شبكة روايتي الثقافية

شبكة روايتي الثقافية (https://www.rewity.com/forum/index.php)
-   روايات أحلام المكتوبة (https://www.rewity.com/forum/f203/)
-   -   322-واحترق الجليد -هيلين بروكس - (كتابة /كاملة) (https://www.rewity.com/forum/t396745.html)

Just Faith 24-11-17 02:51 AM

322-واحترق الجليد -هيلين بروكس - (كتابة /كاملة)
 
بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

https://1.bp.blogspot.com/-zd3gc7Qm_...77513e4803.jpg

https://lh3.googleusercontent.com/kl...g=w130-h212-no


ازيكم أعضاء روايتي الحلوين والحلوات
اليوم مبارك بجد علينا وعليكم
عشرأعوام أكمل منتدنا من سنينه عشرة
قراءة ممتعة لكم جميعا





https://up.3dlat.com/uploads/13576556711.gif



هذه رواية واحترق الجليد من روايات احلام رقم 322

للكاتبة هلين بروكس

الملخص

واحترق الجليد !

كانت ماريغولد متلهفة الى قضاء عطلة الاعياد فى كوخ صديقتها ..

حيث لا ترى رجلا. لكنها بعد اصابة كاحلها اضطرت أن تصبح تحت رحمة جارها المتغطرس الوسيم الجراح فلين مورو ..

أخذ فلين مسؤوليتها على عاتقه واصر على ماريغولد كى تبقى معه ..

كانا وحدهما فى منزله الفخم. والعاصفة الثلجية التى كانت تعصف فى الخارج قابلتها عاصفة من نوع آخر بينهما. كان قرار ماريغولد البقاء عزباء سعيدة.
ولكن كيف تحافظ على قرارها هذا وهى فى قبضة آسرها
يجب ان ترد لمشاهدة المحتوى المخفي


الرواية منقولة شكرا لمن كتبها

Just Faith 26-11-17 04:09 PM

.
فصول الرواية
1- آنسة فى محنة
2- تحت رحمة الجلاد
3- من أنت
4- لقاء النار بالنار
5- غريب وزنبقتان
6- رجل الاحلام
7 - على أجنحة الشوق
8 - غيرة .. كراهية .. أم حب؟
9- اللعبة الخطرة

