل أتيت لتحذرنى بشأنه ؟ هل اكتشفت شيئا لا أعرفه ؟
تنهد كريس وابتسم قليلا بطريقة غريبة :- لا بالطبع أيتها السخيفة أريد أن أطلب منك خدمة ، خدمة كبيرة .
- آه ؟ كانت تلك اللحظة هى المنعطف الاساسى فى مجرى الاحداث . فقد جرت العادة على أن تطلب آنا من كريس اذ كانت طفلة العائلة المدللة ولطالما كان لطيفا وكريما معها .
عض على شفته السفلى وهو يهز يديه بتوتر قائلا :- ما من طريقة سهلة لقول ذلك، أنا بحاجة الى المال ، يا آنا .
- ماذا ؟ لم تعلم آنا قط أن أخاها يعانى من أزمة مالية .
أعلن لها بمرارة :- أعمالى تمر بأزمة مالية حرجة . ثم عقب بسرعة قبل ان تقول أى شئ :- لكن ... أتوقع صفقة كبيرة ستكون كفيلة بانتشالى من الازمة واعادة الامور الى نصابها . انها مجرد أزمة عابرة، لكن من دون مساعدة مالية قد أغرق وأنتهى قبل ذلك.
هزت آنا راسها، آسفة لحال كريس ثم قالت بأسى :- لاأعلم كيف استطيع مساعدتك، الا ان كنت تعتقد أن أوليفر قد يفعل ؟ فى الواقع ، أنا متأكدة من ذلك، فهو أكرم رجل عرفته فى حياتى ، أستطيع سؤاله عن ذلك .
كاد كريس ينقض عليها ليقاطعها :- لا! عليك ألا تقولى لزوجك أى شئ قط . وحين بدا الذهول على آنا راح يشرح لها بتأن وهدوء :- أترين ، أن الصفقة التى آمل الحصول عليها ، والتى انا متأكد من الحصول عليها ، هى مع شركة زوجك . واذا علم بالازمة التى امر بها ، فلن يتعامل معى قط بعدها . الا اذا .. كان يعلم من أكون؟ ان تكن الحال كذلك، فهذا يعنى أنى غرقت فعلا .
أجابته وهى ترسم على ثغرها احدى ابتساماتها المتلالئة :- هو يعلم انى أحبك بجنون، ويعلم ايضا أنك تعمل فى مجال الاعلان . لكنى لا أظن انى ذكرت له يوما اسم شركتك.
بدا الهدوء على ملامحه وهو يأخذ نفسا عميقا :- الحمد لله .
قالت بهدوء وتأمل :- بامكانى اعطاوك بعض المال على ما أظن كم هو المبلغ الذى تحتاجه ؟ . لكن ما ان علمت بالمبلغ الذى يحتاجه ، والذى يفوق ما تملكه بكثير ، حتى تأوهت بيأس :- لا أملك هذا القدر من المال هل حاولت طلبه من أبى أو أمى ؟ أعتقد أنهما يملكان الان ما يمكنهما ...
مرر اصابعه بأضطراب فى شعره قائلا:- لا استطيع ، أنت تعلمين كم عارض والدى استقلالى فى العمل ، وكان يقول انى لا أملك القدرة على ذلك. ان أطلعته على أزمتى، فلن يبقى ليسمع نهاية القصة .
تأوهت آنا :- هناك حل واحد ممكن. أوليفر يودع بعض المال فى حساب لى كل شهر، ولا أعلم السبب. لقد قلت له انى لست بحاجة اليه، وفيه ما يكفى. ورغم انى عاهدت نفسى على الا ألمسه قط ، لا أريده أن يظن أنى قبلت الزواج به من أجل ماله .
لم تشأ آنا أن توضع فى الخانة نفسها كميلانى، أو أن تقدم لوالد أوليفر الحجة التى يبحث عنها . برقت عينا كريس الزرقاوان بالامل، وانحنى بشغف نحو أخته قائلا:- آنا أعدك بأنك ستستردين المبلغ . لكن يجب ألا يعلم أوليفر بالامر .
واستمر باعطاء الحجج المقنعة الى أن استسلمت آنا فى النهاية لمطلبه . ولم يكن أحد ليعلم لو أن ادوارد لانغفورد لم ير أخاها يغادر المنزل ، ولم يره يعانقها على عتبة الباب .
مرت بضعة أيام قبل أن يواجهها أوليفر بالامر. لم يعطها على العشاء أى فكرة عما ينوى التحدث به، لكنها ما أن نهضت لتنظف المائدة حتى قال بنبرة لا تحتمل الرفض :- أجلسى ثانية .
حدقت آنا بذهول لأنه لم يسبق له أن تكلم معها بهذا الاسلوب وهذه النبرة :- ما الخطب؟ .
تجهم وجهه فجأة بشكل مخيف :- سمعت أنك استقبلت زائرا منذ بضعة أيام، رجلا كنت أنتظر أن تكلمينى عنه، لكن بما أنى أرى بوضوح أنك لن تفعلى ، لذا أخشى أن على سؤالك باصرار عمن يكون.
كانت نظرة الاتهام تعلو عينيه وقد غلبت القسوة عليهما، فبدا فى تلك اللحظة شبيها بوالده الى حد بعيد :- من قال لك ؟
- فى الواقع ، أنه والدى . ولا يهم من قال لى ، فالمهم أنك لم تخبرينى بنفسك .
لربما علمت بان ادوارد سيكتشف الامر . فهو على الارجح يتجسس عليها باستمرار، أو أن لديه من يقوم بتلك المهمة من أجله. فسألته بنبرة مدافعة:- وما الذى قاله والدك ؟ أنى أقيم علاقة عاطفية مع رجل آخر ؟ .
كان ذلك بالتحديد ما يرغب ادورد فى أن تفعله ، يرغب بأى شئ لانهاء زواجهما .
- أطلب منك أن توضحى لى من يكون . فمن المنطقى أن تطلعينى على الامر لو كان ما جرى بريئا .
اجابته وعيناها تقدحان شررا:- لقد كان بريئا فى الواقع . انه أخى .
كان ذلك جل ما يبغى معرفته ، وارتفع حاجباه الداكنان بأستغراب :-كان أخاك ؟ ولم لم تقولى لى ؟ .
جعلها كلامه تبدو غبية، فأجابته وهى تهز كتفيها بلا مبالاة :- أعتقد أنى نسيت أن أقول لك . هز أوليفر رأسه غير مصدق لما سمعه :- يأتى أخوك من السفر بعد أشهر من الغياب وتنسين؟ هل تظنينى مغفلا؟ لكان ذلك أول ما أطلعتنى عليه لو كان صحيحا .
وقف أوليفر وأمسك بكتفى آنا بقبضة شديدة الى حد آلمها فوقفت، ثم أضاف :- أريد الحقيقة، من كان الرجل؟ هل كان ذلك الحقير الذى كان يوما خطيبك؟ هل عاد ليتجول فى الجوار ثانية ؟ .
فأجابته :- تونى ؟ لم أره منذ أن أفترقنا، وهذه هى الجقيقة كان على ابلاغك بزيارة أخى ، أعلم ذلك لكنك لم تكن موجودا عندما فكرت فى الامر ، وعند عودتك .. حسنا ، كان لدينا أمور أخرى تشغل بالنا ،أمور اكثر أهمية من غيرتك المجنونة... أنا أحبك أوليفر الى حد يجعل خيانتى لك أمرا مستحيلا . لن أفعل ذلك بك قط ، أعدك يا حبيبى .
تأوه واقترب منها هامسا :- قلت لوالدى أنه مخطئ قلت له انك لست من هذا النوع ، لكن .. أوه آنا ..
وعجزت الكلمات عن التعبير عن مدىأسفة العميق لارتيابه بأمرها لكنه عانقها مضيفا:- يستحسن بك أن تدعى أخاك الى هنا ذات مساء.
وافقته آنا الرأى، وهى تعلم انها ستستمر فى تأجيل ذلك الى أن يحصل كريس على تلك الصفقة . لكن جدالهما أجج نار الحب فى قلبيهما فأمضيا ليلة حميمة لم يعرفا مثيلا لها منذ زواجهما .
بعد مضى اسبوع ، اتصل بها كريس هاتفا وكان متحمسا جدا :- حصلت على الصفقة يا آنا . هل يمكنك ملاقاتى؟ أريد أن أدعوك على الغداء للاحتفال .فى المساء نفسه، عاد أوليفر من العمل ووجهه متجهم، وعيناه قاسيتان مدنتان، فعرفت آنا على الفور ما الذى سيقوله . ولم يخذلها:- أريد أن أعرف مع من تناولت طعام الغداء اليوم .
انقبضت أوصالها وهى تجيبه :- كيف علمت أنى تناولت الغداء مع أحدهم؟ . وبما أن الهجوم فى مثل هذه الحال أفضل بكثير من الدفاع ، واصلت بنبرة قوية :- هل تتجسس على ؟ لم تعد تثق بى ؟ ان كان هذا ما سأناله منك كلما خرجت من المنزل ، فأنى ...
تسلل صوته عبر كلماتها :- من كان الرجل ؟ .
شعرت بالانزعاج ينسل فى عظامها :- فى الواقع ، كان كريس مرة أخرى .
كان صوته يضج بالسخرية وعيناه تلمعان كحد السيف وهو يقول :- لا أصدقك آنا.
بدا ضغطها يرتفع ، فردت عليه بحدة :- أسفة ، لكنها الحقيقة .
- متى اذن تنوين ابلاغى بالامر ؟ أم أن ذلك يدخل ضمن مجموعة أسرارك؟ أجدنى فجأة عاجزا عن فهمك آنا . فى الواقع ، أشعر أنى لا أعرفك البتة تنهدت آنا عميقا تنهيدة حزينة بالرغم من أن أخاها طلب منها أن تلزم الصمت لفترة قصيرة، الا أنها علمت بأن سكوتها الان لن يكون حكيما، وبأن الوقت حان للاعتراف لآوليفر بالحقيقة. لايمكن أن يضرها ذلك بشئ ليس بعد أن حصل كريس على الصفقة .
لم تعجبها فكرة اخفاء الامر عن زوجها. كما لم تعجبها ايضا الطريقة التى يتهمها بها . لكن قبل أن تتمكن حتى من فتح فمها رماها أوليفر بأتهام آخر أسوأ من الاول :- أنت لا تواعدين رجلا آخر وحسب بل تعطينه المال أيضا ... المال الذى أعطيتك أياه كرما وحبا منى .
علا الغضب وجه آنا المحتقن وهى تجيبه :- لقد دققت فى حسابى المصرفى؟ كيف تجرؤ على فعل ذلك ؟ لا تملك الحق . لو كانت رجلا أ للكمته على وجهه كان ذلك اقتحاما لخصوصياتها... ختى وان يكن هو من قدم لها المال . فتابعت :- الا ان كنت تقصد أن المال ليس لى فعليا. هل هذا صحيح؟ كان ذلك مجرد مجاملة تجعلك تبدو لطيفا مما يشعرك بالراحة، لكنك لم تكن تنوى أن تدعنى أصرف أيا منه. والان بعد أن تلاشى تتمنى لو أنك لم تهبنى اياه منذ البدء .
- نحن لا نناقش تصرفاتى أنا الان بل الذى جعلك تهبين ثلاثين ألف باوند، وهذا ما أفترض انك قمت به. أم أنك دفعته ثمنا لقطعة من المجوهرات الثمينة لم ترينى اياها بعد؟ لا أظن ذلك. ولا تستمرى فى ترديد قصة أخيك السخيفة ، لأنى لن أصدقها .
قبل أن تتفوه آنا بدفاعها ، تابع قائلا :- انه ذاك الفأر الذى كان خطيبك فى السابق، أليس كذلك؟ رجل طموح لكنه مفلس ، كما قلت عنه، لا يريد أن يرتبط بالزواج قبل أن يجمع ملايينه. أهذه هى طريقته فى جمعها، امتصاص خيرات الاخرين وسلبها ؟ .
علا وجنتى آنا الاحمرار وسطع فى عينيها الغضب:- أنت مجنون أوليفر لانغفورد. ليس للامر صلة بتونى البتة . فى الواقع، الامر لا يخصك أنت ايضا. هذا المال كان لى لأفعل به ما يحلو لى ، أو هذا ما أعتقدته . ان كان لديك مشكلة فى هذا الامر، ان كنت لا تثق بى بما يكفى لتتقبل وجود سبب قوى دفعنى لفعل ذلك، ولتصدق أنى كنت سأخبرك بالامر فى يوم ما، فأنت بالتالى لست حتى نصف الرجل الذى كنت أظنه .
- آه ، كنت ستقولين لى ؟
- بالتأكيد.
- فى قاموسى ، الازواج لا يخفون الاسرار عن بعضهم .
نفضت رأسها الى الوراء ليتمايل شعرها الاحمر الحريرى بشكل خلاب، وتابعت قائلة:- لو لم تكن فضوليا لتدقق فى حسابى المصرفى ، ما كنت لتعلم. وان كنت قد رأيتنى وقت الغداء، لم بحق السماء لم تأت وتكلمنى ؟ أم أنك تتلذذ بقوة عندما تتجسس على ؟
كادت آنا لا تصدق أنهما يجريان مثل هذا الحديث، وأن زوتجهما المثالى بات مهددا بالانهيار بسبب وعد قطعته لأخيها.
- لم يكن أنا من رآك ، بل والدى .
لم تحتج الى سماع المزيد ، فقالت : آه ! وأظنه لم يستطع الانتظار حتى يخبرك؟ ليشوه صورتى؟ وأظنه حقق هدفا فى اخبارك بأنه رأى رفيقى وهو يلف ذراعه حولى ونحن ذاهبان؟ لابد أن ذلك بدا مشهدا حميما له .
هزت رأسها بامتعاض وغضب شديدين. كان ادوارد لانغفورد ليعلق لها حبل المشنقة، وليقطعها أربا أربا من دون أى ذرة من الشفقة أو الرحمة، أو أى شك فى صوابية ما يفعله. كان ذلك بالتحديد ما يأمل فى حصوله .
ظل الشجار بينهما يزداد حدة حتى غادر أوليفر المنزل فى النهاية. لم تعلم الى أين ذهب ، لكنه لم يعد تلك الليلة، فبدت غرفة نومهما باردة وفارغة من دونه، وظهر فى اليوم التالى عند الغداء وبدأ بتوضيب ثيابه وكل ما يمكن أن يحتاجه فى حقيبة :- ستريننى ثانية عندما تكونين على استعداد لقول الحقيقة، وليس قبل ذلك .
مرت الايام التالية كسواد الليل فكانت الاسوأ فى حياتها. أدركت أن زوجها انتقل الى منزل والده لأنها رأت سيارته تمر مسرعة من أمام المنزل .وظلت تتوقع أن يدخل أوليفر من الباب ليعترف بأنه اقترف خطأ، وبأنه يحبها ولا يقوى على العيش بعيدا عنها، لكنه لم يفعل. وكان لديها ما يكفى من الكبرياء ليمنعها من أن تلحق به حيث هو .
فضلا عن ذلك ، فهى لن تلقى ترحيبا حارا هناك. سيستمر ادوارد يزرع بذور الشك وتأجيج الغضب فى نفس ابنه، الى أن ينتهى حبه لها والى الابد
عندما أتى ادوارد شخصيا لزيارتها لم يفاجئها الامر. فقد كانت فى الواقع تنتظر زيارته. لكن ما جاء يبلغها به أصابها بصدمة كبيرة. قال لها بعدائية وفظاظة:- أريدك أن تخرجى من هذا المنزل .
فوجئت آنا بحفاظها على رباطة جأشها وهدوء صوتها واتزانها، فرفعت رأسها عاليا وقالت :- أعتقد أن هذا الامر يعود لابنك. فى ما يخصنى، نحن مازلنا متزوجين ولى الحق فى أن أعيش فى هذا المنزل. أخشى أن الامر لا يعنيك البتة .
ارتفع الحاجبان الغضان فى استغراب وسخرية :- أحقا؟ ربما أغفل أوليفر أن يذكر أمامك أن هذا المنزل فى الواقع ملكى أنا. وفى هذه الحال، لى الحق فى طردك منه . أمنحك سبعة أيام لتجدى مكانا آخر تعيشين فيه .
شعرت آنا كأنه غرز خنجرا فى صدرها. لم يكن أوليفر قد تفوه قط بكلمة واحدة عن امتلاك والده لهذا المنزل . بحق السماء لم لم يشتر منزلا له؟ ليس لأنه لا يملك المال لذلك. لم يكن هذا منطقيا.
لكن عليها الان أن تفكر فى نفسها. فهى عاطلة عن العمل، مفلسة مبدئيا، بعد أسبوع، ستصبح من دون مأوى. لابد أن ادوارد انقلب على نفسه من الضحك عندما هجرها أوليفر.
افترضت آنا أن بامكانها الانتقال للعيش مع والديها ، ولكنهما كانا سعيدين جدا بزواجها من ذلك الرجل الرائع بعد الخطوبة الكارثة مع تونى، ولم تحتمل فكرة أن تخبرهما بأنهيار كل شئ بهذه السرعة .
بأمكانها ايضا أن تذهب لرؤية أوليفر ومحادثته. قد تذهب لرؤيته فى المكتب لتتجنب ادوارد، لكن كبرياءها حالت دون ذلك. لقد أوضح أوليفر مزقفه تماما، وان أرادها أن تعود، فعليه هو أن يجرى لتحقيق ذلك.
لذا انتقلت الى كوخ شقيقتها الصيفى، المكان نفسه الذى التقت فيه أوليفر للمرة الاولى. اللعنة عليه ! لقد توقعت، كحد أدنى ، أن يجاملها باتصال هاتفى قبل أن تترك منزلهما لكن لا ... لم يفعل شيئا . لم يقم بزيارتها أو بمكالمتها على الهاتف، أو حتى بترك كلمة مكتوبة على قصاصة ورق صغيرة .
فى الواقع، ان هذا الكوخ هو أسوأ مكان يمكنها أن تأتى اليه، مكان يضج بالعديد من الذكريات ، فهنا تعرفت اليه، أن مجرد استحضار تلك الذكريات من مخيلتها يجعلها تتوه فى عالم سحرى رائع .
لكنها لم تملك العديد من الخيارات لانتقاء مكان اقامتها فى تلك الفترة الوجيزة . لقد أسرت لأختها بحقيقة الامر ، فعرضت عليها داون الاقامة فى الكوخ طيلة الفترة التى تحتاجها. وقالت :- لكن أن كنت أعرف أوليفر جيدا ، فهو سيبحث عنك قريبا ويرجوك لكى تعودى اليه هذا الرجل غارق فى حبك. لايمكنك أن تقولى لى أن سوء تفاهم غبى سيغير طبيعة شعوره نحوك . ما أن تتحسن أعمال كريس وتستقر وتشعرين بالحرية فى مصارحة فى مصارحة أوليفر بالحقيقة عندها ...
هزت آنا رأسها باصرار قوى:- لاأظن ذلك . أنا لن أجرى وراءة .
- لكن ...
- لكن لا شئ ، لقد حسمت أمرى . وأريدك أيضا ألا تخبرى كريس بما حدث والافأنه سيشعر بمرارة كبيرة . أخبريه اذا سألك بأن أوليفر لديه بعض الاعمال فى أيرلندا وبأننا نستخدم كوخك. كما قولى ذلك لأبى وأمى .
حاولت فى الاسابيع التى تلت ذلك أن تقنع نفسها بأنها تخلصت من أوليفر الى الابد لمن الحقيقة أنها افتقدته أكثر مما كانت تتصور افتقدت اللحظات الحميمة التى أمضياها معا . أفتقدت وجوده ورفقته، وحواراتهما الطويلة والهامة والمحمومة أحيانا. لقد أصبح فى هذه الاشهر الستة القليلة جزءا أساسيا من حياتها بحيث بات العيش من دونه مستحيلا ، كأنها فقدت نصفها الاخر .
لعل الوقت دواء ناجع لجراحها. هذا ما افترضته ، لكن ... بدا جليا أن حبه لها قد تلاشى، هذا ان كان فى الحقيقة مغرما بها ربما كان والده محقا ، ربما التقت به فى احدى لحظات ضعفه .
ولعل رغبته المتقدة هى التى حدت به للحاق بها رغبة جسدية تساعده على نسيان المرأة التى عانى منها ما عاناه لاشك فى أن الناحية الجسدية فى زواجهما كانت عاملا أساسيا وأوليا فى انجاحه .
ثم رن جرس الهاتف . كانت دوان وحدها هى التى تتصل بها لذا كانت صدمتها شديدة عند سماعها صوت أوليفر الابح الجذاب. فجأة تسللت الى نفسها وروحها فجأة حاجة ماسة لرؤيته، لعينيه وحضنه لذراعيه الدافئتين... لكنها داست على تلك المشاعر وخنقها بعناد، لأنها بذلك ترمى بنفسها فى المذلة والضعة .
كانت الانفعالات الجسدية مهلكة وسلبية بتأثيراتها ويجب الا تدعها تمسك بزمام الامور. أن تكن فى نيته محاولى اصلاح الامور ، فهو حتما سيصاب بخيبة أمل كبيرة. لقد هدم أوليفر نهائيا كل الجسور التى تصل بينهما يوم تخلى عنها.
لم تكن هناك أى مقدمات :- آنا، أخشى أن لدى أخبار سيئة .
لم يكن ذلك ما توقعته :- أوه ؟
- توفى والدى البارحة نتيجة نوبة قلبية حادة .
سيطر الذهول على حواس آنا كلها بحيث عجزت عن التفوه بكلمة واحدة لبضع ثوان . ادوارد لانغفورد مات! الرجل العجوز الثائر الذى بذل كل ما فى وسعه لأنهاء زواجها، اختفى! لقد أحزنها سماع الخبر بالرغم من أنها لم تحبه حقا . الحقيقة أنه لم يسمح لها قط بالتقرب منه ومعرفته عن كثب. قالت أخيرا بلطف بالغ :- آسفة لسماع هذا الخبر. من الصعب تقبله، فقد بدا رجلا فى غاية الحيوية، كما لو أن أمامه سنين طويلة ليعيشها.
- كان والدى عدو نفسه الاسوأ يخالف باستمرار أوامر أطبائه وارشاداتهم. كنت أتساءل ما أذا ... أنا ... أرغب فى أن نأتى لحضور الجنازة.
- بالطبع .
تفوهت بذلك بشكل غريزى ثم تساءلت عما اذا كان من الحكمة أن تذهب . لقد أثار ادوارد ابنه ضدها. ان لقاءهما مجددا قد يتسبب بنشوب خلاف جديد، أنه يدعوها للحفاظ على مظهرهما أمام العائلة والاصدقاء فلديه العديد من الاقارب الذين لم يلتق بهم قط ممن سيحضرون الجنازة . وبالطبع هناك ميلانى!
لم تستطع آنا أن تمتنع عن التساؤل اذا كانت ميلانى عبدت طريقها مجددا الى حياة أوليفر ومشاعره .
*******************************************