Just Faith 26-11-17 04:11 PM

.
1- آنسة فى محنة
- آه ، لا.. لا تفعلى هذا بى .. أرجوك .
وأغمضت ماريغولد عينيها فانسدلت أهدابها الكثيفة الداكنة على بشرتها العسلية الناعمة . ثم عادت وفتحتهما وأخذت تحدق امامها :- ما الذى تفعلينه بى يا ميرتيل ؟اننا بعيدتان أميالا عن أماكن السكن، والجو عاصف . لايمكنك أن تغضبى الان .. لم أكن أعنى ما قلته حين وصفتك قبل مسافة ميل أو ميلين بأنك سيئة الطبع .
لم يصدر عن السيارة الاثرية الصغيرة سوى صوت أشبة بسعال بسيط لكن ماريغولد علمت أن ميرتيل لن تتحرك من مكانها بعد الان عندما استقرت العجلات على الثلج الذى بلغت سماكته انشين وغطى الطريق أمامها .
عظيم ، عظيم تماما .. واخذت تحدق الى الثلج المتساقط الذى غطى زجاج السيارة الامامى بعد أن توقفت المساحتان عن العمل . بعد ساعة سيعم الظلام وهى تقف وحدها وسط مكان مجهول . لايمكنها البقاء فى السيارة خشية أن تتجمد حتى الموت هنا اذا لم يأت أحد لانقاذها، فهى لم تعد تلمح أثرا لاى منزل أو مكان مأهول منذ مسافة ليست بقصيرة .
مدت يدها تنتزع الخريطة التى كانت ترشدها الى الطريق المؤدى الى كوخ السكر متسائلة عما اذا كانت قد أخطأت فى الاتجاه . وأطمأنت الى أن الأمر لم يكن كذلك. كما أن ايما أنذرتها بأن الكوخ بعيد، وهذا ما أرادته ماريغولد بالضبط . لو ان بامكانها فقط أن تصل الى ذلك المكان .
ألقت نظرة على الخريطة مرة أخرى وهى تفكر بالمسافة التى يتوجب عليها أن تقطعها بعد لتصل الى الكوخ . قطبت حاجبيها فوق عينيها البنفسجيتين المليئتين بالحيوية. آخر مبنى تجاوزته قبل مسافة عشرة أميال هو ذلك المقهى الذى غطى القش سطحه ، الا انها قطعت منذ ذلك الحين حوالى .. ونظرت الى الخريطة متفحصة، لتقطع بعد ذلك عدة اميال فى طريق وعرة . ربما لم يعد الكوخ بعيدا جدا . على أى حال لم يعد أمامها خيار سوى قطع المسافة سيرا على الاقدام .
تأوهت من أعماق قبل أن تلتفت الى المقعد الخلفى حيث وضعت حقيبة ظهرها الجامعية القديمة وفيها حذاؤها الطويل ومعطفها الواقى من المطر، ذلك المعطف الذى يكاد يصل طوله الى اصابع قدميها . كما وضعت ايضا فى الحقيبة مصباحها اليدوى بعد أن الحت عليها ايما لأن الكوخ منفرد عن بقية المساكن وبعيدة عن الطريق العام .. وقد حذرتها ايما من انقطاع التيار الكهربائى بصورة مستمرة خلال فصل الشتاء .
أخبرتها ايما أن هناك منزلا فخما فى الناحية المقابلة من الوادى لكن الكوخ الصغير الذى ورثته عن جدتها فى الربيع الماضى بعيد بما يكفى لكى يشعر الشخص أنه منعزل عن العالم الخارجى .
أخذت ماريغولد تشجع نفسها بحزم وهى ترتدى معطفها الصوفى السميك وفوقه المعطف الواقى من المطر . ما من هاتف أو تلفزيون فى الكوخ فى الوقت الحالى فهذا ما أخبرتها به ايما وهى تعرض عليها الكوخ لتستعمله أثناء عطلة عيد الميلاد .. لأن جدتها كانت ترفض ادخال أى من هذه الاختراعات العصرية المشبوهة الى الكوخ الذى يغطى سطحه القش ! كانت العجوز تخبز خبزها بنفسها ، وتربى بضع دجاجات وبقرة فى المرعى القريب منها. وبعد أن مات زوجها بقيت وحدها فى بيتها حتى رحلت بسلام أثناء نومها وهى فى الثانية والتسعين من العمر تمنت ماريغولد لو أنها تعرفت الى جدة ايما تلك .
راحت تملأ حقيبة ظهرها بأكياس البقالة المكومة على مقعد السيارة بجانبها . عليها أن تترك خلفها حاليا حقيبة ثيابها وكل شئ آخر .اذا تمكنت من الوصول الى الكوخ هذه الليلة فستسوى أمورها غدا بشكل ما . لو لم تترك هاتفها الخلوى فى شقتها فى لندن لكان الامر مختلفا الان . لكنها كانت قد اجتازت معظم الطريق الى هنا عندما تذكرت أنها نسيته بالقرب من سريرها فى البيت والوقت فات حينها على العودة لاحضاره .
آخر ما قامت به قبل أن تترك سيارتها هو دس الخريطة التى ترشدها الى كوخ السكر فى جيبها ثم نزلت من السيارة وأقفلتها لتنطلق فى طريقها .
الوصول الى الكوخ أثناء عاصفة ثلجية لم يكن شيئا يذكر مقارنة مع ما عانته فى الاشهر الاخيرة ، هكذا حدثت ماريغولد نفسها. سيكون عيد الميلاد هذه السنة خارجا عن المألوف ومختلفا بكل تأكيد عن ذلك الذى كانت ستمضيه مع دين . لاشك أن دين يستمتع الان مع تامارا بشمس الشاطئ الكاريبى .
وكانت هى قد اختارت هذه الجزر كوجهة لهما فى شهر العسل قبل ان يفترقا لم تصدق أذنيها حين أخبرها أنه سيأخذ تامارا فى اجازة الى المكان الذى اختارته بنفسها لقضاء شهر عسلهما فقد شعرت أن فى ذلك خيانة تفوق كل تلك الاكاذيب التى صدرت عن دين .
عندما لمح أحد أصدقائهما الى ما يجرى بينه وبين تامارا شعرت برغبة فى الذهاب الى منزله لتسس ضربة موجعة الى فكه . الا أنها لم تقم بذلك طبعا بل لاذت بالعزلة والصمت منذ ألقت بخاتم الخطوبة فى وجهه وهى تخبره أى مخلوق وضيع هو.
شعرت بالدموع توشك أن تسيل من عينيها ما جعلها تصرف بأسنانها فقد أصبح انهمار دموعها أمرا مألوفا فى الفترة الاخيرة . لامزيد من البكاء .. لا مزيد من النواح على ما مات وانتهى. تعهدت لنفسها بذلك منذ أسبوعين ، وهى تفضل الموت على أن تعود عن قرارها هذا . لم تعد ترغب بأى علاقة مع الجنس الاخر فى المستقبل المنظور. واذا وجدت أن الكوخ يقع حقا فى الغابات البعيدة على العمران كما قالت ايما، فستعرض عليها أن تشتريه منها الان . فقد أخبرتها ايما انها ستعرضه للبيع فى مطلع السنة الجديدة .
بدأت ماريغولد تسير غير واعية لقطع الثلج التى تتطاير حولها كأفكارها منذ انفصالهما هى ودين، فى نهاية الصيف أدركت أنها تحتاج الى تغيير كامل فى أسلوب حياتها.
ولدت ماريغولد ونشأت فى لندن، ثم التحقت بالجامعة لدراسة الفنون. فى السنة الاخيرة من دراستها بدأت بالخروج مع دين . وبعد انتهاء دراستها وجدت وظيفة براتب جيد فى شركة صغيرة مختصة بالفنون التخطيطية وعندما قررت الشركة تنويع انتاجها لتصدر كل أنواع بطاقات المعايدة، نالت ماريغولد ما تستحقه من تقدير بسبب معلوماتها الشاملة عن العمل والتى اكتسبتها أثناء سنوات تدريبها فأصبحت تعمل بمفردها وشعرت بالساعادة لذلك. فى ذلك الوقت بالتحديد عرض عليها دين الزواج.. كان ذلك منذ أحد عشر شهرا. يومها ظنت أن مستقبلها قد استقر الى أن ظهرت تامارا جيمس على مسرح الاحداث .
وكأن التفكير فى الفتاة الاخرى أصابها بالنحس اذ سرعان ما وجدت نفسها ملقاة على الارض بعد أن تعثرت قدمها بفجوة فى الطريق الوعر خفف الثلج من حدة سقوطها الى حد ما ، لكن عندما حاولت الوقوف ثانية، تبين لها أنها لوت كاحلها ما جعلها تكشر من الالم. تبددت كل الافكار التى كانت تدور فى رأسها حول ايجاد استديو صغير فى مكان بعيد ، حيث يمكنها أن تعمل بحرية لشركتها الحالية أو لسواها . سارت مدة عشر دقائق وهى تعرج قبل أن تسمع صوتا سحريا لسيارة خلفها بدا لها وكأنها تسير منذ عشر ساعات لشدة الالم فى قدمها.
كان ضوء النهار مازال ساطعا، ومع ذلك دست يدها فى حقيبة ظهرها وأخرجت مصباحها الكهربائى منتقلة الى جانب الطريق المغطى بأكوام الثلج لم تسنطع أن تجازف بان يغفل عنها سائق السيارة القادمة فى مثل هذا الجو القاسى.
كانت السيارة الضخمة ذات قوة الدفع الرباعية تخترق الثلوج بغطرسة ملوكية. رآها السائق حتى قبل أن تضئ مصباحها وتلوح به بذعر.
- آه، شكرا، شكرا.
كادت تقع مرة أخرى وهى تعرج متعثرة لتصل الى النافذة المفتوحة بجانب السائق:- تعطلت سيارتى ولا أدرى كم يتوجب على أن أسير بعد ثم وقعت ولويت كاحلى ...
- لا بأس ، تمهلى ، تمهلى .
لم تكن اللهجة الباردة العديمة الصبر ما لفت انتباهها، بل وسامة هذا الرجل الاسمر الضخم الجالس خلف المقود . بدا ذا وسامة خشنة نوعا ما ، لكن عينيه الرماديتين الباردتين اللتين تشبهان حجر الصوان فى قوتهما جعلتاها لا تعرف ما تقول .
- اذا ، تلك السيارة المتوقفة هناك هى سيارتك ما يعنى أنك ذاهبة الى كوخ السكر.
حملقت فيه ماريغولد بغباء :- أحقا؟ ولماذا ؟.
- لأنه البيت الوحيد فى الوادى بالاضافة الى بيتى . لذا لابد أنك ايما جونز ، حفيدة ماغى.
بدا صوته وهو يقول ذلك باردا كالثلج.- أنا ...
- علمت أنك جئت مرة لرؤية الكوخ عندما كنت خارج البلاد وأسفت حينذاك لأن رؤيتك فاتتنى. مع ان هذه الكلمات بدت ودودة فى ظاهرها لكن اللهجة التى قيلت بها لم تكن كذلك على الاطلاق. وطرفت ماريغولد بعينيها ازاء هذا العداء الظاهر.
وقال الرجل بحقد ناعم:- عاهدت نفسى يومها أن أخبرك رأيى بأسرتك ما ان تسنح لى الفرصة لذلك .
- اسمى مورو .
- اسمع يا سيد مورو، أظن أن على أن أوضح ...
- توضحين؟
كانت ماريغولد قد سمعت عن مواقف يتمكن فيها شخص ما من تجميد شخص آخر الىحد يجعله عاجزا عن الكلام، لكنها لم تختبر ذلك قبل الان تحرك الرجل فى مكانه قليلا، وعندما نظر اليها كانت عيناه الرماديتان قد تحولتا الى اللون الفضى وهو يتابع ببرودة :
- توضحين ماذا؟ السبب الذى منع أفراد اسرتك، بمن فيهم أنت، من أن يأتوا لزيارة سيدة عجوز خلال الاثنى عشر شهرا التى سبقت موتها؟ هل افترضتم أن رسالة أو أثنتين، أو مكالمة هاتفية بين حين وأخر الى البقال الذى يرسل البقالة كل اسبوع، كافية لارضائها؟ الرسالة التى تمر من شخص لآخر الى ان تصل اليها لايمكن ان تقارن بالاهتمام الشخصى يا انسة جونز. آه أنا أعلم أنها كانت صعبة وعنيدة وقاسية الكلام الى حد يجعلك ترغبين بشنقها، ولكن الم يدرك أى منكم أن اللهفة الى الاستقلال والكبرياء يكمنان خلف ذلك؟ كانت عجوزا فى الثانية والتسعين من عمرها، بحق الله! الا يملك اى منكم احساسا أو بعد نظر ليدرك أنها، خلف غرابة أطوارها، كانت متلهفة الى أن يخبرها أحد بأنها مازالت امرأة عزيزة محبوبة؟
- يا سيد مورو...
تابع بعنف :- ولكن كان من الابسط والاسهل بالنسبة اليكم أن تمحوا ذكرها بصفتها عنيدة، وبذلك يمكنكم جميعا متابعة حياتكم الحسنة المنظمة بضمائر نظيفة غير ملطخة بالعار .
بدأ الغضب يغلى داخل ماريغولد بسبب غطرسته ورفضه اعطائها فرصة للكلام. بدا واضحا انه يغلى غضبا لما اعتبره اهمالا من أسرة ايما نحو تلك العجوز لمدة طويلة جدا لكنه لم يعطها فرصة توضح له فيها من هى وماذا تفعل هنا.
- انت لا تفهم أنا لست ...
- مسؤولة؟
مرة أخرى قاطعها وعيناه تلمعان كالزجاج المصقول :- من السهل جدا الفرار من المسؤولية يا انسة جونز. قد يناسبك أن تحيطى نفسك بجو أنثوى برئ فى وضعك الحالى، لكن هذا لن يخدعنى لثانية واحدة! وبينما أنت تفكرين فى ما ستربحينه من بيع بيت جدتك، ذلك البيت الذى كافحت طويلا فى سبيل الحفاظ عليه، أذكرك بأن عليك أن تفكرى بمقدار التعب والعرق والدموع التى بذلتها المسكينة لكى تبقى هنا طوال حياتها. فبسببك أنت وأفراد أسرتك التعيسة، ذرفت العجوز المسكينة الكثير من الدموع فلا تخدعى نفسك بمحاولة التهرب من المسؤولية.
قالت ماريغولد وقد شعرت برغبة فى ضربه:- ليس لديك الحق فى ان تتحدث الى بهذا الشكل.
- لا؟ ألست أنت من تتوق الى بيع رمز كرامة العجوز، البيت الذى جاهدت طويلا لكى تحتفظ به؟
فتحت ماريغولد فمها لكى ترد عليه بجواب مناسب لكن سرعان ما خطر فى بالها أن هذا فعلا ما كانت ايما تنوى أن تفعله، فأفحمها هذا. راح الرجل يحدق اليها بنظرة حادة مهلكة :
- هذا ما ظننته لا أصدق أن دم تلك السيدة العجوز الشجاعة نفسه يجرى فى عروق امرأة مثلك. بصراحة، أنت وبقية افراد أسرتك لا تستحقون أن تلعقوا حذاءها .
حدقت ماريغولد اليه من خلال رقع الثلج المستقرة على رموشها .وأوشكت ان تخبره بأن لا صلة لها بجدة ايما، ولا يجرى فى عروقها الدم نفسه. لكن الغضب الذى يغلى فى داخلها تفجر الان. فليظن ما يريد هذا المتغطرس! انها تفضل أن تجاهد فى سيرها طوال الليل على أن تطلب منه العون أو تشرح له انه مخطئ . هذا الرجل مخيف رغم صحة ما قاله حسنا يمكن أن ينطلق فى طريقه بسيارته الفخمة الدافئة، فهى لن توضح شيئا لهذا المتعفن المهترئ ...
- أليس لديك ما تقولينه ، انسة جونز ؟
انتصبت ماريغولد بقامتها البالغة من الطول مئة وستين سنتيمترا لم تتمن قط من قبل لو أن قامتها أطول بخمسة عشر سنتيمترا كما تتمنى الان .
أجابته قائلة :- أبدا كنت فقط أتساءل عما اذا كان شخص مقزز مثلك يستحق أن أضيع الوقت بالحديث معه، وهذا كل شئ.
لوى شفتيه بشبه ابتسامة قاسية وقال:- أحقا؟ وماذا قررت ؟.
حملقت فيه وقد تألقت عيناها الزرقاوان بقوة، بسبب اضطراب مشاعرها. ثم استدارت لتكمل طريقها محاولة الا تعرج بالرغم من الالم المبرح فى كاحلها. وبدا أن الالم قد ازداد بعد أن أراحت قدمها لعدة لحظات.
سمعت صوت هدير المحرك خلفها، وتوقعت أن تمر السيارة بجانبها عبر الثلج التساقط لكن السيارة تمهلت فى سيرها ما ان أصبحت بمحاذاتها، مجارية مشيتها العرجاء. عضت شفتها بشدة لكنها لم تحول وجهها عن البساط الابيض الذى يمتد أمامها .
قال لها الرجل بصوته الكريه :- قلت انك وقعت ولويت كاحلك .
تجاهلته وهى تكاد تنفجر باكية .
- اصعدى.
بدت فى صوته نبرة واضحة من نفاد الصبر لكنها تجاهلته مرة أخرى، ونظراتها متجهة الى الامام بحزم .
- يا انسة جونز، على أن أخبك أنك محظوظة للغاية. فلو لم يكن لدى موعد ضرورى اليوم لما خرجت من المنزل هذا الصباح ولا أحد غيرى يمر على هذا الطريق بينما الكوخ مازال بعيدا مسافة ميل أخر على الاقل هل أنا بحاجة الى أن أقول المزيد ؟
فأجابت وهى تصرف بأسنانها :- اذهب الى الجحيم !
سادت بينهما لحظة صمت ، ثم قال لها ببطء واستخفاف:-فى حالتنا هذه، يحتمل أن يحدث ذلك لك وليس لى هيا، اصعدى الى السيارة يا آنسة جونز ودعينا ننهى هذه المسرحية. ربما لا يرضيك أن تسمعى الحقيقة ولو مرة واحدة فى حياتك، لكنك كبيرة بما يكفى وأنا واثق من أنك صلبة وقادرة على التحمل .
- أفضل أن أتجمد حتى الموت على أن أقبل مساعدتك .
والتفتت لحظة اليه تواجه عينيه الرماديتين الغاضبتين بتمرد :- هذه سخافة منك.
- حسنا ، هذه صفة أخرى تضيفها الى قائمة ذنوبى، أليس كذلك ؟
- اصعدى الى السيارة .
ونسيت ماريغولد نفسها وراحت تستعمل الشتائم كما لم تستعملها فى حياتها من قبل . أيظن هذا الرجل أن بامكانه أن يصدرلها أوامره ، ويخبرها بما عليها أن تفعله بعد أن حدثها بتلك الطريقة؟ حسنا ، ربما يظنها ايما لكنه يعرف أنها كانت تطلب العون وأن كاحلها مصاب بالتواء، ومع ذلك تركها واقفة تحت الثلج المنهمر وأخذ يلقى عليها محاضرة عن مسؤولياتها العائلية. لاشئ .. نعم لاشئ يمكنه أن يقنعها بقبول أى نوع من المساعدة من هذا المتكبر .
- لا تجعلينى أرغمك على الصعود الى السيارة يا آنسة جونز .
صاحت به هازئة: - أتظن أن بامكانك القيام بذلك؟
- آه نعم.
قال هذا ببرودةوهدوء وفى صوته شئ من الوعيد . لكن الازدراء الذى رافق كلماته والغطرسة التى ظهرت منه أثارا غضب ماريغولد ما جعلها تستمر فى سيرها رافعة رأسها المغطى بقبعة المعطف الواقى من المطر.
اذا تجرأ ووضع عليها اصبعا .. اصبعا فقط ، فسوف يواجه موقفا لم يكن يتوقعه. أخذت تفكر فى ذلك وهى تتابع سيرها بصمت بينما عادت السيارة تسير بمحاذاتها .
- كانت جدتك امرأة فريدة من نوعها.
تجاهلته ماريغولد كليا:- من أجلها، لاأنوى أن أترك ابنة أبنها الوحيدة تتجمد، وان كان هذا ما تستحقينه بالضبط .
- كيف تجرؤ!
حملقت فيه مرة أخرى وقد ضاقت عيناها وراحتا تقذفان لهبا أزرق لكن شفتيها بدتا شاحبتين من الالم الذى تحاول أن تخفيه، كما ظهر على وجهها شحوب الموتى .حدق اليها لحظة، فاستوعبت عيناه الثاقبتان ما تعانيه من ألم. عندئذ، تأوه بضيق قبل أن يقفز من سيارته بشكل باغتها . ولم تشعر الا وهو يحملها بين ذراعيه وكأن لا وزن لها على الاطلاق .
- ما الذى تفعله بحق الله ؟ أتركنى فورا !
أخذت تقاومه بعنف وهو يضمها الى صدره الصلب .
- أهدئى .
تمتم بذلك ساخطا وهو يدور حول السيارة ليضعها فى المقعد الامامى بشئ من الخشونة. وعلى الفور حاولت ماريغولد أن تندفع الى الخارج واذا بها تمسك بكاحلها المصاب وتصرخ من الالم من دون وعى .
فصرف بأسنانه :- أحذرك يا آنسة جونز لدى حبل فى الخلف وأنا على استعداد لأن أربطك به من دون تردد هل فهمت ؟ ستجلسين هنا بهدوء حتى نصل الى كوخ ماغى. بعدئذ سأكون مسرورا بأن أتخلص منك وهكذا أكون قد أتممت واجبى .
- أنت حقير !
هذا كل ما استطاعت قوله بسبب الالم الذى أصبح الان شديدا بالاضافة الى الصدمة التى تملكتها فى اللحظات الاخيرة لابد أن طول هذا الرجل يبلغ مئة وتسعين سنتيمترا .اقتنعت ماريغولد بأن ليس لديها القدرة على قتال هذا الرجل القوى أما وسامته فبدت عنيفة من دون أى أثر للرقة فيها على الاطلاق .
كان الرجل يرتدى كنزة صوفية سميكة، وقد بدا وجهه الذى لوحته أشعة الشمس داكن السمرة وملامحه فبدت تقاسيمه وسيمة للغاية أما عيناه الرماديتان الفضيتان فبدتا أكثر بروزا تحت حاجبين أسودين وشعر فاحم .تدلت احدى خصلاته على جبينه .
أنه .. حسنا ، أنه مذهل تماما كما أخذت ماريغولد تفكر بضعف بعد أن صفق باب السيارة بجانبها .أخذت تنظر اليه وهويدور حول السيارة ثم يصعد اليها فانكمشت فى مقعدها من دون وعى وهو يجلس بجانبها خلف المقود .
لم يظهر عليه أنه لاحظ حركتها الغريزية تلك . فانطلق بالسيارة اذ لم يقم باطفاء المحرك حين نزل منها. وقال :- هل رتبت أمر أرسال الطعام والوقود اليك فى الكوخ ؟
لا، فماريغولد لم تكن تعلم أن بامكانها ذلك. وايما لم تذكر لها هذا الامر عندما عرضت عليها قضاء اجازة الاعياد فى كوخها. منذ أسبوعين ، أخبرت ماريغولد صديقتها أنها تكره طريقة أسرتها المبالغ فيها فى الاحتفال مع أن والديها يستمتعان بذلك ..اذ يمتلئ منزلهما الفخم بالاصدقاء والاقارب خلال اجازة رأس السنة فيغدو أشبة بالمضافة .