Just Faith 26-11-17 07:06 PM

3 - امرأة أخرى بينهما
كانت راحتا أوليفر متعرقتين وقلبه يخفق فى صدره بعنف غير طبيعى. انه لأمر مضحك! كيف له، بعد أن باتت آنا لا تعنى له شيئا البتة، وبعد أن غسل يديه منها وخطط لاعلام محاميه بالمباشرة بأجراءات الطلاق ... كيف له ، بمجرد سماع صوتها، أن تحدث فى نفسه مثل ذلك التأثير ؟
هز رلأسه وأجبر نفسه على أنهاء العمل الذى باشره، وهو تنظيم اجراءات الجنازة. لقد مات ادوارد لانغفورد كما عاش تماما. كان يتجادل مع أوليفر حول الطريقة التى يتولى بها هذا الاخير ادارة العمل والتى يعتبرها ادوارد غير نافعة، حين انهار على الارض لكنه لم يصمد طويلا. بل فارق الحياة قبل أن تصل سيارة الاسعاف.
لم يحتمل أوليفر البقاء فى المنزل العائلى بعد أن فارقه والده ، فانتقل مجددا الى المنزل الذى عاش فيه مع آنا. ولم يضعه ذلك فى حال أفضل مع كل الذكريات الجميلة التى تعبق فى المكان .
لستة أشهر كاملة كان رجلا يعيش بسعادة تامة بعد أن وجد فتاة أحلامه ووقع فى غرامها. ثم تفتت قلبه فجأة الى ملايين القطع الصغيرة. لو أن أحدا أنذره من احتمال أن تتشابه آنا مع ميلانى فى جوانب عدة ومع باقى الفتيات اللواتى عرفهن، لكان قال له انه لابد فقد صوابه. فقد كانت آنا تجسد التكامل والمثالية ، ولا يعقل أن ترتكب نفس الخطأ.
فاجأه قبولها المباشر لحضور الجنازة، وأمل ألا تظن الامر كما لو أنه يشعر بالحنين اليها. لماذا اذن طلب منها الحضور؟ راوده هذا السؤال بقلق . لماذا ان لم يكن لانتهاز الفرصة واعادة وصل ما انقطع بينهما ؟ لم يوافق والده قط على آنا، كما لم يوافق على كل ما فعله أوليفر فى حياته. كانت حياته كلها تسير على هذا النحو .
لكان من المنطقى جدا الا يطلب من آنا حضور الجنازة ففى الواقع سيكون من الصعب عليها ادعاء الحزن على رجل لم يحاول قط الترحيب بها فى العائلة. لكن، من الناحية العملية، فهى لاتزال زوجته، وهو يريدها الى جانبه. لاأحد من عائلته علم بأمر انفصالهما، والجنازة ليست بالمناسبة التى يعلن فيها هذا الخبر.
تركت آنا سيارتها وطارت الى لندن حيث أرسل أوليفر سيارة لاصطحابها. راودتها أفكار عن أحتمال حضوره شخصيا مما بعث فى نفسها القلق. لكن فى الواقع، أتى أحد سائقى شركته لملاقاتها.
تسارعت خفقات قلبها حين اقتربا من كامبريدج لكنها أسكتتها بثبات رافضة أن تبعث مشاعرها فى قلبها الحنين لهذا الرجل الذى تخلى عنها بهذه القسوة واللامبالاة .
أنزلها السائق عند المنزل فكانت ممتنة له خطر لها أن أوليفر يريدها فى منزل العائلة معه، وكان ذلك أمرا لا تستطيع مواجهته. ان لم يتم الترحيب بها هناك فى حياة والده ، فهو بلا شك لا يريدها هناك الان بعد موته. كما أرادت مساحه تسترد فيها أنفاسها قبل أن تواجه أوليفر ، وقليلا من الوقت لتعتاد على فكرة رجوعها الى المكان الذى عرفت فيه السعادة يوما.
كانت مدبرة المنزل هناك لترحب بها :- انه خبر مؤسف حقا موت السيد أدوارد .
- أنه كذلك بالفعل. هل أوليفر هناك فى المنزل الكبير؟
- انه فى الخارج ينجز عملا ما.فهناك الكثير مما يجب الاهتمام به من أجل الجنازة .
عندما انتهت من اعداد الشاى، وضعت أمام آنا بعض المربيات وجلست الى طاولة المطبخ ومالت نحوها محدثة :- قولى لى أن أهتم بشؤونى الخاصة ان أردت ، لكنى حقا لا أفهم لم افترقتما. كنت أرى أنكما تشكلان الزوج المثالى. بات أوليفر يشبه فرسا جريحا منذ غيابك، انه يفتقدك بجنون.
خطر لآنا أن لديه طريقة غريبة فى أظهار ذلك ، فلو أن والده لم يمت، لما كانت هنا الان. ولابد أن الخطوة التالية المتوقعة ستكون الطلاق ، لم تساورها أى شكوك حول هذا الامر البتة .
- انه هو من هجرنى يا سيدة غرين وابتعد عنى. ما من فرصة أبدا لنعود الى بعضنا مجددا. ان كان هذا ما تأملينه، فأنا أسفة .
بدت الخيبة على المرأة وهى تقول :- يؤسفنى أن ألامور بلغت هذا الحد، فأنا أحبك جدا يا آنا .
لم تضيفا شيئا اخر، وما ان انتهت آنا من تناول فطورها حتى نهضت وراحت تتجول فى أرجاء المنزل. لم يتغير شئ. مازالت الرسومات التى اختارتها معلقة على الجدران، وأدوات الزينة الاخرى، وأشياء اختاراها سويا ... كل شئ فى المنزل كما تركته تماما .
سارت فى غرف النوم فى الطابق العلوى ووضعت حقيبتها فى أحدى غرف الضيوف، ثم توقفت فجأة عند باب غرفتهما السابقة . تضاربت فى نفس آنا مشاعر هى مزيج من ارتعاش وخوف واستسلام وهى تدفع ببطء شديد الباب، وتحولت هذه المشاعر الى الصدمة فى لحظة واحدة. لقد عاد أوليفر الى المنزل ! فهاهما خفاه الجلديان بالقرب من طاولة الالبسة، وها هى ربطة عنقه مدلاة على ظهر الكرسى ، لكن ما لفتها بوضوح هو عبير عطره الدافئ العابق فى جو الغرفة .
متى عاد؟ بعد موت والده، أم بعد ذهابها مباشرة ؟ أى نوع من الافكار تسيطر عليه عندما يتمدد هنا كل ليلة؟ هل يتذكرها أم يذكر كيف كان الامر قبل الالتقاء بها؟ هل هذا ما يفضله ... حياة رجل عازب ؟
مع كل محاولاتها الجاهدة لتفسير ما اكتشفته للتو، وقفت عاجزة، ثم سمعت صوت حركة خلفها، وحين استدارت وجدت نفسها وجها لوجه مع أوليفر. كانت لحظة توقف فيها قلباهما. خلابا كما عهدته دائما، شعره الاسود قصير جدا كما لو أنه قام للتو بقصه، ووجهه فاتن رغم شحوبه البسيط، وعيناه مرهقتان وقد احاطتهما الهالات السوداء ،لكن ذلك كان امرا طبيعيا تماما فى ظل الظروف الراهنة. باستطاعتها أن تتخيل ماهية شعورها أن هى فقدت أيا من والديها.
- قالت لى السيدة غرين انى قد أجدك هنا. شكرا على قدومك يا آنا ، ان ذلك يعنى لى الكثير .
- ان هذا أقل ما يمكننى فعله.
ساد جو الغرفة صمت غريب قطعته آنا عندما اقتربت من أوليفر واحتضنته كما تحتضن كريس وقالت:- أنا آسفة بشأن والدك .
لكنها كانت مخطئة . ظنت أن بامكانها اعتبار الامر عاديا وغير شخصى . لكنها ارتكبت خطأ فادحا، فما أن اقتربت منه حتى غمرها فيض من الاحاسيس الغريزية النابضة،وسيطر على كيانها كله .
حتى أوليفر بدا مذهولا، لكنها لم تتقبل احتمال مبادلته لها تلك الاحاسيس. الارجح أنه تساءل عن السبب الذى دفعها لفعل ذلك ، وهو يصلى الا يكون فى نيتها اعادة احياء زواجهما.
ما من داع بالطبع لقلقه. فمهما كانت الاحاسيس التى غمرتها غزيرة وعميقة، الا أنها حرصت على اخفائها. فقالت جاهدة لترطيب الاجواء واخفاء توترها المفاجئ:- لم أدرك أنك عدت للاقامة هنا مجددا.
لم يقدم أى تفسيرات بل اكتفى بالقول ببرود :- اذا كنت تريدين هذه الغرفة، استطيع الانتقال منها بسهولة...
قاطعته آنا قبل أن يضيف كلمة اخرى :- لا لقد سبق لى أن أخترت واحدة أخرى. كنت فقط أمضى الوقت بالتنقل فى أرجاء البيت آسفة ان كنت تطفلت عليك .
بأمكانها أن تتخيل بسهولة كيف ستكون الحال اذا ما نامت على السرير الذى شاركها فيه يوما . كان الوضع سيئا بما يكفى فى الكوخ ، لكن هنا ، حيث أمضيا أشهر طويلة محمومة بسعادة لا توصف،ستكون حالها لا تطاق ولن تستطيع معها صبرا. كيف بحق السماء يتمكن هو من فعل ذلك ؟
- ما دمت مرتاحة .
يا لها من كياسة مصطنعة ! من الافضل أن تضع حدا لها أعتقد أن على الذهاب لتوضيب أغراضى والاستحام.
لكنه بدا غير عازم على تركها تذهب:- هل لاقاك كارل كما هو محدد؟
- نعم، تمت الرحلة فى موعدها.
- كنت أتيت لملاقاتك بنفسى لكن ...
- لديك واجبات أخرى تقوم بها أنا أتفهم ذلك. انه لوقت عصيب تمر به الان، يا أوليفر . ان كان هناك ما تريدنى أن أقوم به أى مساعدة استطيع تقديمها، ليس عليك سوى ذكرها .
- شكرا لك ... اذن هل تتناولين معى طعام العشاء هذا المساء ؟
لم يكن هذا ما عنته آنا واتسعت عيناها فى رعب :- أنا اسف. لكن لا بأس فأنا أتفهم ما قد تكون عليه أحاسيسك الان .سألغى الحجز و...
- لا سآتى .
أصرت على قبول الدعوة لشعورها بالاسئ والتعاطف معه حينها. لكن لاحقا، عندما وافت أوليفر فى الطابق السفلى، عندما عادت تلك الاحاسيس تفيض فى كيانها لمجرد النظر اليه، راحت تتمنى لو أنها رفضت دعوته. سيكون من الشاق عليها اخفاء انجذابها اليه الذى مازال يسيطر عليها كليا وبالقوة نفسها .
أدركت أن هذا الجزء من علاقتهما لن يتلاشى قط قد تشعر بالكراهية نحوه لما فعله، وللطريقة التى اتهمها بها وشكك باخلاصها له، والاسلوب الفظ الذى تخلى به عنها ببساطة .. لكن الانجذاب الجسدى الذى يشبه المغناطيس بقوته، لن يتغير أبدا .
كان يرتدى قميصا أبيض وبنطالا ضيقا أسود، وقد ألقى بسترته على ذراع كرسى وكانت ربطة عنقة سوداء اللون، فعاد الى ذهنها كم أنه يفتقد والده بلا شك.
هى ايضا اختارت أن ترتدى ثوبا أسود ولم تفعل ذلك احتراما لموت ادوارد، لكن لانه الثوب الوحيد الذى أحضرته معها والذى يتلاءم مع مناسبة العشاء فى الخارج. كان ذا كمين طويلين، يلامس جسدها حتى الردفين ثم يتسع ليصل الى منتصف ساقيها .
جالت عينا أوليفر بتكاسل عليها، ورفرفتا على جسدها بنوع من التقدير والاعجاب لكنه لم يعلق على الامر بل سألها ببساطة :- هل ترغبين بكوب من العصير قبل أن نخرج ؟
هزت آنا رأسها :- لا ، شكرا.
فكلما أسرعا بالخروج كلما عادا الى البيت باكرا كان أحد المطاعم التى اصطحبها اليها سابقا، يسوده جو من الهدوء الانيق حيث رتبت طاولاته الواحدة بعيدة عن الاخرى احتراما لخصوصية الاحاديث التى تجرى عليها .
سألته بعد أن جلسا :- كيف عرفت أين تجدنى ؟
- اتصلت بداون. أعرف أنك طلبت منها عدم اخبار أحد بمكانك، لكنى لم أترك لها الخيار. لاتقسى فى حكمك عليها .
فى الواقع ، كانت آنا تعلم مسبقا ما الذى فعله. فقد اتصلت بداون فى الليلة الماضية بعد أن أبلغها أوليفر بالنبأ السئ حول والده، واكتشفت أن أوليفر اتصل بأختها بعد ذهابها الى ايرلندا بوقت قصير. ان علمه بمكان اقامتها كل تلك الاسابيع من دون أن يفعل أى شئ ، ترك صدى عميقا مدويا فى نفسها .
بعد الجنازة غدا، سيشكرها حتما لمجيئها بكل تهذيب، ويتمنى لها رحلة موفقة الى ايرلندا ويخط بذلك الفصل الاخير من زواجهما. وقد سألت داون كذلك ما اذا علم كريس بانفصالهما هى وأوليفر، لكن أختها حافظت على وعدها فى ما يتعلق بهذا الامر. وأدركت آنا ان الوقت حان لتتصل به وبأهلها ايضا، فمن حقهما أن يعلما بحقيقة ما يجرى. كانت قد اتصلت بهما مرتين من ايرلندا لكنهما فى كلتى المرتين ظنا أن أوليفر معها ، ولم تخبرهما قط بغير ذلك
خلال العشاء ، ابتعد أوليفر فى حديثه عن كل الامور الشخصية واكتفى بالحديث عن عمله مما تلاءم مع رغبة آنا . لكنه بدا لها من خلال حديثه أنه لم يعد سعيدا فى عمله. لم يقل ذلك صراحة لكنها استنتجت وضعه من خلال نبرته وطريقه كلامه اللتين غاب عنهما الحماس .
لعل السبب يعود الى الظروف الراهنة، الا أنها استبعدت هذا الاحتمال. كان هناك خطب ما لم يخبرها به، مما أحزنها جدا لأنه لطالما أخبرها بكل شئ . فكانت تهنئه عندما تسير الامور على خير ما يرام، وتتعاطف معه حين يواجه المشاكل والعقبات . وهى الان تجد نفسها وقد أبعدت عن هذا الجزء من حياته بالكامل .
كانا فى منتصف حديثهما عندما توقفت عند طاولتهما امرأة شقراء جذابة ترتدى تنورة قصيرة جدا، وقالت:- أوليفر يا لها من مفاجأة.
ثم انحنت نحو أوليفر وسالته بصوته غير منخفض: ما الذى تفعله هى هنا ؟
قال بكياسة وهو يقف من دون أن يجيبها على سؤالها :- ميلانى، كنت أظنك فى مصر .
أجابت والدموع تترقرق فى عينيها:- عدت هذا الصباح . لم أصدق حين أخبرنى أبى بأمر عمى أدوارد. حاولت الاتصال بك هاتفيا. مسكين يا حبيبى، لابد أن الحادث حطمك .
لفت ذراعيها حوله وأضافت :- لم يكن عليك تحمل ذلك وحدك، آه لوكنت هنا لكنت ...
- ليس وحيدا .
سمعت آنا نفسها تتفوه بهذه الكلمات ، رغم أنهما أما لم يسمعاها وأما تجاهلا ما قالته. لقد سبق لها أن التقت ميلانى بضع مرات، لكن الفتاة لم تظهر فى أى مناسبة أى تعاطف أو محبة بل عمدت فى الواقع الى معاملتها بازدراء وترفع بارد .
لطالما افترضت آنا أن أوليفر استمر فى التعاطى معها بصبر من أجل والده . لكنه حين أمسكها الان وحين مرر يده فى شعرها، بدا كأنه يواسى ميلانى بدلا من أن تواسيه هى .
خطر لآنا أنه تمادى مع ميلانى كثيرا. فقد عاملته هذه الفتاة بطريقة مشينة معيبة، بحق السماء .لم يتصرف الان بهذه الطريقة؟ تسلل الحنق الغضب الى عروقها . هل سيلاحظ أى منهما ان هى وقفت وغادرت المكان ؟
يا الهى فهو لم يرحب بها هى، زوجته، بكل هذا الاطراء المفرط! ما كان منها الا أن وقفت والتقطت حقيبة يدها وهمت بمغادرة المطعم حين أمسك بها أوليفر وسألها بهدوء :- الى أين أنت ذاهبة ؟
- الى التواليت .ثم أضافت فى سرها :- لأنى أشعر فجأة بالغثيان .
- أنت حتما لا تغادرين بسبب ميلانى؟ أعلم أنها قد تبالغ فى تصرفاتها، لكن لا أستطيع تجاهلها الان فى وقت كهذا من أجل والدى.
- أنت رجل حر. تستطيع أن تفعل ما تريد مع من تريد . ان الامر لا يهمنى بعد الان . وأذا كنت تفضل أن تكون ميلانى الى جانبك الان ، فقد عادت من عطلتها، وفى هذه الحال ...
فأجابها بصوت عال وحاد :- لا! أريدك أنت الى جانبى . أنت زوجتى .
- لقد هجرتنى وتخليت عنى، يا أوليفر .
أغمض عينيه لثانية. لكنه حين نظر اليها ثانية كانت تعابيرة فارغة ومشاعره مخفية بحرص تام. وقال:- مهما يكن ما فعلته، أريدك الى جانبى الان .من أجل المظاهر؟ خطر لها أن تسأله، لكنها لم تفعل. فلم يكن الوقت مناسبا لوخزه وايلامه . فقالت ببرود :- سأعود بعد دقيقة .
لكنها لم تسرع ، بل أخذت وقتها فى أصلاح زينتها وتجديد أحمر شفاهها . كانت تمرر المشط فى شعرها تسرحه عندما فتح الباب ودخلت ميلانى . رأتها آنا فى المرأة، ولمحت الشر الذى يشع فى عينيها الزؤقاوين، فأدركت على الفور أنها تنوى اثارة المشاكل. لم تأت ميلانى لتصلح زينتها، بل كانت تمهد لافتعال عراك معها. فاستدارت آنا لتواجهها .
بدأت ميلانى الكلام أولا :- أرى أنك تملكين جرأة وقحة لتعودى من أجل جنازة العم أدوارد بعد أن طردك أوليفر ورماك خارجا .
- بما أن أوليفر لا يمانع، لاأجد لك شأنا فى الموضوع لتدلى برأيك الثمين .
تكلمت آنا بكبرياء هادئة، وهى تتساءل عن مدى ما قاله أوليفر لهذه الفتاة عن انفصالهما. لكن لم يكن فى نيتها الدخول فى عراك فظ ووضيع، فميلانى لا تستحق هذا العناء .
- لم يعد أوليفر يحبك .
كان ذلك تصريحا طفوليا، فارتفع حاجبا آنا فى استهزاء :- هو قال لك هذا ، اليس كذلك ؟. كانت تلك الحقيقة، نعم ، لقد توقف عن حبها ، لكنها ليست بحاجة الان الى ترديد ذلك بصراحة .
- ليس بكلمات صريحة واضحة .
اعترفت ميلانى بذلك وهى تهز كتفيها بلا مبالاة، وأضافت:- لكننا أمضينا الكثير من الوقت سويا منذ أن افترقتما. كان بحاجة الى من يسكن مشاعره المنكوبة ويهدئ من روعه ... بامكانك القول اننا عدنا الى سيرتنا الاولى . انه عاشق رائع، اليس كذلك ؟ انه الافضل . حرصت على ألا يفتقد شيئا أو يشعر بالوحدة .
لابد أن ذلك غير صحيح؟! شعرت آنا بقلبها يعتصر من الالم فى صدرها. مما لاشك فيه أن أوليفر لن يقفز من سريرها هى الى سرير ميلانى، بعد أن أكد بشدة أنه لم يعد يشعر بشئ نحو الفتاة الاخرى هذه، أم ماذا ؟
من ناحية أخرى. كان رجلا قويا جذابا ، فكيف تتوقع منه البقاء أعزب لفترة طويلة. لكن، بالرغم من ذلك، فان فكرة عودته المحتملة لميلانى أثناء غيابها، تبعث الالم فى نفسها، مما يصعب عليها المحافظة على هدوئها، لكنها نجحت فى ذلك بطريقة ما . فقالت لها بأبتسامة رسمتها على شفتيها :- هذا جيد لك والان ان سمحت لى، يا ميلانى، سأعود الى أوليفر قبل أن يظن أننا هجرناه نحن الاثنتان .
لكن عودتها الى الطاولة وادعاءها بحسن سير الامور كانا أشد صعوبة ومشقة . رأت أوليفر يراقبها، مقطبا ومتسائلا . فعزمت على عدم اعطائه أى سبب يدفعه لطرح الاسئلة عليها .
قالت والابتسام تعلو ثغرها الجميل :- آسفة لتأخرى .
- ماذا قالت لك ميلانى ؟
أجابت بنبرة بريئة مدهشة :- ميلانى؟ ليس بالكثير. انها حزينة جدا بشأن والدك، بالطبع ، هل هى هنا بمفردها؟ هل ستنضم الينا ؟ .
حاولت جاهدة أن تبدو غير ممانعة، بل مرحبة بالفتاة الاخرى
- أعتقد أنها برفقة صديق .
التفت أوليفر حين خرجت ميلانى. وراحا يراقبان سويا الشقراء وهى تجتاز الغرفة متوجهة نحو طاولة عند زاويتها وتجلس قبالة صديقها مبتسمة. كان الرجل أسود الشعر مدعى الملامح واثق المظهر، من الرجال الذين لا تثق بهم آنا البتة، شخصا فاسقا بامتياز ،لامضاء بعض الوقت والتسلية فقط لاغير .
كيف يمكن لأوليفر أن يحتمل ملامسة امرأة تخرج مع رجل من هذا النوع؟ جعلت آنا تتساءل فى نفسها قبل أن تسأله :- هل تعرفه ؟ .
- من ؟
- صديق ميلانى. بدوت وكأنك ترقبهما عن كثب وباهتمام .
هز أوليفر كتفيه:- أنه الفضول فقط. لاأعتقد أنه سبق لى أن التقيت بالرجل من قبل. لكن، فى النهاية لميلانى العديد من الاصدقاء .
- انها فتاة جذابة للغاية .
- نعم ، أعتقد ذلك .
- هل لازلت معجبا بها ؟
سألها بحدة :- ما هذا؟ نوع من الاستجواب ؟ لقد دعوتك أنت على العشاء الليلة. لا أريد التحدث عن ميلانى .
- لكنكما مقربان جدا الواحد من الاخر .
لاحظت آنا أنه لم يجب على سؤالها. بل هز كتفيه قائلا :- انها تكاد تكون فردا من العائلة. يسرنى أنها عادت فى الوقت المناسب من أجل جنازة والدى. لغضب جدا لو لم تعلم بالامر الا فى وقت متأخر.
- ألم يفكر أحد فى الاتصال بها هاتفيا ... أو ترك رسالة لها فى الفندق الذى تنزل فيه ؟
- لم يعرف أحد بالتحديد أين هى. كانت فى مصر بالطبع ، أما أين تقيم، فلا أحد على علم بذلك، حتى والدها. لديها هذه العادة بالانطلاق وراء احدى نزواتها من دون أن تطلع أحدا على أى شئ.
- هكذا ؟ لعلها قضت عطلتها مع هذا الرجل الذى يجلس برفقتها الان؟
بدا على أوليفر الانزعاج من مسار الحديث، فأجاب :- لا أعلم، ولست مهتما البتة بالامر. فهو ليس من شأنى ولا يخصنى اطلاقا .
آه، لكنه يعنيه بالتأكيد هذا ما خطر لآنا . فقد بدا عليه الارتباك بشدة الى حد ينفى عدم اهتمامه بالامر . حدق أوليفر فيها بعينين مفترستين وقال :- أريد التحدث عنك أنت أريد أن أعرف سبب رحيلك المفاجئ. لم أصدق عندما أعلمنى والدى برحيلك. لم يكن ذلك مفهوما أو منطقيا. لم لم تأتى لرؤيتى قبل الذهاب ؟
لم يقل ادوارد شيئا اذا عن أجبارها على مغادرة المنزل والرحيل، ويصعب عليها الاعتراف بالحقيقة الان والقاء اللوم على والده وهو لم يدفن بعد. فرفعت كتفيها بحركة لا مبالية :- ما الذى كان لدينا لنناقشه ؟ .
فأجابها بثقة :- لم يكن هناك من داع لمغادرتك . ولماذا اخترت ايرلندا ؟ أعلم أنى كنت غاضبا منك ... كنت فى الواقع غاضبا بجنون ... لكن، ما كان عليك الرحيل والاختفاء هكذا !.
قالت بهدوء :- ظننت أنه من الافضل لنا نحن الاثنين أن أبتعد .
- وهل كنت سعيدة هناك ؟
- كان الامر مؤقتا .
- وماذا عن صديقك ؟
- أى صديق ؟
- ذاك الذى أعطيته المال . هل كان برفقتك ؟
أغمضت آنا عينيها . فمما لاشك فيه أن الوقت والمكان غير مناسبين للبدء بمثل هذا الحديث :- أنت مخطئ بخصوص تونى. لكن ليس فى نيتى أو رغبتى أن أناقش الامر. أعتقد فى الواقع أنى أفضل العودة الى البيت .. أعنى الى منزلك أنت .. فأنا متعبة حقا .
- حسنا .
سدد حساب العشاء ، وأدهش آنا حين لم يلتفت مرة واحدة باتجاه ميلانى وهما يجتازان الغرفة الى الخارج. لكن آنا فعلت فشعرت بارتعاشة باردة وهى ترى نظرة الحقد والغل فى عينى ميلانى. كانت الرسالة فى غاية الوضوح. لابد أنها لن تكون المرة الاخيرة التى ترى فيها ما رأته منها .
************************

Just Faith 26-11-17 07:07 PM

يجب ان ترد لمشاهدة المحتوى المخفييجب ان ترد لمشاهدة المحتوى المخفييجب ان ترد لمشاهدة المحتوى المخفي

Just Faith 26-11-17 07:11 PM

5 - ضياع !
فارق النوم عينى آنا ، فاستلقت فى السرير تراقب شعاعا فضيا منبعثا من القمر وهو يتحرك ببطء معانقا الظلمة فى كبد السماء. لقد ظنت قبل أن تكتشف مدى خطئها، أن أوليفر سيقترح عليها الانتقال الى غرفته، بعد ما حدث بينهما. لقد جعلها غباؤها تأمل فى أن يكون ما جرى بداية لاعادة احياء حبهما.
تقوقعت فى سريرها مفكرة:- كيف تمكن أوليفر من فعل هذا بها؟ كيف يهجرها مجددا بعد ما جرى بينهما؟. بعد مرور وقت ليس بطويل عادا هى وأوليفر لمتابعة أعمال التوضيب. لكن الجو بينهما بات عابقا بمعان مختلفة ومشبعا بحاجات جديدة ومشحونا بطاقة كهربائية مدمرة، أصبح معه التركيز على العمل أمرا مستحيلا.
كل ما أرادت فعله هو التحديق فيه بعينيها الخضراوين، أرادت أن تلمسه أن تحبه، أن تشعر به وأن تدعه يشعر بها. لكن أوليفر بدا نادما على ما فعله، مما جعل الحزن يعتمل فى قلبها . فقد راقبته وهو يقوم بعمله بنشاط متجدد، متجاهلا وجودها تقريبا فيعمل ويعمل من دون توقف الى أن يحين موعد عودتهما الى المنزل لتناول وجبة الطعام التى تكون السيدة غرين قد أعدتها لهما كالعادة .
بعد انتهاء الطعام، ينفرد أوليفر فى غرفة مكتبه لقراءة بريده الالكترونى ومتابعة سير أعماله عبر الانترنيت. عاد ليظهر أخيرا عند الساعة العاشرة والنصف وقد بدت الخطوط محفورة بوضوح على وجهه الشاحب المنهك .
فقال:- أنا ذاهب الى السرير.
كانت آنا تقرأ كتابا فى أنتظاره فبدت عليها خيبة الامل وهى تنظر اليه متسائلة :- الا تريد أن تشرب كوبا من العصير حتى؟.
- لا. لا أريد شيئا . لكن النظرة التى حدجها بها لم توح بصدق ما يقول، بل عكست رغبته فى ضمها ومعانقتها كالمرة السابقة . شعرت آنا بحرارة جسدها ترتفع وتعلو شيئا فشيئا.
لكنه ذهب مباشرة الى غرفته وتركها وحيدة مع الارق والحيرة، تفكر فيه وفى روعة مبادلته كل الحب والرغبة. لقد أثبت بعد ظهر هذا اليوم أنه تصعب عليه مقاومتها، فلم يتجاهلها الان؟ هل ندم حقا على ما حدث بينهما ؟ هل كان يعاقب نفسه ويؤنبها على ما فعله؟ هل مازال مقتنعا بأنها تسعى وراء ماله؟
سيكون من الشاق عليها العمل معه، جنبا الى جنب، فى هذا الجو المشحون بالتوتر. هل فكر فى ذلك عندما أطلق لنفسه العنان؟ ان كان ما حدث مجرد تنفيس للاحتقان الذى يعانى منه منذ انفصالهما فهى تتمنى لو أنه لم يحدث. ولو أنها عرفت ذلك منذ البدء لما سمحت له بالتمادى معها الى هذا الحد.
نزلت آنا فى الصباح لتناول الفطور قبل أوليفر، وعندما لحق بها، لمحت عينيه المحاطتين بهالات سوداء وأدركت أنه لم يعرف النوم طوال الليل هو ايضا . عندما بلغا المنزل الكبير، حاول شغل نفسه فى غرفة منفصلة.
كانت رسالته واضحة باستحالة تكرار ما جرى بينهما البارحة.لكن، بعد وقت قصير، سمعت آنا صوتا وراءها، فلم تستطع منع قلبها من الانتفاض بقوة فى صدرها. هذا ما كان يجرى كلما اقترب منها. استدارت بسرعة وخفة والابتسامة تعلو شفتيها، لكنها ما لبثت أن خمدت وخبا اشراقها عندما رأت الواقف أمامها.
سألتها ميلانى وعيناها مسمرتان عليها ببرود:- ماذا تفعلين هنا؟ أين أوليفر؟.
اجابتها بهدوء:- انه فى الجوار. أنا أساعده فى توضيب أغراض والده.
- وما الذى يعطيك هذا الحق؟ ظننتك أتيت فقط من أجل جنازة العم ادوارد. لم لم ترحلى بعد؟ أرجو صادقة ألا تحاولى العودة من جديد الى حياة أوليفر، لأن ذلك لن يجدى نفعا. لم يعد أوليفر يحبك... هذا ان كان قد أحبك قط .
- أعتقد أن ما نفعله أنا وأوليفر لا يعنيك فى شئ.
اجابتها آنا وهى تسوى جلستها وتحدق فى ميلانى ببرود تام. وارتاحت عندما اختار أوليفر هذه اللحظة تحديدا ليدخل الى الغرفة لأن تلك المحادثات لم تكن لتستهويها، كما لم تكن على استعداد لمناقشة أمور زوجها مع صديقته السابقة. أم أنها صديقته الحالية؟ فجأة شعرت بترددها وتشكيكها .
عندما ارتمت ميلانى بين ذراعيه ورفعت رأسها نحوه، ذهبت الغيرة بما تبقى من قلبها الممزق الى أشلاء. لم تحتمل رؤيتهما سويا، خاصة بعدما حدث بينهما منذ أقل من أربع وعشرين ساعة.
لم استسلمت له بهذا الشغف؟ تساءلت آنا فى نفسها. لم غابت ميلانى عن ذاكرتها؟ لم سمحت لمشاعرها بالتحكم فى تصرفاتها؟ لم كانت بهذا الضعف والوهن؟
قالت ميلانى بلطف مصطنع:- كان عليك أن تطلب منى مساعدتك، أوليفر. لم أعرف قط أنك تود التخلص من أى من أغراض العم ادوارد فى الواقع، أنا لاأرى الدافع وراء ذلك، الا ... ان كنت تخطط لشراء أغراض جديدة لنفسك. قالت روزمارى ان ...
قاطعها أوليفر بقسوة :- روزمارى ؟ هل مازالت فى الجوار ؟.
راقبت آنا عينيه وهما تضيقان بارتياب. فأعترفت ميلانى:- لاأعرف ماذا تعنى بقولك فى الجوار، لكننى رأيتها ذلك اليوم.
- هل هى فى المنطقة؟
- فى كامبريدج، حسبما أعتقد. لكن لم تسأل؟ هل هذا هام؟
لم يجب على سؤالها، بل صاح بها بحدة :- فى أى فندق ؟.
- لست أدرى. لكننا سنتناول الغداء معا يوم غد. استطيع أن ...
- لا حاجة لذلك. ليس لدى ما أقوله لها. لكن تصلب فكه كان يوحى بعكس ذلك تماما.
هزت ميلانى كتفيها:- انها لاتزال غاضبة جدا بسبب الوصية.
- هل هذا ما قالته؟ هل طلبت منك التكلم معى لأجلها؟
- لا، بالطبع. لاتغضب أوليفر.
التفت نحو آنا بنفاذ صبر قائلا :- آنا ، ما رأيك بفنجان من القهوة؟ كان يسألها هى أن تعد القهوة له ولميلانى! أرادت آنا أن ترفض، لكن بما سيفيدها ذلك؟ تجهم وجهها من الغضب، وخرجت من الغرفة، لكنها لم تتوقف عن تصورهما معا.
وتحققت هواجسها عندما عادت لتجدهما جالسين على الكنبة الجلدية. كانت ذراع أوليفر تكاد تحيط بكتف ميلانى التى بدت وكأنها تبكى. لكنها حين نظرت الى آنا شع فى عينيها بريق الانتصار، فلم يكن من الصعب التكهن بأنها تذرف دموع التماسيح.
- ها هى القهوة.
حاولت آنا أن تبدو مرحة وهى تضع الصينية على الطاولة، لتسكب القهوة لميلانى فى الفنجان وتناولها اياه بطريقة لائقة. وعندما قال أوليفر انه سيخرج مع ميلانى لتناول الغداء فى الخارج وانهما لن يعودا على الارجح، تأوهت بيأس وتملق ظاهرين. فأضاف :- انها حزينة جدا على والدى. ان مجيئها الى هنا قد أعاد الذكريات الى ذهنها.
آه، نعم أراهن على ذلك.. حدثت آنا نفسها. ذكريات ما عاشته سابقا مع أوليفر، وما تريد أن تعيشه الان مرة أخرى. قال مخاطبا آنا بنبرة متعاطفة:- لاحاجة لأن تبقى أنت هنا كذلك، فأنت تستحقين بعض الوقت لنفسك.. لقد عملت بجهد.
بالنسبة الى آنا لم يكن ما تقوم به عملا، بل كان مصدرا لمتعة لمجرد البقاء برفقة أوليفر. كانت قد بدأت تأمل بشئ أكثر فى علاقتهما، كانت قد بدأت تظن أنهما يعيدان بناء الجسور بينهما بعدما ظنا أنها هدمت الى الابد، خاصة بعدما حدث البارحة.
لكن ميلانى تدخلت بسرعة لوضع حد لذلك، لعل السبب الذى دفع أوليفر الى حملها الى سريره البارحة هو الاحتقان ليس الا لآن الشقراء اللعوب لم تكن فى الجوار. كان يستخدمها كبديل لميلانى أثناء غياب هذه الاخيرة.
كانت الفكرة هذه تشبه لطمة قوية على الرأس بما تسببه من الام مبرحة. أجابته برباطة جأش :- شكرا لك. لكن، أظن أنى سأبقى ، فليس لدى عمل آخر أقوم به.
اعترضت ميلانى بتعاطف مفاجئ :- لا،لا يمكنك أن تفعلى هذا أنت بحاجة لقليل من الراحة كذلك. أنت تعلمين ما يقال عمن يمضى كل وقته فى العمل ولا يمرح البتة .
رمقت آنا أوليفر لتجدة يهز رأسه بالموافقة. هل هذا يعنى أنه يجدها مملة؟ لم يكن مملا ما حدث بينهما البارحة. فقد تجاوبت معه لا اراديا، كما لو أنها احترقت فى لحظة واحدة ففقدت السيطرة على تصرفاتها، مثله هو تماما. ما هى هذه اللعبة التى يلعبها الان ، اذن ؟
قالت :- قد أفعل ذلك، سأفكر فى الامر .
أصرت ميلانى بثبات :- أنت فعلا بحاجة الى تخصيص بعض الوقت لنفسك.
أضاف أوليفر مؤكدا :- أوافقك الرأى تماما .
بعد أن غادرا المنزل، أدركت آنا أنها لا تريد البقاء فى النهاية صعدت الى الطابق العلوى، وراحت تتجول فى غرفة النوم الرئيسية. لكن مجرد النظر الى أغطية السرير التى لا تزال مبعثرة، أثار فى نفسها غضبا أخذ يعتمل فى صدرها .
كل ما دفعه اليها كانت الحاجة، والحاجة فقط، لقد استغلها. كان عليها أن تلاحظ ذلك مساء أمس عندما ذهب الى سريره من دون ان يعانقها حتى. رتبت الاغطية بحركة تلقائية، عازمة على الا تضع نفسها فى موقف كهذا مرة أخرى .
عادت الى المنزل لكن السيدة غرين كانت فى اجازة ذلك اليوم ولم تكن راغبة فى تحضير الطعام، فقررت أن تزور والديها .. الى أن تذكرت أنها لا تملك سيارة هنا، وأن سيارتها لا تزال متوقفة أمام الكوخ فى ايرلندا.
كان والداها يعيشان فى عمق الريف الواقع فى الجهة الاخرى من كامبريدج ، والطريق اليهما لا تسلكها حتى الباصات. كما أن سيارة الاجرة ستكون باهظة الكلفة فما هى الخيارات التى بقيت أمامها ؟
كان هناك سيارة ادوارد بالطبع، المتوقفة فى المرآب الخاص بالمنزل منهما ؟ قال أوليفر لن يمانع بالتاكيد. لقد ترك مفاتيح المنزل معها، وكانت هى قد رأت من قبل مفتاحى السيارتين معلقين فى المطبخ.
أخذت السيارة الجيب فى النهاية بعدما أحست بأن سيارة الرولز رويس متكلفة بعض الشئ بالنسبة اليها. لكنها لم تجد والديها عندما وصلت الى منزلهما فلعنت غباءها. ان عليها أن تتصل هاتفيا قبل المجئ لابد أن الاحداث التى جرت مؤخرا سلبت منها العقل والمنطق والتفكير السوى .
لم يكن الحظ حليفها اليوم، هذا ما خطر لها. الا أنها تستطيع الذهاب لرؤية أخيها، وان لم تجده فى مكتبه .. ما الذى ستفعله؟ هل تتناول الطعام فى مكان ما وحدها ؟ ام لعلها تذهب الى السينما ؟ ماذا تفعل ؟ يا له من شعور فظيع بالضياع ألم بها !
خلال الايام القليلة الماضية ، بدأت تعتاد على حضور أوليفر وكادت تشعر بالامان والاطمئنان... لصداقته ، ان لم يكن لشئ آخر. أما الان فهى لم تعد متأكدة . لم يكنعلى ميلانى الا أن ترفع اصبعا واحدا حتى يجرى اليها من دون تردد ماذا يعنى لها ذلك ؟
هزت رأسها فى محاولة لطرد الافكار المزعجة واتجهت نحو كامبريدج. كان كريس فى مكتبه وبدا مسرورا لرؤيتها:- ظننتك لاتزالين فى ايرلندا . كنت عازما على تناول الغداء، هل تريدين الانضمام الى أم أنك سبقتنى ؟.
أجابت وهى تعانق أخاها بحنان :- هذا ما كنت أراهن عليه.
- مهلك . ما بك؟ هل أشعر أنك بحاجة للتكلم؟ هل كل شئ على ما يرام مع أوليفر؟
لم تلاحظ آنا أن ملامح وجهها تفضحها:- سأخبرك ونحن نتناول الغداء.
وأخبرته بالقصة المحزنة بأكملها فعلق قائلا :- يا الهى ! لم أدرك قط أن ذلك سيتسبب بهذا القدر من المشاكل. وضع كريس الشوكة والسكين على الطبق ونظر اليها بقلق واضطراب واضاف :- هل أخبرته لم أعطيتنى المال ؟.
هزت أنا رأسها بالنفى .
- لم لا؟ يا الهى آنا . لايمكنك تعريض زواجك للانهيار والزوال بسببى . أخذ يهز رأسه وقد بدا الاضطراب فى عينيه الزرقاوين الداكنتين .
أعترفت له آنا بأسى :- رفض أن يسمع ما لدى . لقد ظن بى أمورا سيئة جدا. اللعنة ،كريس ان كان قادرا على الظن بزوجته ظن السوء الى هذا الحد، فماذا نقول بعد عن زواجنا؟ ظننت أن الثقة تحول دون وقوع مثل هذه الامور. آه كم كنت بلهاء ! لم يعد يثق بى قط، وبات من السهل عليه أن يتخلى عنى ويرمينى خارج حياته كليا. أضف الى ذلك، أن صديقته السابقة عادت للظهور فى حياته مجددا.
لم تتنبه آنا الى صراحتها المفرطة، ولم تدرك كم كشفت من الامور أمام كريس، الى أن وضع أخوها يده فوق الطاولة:- اهدئى يا أختى، أنا متأكد من أنك مخطئة فى ظنك حتما. قالت داون انها لم تر فى حياتها رجلا مغرما مثل أوليفر.
- ربما كان أوليفر مغرما. لكنه لم يعد كذلك بعد الان .
- هل أنت متأكدة ؟
- كل التأكيد .
- مازلت أعتقد أن عليك اطلاعه على الحقيقة. لقد حصلت على جزء من المبالغ المستحقة لى ،وسأتمكن قريبا من أرجاع المبلغ كله.
- ليست هذه هى المسألة كريس.
كم تمنت لو أن أخاها لم يطلب منها المساعدة قط، لوفر عليها عذابات جمة والاما مبرحة. من جهة أخرى، كان من الافضل لها أن تكتشف حقيقة أوليفر عاجلا وليس آجلا.
لطالما سمعت فى الماضى عن بنات يتزوجن برجال يفرضون عليهن رقابة صارمة فى المصروف، ويصرون على معرفة مصير كل فلس يتم صرفه، والاطلاع على ما يفعلن فى أوقاتهن، ومع من يمضين اجازاتهن... رجال يريدون أن يديروا لهن حياتهن حسبما يحلو لهم . هل كان أوليفر هكذا؟ هل كان ذلك مجرد جزء بسيط من حقيقة أكبر وأشد مرارة؟ هل كانت الامور ستزداد سوءا مع الايام ؟ وهل تخلصت منه فعلا ؟
لكن أخاها أصر قائلا :- أظن أن المسألة برمتها تكمن هنا. أنت حزينة الى حد التفجع . كم تغيرت منذ أن رأيتك آخر مرة. كنت متألقة، تنبضين بالحياة والحيوية ... أنظرى الى نفسك الان. تبدين كالمومياء التى عادت للتو الى الحياة . هل والداى على علم بأن زواجك بات على شفير الهاوية
- لا، لقد أتيت لتوى من هناك ، لكنى لم أجدهما فى المنزل .
- سيحزنهما الاطلاع على الامر.
قالت وهى تتنهد بحزن :- أعرف ذلك . لهذا السبب لزمت الصمت حتى الان .
- تعنين أنك كنت تأملين باصلاح الامور وبالرجوع اليه ؟
- شئ من هذا القبيل .
- انه أحمق اذا تركك ترحلين .
- ربما لم يحبنى أوليفر قط . لقد قال والده انه تزوج بى فى فترة من فترات الضعف. بدأت أظن أنه كان محقا .
- لماذا اذن انفصل عن تلك المرأة ؟
برقت عينا آنا وهى تجيبه :- انه المال مرة أخرى.
أخذ كريس نفسا عميقا وهو يهز برأسه :- ان الرجل يعانى من عقدة نفسية. لاعجب فى أن تكونى محتارة ومضطربة ، هل مازلت تحبينه؟ .
رفعت آنا كتفيها الهزيلتين :- لست أدرى .
- هذا يعنى أنك مازلت تحبينه. أعتقد أن عليك منحه فرصة واحدة أخرى . أخبريه عنى ، وأنى طلبت منك الاحتفاظ بالسر، وان لم ينفع ذلك ، ف .. فأرسليه لى حينها. سأجعله يفكر بشكل سوى .
- لكن ، الا تفهم يا كريس؟ لا أريده أن يعود وفق هذه الشروط، ما كان عليه التشكيك بى منذ البدء.
- أوافقك الرأى . فقد التقيت بأروع فتاة فى العالم ، وأشعر أنى أثق بها وأئتمنها على حياتى، أعتقد أن هذا هو الحب الحقيقى .
اتسعت عينا آنا من المفاجأة :- أوه ، كريس . لابد أنك كنت تتوق شوقا لاخبارى بذلك، وأنا أثقل كاهلك بأحزانى وهمومى ومشاكلى الخاصة . أنا اسفة، ما أسمها وأين التقيت بها؟ أخبرنى بكل شئ .
عندما عادت آنا الى المنزل كان أوليفر فى أنتظارها. كانت عيناه قاسيتين باردتين، وجسده كله مشدودا:- أين كنت بحق السماء ؟.
قطبت آنا حاجبيها عندما شعرت برعشة مخيفة. عادت الى ذاكرتها صورة الرجال الذين يسعون للتحكم بزوجاتهم وادارة حياتهن:- هل يهمك الامر؟
- أرى أنك أخذت سيارة والدى الجيب.
سألته وقد رفعت حاجبيها استنتاجا :- هل هذه هى المسألة اذن ؟ كان على طلب الاذن ؟.
- لا تكونى سخيفة . لقد قلت انك ستبقين فى المنزل الكبير. لم أجدك عندماعدت، وشعرت بالقلق بشأنك .أوليفر يشعر بالقلق يا لها من دعابة !
- آسفة، لكنى لم أجد أحدا لطلب الاذن منه. بقيت سجينة هنا لفترة كافية. وفكرت بأن الوقت حان لأخرج قليلا وأتنشق بعض الهواء.
- قلت سجينة ؟
- أعنى أن سيارتى ليست معى .
-أه ، فهمت . لا أذكر أنك قلت شيئا عن انزعاجك من الموضوع.
لم تشعر بأى انزعاج من قبل، الى هذه اللحظة . لكنها لن تعترف له بذلك طبعا:- قررت أن أزور والدى . هل لديك أى مشكلة فى ذلك ؟.
ضاقت عينا أوليفر:- كيف حالهما ؟.
هزت كتفيها :- فى الواقع ، لم أجدهما فى المنزل. لذا تناولت الغداء مع كريس فى المقابل .
- الاخ الشبح ؟
لم ترق لآنا نبرة السخرية فى صوته ، فبرقت عيناها غضبا :- انه هو نفسه .
- متى سألتقى به ؟
- أظنك لن تفعل قط، بما أن زواجنا قد أنتهى .
أجابت بحدة وغليان شديدين . لقد خطر لها وهى فى طريقها الى البيت أن كريس قد يكون محقا وأن عليها جعل أوليفر يستمع الى الحقيقة لكن سلوكه وتصرفه الان جعلاها تبدل رأيها بسرعة البرق، فهو لن يصدقها حتى ان كتبت أحرفها بالدم .
- انه لأمر مؤسف . أعتقد أن بينى وبين كريس أمورا عديدة لنناقشها .
- كسؤاله مثلا عما اذا كنت أعطيته المال أم لتونى، هل هذا ما تعنيه ؟
أجابته بلا مبالاة، وهى تحاول تجاهل العرق المتصبب منها جراء شوقها المفاجئ اليه. ما هو هذا التأثير الذى يمارسه عليها أوليفر كلما تجادلا؟ هل كانت عيناه السبب فى ذلك والنار التى تشتعل فيهما حنقا أو اللهيب الذى يعلو وجنتيه، والتصلب الذى يشد كل عضله فى جسده؟ مهما تكن الاسباب ، فهو يؤثر فيها بشكل لا يمكن السماح به.
قال بتأمل هازئ :- آه ، تونى . هل رأيته مؤخرا ؟
تطايرت من عينيها شرارات الغضب :- أنت تعرف يقينا أنى لم أره فأنا لم أذهب الى أى مكان آخر منذ وصولى الى هنا .
رمقها بنظرات مشككة، لكنه لم يصر على مناقشة الامر لسبب ما :- ربما عليك الاحتفاظ بسيارة الجيب لتتجولى بها . لم الاحظ قبلا أنك تشعرين بالقيود تكبلك. لم لم تأخذى سيارة الرولز رويس؟ كانت ستحدث وقعا أشد تأثيرا وفعالية .
شعرت بالاكتفاء من هذا الجدال :- تأثيرا على من ، يا أوليفر؟ مامن أحد أريد التأثير عليه . كيف كان غداءك مع ميلانى فى المقابل؟
ابتسم للمرة الاولى منذ وصولها الى المنزل، فتسللت الغيرة محرقة الى قلب آنا. حاولت اقناع نفسها باستحالة أن تشعر بالغيرة لأنها لم تعد مغرمة بأوليفر. لكن ذلك لم يحدث فرقا يذكر .
لقد تملكتها الغير، كما تتملكها دائما وتعتمل فى نفسها، بنارها المحرقة، كلما مرت فى بالها صورة أوليفر وميلانى سويا.
- ذهبنا الىضفة النهر. فهم يقدمون طعاما شهيا هناك، و...
- نعم ، أعلم ذلك . فقد اعتدت على اصطحابى أنا الى هناك فى السابق.
كانا قد اتفقا على جعل هذا المكان، مكانهما الخاص. وها هو الان يصطحب ميلانى اليه. الى أى حد قد تبلغ قساوته وفظاظته؟
- آه، هذا ما كنت أفعله؟
تكلم وهو يضحك استغرابا كما لو أنه تذكر الامر لتوه فقط .
- وأين هى الان اذن؟ توقعت أن تمضى بقية اليوم معها ايضا.
- لديها مشاريع أخرى. لمست آنا خيبة الامل فى صوته فأضافت:- هل تجاوزتما خلافاتكما؟ وهل عدتما معا مجددا؟.
- لم تسألين؟ هل يزعجك الامر ؟
- لا، على الاطلاق . انه الفضول وحسب. ليس عليك اخبارى بأى شئ.
هذا ما فعله، مما أثار قلقها الى حد لا يطاق. كانت السيدة غرين قد أعدت لهما طعام العشاء. كل ما كان على آنا أن تفعله هو وضع قطع الدجاج على النار ومزج سلطة الخضار. انفرد أوليفر فى مكتبه طلب منها أن تتصل به عندما يجهز كل شئ.
لذا، لم تكن مستعدة لمواجهته، عندما استدارت وهى واقفة عند المغسلة ورأته يراقبها. ارتفعت يداها الى حنجرتها بشكل تلقائى، قبل أن تقول :- لقد أخفتنى منذ متى وأنت واقف هناك ؟.
لمحت لجزء من الثانية بريقا يسطع فى عينيه الذهبيتين، ما لبث أن تلاشى فى لحظة. لعلها تخيلته، الا أنه جعل الحرارة تندفع فى كل خلية من دمها .
- ما يكفى لأعرف أنك ستبدين أفضل بكثير فى هذا الزى ان لم تلبسى شيئا تحته.
ارتدت آنا الزى الخاص بالسيدة غرين لحماية ثيابها الحريرية. فشعرت بالاحمرار يصبغ وجهها حين تخيلت ما عناه بكلامه. فهى لا تريد أن تفكر فيها بهذا الشكل، ليس بعد أن عاد لصداقته القديمة مع ميلانى، ما الذى يحاول تحقيقه؟ أن يلهو معهما هما الاثنين؟ ولأى سبب تحديدا؟.
- ظننت أنك تعمل.
- لم أستطع التركيز.
ألانه يفكر فى ميلانى؟ متسائلا عن الشخص الذى ذهبت لرؤيته؟ لكنه، ان كان يخطط لاستغلالها مجددا فى غياب الفتاة الاخرى ، فأنه سيلقى خيبة أمل كبرى. لن ترتكب الخطأ نفسه مرتين.
فقالت ببرود وقد فاجأها ثبات صوتها :- سيجهز العشاء فى وقت قصير . ان أردت، بامكانك شرب كوب من العصير فى هذه الاثناء.
- فكرة جيدة . هل أسكب لك كوبا؟
- لا أظن ذلك.
أرادت أن تبقى بعيدة عنه لأطول فترة ممكنة، لتستجمع قواها وتهيئ نفسها للساعة التى ستمضيها معه على العشاء. أرادت أن تجهز دفاعاتها وتحصنها كى لا تسمح له بأختراقها كما فعل البارحة .
كانت لاتزال فى حيرة من أمرها، لا تجد جوابا لتساؤلاتها حول الاسباب التى دفعته لحملها الى غرفة نومه وسريره فى لحظة ومن ثم تجاهلها فى اللحظة التالية. لابد لها أن تعترف بأن الجاذب الجسدى لطالما جمعهما برباط قوى تصعب مقاومته. لعله الجزء الوحيد الذى قام عليه هذا الزواج! الجزء الذى أخطآ تفسير اشاراته وظنا أنه الحب.
عاد أوليفر وهو يحمل كأسين من الكريستال، وقد ملأهما بعصير الليمون قائلا:- لاأحب أن أشرب وحدى.
كان كوب العصير مغريا جدا فى هذا الجو المحموم. لم تكن الحرارة المرتفعة فى المطبخ متأتية فقط من الفرن! فشربت العصير بسرعة وتوتر.
- هل أسكب لك كوبا آخر؟
- لا. شكرا. أشعر بدوار مفاجئ لا أدرى سببا له !
- عظيم! لعل السبب فى ذلك يعود الى الحرارة المرتفعة! حرارة الفرن بالطبع .
- عظيم ؟ ما هذا؟ يسعدك أن أشع بالدوار وأن أفقد توازنى ؟
- أبدا، أبدا. بل بالعكس، فأنا أفضل أن تكون نسائى بأتم عافيتهن وكامل وعيهن وهن برفقتى.
هل قال : نسائى؟ وكم يبلغ عددهن؟ هل هناك غيرها هى وميلانى فى حياته؟ أم أن ذلك مجرد صورة مجازية فى التعبير لم يقصدها حرفيا؟ أم لعلها تبالغ فى ردة فعلها ! اختارت الاحتمال الاخير، وأملت فى أن تكون مصيبة فى تقديرها.
- وأنا كذلك، افضل أن أكون دائما بكامل عافيتى وأتم وعيى.
- باستثناء أنك لا تنجحين دوما فى تحقيق ذلك.
رفع حاجبه بثقة، فاصطبغ وجه آنا باللون الاحمر من جديد.هل كان عليه أن ذكرها بالسهولة التى تستسلم له فيها فى كل مرة، والسهولة التى يتحكم هو بها؟ لكن ذلك لا يحدث الا معه. أتراه يعلم ذلك؟
- لا يجب أن تشعرى بالاحراج . فهذا من الامور التى أعشقها فيك.
- هل مازلت تعشقها؟ وتمكنت من جعل نبرة صوتها عادية ولا مبالية. كأن الموضوع لا يعنيها، وكأنها تتكلم عن شخص آخر.
- هناك أشياء لا تزول قط، يا آنا.
كان صوته مثيرا الى حد الجنون. كيف يستطيع فعل ذلك بها؟ كيف يمكن لصوته الابح أن يشعل فى روحها النار. نظرت اليه حانقه لترى على وجهه قناعا يحجب أى تعابير. أضاف:-تماما كرائحة الحريق ، فهى تتطلب عصورا لـ ...
التفتت آنا نحو الفرن جزعة، وأسرعت لاخراج ما تبقى من قطع الدجاج المحروقة، كيف سمحت له بلفت انتباهها الى هذا الحد ؟
- أنت من تسبب بذلك. لم لم تبق بعيدا عن طريقى ؟
- كم تبدين شهية وجميلة عندما تغضبين.
تنهدت وهى تتمنى أن يحجم عن ملاعبتها بهذا الشكل لكى تتمكن من مقاومته هذا المساء.
- لن ترانى شهية أن رميتك بكل هذه القطع المحروقة. من الافضل لك أن تخرج من هنا على الفور بينما أتخلص أنا من هذه الفوضى، وأنظف المكان.
وضع كأسه على الطاولة وخطا خطوة بأتجاهها قائلا:- لم لا تدعينى أفعل ذلك؟
لكن آنا لم ترده أن يتدخل فى ذلك، أرادته أن يخرج على الفور:- لا فقط أخرج من هنا ، هلا سمحت؟.
ها هى تبالغ فى ردة فعلها ثانية، لكنها لم تستطع التحكم بنفسها. فقد جرها الى حاله من التوتر بحيث أن مجرد أقترابه منها سيكون سببا فى انفجارها. واقترب منها بالفعل، وحاول مساعدتها، لكنها قاومته فوقعت قطع الدجاج أرضا:- أنظر الان ماذا فعلت؟ وانفجرت باكية بشكل مفاجئ.
ارتعب أوليفر وأهتز كيانه عند رؤية آنا تبكى ، كان يكره أن يرى أى امرأة تبكى، فذلك يشعره بقلة الحيلة والارتباك. هل عليه مؤاساتها أم يستجيب لطلبها ويبتعد عن طريقها؟ المنطق ينصحه بالذهاب ، لكن غريزته دفعته لوضع الطبق من يدها جانبا وأخذها بين ذراعيه ليحضنها بقوة ، ويقول برقة :- انها ليست نهاية العالم. سنأكل فى الخارج.
- أين ؟ على ضفة النهر ؟
كان أوليفر قد شعر بالاسى فى طريق عودته الى المنزل. وأدرك حجم خطئه فى اصطحاب ميلانى الى هناك. كانت الفكرة من اقتراح ميلانى، ولم يكن هو يفكر بشكل سوى. كل ما كان يعرفه أنه يعيش فى دوامة مخيفة منذ أن فقد رشده وأخذ آنا الى سريره.
لقد جعله ذلك يزداد شوقا وتوقا اليها، والى الحياة التى عاشاها فى ما مضى. لكن زواجه انتهى بشكل سئ جدا، لذا تمسك باقتراح ميلانى كونها تمثل النقيض الذى كان يشعر بالحاجة اليه.
لاشك فى أن موت ادوارد ترك أثرا بالغا وجرحا عميقا فى نفس ميلانى المحطمة. فقد كانت تحب عرابها الى حد بعيد، وبالرغم من أخطائها، شعر أوليفر أنه لا يستطيع التخلى عنها كليا فى هذا الوقت العصيب. لكنه لم يستمتع بوقته، بل أحس براحة وخلاص عندما أعلنت ميلانى أن لديها مشاريع أخرى لبقية اليوم.
عند وصوله الى البيت، لم يجد آنا فجن جنونه واستشاط غيظا. فقد كان تواقا لامضاء المزيد من الوقت معها ، بالرغم من علمه يقينا بأن ذلك سيغرق روحه فى العذاب.
ان ما أراد القيام به بشدة عند عودتها هو أخذها واحتضانها بين ذراعيه ومعانقتها من دون توقف. لكنه يعلم أن ذلك لن يقدم الحلول الشافية، لذا حمى نفسه بالغضب ليبقى بعيدا عنها ... ولا شك فى أنه نجح فى ذلك لوقت قصر.
لكنه عجز فى مكتبه عن حصر تركيزه فى العمل، وكل ما كان يراه على شاشة حاسوبه هو وجه آنا الخلاب وعينيها النابضتين بالحياة وشعرها المتموج الحريرى وثغرها الواسع البالغ الاغراء.
دفعه ذلك لبحث عنها فوقف فى باب المطبخ لدقيقتين قبل أن تلحظ آنا وجوده. وكاد يطلق العنان لرغباته وينقض عليها يشبعها تقبيلا لولا أن استدارت ورأته. حتى الان. فان احتضانه لها وتهدئته لغضبها، ما كانا ليخففا حدة شوقه اليها. لكنه قال :- بامكاننا أن نذهب الى حيث تشائين.
- لست جائعة.
كذلك كانت حاله هو ايضا. فالجوع الذى كانا يشعران به هو جوع من نوع آخر، كان يعلم فى قرارة نفسه أنه ارتكب جرما لا يغتفر حين سمح لقلبه بأن يتحكم بعقله عندما سألها الزواج به.
لقد ارتكب والده الخطأ نفسه مع روزمارى، بعد أن فقد اتزانه أمام ذلك الوجه الجميل والجسد المثير. وانظروا الى أين أوصله ذلك ! لا عجب فى أن يثور ادوارد عندما رأى ابنه يرتكب الخطأ نفسه.
قال لها بصرامة:- يجب أن تأكلى . لقد فقدت بعض الوزن ولا يمكنك تحمل خسارة المزيد واستمر فى احتضانها، واستمر توقه اليها يزداد ويصبح أكثر حدة.
حاولت آنا أخيرا أن تبتعد عن حضنه قائلة :- كما لو أن الامر يهمك أو يعنيك فى شئ .
- أنا أهتم فى أن ترعى نفسك بشكل جيد .
لكنه كان فى حاجة ماسة الى احتضانها. كان بحاجة الى المزيد من الاحلام. فخرجت كلماته تلك مخنوقة من حنجرته التى اتقبضت من الاثارة.
أجابته :- لا أرى سببا يدعوك لذلك.
لكم يتسبب لها ذلك بالالم، أن تعرف أنه لم يعد يوليها أى اهتمام يذكر. لقد استحق حرمانه منها عن جدارة، بما أنه هجرها وتخلى عنها. لاشك فى أنه أخطأ فى تصرفه، لكنه شعر بحاجته لبعض الوقت للتفكير فى ما فعلته ومراجعة تفاصيل ما حدث بعيدا عن تأثيرها . وقبل أن يتوصل الى أى قرارات، قامت هى بتوضيب حقيبتها والرحيل، ولم تكن لديه أدنى فكرة عن مكانها. وبعد أن اكتشف مكان تواجدها أصابه الذهول.
أراد أن يبحث عنها على الفور، لكن والده أقنعه حينذاك بأن ذلك سيخلق المزيد من المشاكل فى المستقبل. فقال له :- لا تريد النساء الا ما يستطعن الحصول عليه من الرجل. وهن لا يتغيرن قط. قد يعدنك بوهبك كل الحياة، وقد تظن أنهن تغيرن لبعض الوقت، لكن ذلك لا يدوم أبدا .
وهكذا، انصاع أوليفر لحكمه والده.لكن ذلك لم يمنعه من الاتصال بداون واقناعها بضرورة ارشاده الى مكان تواجدها. وربما لو أن ميلانى لم تظهر فى السابق هذا الميل نفسه الى المال، لكان لحق بها. فقد دفعه ذلك للتفكير مرتين وثلاث وأربع، وفى النهاية، أقنع نفسه بأنه قام بالصواب.
رفع ذقنها بيده ليتمكن من النظر الى وجهها، وقال :- ان كنت لا تريدين الخروج، يا آنا اذن دعينى على الاقل أحضر لنا شيئا نأكله مع الدجاج ؟
- السلطة ، والبطاطا .
- ما رأيك اذن فى أن أعد لنا عجة من البطاطا لنأكلها مع السلطة؟ اذهبى أنت واغسلى وجهك، وسأتدبر أنا الامور هنا .
خاف أن ترفض اقتراحه، وأن تهرول الى غرفة نومها وتحتجز نفسها فى الداخل لما تبقى من الليل. لكنها تنهدت أخيرا وهى ترسم على وجهها ابتسامة متعبه حزينة وقالت :- حسنا .
عندما عادت الى الطابق السفلى، كانت آنا قد بدلت ثيابها وارتدت بنطالا وقميصا ملتصقا بجسدها ومقفلا بسحاب من أعلى الى أسفل فأصدر أوليفر تنهيدة متألمة بعدما عجز عن خنقها وهو ينظر الى آنا . رفعت حاجبها فى تساؤل:- هل من خطب ؟
نعم، كل شئ! ألا تعرفين هذا؟ لكنه لم يتفوه بكلمه واحدة بل تمكن بجهد من رسم ابتسامة خجولة، وهويربت على معدته :- أعذرينى، أنا جائع .
رغم أنه لم يكن واثقا من أنها صدقته وظنت تنهيدته تعبيرا عن جوعه للطعام وليس أكثر .
- فكرت فى أن نأكل هنا ... ذلك يوفر علينا العناء والجهد.
كما يمنعهما من الاختلاء فى مكان حميم. فما من أرائك مريحة هنا يستطيع المرء أن يرتاح عليها بعد الغشاء، بل كرسيين حديديين وطاولة من الغرانيت. لكنه كان مخطئا فى تقديره أيضا.
فصحيح أن الكرسيين غير مريحين، وصحيح أن الشموع الرومانسية غابت عن طاولة العشاء، كذلك الموسيقى... الا أن مجرد جلوسه بالقرب من آنا، أينما يكن ذلك، كان كافيا لوحده. فقد يكونان فى القطب الشمالى أو الجنوبى، فى سيبيريا أو فى أكثر المطاعم رومانسية وهدوءا فى أجمل مكان فى العالم، لن يغير ذلك شيئا من الاحاسيس التى تتفجر فى داخله كلما اقترب من هذه المرأة.
ما كان عليه البتة أن يصر على تناول الطعام معها، بل كان من الافضل أن يخرج من المنزل وألا يعود اليها. أنى له الان أن يتخطى ما تبقى من الامسية من دون أن يفقد السيطرة على نفسه ؟
- ان هذه العجة لذيذة الطعم حقا. لقد تحسنت موهبتك فى أعداد الطعام.
علم أنها تلمح الى أحدى الوجبات المقززة التى أعدها لهما فى أول فترة من زواجهما. لم يكن السبب فى ذلك عدم درايته بفن الطهى. بل لطالما استمتع بطهى الطعام لنفسه كلما سمحت له السيدة غرين بذلك. لكنه فى ذلك اليوم تحديدا، عندما أراد التأثير بشدة فى آنا سارت كل الامور بشكل سئ .
كانت آنا قد تناولت فى ذلك المساء كل ما وضعه أوليفر أمامها بلباقة وكياسة. لكنهما غرقا فى هستيريا من الضحك عند انتهاء الطعام ليغرقها بعد ذلك بوابل من القبلات. أصبح ذلك الان ذكرى جميلة يضيفها الى دفتر ذكرياته الخاص .
اعترف أمامها قائلا :- كان ذلك يوما لن أنساه قط.
بقيت آنا ساكنة لجزء من الثانية، وأضاف:- لم أعد هذا الصنف من الطعام مرة أخرى ولم آكله أيضا.
- لم يكن الامر كارثة فعلية. انحبست انفاسه. أتراها تلمح الى ما جرى بينهما ذلك اليوم بعد العشاء؟
- لو حدث الامر نفسه معى أنا، لانفجرت باكية كالطفلة الصغيرة. أما أنت فقد غرقت فى الضحك.
- ضحكت أنت على أولا.
لكن، هل هذا كل ما تذكره؟
- لأنك بدوت مصعوقا تماما، فكان على أن أفعل أى شئ لأهون عليك وقع اللحظة.
- ما رأيك فى قليل من ذلك الضحك ألان ؟
لم يرد أن يقول لها هذا . لم يردها أن تظنه عازما على أنهاء هذا اليوم تماما مثل ذاك المساء، فتدارك نفسه مضيفا :- أعنى ، أنى اسف . اسف لفظاظتى معك منذ قليل، يبدو أنى معتاد على أفساد الامور دائما.
أجابته بهزة من كتفها وابتسامة باردة :-لا بأس .
- لا.لا أوافقك الرأى. ما كان على أن أصيح فى وجهك لآنك خرجت من المنزل . آنا آسف يا آنا.
- لقد سامحتك. والان أكمل طبقك قبل أن تبرد العجة.
لكنه لم يعد يشعر برغبة فى تناول الطعام وهما جالسان بهذا القرب أحدهما من الاخر، بحيث تشتتت كل أفكاره وأخذ يفقد اتزانه وقدرته على السيطرة على نفسه شيئا فشيئا.
بذل جهدا كبيرا للانتقال الى موضوع آخر، الى تفاصيل الحياة اليومية الروتينية :- هل ترغبين فى تناول الشاى الان بعد الطعام؟.
هزت آنا رأسها :- أنا افضل القهوة.
- الشاى الساخن فى هذا الوقت من المساء أفضل بكثير من القهوة بعد يوم طويل شاق.
- لم يكن شاقا بالنسبة الى. فى الواقع كان هادئا جدا، الى ان .. الى أن عادت الى المنزل ووجدته غاضبا مهتاجا. لكنها لم تكمل، بل قاطعها قائلا:- فى هذه الحال، تحضرين أنت قهوتك بينما أعد أنا الشاى لنفسى.
ابتعد عنها قليلا ليتنشق الهواء. أدرك أن ما يحدث هو الغباء بعينه. فهذه هى المرأة التى سيطلقها قريبا. كيف يحق لها أن تفقده اتزانه بهذا الشكل؟
هذا صحيح ما عليك الا القاء اللوم على آنا. هذا ما راح ضميره يخاطبه به. هى لم تفعل شيئا، كل ذلك مصدره مخيلتك أنت. مخيلة غارقة فى الارتباك والحيرة الى حد لا يطاق .
أخذ يحضر الشاى وهو غارق فى افكاره، فلم ينتبه لآنا وهى تنظف الطاولة وتضع الاطباق المتسخة فى آلة الجلى، قبل أن تضع معلقة من القهوة السريعة التحضير فى فنجانها وتقف منتظرة الماء ليغلى .
تنبه أوليفر فجأة، وقال لها :- ما كان عليك أن تنظفى الطاولة .
- لن نترك كل شئ للسيدة غرين.
- كنت سأهتم أنا بذلك لاحقا.
برقت عيناها بنفاذ صبر:- هلا كففت عن مضايقتى، يا أوليفر هذا ما حصل.
استدارت نحو الماء، وحملت الابريق وسكبت القليل فوق قهوتها، ثم أضافت القليل من الحليب قبل أن تنظر اليه مجددا.
كانت حركاتها البسيطة تلك تذهلة ايضا، وتجعله يدرك روعة ما يتخلى عنه طوعا. وفجأة لم يعد يدرى ان بات قادرا على ذلك بالفعل .
قالت آنا:- أظننى سأشرب قهوتى فى غرفتى.
- لا. آنا . لاتفعلى .
ومن دون أن يتردد للتفكير قليلا فى ما قد تفهمه من تصرفه هذا، اقترب منها بسرعة وأخذها بين ذراعيه بلهفة لا مثيل لها .
****************
نهاية الفصل الخامس