فى العادة يبدو الامر رائعا ولكن بما أنها فسخت خطبتها وألغت عرسها منذ فترة قريبة، فأن مشاركتها فى هذا الاحتفال لم تبد لها فكرة حسنة . سيحاول الاخرون أن يكونوا لبقين معها وكأنهم يدوسون على البيض ... وستشعر بتعاطفهم واشفاقهم عليها... مسكينة .. مسكينة ماريغولد! الى ما هنالك.. وعندما أخبرت صدقتها أن والديها يتوقعان منها أن تذهب الى البيت لقضاء فترة الاعياد، سألتها ايما :
- لماذا لا تخبريهما أنك ستقضين فترة الاعياد برفقة صديقة لك فى كوخ رائع ، فيه مدفأة حطب وكل ما يحتاجه المرء للاحتفال بالعيد؟ أنا أفهم قلقهما حيال بقائك وحدك فى شقتك. ولكن اذا قلت لهما انك ستذهبين مع صديقة لك ... على أى حال سألحق بك بعد انقضاء العيد بيومين لأكتب قائمة بالاثاث والاغراض الاخرى، وبهذا لن يكون ما تقولينه كذبا فى الواقع .
نبذت ماريغولد من رأسها ما يذكرها بأنها تدعى أنها ايما . وأجابت الرجل الذى يجلس بجانبها باختصار :-لا .لم أفعل .
- ومتى استعمل الكوخ آخر مرة ؟ لم تكن تعرف ذلك أيضا . فكرت بسرعة ثم قالت : - مؤخرا .
فقال ببرودة :- هل مؤخرا تعنى أشهرا أم أسابيع ؟ .
أرادت أن تقول له أن يهتم بشؤونه الخاصة ولكن نظرا للظروف الحالية لم يبد هذا ملائما. وتذكرت أن ايما قالت لها ذات مرة ان الكوخ قد يكون رطبا باردا فى الشتاء لأنها لم تزره سوى فى الصيف فقالت :- أشهرا .
أومأ ولم يضف أى كلمه ثم ركز اهتمامه على الطريق أمامه لم يكن يظهر من الطريق سوى سحب من قطع الثلج تدور بسرعة.بدا المشهد خياليا كما فى الحكايات من داخل السيارة المريحة الدافئة هذه. واعترفت ماريغولد لنفسها بارتياحها الشديد لأنها لم تعد مضطرة لمكافحة ما كان يستحيل بسرعة الى عاصفة ثلجية.
ومع اعترافها هذا شعرت بوخزة من الندم لسوء طبعها، قبل ان تذكر نفسها بأن ليس عليها أن تشعر بالذنب! فقد خرج حديث هذا الرجل معها عن حدود التهذيب .. حتى ولو كان يعتقد أنها ايما ومهما كان مقدار حبه واحترامه للعجوز، فذلك لا يعطيه الحق فى التهجم عليها كما فعل .
جازفت بالقاء نظرة جانبية بطيئة عليه من تحت أهدابها واعية الى أن المياه تتساقط من معطفها الواقى على المقعد وأن الثلج الذائب من حذائها شكل بحيرة تحت قدميها .
بدا وجهه صلبا وكأنه قد من صوان . وفجأة انتبهت ماريغولد الى أنها الان تحت رحمة هذا الغريب العنيف، فابتلعت ريقها .
- لا داعى لكل هذا التوتر فأنا لن أمس حفيدة ماغى بأى أذى يمكنك أن تسترخى فلا أنوى سلبك أو الاعتداء عليك .
تخلل ذلك الصوت العميق نبرة تدل على التسلية فاحست ماريغولد وكأنه طعنة أصابتها فى ظهرها. تراجعت الى الخلف فى مقعدها وتوهج وجهها الذى كان منذ لحظة شاحبا وقالت كاذبة بصوت حاد : - هذا بعيد كل البعد عن افكارى.
صدر عنه صوت خافت مثقل بعدم التصديق . يا له من رجل مقزز . وزمت شفتيها اللتين تبدوان عادة ممتلئتين، فأصبحتا خطا واحدا ، وحذرت نفسها من ان تجيب على سخريته هذه بعد فترة قصيرة سيصلان الى الكوخ فيرحل عنها . عندئذ ستغسل قدمها وتربطها، ثم تتدبر أمر منامتها هذه العاصفة الثلجية لن تستمر الى الابد وعند الصباح ستتوجه الى سيارتها ميرتيل وتحاول احضارها والا ...
حسنا، ستحضر حقيبة ثيابها وأكياس الطعام، بالاضافة الى الفحم والاغراض الاخرى التى أحضرتها معها كان الثلج يزداد تراكما وكاحلها يزداد ألما مع مرور الوقت كما أصبح متورما بحيث تساءلت ان كان بامكانها أن تخلع حذاءها .
كانت الطريق قد بدأت بالانحدار منذ النقطة التى سمعت فيها صوت السيارة تقريبا والان وبعد أن استدار حول المنعطف فى الطريق المتعرج رأت ماريغولد أنهما وصلا الى واد مكسو بالغابات فلاح لها من بعيد ما يمكن أن يكون كوخ ايما كان على بعد حوالى خمسين ياردة من الطريق تحيط به حديقة مسيجة.
كان الكوخ مطليا باللون الابيض وقد بدا سطحه الحجرى الاكثر بروزا فى عاصفة الثلج هذه . تنهدت باتياح وحركت كاحلها المصاب باحتراس عالمة أن عليها ان تخرج من السيارة ثم تسير الى باب الكوخ خلال ثوان تملكها القلق وهى تشعر بأول طعنة ألم لكنها حدثت نفسها مرة أخرى بأنه سيصبح على ما يرام حالما تربطه .
قال الرجل بلهجة لاذعة :-هوذا ارثك .
فاستدارت تنظر الى جانب وجهه القاسى وسألته بهدوء: - ما الذى جعلك تعتقد أنه معروض للبيع ؟
- حسنا عدا عن أنك وأسرتك لم تظهروا أى أهتمام به فقد سمعك البعض تتحدثين عن ذلك بين الناس عندما جئت من قبل.
فسألته باشمئزاز واضح:- أولئك الذين يسترقون السمع الى الاحاديث الخاصة ثم يذيعونها بين الاخرين ؟
هزه قولها هذا كما يبدو :- مما سمعته هذه الاحاديث الخاصة لم تكن سرا بل صرحت بها أنت ورفيقك بصوت مرتفع اذا لم تريدى أن يسترق الناس السمع الى أحاديثك فأخفضى صوتك كما أن التعليقات عن الفلاحين الاجلاف لاتكسبك أصدقاء فى هذه الانحاء أيضا .
منذ تعرفت الىصديقها الحالى ذلك الشاب البالغ الغرور الدائم التجول بسيارته الرياضية تغيرت كثيرا .كانت السيارة لحسن الحظ قد توقفت لتوها أمام بوابة الحديقة الصغيرة ما وفر عليها جهد البحث عن جواب تنفست بعمق وهى تدعو الله أن ينتهى كل هذا فى الحال والأ تضطر الى رؤية هذا الرجل بعد الان :- شكرا لآنك أوصلتنى .
قالت هذا بجفاء بينما راحت قطرات الماء تتساقط من قبعة المعطف فوق أنفها . رد عليها بتهكم بالغ وهو يساعدها على تعديل حقيبة ظهرها بعد أن نزل من السيارة متجها الى ناحيتها ليفتح لها الباب:- بكل سرور.
أدهشها تهذيبه هذا خصوصا بعد ما كان من حديثهما وزاد فى ارتباكها جاذبيته السمراء التى حاولت تجاهلها فى الدقائق الاخيرة كانت تود أن تتجاهل يده الممدودة أيضا لكن نظرا لشدة ألالم فى كاحلها قررت أن تلزم الحذر وهى تنهض واضعة كل ثقلها على قدمها السليمة .
كانت قد خلعت قفازيها المبللين ودستهما فى جيبها وضعت يدها الصغيرة فى يده الضخمة واذا برجفة صغيرة غير مرغوب فيها تسرى فى كيانها ترددت لحظة وهى تتساءل كيف ستتمكن من النزول على كاحلها المصاب وعما اذا كان عليها أن تستند اليه الان لكى تستطيع النزول على القدم السليمة .
سألها بفتور :- ما مدى الألم الذى تشعرين به ؟
يبدو أنه لاحظ ترددها وتكهن بسببه رغبت فى اقناع هذا الرجل الفظ ، العديم الرحمة بأنها بأتم خير ولم تعد بحاجة الى عونه ولو لدقيقة واحدة فنزلت من السيارة آملة أن يتحمل كاحلها ثقلها خلال تلك اللحظة القصيرة التى تحتاجها لنقل ثقلها الى القدم السليمة. وخاب أملها .. ترنحت من جانب الى آخر عدة لحظات وهى تشعر بألم لا يحتمل كان الرجل لا يزال ممسكا بيدها فتأرجحت وكأنها دمية مصنوعة من الخرق، فيما وقعت قبعتها عن رأسها وهى تندفع نحوه وكاد هو أيضا يفقد توازنه لكنه تماسك فى الوقت المناسب ثم ضمها اليه فى ثوان .
لطالما أزعجها شعرها المنسدل الحريرى الناعم الذى يرفض أن يتجعد أو يرتفع فوق الرأس بأناقة وجمال . أما الان، عندما سقط فوق وجهها متأرجحا فقد تملكها السرور لهذا الستار الذى أخفى وجهها.
راح مورو يشتم بصوت خافت عندما هدأ العالم من حولها وتلاشى صوته هدأت نفسها وأعادت خصلات شعرها الى الخلف ونظرت اليه. كان هو ايضا ينظر اليها ووجهه لا يبعد عن وجهها سوى بضع انشات. رأت أن فمه أكثر جمالا مما ظنته للوهلة الاولى وقد أضافت الخطوط المحفورة على بشرته السمراء عمقا الى وسامته كما أن أهدابه ، التى لم تلاحظ من قبل مدى طولها وكثافتها، أضفت على وجهه جمالا مميزا.
شعرت ماريغولد بأعصابها تخزها وأنذرها شعور غامض من البقاء بين ذراعيه فأبعدت جسمها قليلا عنه وهى تقول لاهثة :- أنا بخير الان .. أنا آسفة لقد زلت قدمى فقط ...
- هل يمكنك أن تمشى؟
كانت عيناه تنتقلان بين شعرها وعينيها البنفسجيتين ، كما بدت فى صوته نبرة غامضة لم تسمعها فيه من قبل فسببت لها احساسا غريبا أرسل الاضطراب فى كيانها .
- نعم ، نعم .
حاولت أن تبرهن له ذلك بتخليص نفسها منه، ومحاولة السير ولو خطوة واحدة، لكن الذعر تملكها عندما أدركت أن تلك الفترة القصيرة التى أمضتها من دون حركة فى السيارة جعلت ألم الكاحل أسوأ بأضعاف مما كان عليه من قبل .
أبيضت شفتاها ألما واذا بمورو يطلق شتيمة أخرى ويحملها بنفس السهولة التى حملها بها على الطريق. احتضنها الى صدره القوى بشدة للمرة الثانية وسار بها الى البوابة التى رفسها من دون أى أعتبار لممتلكات ايما وتابع السير على الممر المغطى بالثلج الى الباب الامامى .
لم ينظر اليها مرة اخرى الى ان وصلا الى الباب ثم قال بأختصار:- المفتاح ؟ .
- ماذا ؟
رأت ماريغولد شفتيه تتحركان وسمعت الصوت ولكن لامر ما لم تفهم ما يقول كانت واعية لاحتضانه لها ولشخصيته المتحكمة القوية وللرائحة الحلوة الغامضة لعطر ما بعد الحلاقة الذى يضعه وبهت كل شئ آخر فى نظرها .
- المفتاح ، للباب .
قال هذا بصبر وبنبرة هازئة جعلتها تستيقظ من ذهولها، وكأنما دلوا من الماء البارد قد انسكب عليها .
وتوهج وجهها:- آه نعم طبعا عليك أن تضعنى على الارض انه فى جيبى ولا يمكننى أن أصل اليه .
- قفى على قدم واحدة وسأمسكك ولا تحاولى أن تمشى الا بعد أن نلقى نظرة على ذلك الكاحل .
نلقى ..؟ نلقى ..؟ لو لم يكن نبضها يتسارع بجنون وحلقها جافا بشكل غريب لتحدته لقوله ( نلقى) بالجمع ولكنها بدلا من ذلك وقفت فى وضعية تشبه وضعية طائر الفلامنغو البحرى أنزلها الى الارض برفق. فأخذت تبحث عن المفتاح كانت واعية بشكل هائل الى يديه على خصرها ورغم أنها حدثت نفسها بأنه مضطر الى وضع يديه عليها لاسنادها الا ان ذلك لم يسكن توترها .
بدا مورو بالغ الرجولة كما أخذت تفكر شاردة الذهن ليس فقط لأنه ضخم الجثة بل لأن جسمه يضج بالحياة بدا طويلا جدا صلبا جدا ووسيما قوى العضلات انه فى الواقع كبير فى كل شئ بشكل يثير الاضطراب ويوتر الاعصاب الى أقصى حد .
- ها هو ذا
عدل من وقفته قليلا واضعا ذراعه حولها يسندها الى جسمه القوى، واخذ المفتاح من اصابعها الواهنة حدثت نفسها بشكل محموم بأنه من السخافة أن تشعر بالاضطراب بسبب قربه منها بهذه الطريقة فالرجل يحاول أن يساعدها فى محنتها فقط .
عندما انفتح الباب عاد يحملها ليدخلها الى ردهة صغيرة مربعة حيث ضغط على زر الانارة بجانب الباب. بدا واضحا أنه يعرف طريقه فى أنحاء الكوخ أثبت لها هذا فى اللحظة التالية عندما فتح بابا الى يمينها وأضاء النور ثم دخل الى غرفة جلوس مليئة بأثاث ثقيل قديم تفوح منه رائحة رطوبة كريهة كان الجو خانقا وباردا للغاية ووضعها على الاريكة أمام مدفأة خالية .
بدا منظر الكوخ أمامها فظيعا نظرت ماريغولد بيأس الى بيتها المؤقت.. انه فظيع تماما، وفى غاية البرودة لاشك أن غرفة النوم باردة ايضا كالثلج ماذا يمكنها أن تفعل ؟ ونظرت بطرف عينها الى الرجل الذى كان واقفا بجانبها، فاذا به ينظر اليها مقيما حالتها بعدم ارتياح .
فقالت ببشاشة :- هذا جميل حسنا أظن أن بأمكانى أن أتدبر أمورى بشكل ممتاز الان شكرا وانا واثقة من أنك تريد أن تذهب الى بيتك ..
- ابقى هادئة ريثما أشعل المدفأة المكان أشبه بثلاجة لعينه سنفحص كاحلك بعد قليل . واختفى من الباب تاركا لها المجال لتنظم أفكارها . سمعت بابا آخر ينفتح ثم ينغلق فنادت بيأس :- ياسيد مورو ! أرجوك يمكننى أن أتدبر أمورى الان وأنا أفضل كثيرا أن أبقى وحدى هل يمكنك أن تسمعنى يا سيد مورو؟.
مضت دقيقة أو نحوها قبل أن يعود بدا وجهه مكفهرا كالرعد، وقال :- لايوجد فحم أو حطب فى المخزن هل كنت تعرفين ذلك ؟. قال هذا بلهجة الاتهام خطر لها أن تخبه أن ايما وأوليفر أشعلا النار فى المدفأة كل ليلة عندما كانا هنا .. وقد قالت لها ايما بصوت كهديل الحمام:- كان ذلك شاعريا جدا يا عزيزتى وأوليفر يعشق الأجواء الشاعرية .
لكن مارغولد قالت : هناك بعض الفحم فى سيارتى .
- لكن سيارتك ليست هنا.
- يمكننى أن أحضره عند الصباح .
اغمض عينيه لحظة وكأنه لا يصدق أذنيه قبل أن يعود فيفتحهما ليسمرها بنظراته وهو يقول: - يا الهى من النساء ! لسنا فى وسط لندن كما تعلمين. فهنا لا يوجد كاراج لتصليح السيارات عند كل منعطف .
- أنا أعرف هذا تماما.
قالت هذا بكبرياء قدر امكانها لكن ما لبثت كبرياؤها أن تلاشت حين أخذت أسنانها تصطك :- أرجو أن تكون ميرتيل بخير صباح غد.
ضاقت عيناه وبدا على وجهه الداكن التأمل، ثم قال ساخرا :- من هى ميرتيل هذه بحق الله ؟ .
فاحمر وجه ماريغولد :- انها سيارتى .
- سيارتك ؟ هذا حسن .
وتنفس بعمق ثم زفر ببطء وقال بصوت متمهل :- واذا قررت ميرتيل .. ألا تتجاوب مع خطتك ، فماذا سيحدث ؟ وكيف ستسيرين على تلك القدم ؟ وماذا ستفعلين بالنسبة الى التدفئة الليلة ؟ .
قررت ماريغولد أن تجيب عن السؤال الاخير فقط من الاسئلة الثلاثة التى طرحها عليها :- هذه الليلة سأتناول شرابا ساخنا ثم أنام .
- فهمت .
كان يقف منفرج الساقين وقد شبك ذراعيه على صدره، فأظهرت هذه الوقفة ضخامة عضلاته. ومن مكانها على الاريكة بدا لها ضخما فى تلك الغرفة الصغيرة المزدحمة :- دعينى أريك شيئا .
وقبل ان تعترض انحنى ثم حملها مرة أخرى .. يبدو أن حملها بين ذراعيه أصبح عادة لديه، كما أخذت ماريغولد تفكر متوترة الاعصاب وهو يسير خارجا من غرفة الجلوس. دخل الى غرفة أخرى ، بدا واضحا أنها غرفة النوم. وكانت الفوضى تعم فى تلك الغرفة وقد بدا أثاثها مثيرا للضيق . فخزانةالثياب ضخمة وعتيقة، وطاولة الزينة أثرية والكرسيان الكبيران المصنوعان من الخيزران متداعيان ، فيما وضعت عليهما وشائد متنوعة الاحجام. كانت هذه الغرفةأكثر برودة واثارة للكآبة من غرفة الجلوس.
قال عابسا :- هذا الفرش يحتاج الى ساعات من التهوئة قبل استعماله، حتى لو أحضرت معك ملاءاتك وبطانياتك. هل أحضرت معك كل ذلك؟ .
قال هذا وهو ينظر اليها فشعرت بتأثير عينيه الفضيتين الرائعتين الى حد خطف منها الانفاس .فكرت فجأة فى أن هذا الرجل خطير .. خطير بالنسبة الى أى امرأة . فهو يتمتع بجاذبية مغناطيسية تفوق جاذبية الارض . وقد شعرت هى بهذه الجاذبية حتى عندما راح يكلمها بقسوة بالغة فى الطريق وها هى القسوة تبدو فى فمه الصلب ووجنتيه ، هذا الى ذقنه الحازم وعينيه الثاقبتين الحادتي النظرات. كلما أسرع فى الرحيل من هنا كلما كان ذلك أفضل لراحة بالها ومشاعرها.
- حسنا؟
وأدركت متأخرة أنها كانت تحدق اليه كأرنب مخدر الحواس هزت رأسها بسرعة وقد احمرت وجنتاها:- لا... أعنى لم أظن أننى سأحتاج الى أى شئ يتعلق بالفراش هنا .
قالت هذا بسرعة وما هى الا لحظة حتى لستدار خارجا الى غرفة الجلوس حيث ألقاها على الاريكة مرة أخرى .
- كانت جدتك تبقى النار مشتعلة بصورة دائمة فى غرفة الجلوس بداء من تشرين الاول حتى أيار. عندما كانت على قيد الحياة كانالكوخ يبقى دافئا كالخبز المحمص على الدوام لكن هذا المنزل قديم وجدرانه سميكة وليس كعلب المدينة ذات الجدران المفرغة والتدفئة المركزية .
انه يتكلم مرة اخرى بلؤم ولهجة لاذعة حاولت أن تظهر استياءها وغضبها لكنها وجدت صعوبة فى ذلك فجسدها ما زال مليئا برائحته والاحساس به:- فليكن ! سأكون بأحسن حال يا سيد مورو. لاحظت فى الغرفة الاخرى مدفأة كهربائية صغيرة لتدفئة الفراش وهى موضوعة على صندوق الادراج، سأدفئ بها الفراش ثم ...
فقال وكأنه لم يسمعها :- لن تتكلم أكثر فى هذا الموضوع، اذ عليك أن تعودى معى الى بيتى .
مع أن دعوته هذه بدت عطوفا، الا أن صوته كان مليئا بالغيظ أما بالنسبة الى ماريغولد، فأن ذلك التجاوب الغادر لجسدها ما ان يقترب من جسده هو ما جعلها تقول بسرعة :- شكرا ولكن ما كان هذا ليخطر فى بالى .
فقال ببرودة:- هذا ليس اقتراحا أجتماعيا مهذبا يا آنسة جونز لكنه ضرورى بالنسبة الى شخصيا، يسعدنى جدا أن أتركك هنا لتتجمدى من البرد حتى الموت لكننى أعلم أن جدتك ما كانت لتقبل بذلك.
فردت بحدة :- أنا لن أتجمد حتى الموت.
- ليس لديك تدفئة ولا طعام ...
- لدى علبتان من البازيلا ورغيف خبز فى حقيبة ظهرى .
بدا فى عينيه الجامدتين تعبير يغنى عن مجلدات . وعاد يكرر بجدية: - لا تدفئة ولا طعام كما أن ليس بامكانك السير على قدميك ويبدو أن التواء كاحلك سيسبب لك مشكلة لعدة أيام ومن دون وقود وطعام بقاؤك هنا أمر غير منطقى .
لم تعد ماريغولد تحتمل المزيد من هذه المعاملة الفظة :- غير منطقى؟ لقد أخبرتك ...
- بأن لديك علبتى بازيلا ورغيف خبز. نعم أعلم هذا . كان ذلك قمة التهكم فتمنت لو أن بامكانها أن تسدد لكمة الى وجهه فتشعر عندئذ بالبهجة.
- دعينى أوضح لك امرا يا آنسة جونز ستأتين معى سواء شئت أم أبيت، وغدا سأرسل شخصا ليرى ما يلزم للسيارة وكذلك لتدفئة الكوخ وتهوئته . صدقينى رغبتى برفقتك تماثل تماما رغبتك برفقتى. وعندما نتأكد من مدى اصابة كاحلك سنرى متى يمكنك العودة الى هنا .
بدا حقا وكأنه يستعجل عودتها حدقت ماريغولد الى وجهه البارد الغاضب أمامها، وذكرت نفسها بأن هذا الغضب سببه تصرفات ايما واسرتها مع ذلك فهو كريه، كريه. وهى تمقته آه كم تمقته!
- والان ماذا تفضلين؟ هل ستأتين طوعا أم مقيدة كديك العيد؟ أدركت من طريقة سؤاله أنه يرجو أن يكون رأيها هو الاخير.
حملقت فيه والغيظ يملأ عينيها:- أنت أكثر الرجال فظاظة من بين كل من عرفتهم فى حياتى. قالت هذا ثائرة. وبدا لها وكأنه يتسلى برؤية ملامحها الملتهبة :- أكرر، يا انسة جونز هل ستأتين بهدوء متظاهرة علىالاقل بأنك سيدة مهذبة أم ...
فقالت بلهجة مسمومة:- سآتى .
فقال ببطء وبلهجة سارة:- أهلا وسهلا بك .
بدا وكأنه استعاد روحه المرحة وتنفس بارتياح جاهدت ماريغولد لكى تقف على قدميها وهى تحدق اليه وأزاحت يده جانبا بحدة عندما مدها نحوها ليساعدها.
- يمكننى تدبر أمرى شكرا. وأياك أن تجرؤ على معاملتى بخشونة مرة أخرى !
- أعاملك بخشونة؟ ظننت أننى أساعد سيدة فى محنة كما يقال.
قال هذا ساخرا ما جعل وجهها يحمر ثم سألها :- كيف ستتمكنين من السير حتى سيارتى؟.
فقالت بحزم : سأقفز علىقدم واحدة. وهذا ما فعلته .
*****************************