Just Faith 26-11-17 07:12 PM

6 - الوعد المستحيل
ألم بآنا شعور أكيد بأنها ستندم ان لم تبعد أوليفر عنها على الفور فقد كان على حافة الانهيار طيلة الامسية، منذ اللحظة التى حاول فيها مؤاساتها عندما أوقعت قطع الدجاج أرضا.
لقد ظلت زوجته لستة أشهر كاملة، فأصبحت تعرف جيدا طبيعة رغبته التى لا تخمد أبدا ... رغبته فيها. كانت الحرارة المتصاعدة منه وهما جالسان على العشاء، واضحة وملموسة بشكل أكيد.
فى الواقع، مرت بضع لحظات أثناء العشاء، احتكت فيها ذراعه بيدها عن طريق الصدفة، فتطلب الامر منها جهدا جبارا لكى تبقى مكانها وتقاوم الهروب منه بعيدا. وتوقعت أن يرى أثر لمسته المحرقة واضحة على جلدها.
- أعتقد أنه من الافضل أن نأخذ قسطا من الراحة فى غرفة الجلوس.
تناهى صوته الابح الى أذنيها مثيرا جذابا، فأوشكت أن تفر هاربة الى غرفة نومها طلبا للنجاة، لكنها بدلا من ذلك ، سمحت له لاأراديا بمرافقتها الى خارج المطبخ.
لكن، ماأن وصلا الى الغرفة الاخرى، حتى ابتعدت آنا عنه بسرعة خاطفة وأرتمت على احدى الارائك الوثيرة ذات المقعد الواحد. علمت من تقطيب حاجبيه أن ذلك لم يكن ما يجول فى خاطره تحديدا، لكنه لم ينبس ببنت شفة، بل جلس بنفسه على الاريكة المقابلة.انها قادرة الان على تمييز الشرارات فى كيانها وما تحدته فى نفسها. وهى تستعر منذرة بحلول ما تكرهه، أو ما تكره حدوثه الان.
عمدت الى اغلاق عينيها حينا، واشاحتهما بعيدا عنه حينا اخر، لكن أوليفر لم ينزع عينيه عنها البتة بل بقيتا مسمرتين عليها طيلة الوقت. تينك العينان الذهبيتان اللتان أوقعتاها فى غرامه منذ البدء.
أوشكت قهوتها أن تبرد، لكنها رفضت الحراك وبقيت مسمرة فى مكانها مخافة أن تلتقى عيناهما فيكتشف مشاعرها. يا لهذه الليلة المحتومة، كيف تراها تنتهى؟
- أشربى قهوتك.
بدا وكأنه قرأ أفكارها، فرمقته بنظرة خاطفة قبل أن تلتقط فنجانها. لكن لسوء حظها لم تستطع ابعاد عينيها عنه، فتسمرتا فى عينيه بقوة مغناطيسية لا تقاوم .
همس لها:- تعالى الى هنا.
ابتلعت آنا ريقها بصعوبة وبللت شفتيها الجافتين، ولمعت عيناها وهى تقول:- لماذا؟.
- كأنك بحاجة للسؤال.
أخذت تقترب بخطى وئيدة ومترددة، لكن عينيها بقيتا مسمرتين فى عينيه. شعرت بنفسها تغرق فى ذلك البحر الذهبى العميق، وعلمت هذه الحقيقة، لكنها مشت الى القدر الذى لا مفر منه.
عندما وصلت اليه، تأوه بنفاذ صبر وهو يحملها ويضعها فى حجره قائلا:- أنت ساحرة شريرة، هل تعلمين هذا؟ ساحرة لا تقاوم. تجعليننى أقوم بأشياء لم أخطط للقيام بها، تجعليننى أخالف قوانينى الخاصة.
استسلمت آنا لمداعباته بعد أن فقدت احساسها بالواقع وبكل ما يحيط بها. كيف تستسلم له بكل هذه السهولة وهى تعلم بانهيار أى أمل فى المستقبل، وفى رأب الصدع الذى فرق بينهما وأوصل زواجهما الى هذه الحالة المأساوية؟
لكن كل هذا المنطق الذى يبدو بديهيا للوهلة الاولى. يذوب وينهار تحت وقع قبلاته المحمومة. حين رفع رأسه لينظر اليها، لمحت بريقا مختلفا فى عينيه اللتين استحال لونهما برونزيا قاتما كما لم ترهما من قبل، فتصاعد منها نداء لم تستطع احتواءه:- آه، أوليفر .
- آه ، أوليفر ، ماذا ؟
- لو أنك تعلم ماذا تفعل بى .
عاد ليرفع رأسه مجددا :- ماذا أفعل أنا بك؟ هل لديك أدنى فكرة عما أشعر به آنا؟ لقد مارست سحرك على مرة اخرى، وجعلتنى أدرك ماذا يفوتنى. فهذا الجزء من زواجنا لم يتعرض قط للانهيار والزوال.
تصلبت آنا بعدما شعرت بأن اللحظة الحميمة الرائعة التى تجمعهما الان توشك على الانتهاء... ان لم تكن قد انتهت بالفعل. فقالت له:- هل تعنى القول ان هذا هو كل ما رغبت به يوما منى ؟.
حبست أنفاسها وهى تنتظر اجابة منه . فاعترف قائلا :- كان هذا الجزء هاما جدا فى زواجنا، آنا . انه جزء بالغ الاهمية، فأنا أعتقد بشدة أن الجانب الجسدى فى الزواج عندما يزول ينهار الزواج سريعا جدا.
لم توضح لها اجابته أى شئ. فزواجهما قد انهار بغض النظر عن الجاذب الجسدى الذى لايزال يقض مضجعهما. ستكون حمقاء ان هى استمرت فى السماح له بمداعبتها، فى حين أنه سيهجرها مجددا ما أن يحصل على مراده منها.
لكن لديه ميلانى لتحقيق هذا الغرض. أم أن ميلانى تركته اليوم لانشغالها بأمور أخرى؟ لم تستطع ابتلاع هذه الفكرة المرة أو تقبلها، فهزت رأسها فى نفور تام، قبل أن تقول:- لا أستطيع الاستمرار ، أوليفر أنت محق تماما، فالجانب الجسدى لم يتلاش بيننا، لكنه لا يأتى فى قمة أولوياتى فى الحياة.
واضافت بعد أن استعادت هدوءها وهى تحاول الابتعاد عنه :- انه خطأ فادح. لاأعلم لم أترك نفسى أتورط فى مثل هذا الوضع .
خبا شئ من النور فى عينيه:- ظننت أنك تريدين ذلك.
- أنا أردته، وأريده .. لكن هذا ليس جيدا. فنحن نوشك على الدخول فى اجرءات الطلاق، أوليفر. أم تراك نسيت هذا؟
- أعتقد أن بعض الامور تصبح عادة.
- فى هذه الحال، انها عادة عليك الاقلاع عنها. قفزت واقفة وأخذت تصلح هندامها.
فقال بنبرة مستسلمة:- أظننى سأذهب لأنجز المزيد من العمل ، فى النهاية .
تلاقت عيناهما وتسمرتا، فلمحت آنا فى عينيه الحزن، لكنها قست قلبها ولم تستجب لندائه. أجابته:- لا تعتمد على فى ذلك، فأنا سآوى الى الفراش.
لكنها لن تنام حتما، ليس لوقت طويل، فقد أمضت العديد من الليالى الارقة منذ انتهاء زواجهما، ليال عديدة استلقت فيها على السرير مستيقظة وهى تفكر فى أوليفر وتسترجع فى ذاكرتها صور الاوقات السعيدة التى أمضياها معا.
كان الامل فى استرجاع تلك الاوقات كبيرا لو أن التجربة التى مرا بها والمحنة التى عصفت بزواجهما من الامور الثانوية. كانت تلك الاوقات السعيدة لتتكرر عندما كانت برفقته منذ برهة، لو أنها لم تنسحب وتفر الى غرفتها. الا أن تلك اللحظات الوجيزة العابرة ما كانت لتفيدها فى شئ طالما أنه فى اليوم التالى سيعمد الى المباشرة فى أجراءات طلاقها.
فى الصباح التالى ، كان أوليفر فى انتظارها على طاولة الفطور. لكم يبدو أنيقا فى بنطاله الكتانى الرمادى وقميصه الازرق. لم يبد بالطبع عازما على مواصله العمل فى المنزل الكبير.
أتراه استنتج أن بقاءه قريبا منها أمر يفوق قدرته على الاحتمال؟ أتراه قرر البقاء بعيدا عنها كون ذلك هو الحل الوحيد المعقول؟
لم تعلم آنا أن كان عليها الشعور بالسعادة أم بالحزن .لكنه قاطع أفكارها مقترحا:- فكرت فى أن نحصل على بعض التغيير اليوم.
كانت نبرته مرحة ، فجلست آنا ال الطاولة فى حيرة من أمرها وقد قطبت جبينها وأخذ قلبها يخفق سريعا! لم ينو الابتعاد عنها أذن. فسألته بتردد:- ما الذى يجول فى ذهنك؟ .
- أفكر فى رحلة الى ضفة النهر؟ رغم أن الطقس قد يكون باردا، أو بامكاننا الذهاب الى لندن، للتسوق والتجول سيرا على الاقدام، أو لحضور أحد العروض ... ما رأيك؟
- أرى أنك نسيت أننى كنت أسكن فى لندن فى ما مضى .
- كما لو أننى أستطيع نسيان أى شئ يتعلق بك.
بدا صوته لا متناهيا كبحر لا قرار له، وعيناه بدفء اشعة شمس الصيف المتوهجة. فما كان منها الا أن أجابته:- فى الواقع، أشعر بالحنين الى المدينة. أعتقد أنى سأحب ذلك.
اثرت الذهاب الى المدينة سعيا الى الامان بين حشود الناس فى شوارعها المكتظة. فالامر ليس سيانا اذا ما ذهبا الى ضفة النهر حيث الاحتمال كبير جدا فى أن يكونا على أنفراد هى وأوليفر.
ان توضيب أغراض ادوارد اليوم لن يساعدها فى التغلب على حالتها النفسية البائسة. لكن قضاء اليوم بعيدا عن هذه الاجواء هو ما تحتاجه تحديدا أكثر من أى شئ آخر.
ركبا القطار وبلغا لندن عند منتصف النهار، فاستمتعت آنا بالتجول فى شوارعها برفقة أوليفر. وأثناء تجوالهما، جربت آنا ثوبا مسائيا من قماش الشيفون الاخضر، سيكون مناسبا لعشية عيد الميلاد. رغم أنه باهظ الثمن، الا أن أوليفر أقنعها بشرائه، ثم سدد الفاتورة بنفسه أثناء تغيبها فى حجرة تبديل الملابس.
- ما كان يجب أن تفعل ذلك .
رفع حاجبيه متسائلا :- لا أستطيع أن أشترى لزوجتى الثياب . هل هذا ما تودين قوله ؟.
- أنا لم أعد زوجتك .
تجهم وجهه، لكنه عاد ليبتسم فى لحظة بهدوء ظاهر :- مازلت أستطيع أن أقدم لك هدية ، أليس كذلك ؟.
كان سرور آنا ممزوجا بطعم مرير، فهذا ليس الجواب الذى كان ليسعدها . ذهبا بعد ذلك لحضور أحد العروض ، وكان عرضا موسيقيا مبهما لم تفهمه آنا، لكنها تظاهرت بالاستمتاع به.
كانت كل العروض الكبيرة الهامة محجوزة بالكامل، فلم يتمكنا من الحصول الا على بطاقتين لذاك العرض . بعد ذلك، قال أوليفر لها على العشاء:- كنت متحمسة جدا أثناء العرض. لم أكن أكيد من أنه النوع الذى تفضلينه.
حركت آنا أنفها الصغير باعتراف:- لم يكن كذلك. لم يكن من النوع الذى تفضله أنت أيضا، اليس كذلك ؟. فى الوافع ، كان أحدهما يعرف الاخر عن كثب الى درجة يصعب معها اخفاء المشاعر الحقيقية.
- هل أفسد لك ذلك اليوم بأكمله؟.
- لا، على الاطلاق . فقد استمتعت حقا اليوم، رغم شعورى بالذنب. ان الاجازة القصيرة التى أخذتها لتوضيب الاغراض فى المنزل ، ها أنت تهدرها الان فى التجول معى فى لندن.
- هذا ما لم أكن لأفعله لو لم أرغب فى ذلك . فمازالت رفقتك مصدر متعه خاصة لى .
لماذا قام اذن بطردها من حياته؟ هل هى اللحظة المناسبة لاخباره عن كريس، ولتشرح له بالتفصيل لما احتاجت الى تلك الثلاثين ألف باوند ؟ وهل يسامحها ان هى فعلت ؟ وهل سيرضيها ذلك ؟ أم لعلها ستحتفظ بخيبة أملها ؟لأنه أساء الظن بها منذ البدء؟
- أنت المرأة الاكثر اثارة وجاذبية هنا، آنا . هل تعلمين ذلك ؟
انخفض صوت أوليفر الى حد جعل جسدها يرتجف.
- لا أقوى على العيش معك، والبقاء بعيدا عنك. ان ذلك يصيبنى بالجنون .
انهارت امال آنا وتلاشت أمامها. فما من طريقة أشد وضوحا للتعبير عن مراده منها، وان استعان لذلك بكل لغات العالم . وما ان ينتهى توضيب الاغراض فى المنزل واخلائه، سيكون الوداع لآنا .
أرسلت عيناها بريقا أخضر ساطعا وهى تقول :- ان كنت لا تحتمل وجودى معك، ربما يستحسن بى أذن أن أرحل ، فأنا لم أبق هنا للسهر على رغباتك،أوليفر. فبأمكانك أن تطلب ذلك من ميلانى.. لأنها حسبما أرى ستكون مسرورة جدا فى تلبية طلبك.
أذهلته ردة فعلها وبدا واضحا على ملامحه وهو يرفع رأسه عاليا بعد أن ضاقت عيناه فى تساؤل :- لايمكنك أن تعنى ما تقولين ، آنا ؟.
- لم لا ؟
- لأن ... لأن الأمور تسير على خير مايرام بيننا.
فسألته بنبرة لاذعة :- تعنى رغبتك الجامحة فى مثلا ؟ ان كان هذا هو السبب الوحيد الذى دفعك الى قبول عرضى بالمساعدة، فانى سأرحل فى الصباح الباكر . بامكانك أن تنهى العمل بنفسك أو تحضر ميلانى للمساعدة . سيسرها ذلك ، أنا متأكدة .
- دعينا نبقى ميلانى خارج الموضوع.
- ولم نفعل ذلك؟ أرى أنها تشكل جزءا هاما وأساسيا من حياتك، بالرغم مما تقول، ولاأظن أنك بحاجة الى .
أغمض أوليفر عينيه لبرهة كأنى به يريد محو ما سمعه للتو، ثم قال :- أنت تعتقدين حقا أنى وميلانى عدنا الى بعضنا البعض؟
- هذا ما يبدو عليه وضعكما.
- وهل يزعجك أن يكون هذا صحيحا؟.
سيؤلمها ذلك ويرميها فى عذاب الجحيم، لكنها لن تعترف له بذلك:- لم تراه زعجنى فى حين أن زواجنا قد أنتهى ؟ بامكانك أن ترى من تشاء، وأن تفعل ما تشاء مع من تشاء. لم يعد الامر يتعلق بى أو يخصنى بعد الان. أعتقد أنى أرغب فى الذهاب الى المنزل ، يا أوليفر .
بالكاد لمست عشاءها، لكنها ان حاولت الان ، فستختنق حتما. لم يجادلها، بل سدد الحساب وغادرا المطعم. ركبا فى سيارة أجرة الى المحطة، ولم ينبس أى منهما بكلمة واحدة. لكن القطار لن يصل الا بعد نصف ساعة ، فجلسا وشربا القهوة.
تكلم أوليفر أخيرا وهو يحرك القهوة فى فنجانه بقوة:- كان من المفترض أن يكون اليوم مناسبة سارة. أردتك أن تمضى وقتا سعيدا.
- هذا ما حصل بالفعل.
- هل بأمكان الاعتذار أن يساهم فى اصلاح الامور ، آنا ؟ ان قلت لك ان اعترافى بتلك المشاعر، وان كانت حقيقية، هوعمل فظ ولا أخلاقى ؟
لم يبد على وجه آنا أى تعابير خاصة، بل هزت كتفيها بحركة مبهمة قائلة:- هذا مديح أشكرك عليه، لكنى لاأفهم . فمن المفترض أننا افترقنا، لم تفعل ذلك معى أذن؟.
- أعتقد أن بعض الأمور لا تزول أو تتغير قط.
- كالرغبة الجسدية ، مثلا؟
لم يجب أوليفر على سؤالها. بل شرع ينظر الى فنجانه بعينين شاردتين، وهو ممسك به بثبات، فعلمت آنا أنها أصابت شيئا من الحقيقة.
شربت قليلا من قهوتها ثم ذهبت الى الحمام ولم تعد منه الا عندما حان موعد قدوم القطار. مرت الرحلة بصمت مزعج، فلم يعد هناك ما يقال. لزم أوليفر الصمت الى أن وصلا الى البيت حين سألها ان كانت لا تزال عازمة على الرحيل.
نظرت الى عينيه مباشرة كأنما أرادته أن يعلم أنها تعنى ما تقول:- سأبقى للمساعدة الى أن ينتهى العمل، ان وعدتنى بالتحكم بسلوكك. هذا اذا أردتنى أن أبقى بالطبع .
لم تعلم آنا قط السبب الذى دفعها لتقديم عرضها هذا ، فلا بد أنها فقدت صوابها. سيكون من الاسلم أن تبتعد عنه قدر المستطاع.
أومأ أوليفر برأسه:- يسعدنى ذلك. لكنى لا أستطيع ....
- أن تعدنى بشئ ؟ لايمكنك التحكم بهرموناتك الذكرية ، هل هذا ما تريد قوله؟
- أعتقد ذلك .
- أذن ، سيكون على انا أن أبقيك على مسافة منى؟ حسنا، بامكانى القيام بذلك.
تكلمت بثقة تامة، لكن توترها البادى على وجهها فضح حقيقة مشاعرها. ان ابقاء أوليفر بعيدا عنها سيكون أشبه بهروب المرء من حتفه!
لكن المفاجأة كانت فى الاسابيع التى تلت ، حيث مر كل شئ بهدوء تام. ولم يتخط أوليفر الحدود التى فرضتها عليه، رغم أنها فاجأته مرات عديدة وهو ينظر اليها بعينين مفترستين.
ان حاجته الشديدة اليها كانت تحرق منها القلب والجسد بلا رحمة، وكانت تبعث فى نفسها مشاعر مخيفة تحبس أنفاسها ، فتضطر الى الانشغال فى أمور أخرى الى أن تمر المحنة بسلام.
أتت ميلانى لرؤية أوليفر مرات عديدة، لكنه فى كل مرة كان يخبرها بأنه منشسغل جدا ولا يستطيع اصطحابها الى أى مكان، وبأنه ليس بحاجة الى المزيد من المساعدة .
ان تكن الحاجات الجسدية الخالصة هى التى تسيره ، فبأمكان ميلانى بالطبع أن تشبع تلك الحاجات. أم أنها أساءت الحكم عليه؟ هل يريد أن يمنح زواجهما فرصة ثانية؟ هل أن أمله هذا كان وراء كل ما يحدث ؟ وأن يكن هذا صحيحا ، فلم لم يقل ذلك صراحة؟ لم لا يقول لها ما يجول فى ذهنه؟ وفى مشاعره، وتوقعاته؟
أخذ فى المقابل يعمل بصمت فى معظم الايام، ولا يتكلم الا عن العمل الذى ينجزانه، ليقول أحيانا انه لم يكن يدرك مدى صعوبة هذه المهمة.
- أنت تنسى دائما أن حياة والدك بأكملها فى هذا المنزل هنا.
كان أوليفر يطلع على الملف تلو الاخر فى مكتبة والده ، بينما انشغلت هى فى توضيب المئات من الكتب التى أراد أوليفر الاحتفاظ بها.
- هل تقولين لى ان حياته بأكملها يتم الآن توضيبها فى صناديق كرتونية؟ وأن هذه هى النهاية التى سنؤول اليها جميعا؟
- أظن ذلك صحيحا نوعا ما . انه لأمر محزن، اليس كذلك؟
- وقد حصلت على ما يكفى لهذا اليوم.
رفع ذراعيه فوق رأسه ومدهما، فشعرت آنا بحاجة ماسة للذهاب اليه والالتصاق بجسده. ان البقاء برفقته بهذا الشكل المتواصل أخذ ينهك قواها ويحملها على السؤال عما اذا اتخذت القرار الصحيح.
وان كان ذلك ينهك قواها هى ، فما تراه يفعل فى أوليفر؟ كانت قد سمعته يذرع غرفته ذهابا وأيابا أثناء الليل، وسمعته مرة يقترب من باب غرفتها ويقف عنده لفترة طويلة قبل أن يعود أدراجه بهدوء. سيطر عليها التوتر حينها وحبست أنفاسها وأطرقت سمعها.
لو أنه دخل اليها، لأمرته بالخروج من غرفتها مجددا ... لكن مجرد التفكير فى احتمال دخوله غرفتها كان كافيا لترتعش أوصالها.
لكنهما لم يتراجعا عن وعدهما ولم يضعفا . بل ظل ملتزما حدود التهذيب واللياقة موليا اياها عناية بالغة طيلة الوقت، حتى كادت أحيانا تصيح غضبا من أستقامته وحسن سلوكه.
ثم ، فى أحد الايام أنهار القناع الخادع وسقط . كانت جاثية على ركبتيها أعلى السلالم توضب بانتباه الأغطية والوسادات فى مجموعات، حين قدم اليها عاصفا وعيناه تقدحان شرارات ملتهبة.
- كان على أن أعرف أنه لا يمكن الوثوق بك.
نظرت آنا الى أوليفر بلهو صريح، وقالت مستنكرة:- عم تتكلم؟ ماذا فعلت الان فى تقديرك؟.
وعلمت من النظرة التى علت وجهه أنه لابد قد اندفع بحاجة ماسة وملحة جدا.
- أنا أتكلم عن ارث العائلة.
لم يشح أوليفر بعينيه عن آنا للحظة واحدة. وأضاف :- الألماس والزمرد والياقوت التى كانت ملكا لجدتى، وساعة والد جدى الذهبية.
- وما علاقتى أنا بكل تلك الاشياء؟ سألته بسخط والنقمة تسيطر على نبرتها وقد شعرت برعشة اشمئزاز تنسل ببطء من أعلى ظهرها.
صاح بها والاحمرار يعلو وجهه الغاضب :- وهل تجرؤين على السؤال؟ فى حين أنك الشخص الوحيد الذى ترك لوحده فى هذا المنزل منذ وفاة والدى؟
أجابت آنا محافظة على هدوئها وبرودة أعصابها:- أنت تقترح أنى أخذتها ؟.
- من عساه يكون سواك؟
- ربما تود تفتيش غرفتى ؟.
صعب عليها تصديق ما تسمعه. أوليفر يتهمها بالسرقة، منذ برهة أراد اصطحابها الى سريره، وها هو الان يبدو راغبا فى خنقها بيديه.
قد يكون ذلك
- سببا اضافيا وراء انتهاء زواجهما وفشله. فهذا الجانب من شخصيته لم تره من قبل، أو على الاقل، ليس الى هذا الحد. كان غاضبا بشأن المال،لكنه هذه المرة أخذ يستشيط غيظا وهو يتراقص على قدميه وعيناه تقدحان الشرر.
- كأن ذلك سيؤدى الى شئ ما .كلانا يعلم ما حدث للاغراض تلك، اليس كذلك ؟ لم تكن قصتك الملفقة عن ذهابك لرؤية أخيك مرة أخرى سوي حجة وتغطية لفعلتك. حسنا، دعينى أقول لك ، يا سيدتى، انك تماديت جدا هذه المرة. كنت تملكين عذرا منطقيا فى ما يتعلق بالمال، لكن ليس الان .
حاولت آنا جاهدة الحفاظ على كبريائها وهدوئها لأنها علمت أن الصراخ فى وجهه لن يؤدى بها الى أى مكان. لكن الأمر كان شاقا وهى تواجه بهذا الاتهام الظالم الشرس والفظ المهين.
- أوليفر . . .
- لا تفعلى !
- أفعل ماذا ؟
قطبت آنا جبينها ممنية الا تفقد السيطرة على أعصابها. فهى ليست بحاجة الان الى ما قد يضعفها.
- لا حاولى التملص مما فعلت.
- أنت تتسرع فى حكمك وأستنتاجاتك.
- أتمنى لو كان ذلك صحيحا.
- لم أقترب قط من مجوهرات والدك الثمينة. لم أكن أعرف حتى بوجودها.
- ويفترض بى أن أصدق ما تدعين. أليس كذلك؟
- انها الحقيقة.
- أين هى اذن بحق الجحيم؟
- لا أعلم. ان كنت ترفض أن تصدقنى، هذا من حقك. لكنى لم أرها، ولم آخذها، ولم أعطها لتونى.
بدا لبرهة وكأنه يريد أن يصدقها، لكن ملامحه عادت لتقسو من جديد وازداد غضبه :- أعطنى عنوان تونى ... من فضلك.
تردد قليلا قبل أن يقول من فضلك، لكن كان بامكانه أن يجثو أمامها على ركبتيه ويرجوها من دون أن يصل الى أى نتيجة، لأن آنا لم تكن تعرف مكان تونى أو عنوانه. فلم يجر أى اتصال بينهما منذ أن فسخ خطوبتهما.
- لا أعرف عنوانه.
- كاذبة !
ازداد غضب آنا بشكل لا يطاق، فلم سطع معه صبرا:- لم أكذب عليك يوما، أوليفر. وأنا لا أكذب الان، لا أعرف أين هى مجوهراتك اللعينة. لعل والدك تخلص منها . هل رأيتها منذ توفى؟ أين كان يحفظ بها؟
- فى الخزنة الحديدية ... ونعم ، لقد رأيتها.
أشارت آنا الى نفسها بيديها الاثنتين وأجابته:- وأنى لى أنا أن آخذها أذن ؟
- لأن مفاتيح الخزنة كانت معلقة مع مفاتيح المنزل الاخرى. وقد كتب عليها القبو، والسبب كما يبدو هو خداع أى سارق محتمل. لكنك كنت تملكين الوقت الكافى لتجربى كل المفاتيح قبل أن ترحلى فى سيارة الجيب.
- هل أنت متأكد من أن الخزنة لا تحتوى على أرقام سرية لفتحها، أرقام يفترض أنى عرفتها بأعجوبة؟ هذا سخيف، أوليفر. لن أستمع الى المزيد من أتهاماتك المهينة.
فقدت آنا تفكيرها السوى الى حد كانت قادرة معه على صفعه. هل تدهورت علاقهما الى هذا الدرك المشين بحيث استطاع أوليفر أن يظنها قادرة على ارتكاب السرقة ؟
مرت بجانبة بسرعة خاطفة مبعدة ذراعه عنها بعنف وهو يحاول الامساك بها ، وهرولت مسرعة الى الطابق السفلى وعصف خارجة من المنزل الكبير .
ما أن وصلت الى المنزل الاخر حتى طلبت سيارة أجرة على الهاتف، ثم ركضت مسرعة الى غرفتها واختطفت حقيبتها من أعلى الخزانة ورمت بثيابها فى داخلها، وحين انتهت ، وأخذت كل حاجاتها، وصلت سيارة الاجرة .
كانت آنا لا تزال تستشيط غيظا وهى تمر خلف المنزل الذى عرفت فيه يوما طعم السعادة. وما أحزنها حقا هو أن أوليفر لم يحاول أن يلحق بها.
انتظرت طويلا فى المطار، فقدومها الى هنا من دون شراء تذكرة الطائرة ومن دون أن تعرف موعد اقلاع الطائرة التالية الى دبلن لم يكن تصرفا حكيما. لكن ذلك سمح لها بمزيد من الوقت للتفكير.
وبعدأن جالت بأفكارها واستعادت كل الاحداث الاخيرة، علمت أنها تقوم الان بالعمل الصائب . فمحاولتها اعادة بناء الجسور التى هدمت وأعادة وصل ما انقطع بينهما لم يجد نفعا قط.
لقد جرحها أوليفر وأساء الطن بها مرتين متتاليتين، ولن تقدم له بعد الان الفرصة لتكرار ذلك ثانية. شعرت بمرارة وأسى بالغين بعد أن جرحت فى العمق. كيف يظنها قادرة على سرقة ارث العائلة؟
قدم لها ذلك برهانا قاطعا على أنه لم يحبها قط فى الواقع. بل كان الجسد ورغباته هما الرابط الوحيد الذى جمعهما يوما، كما ظنت منذ البدء.
لو أنه أحبها، لوثق بها تلقائيا، ولما اعتبرها للحظة واحدة مسؤولة عن اختفاء مجوهراته. لقد تخلصت منه الى الابد.
عندما وصلت آنا الى الكوخ، كان الظلام يخيم على المكان . كانت تشعر بالبرد والتعب والضياع التام. أشعلت النار فى غرفة الجلوس وملأت ابريق الماء ووضعته على النار ليغلى، ثم صعمل دت الى الطابق العلوى وأدارت المدفأة الكهربائية.
رمت حقيبتها بلا مبالاة على السرير الاخر محدثة نفسها بأنها سترتب أغراضها فى الصباح الباكر. أخرجت ثياب النوم وعباءة دافئة ونزلت لتبدل ثيابها أمام النار فى الطابق السفلى ،ثم أعدت لنفسها فنجانا من الشوكولاته الساخنة وأكلت بعضا من قطع البسكويت بعدما شعرت بجوع مفاجئ، وذهبت لتندس فى فراشها.
استغرقت فى نوم عميق لعشر ساعات متواصلة، وعندما فتحت عينيها، لم تذكر أين هى . لكنها لم تستغرق وقتا طويلا لتستعيد ذاكرتها صور الاحداث المؤسفة.
هل كان أوليفر سعيدا بالتخلص منها؟ أخذت آنا تتساءل بحزن وأسى عميقين. أم لعله سيأى سعيا وراءها ليعرف ماذا فعلت بالمجوهرات؟ لن يلقى سوى خيبة الامل ان هو فعل ذلك ، لأنها كانت تجهل تماما ماذا حل بها.
أما ما باتت تعرفه حق المعرفة فهو أن زواجها بأوليفر قد أنتهى هذه المرة وولى الى غير رجعة، وأصبح جزءا منسيا من حياتها وفصلا من فصولها المطوية. وهى اليوم ستباشر فى بداية جديدة.
قفزت من السرير واستحمت وارتدت ثيابها ، ثم نزلت لتعد فطورها وقهوتها. وأمضت الساعة التالية تفكر وتخطط لمستقبلها.
فى الوقت الحاضر ، ستبقى هنا وستسعى للحصول على وظيفة مؤقتة. وما أن تستعيد نشاطها وحيويتها ، حتى تعود الى لندن لتواصل حياتها القديمة .
لقد أرتكبت خطأ جسيما بزواجها بأوليفر، انه بلا ريب أكبر خطأ فى حياتها. فالحب من النظرة الاولى ، والزواج المبنى على الحدس فقط نادرا ما ينجحان.
أمضت آنا اليوم فى توضيب حاجياتها والخروج لشراء الطعام، وكل ما يلزم لراحتها وشعورها بالاستقرار. وفى اليوم التالى ستذهب بحثا عن عمل.
لم يصدق أوليفر أنه أتهم آنا بالسرقة . فآنا التى تزوجها يستحيل أن تقدم على فعل أمر كهذا، ليس بعد مليون سنة . كان المال الذى أخذته أمرا مختلفا بمجمله. فقد اعتبرته يخصها وملكا لها. وما كان عليه أن يحكم عليها الان بالاستناد على ما فعلته سابقا.
لكن ، ماذا عساه يصدق ؟ أين اختفت المجوهرات؟ من أخذها؟ فبالنظر الى المسألة منطقيا، كانت آنا الوحيدة التى تملك مفاتيح المنزل الكبير، والفرصة للقيام بذلك.
كان أوليفر قد رأى المجوهرات فى الخزنة فى الايام التى تلت الجنازة ، وها هى الان قد أختفت. كما أن آنا قامت بزيارة أخيها الغامض مرة أخرى! كل شئ يشير اليها ، لكن أوليفر كان يعلم فى قرارة نفسه أنها ليست مذنبة . ما كان يجب قط أن يتهمها ، يا له من أحمق غبى طائش.
فى الواقع ، كانت آنا تكاد تفقده صوابه فى الاسابيع الاخيرة. فى كل مرة كانت تنظر اليه ، كان يشعر بالنار تلتهم جسده كله وتتركه حطاما.
كانت تبقيه مستيقظا طوال الليل وتجعله يعانى طيلة النهار ، بحيث بات موشكا على الانفجار لعدم قدرته على احتواء مشاعرة أكثر من ذلك. كان هذا هو السبب وراء غضبه وثورته واتهامه لها بتسرع. والان ، ها قد فات الاوان!
أراد أوليفر أن يوقف آنا فى ذلك اليوم المشؤوم ، أراد أن يلحق بها ، وأن يعترف لها بخطئه، ويقول لها ان اتهامه نابع من ثورته وانفعاله ومبنى على مغالطات ليس أكثر ، وأنه يدرك تماما أنه مخطئ .
إلا أنه أراد أن يمنحها بعض الوقت لتستعيد هدوءها. لذا ، تريث ساعة أو أكثر قبل أن يلحق بها الى المنزل .. ليواجه صدمة حياته عندما أكتشف أنها اختفت وأخذت كل أغراضها وحاجياتها.
ظن أنها كانت تعنى أنها لن تبقى فى المنزل الكبير، وليس أنها سترحل عنه كليا . اللعنة ! ماذا عساه يفعل الان ؟ هل تبقى أمامهما أى فرصة أخرى ، أم تراه قام لتوه بهدم كل الامال والتوقعات المستقبلية؟
كان اتهام آنا بالسرقة تصرفا مجنونا . لقد قتل غضبه الاعمى حبها له واغتاله فى مهده، وقضى عليه الى غير رجعه... جلس وحيدا لما تبقى من اليوم يحاول اقناع نفسه بأنه سيكون أحسن حالا من دون آنا .
مع بزوغ الفجر راودته أفكارا معاكسة، فأخذ راسه بالدوران فى فلك حقيقة واحدة الا وهى ضرورة ايجاد آنا . أنه يحبها الى حد يرفض معه التخلى عنها بسهوله. أدرك أن عليه استرجاعها ولو اقتضى منه الامر الدخول فى معارك طاحنة.
كان متأكدا من انها ذهبت الى الكوخ لأخذ سيارتها المتوقفة أمامه، وان حالفه الحظ ، ستبقى هناك بضعة أيام كافية ليتمكن من اللحاق بها.
هم بالتقاط سماعة الهاتف لكى يسرع فى حجز مقعد له على أول طائرة ، واذا بميلانى تتصل به ، لكنه قاطعها بسرعة لأنه لم يردها فى الجوار بعد الان.فقد أدى واجبه نحوها على أتم وجه، وعاملها بلطف أثناء حزنها على رحيل ادوارد. الا أن ذلك يعد كافيا جدا.
وحين رن جرس الهاتف مباشرة بعد أقفاله الخط مع ميلانى ، التقط السماعة بحدة وقال غاضبا :- ميلانى ، أعتقد أنى قلت لك...
- لا أعلم من تكون ميلانى هذه ، ولكنها حتما ليست أنا.
باغتت المفاجأة أوليفر للحظات وهو يسمع صوت الرجل المتهكم، فقال :- أنا آسف ، من المتكلم؟.
- أدعى كريس بايج ، شقيق آنا . هل هى هنا ؟إنه شقيق آنا! الاخ الغامض الذى لم تسمح له بمقابلته قط.
أجابه بحدة لم يتعمدها ، لكن هذه المخابرات زادت من توتره فى هذه اللحظة تحديدا:- لا، ليست هنا .
- متى ستعود الى المنزل ؟ فأنا أرغب حقا فى التحدث اليها.
أغمض أوليفر عينيه وأسند ظهره على الكرسى بانهاك قائلا :- لن تعود أبدا.
هل تفوه حقا بتلك الكلمات ، أم انها ترددت فى ذهنه فقط؟
- ماذا تعنى بأبدا ؟
يا ألهى ، لقد تفوه بها بالفعل . عليه أن يقول الحقيقة الان:- لقد هجرتنى .
ساد الصمت للحظات وجيزة قبل أن يتكلم كريس ببطء شديد :- بسبب المال الذى أقرضتنى اياه؟ هل كنت تضايقها لهذا السبب حتى الان؟.
اذن ، فقد أعطت آنا المال لأخيها فى النهاية، ولابد أنها أخبرت كريس بردة فعله. أى نوع من الرجال الخبثاء جعلته يبدو أملم شقيقها؟
وبينما كان أوليفر يفكر فى أجابة معقولة على سؤال كريس ، تكلم هذا الأخير مجددا:- هل قالت لك يوما عن السبب الحقيقى الذى حملها على اعطائى ذلك المبلغ ؟.
أقر أوليفر بهدوء وهو يفرك جبينه المتعب براحة يده :- لا .
- السبب هو أنى جعلتها تعدنى بألا تخبرك الحقيقة . وقد حررتها من وعدها مؤخرا لكنها كانت غلطتى أنا منذ البدء فى عدم اطلاعك على الامر برمته. تعده؟ عم تراه يتكلم هذا الرجل؟
- كنت بحاجة الى المال ، كانت أعمالى تمر بوقت عصيب جدا. علمت أن الامر سيكون مؤقتا ومرحليا فقط ، لكن ..
قاطعه أوليفر بنفاذ صبر :- وجعلت آنا تعدك بألا تخبرنى ؟ بحق السماء ، كنت لأقرضك المال بنفسى لو علمت بالامر ، لو أخبرتنى آنا ..
لكن ، عندما أكمل كريس كلامه وشرحه للموقف ، اضطر أوليفر للاعتراف بأن شركة لانغفورد ما كانت لتعطيه الصفقة لو أنها علمت بمشاكله المالية.
- اذن ، ما الذى ستفعله بشأن أختى ؟
- سألحق بها . رغم أن قبولها بى أو رفضها لى هى قصة أخرى سيكون على التعاطى معها بحكمة هذه المرة . فقد قلت لها أشياء فظيعة للغاية .
- أعتقد أن أمامك العديد من الجبال الوعرة لتقطعها وصولا اليها . فشقيقتى تتمتع بدرجة من الكبرياء لا يمكنك تصورها ، لكن الامر يستحق العناء، فأنا أظن أنها لاتزال مغرمة بك . أتمنى لك حظا سعيدا.
بعد أن أعاد أوليفر سماعه الهاتف الى مكانها ، أدرك أنه سيحتاج الى كل الحظ الذى يمكن الحصول عليه. لم يكن كريس يعلم القصة بأكملها، والا لما اقترح عليه اللحاق بها ومحاولة مصالحتها. ولكان قال لأوليفر ان عليه الابتعاد عن أخته تماما، هو وأتهاماته السخيفة غير المبنية على أى أسس واضحة ومتينة.
************************
نهاية الفصل السادس