Just Faith 26-11-17 04:12 PM

2- تحت رحمة الجلاد
- والان يا انسة جونز أم بامكانى أن أدعوك ايما لأنك تكرمت بقبول دعوتى وضيافتى ؟
كانا قد ابتعدا لتوهما بالسيارة عن الكوخ فلاحظت ماريغولد بيأس أن الثلج ينهمر بغزارة أكثر من قبل أومأت جوابا على سؤاله فرمقها بنظرة جانبية ساخرة طويلة :- ويجب أن تنادينى فلين .
هل يجب عليها هذا حقا؟ انها لاتظن ذلك . وشعرت بشماتة لأنه لا يعرف فى الحقيقة من تكون.
- هكذا، لماذا قررت يا ايما أن تمضى عيد الميلاد وحدك فى كوخ جدتك؟ ما سمعته عنك من جدتك ثم من الفلاحين الاجلاف بعد زيارتك الاخيرة، جعلنى أعتقد أن هذا ليس من عاداتك . ماذا حدث لصديقك المغرور؟
كان أوليفر مغرورا فعلا، ولم تكن ماريغولد تطيقه لكن سماعها فلين يشير اليه بغطرسة واحتقار جعل أوليفر فجأة عزيزا عليها. وهكذا أرغمت نفسها على أن تهز كتفيها بازدراء:- أسبابى تخصنى وحدى بكل تأكيد.
أومأ ببشاشة ولم تبد عليه المفاجأة لهذا الرد:- بكل تأكيد على أى حال لن يعترض أحد فى هذه الانحاء على عدم وجود صديقك معك. فهو لم يترك مجالا لأى تفاهم حين شتم صاحب المقهى وراح يجادل بالنسبة الى وجبة طعامك.
تنهدت ماريغولد، آه هذا رائع من المؤكد أن ايما وأوليفر تركا أثرا فى المنطقة، لكنه أثر سيئ من دون شك. كان كاحلها نبض بالالم بشكل لا يطاق فكرت فى أنها لا تحمل معها حتى قميص نوم لتلبسه، وبع يومين تحل ليلة عيد الميلاد . ليلة عيد الميلاد التى سيمضيها دين وتمارا متعانقين تحت سماء جزر الكاريبى الدافئة .
لم تنتبه الى انها تبدو صغيرة الحجم وبالغة الضعف ومدفونة فى المعطف الواقى من المطر، والى أن شعرها الذى يصل طوله الى كتفيها غدا مبللا ولهذا تملكتها الدهشة عندما سمعت صوتا هادئا يقول:
- لا تقلقى ! مدبرة منزلى ستعتنى بك حالما نصل الى أوكلاندس ويمكن لزوجها أن يأخذ كمية من الحطب والفحم الى الكوخ الليلة ويهتم بتهوئته جيدا كما أن لديه خبرة بالسيارات أيضا.
نظرت ماريغولد الى فلين بحذر. هذا التحول المفاجئ من ملاك الانتقام الذى ينفث النار، الى انسان متفهم كان مثيرا للشبهة ولابد أن الذهول بدا على وجهها لأنه أطلق ضحكة صغيرة منخفضة :- أنا لا أعض .. حسنا ليس الفتيات الصغيرات على كل حال .
- شكرا لكننى امرأة ناضجة فى الخامسة والعشرين .
أجابته بذلك بسرعة رغم أن صوتها لم يكن بالحدة التى رغبت فى اظهارها أثار هذا الرجل اضطرابها عندما بدا كريها محبا للجدل أما الان بعد أن تحول الى الهدوء والمواساة فها هو يثير اضطرابها بشكل مضاعف شعرت بأمان أكبر عندما كانت تقاتله أما الان فلم تعد تشعر بالامان مطلقا وقد غدا رد فعل جسمها نحوه أقوى .
أما هو فقطب جبينه:- فى الخامسة والعشرين؟ أظن أن الجدة ماغى أرسلت لك هدية فى عيد ميلادك الحادى والعشرين قبل أن تموت بفترة قصيرة.
وقررت ماريغولد أن تتخهلص من هذا المأزق بالخداع، فقالت بجفاء:- أطمئنك الى أننى أعرف عمرى جيدا .
عندما رأت أنه على وشك ان يقول المزيد أضافت بسرعة :- هل أوكلاندس هو بيتك؟ لم يجب على الفور ثم عاد فأومأ :-اشترايته من صديق قرر أن يهاجر الى كندا منذ عامين لابد أن جدتك حدثتك عنه اذ يبدو أنهما كانا صديقين حميمين اسمه بيتر لندون.
أومأت ماريغولد بغموض راجية أن يكون هذا كافيا :- لقد افتقدته كثيرا حين سافر اذ اعتاد أولاده عبور الوادى لزيارتها بشكل دائم. ويبدو أنها وجدت فيهم بديلا عن أسرتها الحقيقية كما أظن.
ها هى نبرة الاتهام تعود الى صوته لكن ماريغولد تجاهلتها بينما تابع هو يقول :- عندما كنت أزورها اعتادت أن ترينى صور أسرة بيتر لم ترنى صورا لك قط .. ربما كان هذا يؤلمها كثيرا .
شعرت ماريغولد بأن عليها أن تقول شيئا :- كيف يمكنك أن تقول هذا بينما اعترفت بأنك لم تعفها منذ مدة طويلة ؟ .
قالت هذا محملة صوتها قدر ما تمكنت من التأنيب، وكأنها تتعاطف حقا مع جدة ايما المسكينة.رغم ان ايما كانت لطيفة المعشر كزميلة فى العمل الا أن ماريغولد لم تستبعد ان تكون عديمة الاكتراث بشأن جدتها اذا شاءت ذلك.
- كان بيتر طويل القامة واظنه كان يعرف أباك ايضا لكنهما لم ينسجما معا.
ساد صمت ثقيل ومرة أخرى شعرت ماريغولد أن عليها ان تقول شيئا :- لا اعرف شيئا عن ذلك .
قالت هذا بصدق ثم سكتت فجأة حين رأت أنهما يجتازان بوابة واسعة قائمة فى جدار حجرى يبلغ ارتفاعه ستة أقدام لابد أن هذا بيته .راحت السيارة تسير فى طريق محاط باشجار السنديان الضخمة الرائعة التى أضفت عليها كسوتها الثلجية البيضاء مهابة وجمالا . رأت ماريغولد البيت من بعيد فبدا منزلا فخما بالغ الاتساع ابتلعت ريقها بصعوبة وهى تتذكر ما قالته ايما عن المنزل الاخر فى الوادى .. بيت كبير .. وكان هذا فعلا بيتا كبيرا .
نظرت الى فلين من تحت اهدابها ثم تفحصت السيارة الفخمة الجديدة، والسترة الجلدية الرائعة الملقاة على المقعد الخلفى فى سيارته، وملابسه الفاخرة. كل هذا أحدث تأثيرا مفاجئا على حواسها وانتقلت عيناها الى يديه الكبيرتين السمراوين على مقود السيارة هل تلك الساعة فى معصمه من تصميم خاص ؟ لابد انها كذلك فهى رائعة .. وخنقت آهة .
برز فجأة من مكان ما كلبان ألمانيان ضخمان طويلا الشعر. راحا ينبحان بجنون ما جعل ماريغولد تقفز من مكانها لاحظ فلين ذلك فقال:- اسف كان يجب أن انذرك مسبقا انهما جيك وماكس وهما يظنان انهما كلبا حراسة.
نظرت من النافذة الى الوجهين الضخمين والاسنان الكبيرة فيما الكلبان يحدقان اليها فارتجفت :- يظنان؟ لقد أقنعانى فعلا .
التفت فلين اليها ضاحكا وهو يوقف السيارة بينما الكلبان لا يزالان يقفزان حولها :- لا تخبرى احدا أنهما يمضيان وقتهما نائمين أمام الموقد فى المطبخ وانهما يتجمدان خوفا من قطط مدبرة منزلى . قال هذا برقة فائقة فابتسمت بضعف أتراه يعلم أى تأثير تترك فيها رقة ملامحه الصلبة تلك؟ ان لرقته هذه تأثير المتفجرات ..
وقالت بضعف :- حسنا .. علاقتى بالحيوانات ليست جيدة .
عندئذ تغيرت ملامح وجهه :- علمت ذلك . والان ما الذى قالته ؟ حدقت اليه وقد بدت عليها الحيرة :- عفوا ...؟
- كان الامر واضحا من خلال المحامين. تعرفين طبعا أليس كذلك؟ تباع اذا ما وجد شار يدفع فيها أى ثمن والا يجب ان تقتل . وطبعا ، لايرغب الكثيرون بشراء بضع دجاجات هزيلة قذرة وبقرة عتيقة. كذلك الامر فى ما يتعلق بالقطة والكلب .
آه ، لا ... ايما لم ..
- لا تخبرينى بأن هذا امر اخر لم يخبرك أبوك عنه.
- أنا .. لم أعلم ...
التقت عيناه بعينيها فلم تستطع تحويلهما عنه :- لا ؟ لا أدرى اذا كنت اصدقك .
احست ماريغولد فجأة انها لا تحب أسرة ايما على الاطلاق :- لم أعلم هذا .
كررت قولها هذا بضعف وبلهجة غير مقنعة حتى لنفسها وهى لا تزال تفكر فى حيوانات ماغى المسكينة .تأملها لحظة فأوشكت أن تخبره بكل شئ بأنها ليست ايما .. بأنها أخذت الكوخ عندما قدم اليها من دون أن تعرف الا القليل عن ايما وجدتها وأسرتها ..الا أنه هز كتفية ببرودة وقال:- كل ذلك أصبح من الماضى الان فلندخل .
عندما رأته يستدير حول السيارة ليتقدم نحوها نسيت أمر حيوانات ماغى وانتابها الذعر من ان يحملها مرة أخرى .شعرت وكأنه سيغمى عليها .يبدو ان سيرها على قدم واحدة للوصول الى السيارة قبل قليل زاد من الالم فى كاحلها المصاب فوصل الى حد لا يطاق . لكنها مع ذلك تفضل أن تعيد الكرة على أن يضمها الى جسده القوى مرة أخرى .
لم تتجاوب قط مع رجل بهذا الشكل من قبل ولا حتى مع دين شعرت بتشوش افكارها لعلمها ان خلف ذلك الذعر والتنبه تكمن مشاعر ممنوعة وغير مرغوب فيها .
بامكانها أن تقفز على قدم واحدة لتصل الى البيت وهذا ما قررته وهو يتوجه نحوها ليفتح لها الباب. لم تكن هذه الطريقة المثالية لدخول المنزل خاصة ان مدبرة منزله وزوجها واقفان يتفرجان فضلا عن الكلبين اللذين يسيل لعابهما ولكن لم يكن من ذلك بد .
لكن فلين لم يمنحها الفرصة لاظهار مشاعرها وما ترغب فيه . فقد انفتح باب السيارة وسرعان ما أصبحت بين ذراعية ليسير بها الى باب المنزل المفتوح . وبدا الاهتمام على وجه مدبرة المنزل وهى تقول :- آه، ياسيد مورو ، ماذا حدث ؟ .
- سأشرح لك الامر فى الداخل .
ويا له من داخل ! غمرها الدفء وهى تجيل نظرتها فى مظاهر الترف التى تحيط بها. بدءا من الردهة ذات الارضية الخشبية المكسوة بالسجاد الثمين والسلم الواسع الرائع الذى يصعد الى ما لا نهاية ، مرورا باللوحات الفنية المعروضة على الجدران .
على كل حال لم يتسع لها الوقت سوى لالقاء نظرة واحدة متأملة قبل ان يدخلها فلين الى غرفة استقبال حيث أجلسها على أريكة قريبة من المدفأة المتوهجة. كانت ذراعها تلتف حول رقبته. ورغم أنه كان يحملها بشكل حيادى، الا ان كل عصب فى جسدها أصبح حيا مفعما بالحيوية بشكل مؤلم. وللحظة جنونية لحظة سخيفة جنونية، تساءلت عما سيفعله لو احتضنته بذراعيها بقوة أكبر. أنزلها على الاريكة، ثم التفت الى المرأة :
- هذه الانسة جونز يا برتا حفيدة ماغى تعطلت سيارتها على بعد حوالى الميل من الكوخ واصيب كاحلها . اهتمى بها من فضلك بينما أبحث عن ويلف وأرسله ليلقى نظرة على السيارة . بامكانه أن يأخذ جون معه ايضا أريدهما ان يحضراها الى هنا اذا امكن كما ان لدينا عدة مدافئ متنقلة يمكنهما ان يأخذاها الى الكوخ ويبدآ فى تدفئته واطلبى من جون ان ياخذ اليه حملا من الحطب وعدة أكياس من الفحم غدا صباحا.
- أرجوك هذا ليس ضروريا .
كان عليها ان تخبرهما انها ليست ايما . لم لم تخبر فلين من قبل؟ أرادت ان تتركه ينخدع لانه تصرف معها على الطريق بذلك الشكل الكريه. وبعد ذلك لم تجد فرصة مناسبة تعترف له فيها بالحقيقة لكن الامر يغدو اكثر احراجا وفظاعة بين طريقة واخرى .
كان فلين قد سار نحو الباب عندما قالت له ماريغولد بسرعة :- ياسيد مورو ... ارجوك ... اريد ان اوضح ...
فالتفت اليها بوجه جامد وقال ببرودة :- فلنقم بما هو هام أولا . اريد ان أرسل ويلف وجون أولا الى السيارة قبل أن يحل الظلام كما يجب ان نفحص قدمك. واذكرك بان اسمى هو فلين كما سبق وأخبرتك .
- ولكنك لا تدرك ..
سكتت فجأة وهى تراه يخرج فنظرت الى مدبرة المنزل التى كانت تحدق اليها ثم قالت مذهولة :- يجب أن أتحدث اليه .
- كل شئ فى حينه يا حبيبتى تبدين وكأنك متأهبة للقتال، اذا سمحت لى بهذا القول . والان فلنحاول ان نخلع حذاءك لنريح قدمك، وساكون حذرة للغاية لئلا تتألمى أرجو الا يكون متورما.
الحمد لله . على الاقل ثمة شخص لا يراها فظيعة كما فكرت ماريغولد شاكرة وهى تبادل المرأة ابتسامتها الودود كان ذلك الشعور رائعا . كان عليهما ان يقصا فردة الحذاء الطويل عن رجلها وعندما ظهر كاحلها بكل مجده صفرت مدبرة المنزل بصوت خافت :- يا الهى ، يا الهى ، يا الهى! هذا فظيع يا حبيبتى.
- ستكون على مايرام .
لاشئ سيجعل ماريغولد تبقى فى هذا البيت ثانية واحدة اكثر مما يلزم:- بعد أن نربطها وارتاح ليلة ستصبح قدمى بخير .
هزت المرأة رأسها متشككة وهى تنظر الى اللحم المنتفخ بلونه الاحمر المائل الى الازرق ثم خرجت لتحضر وعائين يحتوى أحدهما على ماء ساخن والاخر على ماء بارد كما قالت لماريغولد .
ظنت ماريغولد أن الورم سيختفى تلقائيا . اتكأت الا الاريكة واضعة قدمها على وسادة جلدية ، وأغمضت عينيها متجاهلة الالم البالغ وهى تفكر بيأس فى ورطتها هذه . انها ضيفة غير مرغوب فيها فى بيت رجل يشمئز منها او على الاقل يشمئز من الفتاة التى يظنها هى لكنها لن تبقى مهما كانت حالة كاحلها. ستحرص على الذهاب الى الكوخ غدا ولو زحفا يبدو ان هذا العيد سيكون تعيسا للغاية .
عندما يستقر بها المقام فى الكوخ ستجلس امام المدفأة وتمضى العيد بالقراءة بينما تعتنى بكاحلها فكرت فى ان وضعها الحالى ليس فى غاية السوء فلديها طعام كثير فى السيارة كما سيصبح لديها كما يبدو مزيد من الوقود وهى ستدفع ثمنه طبعا كما ستدفع اجرا للرجل الذى سيهتم بسيارتها. تحركت على الاريكة وهى تشعر بالضيق لادراكها انها لم تعترف حتى بكرم اخلاق فلين حين دعاها للمبيت عنده الليلة.
- عندما قالت انه سئ كانت تعنى انه سئ .
فتحت ماريغولد عينيها وهى تنتصب فى جلستها كان فلين قد دخل الى الغرفة بخفة القط ووقف يتأملها بعينين ضيقتين ظنت للحظة انه سيتعاطف معها او على الاقل يهنئها على صبرها لكن هذا الوهم سرعان ما تبدد عندما تابع يقول بغضب :
- ما الذى جعلك تسيرين على قدمك بعد ان أصيبت بهذا الشكل؟ الم تدركى أنك تزيدين الامر سوءا مع كل خطوة؟ أيتها الغبية !.
منذ لحظة كانت تشعر بالضعف والحزن اما الان فشعرت بأن النار تسرى فى عروقها وهى تجيب :- اسمع أنا لم أكن أعلم انك ستمر بى هناك اليس كذلك؟ ماذا كان على ان افعل ؟ ابقى فى السيارة لأتجمد حتى الموت ؟ أم احاول السير باتجاه الكوخ حيث ...؟
- حيث لا طعام ولا تدفئة على الاطلاق لماذا لم تحاولى الاتصال بأحد على اى حال؟ كخدمة الطوارئ مثلا هل لديك تأمين ضد الطوارئ؟
فاجابت بحدة :- نعم.
- لكنك لم تفكرى بطلب النجدة ؟ بل وجدت من الاسهل ان تسيرى فى العاصفة الثلجية كما يفعل الرحالة فى القطب الجنوبى .
عضت شفتها بقوة سيعجبه ما ستقوله الان :- نسيت هاتفى الخلوى فى البيت. لم يجيبها . ولم يكن مضطرا لذلك لان ملامحه دلت على الكثير ثم أضافت :- كما أن حال كاحلى ليس سيئا الى هذا الحد .
- سيتضاعف حجمه عند الصباح ويغدو لونه شبيها بالوان قوس قزح. قال هذا بهدوء فشعرت بالغيظ لتشخيصه حالة كاحلها :- وما أدراك ؟ أنت لست طبيبا .
- بل أنا طبيب فى الواقع . فوجئت ماريغولد بردة وطرفت بعينيها بينما التوت شفتاه للحيرة التى ظهرت على وجهها.
واذا رأته يضحك منها ثار غضبها فقالت بوقاحة :- آه أحقا ؟ أظنك جراح مخ أو شيئا كهذا؟ .
- هذا صحيح .
اتسعت عيناها كفنجانين آه هذا غير ممكن ليس جراح أعصاب .. هذا غير ممكن ! راح يتأملها بثبات من دون ان تتغير تعابير وجهه فأدركت انه لم يكن يمزح طبعا لايمكن ان يكون طبيبا عاديا كما حدثت نفسها انه ليس طبيب صحة عامة رقيقا ودودا يعالج الامراض العادية شخصا كثير العمل قليل الاجر ولديه قائمة طويلة من المرضى الذين يطلبون اهتمامه .
أدركت انها كانت غير عادلة فى حكمها عليه لكنها لا تستطيع السيطرة على نفسها مع هذا الرجل بالذات . أرغمت نفسها على أن تقول راضية :- لست طبيبا عاديا يعمل من التاسعة حتى الخامسة اذن ؟
فأجاب وهو مازال يتأملها بامعان : - ليس تماما .
- هل تعمل فى مستشفى قريب من هنا أم ...؟
- أعمل فى لندن ولدى شقة هناك .
حسنا ، ولم لا؟ أومأت وهى تقول :- لابد أن مساعدة الناس أمر مجز للغاية...
وسكتت وهى تشهق عندما ركع وأمسك قدمها بيديه الكبيرتين ..كانت يداه طويلتى الاصابع نظيفتى الاظافر .. انهما يدا جراح .. وبرفق اخذ يدير قدمها بيده وهو يجس اللحم .أرادت ان تنتزع قدمها من بين يديه لكن فى مثل هذا الوضع لم يكن لديها اى خيار فحدقت الى شعره الاسود الكث ثم سألته :- مورو ... ليس اسما انكليزيا .. اليس كذلك ؟ .
- انه فرنسى .
ورفع عينيه عن قدمها فأخذ قلبها يخفق بشدة:- كان أبى فرنسيا ايطاليا وأمى اميريكية ايرلندية، لكنهما استقرا فى انكلترا قبل ان أولد.
- يا له من مزيج ! قالت هذا بشئ من الارتياح بعد أن أعاد قدمها الى الوسادة ثم وقف ولم يعد يلمسها.
دخلت برتا تحمل بين يديها وعائين مليئين بالماء ومنشفة على ذراعها نظر فلين اليها وهويسير الى الباب:- خمس دقائق من التناوب بين الحار والبارد يا برتا ثم أعود لأربطها .
وكان عند وعده . راحت برتا تتحدث أحيانا وهى تغسل الكاحل بينما ماريغولد مسترخية فى اللحظة التى بدا فيها ذلك الجسم الكبير عند العتبة شعرت بتوتر فى عضلات معدتها وشكرت برتا بصوت متكلف لجهودها . حين ابتعدت برتا حاملة وعائى الماء اقترب فلين من الاريكة ثم مد يده اليها بكأس ماء وحبتى دواء :- خذى هاتين.
فسألته مترددة: وما هما ؟
- سم .
وعندما قطبت جبينها قال بضيق:- وماذا تظنينهما بحق الله ؟ انهما دواء لتسكين الالم .
فقالت بحزم :- لا أحب تناول الدواء.
- وانا لا أحب أن اصفه لأحد ولكن هذا العالم ليس كاملا وهكذا فالدواء ضرورى احيانا كما هو الحال الان خذيهما.
- أفضل الا أخذهما اذا لم يكن لديك مانع .
- بل لدى مانع لأن كاحلك سيؤلمك جدا الليلة ولن يسمح لك بالنوم على الاطلاق اذا لم تأخذيهما .
- ولكن ...
- هيا ، خذى هاتين الحبتين اللعينتين.
لقد صاح بها . صاح بها حقا كما فكرت ماريغولد وقد صعقتها الدهشة هذا الرجل لا يتحلى بحسن الاخلاق الذى يتحلى به الطبيب نحو المريض عادة وأخذت الحبتين.
بالاضافة الى حبتى الدواء وكوب الماء كان على الصينية مرهم ورباط ركع أمامها مرة اخرى فأخذت نفسا عميقا للمسته على قدمها بدت أصابعه ماهرة واثقة، وأرسلت لمساته قشعريرة فى كل أنحاء جسدها ما جعلها تشعر بالتوتر فغدت مشدودة كأسلاك البيانو، وغضبت من نفسها . لم تستطع أن تفهم كيف ان شخصا متغطرسا مثله كرهته منذ النظرة الاولى لديه مثل هذا التأثير عليها كان ذلك مذلا للغاية .
قال فلين بفتور وهو ينهض واقفا بعد أن أكمل مهمته :- ستشعرين بالتحسن خلال دقيقة أو أثنتين.
- ماذا ؟
مضت دقيقة فظيعة ظنت خلالها أنه قرأ ما بذهنها. وقد خطر لها انه لن يلمسها مجددا لكن تفكيرها المنطقى عاد الى العمل فأدركت ان كلماته تشير الى الحبوب المسكنة للالم وربط كاحلها فقالت بسرعة :- آه ، نعم شكرا .
- سأطلب من برتا ان تحضر لك شرابا ساخنا وطعاما خفيفا .
وقف فلين امام الاريكة ينظر اليها بثبات فلم تستطع ان تقرأ شيئا فى قسماته. ثم أضاف بلهجة عادية :- وبعد ذلك أرى ان تستلقى وتنامى حتى موعد العشاء فى الثامنة . لا بد أنك مرهقة .
حدقت اليه ماريغولد فبدا لها انه استعاد طبعه الجليدى مرة اخرى وبالرغم من صياحه فى وجهها قبل قليل الا انها فضلت ذلك على المزاح الذى ظهر عليه الان فهو يبدو الان رهيبا للغاية .
قالت مرة اخرى وكأنها لم تجد شيئا اخر تقوله :- شكرا.
- بكل سرور.
ساورها الشك فى ذلك لكنها لم تقل شيئا فهى تشعر بالوهن وبدا لها النوم مناسبا تماما. استدار فلين وسار الى الباب ثم وقف عند العتبة وقال :- اصيب كاحلك برضة قوية وستكونين محظوظة اذا استطعت ان تسيرى بشكل طبيعى خلال اسبوعين.
- خلال أسبوعين؟ وحدقت اليه بذعر .
- كنت محظوظة جدا لعدم اصابتك بكسر .
قالت تحتج بحرارة :- اذا كنت بحال أفضل غدا فسأتمكن من ان أتنقل على قدمى انا واثقة من ذلك بدأت أشعر بالتحسن منذ الان بعد الرباط.
بقى صامتا للحظة رغم ان قولها ارسل ابتسامة ملتوية الى فمه القوى ثم قال ببطء:- لحسن الحظ لدينا عكازان فى مكان ما وهما من مخلفات الصيف الماضى . كانت برتا سيئة الحظ فوقعت وأصيبت بخلع فى الركبة.
تنفست بعمق ثم قالت بعذوبة مصطنعة:- وهل يمكننى استعارتهما لفترة؟
- لا مشكلة فى ذلك .
- شكرا.
أومأ براسه وخرج مغلقا الباب خلفه . وفى تلك اللحظة ادركت ماريغولد انها فوتت عليها أحسن فرصة لتصحح الامور وتخبره بحقيقة شخصيتها.
*******************************

Just Faith 26-11-17 04:12 PM

يجب ان ترد لمشاهدة المحتوى المخفي

Just Faith 26-11-17 04:13 PM

4- لقاء النار بالنار
كان الطقس صباح اليوم التالى صاحيا مشرقا، عرجت ماريغولد الى النافذة واخذت تنظر الى البساط الابيض الممتد فى الخارج. تملكها الارتياح وهى ترى ان سماكة الثلج لا تزيد عن ثلاثة أو اربعة انشات .
عندما دخلت الى غرفتها مساء أمس وجدت ان حقيبة ملابسها قد سبقتها. يبدو أن ويلف أحضرها من السيارة الليلة الماضية ووضعها فى زاوية فى غرفة النوم، لكن الصندوق الذى يحتوى على أدوات الزينة لا يزال على المقعد الخلفى لسيارتها ميرتيل.
تأوهت وهى تنظر الى صورتها فى المرأة . بدا وجهها أشبه بوجه حيوان الباندا الصغير الابيض. لم يكن عليه سوى بقايا من الكحل الذى سال تحت عينيها لانها لم تمسحه بشكل صحيح بل غسلته بالماء والصابون قبل ان تصعد الى السرير.
كان كاحلها المصاب ينبض بالالم ما جعلها تصرف بأسنانها متأوهة. وفيما هى واقفة أمام مرآة الزينة انفتح الباب ودخلت برتا حاملة صينية الافطار. قالت لها ببشاشة :- آه، لقد استيقظت باكرا وتبدين مشرقة الوجه. ظننتك ستنامين حتى أوقظك بنفسى بعد حبة المنوم تلك. عندما أصبت فى ركبتى أعطانى حبة مثلها فبقيت نائمة الى منتصف النهار تقريبا. كيف حال كاحلك هذا الصباح ؟.
قالت كاذبة على أمل الا تبقى فى ضيافة فلين يوما اخر :- ليس سيئا.
- هذا جيد. والان عودى الى سريرك وتناولى فطورك. وعندما تنتهين هناك حبتان مضادتان للالام على الصينية . يرى السيد مورو أنك ستحتاجينهما.
انها تحتاجهما بكل تاكيد ، كما أخذت ماريغولد تفكر ساخرة عندما عادت الى السرير. فحتى غطاء السرير الخفيف جعلتها تشعر بالالم كما لو ان وزنه عشر أطنان.
على اى حال ساعدها الافطار الجيد مع الحبتين المضادتين للالام بالاضافة الى الحمام الساخن على الشعور بالتحسن .
لحسن حظها وجدت كريما لتنظيف الوجه فى الحمام فقامت بتنظيف بقايا الكحل عن عينيها، ثم جففت شعرها. أخرجت من حقيبتها ملابس داخلية نظيفة وكنزة وبنطلون جينز فشعرت عندئذ بتحسن أكبر مما كانت عليه عندما استيقظت من النوم .
فعلى الاقل عاد الى وجهها بعض لونه الطبيعى ، كما فكرت وهى تحدق الى انعكاس صورتها فى المرآة . تأملت هيئتها من الراس حتى القدمين ثم غادرت غرفتها بعد ساعة أو اكثر . لكنها لم تستطع أن تلبس فردة الحذاء أو الجورب فى قدمها المصابة بل وضعتهما فى الحقيبة . لكن هذا لم يسبب لها القلق ، فستعالج الامر بشكل ما ، كما صممت وهى تعيد لف قدمها بالرباط.
تمكنت من استعمال العكازين بشكل جيد وهى تخرج من الشقة الى ردهة المنزل الا انها كادت تقع وجهها عندما ظهر فلين فجأة عند عتبة احدى الغرف .
- صباح الخير .
حياها وهو يبتسم بأدب فأرغمت ماريغولد نفسها على رد التحية وهى تجاهد للتحكم فى نفسها. منذ فتحت عينيها هذا الصباح وهى تعد نفسها لهذه اللحظة، لكن ذلك لم يجعل لقاءها به اسهل على الاطلاق. كان فلين يرتدى قميصا مفتوحا عند العنق فيما الكمان مثنيان حتى الكوعين كاشفينعن ذراعين قويتين، بدا وكأنه يملأ الباب برجولته الصارخة .
ربما لم يتعمد أن يبدو مرهبا بهذا الشكل ، كما حدثت ماريغولد نفسها بصمت، لكن مظهره الوسيم ينطوى على قوة مغناطسية تجذبها بالرغم منها.
احست أن جوا من التنائى والحياد الهادئ يحيط به . ومع ذلك كان فيه ما جعل أى امرأة تتساءل أى نوع من الرجال هو حين يقع فى الحب.
تخلصتت من هذه الافكار وهى تقول بلهجة رسمية :- صباح الخير . يجب ان أشكرك مرة اخرى على الشهامة التى أظهرتها بالامس .
قال وهو يشملها بنظراته بثبات :- هذا ليس ضروريا . كيف حالك؟.
- بأحسن حال . لاحاجة حقا لان أفرض نفسى عليك أكثر من ذلك . ولكن اذا ساعدنى ويلف على أخذ أغراضى الى الكوخ ، فهذا سيكون عونا كبيرا لى .
- أنا واثق من ان بالامكان ترتيب كل شئ.
تملك ماريغولد الاستياء وشعرت بالارتباك والسخونة . لكن فلين بدا بالغ الهدوء ، فأرغمت نفسها على رسم ابتسامة اخرى على شفتيها:- شكرا هل أنتظره فى غرفتى اذن؟
- انا اعرف ان بداية تعارفنا كانت سيئة فى الامس، لكننى لا أعض فى الواقع كما تعلمين .
- ماذا ؟
تساءلت فى البداية عما اذا سمعت جيدا ما قاله . نظرت الى وجهه ورأت تألقا مقلقا فى عينيه فقالت :- لم افهم ما تعنيه .
- كلما وقع نظرك على تصبحين كقطة على صفيح ساخن . وانا واثق من ان كاحلك ليس بأحسن حال كما تقولين. فى الحقيقة لابد انك تشعرين بألم فظيع .
- ابدا ، انه ليس بهذا السوء فى الحقيقة . فقد خففت الحبوب المسكنة الكثير من معاناتى .
- حتى لو لم تكونى حفيدة ماغى حقا ، يمكنك البقاء هنا الى ان تتحسن حالتك . فلا حاجة بك ابدا الى ان تهربى كفأرة متوترة .
قال هذا وهو ينظر بحدة الى وجهها المتوهج، فجمدت مكانها وتملكها الغضب على الفور . وبما أن ماريغولد وحيدة أبويها ، فقد تعلمت منذ الصغر أن تدافع عن نفسها . لم يكن لديها أخ أو اخت تركض اليهما لنجدتها ، وهى لم تهرب قط من وضع او شخص ما . والان هذا ... هذا الغريب المتغطرس ، المغرور يعتقد أنه قادر وعالى الشأن ليكلمها بهذه الوقاحة . قالت ببرودة الثلج :- سامحنى يا سيد مورو، لكننى ظننت ان مؤهلاتك تنحصر فى مجال جراحة المخ، وليس الطب النفسى . لو كنت مكانك لاحتفظت بهواية التحليل النفسى لنفسى .
لم تعجبه لهجتها كما بدا من عينيه الضيقتين ، فزم شفتيه، لكن صوته بدا رقيقا وهو يقول :- اذن ، فانت لست خائفة منى ؟
- أنا لا أخاف من احد .
- هذا حسن جدا.
بدا فى صوته لكنه خفيفة للغاية . ولعلها لم تكن لكنة بل طريقة معينة فى لفظ الكلمات بسبب تنوع دماء اجداده.
- اذن ربما تحبين أن تتناولى القهوة معى . تحضر لى برتا دوما القهوة فى مثل هذا الوقت .
حدقت اليه بحذر . لم تشعر برغبة فى البقاء معه على الاطلاق لكنها طبعا ، لم تستطع ان تقول ذلك . وهكذا أومأت موافقة الا انها ظلت تتخذ موقف الدفاع حتى حين تنحى فلين جانبا ليدعها تدخل الغرفة .
بدا واضحا انها غرفة المطالعة فالكتب تغطى اثنين من جدرانها أما الثالث فتحتله نافذة كبيرة للغاية تطل على مرج أخضر . كانت النار مشتعلة فى مدفأة من الرخام الاسود وقد تمدد أمامها على السجادة السميكة ذلك القط الكبير . أشار فلين الى كرسى كبير منجد بالجلد أمام المكتب المصنوع من خشب الماهوغانى والمغطى بالاوراق :- تفضلى .
أنى لها ان تشعر بالراحة بالقرب من هذا الرجل؟ كما أخذت تفكر بأسى وهى تجلس متوقعة ان يجلس هو وراء مكتبه حيث كان يعمل كما يبدو. لكنه ، بدلا من ذلك ، نظر اليها لحظة وجالت عيناه على وجهها البيضاوى وبشرتها القمحية اللون ، لتتمهلا على ملامحها الرقيقة ، قبل ان يجلس على حافة المكتب أمامها ثم يقول بهدوء:- أحب ان تمضى عيد الميلاد هنا، هل فى هذا بأس ؟.
فى هذا بأس حتما ... بل ان فيه كل البأس ... راح القط راسكال يخرخر امام دفء النيران، قبل ان يعود الى اغفاءته الراضية .
لعل فلين يعتبرها واحدة من حيوانات جدة ايما الشريدة ، كما فكرت ماريغولد وهى تشعر بالاسى ، خاصة بعد أن كشفت له عن السبب الذى جعلها تمضى العيد وحدها فى الكوخ . لماذا؟ لماذا أخبرته عن دين ؟ أتراه يظنها تستدر العطف بهذا القول ؟ قالت محاولة ان يبدو صوتها طبيعيا خاليا من الشعور بالمذلة :- صدقنى اننى لا استطيع ذلك . انت قلت ان لديك ضيوفا قادمين لقضاء العيد .
قال يذكرها برقة :- قلت ان ضيفا اخر لن يشكل اى فرق .
- ومع ذلك ...
- حالتك لا تسمح لك بالاقامة فى ذلم الكوخ وحدك . وأنت تعلمين ذلك .
كانت على صواب ، انه يعتبرها يتيمة مسكينة . أجبرت نفسها على الابتسام :- لا أوافقك على ذلك ، فلدى الدفء والطعام. كما اريد ان امضى عدة ايام فقط ، لآن ايما ستأتى بعد فترة على اى حال .
تمنت لو يترك المكتب ويجلس على كرسيه فهو فى جلسته هذه يبدو مرهبا بشكل مضاعف .
سألها بصوت ناعم عميق :- اذن فأنا لا استطيع أن أقنعك ؟.
- لا ، لن تستطيع .
كان جوابها من الحزم بحيث رفع حاجبيه ببطء وهو يقول بتسلية :- هذا مؤسف .
فى هذه اللحظة قرعت برتا الباب ، ثم دخلت تحمل صينية القهوة وعليها فنجان وصحنه زطبق ملئ بأنواع الكعك المعد فى المنزل ، فضلا عن أبريق القهوة الذى يتصاعد البخار منه .
- أرجوك يا برتا ان تحضرى فنجانا آخر وحليبا وسكر . هل تأخذين حليبا وسكرا؟
أومأت ماريغولد بالايجاب بسرعة ، ثم شعرت بالارتياح عندما نزل عن المكتب وجلس على كرسيه بينما خرجت برتا .
بحثت فى ذهنها عن شئ حيادى تقوله :- اذن فأنت تسكن هنا منذ عامين ؟ يبدو هذا المكان نائيا وبعيدا عن لندن .
هز كتفيه العريضتين ، فاضطربت احاسيسها للحظة قبل ان اعود فتسيطر عليها، واجاب :- هذا ما جعله جذابا فى نظرى . كان لدى بيت فى لندن ، وهو مريح للغاية الا اننى كنت ابحث عن منزل كهذا منذ بعض الوقت . وعندما قرر بيتر أن يبيعه قمت بشرائه ، وانهينا المعاملات الرسمية فى اسابيع . وبعد ان بعت الشقة فى لندن نفلت معظم الاثاث الى هنا . كان شرط بيتر الوحيد أن أهتم بماغى من اجله . كان مولعا جدا بالسيدة العجوز ، وقد فهمت السبب بعد عدة دقائق فقط من تعرفى اليها .
- انا واثقة من ان أسرة ايما لم تكن تتعمد اهمالها .
فقاطعها :- وفرى عليك أى تبرير ...
فحملقت فيه . انه أكثر الرجال الذين قابلتهم فظاظة .
عادت برتا بفنجان اخر قبل ان تفكر ماريغولد بجواب لاذع . وبينما اخذا يشربان القهوة ويأكلان الكعك ، أبقى فلين الحديث سارا سهلا بينما جلست هى واجمة . لكنها فكرت فى سرها فى ان الرجل فتح لها بيته فلا ضير من التساهل معه لعدة دقائق.
وما ان أنهت قهوتها حتى وقفت بشئ من الصعوبة ، وما لبث فلين ان وقف ايضا .
فقالت :- سأذهب اذن .شكرا لك على كل ما فعلته من اجلى .
- فلين .
- ماذا ؟
فقد قال اسمه برقة زائدة.
- اسمى هو فلين . أنت تتجنبين الكلام معى لئلا تنطقى باسمى. أليس كذلك ؟
ودت أن تطلق عليه أسماء كثيرة لو كان يعلم .
فقالت كتذبة بسرعة بينما هى تعلم أنه على حق تماما :- لا أبدا .
فمناداته بأسمه الاول فلين، يمنح هذا الوضع بعدا اخر . لأنها اذا صادفته فى ما بعد، لا سمح الله، لن تتمكن من ان تعود فتخاطبه بلقبه (السيد مورو) . كما انها بحاجة الى ان تحتفظ بمسافة بينها وبين هذا الرجل، مسافة عقلية وعاطفية و... جسدية ....
فقال يكرر كلامها بتهكم ناعم :- لا ابدا . قلت هذه الكلمة مرتين هذا الصباح، وفى كل مرة كنت تكذبين .
فحملقت فيه وقد توهج وجهها ، وشعرت بمزيج من الغيظ والشعور بالذنب :- كيف تجرؤ؟ لا يحق لك أن تتكلم معى بهذا الشكل .
- الحق يؤخذ ور يعطى. هل كنت تتشاجرين مع خطيبك السابق طوال الوقت ما جعله يهرب بهذه الطريقة ؟
- لاأصدق أننى اسمع هذا ....
فقال ببطء وبرودة ، وقد بدت لهجته مناقضة تماما لصوتها الهائج :- لان هذا لا يصلح مع الرجل الحقيقى ، يا حلوتى المحاربة الصغيرة .
ردت عليه ساخطة :- وانت رجل حقيقى أليس كذلك ؟
- آه ، نعم .
دار حول المكتب ثم وقف امامها ، وغدت عيناه الجامدتان مليئتين بالحيوية فى وجهه الاسمر ، بينما التوى فمه بأبتسامة ساخرة وهو ينظر الى هياجها :- ما أنت بحاجة اليه هو رجل حقيقى يا ماريغولد . النار يجب ان تواجه النار لئلا تموت تدريجيا وتتحول الى رماد أو أسوأ من ذلك ، تحرق نفسها وكل ما حولها . وراء كل امرأة سليطة اللسان رجل ضعيف .
انها المرة الاولى التى تشعر فيها ماريغولد بالغضب الى حد تعوزها معه الكلمات . أخذت عيناها تقذفان شررا أزرق بينما توهج وجهها غضبا . ثم حاولت ، بصمت ، ان تتمسك بالعكازين . شعرت بأنها مستعدة لدفع كل ما تملكه فى هذه اللحظة فى سبيل ان تصفع بكل قوتها وجهه المتغطرس الشامت، رغم حجمه الكبير .
استدارت عنه بغضب وتوجهت الى الباب ، لكن فلين سبقها ليفتحه لها بحركة شبه مسرحية وهو يقول بهدوء :- هل اتصل بويلف لينزل لك أمتعتك ؟.
- شكرا .
قالت هذا بحدة فالتوت شفتاه. ورأت نظرة الهزء التى لم يستطع ان يخفيها فى عينيه ، فتجاهلتها وأسرعت نحو الردهة بقدر ما أمكنها من سرعة ، ومنها الى الممر الصغير الذى يؤدى الى جناحها . فتحت الباب المؤدى الى غرفة الجلوس بأصابع مرتجفة وهى من الاستياء بحيث لم تعلم ما اذا كانت تريد ان تبكى أو تصرخ. وكادت أثناء ذلك تفقد توازنها .
لكنها لم تبك ولم تصرخ . وانما جلست تنتظر ويلف منتصبة الظهر متوهجة الوجه ، بعد ان أغلقت حقيبة ثيابها وارتدت معطفها الصوفى . يا له من رجل صعب ! انه صعب للغاية ! هى لم تطلب منه العون منذ البداية لكن عقلها قاطعها ... فقد كانت ترجو ان يوصلها الى كوخ ايما عندما صادفته فى الطريق. ولكن هذا كل شئ . لم تطلب منه المجئ الى هنا .ولم تطلب قضاء الليل . كما انها حتما لم تطلب رأيه فيها أو فى حياتها .
مضت عشر دقائق أخرى قبل ان يقرع ويلف الباب، وكانت ماريغولد قد هدأت ، ظاهريا على الاقل، اما فى داخلها فلا تزال تشعر بالغليان... وتود ان ترفس شيئا ... أو شخصا فى الواقع . كان ذلك الشخص ينتظر فى الردهة عندما تبعت ويلف الى البيت الرئيسى . وعندما تابع الرجل سيره بالحقيبة ، قالت ماريغولد لفلين بجفاء بالغ :- هل لك ان تبلغ شكرى لبرتا لاهتمامها بى ؟