Just Faith 26-11-17 07:12 PM

7 - لن أغفر لك
ظلت آنا تتوقع زيارة أوليفر منذ أن اتصل كريس به، حتى أنها راحت تقف عند النافذة معظم ساعات النهار تراقب وتنتظر. فكرت فى البدء بالهروب الى مكان ما، الى لندن ربما ، أو أى مكان لا يمكنه فيه ايجادها.
لكنها قررت لاحقا أن المواجهة أمر لابد منه لاتخاذ القرارات النهائية. لاشك فى أن الطلاق هو خيارها الوحيد. فمن غير المنطقى أن تبقى متزوجة برجل لايثق بها، ولن يثق بها قط .
حاول كريس اقناعها بمنحه فرصة أخرى. لكن آنا كانت تعلم أنها لن تجرؤ على ذلك ولن تستطيع التحمل ولن تقبل بالمزيد من الاهانات.
فقالت له بحدة :- لن أمنحة فرصة أخرى لايذائى مجددا
سقطت توقعاتها مع قدوم المساء حين أسدل الظلام وشاحة الاسود على المكان ... لن يأتى . ليس اليوم على أى حال. الحمد لله على ذلك . لقد ذهب التوتر الذى عانت منه طيلة النهار سدى .
كانت فى المطبخ تعد لنفسها عشاء خفيفا عندما دق أوليفر الباب، أخافها هذا الصوت المفاجئ، لكنها علمت على الفور أنه هو .
شعرت بأثقال تثبت قدميها على الارض وتمنعها من السير، وهى تشق طريقها نحو الباب الامامى . بدا الوقت الذى تطلبه وصولها الى هناك أزليا.
فتحت الباب ولم تتنح جانبا لتسمح لأوليفر بالدخول ، بل وقفت هناك لتسمع ما سيقول بعد أن أضاءت النور الخارجى لكى تراه بوضوح.
بدا مخيفا وفى حالة يرثى لها. كانت عيناه الذهبيتان غارقتين فى جيبين محاطين بهالات سوداء، وقد هزلت وجنتاه ، فأسعدها أن تراه يعانى هو أيضا. لم عليها هى وحدها أن تعيش فى جحيم لا يطاق ؟
أومأ لها برأسه وقال بنبرة متسائلة :- آنا ؟
لن يقوم أذن بالخطوة الاولى ، بل ترك لها ذلك . فقالت بنبرة تعمدت جعلها باردة وموضوعية جدا:- من المؤسف أنك لم تتصل قبل مجيئك، لوفرت عليك عناء الرحلة .
أجاب بعد أن تسمرت عيناه على وجهها الشاحب:- أفهم أنك لا ترحبين بى ، لكنك بلا شك لن تجعلينى أعود أدراجى الان على الفور؟.
- هل هناك أى سبب يمنعنى من ذلك ؟ ألم أقل لك بوضوح ان كل شئ انتهى بيننا ؟
- يجب أن نتكلم .
- لماذا؟ لأنك اكتشفت أمر الوعد الذى قطعته لكريس؟ وعلمت أن لدى أخا حقا ؟ هذا يحدث فرقا كبيرا، أليس كذلك ؟
كانت توشك على الانفجار . ان كان يظن أنه بمجرد قدومه الى هنا وتقديم اعتذاراته التافهة، سيسوى الامور بينهما مجددا ، فهو بلا ريب مخطئ جدا.
- هذا لا يحدث أى فرق حتما . كنت مخطئا فى ما فعلت وأنا أعترف بذلك . والان هل يمكننى الدخول من فضلك.
عرفت آنا أنها لن تستطيع ابقاءه واقفا بالباب طيلة الوقت الذى يتطلبه حديثهما ، فتنحت جانبا على مضض وسمحت له مكرهة بالدخول ، وقد بدا ذلك جليا على ملامحها :- أنت تهدر وقتك الثمين . لن تقول شيئا بامكانه تغيير ما أشعر به.
ما من رجل على وجه البسيطة مغرم حقا بزوجته ويقوم باتهامها بسرقة مجوهرات العائلة ، بل يناقش الامر فى البدء قبل أن يرميها باتهامات مجحفة. لكن ، ليس أوليفر من يفعل هذا. آه ، لا ، فهو ينفعل اولا ثم يفكر لاحقا. والان ، بعد أن أدرك خطأه الجسيم ، يبدو أنه يحاول اصلاح الامور مجددا بمجرد كلمة اعتذار.
أغلقت آنا الباب خلف أوليفر ولحقت به الى غر فة الجلوس . كانت غرفة صغيرة ، لاتشبه فى شئ غرفة الجلوس البالغة الاناقة فى منزل أوليفر.
ملأت رجولته المكان وعبقت فى الاجواء رائحة عطره الاخاذ، بحيث أن وجودة بذاته بات يمثل تهديدا لمناعتها. فقالت بنبرة قاسية وهى تحاول عبثا الا تنظر اليه:- والان ، قل ما جئت لأجله ، ومن ثم أرحل من هنا .
من الصعب تجاهل أوليفر لانغفورد ! كان يرتدى سترته الجلدية السوداء التى كان يرتديها عندما التقيا للمرة الاولى ، وقميصا أسود وبنطالا من الكتان الاسود كذلك. فبدا مثيرا الى حد لا يمكن احتماله.
بقى واقفا على ما يبدو بانتظار أن تجلس هى قبل أن يختار كرسيا لنفسه . كانت آنا عازمة بعناد على البقاء واقفة لعدم تشجيعه على تمضية الكثير من الوقت هنا ، لكنها شعرت بقدميها واهنتين وعاجزتين عن حملها لوقت طويل. صلت لكى لا يطيل البقاء، وهى تجلس ببطء على أقرب كرسى منها.
جلس أوليفر بدوره وهو يقول :- لقد اقترفت خطأ فادحا.
- لن أجادلك فى هذا . ألهذا السبب أنت هنا الان ؟ لكى تعتذر؟
- شئ من هذا القبيل . هل أنت بخير يا آنا ؟ تبدين شاحبة جدا .هل تأكلين كما يجب ؟
آه ، ياألهى ، تمنت الا يكون عازما على الاستفسار عن صحتها. فهناك أمور تفضل ألا يعرفها :- بالطبع أنا آكل جيدا . فى الواقع ، كنت أهم بتحضير عشاء خفيف لى .
- ليكن اذا عشاء لاثنين . فأنا أتضور جوعا .
تذمرت آنا . هل عليه أن يزيد من عذاباتها والامها ؟
- انها فقط شطيرة من سمك التونا
- أنا احب سمك التونا.
- ... وبعض السلطة .
نهض عن كرسية قائلا :- هذا جيد. سأتى لأساعدك، هل تسمحين ؟ .
المساعدة أم الاعاقة ؟ لم تكن بحاجة الى كلا الامرين :- المطبخ لا يتسع لشخصين ، كما تعلم جيدا . بامكانى تدبر الامر وحدى . ابق أنت هنا ، وسأحضر الطعام على صينية.
- أذكر جيدا أننا كنا نشكل فريقا ممتازا فى المطبخ فى ما مضى . كان ذلك تدبيرا حميما جدا .
وسطعت عيناه فجأة ببريق ذهبى مثير . لكن ذلك كان فى الماضى ، وهما الان فى الحاضر ، ولم ترد آنا ما يذكرها بما مضى .
خاطبته بلهجة آمرة وهادئة :- التدابير الحميمة لم تعد متوفرة لك الان . من الافضل أن تتذكر هذا جيدا . أنا أفضل أن تبقى هنا .
هز كتفيه استسلاما :- أنت الامرة هنا . كما تشائين .
ثم جلس ثانية . عندما بلغت آنا المطبخ ، وقفت مسندة ظهرها الى الحائط وأخذت نفسين عميقين . فبرغم أنها كانت تتوقع زيارة أوليفر، ورغم أنها حضرت مسبقا ما ستقوله له ، الا أنها لم تهيئ نفسها لهذه الحرارة المتصاعدة من عينيه التى ألهبت جسدها كله .
ظنت أن مشاعرها قد دمرت ، ليحل مكانها شعور من نوع آخر ، أى الكراهية . كيف تفسر اذن ماجرى لها بمجرد النظر فى عينيه ؟
أم تراها تخطئ ثانية فى فهم أحاسيسها وفى قراءة الاشارات المنبعثة منها ؟ هل أن النفور منه هو الذى ينبض فى عروقها وليس التوق اليه ؟ كيف لها أن تتأكد ؟ لكنها علمت رغم ذلك ، أنها ، لم تسرع فى أعداد الشطيرتين، فسيأتى بحثا عنها .
دفعتها هذه الفكرة الى العمل بنشاط فأنهت اعداد الطعام فى عشر دقائق . كان أوليفر قد وضع طاولة القهوة بين الكرسيين ، حيث وضعت آنا الصينية ، وهى تهنئ نفسها على هذا القدر من الهدوء ورباطة الجأش اللذين تظهرهما.
لم يكثرا الكلام أثناء العشاء ، رغم أن آنا علمت أن أوليفر لن يلبث أن يبدأ الحديث الذى أتى الى هنا من أجله . هل فى نيته الاعتذار؟ أم تراه جاء يرجوها الغفران ؟ هل أتى ليقول لها أنه أخطأ فى الحكم عليها بشكل فظيع ؟أو لينهى معها الاتفاق على ترتيبات الطلاق؟
- ما الذى تفكرين فيه ؟
نظرت آنا اليه . لقد توقف عن تناول الطعام وجعل يحدق فيها بتينك العينين الذهبيتين المهلكتين. وأضاف :- كنت غارقة فى بحر من الافكار. الافكار المضطربة كما يبدو ، هل تتعلق أى منها بى .
رأت آنا أنه من الغباء انكار الحقيقة ، فقالت :- بالطبع .
- لدينا الكثير لنناقشه .
- نعم .
- ارتكبت خطأ فظيعا حين اتهمتك بسرقة ذلك الارث العائلى.
- يسرنى أنك أدركت ذلك .
- كان على أن أعرف أنه يستحيل أن تقدمى على عمل كهذا .
- نعم ، كان عليك معرفة ذلك .
- كان على أيضا أن أعرف أن لديك عذرا كافيا لتصرفك بمبلغ الثلاثين ألف باوند . ما كان على أن أضعك فى الخانه نفسها مع روزمارى وميلانى .
- أتراك تشعر بحال أفضل الان بعد أن اعترفت بكل ذلك ؟
أطبقت يدا أوليفر على ذراعى الكرسى الى أن ازرقت مفاصله، فهو لم يتوقع هذا القدر من الخصومه والعداء . لكن صوته ظل هادئا وهو يضيف :- أنا أطلب منك الغفران والسماح.
هزت آنا رأسها بقوة وثبات :- لا، هذا ليس صحيحا . ما تحاول فعله هو تقديم تعويض أو ترضية عما فعلته . لكن ذلك لن يجدى نفعا.فقد آذيتنى الى حد يتخطى كل الحدود. بامكانك أن تجثو على ركبتيك راجيا . لكن ذلك لن يحدث أى فرق.
- آنا ...
- لا تضيف شيئا . لقد انتهى ما بيننا ، مات ودفن . أنا فى الواقع أشك فى أن تكون قد أحببنا بعضنا حقا. فلو فعلنا ، لما واجهنا كل تلك المشاكل ، لوثقت بى ، أو سمحت لى بايضاح الأمور لك على الاقل . لم يجمعنا سوى الجاذب الجسدى ، هذا كل ما فى الامر. كان والدك محقا فى الاعتراض على زواجنا ورفضه. كان الشخص الوحيد الذى يتمتع بشئ من المنطق والحكمة .
فرك أوليفر جبينه بأصابعة :- لقد تغيرت يا آنا. لم تكونى قط بهذه القسوة من قبل . كنت دائما ..
قاطعته وهى تحدق فيه بعينيها الخضراوين الواسعتين :- هل هو أمر عجيب أن أتغير ؟ بعد الطريقة التى عاملتنى بها؟ أريدك خارج حياتى ، أوليفر ان أتيت الى هنا لكى تتذلل وترجونى أن أعود اليك ، فيستحسن بك أن تنسى الامر ، لأنى لن أفعل . بل افضل فى الواقع أن ترحل الان.
رجت الله أن يساعدها على القيام بما هو صواب .
- فى هذه الساعة من الليل ؟
- نعم ، فى هذه الساعة من الليل . فقد أخطأت فى مجيئك فى ساعة متأخرة .
- لم أستطع حجز مقعد على طائرة أخرى .
- كان عليك اذن الانتظار حتى يوم غد .
- كنت آمل فى أن تسمحى لى بالبقاء؟
تذمرت آنا ، فهذا آخر شئ قد ترغب فى حدوثه :- لا أظن ذلك .
- حتى وان وعدتك بعدم التسبب لك بأى ازعاج، وبأن أكون صبيا عاقلا ومطيعا ؟
رسم على وجهه علامات البؤس والشقاء . فقالت :- بشرط أن ترحل مع خيوط الفجر الاولى . لا أريدك هنا ، يا أوليفر . لقد انتهى كل شئ بيننا وكلما أسرعت فى تقبل الامر ، كلما كان أفضل لكلينا.
اعتصر قلبه جراء كلماتها القاسية ، لكنه قال بهدوء :- لابد من طريقة تمكننى من جعلك تغيرين رأيك .
- ليس هناك من طريقة البتة . ان كنت تريد الخلود الفراش الان ، فأنت تعلم أين تقع غرفة الضيوف، سأتولى أنا تنظيف الاوانى هنا .
قفز واقفا :- لا، أرجوك . دعينى أساعدك .
- فى هذه الحال ، ستقوم أنت بالعمل كله ، وسأذهب أنا لأنام . ليلة سعيدة أوليفر.
لم يبد مسرورا لكنها لم تأبه لذلك . بل صعدت الى غرفتها واندست تحت الاغطية عندما سمعته يصعد السلالم . كانت قد أنهت غسل أسنانها ووجهها فى وقت قياسى لتأوى الى الفراش سريعا وتتجنب الالتقاء به مجددا. لكنها عجزت عن الاسترخاء والنوم وألفت نفسها تنصت وتنتظر.
التفت أصابع قدميها وتصلب جسدها كله عندما بلغ باب غرفتها، واصدر قلبها خفقة مدوية ، الا أن أوليفر مر من أمام الباب نحو الغرفة الاخرى من دون أن يتريث قليلا أو تتردد خطواته.
دخل الى الحمام الذى يفصل بين الغرفتين، ثم دخل الى غرفة النوم ، وساد الصمت المطبق على المكان كله ، لكنها ظلت عاجزة عن الاسترخاء، ومر وقت طويل جدا قبل أن يغلبها النعاس.
فى الصباح التالى ، استيقظت وهى تأمل أن يكون أوليفر قد التزم بكلامها حرفيا ورحل عن الكوخ قبل أن تنزل الى الطابق السفلى . لكن الحظ لم يكن حليفها ، حتى أنه حضر طعام الفطور. كانت رائحة اللحم المقلى التى تصاعدت الى أنفها وهى تدخل المطبخ كانت أقوى بكثير مما تحتمله معدتها المضطربة .
عادت مسرعة الى الحمام ، أمله الا يكون أوليفر قد سمعها . عندما عادت للانضمام اليه مجددا ، كان طعام الفطور قد أزيل كليا ، ولم تجد على الطاولة سوى فنجانا من القهوة نظر اليها بقلق وقال :- أعلم أنك تعانين من خطب ما ، يا أنا . لم لا تقولين لى ما هو ؟
أجابته بخفة :- لابد أنى التقطت جرثومة ما أظن أنى سأتناول القليل من الخبز المحمص.
شعرت بالحاجة الى الحركة ، الى القيام بأى عمل يمنعها من النظر الى أوليفر . فتابع مستفهما :- ويفترض بى أن أصدق هذا ، اليس كذلك؟ هل زرت الطبيب ؟ هل هو من قال لك انها جرثومة ؟
- ليس بعد ، لم أفعل . هيا لا داعى للقلق، أوليفر سأكون بخير.
الا أنها شعرت بعينيه تخترقان ظهرها وتلسعان بشرتها وضعت الخبز فى المحمصة ولم تشأ الانتظار ، فوضعت ابريق الماء على النار ليغلى : -أرغب فى فنجان من الشاى بدل القهوة ، هل أعد لك فنجانا؟
- لا شكرا لك .
رغبت فى الالتفات والنظر اليه، لكنها لم تجرؤ، وراح قلبها يخفق بعنف شديد. ثم حدثت نفسها بأنها سخيفة فى ما تفكر فيه ، فأنى له أن يتكهن بحقيقة الامر ؟ عندما انتهت من تحضير فطورها ، أخذه أوليفر من يدها وحمله الى غرفة الجلوس.
فى ما مضى من الايام الاسطورية التى عرفاها عندما تقابلا للمرة الاولى ، اعتادا أن يجلسا لتناول طعامهما الى الطاولة بالقرب من النافذة حيث يستطيعان مراقبة الطيور فى الحديقة وتفتح براعم الربيع فيها ، والتمتع بالطقس المنعش فى هذا المكان الرائع . لذا ، لم يكن أمرا غريبا أن يحمل أوليفر فطورها الى هناك.
لكن مشاعر غريبة راودت آنا ، فخطر لها أن الشعور بالذنب هو الذى يدفعه للتصرف على هذا النحو . جلست والتقطت قطعة من الخبز ... أم لعلها هى من يشعر بالذنب لأنها تعمدت اخفاء حالتها عنه ؟
قضمت جزءا صغيرا دون أن تلتفت اليه . جلس أوليفر فى الجهة المقابلة وقد وضع فنجان القهوة على الطاولة أمامه . وقال بهدوء:- أعتقد أنها أكثر من مجرد جرثومة . الا تظنين أن عليك اطلاعى على الأمر ؟.
قطبت آنا جبينها ، وعادت معدتها لتضطرب ثانية ، لسبب مختلف تماما هذه المرة .
- لا أعلم عم تتكلم .
- آه ، بل أعتقد أنك تعلمين جيدا. انظرى الى ، يا آنا . قولى لى بصدق ما خطبك.
لم تتمكن من النظر اليه ، لكنها أصرت على موقفها :- ما من خطب البتة .
- حسنا . لقد ألقيت نظرة على خزانتك فى الحمام هذا الصباح بحثا عن فرشاة أسنان اضافية .
دقت نواقيس الخطر فى رأسها ... نواقيس مدوية .
- واحزرى ماذا رأيت يا آنا ؟
لزمت الصمت المطبق .
- جهاز لأختبار الحمل .
ارادت أن تنزلق تحت الطاولة ، أرادت أن تختفى فى حفرة فى باطن الارض ، بامكانها أن تواجهه قائلة :- وأن يكن ؟ بإمكانها القول إنها استخدمته وكانت النتيجة سلبية . بإمكانها أن تقول أشياء كثيرة ... لكنه سيكتشف الحقيقة عاجلا أم آجلا .
لم يكن غبيا وبإمكانه أن يلاحظ حالتها ، فالغثيان الذى شعرت به فى الصباح جاء مبكرا ولم تستطع اخفاءه . لو أنها لم تتوقف عن تناول حبوب منع الحمل عندما افترقا للمرة الاولى . كانت تلك الحبوب تسبب لها عوارض مزعجة فأرادت أن تجرب نوعا آخر . فى هذه الاثناء، قررت أن تمنح جسدها بعض الراحة .
ولغبائها ، لم تتنبه لذلك عندما حملها أوليفر الى غرفة نومه فى ذلك اليوم . انه خطأ مصيرى جسيم ، واحد من أخطاء عديدة ارتكبتها كلما كان الامر يتعلق بهذا الرجل .
حدقت فيه بشجاعة وقالت :- وهل تعلم ، يا أوليفر ؟ كانت النتيجة ايجابية . لكن ذلك لن يحدث فرقا كبيرا بالنسبة اليك ، لأن هذا الطفل هو لى أنا .
إنه قرار اتخذته عندما علمت بأمر حملها . لم ترده أن يكون أبا لهذا الطفل ، فقد سبق أن تخلى عن هذا الحق بامتياز. أضافت :- لن أعود اليك قط من الطبيعى أن أدعك ....
- ماذا تقصدين بحق الجحيم ؟
علت نبرة صوته فجأة وتطايرت شرارات الغضب من عينيه، لكنه أدرك أن هذه الطريقة لن توصله الى ما يسعى اليه ، فانخفض صوته مجددا :- هذا الطفل هو أبنى أنا ايضا بقدر ما هو ابنك أنت ، آنا ... أعتقد أنه ابنى أنا ، اليس كذلك ؟
كان سؤاله الاخير يهدف الى التأكيد على الامر وليس التشكيك به ، فأجابته :- بالطبع .
- لذا ، اريد أن أكون جزءا من الامر برمته . أريد أن أكون الى جانبك لمساندتك ومساعدتك فى هذه المرحلة الصعبة ، يجب أن تزورى الطبيب. من الافضل أن تأتى الى المنزل معى ليراك طبيب العائلة ، سأقوم بكل الاجراءات ، وسأ...
تكلمت آنا بنبرة واثقة حادة :- أوليفر ، لن أعود الى رجل يظن أنى سرقت مجوهرات عائلته .
سرها أن يبدو احمرار الخجل على سحنته ، لكنه أجابها بحزم : - لن أترك لك الخيار ، يا آنا . الحقيقة أنى أتهمتك قبل أن أفكر فى الامر . لكنى أدركت على الفور أنك لايمكن أن تقومى بأمر كهذا . فأنت صادقة جدا ونزيهة جدا ومستقيمة الى أبعد الحدود .
لوى شفتيه وهو يضيف هذه الكلمات الاخيرة :- أنت أفضل منى بكثير . أعلم أنى لن أتمكن من أصلاح الضرر الذى تسببت لك به ، لكن من أجل طفلنا .. أرجوك أن تعطينى فرصة واحدة أخيرة . أعدك بألا أتهمك بالسرقة ، أو بالزواج بى من أجل المال .
- أنت محق فى أنك لن تفعل ذلك مجددا ، لأنك لن تنال الفرصة لتكراره.
لن يجديه نفعا اطلاق الوعود الآن من يرتكب الخطأ نفسه مرتين متتاليتين ، ما الذى يضمن ألا يقع فيه مرة ثالثة ؟ رفضت أن تقبل المخاطرة .
قطب جبينه بقسوة :- أتعنين حقا أنك لن تعودى الى المنزل ، يا آنا ؟.
كانت آنا قد فكرت فى الامر مطولا أثناء الليل وقررت أنها تقوم بالخطوة الصحيحة .
- كلا سأدعك تراه بالطبع ، فأنا لن أكون من القسوة بحيث أحرمك من ذلك لكن ..
- حبا بالله يا أمرأة ، ماذا عسانى أفعل ؟ أأجثو على ركبتى وأرجوك؟
- قد أرغب فى رؤية ذلك ، الا أنه لن يكون كافيا ، لاشئ سيكفينى فى الواقع. ليس لديك أى فكرة عن الالام التى تسببت بها والجراح التى حفرتها عميقا فى روحى ، جراح لن تندمل مادمت حية . لن أسامحك قط وأنا على قيد الحياة . لذا ، لا أرى سببا يدفعنا الى العيش معا . سيضعنا ذلك فى وضع مستحيل يصعب أحتماله .
***************************

Just Faith 26-11-17 07:14 PM


8 - تقاوم . . . تقاوم !
عجز أوليفر عن وصف ما تعج به نفسه من مشاعر عندما رأى جهاز اخبار الحمل . كانت الصدمة فى البدء شديدة، صدمة كبيرة وتامة . أخذ يحدق فيه لدقائق عديدة وقلبه يخفق بعنف بين أضلاعه، قبل أن يخطر له أنه ربما أحد الأشياء التى خلفتها شقيقة آنا وراءها.
لكنه قد يكون مخطئا .لعل آنا هى من استعمله!
أخذت تداعب ذهنه فكرة آنا وهى تحمل طفلا فى أحشائها ، طفله هو فأسبغت عليه دفئا أبويا خاصا وسعادة لم يختبرها من قبل.
ما ان نزلت آنا السلالم الى الطابق السفلى ، ونظر فى وجهها وفى علامات الانهاك والمرض البادية على خطوطه، حتى علم أنها حامل . بدا الشحوب جلياعلى وجهها فى الليلة السابقة ، لكنه عزا ذلك الى التعب حينها ، لكن الامر مختلف تماما الان .
كان قد لحق بها بهدوء الى الحمام وسمع غثيانها ، فنزل حينها الى المطبخ وتخلص من أى شئ قد تسبب لها رائحته الغثيان .
ان كان هناك من شئ قادر على إعادة إحياء زواجهما وعلى جمعهما سويا، فهو هذا بالتأكيد. الا أنه لم يكن مستعدا لمواجهة رفضها العودة معه الى المنزل .
قالت ان ذلك سيضعهما فى وضع مستحيل يصعب احتماله، وهو يتفهم طريقة تفكيرها. لكن عليه الان العثور على طريقة ما أو أى شئ يقنعها بالعودة معه . وما إن يصل بها الى المنزل حتى يباشر العمل على التقرب منها مجددا، وأقناعها بأنه لن يخذلها مرة ثانية ، وبأن ما فعله هو أكبر خطأ ارتكبه فى حياته، وبأن حملها هو أجمل ما قد يحدث لهما قط .
قد تكون المهمة طويلة وشاقة ، الا أنه مغرم بآنا من رأسه حتى أخمص قدميه ، وهو مستعد لبذل أى جهد من أجل انقاذ زواجهما.
- لا يمكنك البقاء هنا وحدك ، يا آنا. ليس فى حالتك هذه.
برقت عيناها بلون أخاذ خلاب :- لن يستمر الشعور بالغثيان طويلا، فلم لا يمكننى البقاء ؟.
كانت تشع جمالا وتنضح حيوية ، وبدت شهية جدا بحيث راح يتساءل عن مدى غبائه عندما عرض زواجهما للخطر باتهامها بارتكاب جرائم كان يعلم مسبقا أنها غير قادرة على ارتكابها .
- أريدك فى المنزل لأنك زوجتى . أريد أن أرعاك وأهتم بك وأساعدك فى كل شئ .
- أهو أهتمام متأخر يا أوليفر ؟ هل نسيت أنك أنت من زاد الأمور صعوبة لى ؟
- تظنين أنى لا أعلم ذلك ؟ تظنين أنى سأتمكن من تخطى الامر لما تبقى من حياتى ؟
أدرك أوليفر أن الالم الذى يعتصر قلبه ظهر جليا فى صوته . أرادها أن تسمعه وأن تعرف أنه آسف ونادم حقا على ما فعله :- آنا ، أريد أن أعوضك عما فات ، يجب أن تمنحينى هذه الفرصة .
رأى الطريقة التى نظرت بها اليه ، بريق النقمة يسطع فى عينيها ليتحول الى تردد واضح عندما التقت عيناهما. لكنها عادت وأخفت ترددها سريعا مخافة أن يلاحظه أوليفر .
اجتاح مشاعره نبض الامل ، فهى ليست منيعة أمامه كما تحاول أن تفهمه. لم يكن ما رأه سوى شرارة واهنة خافتة، الا أنها ملأى بالامل. لم تمت رغبتها الحارقة ، لم يقتلها بعد ، وان كان سيمضى حياته كلها فى تغذيتها واعادتها الى الحياة مجددا ، فانه لن يتردد مثقال ذرة .
حاول الضغط على نقاط ضعفها :- آنا أعدك بألا أتسببلك بالاذى مجددا . أنه طفلنا الذى تحملين بحق السماء، وقد خلق بفعل الحب . هل سيسمح لك ضميرك فى أن تنكرى على الطفل والده وتحرميه منه ؟
أراد أن يتابع كلامه ويعدها بتوفير كل ما يلزم لراحتها هى وطفلها، الا أنه تدارك الامر مخافة أن يجره ذلك الى التطرق الى موضوع المال مجددا، وهذا ما يريد تجنبه بأى شكل كأنه الطاعون .
- لاشأن لضميرى فى الامر ، يا أوليفر . فأنت من جعلنى أشعرعلى هذا النحو. لا يمكنك أن ترمى الاتهامات بطريقة اعتباطية، ومن ثم تتوقع منى أن أرتمى بين ذراعيك فى اللحظة التالية كما لو أن شيئا لم يحدث.
- أعلم ذلك . لكن ، الا تظنين أنى نلت عقابى ؟ لست الوحيد الذى يحتاج اليك، هناك طفلنا أيضا.
تحدثا مرات عديدة فى الماضى عن أنشاء عائلة ، رغم أنهما لم يخططا للبدء بهذه السرعة . كما اتفقا على أن الطفل يحتاج كلا الوالدين، وقالا انهما فى حال وقوع المحظور وانهار زواجهما، سيبقيان سويا لصالح أولادهما وخيرهم ،أتراها نسيت ذلك؟
أخذت آنا نفسا عميقا وأغمضت عينيها لثوان عديدة طويلة . بدت وكأنها تفكر فى كلامه، فأضاء بريق الامل فى نفسه ، لكنها تكلمت، ولم يكن ذلك ما أراد سماعه :- أنا آسفة يا أوليفر، لن ينجح الامر بيننا .
- بإمكاننا انجاحه لا أستطيع مواجهة الحياة أو تصورها من دونك أنا لا أستخدم الطفل لأبتزك ولأحقق من خلاله غرضى ... حسنا ، ربما بعض الشئ ... لكنى بحاجة اليك ايضا . فأنت تمثلين العالم كله بالنسبة الى . لقد مر اليومان الأخيران بسواد وظلمة لم أشهدهما من قبل فى حياتى .
- أوليفر لقد سبق لى أن فكرت بالامر مليا مرات عديدة . لا أعرف كيف سأتمكن من العيش مع رجل لا يثق بى ، بل يشكك بى دائما . لن ينجح ذلك . سأظل دائما بانتظار المرة المقبلة .
- لن يكون هناك أى مرة مقبلة .
كان يعدها بصدق والثقة بادية فى صوته . وقد آلمه جدا أن تفكر فيه بهذا الشكل ألم تكن اعتذاراته كافية ؟ ألم تصدقه؟ ما عساه يقول أكثر من ذلك؟
هزت آنا رأسها :- من السهل عليك قول ذلك يا أوليفر لقد اكتشفت جانبا من شخصيتك ، لم أعرف قط بوجوده ، وهو جانب لا أحبه البتة . هل أنت حقا لا تعلم كيف أشعر ؟ لم أسرق فى حياتى كلها فلسا واحدا لقد جرحتنى واهنتنى وجعلتنى أشعربنفسى حقيرة ووضيعة ورغم ذلك تتوقع منى الان أن أعود اليك وأشاركك المنزل والحياة ، وأعرض نفسى لمواقف مذلة مشابهة ، لأنى أحمل طفلك وحسب . ليس الامر صحيحا، يا أوليفر لن أقوم بذلك .
انطفأت شرارة الامل الواهنة . لم يسبق له أن رأى آنا بهذا القدر من التصميم والعناد ، وهذا القدر من الجمال الأخاذ الفاتن الذى يمنحها اياه غضبها .
أراد أن يحملها الى غرفة النوم ويعبر لها بشكل ملموس لا لبس فيه عن مدى حبه ورغبته فيها ، كما كان يفعل فى أيام زواجهما الأولى . هل سيساعده ذلك ؟ أتراها توافق على ما يطلبه وهما ملتصقان أحدهما بالاخر بنهم وشغف ؟
لكنه كان يعرف أن الابتزاز العاطفى ليس الجواب الشافى أو الدواء الناجع يجب أن تعود آنا الى المنزل وهى مقتنعة بأن ما تفعله هو الأفضل ، وهو لخيرها هى والطفل .
صب لنفسه فنجانا أخر من القهوة وهويفكر فى ما سيقوله تاليا ولاحظ أن آنا لم تلمس بعد قطع الخبز المحمص أو الشاى الذى أعدته أيضا.
- كيف لى أن أثبت لك أنى لن أكرر ما فعلته قط فى حياتى ، ان لم تمنحينى الفرصة؟
كان مستعدا للركوع على ركبتيه أمامها ليرجوها أن توافق، ان عرف أن ذلك سيساعده . لم يسبق له أن وضع فى مثل هذا الموقف من قبل ، فهو قادر على أيجاد الحلول لمشاكله أيا تكن ، لكن الامر يختلف مع آنا الشديدة العناد ..
- ربما كان يجدر بك أن تفكر فى ذلك قبل أن تتفوه بادعاءاتك واتهاماتك.
- كأنى لم أفعل هذا آلاف المرات ، آنا ..
مال الى الامام بسرعة والتقط يدها ثم أضاف :- ... لاأريدك أن تمرى بهذه المرحلة وحدك . أريدك أن أظل الى جانبك وأن أشاركك هذه اللحظات . أنت بحاجة الى . لا تقولى لى انك تتوقين الى البقاء وحيدة خلال هذه الاوقات التى يفترض بها أن تكون الاكثر اثارة والاشد متعة فى حياتك ؟
أغمضت عينيها لتقصيه عن ناظريها وتمنعه من رؤية ما تفكر فيه . لكنه كان متاكدا من نجاحه فى التأثير عليها . فهى على الاقل لم تنتزع يديها بعيدا عن يديه .
- ماذا سيحدث ان ألم بك المرض والوهن وأنت تعيشين وحدك؟ مع هذا الغثيان الذى أصابك هذا الصباح، أنت بحاجة الى من يلازمك ويمد لك يد المساعدة . آنا أرجوك أن تعودى معى ... وان يكن ذلك مؤقتا فقط الى أن يولد الطفل . على الاقل أعط نفسك واعطنى فرصة لأثبت لك أنى أحبك بصدق وأنى لن أتسبب لك بالاذى مرة ثانية .
فتحت عينيها ببطء ، فظن وهو يحدق فيها أنه رأى شيئا من التردد يسبح فى غورهما . تابع :- بعد أن يولد الطفل ... اذا قررت أنك لا تحتملين العيش معى تحت سقف واحد سأدعك تذهبين .
رغم أنه كان يأمل فى الا تضطره للتفوه بتلك الكلمات. لكن أمله الحقيقى هو فى أن يسمح له الوقت بأن يثبت لها حسن نواياه . فكيف يمكنه أن يتخلى بسهوله عن المرأة التى يحبها أكثر من الحياة نفسها ؟
سيقوم بكل ما يلزم ليبرهن لها بكل الوسائل الممكنة أن حبه لها مخلص وصادق، وأنه يثق بنواياها الحسنة فى كل شئ.
- إن أنا أتيت معك .. وأقون ان ، فسيكون ذلك بشرط واحد .
بدا له أنه يستمع الى موسيقى أطربت أذنيه بنغماتها العذبة :- سمه لى . كان واثقا من نفسه ، فما من شئ فى هذه الدنيا أسوأ من عدم مجيئها معه.
- أن نستمر فى النوم فى غرفتين منفصلتين. سيكون زواجا بالاسم فقط، من أجل الطفل .
لم يكن هذا هو الجواب الذى أراد سماعه، لكنه أفضل من لاشئ آلمه جدا الا تكون راغبة فى مشاركته غرفة نومه وسريره. لكن مع قليل من الامل ستغير رايها وموقفها ما أن تدرك مدى عمق مشاعره نحوها وصدقها.
أومأ برأسه ببطء قائلا :- أذا كان هذا ما تريدينه حقا .
- أنه كذلك .
علمت آنا أنها لابد فقدت عقلها بقبولها طلب أوليفر. لكنها لم تستسغ فكرة المرور بتجربة الحمل وحدها . وقد علم أوليفر هذه الحقيقة ... كان الحمل يخيفها . لعل كل الامهات الحديثات يشعرن مثلها .
بالرغم من انهيار الثقة بجميع أشكالها ودرجاتها بينهما ،الا انها ولدهشتها ، لاتزال تحبه. لن تدعه يدرك هذه الحقيقة رغم الصعوبة التى ستعانيها لأخفائها عنه .
وصلا الى المنزل فى ساعة متقدمة من الليل. لم تشأ آنا الاعتراف بذلك، الا أنها شعرت بالفعل بأنها فى بيتها عندما دخلت الى المنزل .
لقد أمضيا هنا ستة أشهر مفعمة بالسعادة ، فكان الجو عابقا بطيب الحب الذى خيم فيه فى يوم من الايام .انه لمن المؤسف حقا أن يهدم أوليفر كل ما بنياه سويا .
وضع أوليفر حقائبها فى الغرفة التى كانت تشغلها عندما سكنت هنا فى المرة الاخيرة . وسألها باهتمام ظاهر :- أهذا ما تريدين؟ ليس عليك أن تنامى هنا ، تعلمين ذلك أنا افضل أن ...
فقاطعته بثقة بالغة :- هذا ما اريده .
- هل أساعدك فى توضيب أغراضك ؟
- لا شكرا . استطيع القيام بذلك بمفردى .
- اذن ، سأطلب من السيدة غرين أن تحضر لنا كوبين من العصير الطازج وشطيرتين.
هزت آنا رأسها :- لا تزعج نفسك من أجلى ، فانا متعبة جدا . سآوى الى الفراش على الفور .
قطب أوليفر جبينه وتجهم وجهه :- هل أنت بخير ، يا آنا ؟ كان يوما طويلا وشاقا ، أعلم ذلك . هل أنت متأكدة من ...؟
بدا الانزعاج واضحا فى عينيها :- أوليفر .. أنا متأكدة جدا . كل ما أريده الان هو الخلود الى النوم
كانت الليلة السابقة ليلة شاقة خيم عليها جو من التوتر المشحون منعها من النوم طوال الليل ، فظلت تحدق فى الظلام وهى تتوقع أن يدخل أوليفر الى غرفتها فى أى لحظة . والحقيقة أنها ما كانت لتستطيع ابعاده عنها . فمهما يملى عليها عقلها من تحليل منطقى ، الا أن قلبها كان يدفعها الى عكس ذلك .
أما أوليفر ، فقد عانى هو ايضا من الارق طوال الليل . وقد سمعته آنا ينزل السلالم الى الطابق السفلى بعد الثانية من منتصف الليل ، وكادت أن تلحق به ، امله فى أن يساعدها على النوم فنجان من الحليب الساخن .الا أنها قررت فى النهاية ألا تفعل ، فالمجازفة كبيرة جدا.
كانت مشاعرها كلها متلهفة اليه بحيث ستنتهى بين ذراعيه. وبم سيفيدها ذلك؟ لعله سيظن أنها سامحته ، فى حين أنها لم تفعل . وهى تشك فى أن تقدر على ذلك يوما.
لكن ، أتراها تنام الليلة بالرغم من التعب الذى تعانى منه ؟
طبع أوليفر قبلة رقيقة على جبينها المنهك وقال:- سأتمنى لك ليلة هانئة ونوما عميقا ، ياآنا . أن احتجت لأى شئ ليس عليك سوى ...
- أرجوك اذهب ، يا أوليفر . انا بخير حقا ، متعبة قليلا فقط . كف عن ازعاجى .
ابتعد عنها رغما عنه ، فأرتمت آنا على السرير بكامل ثيابها. هل ارتكبت خطأ جسيما حين سمحت له باقناعها بالعودة الى هنا ؟ هل سيقوم برعايتها والسهر على راحتها كالام الحنون ؟
أغمضت عينيها ليس هذا ما ارادته ، ارادت أن تبقى بمفردها ، ارادت أن تتصرف حسب طريقتها هى من دون أن تسمح له بالتدخل والازعاج . فقد أضاع كل حق له بأن يكون زوجا لها ، ستوضح له غدا هذا الامر بشكل نهائى .
استغرقت آنا مباشرة فى نوم هانئ عميق، استيقظت خلاله بضع مرات وهى تشعر بحاجة ملحة للدخول الى المرحاض. وشكرت السماء على وجود مرحاض داخل غرفتها ، فلو كان عليها السير فى الممر فى كل مرة ، لخرج أوليفر لملاقاتها على الفور .
ارتجفت من البرد وهى ترمى بثيابها جانبا وترتدى ثياب النوم . لكنها ما ان عادت واندست تحت الغطاء الدافئ حتى غطت فى نوم عميق .
فى الصباح التالى ، ايقظتها السيدة غرين وهى تحمل لها الشاى وبعض قطع البسكويت :- كلى هذه يا عزيزتى ، ومن ثم استلقى مجددا لنصف ساعة أخرى . لن تشعرى حينها بالغثيان ، كانت هذه الطريقة تفيدنى فى كل مرة .
جلست آنا فى السرير بصعوبة وبدا على وجهها الارتباك :- هل أخبرك أوليفر ؟.
- بالطبع أخبرنى . انا سعيدة جدا لكما أنتما الاثنين . أنا سعيدة حقا.
- لقد عدت اليه.
فأشارت مدبرة المنزل بدهاء :- لكن ليس الى السرير نفسه . لا أرى ذلك مؤشرا جيدا . ليست لدى اى فكرة عما حدث بينكما ، لكنك ستتمكنين وأوليفر من اصلاح الامور . أعلم أن أوليفر يأمل فى ذلك الى حد بعيد ، كان مزاجه لا يطاق عندما رحلت . لقد خلقتما انتما الاثنان لتعيشا سويا . لا تتخليا عن حبكما بسهولة .
عندما نزلت آنا اخيرا من غرفتها ، كان أوليفر فى انتظارها . أملت أن تجده قد ذهب الى العمل ، فلم ترده أن يغير أيا من عاداته اليومية من أجلها ، وتمنت الا يتكرر الامر بشكل تلقائى .
- ماذا تفعل هنا ؟
طرحت السؤال بلا مبالاة وهى تسير نحو غرفة الطعام لتناول الفطور . لكن حتى مشاعرها كانت فى الوقت نفسه تتحسس وجوده بشغف ولهفه، حتى كادت تدفعها الى حضنه.
قال أوليفر :- أخذت لك موعدا من الطبيب.
امتعضت آنا وبدا الانزعاج على ملامحها من الطريقة التى بدا يتحكم فيها بكل شئ ، وفرحت لأنها لم تستجب لنداء أحاسيسها الملح .
أجابته :- انا قادرة على القيام بذلك بنفسى ، شكرا لك.
- نعم أعلم ذلك . لكنى لم أكن واثقا من السرعة التى ستقومين فيها بذلك ، وخطر لى أنه من المهم أن ...
- لا أحتاج لأن تفكر عنى .
ثم شعرت انها تبالغ بالقسوة عليه ، فهو يبدو وكأنه لم يعرف طعم النوم منذ أكثر من شهر ، رغم أنه استحم هذا الصباح وحلق ذقنه للتو، وارتدى قميصا أزرقا وبنطالا من الكتان الرقيق. فاستطردت قائلة :- أنا آسفة فانت معنى بالطبع . متى هو الموعد ؟
- فى العاشرة والنصف . لدينا متسع من الوقت . هل يمكنك تناول طعام الفطور الان؟
- قد أتناول قشطعة من الخبز المحمص.
- هذا ليس بالكثير .
- هذا كل ما اريده . فأنا أذكر أن أختى قالت لى ذات يوم ان الوجبات الخفيفة كانت تريحها أكثر من الوجبات الثقيلة الدسمة.
أكد لهما الطبيب أنها حامل بالفعل . وصافح أوليفر وآنا وتمنى لهما أن ينجبا طفلا يتمتع بصحة جيدة :- من المؤسف أن والدك لن يتمتع برؤية حفيده .
أومأ له أوليفر برأسه وخرجا من العيادة . وبعدما لمحت آنا تعابير وجهه ، قالت له بلطف :- كان ذلك فظا بعض الشئ أن يذكر والدك هكذا.
- أنت لا تعرفين شيئا ، فوالدى ما كان ليريد أن يرى حفيده أو يتعرف اليه .
صدمتها الحقيقة القاسية :- هل هذا صحيح ؟ هل أنا السبب فى ذلك؟ لأنه لم يحبنى قط ؟
بحق السماء! هل بلغت قسوة ادوارد وتعجرفه هذا الحد ؟
أجابها أوليفر بنفاذ صبر :- بالطبع لا ، بل لأنه لم يحبنى أنا . اصعدى الى السيارة وسنكمل حديثنا فى المنزل ، ان كان الامر يهمك حقا .
لم يكن ادوارد يحب ابنه ؟ كان ذلك خبرا مفاجئا لآنا ، فراحت تبحث عن شروحات له بينما كان أوليفر يقود السيارة فى طريق العودة . لم تتنبه لذلك البتة ، فلم يظهر أى شئ يؤكد ذلك ، على ادوارد وابنه .
عندما وصلا الى المنزل ، قالت له :- أخبرنى عن والدك . لم يسبق لك أن ذكرت لى وجود أى مشكلة من أى نوع بينكما.
أخذ أوليفر نفسا عميقا وأخرجه ببطء شديد ليخفف من حده توتره وهما يجلسان :- هذا لأننا تمكنا من التوصل الى صيغة للتعايش بيننا كنت أحترمه جدا ، فهذا أمر اعتدت عليه منذ نشأتى الاولى ، كما دربنى على اطاعة أوامره منذ نعومه اظافرى . لهذا السبب كنت أعيش هنا ولم انتقل بعيدا على الفور.
كان بحاجة الى ، رغم أنه لم يعترف بذلك قط. لكن ذلك لا يعنى أنى لم أكن مشمئزا من الاسلوب الذى كان يعاملنى به .
- لم يعجبه أن يضطر للاهتمام بتربيتك! هل هذا ما تريد قوله ؟
- شئ من هذا القبيل . دخلت عالم الاعمال معه لكى أثبت له أنى لست ذاك المغفل الذى كان ينعتنى به . حتى بعد تقاعده من العمل ، لم يستطع الاعتراف بأنى أقوم بالعمل جيدا عوضا عنه ، وكنا نتجادل كثيرا.
خطر لآنا أن احدى هذه المجادلات أدت الى موته . لعلها لم تحب ادوارد ، والان باتت لا تحبه أكثر بعدما علمت كيف كان يعامل أوليفر . لكن هذا لا يعنى أنها لم تشعر بنوع من التعاطف معه .
سألته :- أعتقد أن هذا يفسر الطريقة التى عاملنى أنا بها .
- لا على الاطلاق. لقد تزوج بروزمارى على عجلة ، من دون أن يتسنى له الوقت لمعرفتها أكثر، فظن أنه متيقن من النهاية التى سنصل اليها. كان سيقبلك مع الوقت .
- لا، لم يكن ليفعل، فى الواقع عرض على والدك المال لكى لا أتزوجك .
انتفض أوليفر واقفا وعيناه تسطعان من الدهشة :- ماذا فعل ؟ لماذا لم تخبرينى؟.
شرحت له الامر بهدوء :- لأنى تدبرت الامر وحدى . مزقت الشيك وأخبرته أنى أحبك ، وان ذلك لن يتغير مثقال ذرة لو كنت مفلسا .
تحول بريق عينيه الى نور يشع بالاعجاب ةالاكبار:- أراهن أن ذلك لم يعجبه البتة .
- لا، لا أعتقد ذلك .
صمتت آنا قليلا لا تدرى ان كان عليها أن تخبره بالقصة كاملة . فقال لها مقاطعا :- هناك المزيد، اليس كذلك؟
كانت قد نسيت السهولة التى يستطيع بها أوليفر أن يقرأ أفكارها فافتر ثغرها عن ابتسامة هادئة رقيقة :- أنت تعرفنى جيدا .
- اذن اخبرينى بكل شئ. على أن اعرف الحقيقة كاملة دفعة واحدة .
ابتلعت آنا ريقها بصعوبة ، وتابعت :- لقد طردنى ، رمانى خارجا ، قال لى ان هذا المنزل ملك له وأعطانى أسبوع واحد لأنتقل منه .
أصاب أوليفر الذهول ، واخذ الدم يغلى فى عروقه ، فعلا الاحمرار وجهه، احمرار الغضب والسخط، وصاح بها :- ورحلت ...رحلت من دون أن تاتى لرؤيتى ؟ من دون أن تخبرينى بما حدث ؟.
ثم انتبه لعظم ما فعله والده، فقفز واقفا وهو يصيح :- يا له من عجوز كاذب شرير! ربما كان من الافضل الا تخبرينى ، لانى كنت سارتكب شيئا قد اندم عليه لاحقا ... آنا ... آه آنا ، لم لم تخبرينى ؟.
أجابته بهدوء :- ظننت أنك لن تبالى . فأنت لم تأت مرة واحدة الى المنزل لتحاول مناقشة الموضوع ، وأنا ما كنت لأقصد البيت الكبير ووالدك يسكن فيه . كانت كبريائى تمنعنى من ذلك .
- اذن، لو أن والدى لم يمت ، لما كنا عدنا الى بعضنا . هل هذا ما تقولين ؟
- هذا ممكن. فقد كنت أتألم جدا الى حد بت معه غير مستعدة للمواجهة ظن وانت حسمت أمرك واتخذت قرارك ، وهكذا كان .
ـغمض أوليفر عينيه ليدين نفسه بما اقترفت يداه :- لا أدرى ان كنت ألعن والدى أم لا ، لأنى كنت أنا نفسى جدير بذلك أكثر منه .
- بامكانك تكرار ذلك مجددا ، فأنا أوافقك الرأى .
لكن بالرغم من كل ما انهار بينهما ، كانت آنا لا تزال تشعر نحوه بالحب .لم تستطع يوما تفسير ذلك . الا أنه شعور أقوى من أى شئ أخر ، وأقوى منها هى بالتأكيد . لكنها تفضل الاحجام عن الاقتراب منه ، لأن الجاذب الجسدى ليس كافيا لوحده لبناء زواج ناجح . عليها أن تتذكر هذا دوما ، عليها أن تتأكد من حبه لها . فهذا الخطأ كان منذ البداية السبب الذى أوصلهما الى هذه النهاية المحزنة .
سألته :- لماذا لم تقل لى ان هذا المنزل ملك لادوارد؟.
هذ كتفيه :- لم أفكر فى هذا قط . لكنى أظن أن علينا بيع كل شئ قريبا . واعتقد أن علينا الاستقرار فى منزلنا الجديد قبل ولادة الطفل .
منزلنا ! منزلنا؟ هل كانت هذه خطوة حكيمة ؟ عليها أن تتوصل الى مسامحته على أخطاء عديدة قبل أن يجمعها به أى أرتباط ، وان المنزل الجديد يعنى الارتباط . هذا يعنى أنه يتوقع منها ان تمضى ما تبقى من حياتها معه.
- لا تبدين واثقة من هذه الخطوة ، يا آنا
لم تدرك أنه يراقبها ، أو ان تعابير وجهها كانت واضحة ومقروءة الى هذا الحد . فهزت كتفيها :- قلت لى أننا سننتظر ونتريث الى أن يولد طفلنا ، وان لم نتوصل فى هذه الفترة الى اصلاح الامور ، فسأكون حرة فى الذهاب والابتعاد عن هنا . لذا . لاافهم لم علينا الانتقال قبل أن نتأكد من ...
سطع بريق عينية بحدة وهو يقف بانفعال قائلا :- قد تكونين غير متأكدة يا آنا . لكن فى ما يتعلق بى ، فأنا واثق ومتأكد تماما . نحن زوج وزوجة ، وهكذا أريدنا أن نبقى .
*************************