- بكل تأكيد.
وتناول سترة جلدية كانت ملقاة على الكرسى، ثم فتح الباب الخارجى على اتساعه لتتمكن من الخروج .
وتابعت تقول متوترة وقد أزعجها خروجه معها ليراقبها وهى راحلة :- سأطلب من ايما أن تعيد العكازين عندما تصل .
الا ان الامر لم يكن كذلك ! فالسيارة الضخمة ذات قوة الدفع الرباعية متوقفة على طريق المنزل وقد وضعت حقيبتها على المقعد الخلفى، لكن لا أثر لويلف . وصلت ماريغولد الى السيارة وفلين خلفها . وما ان قال :- هيا دعينى أساعدك ، حتى وجدت نفسها محمولة بين ذراعيه وهو يضعها على المقعد بجوار مقعد السائق ، وذلك قبل أن تتمكن من الاحتجاج . ثم صعد هو الى مقعد السائق خلف عجلة القيادة بأعصاب باردة تماما .
- ماذا تفعل ؟
بدا صوتها حادا مرتفعا ، لكنها لم تستطع منع نفسها .
فسألها :- قلت انك تريدين الذهاب الى الكوخ . فهل غيرت رأيك ؟.
- لا. انا لم اغير رأيى. لكن ظننت ان ويلف سيأخذنى .
- لا أدرى من اخبرك بذلك . وكما أتذكر انا لم اقل شيئا سوى ان ويلف سيحضر حقيبة ثيابك الى السيارة .
- لكننى أخبرتك...
- آه ، لا حاجة لان يخبرنى احد بشئ، ماريغولد لقد سبق واتفقنا . لا تتوقعى منى أن أنتدب ويلف ليوصل ضيفتى الى مكانها الجديد بينما انا هنا . ستبقى سيارتك مع ويلف خلال هذين اليومين . لكن بما أنك لن تتمكنى من القيادة بسبب قدمك المصابة ، فلا أظن ان هناك داعيا للعجلة .
بدا ذلك منطقيا للغاية ما جعل ماريغولد تشعر وكأنها طفلة متمردة ربما كان هذا ما يريدها فلين ان تشعر به بالضبط ، كما أخذت تفكر بضيق .
طوت السيارة المسافة عبر الوادى الى الكوخ بغميضة عين ، أو على الاقل هذا ما شعرت به . انكمشت لفكرة دخولها الى هذا المنزل المظلم الصغير الرطب مرة اخرى، لكنها لن تستطيع الاعتراف بذلك الان . بدت شمس الشتاء الباهتة مشرقة بشكل رائع فى الخارج ، هذا ما خطر لها فيما كان فلين يوقف السيارة عند البوابة الصغيرة ، ثم يسير حول السيارة ليساعدها على النزول .
قوت نفسها فى مواجهة الهواء الرطب والصقيع ، بينما فتح فلين باب الكوخ بالمفتاح . وكانت قد أعطته اياه أمس لكى يقوم ويلف بتهوئة الكوخ وتدفئته . وبدلا من رائحة الرطوبة الكريهة وجدت الردهة الصغيرة مشرقة دافئة مرحبة بالضيوف .
فتح لها باب غرفة الاستقبال ، واذا بها ترى أن غرفة الامس ذات الرائحة العفنة الرطبة قد تحولت الى غرفة دافئة مشرقة ، رغم انها مازالت مكتظة بالاثاث . كما ان النار تضطرم فى المدفاة . وكان هناك زهريتان تحتويات على أزهار ملونة عطرة ، أضفتا لمسة حميمة على المكان، وقد أزيحت الستائر فبدا المشهد الخارجى الابيض رائعا .
قال فلين بهدوء :- تركنا التدفئة الكهربائية تعمل ليلا نهارا مع ان ذلك يشكل ضغطا على الكهرباء لكنه ضرورى . والان اظن ان التدفئة بالنار هنا وفى غرفة النوم باتت كافية .
- هذا جميل .
لم تصدق ان جمر الحطب والازهار يمكن ان تسلغ على المكان مثل هذا السحر والفتنة . بدا كل شئ مختلفا . وفجأة ، رأت الكوخ بعينى جدة ايما فهفا قلبها الى تلك المرأة العجوز التى كافحت طويلا لتبقى فى بيتها .
عرجت الى غرفة النوم حيث وجدت مدفأة أخرى تتأجج بالنيران ، وقد أبدلت الملاءات بأخرى نظيفة ووضع غطاء مطرز رائع بلون القشدة على السرير . تمكنت ماريغولد من تمييز التصميم :- هذا الغطاء من بيتك ، اليس كذلك ؟.
قالت هذا ببطء فيما وقع نظرها على مزيد من الازهار موضوعة على منضدة الزينة وصندوق الادراج .
هز فلين كتفيه :- انه فائض عن الحاجة كما أظن كان لدى برتا فى خزانتها .
قال هذا بعدم اهتمام فسألته :- والازهار ؟.
- لدى ويلف مستنبتان يحتفظ فيهما بما تحتاجه برتا من الازهار للبيت . وهناك دوما أكثر مما نحتاجه .
لم تخدع تلك الكلمات العفوية ماريغولد . لقد نظم فلين كل هذا ، وهى شاكرة له . لكنها شعرت بالخوف من هذا السرور الذى اجتاحها . ربما كان سيفعل الاشياء نفسها لكل تائه يكتشفه فى العاصفة ، ذكرت نفسها بذلك ساخرة . فهذا لا يعنى شيئا . انه عمل حسن ... حسن لا غير وهى لا تريده ان يعنى شيئا .
- انه مختلف للغاية .
التفتت الى الوراء وكان فلين يقف خلفها مباشرة عند عتبة غرفة النوم . لكنه لم يتحرك فقالت بسرعة :- ما كان لك أن تزعج نفسك . لكننى أقدر لك هذا . بكم ادين لك ثمنا للوقود ؟
فقال برقة :- لا تكونى سخيفة .
شعرت بخفقات قلبها تتسارع ـ خفقات سريعة مذعورة جعلتها غير قادرة على التفكير بشكل مترابط. رفعت بصرها تحدق اليه ، وعادت تلح قائلة :- لكن يجب أن ادفع لك . فمن غير الممكن ان ....
مد يديه يمسك بذراعيها ثم أحنى رأسه وعانقها ... بدأ عناقه رقيقا ناعما ولم تحاول ماريغولد ان تدفعه عنها ، ما جعل عناقه يزداد قوة .
- شعرك ناعم كالحرير .
تمتم بذلك برقة ويده مشتبكة بشعرها الناعم :- كما ان لونه ساحر . لم ار قط لها مثل شعرك الرائع . هل تعرفين هذا ؟.
لم تجبه ماريغولد ... لم تستطع ان تجيبه كانت مذهولة ومضطربة تماما لهذه المشاعر التى اثارها فيها عناقة ... لم يتملكها هذا الشعور قط طوال عهدها مع دين .
أبعدها عنه قليلا وببطء ثم قال برقة :- أترين ؟ لقاء النار بالنار .
حدقت ماريغولد اليه وقد فقدت عيناها انبهارهما وتعبيرهما ، ما ان تجلت امامها الحقيقة بكل برودتها المرعبة . هذا الرجل لم يعجبها منذ البداية ومنذ تعارفهما لم يتبادلا أكثر من كلمات معدودة مهذبة وهى سمحت له ... لم تشأ ان تفكر بما سمحت له به .
ويبدو انه احس بما يجول فى خاطرها . لذا بدا صوته ، عندما تكلم مرة اخرى جافا يحمل لمحة من التسلية الخفية التى سمعتها عدة مرات من قبل :- لا بأس يا ما ريغولد . كان هذا مجرد عناق .
لا، لم يكن مجرد عناق كما فكرت بمذلة .... ليس بالنسبة اليها على الاقل . بل انها اكبر تجربة ناسفة للدماغ غرفتها فى حياتها وقد علمتها عن نفسها فى لحظات قليلة اكثر مما تعلمته فى سنواتها الخمس والعشرين الماضية . ولو ان شخصا أخبرها ان بامكانها ان تفقد عقلها بهذا الشكل لمجرد عناق لسخرت منه فى وجهه . لكن هذا ما حصل ... ولا ينبغى ان يحصل مرة اخرى .
- أتركنى من فضلك .
كان صوتها خافتا لكنه واضح. واستجاب فلين لطلبها على الفور .
ما الذى يفكر فيه؟ اخذت تتساءل بيأس صامت . بالامس أخبرته انها جاءت الى كوخ ايما لتداوى جراح قلبها .... واليوم ، فى اليوم التالى تماما كادت تذوب بين يديه !
- لن أقول اننى اسف لاننى عانقتك ، لاننى أردت ان افعل هذا منذ اللحظة الاولى التى رأيتك فيها على الطريق ، كما اننى أتظاهر بأننى لم الاحظ استمتاعك بذلك .
لم تنكر هذا . لا فائدة من ذلك ... كما ان ماريغولد ليست من النوع الذى يتملص من نتائج أعماله . وبدلا من ذلك رفعت ذقنها وقد ضاقت عيناها ... ثم قالت متوترة :- اريدك ان ترحل الان ، لكننى اولا أريد ان ادفع لك ثمن الحطب والفحم .
فقال بصوت خشن :- لم يكن سوى عناقا .
وتخلل شعره الكث بأصابعه ما أنبأ باحباط بالغ :- بين شخصين راشدين راضيين .
قالت هذا غاضبة ، كما لو انه اخبرها بأنها تأتى فى الدرجة الثانية بعد امرأة اخرى :- ما كان لذلك ان يحدث على الاطلاق . فأنا أكاد لا اعرفك.
رفع حاجبيه ساخرا وهو يشبك ذراعيه على صدره :- اسمى فلين مورو ، فى الثامنة والثلاثين من العمر ، عازب وذو عقل سليم . أهناك شئ اخر تعتبرينه هاما ؟.
- هناك الكثير .
فقال برقة بالغة :- علينا اذن أن نبحث هذا الامر فى وقت اخر .
فجأة لم يعد يبتسم .
- لا أظن ذلك.
حاولت جاهدة ان تجعل صوتها يبدو حازما رغم ان قلبها كان يذوب أتراه يهتم بها ؟ لم تستطع ان تصدق ذلك تماما . من كان بمثل نجاحه وثرائه ويتمتع بهذه القوة والنفوذ، سيفضل امرأة شقراء طويلة القامة والساقين وتشبه عارضات الازياء ... من نوع تامارا ... اما هى فطولها لا يتعدى المئة والستين سنتيمترا ، شعرها كستنائى ناعم وبشرتها يكسوها النمش فى الصيف . حتى امها لا تستطيع أن تصفها بأنها ذات جمال خلاب . لاشك انه يرغب ببعض التسلية اثناء الاجازة ، خصوصا وانها فى متناول اليد .
- لا . أمازلت مهتمة بما كان يمكن ان يحدث ؟
كان فى صوته سخرية ناعمة للغاية . ولم يبد عليه أى ضيق لرفضها له ما جعلها واثقة من نظريتها أكثر من اى شئ اخر . لكنها وللوهلة الاولى ، لم تفهم ما كان يشير اليه . ثم تذكرت دين . دين ، الذى لم يثر أى احساس فيها بالمقارنة مع هذا الرجل ، والذى أصبحت ذكراه الان بعيدة تماما عنها .
- لا، ابدا ....
وسكتت فجأة عندما لمعت عيناه الفضيتان تحديا . ثم عادت تتابع بحزم :- لا ، لم اعد مهتمة بما كان يمكن ان يحدث . فى الواقع ، بدأت افكر منذ بعض الوقت فى اننى كنت محظوظة لخلاصى منه .
حصل ذلك منذ عناقها فلين . وأدركت للمرة الاولى ، ما معنى ان تتجاوب مع الرجل بحميمية مشابهة . ما كانت ستشعر بذلك مع دين ولو بعد مليون سنة .
قال على الفور :- لكنه هز ثقتك بالرجال أليس كذلك ؟.
نعم ، هذا ما حصل ، وأزعجها انها لم تدرك ذلك حتى الان ايضا ، كما أخذت تفكر بضيق . وهذا السيد ( الذى يعتبر نفسه عالما بكل شئ ) سيبتهج للغاية اذا اعترفت له بأنه على صواب .
فقالت بتكلف :- اسفة اذا كانت هذه هى الطريقة الوحيدة التى تجعلك تتقبل فكرة أننى لا أريد أن أعرف عنك المزيد .
- وهكذا أنا لست على صواب ؟
تنفست بعمق ثم أجابت كاذبة :- لا ، انت لست على صواب .
ابتسم فلين واحست ماريغولد ان أبتسامته تلك عدوانية كأبتسامة سمك القرش . ثم قال بظرف :- أنا مسرور لانك لست بارعة فى الكذب يا ماريغولد . أنا حقا أكره ذلك فى المرأة . والان هناك غرفة صغيرة خلف الكوخ فى الحديقة اعتادت ماغى ان تضع فيها الدجاجات عندما ينزل المطر وقد خزن ويلف فيها من الفحم والحطب ما يكفيك لاكثر من أسبوعين . وعليك ان تبقى النار مشتعلة ليلا نهارا. أنت تعرفين كيف تشعلين النار اليس كذلك ؟
لم يكن لديها فكرة عن ذلك ، ولكنها أومأت بكبرياء :- طبعا أعرف .
نظر اليها ساخرا :- كثير من رقائق الفحم وقشور الفاكهة تنجز المهمة . وكذلك أوراق الشاى ، وهذا النوع من الاشياء . كومى هذه الاشياء وتأكدى من أن كمية الهواء التى تتخللها قليلة جدا قبل ان تشعلى النار بهذه الطريقة يبقى لديك كمية جيدة من الجمر فى الصباح .
وفكرت بلؤم ان كلامه أشبه بتعليمات لخادمة البيت . وعلى الفور شعرت بالخزى من نفسها عندما أضاف فلين يقول :- كل بقالتك موضوعة فى الخزائن والثلاجة ممتلئة ايضا ، ولكن من دون قسم التجليد مع الاسف .
- حسنا شكرا ، والان ماذا أنا ....؟
قاطعها محذرا وعيناه تلمعان :- اذا ذكرت دفع الثمن مرة اخرى فسأقبل ولكنى لن أقبل بالنقود هل فهمت ؟.
فتحت فمها لتحتج ، لكن نظرة واحدة الى عينيه أنبأتها أنه يعنى ذلك فعلا . فعادت وأقفلت فمها . ولحسن الحظ انه لن يعلم أبدا ما أثارته كلماته فى نفسها من شوق .
- خذى هذه الحبوب وتناولى حبة كل ست ساعات . لا تتناولى أكثر من ثمانى حبات كل أربع وعشرين ساعة .
قال هذا بهدوء وقد ارتد فجأة الى وقاره المهنى ، فيما هو يخرج من جيبه علبه حبوب مسكنه للالم :- ستخلصك هذه الحبوب من الالم الى ان يشفى كاحلك .
أومأت ، وهى تتمنى ان تذهب بسرعة فهى بحاجة الى وقت تحلل فيه مشاعرها واضطرابها البالغ . وما دام يقف هنا امامها فلا مجال لان تسيطر على مشاعرها .
اقترب منها مجددا ورفع ذقنها لينظر الى وجهها :- الى اللقاء ، يا ماريغولد .
- الى اللقاء .
وفجأة ، ولسبب غير عقلانى أدهشها، ارادت أن تتوسل اليه لكى يبقى . لكن هذا جنون كما حذرت نفسها ، متسائلة عما اذا كان سيعانقها مرة اخرى .
لكنه لم يفعل . وعندما رأته يسير نحو الباب شعرت الاستياء وراحت تتساءل عن السبب الذى منعه من معانقتها . ولكن ، هل تشعر بالجاذبية نحوه؟ لا . لا يمكن ان تسمح لنفسها بذلك . حياتها صعبة بما يكفى . اخر ما تريدة الان هو رجل معقد مثل فلين !
تبعته الى الباب الخارجى . واخذت تنظر الى ذلك الرجل الطويل الاسمر وهو يسير بخطواته الواسعة على الثلج عبر الحديقة . بدت السماء فوقهما صافية ، وقد أحالت شمس الشتاء الباهتة الثلوج الى صفائح لامعة كالماس ما جعل أثار قدميه تبدو كفجوات عميقة مثله .... واسعة .... اوسع من الحياة .
ضاقت عينا ماريغولد بسبب أشعة الشمس وراحت أفكارها تتسارع كان فلين من أولئك الاشخاص الذين يصادفهم الانسان مرة فى الحياة ... ذلك النوع الذى يبعث الحيوية والاثارة أينما ذهب . والتورط مع شخص كهذا وبأى شكل كان ، هو شئ مهلك تماما .
لقد حدثها عن اجتماع النار بالنار ، لكنه لا يعرفها فى الحقيقة . فهى مجرد فتاة عادية . كل ما ترغب فيه فى النهاية هو بيت وأسرة وحياة هادئة مع الرجل المناسب . وأكثر من أى شئ ، تريد رجلا يحبها ، يحبها وحدها رجلا يراها رائعة كما هى فلا تقفز عيناه وراء كل شقراء طويلة ذات ساقين تصلان الى ما تحت ابطيها .
نظرت الى السيارة الضخمة الفارهة وهى تبتعد، ورفعت يدها للحظة قصيرة ترد على تلويح فلين لها بيده . ولم تلحظ انها كانت تبكى الا بعد ان عادت تحجل الى البيت ، ومن ثم الى المطبخ لتعد لنفسها كوب شاى منعش .
****************************************
انتهى الفصل الرابع

Just Faith 26-11-17 04:14 PM



5 - غريب وزنبقتان
وبعزيمة لم تكن ماريغولد تعلم أنها تملكها ، أزاحت كل الافكار المتعلقة بفلين مورو من ذهنها بقية ذلك النهار وفى المساء . ومع أنه فى الواقع ، كان يحاول غزو ذهنها اذا ما تخلت عن الحذر ولو لثانية واحدة ، الا أن صوت الراديو المرتفع والكتاب المفتوح أمام عينيها ، نجحا فى ابعاده .
عندما دخلت الى المطبخ بعد ذهاب فلين ، وجدت ان الثلاجة والخزائن ممتلئة بمواد غذائية متنوعة لم تكن قد اشترتها . كما وجدت بعض الكماليات المترفة التى جعلتها تفتح عينيها على اتساعهما ، زجاجات عدة من العصير ، علبة كبيرة من الشوكولا ، قالب حلوى يسيل له اللعاب ... وتتابعت القائمة .
نظرت ماريغولد الى هذا كله بمزيج من الضيق والسرور ، ثم نظرت من الباب الخلفى الى الخارج فرأت الفحم والحطب ما يكفى لشهرين وليس لاسبوعين فقط. لا يمكن اتهام فلين بالبخل ابدا . وعضت شفتها بشدة عندما أشارت الساعة الموضوعة على رف المدفأة الى الحادية عشرة ، واذا بأفكارها تعود الى فلين مرة اخرى .
كانت قد سكبت لنفسها كوبا من العصير ، تناولت عشاءها المؤلف من بفتيك مشوى مع الفطر والبندورة. فكرت بهذا الاختلاف بكآبة وهى تصعد الى سريرها بعد دقائق . بدا السرير مغريا بملاءاته المنشاة المعطرة وغطائه المطرز . وتذكرت السرير الذى ألقت عليه نظرة مختصرة فى اليوم السابق، كان منظره مزريا فقد كومت عليه بطانيات قديمة رثة المظهر ولحاف بدت آثار العث على كيسه ذى اللون الوردى الحائل .
كانت قد اتبعت نصيحة فلين وأشعلت النار حسب ارشاداته. والان ، أخذ اللهب الازرق والبرتقالى يتصاعد من المدفأة محدثا ظلالا، راحت تتراقص فى الغرفة بخفة . بعثت قرقعة الحطب فى نفسها ارتياحا ورضى هائلين . ما أجمل أن ينظر المرء الى النار المتوهجة فيما هو يندس فى الفراش ، هذا ما خطر لها ناعسة . انها تفهم الان لماذا كافحت جدة ايما من اجل البقاء هنا زمنا طويلا . مع قليل من العناية يمكن لهذا المكان أن يغدو متألقا .
كانت غرفة النوم واسعة جدا، لكنها لم تبد كذلك لكثرة ما فيها من أثاث. واذا اقتصر الاثاث على السرير مع خزانة أصغر حجما ، ستبقى فسحة كافية للعمل . يمكنها عندئذ أن تضيف الى الغرفة كرسيا ولوحا للرسم وكل شئ آخر تحتاجه ...
توقفت ماريغولد فجأة عن التفكير ، وجلست فى السرير . أزاحت شعرها عن وجهها ، وهى تدرك الى اين وصلت بها الافكار . أتراها لا تزال تفكر جديا فى شراء هذا الكوخ من ايما ؟ ماذا بالنسبة الى كل هذه المضايقات ؟ ماذا بالنسبة الى فلين مورو ؟
جلست دقائق عدة تحدق الى الفراغ ، قبل أن تعود فتندس فى فراشها مرة اخرى . أخذت خفقات قلبها تتسارع وهى تفكر فى ان فلين سيكون أقرب جيرانها . وتوقفت عند هذه الفكرة للحظة ، قبل ان تصرفها بشئ من الاسى .
لا مزيد من التفكير بهذا الامر لهذه الليلة . غدا ليلة الميلاد وهى هنا فى كوخ صغير والثلج يحيط بها ، ولديها أكوام من الطعام والشراب . لابأس فى أن تكون وحدها ولو لمرة . وهى ستستمتع بعيدها ... ربما بهدوء ، ومع ذلك ستستمتع به ولن تفكر فى شئ اخر . ربما لن ترى فلين مورو بعد اليوم ، على أى حال .
نامت خلال دقائق ، ولم يخطر فى بالها ، حين انجرفت نحو نوم من دون احلام، انها لم تفكر ولو مرة واحدة فى دين وتامارا وذلك خلال ساعات .
عند الساعة العاشرة من صباح اليوم التالى دق جرس باب الكوخ ، ما جعل ماريغولد تستيقظ فزعه . مرت لحظات لم تعرف فيها أين هى . وعندما تذكرت كل شئ ، ألقت بالاغطية جانبا ثم تناولت رداء النوم الصوفى السميك وهو هدية عيد الميلاد منها لنفسها ، وكانت قد رأت احدى الممثلات على الشاشة الفضة تلبس مثله . ورغم أنه كلفها الكثير ، الا انه جعلها تشعر بالانوثة بشكل رائع . فمنذ نجحت تامارا فى سرقة خطيبها منها ، شعرت انها بحاجة الى ان تشعر بأنوثتها أكثر .
حاولت أن تقف على قدمها المصابة بحذر ، وعندما شعرت بقدرتها على السير أخذت تعرج بحذر الى الباب من دون عكازين وهى تتساءل عما اذا كان ويلف فى الخارج مع سيارتها ميرتيل . أزاحت شعرها عن وجهها ثم فتحت الباب .
- صباح الخير .
لاحظت ان الثلج يتساقط من جديد، وشعرت بدوار فى رأسها وهى تنظر الى عينين جامدتين فوقهما شعر فاحم السواد غطته قطع الثلج ، قبل ان ترغم نفسها على ان ترد :- صباح الخير .
- هل أيقظتك من النوم ؟
ولم يبد عليه الاسف على الاطلاق. كانت عيناه فى الواقع تتفحصانها باستمتاع .
- نعم .
وافقته بغموض متسائلة كيف يكون لاى رجل الحق فى أن يبدو جذابا الى هذا الحد فى حين لم تغسل حتى اسنانها بعد :- لم أزعج نفسى بربط المنبه.
- لقد أحضرت لك شيئا .
وأشار الى جانبه فنظرت ماريغولد لترى شجرة عيد ميلاد صغيرة جميلة للغاية :- أحضرنا لتونا شجرة للبيت ، وكانت هذه بجانبها وبدت لى بحجم مناسب للكوخ ، وقد فرزت برتا لك بعض الزينة . وضعت الشجرة فى حوض مناسب ، وعليك ان تبقيها رطبة وبذلك يمكن أن تعود الى الغابة بعد العيد .
- هذا حسن .
أدركت انها لم تبد شاكرة له ، لكنها كانت واعية تماما لشعرها المشعث ووجهها العديم الزينة .
- كيف حال نظراتها على جرح خفيف فى ذقنه ال قدمك ؟
وجاهدت لتتمالك نفسها :- آه ، قدمى ! يبدو انها تحسنت قليلا شكرا .
- هذا حسن .
ووقف ينظر اليها بعينين لامعتين :- ما من قهوة فى الداخل ، اليس كذلك ؟.
احمر وجه ماريغولد . بعد كرمه البالغ ، لا يمكنها ان تبخل عليه بفنجان قهوة .
لكنه بدا بالغ الاناقة حتى ان كل شعرة من رأسه بدت فى مكانها، بينما هى ... حسنا ، لم تكن كذلك ... وتركزت نظراتها على جرح خفيف فى ذقنه المربعة ، ثم وجدت نفسها فجأة محبوسة الانفاس .
- ماريغولد ؟
طرفت بعينيها وهى تدرك انه قال شيئا لكنها لم تسمع منه أى كلمة .
- قلت اذا كان فى ذلك أى ازعاج ...
ازداد احمرار وجهها وقالت باستياء :- طبعا لا .
ثم لطفت صوتها وهى تضيف :- أرجوك ان تدخل . ويمكنك ان تضع الشجرة فى غرفة الجلوس بجانب المدفأة اذا لم يكن لديك مانع . انها ... انها حلوة جدا .
- نعم انها كذلك .
وافقها على ذلك ، لكن عندما نظرت الى عينيه وجدت أنهما تضحكان لها وليس للشجرة . فى غرفة الجلوس ، نظر منتقدا الى النار الخامدة تقريبا :- انها على وشك الانطفاء. اصنعى القهوة بينما أضرم النار .
وخلع سترته ووضعها على الاريكة وهو يقول :- هل رأيت الدلو القديم الذى كانت ماغى تستعمله للرماد الساخن ؟
قالت له بسرعة :- سأحضره . انه فى خزانة المكانس. انتظر هنا .
كان المطبخ القديم الطراز ضيقا . ومجرد التفكير فى أن تكون هى وفلين محشورين فى مثل هذا المكان الضيق مثبط للهمة . فتحت باب الخزانة وأخرجت الدلو ، ثم استدارت . واذا بها تطلق صرخة دهشة حين وجدت فلين خلفها مباشرة .
- ما كان لك أن تسيرى على كاحلك الان . أين العكازان؟
كان فلين يرتدى بنطلون جينز حائل اللون وكنزة كبيرة . وبدا واضحا انه ارتدى ثيابا تسمح له بالسير تحت الثلج لكى يحضر شجرة العيد . كانت ملابسه نظيفة لكنها رثة قليلا وبعيدة عن تلك الملابس الانيقة التى رأته فيها من قبل، فسألت نفسها بضعف :- لماذا تبرز رجولته السمراء بشكل أفضل من تلك الملابس الاخرى ؟
وأرغمت نفسها على التركيز وهى تجيب :- العكازان بجانب السرير كما أظن . لكننى أفضل السير بدونهما اذا استطعت . الابواب الضيقة هنا ولا تسمح لساقين اضافيتين بالمرور .
فوافقها بسهولة :- ولا لشخص يفوق طوله المئة والسبعين سنتمترا فبعد عدة زيارات لماغى تعلمت أن أحنى رأسى لامر عبر الابواب .
ابتلعت ماريغولد ريقها وحاولت أن تبتسم . كان جسمه من القرب منها بحيث أرغمها على الانتباه الى دفئه الرجولى والرائحة الخفيفة التى تفوح من جلده الاسمر ... رائحة خفيفة غامضة تسبب رد فعل فى جسدها ، هى فى غنى عنه . المشكلة هى أن فلين رجل مثير للاضطراب الى حد أن مجرد وجودها قربه يثير فيها الارتباك البالغ كما اعترفت لنفسها بأستياء .
حملت الدلو ، غير واعية الى انها تستعمله كدفاع ضد قربه منها .
- سوف ... سوف أضع ابريق الماء على النار . يبدو أن ماغى لم تكن تحب القهوة .
- لا. فقد كانت مغرمة بفنجان الشاى والفطيرة المدهونة بالزبدة . هناك بعض الكعك المملح فى صندوق الخبز مع بعض الخبز البيتى من صنع برتا اذا كنت تنوين تقديمه .
لم تجب على الفور لكنه تمتم بمكر :- بعد العمل فى الهواء الطلق فترة يبدو للمرء وكأنه تناول فطوره منذ سنوات .
- آه ، آسفة . ظننتك أحضرت شجرتى عيد ميلاد وليس غابة بأكملها.
ضحك لها من دون أن يتراجع عن الحاحه . وترددت هى ثم وافقت على الفور ، راجية أن يبتعد عنها قليلا :- فليكن الكعك المملح أذن . وأظنك تعلم ايضا مكان حفظه ؟.
- الخزانة الشمالية فوق حوض الغسيل وأنا أفضل الزبيب الاسود.
- ستحصل على ما طلبته .
- وعود ... كلها وعود ...
لكنه حمل الدلو وخرج من المطبخ ، فاستطاعت أن تتنفس مرة أخرى .ثم ناداها من فوق كتفه :- ولا تحاولى أن تحملى صينية أو أى شئ اخر . سآتى لاحملها بنفسى حالما تشتعل النار .
وعند العاشرة والنصف ، كانت ماريغولد تجلس أمام نار متوهجة متناقضة بشكل رائع مع الثلج المنهمر فى الخارج ، وهى تأكل الكعك المملح المسخن فى فرن المطبخ القديم . وكان فلين قد التهم خمس كعكات فيما اكتفت هى بكعكتين فقط . سألها متأملا :- هل تذوقت يوما الخبز المحمص على النار ؟
- لا أظنك جائعا بعد .
- أنا أحرق الكثير من الطاقة .
ونظر اليها من فوق كوب القهوة فلم تسأله كيف . عثرا على شوكة لتحميص الخبز بين الادوات المعلقة على جانب المدفأة . وعندما فاحت رائحة الخبز المحمص وجدتها ماريغولد رائعة على جانب المدفأة . فتأكل البعض منه مع الزبدة رغم انها كانت قد أنهت فطورها .
كان هذا ممتعا للغاية . ألقت على فلين نظرة جانبية فبدا مشغولا بتحميص الخبز وقد جلس القرفصاء أمام النار . ان جسمه رائع. لم تعلم من أين جاءتها هذه الفكرة فصدمتها، حتى كادت تختنق بفتات الخبز .
تساءلت بفتور عما جعلها تجلس هنا مسترخية لتتشارك الفطور مع رجل عرفته منذ يومين فقط . لكنها كانت تعرف الجواب ... لان هذا الرجل اسمه فلين مورو. وفكرت بارتباك يائس ، انه أشبه بجرافة بشرية ... تجرف بفظاظة كل الصعوبات التى تعترض طريقها .
وغامرت بالقاء نظرة أخرى عليه ثم تصلب جسمها عندما التقت أعينهما . فسألها بنعومة :- ماذا حدث ؟.
- ماذا ؟
- أراك عابسة .
سألته مراوغة :- أحقا ؟.
ثم بررت عبوسها بأنها تشعر بوخز فى قدمها ، قبل أن تقول بسرعة انها بحاجة الى حمام ساخن كما انها تريد تغيير ملابسها .
- قومى بعملك ، بينما أغسل أنا يدى وأهتم بشجرة العيد .
- لا. انها ... لا بأس بها فى الواقع .
لم تستطع ان تتصور فلين فى الكوخ بينما هى مستلقية فى حوض الحمام :- لابد أن لديك الكثير من المشاغل فى بيتك . ثم ، الم تقل ان ضيوفك سيصلون اليوم ؟
فقال بهدوء :- مازال الوقت مبكرا .
- حسنا . أريد أن أبقى فى حوض الحمام مدة طويلة . فذلك جيد لكاحلى ... ولن أشعر بالارتياح اذا جعلتك تنتظر .
حدق اليها بأرتياب . لكن الطبيب فى داخله انتصر :- لا بأس .
ووقف بقفزة واحدة وحركة رشيقة ، فطرفت بعينيها بينما اقترح عليها بنعومة :- لا أظنك ستوافقين اذا عرضت عليك أن أفرك لك ظهرك .
- بالطبع لا .
- يا للاسف !
وابتسمت ابتسامة مشرقة وقالت :- شكرا على شجرة العيد ، وشكرا لبرتا على زينة الشجرة ، هل لك أن تبلغها ذلك ؟
فأجابها وهو يسير نحو الباب :- يمكنك أن تبلغيها هذا بنفسك فى ما بعد .
- لم أفهم ...
- آه ، ألم أخبرك ؟
وفتح باب غرفة الجلوس وخرج منها الى الردهة ، وبعد لحظات سمعت صوته قبل أن تغلق الباب خلفه، وهو يقول بهدوء :- سأتى لاخذك الليلة عند الساعة السادسة ، لحضور الحفلة فى منزلى .