Just Faith 26-11-17 07:15 PM


9 - من ينهار أولا ؟
ظنت آنا فى البدء أن أوليفر قام بخداعها . فقد أعادها الى هنا بعد أن وعدها بأن تكون حرة فى الرحيل ان لم يتمكنا من اصلاح الامور . وها هو الان يقول ان لا نية لديه البتة فى السماح لها بالرحيل .
تابع كلامه قبل أن يتسنى لها الرد عليه :- أنا أحبك آنا ، وأرغب فى أن أعرف أنك مازلت تحبيننى . الجراح لم تلتئم يعد ، وهذا ما أفهمه ، الا انى عازم على التعويض عليك عم سلوكى المشين والحقير الذى عاملتك به . لن أقدم لك مجددا الاسباب التى تدفعك الى التوقف عن حبى . فى الواقع ، ستشكريننى لأنى لحقت بك .
ألتوت شفتاها وهى تجيب :- انه تصريح خطير ، يا أوليفر .
فقال بحماس :- لن أخذلك ما دمت حيا . أعدك بذلك . والان أقترح أن أذهب وأطلب من السيدة غرين أن تعد لنا الغداء . هل تستطيعين تناول الطعام ؟
رأت آنا أن لاداعى للجدال ، فالوقت وحده كفيل بإظهار الحقيقة :- فى الواقع أنا اشعر بالجوع . سأتصل بكريس فى هذه الاثناء لأعلمه بعودتى .
- فكرة جيدة . ربما عليك دعوته لتناول طعام العشاء معنا يوما ما .فقد آن الاوان لألتقى بشقيقك هذا .
تكلمت قبل أن تدرك ما تقول :- ألازلت تظن أن تونى يهيم فى مكان ما فى الجوار ؟.
لا تذكرينى بمدى غبائى . لا أعلم لم ظننته متورطا فى القصة . حسنا ، فقد قلت لى يوما أنه شاب وسيم ، والرجل الذى شاهدك والدى برفقته يطابق هذا الوصف . ما كنت أظن أن شقيقك أشقر الشعر .
- لعل رحيل والدتك لتلك الاسباب الانانية قد ترك أثرا عميقا فى نفسك، وجعلك تشكك بمن حولك كلهم .
أجاب بمرارة :- لم يكن السبب رحيل والدتى ، بل سلوك والدى على الارجح .
أرادت آنا أن تقترب منه ، أن تأخذه بين ذراعيها وتقول له ان الامور استقامت الان ، لكنها لم تكن متأكدة بعد . فالوقت لايزال مبكرا جدا . أنى لها ان تعرف أن أوليفر لن يتحامل عليها ويخذلها مرة أخرى اذا ما حدث خطب ما ؟
لم يكن البقاء بعيدة عنه سهلا كذلك . فقد راح أوليفر فى الاسابيع التى تلت يبالغ فى رعايتها والسهر على راحتها . ولا يتوقف عن سؤالها عن صحتها والتأكد من حصولها على كل ما تريده وحثها على الخلود الى الراحة .
بدا الوضع يخنقها فشعرت بالسعادة حين أعلمها بضرورة ذهابه الى العمل . ثم عرض المنزلين للبيع ، فبدأ سيل من المهتمين بالشراء يتوافد يوميا الى المكان . وكانت آنا تبتعد عن الطريق وترفض التدخل كلما جاء الوسيط ليرى أحدهم المكان .
كانت تخرج أحيانا بحثا عن منزل يناسبها هى وأوليفر . فقد قال لها :- سأترك الامر لك كليا فان كنت سعيدة ، سأكون كذلك أنا ايضا .
كانت تلك مهمة شاقة ، خاصة أنها لاتزال غير واثقة من دوام زواجهما . الا أن ذلك جعلها على الاقل تقوم بعمل ما يشغل وقتها . وعندما وقعت عيناها على كوخ فى قلب الريف فى كامبريدجشاير.استعادة ذاكرتها صورة الكوخ فى ايرلندا حيث عرفت هى وأوليفر طعم السعادة . فعلمت على الفور أنها سترغب فى العيش هنا .
كان ذلك ضربا من الجنون الفعلى . فلم عساها تريد ما يذكرها بحياة مضت وولت ؟ أم أنها لا تزال تحيا على أمل فى أن تعود الامور بينهما ذات يوم الى سيرتها الاولى ؟ هل هذا ما يحتل الحيز الاكبر فى لاوعيها ؟
لم يكن الكوخ معروضا للبيع ، فلم تدر لماذا توقفت عنده للقاء نظرة عليه .كان اكبر بكثير من كوخ شقيقتها فى ايرلندا ، وبدا أنه خضع للعديد من الاضافات والتعديلات مع مرور السنين . فبات الان أشبة بقصر وسط عزبة كبيرة ، مع احتفاظه بهيئة الكوخ وجوه الحميم ، بنوافذه الخشبية وجدرانه المطلية باللون العاجى ومواقده وأرضيتهالخشبية ، وحديقته الشاسعة التى توفر مكانا مثاليا يلعب فيه الاطفال.
قطعت آنا حبل أفكارها لتسترجع فى ذهنها كلمة أطفال . هل تخطط لانجاب المزيد من الاطفال من أوليفر ؟ هل وطنت النفس لاشعوريا لتقبل فكرة دوام زواجهما واستمراريته ؟
لم تستطع الاجابة على تساؤلاتها ، فقد كانت فى جزء منها تتوق الى تحقيق ذلك ، وفى جزء اخر تشعر بالامتعاض والنفور من الطريقة التى عاملها بها بحيث ظلت تشك فى قدرتها على مسامحته يوما .
ظلت واقفة تجيل النظر فى الكوخ ومحيطه عندما رأت الدخان يتصاعد من احدى مداخنه ، فأرادت أن تذهب وتقرع الباب وتطلب السماح لها بالدخول . ارادت أن تجلس على أريكة وثيرة بالقرب من نار الموقد وتدفئ يديها وأصابع رجليها وتحلم بأنها فى منزلها .
على العشاء ذلك المساء أخبرت أوليفر بأمر الكوخ قائلة له :- لم يكن معروضا للبيع الا أنه منزل أحلامى . سأكون سعيدة جدا بالعيش فى مكان كهذا .
بدا الحماس فى نبرتها فابتسم أوليفر بتقدير وأعجاب :- ان كان ذلك ما ترغبين فيه ، فستحصلين عليه . خذينى لآراه ومن ثم نذهب للبحث عن مكان مطابق له .
هكذا ، انطلقا سويا يوم الاحد باتجاه الكوخ . وعندما عاد صاحبه مننزهة قصيرة مع كلبه ذهب أوليفر ليكلمه .
خرجت آنا من السيارة ووقفت أمام المنزل وأخذت تراقبه بدقة . لقد أحبت الكوخ الان أكثر من المرة الاولى ، فهو مثالى حقا أنى لهما أن يجدا مكانا يشبهه ان لم يكن يطابقه ؟
عاد أوليفر مبتسما ليزف لها الخبر :- لن تصدقى هذا! لكن الرجل يفكر منذ فترة وجيزة ببيع الكوخ . انه كبير جدا بالنسبة اليه الان بعد أن توفيت زوجته . الا أنه لا يحتمل فكرة توافد الغرباء الى المكان للنظر والتجوال فيه . اذا كنت تريدينه ، فهو لك . انه ينوى الذهاب والعيش مع ابنته فى منطقة أخرى .
لم تستطع آنا منع نفسها من احتضانه فرحا ، فلفت ذراعيها حول عنقه بحماس :- أوه ، أوليفر ، هل هو جاد فى ما يقول؟
- جاد تماما. ويقول ان بامكاننا الدخول والقاء نظرة متفحصة الان ان أردت .
- لاأكترث لمظهره من الداخل ، فأنا أعرف أنه سيكون مثاليا . أكاد لا أصدق كم أننا محظوظان!
احتضنها أوليفر بشدة بين ذراعيه وهو يبتسم برضى لرؤية وجهها المشرق بالسعادة :- لم أرك سعيدة بهذا القدر منذ أن عدت الى المنزل .
كيف جرى ذلك ، لا تعلم آنا ، لكنها فى اللحظة التالية انحبست أنفاسها وفقدت احساسها بالواقع لتستسلم لدوامة من المشاعر القوية انسلت عبر جسدها كله . ورغم علمها بضرورة الابتعاد عنه ، وصفعه حتى ، لكنها بطريقة ما عجزت عن ذلك .
تركته يعانقها على مرأى من صاحب الكوخ ، وتاهت فى عاصفة من الاحاسيس المضطربة التى كانت تجيش فى صدرها منذ وقت طويل .وغرقت فى عالم من النشوة جعلها تدرك أنها تعاقب نفسها بمنع أوليفر من الاقتراب منها . وعندما أفلتها فجأة شعرت وكأنها حرمت من الجنة .
توقعت منه أن يعتذر ويعترف بتخطيه للحدود التى اتفقا عليها وبنكث الوعد الذى قطعه لها ، لكنه لم يفعل ، بل بدا فى المقابل راضيا عما فعله كل الرضى وهو يمسك يدها ويرافقها الى المنزل.
كان الكوخ من الداخل كما توقعته بترتيبه وتنسيقه وتوزيع غرفه .اذ ضم غرفة جلوس بمساحة متوسطة وردهة كبيرة وغرفة طعام وغرفة مكتب فضلا عن مطبخ رائع بفرشه وتجهيزاته الكامله ، وأربع غرف نوم ، اثنتان منها تضمان حماما خاصا . كان الكوخ مثاليا .
سألهما صاحب المنزل :- ما رأيكما ؟.
أجابت آنا :- انه رائع . انه مطابق تماما لما نريده . أكاد لا أصدق كم أننا محظوظان . هل تريد حقا أن تبيعه ؟.
- أستطيع أخلاءه غدا ان استطعت .
فقال أوليفر :- سأرى محامى غدا صباحا .
وصافح صاحب المنزل متفقين ضمنيا على اتمام عملية البيع.
فعلق الرجل قائلا :- يسعدنى أن أتخلى عنه لشابين مغرمين كما يبدو بوضوح . ان رؤيتكما سويا تسر قلبى وناظرى ، فأنتما تذكراننى بزوجتى وأنا عندما تزوجنا . كنا نتعانق طوال الوقت ، وأتمنى لكما السعادة التى عرفناها نحن فى ما مضى .
التفت ذراع أوليفر حول آنا وقال بثقة بالغة :- ما من شك فى الموضوع .
شعرت آنا بالخداع لكنها رفعت رأسها نحو أوليفر وهى ترسم على ثغرها الابتسامة التى يتوقعها الرجل منها .
عندما عادا الى السيارة ، سألته مستفهمة :- هل أحببت المكان بقدر ما أحببته أنا ؟.
- لاشك فى ذلك . سنتمكن فيه من الشروع فى بداية جديدة وطى صفحة الماضى الى الابد .
لكنه التفت اليها قبل أن يقلع بسيارتهوسألها :- هل يعنى تجاوبك مع عناقى انك سامحتنى أخيرا؟.
قست آنا قلبها وهزت رأسها بالنفى ، فهى لاتريد اعطاءه آمالا واهية كاذبة :- كانت لحظة من لحظات السعادة بسبب الكوخ ليس الا.
ارتفع حاجبا أوليفر فى تشكيك:- لم يبد عناقك كأنها لا تعنى شيئا .
- أنا لا أقول ان مشاعرى نحوك زالت وماتت ، يا أوليفر . لكن ، بعد الطريقة التى عاملتنى بها .هل تتوقع منى حقا أن أهرول مجددا لأرتمى بين ذراعيك بهذه السرعة ؟ فى الواقع ، قد لا يحدث ذلك أبدا . فعندما يتهمك زوجك بالسرقة من دون تردد، يمر وقت طويل قبل أن تتمكن من تخطى الامر . هلا ذهبنا من فضلك ؟
لم ينبس أوليفر بكلمة واحدة أخرى ، بل انطلق بالسيارة وقد بدا على ملامحه الذهول وخيبة الامل الممزوجة بالغضب والحزن معا . وخطر لآنا أنه يستحق ذلك ، فمن غير المعقول أن يرمى الناس بالحجارة من دون أن يتعرض هو للاذى والالم بدوره.
لم يذهبا الى المنزل مباشرة ، كما توقعت. بل أخذها أوليفر الى أحد المطاعم التى يفضلها على ضفة النهر لتناول طعام الغداء. كانت آنا قد توقفت عن الشعور بالغثيان صباحا واصبحت من جديد قادرة على الاستمتاع بتناول وجباتها . لذا ، سرها أن يصحبها أوليفر لتناول الطعام خارجا .
التزم أوليفر الصمت والهدوء فى البدء غارقا فى أفكاره الخاصة وانفعالاته، مما حمل آنا على التساؤل عما اذا بالغت فى القسوة عليه بعض الشئ من دون أى داع لذلك . لكن لم عليها أن تدعه يتملص مما فعله؟
- ما الذى تفكرين فيه ؟
التفتت آنا الى أوليفر ورأت عينيه تشعان ببريق ذهبى حاد أصابها بالدوار :- ليس بالشئ الكثير . أمور مختلفة .
- هل يصدف أن تكون تلك الامور أنت وأنا مثلا ؟
وارتفع حاجبه الداكن بثقة .
- ربما
تنهدت آنا بعمق وهزت كتفيها وهى تدعى اللامبالاة .
- هل انت نادمة على العودة الى المنزل والى ؟
- لا .
كانت تلك اجابة مقتضبة جدا خرجت منها قبل أن يتسنى لها التفكير فيها لكنها لم تنظر اليه ، بل راحت تعبث بشوكة الطعام ، وتحرك بها قطعة من البطاطا فى طبقها وتهشمها الى قطع صغيرة جدا وأضافت :- ليس كليا .
- هل أمامنا أى فرصة لنستعيد حياتنا السابقة التى عرفنا خلالها طعم السعادة قبل أن يتدخل غبائى لافسادها ؟.
ظلت آنا مشيحة بنظرها عنه ـ رغم علمها بأن جوابها سيحدد معالم مستقبلهما . بدا كأنه تخلى عن أمنيته بوجود أى أمل لهما . وهل تريد ذلك ؟ هل تريد الانفصال عنه ، وأن يذهب كل فى طريقة ؟ هل تريد أن يتقاسما الطفل ، فينقلانه بينهما من منزل الى آخر على مر السنين ؟
كان جوابها عن تلك التساؤلات هو النفى حتما . لكنها أجابته:- أعتقد أن الفرصة متوفرة فى الواقع .
لكن لن يتم ذلك الان ، فهى مازالت غير مستعدة .
مد أوليفر يده فوق الطاولة وأمسك بيدها قائلا :- ان كان هناك أى أمل لنا ، فانا مستعد للانتظار . والا فمن الافضل أن ننهى الامر الان .
حدقت آنا فيه ، فرأت الالم يفر من عينيه ، الالم الذى كان يمزقه الى أشلاء فكادت للحظة أن تستسلم له . لكن عليه أن يتعلم الدرس.
لقد قدم لها كل أنواع الاعتذارات ألاف المرات، وأقسم لها بأنه لن يتهمها بشئ كهذا مرة أخرى ... لكن ذلك لم يهدئ من روعها ولم يستطع أن يطيب خاطرها . فالكلمات سهلة جدا ، والاعمال والتصرفات وحدها هى التى تبدل الشك باليقين وتحسم الوضع.
لذا ، فهى بحاجة الى بضعة اسابيع أخرى ربما ، أو الى حين ولادة الطفل. لكن هل باستطاعتها أن تعيش معه طوال هذه المدة وتلتزم بالنوم فى غرفة مستقلة ؟
- آنا ؟.
أدركت أن أوليفر مازال ينتظر جوابها . وعلمت من التجهم البادى على وجهه وانقباض فكيه أنه ظن جازما أنها تريد الرحيل . فأجابته بنبرة هادئة :- سأبقى معك ، يا أوليفر . لكنى بحاجة الى المزيد من الوقت ، ولا أريد أن تستعجلنى أو تدفعنى دفعا . ان فعلت هذا ، ستحملنى على الرحيل والابتعاد.
أنارت ابتسامة مشرقة وجهه المتجهم وبرقت عيناه بالامل وهو يشد بيده على يدها :- لن تندمى على قرارك هذا ، يا آنا ، انا أعدك بذلك .
ابتسمت له ابتسامة واهنة وهزت رأسها بطريقة تعبر عن عدم ثقتها بذلك كليا . ثم أخذت أصابع قدميها تلتف مجددا فى تجاوب معه وترتفع حرارة جسدها مع تسارع نبضات قلبها المضطربة ..كل هذا لأنه أمسك يدها!
خلال الغداء عاد أولفر الى طبيعته ، فبدا مرحا ومحدثا لبقا ومسليا ، فألفت آنا نفسها مرتاحة وهادئة كما لم تكن منذ مدة طويلة . لعل المنزل الجديد هو الحل الامثل . سيرميان بكل ذكرياتهما القديمة وآلامهما السابقة خارجا وسيبدآن من جديد . وسيقع على عاتقها القيام بأمور عديدة ما أن ينتقلا الى منزلهما الجديد . لم يكن بحاجة ماسة الى الديكور ، لكنها ستسر جدا بوضع لمساتها الخاصة عليه .
- كنت أفكر فى المنزل . مازلت لا أصدق كم أننا محظوظان . يا لها من مصادفة غريبة أن يكون السيد جونز راغبا فعلا فى بيعه !
قال أوليفر وعيناه تسطعان بالبهجة والسرور :- لابد أن هذا يعنى أنه مقدر لنا أن نحصل عليه . لقد ساعدك القدر فى ذلك اليوم ، يا حبيبتى . جعلك تقودين سيارتك فى ذلك الاتجاه بالتحديد ودفعك الى التوقف والنظر الى ذلك الكوخ بشكل خاص .
ضحكت آنا:- أوليفر، لم أكن أعلم أنك تؤمن بهذه الأشياء .
- أنا لا أومن بها بشكل عام . لكن ، أهناك تفسير آخر لما حدث ؟ ما هو مقدر ، لابد أن يحصل ، أليس هذا ما يقال؟
- هل ستأتى السيدة غرين معنا ؟
- انها لا تنفك تحدثنى عن الطفل. أعتقد انها تتوق لمساعدتك فى رعايته. سيكون ابنى فى حاجة ماسة الى الرعاية .
- ان ابنك هذا قد يكون فتاة .
- ان كانت رائعة مثلك، سأكون فى غاية الرضى والسرور، وسننجب صبيا فى المرة القادمة .
- وكم ولدا ترغب فى انجابه يا سيد لانغفورد ؟.
لم تكن آنا تمانع الحديث عن الاطفال، فهى تحب أن ترى أوليفر سعيدا . لم تدرك قبل ذلك مدى تعاسته وحزنه فى هذه الاسابيع القليلة الماضية . فقد كانت غارقة فى حزنها وألمها بحيث لم تع ما يعانيه هو .
- آه ، أربعة على الاقل .
ثم رفع حاجبه الداكن فى تساؤل مرح :- بالطبع ، ان كل شئ يتعلق باحتمال الترحيب بى فى سريرك فى الوقت المناسب.
لم تجب آنا على ذلك ، لكنها ابتسمت وهى تقطع اللحم فى طبقها وتغمسه بالصلصة اللذيذة قبل أن تضعه فى فمها .
أخذ أوليفر يرقب كل حركة تقوم بها ، وعندما وقعت نقطة من الصلصة على ذقنها، مد يده بسرعة ليمسحها بإصبعه بحركة مثيرة واعدة.
حدث بسيط، الا أنه ظل يداعب مخيلة آنا لما تبقى من النهار . فى الواقع، كان هذا اليوم من أمتع الايام التى أمضتها آنا منذ وقت طويل .
بعد الغداء ذهبا فى نزهة فى السيارة ولم يعودا الى المنزل الا بعد حلول الظلام . كانت آنا تضحك من دعابة أخبرها اياها أوليفر، وتتساءل فى الوقت نفسه ان كانت قادرة على الانفصال عنه عندما يحين وقت النوم . فقد أمضيا اليوم وقتا رائعا معا بحيث أن فكرة الابتعاد عنه لم ترق لها .
لكن ابتسامتها تلاشت عندما شاهدا سيارة الشرطة متوقفة أمام المنزل . نزل أوليفر مسرعا وتوجه نحو المنزل وهو يقول :- ما الذى يحدث هنا ؟ .
لحقت به آنا بسرعة وقد تملكها شعور غريب مقلق .
وجد أوليفر وآنا السيدة غرين تتحدث الى شرطيين فى المطبخ كانت فناجين الشاى وبعض قطع البسكويت والحلوى المنزلية لاتزال أمامهم على الطاولة.
تكلم أوليفر وهو ينقل نظراته المتسائلة من الواحد الى الاخر :- ماذا يجرى هنا؟.
أجاب أحد الشرطيين :- السيد أوليفر لانغفورد ؟.
- هذا صحيح .
- الامر يتعلق بالسيدة روزمارى لانغفورد .. والدتك حسبما أظن ؟
ضاقت عينا أوليفر وقال :-أعتقد أنه من الافضل أن نتحدث فى المكتب .
ارادت آنا أن تلحق بهم ، لكنها لم تشعر بأن لها الحق فى ذلك ، لذا بقيت مع مدبرة المنزل .
- ماذا يريدان ؟ هل قالا لك ؟.
التوت شفتا السيدة غرين وأجابت :- لم يقولا لى . لقد وصلا الى هنا منذ خمس دقائق فقط . وراحا يتذوقان ما أعددته من البسكويت والحلوى ، حتى أن أحدهما طلب منى الوصفة ليعطيها لزوجته.
-ةهل تعتقدين أن خطبا ما ألم بالسيدة روزمارى ؟
- لا أستطيع الجزم .
بدا من ملامح السيدة غرين أنها لا تبالى بما قد يحل بروزمارى .فهى لم تكن تكترثى لتلك السيدة أو تحبها .
لم يمض وقت طويل قبل أن يخرج أوليفر ويرافق الرجلين الى الباب فتوجهت نحوه مباشرة وسألته :- ما الخطب؟ هل والدتك مريضة ؟.
أجابها أوليفر بحدة :- لا. انها فى قسم الشرطة ، لقد تم توقيفها.
اتسعت عينا آنا من الصدمة :- ماذا؟ ما السبب ؟ ماذا فعلت ؟.
صمت أوليفر وانقبضت أساريره وهو يفكر بما عليه أن يقوله . فقاطعته موضحة :- لا بأس . انه أمر خاص بك . وان كنت لا ترغب فى اطلاعى عليه ، فـ ...
- أريد أن أطلعك عليه، وكنت أتساءل عن الطريقة . لكنى أرى ان ما من طريقة لفعل ذلك تجنبنى وضع نفسى فى موقف حرج .
قطبت آنا جبينها:- عم تتكلم ؟.
- روزمارى هى من سرق المجوهرات .
- أوه!
لسبب ما ، شعرت آنا بالوهن فى قدميها فتمسكت بالكرسى خلفها . لا عجب فى أن أوليفر تردد فى أخبارها ، فلابد انه شعر بشده غبائه .
- هل تعتقد أنها أخذتها فى الليلة التى أمضتها هنا؟ بعد الجنازة ؟
- لا. فقد رأيت المجوهرات فى الخزنة بعد ذلك .
- اذن، كيف قامت بذلك؟
أجابها بامتعاض وحزم :- هذا ما أنوى اكتشافة قريبا . سأذهب الى قسم الشرطة الان ، لا أعلم كم من الوقت سأبقى هناك. لا تنتظرينى .
الا ان آنا لم تستطع الخلود الى النوم قبل أن تعرف ماذا حدث. وعندما عاد أوليفر اخيرا الى البيت ، كانت متقوقعة على كرسى فى غرفة الجلوس وهى تمسك بكتاب مفتوح فى يدها رغم أنها لم تقرأ فيه .
كانت فى المقابل غارقة فى أحلام اليقظة ، تفكر فى مستقبلهما . فبعد شهر من الان ، سيحل عيد الميلاد.. أول عيد ميلاد يمضيانه سويا . لن ينتقلا من المنزل فى ذلك الوقت ، لكنهما فى السنة القادمة ، سيكونان فى كوخهما الجديد مع طفلهما الذى سيشتريان له الهدايا ، بعد أن يصبح كل الامهما ومشاكلهما جزءا من الماضى .
بدا الانهاك والتعب على أوليفر وقد فوجئ برؤيتها مستيقظة فى انتظاره قالت له :- هل أعد لك فنجانا من الشاى الساخن ؟ لقد أوت السيدة غرين الى فراشها .
هز أوليفر رأسه :- لقد أمضيت يوما طويلا ومتعبا، الا يجدر بك أن تأوى الى فراشك أيضا ؟.
- لم استطع الخلود الى النوم من دون أن أسمع ماذا حل بروزمارى . هل أثبتت التهمة عليها ؟
- لا .
كانت شفتا أوليفر منقبضتين حزينتين وهويرتمى على أحدى الارائك . ثم مدد رجليه بتعب ووهن وألقى رأسه الى الخلف محدقا فى السقف بشرود، وقال :- لم أستطع أن أدعهم يفعلون بها هذا .
لأنها فى النهاية والدته بالطبع ! فسألته آنا :- لقد أطلقوا سراحها اذن ؟.
- نعم .
- وهكذا انتهت القضية ؟ هل استعدت مجوهراتك ؟
- ليس بعد، لكنى سأفعل .
- هل تكلمت مع روزمارى ؟.
- بشكل مقتضب . سأراها مجددا فى الصباح .
- كيف تمكنت من الدخول الى المنزل ؟ هل تسللت الى الداخل ونحن نعمل فى الطابق العلوى ؟
- لا أعرف التفاصيل بعد . كل ما أعرفه هو أنى لم أستطع أن ادعهم يسجنونها . الله وحده يعلم السبب. لم تؤد لى أى خدمة فى حياتها ، لكن ...
أجابته آنا بهدوء ورقة :- هذا لأنك رجل شريف ومحترم ، يا أوليفر لانغفورد.
استقام فى جلسته وأخذ يحدق فيها :- هل تعنين هذا حقا ؟.
قالت كأنما الامر أدهشها هى أيضا :- أعتقد ذلك . الا أننى لن أستعجل الامور بعد .
- أنا أفهم ذلك .
كانت ملامحه تعكس مزيجا من الاسى والامل . وقف على رجليه واتجه نحوها، ثم أمسك بها لتقف بدورها واحتضنها بقوة وشغف، فبديا كصديقين يواسيان بعضهما بعد طول غياب .
أغمضت آنا عينيها لتدع الدفء المنبعث منه يتسلل الى أعماقها والقوة التى تتحلى بها ذراعاه تحتضنها بشدة والعطر الرجولى المألوف يتغلغل فى روحها ودمها .
كان احتضانه لها وجيزا لحسن حظها ، لأن الشرارة بدأت تستعر فى كيانها منذرة بالاشتعال فى أى لحظة .
همس لها وهو يملس خصلة شعر متمردة تغطى جبينها :- اذهبى الى فراشك الآن ، يا آنا . اتمنى لك نوما هنيئا، حبيبتى .
ارادت أن تسأله ان كان سيذهب الى فراشه هو أيضا،لكنها أحجمت عن ذلك مخافة أن يظنها تدعوه الى غرفة نومها . فاتجهت نحو الباب ثم استدارت لتبتسم له ابتسامة حزينة :- أنا اسفة بشأن والدتك .
فى اليوم التالى ، عندما ذهب أوليفر لرؤية روزمارى ، استغلت آنا الفرصة لتذهب الى المنزل الكبير وتلقى نظرة أخيرة .
كانت أغراض ادوارد الشخصية قد وضبت ، بعد التخلص من كل ما لا يلزم . واصبح كل شئ جاهزا لإتمام البيع . شعرت آنا بحزن غريب أمام فكرة انتقال هذا المنزل الى عائلة أخرى غير عائلة لانغفورد .
غير أنها تتفهم رغبة أوليفر فى عدم الاحتفاظ به . فذكريات طفولتها هى كانت ملأى بسعادة لا مثيل لها، بحيث لم تستطع تصور أى أب يعامل ولده كما كان يفعل ادوارد مع أوليفر .
لاشك أنه يغرق فى ذكريات طفولته التعسة كلما أتى الى هنا . انها قادرة على الاحساس بألمه وبمعاناته . لكنه ، ألم يتسبب لها بالالم والمعاناة أيضا ؟ هل يحتفظ فى نفسه بنواح شبيهة بوالده تطفو وتظهر مكشرة عن أنيابها بين الحين والاخر ؟ هل عليها أن تلتزم جانب الحذر دائما ؟
سمعت وقع خطوات خلفها ، ولم تفاجأ أبدا عندما رأت ميلانى فى الباب .
- كنت أتساءل عمن عساه يكون هنا ، أملت فى أن أجد أوليفر .
حدقت آنا بالشقراء باستهزاء :- آسفة لتخييب أملك.
- هل هو معك ؟
- لا.
- هل هو فى العمل ؟
لم يكن لدى آنا أى نية فى اطلاع ميلانى على مكان تواجد أوليفر فى هذه الاثناء. فقالت لها :- فى الواقع ، لديه بعض الاعمال الواجب انجازها . هل أردت رؤيته لأمر محدد؟ هل أقول له انك اتصلت به ؟ .
فخاطبتها ميلانى لعدائية واضحة :- أريد أن أعرف السبب الذى يدفعه لبيع هذا المنزل .لماذا لم يخبرنى بما يخطط له ؟ لطالما تساءلت عما يدفعه الى توضيب كل أغراض العم ادوارد، لكنى ظننت أنه ينوى الانتقال اليه بنفسه ... أراهن على أنك تقفين خلف كل ذلك . أراهن ...
قاطعتها آنا بحدة وثبات :- ميلانى ، ليس لى علاقة بالامر البتة .كان ذلك قرار أوليفر، ان كانت لديك مشكلة فى ذلك ، فأقترح عليك أن تسأليه هو .
- أوه،هذا ما أنوى فعله . لا تظنى أن زواجك أصبح من الممكن انقاذه. فقد اخبرنى بأنه لايطيق صبرا على الطريقة التى تتحاملين بها عليه .
- هل هذا صحيح ؟
تساءلت آنا عما يمكن أن تفعله ميلانى لو عرفت بحملها . وشكرت السماء على أن الوقت لا يزال مبكرا وأن الحمل لا يظهر عليها بعد، فأجابتها ببرود تام :- أجيبينى اذن يا ميلانى ، ان كان هذا ما يشعر به أوليفر نحوى ، فلم لحق بى ؟.
هزت ميلانى كتفيها باستهزاء :- هذا هو أوليفر . فى الواقع ، ما من رجل يحب أن تهجره المرأة وتتخلى عنه. فهم يفضلون أن يهجروها أولا .
- آه، فهمت الان . شكرا لك على اخبارى . سأحتفظ بهذه المعلومات فى ذهنى فى المرة القادمة التى أقرر فيها الرحيل . وسأقول له انك سألت عنه،الى القاء يا ميلانى .
نفضت الشقراء شعرها الطويل الى الخلف بعصبية وحدة وهى تخرج من الغرفة ومن ثم من المنزل . ارتجفت آنا وهى تفكر :- آلن تتقبل هذه الفتاة الحقيقة وتقتنع بها؟.
عندما عاد أوليفر كان قد مر وقت طويل على موعد الغداء . وقد ظنت آنا أنه سيتجه الى المكتب مباشرة بعد مقابلة روزمارى ، وأقنعت نفسها بأنها لن تراه مجددا حتى المساء . لم تكن مستعدة لتحمل ذاك الدفق الغزير من الدفء الذى أحاط بها .
هل يعود السبب الى تعليقات ميلانى القاسية ،أم الى العناق الذى أصابها البارحة بالدوار ، أم الى أنها قد بدأت فعلا تسامحه ؟... لم تكن متأكدة من أى من تلك الاحتمالات . لكن أيا يكن السبب ، فأن لهفتها اليه تشابه تلك التى كانت تختبرها فى الايام الاولى من زواجهما .
ولابد أن ذلك ظهر جليا على وجهها ، لأن أوليفر حدق بها بتردد قبل أن يأخذها بين ذراعيه :- كدت تبدين مسرورة لرؤيتى .
لم يحاول أوليفر أن يعانقها مرة ثانية، بل اكتفى باحتضانها بطريقة لا يمكن أن يظهرها الا رجل غارق فى الحب حتى اذنيه .
- أنا مسرورة حقا . أريد أن أعرف ما جرى .
- هل هذا كل شئ ؟
بقى ممسكا بيديها ، وابتعد عنها مسافة ذراع واحد لينظر اليها عن كثب ، وابتسم قائلا :- قبل كل شئ ، أخبرينى عن حالك. فى الواقع يا سيدة لانغفورد، بعد أن تخلصت من الغثيان الصباحى ، تبدين أكثر اشراقا يوما بعد يوم .
- أشعر بحال جيدة . ذهبت الى المنزل الكبير هذا الصباح ، ان لم يكن لديك مانع ؟
- على الاطلاق . هل جاءنا المزيد من الراغبين فى الشراء؟
- لا . أردت فقط أن أجيل النظر فيه واتخيلك فى طفولتك ...
وضع اصبعه بلطف على شفتيها :- دعينا لا نتكلم عن ذلك الان .
- جاءنى زائر وأنا هناك .
- من ؟
- ميلانى .
ارتخت يداه على جانبيه بتعب وكلل :- ماذا تريد ؟.
ابتعد عنها وذهب ليقف بجانب الموقد حيث النار مشتعلة .
- أرادت أن تراك .
- لأى سبب؟
- ليست لدى أى فكرة . قلت لها انى سأبلغك بزيارتها.
- حسنا، هذا جيد . سأتولى أنا الامر .
تكلم أوليفر بنبرة واقعية ، كما لو انه سيتولى أمر صفقة أعمال أو ما شابه . لكن آنا لم تتوقف عن التساؤل فى نفسها عما تعنى له ميلانى فى الحقيقة ، والى أى مدى ؟.
جلست آنا وقد لفت ساقيها تحتها فى زاوية احدى الارائك ، وقالت له :- أخبرنى عن روزمارى .
ارتمى أوليفر على احدى الارائك ، لكنه لم يستطع استعادة الهدوء فانحنى الى الامام ، شابكا يديه أمامه وهو يحدق فى رسم على السجادة .
ان اتهامه لآنا بسرقة ميراث العائلة قد تسبب له بقدر كبير من الالم والاسى والندم. اما الان ، وقد بات متأكدا بما لايقبل الشك من براءتها، فان الامه تضاعفت الاف المرات . أنى له ان يواجهها بعد الان من دون أن يشعر بالآسى مما تسبب لها من مهانة وحزن ؟ وكيف تراه يستطيع يوما التعويض عما فعله ؟.
هل يعود السبب الى تعليقات ميلانى القاسية ،أم الى العناق الذى أصابها البارحة بالدوار ، أم الى أنها قد بدأت فعلا تسامحه ؟... لم تكن متأكدة من أى من تلك الاحتمالات . لكن أيا يكن السبب ، فأن لهفتها اليه تشابه تلك التى كانت تختبرها فى الايام الاولى من زواجهما .
ولابد أن ذلك ظهر جليا على وجهها ، لأن أوليفر حدق بها بتردد قبل أن يأخذها بين ذراعيه :- كدت تبدين مسرورة لرؤيتى .
لم يحاول أوليفر أن يعانقها مرة ثانية، بل اكتفى باحتضانها بطريقة لا يمكن أن يظهرها الا رجل غارق فى الحب حتى اذنيه .
- أنا مسرورة حقا . أريد أن أعرف ما جرى .
- هل هذا كل شئ ؟
بقى ممسكا بيديها ، وابتعد عنها مسافة ذراع واحد لينظر اليها عن كثب ، وابتسم قائلا :- قبل كل شئ ، أخبرينى عن حالك. فى الواقع يا سيدة لانغفورد، بعد أن تخلصت من الغثيان الصباحى ، تبدين أكثر اشراقا يوما بعد يوم .
- أشعر بحال جيدة . ذهبت الى المنزل الكبير هذا الصباح ، ان لم يكن لديك مانع ؟
- على الاطلاق . هل جاءنا المزيد من الراغبين فى الشراء؟
- لا . أردت فقط أن أجيل النظر فيه واتخيلك فى طفولتك ...
وضع اصبعه بلطف على شفتيها :- دعينا لا نتكلم عن ذلك الان .
- جاءنى زائر وأنا هناك .
- من ؟
- ميلانى .
ارتخت يداه على جانبيه بتعب وكلل :- ماذا تريد ؟.
ابتعد عنها وذهب ليقف بجانب الموقد حيث النار مشتعلة .
- أرادت أن تراك .
- لأى سبب؟
- ليست لدى أى فكرة . قلت لها انى سأبلغك بزيارتها.
- حسنا، هذا جيد . سأتولى أنا الامر .
تكلم أوليفر بنبرة واقعية ، كما لو انه سيتولى أمر صفقة أعمال أو ما شابه . لكن آنا لم تتوقف عن التساؤل فى نفسها عما تعنى له ميلانى فى الحقيقة ، والى أى مدى ؟.
جلست آنا وقد لفت ساقيها تحتها فى زاوية احدى الارائك ، وقالت له :- أخبرنى عن روزمارى .
ارتمى أوليفر على احدى الارائك ، لكنه لم يستطع استعادة الهدوء فانحنى الى الامام ، شابكا يديه أمامه وهو يحدق فى رسم على السجادة .
ان اتهامه لآنا بسرقة ميراث العائلة قد تسبب له بقدر كبير من الالم والاسى والندم. اما الان ، وقد بات متأكدا بما لايقبل الشك من براءتها، فان الامه تضاعفت الاف المرات . أنى له ان يواجهها بعد الان من دون أن يشعر بالآسى مما تسبب لها من مهانة وحزن ؟ وكيف تراه يستطيع يوما التعويض عما فعله ؟.
أجاب باختصار :- لقد سرقت مفتاحا . كان والدى من النوع الذى يلتزم بعاداته ، فيحتفظ بالمفاتيح كلها فى المكان نفسه الذى كان يستعمله منذ ثلاثين سنة خلت . ومن ثم ، طلبت مساعدة ميلانى لتخرجنا نحن الاثنين من المنزل .
- أوه كان ذلك فى اليوم الذى ذهبت فيه لرؤية كريس . فى اليوم الذى ...
توقفت فجأة ، غير قادرة على الاستمرار ، فأكمل أوليفر عنها :- فى اليوم الذى ظننت فيه أنك حصلت على الفرصة لسرقتها . نعم أعلم ذلك ... كيف تمكنت من افساد الامور الى هذا الحد ، يا آنا ؟
- اعتقد أن استنتاجك كان منطقيا وطبيعيا .
كيف لها أن تظهر هذا القدر من التفهم بعد الطريقة التى عاملها بها ؟ اعترفت لنفسها بأنها لم تتوصل بعد الى مسامحته كليا على ما فعله لكنها من دون أدنى شك ، بدأت تشعر بالضعف أمامه شيئا فشيئا .
أقر أوليفر بنبرة حزينة :- لا، لم يكن استنتاجا طبيعيا البته بل أشبة باطلاق النار من دون النظر الى الهدف وتحديده . انه الجنون بعينه .
- من المفترض اننا نناقش موضوع روزمارى وليس موضوعى أنا ماذا كانت ردة فعلها حين قلت انك لن ترفع دعوى ضدها ؟ أمل فى انها كانت ممتنة لك كما تستحق .
- لا أعتقد انها ظنت ان الامور ستصل الى حد اتهامها . فقد انشغلت فى اقناع رجال الشرطة بان المجوهرات هى حق لها لآنها لاتزال زوجة ادوارد قانونيا .
- وهل نجحت فى ذلك ؟
- ليس حين قلت انه لم يترك لها فلسا واحدا فى وصيته وانهما منفصلان منذ ثلاثين سنة خلت . غير انى لم استطع تركها تدخل السجن ، رغم كرهى لها . طالما أنى سأستعيد الاغراض المسروقة ، لن أتابع القضية .
- انها محظوظة جدا .
هز أوليفر كتفية بانهزام :- يدهشنى أن اشعر بالاسى من اجلها . لقد ارتكبت خطأ جسيما عندما رحلت وتخلت عن والدى وعنى وأظنها قد أدركت ذلك الان . فهى اليوم لا عائلة لها بل حفنة من الاصدقاء ان كانت تعتبرهم كذلك ، وهى ليست بالصورة الجميلة المرضية والمشرفة لامرأة بمثل سنها .
- اذن أرادت التأكد من حصولها على نصيب من الميراث اليس كذلك ؟.
- اعتقد ذلك .
- هل كانت تخطط لبيع المجوهرات ؟
- نعم.
- أعتقد انى اشعر بالاسى من اجلها ايضا .
خطر لأوليفر أن آنا رائعة جدا فوحده الشخص النقى ، الصافى القلب يمكنه ان يسامح امرأة تسببت له بهذا القدر العظيم من الاذى والالم بشكل غير مباشر . اراد بشغف الذهاب اليها واحضانها وابقاءها بين ذراعيه الى الابد .
لكن عليه توخى الحذر وعليه التقدم خطوة خطوة بتأن وحكمة .
قال لها :- أخبرتها عن المنزل الجديد . وقلت لها اننا نرحب بزيارتها لنا فى أى وقت تشاء .
رفعت آنا حاجبيها بدهشة :- كان هذا لطفا وكرما بالغين منك
التوت شفتاه بامتعاض :- انها والدتى فى النهاية
- معظم الرجال كانوا سيديرون لها ظهرهم ويتخلون عنها خاصة بعد الحادثة الاخيرة .
- ربما كنت لافعل ذلك فى ما مضى . لكنك من علمنى وجعلنى أدرك أن التسامح ممكن دائما ، مهما يكن الجرم عظيما .
لم تجب آنا ولم يلمها على ذلك . بل وقفت قائلة :- سأطلب من السيدة غرين أن تعد لنا فنجانا من الشاى . هل تناولت غداءك ؟ لدينا حساء دجاج شهى جدا ..
قاطعها فجأة :- لا أشعر بالجوع . سأكتفى بالشاى أو بالقهوة ... أيا يكن ما ستحضرينه.
ابتسمت له آنا :- فنجان من الشاى بالنعناع اذن ؟.
تأوه وهو يصفق بيديه بمرح ويربت على جبينه لأنه نسى انها أقلعت عن تناول الشاى العادى الان فأجابها :- لا ليس بالنعناع من فضلك . سأشرب القهوة .
عندما خرجت من الغرفة ، رجع الى الوراء وأسند ظهره الى الكرسى وأغمض عينيه . لقد أجهده الحديث الذى أجراه مع روزمارى ، لكنه كان مسرورا لأنهما توصلا الى نوع من التفاهم والاتفاق لم يشأ البقاء قريبا منها اذ لم يشأ ان تستغله ، لكن من ناحية اخرى ما من أمم فى العالم تستحق الجفاء والبرودة من ابنها مهما فعلت .
فى الحقيقة لم يكن قادرا على استحضار صورتها من ذاكرته بوضوح أيام طفولته ، فهو لا يذكر سوى صورة ضبابية غير واضحة المعالم .
كانت تفوح منها رائحة جميلة ، ويبرق فى أذنيها قرطان جميلان ... هذا كل شئ . ان سلوك والده هو الذى أبقاه فى حاله نفور تام وامتعاض منها والان وقد رحل ادوارد فما الهدف من البقاء بهذه العدائية ؟
لكن افكاره لم تدر فى فلك والدته لوقت طويل فآنا هى التى تشكل همه الاول ومدار اهتمامه آنا والطفل . لم يكن قادرا على وصف ما خامره من أحاسيس لعلمه بانه سيصبح أبا .
سبق ان قال أوليفر لآنا انه يود الذهاب معها لحضور دروس ما قبل الولادة وما بعدها ،لكنه فى الواقع أراد ان يتعلم المزيد .
هل الابوة شئ طبيعى وغريزى ؟ لعل كتابا يشرح كيفية الاعتناء بالاولاد سيكون مفيدا؟
- بم تفكر ؟
لم يسمع آنا تدخل الغرفة مجددا . ففتح عينا واحدة ثم أغمضها بسرعة بعد أن قال :- كيف يصبح الرجل أبا .
- هل تظن أنه أمرا غير جدير بالتفكير ؟
- انه يخيفنى حتى الموت .
- وانا ايضا .
فتح عينيه على الفور ونظر اليها قائلا :- ليس لديك ما تخافين منه سـأكون الى جانبك فى كل خطوة من هذه المرحلة .
لم يصدق أوليفر سعادته عندما اقتربت منه آنا وجلست بقربه . انها المرة الاولى التى تأتى اليه فيها بكامل ارادتها ، فانحبست أنفاسه من شدة السرور واضطر مرغما على عدم التعمق فى فهم تلك الخطوة والذهاب بعيدا فى تحديد دلالاتها .
قالت تهمس له برقة :- أعلم أنك سترعانى وتهتم بى يا أوليفر.
- مادمت حيا .
وبقيا جالسين هكذا فى صمت وهدوء . كان خائفا من تخطى الحدود التى رسمتها له فاكتفى باحتضانها برقة وحنان وتمنى الا تشعر بتجاوب جسده معها وهى ملتصقة به هكذا لم يعلم الى متى يستطيع الاستمرار بلعب دور النبيل معها ، غير انه لم يرد ان ينهار أولا .
شعرا بنوع من الارتياح المر عندما دخلت السيدة غرين تحمل لهما شرابيهما . فانفصلا عن بعضهما بسرعة وبنوع من الشعور بالذنب.
لم تقل المرأة شيئا لكن ابتسامتها كانت مشرقة وهى تنظر اليه :- ها هو شرابك، مع الكعك بالفاكهة المفضل لديك .
ثم خرجت وهى تتراقص فى خطواتها من فرط سعادتها .
فالت آنا :- انها تظن أننا عدنا الى سابق عهدنا .
- يا لها من فكرة جميلة .
- لكنها سابقة لأوانها. هل تريد قطعة من الكعك يا أوليفر ؟
انتهت تلك اللحظات الفاصلة، وبدأت المرحلة الانتقالية مع الشروع بتلك الخطوة الاولى . لن تدعه يتخطى الحدود لكنه أحسن بالامل ينير حياته وطريقه ثانية .
**********************************
نهاية الفصل التاسع


الساعة الآن 02:13 AM

Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.