لم تصدق ماريغولد أن بامكانها أن تنتقل من مكانها بهذه السرعة الخاطفة لكنها فى لحظات معدودات ، كانت تقف عند الباب وتفتحه ثم تنادى ذلك الشخص المتوجه الى السيارة المتوقفة عند اخر الحديقة :- فلين ؟ فلين ؟
- هل صحت بى ، يا سيدتى ؟
التفت اليها فيما هو يرتدى سترته الجلدية ، فقالت وهى تحاول أن تتجاهل مبلغ وسامته :- لا يمكننى الذهاب الى الحفلة ... أنت تعلم أننى لن أستطيع .
- لا أعلم شيئا كهذا .
- أولا ، لا أستطيع أن أمشى .
- لكنك قلت ان كاحلك تحسن قليلا .
- لم يتحسن بما يكفى لحضور حفلة .
- لست مضطرة للرقص اذا لم ترغبى بذلك .
هناك رقص اذن ، ما يعنى ملابس للرقص ! فعادت تقول :- لا أستطيع أن أذهب . ليس لدى ما ألبسه . جئت الى هنا لعدة أيام فقط اذا كنت تتذكر . على أى حال ، أنا متلهفة لقضاء ليلة العيد فى الكوخ أمام النار .
أمال رأسه جانبا :- أنت فى الخامسة والعشرين أليس كذلك ؟
أومأت برأسها بينما اندفعت من الباب قطع الثلج لتتساقط على بساط الردهة .
قال لها :- ان فتاة جميلة فى الخامسة والعشرين من عمرها لا تتلهف لقضاء ليلة العيد وحدها أمام النار كالعجائز .
شعرت بكلمة (جميلة ) تذيب مقاومتها فكافحت الضعف بكل ارادتها وقالت بفتور :- أنا أفعل ذلك .
- ستأتين يا ماريغولد . أما بالنسبة اللا ىالملابس فلا تقلقى . فالضيوف الليلة يمكنهم أن يرتدوا أى شئ من بنطلون الجينز الى أزياء كريستيان ديور .
وفى ما كان يحدثها عاد أدراجه الى الكوخ ، وما ان اقترب منها حتى مد يده اليها وفمه الصلب يبتسم لها . وفجأة لم تعد تستطيع التركيز على أى شئ ، مع اقتراب فلين منها بحيث كادا يتلامسان .
فتحت فمها لتتكلم ، لكن صوتها تلاشى قبل أن تتفوه بكلمة فقد أسكتها عناقه الرقيق هذه المرة . وما هى الا لحظة حتى استيقظت فى داخلها أحاسيس عنيفة لم تشعر بها قط مع دين .
للمرة الاولى فى حياتها استمتعت بمعرفتها انها امرأة وارتجفت شاعرة بالوهن. فهذا الرجل كائن غريب ، رجل غريب أسمر بالغ القوة بامكانه أن يجرفها الى عالم اخر فى أقل من طرفة عين . من جهة أخرى شعرت بأنها تعرفه منذ بداية العالم . وكأنه كان دوما جزءا منها . وزاد ارتجافها وأفزعتها قوة مشاعرها . وعلى الفور ابتعد عنها فلين :- أنت تشعرين بالبرد . اذهبى وخذى حمامك الساخن وسأراك هذا المساء .
بدا صوته آسفا فشعرت بالانزعاج لانه تمكن من التلفظ بجملة مفيدة بينما تشعر هى بمثل هذا الدمار الكلى . لم تقل شيئا وذلك لسبب بسيط ، وهو انها لم تستطع الكلام . لكن بعد رحيله مخترقا الثلوج بسيارته الضخمة ومتوجها الى منزله فى الجانب الاخر للوادى ، عنفت نفسها مئات المرات وهى تستلقى فى الماء الساخن الملئ برغوة الصابون .
لابد أنها مجنونة تماما لموافقتها على الذهاب الى تلك الحفلة الليلة ! لكنها لم توافق على ذلك فى الواقع، هكذا أخذت تعزى نفسها من دون جدوى فهو سيأتى لاصطحابها فى السادسة ولن يقبل جواب الرفض منها . لقد التزمت بحضور حفلة مع جمع من الاغراب يعرفون بعضهم بعضا وقد تزينوا وارتدوا أجمل الثياب . بينما هى ستكون كسندريلا ....
بقيت فى الماء الى ان اصبح باردا تقريبا ، فانكمشت وخرجت من الماء ثم نشفت جسدها بنشاط . وكان كاحلها قد أستحال الى ألوان مختلفة . لكنه على الاقل ، لم يعد يؤلمها كثيرا كما أن الورم أخذ يتلاشى تدريجيا . ستضطر لأن تلفه بالرباط الليلة طبعا، لكنها بالكاد ستتمكن من حشر قدمها فى الحذاء .
جففت شعرها ثم طلت جسدها بالكريم . كانت تتوقع أن تشعر بالتعاسة البالغة فى هذا اليوم الخاص ، أو على الاقل بالكأبة ، لكن مع الخشية التى جعلت فمها جافا ، والحماسة التى جعلتها ترتجف، لم يعد هناك مكان لاى شعور آخر .
تفحصت محتويات خزانتها ثم تأوهت . فما أحضرته معها من الامتعة مناسب تماما لقضاء أسبوع أو نحوه فى كوخ بعيد حيث لا ينشد المرء سوى الراحة والدفء ، لكنه غير مناسب على الاطلاق لحفلة راقصة .
لحسن الحظ أنها أحضرت معها بنطلون جينز أسود غالى الثمن ، ذلك تحسبا لبلل ملابسها الاخرى أثناء كارثة ما ، وليس لانها فكرت فى أن تلبسه فعلا . لكن الطريقة الوحيدة لتجعله يبدو مناسبا للحفلة هو أن ترتدى بلوزة أنيقة ملونة . وهى لم تحضر معها واحدة بكل تأكيد.
وأذا بنظراتها تقع على ستارة قذرة من الدانتيل التبنى اللون تغطى نافذة غرفة النوم . قد تكون قذرة ، كما أخذت تفكر عندما ومضت فى ذهنها فكرة نيرة . لكن ، اذا لم تكن مخطئة ، فهى من أجمل ما رأت عيناها من الدانتيل المحبوك يدويا ، هل تجرؤ على نزعها عن النافذة لتستعملها هذه الليلة ؟ لقد ورثت عن أمها ميلها الى أعمال الابرة ، ولهذا كانت تحمل معها دوما أدوات الخياطة أينما ذهبت . يمكنها أن تخيط بلوزة منها ، وستشترى للنافذة أجمل ستارة فى العالم بعد العيد . من المؤكد أن أيما لن تلاحظ الامر فقد سبق لها أن أخبرتها أنها سترسل لاحقا من بفرغ الكوخ من كل أثاثه .
عرجت ماريغولد الى النافذة ومدت يدا مترددة تلمس القماش القديم الجميل . وتحولت عيناها الى ورق الجدران الحائل اللون فوق المدفأة حيث علقت صورة عروسين هى صورة جدى ايما ، على الارجح. اقتربت منها أكثر وأخذت تحدق بامعان الى فتاة شابة باسمة ترتدى ثوب زفاف ونقابا قديمى الطراز، وبادلتها التحديق عينان سوداوان عميقتان فى وجه جميل .
بدا وكأن العينين تشجعانها لتأخذ الستارة وتستعملها لتستمتع بوقتها وترفع رأسها عاليا فيعلم الجميع هناك أنها ليست أقل منهم . وكأن هاتين العينين تقولان لها انها صانعة نفسها ، وانها ستكافح لكى تبقى حيث تريد ... أليس هذا صحيحا ؟ أليس هذا صحيحا؟
وأجابت ماريغولد بصوت مرتفع :- نعم ، هذا صحيح .
أنزلت الستارة عن النافذة وغسلتها وسرعان ما جففتها أمام نار المدفأة ، ثم فصلتها بحسب تصميم كانت قد رأته فى مجلة قديمة .
واخيرا أصبحت البلوزة جاهزة . وبدت لعينى ماريغولد الناقدتين بقيمة مليون دولار. لبستها للقياس النهائى ثم جلست أمام مرآة قديمة وقد اشرق وجهها بالنجاح . يبدو حقا وكأنها من تصميم (كريستيان ديور ) أو (آرمانى ) كما حدثت نفسها بحزم . أما الحذاء الاسود الخفيف الذى دسته فى حقيبتها فى آخر لحظة فكان مناسبا نوعا ما .
عندما أنهت زينة شجرة العيد الصغير التى أحضرها فلين ، كان الليل قد حل . وبدت الشجرة بديعة الجمال بفضل الزينة التى أرسلتها برتا .
تناولت عشاءها المكون من بيتزا مثقلة بالسعرات الحرارية وذلك عند الساعة الخامسة .
بعد الطعام ، ركزت اهتمامها على زينتها وتسوية شعرها . وبعد محاولتين لرفع شعرها الى اعلى توقفت عن النضال ومنحت خصلاته الحرية ، فأنسدل على كتفيها لامعا ناعما متأرجحا . وناسب لونه لون بشرتها الحنطية وزرقة عينيها العميقة رغم أن ماريغولد نفسها كانت غافلة عن جماله. نظرت فى المرآة بقلق، متمنية لو تستطيع رفعه على رأسها لتزيد فى طولها أنشا او أنشين. لكنه كان من الجمال والنعومة الحريرية بحيث تمرد على الدبابيس والقيود.
بعد ان وضعت كريما على بشرتها الناعمة وظلا أزرقا فوق جفنيها وبعض الكحل فى عينيها ، ولمسة من أحمر الشفاه الوردى اللون ، أصبحت جاهزة تقريبا . عضت شفتها السفلى الممتلئة ، ثم طقطقت بلسانها غيظا عندما غطى أحمر الشفاه سنيها الامامين .
بعد أن مسحت شفتيها ، وأعادت وضع أحمر الشفاه مرة أخرى وقلبها يخفق كأجنحة الطيور . بدت بلوزتها رائعة ، لكن ماذا بامكانها أن تفعل لتضيف خمسة أو ستة أنشات الى طولها ؟
اهدئى يا فتاة ... أهدئى ... وضعت قرطين فضيين فى أذنيها... القرطين الوحيدين اللذين أحضرتهما معها وهى تتساءل عما تراها تفعله .
وتنفست بعمق سائلة الله أن يمنحها السكينة . فكل ما تريده هو أن تتجاوز الساعات القليلة التالية بقدر ما يمكنها من الكرامة ورباطة الجأش.
لماذا دعاها فلين الى الحفلة ؟ هل يهتم بها حقا أم أنها مجرد فتاة جديدة ... أتراه يشعر بالاسف لاجلها، لاغير ؟ لكن عناقه لها لم يكن نتيجة شفقة ... لا ، لم يكن كذلك ... وراحت تطمئن نفسها بشكل محموم . ربما ليس لديها تجارب وحكمة فلين مورو، لكنها تعرف الفرق بين العطف والشعور الاقوى بكثير ... الا وهو الرغبة .
الفتاة التى بادلتها النظر من أعماق المرآة الغائمة تحدتها بعينيها البراقتين ووجنتيها المتوهجتين ، فبدت على وجه ماريغولد لمحة من ذعر. عليها أن تتحكم فى نفسها . رجل مثل فلين بامكانه أن يحصل على أى امرأة يريدها باشارة من اصبعه فقط ، وهو لن يأرق الليل بسببها . كل ما عليها أن تفعله هو ان تظهر له بوضوح أنها لا تريد أن تراه فى ما بعد بأى شكل ... قطع حبل أفكارها الطرق الحازم على الباب الخارجى فاتسعت عيناها . انه هنا! وألقت نظرة ذعر أخيرة على المرآة ثم أغمضت عينيها بشدة للحظة ، قبل أن تفتحهما وتنتصب فى وقفتها كأنها تستعد للذهاب الى الحرب لا الى حفلة ليلة عيد الميلاد .
كانت قد أراحت كاحلها طوال النهار، ولمست نتيجة ذلك عندما سارت للقاء فلين ، رغم أنها جاهدت قليلا لادخال قدمها فى الحذاء.
- مرحبا .
كان صوته كسولا حين فتحت الباب بعكس عينيه تماما .
أحمر وجه ماريغولد قليلا ازاء نظرة الاستحسان الواضحة فى عينية ، فكل ثانية أمضتها فى خياطة البلوزة تستحق منه ذلك :- مرحبا .
وسرها أن يبدو صوتها متزنا . فيما قال فلين برقة بالغة :- تبدين رائعة الجمال .
كان يرتدى قميصا حريريا رمادى اللون مع بنطلون أسود يبرزان طوله الفارع وجسمه القوى . شعرت ماريغولد بارتياح بالغ لانه لم يكن يرتدى سترة العشاء . فقد بدت بلوزتها مع بنطلونها الاسود متلائمين بشكل كامل مع ملابسه . مع ذلك كانت ملابسه تنطق بالاناقة البالغة وباسم مصممها الشهير . وللحظة ، خطرت لها فكرة هستيرية ، ما الذى سيقوله لو عرف أنها تلبس ستارة قديمة ؟ لكنها أزاحت هذه الفكرة من ذهنها وقالت:- شكرا.
- خذى هذه .
كان يضع يدا خلف ظهره، فمدها اليها بعلبة صغيرة فيها أجمل زنبقتين وقعت عليهما عيناها . زنبقتان صغيرتان بلون القشدة ! وقال :- كأن لدى حاسة سادسة ... فهذا هو اللون الملائم تماما لثيابك .
- آه ، ما أجملها .
أسرها جمال الزهرتين وازداد تورد وجهها للهدية غير المتوقعة :- ما كان لك أن تزعج نفسك حقا .
ابتسم وأخرج الزهرتين من العلبة ثم انحنى الى الامام ليثبتهما فى بلوزتها قائلا بهدوء ، وهو ينظر اليهما :- لقد جهز ويلف زهرة لكل ضيفة هذه الليلة ، وذلك بفضل مستنبته الزجاجى .
كانت اصابعه دافئة على بشرتها وهو يثبت الزنبقتين مكانهما ، وسرها أنه يركز نظره عليهما فى تلك اللحظة . فقد أثارت لمسته أغرب المشاعر فى كيانها ، كما أن فكرة حصول كل أمرأة فى الحفلة على الهدية نفسها آلمتها لحظة . وأضاف هو بصوت رقيق دافئ :- لكننى اخترت هاتين الزهرتين بنفسى . فرقتهما وجمالهما يناسبان تماما المشاعر العنيفة المحمومة ، ما ذكرنى بك .
ها هو يصفها مرة اخرى بأنها محمومة المشاعر ... وانتزعت ماريغولد عينيها من عينيه . وأخذت تنظر الى الزنبقتين اللتين يفوح منهما شذا مسكر، وقد بدا قلبهما القرمزى النابض بالحيوية متناقضا بشكل رائع مع الجمال الخارجى الهادئ لتينك الزهرتين .
- هذا يبعث على الغرور خصوصا بالنسبة لمن يعنى اسمها (زهرة الماريغولد ) مثلى . لم أتصور قط أن يشبهنى أحد بزهرة الاوركيديا .
- آه ، أؤكد لك أننى لا أبخس بجمال زهرة الماريغولد .
كان لا يزال قريبا منها ... بالغ القرب ، ولم يعجبها تجاوب أعصابها لكنها وجدت تجاوب جسدها خارجا عن السيطرة . وراحت عيناه تتأملان وجهها المتوهج وهو يقول :- انها ازهار قادرة على الاحتمال مصممة على البقاء بقدر ما هى رائعة الجمال . انها طبعا تفضل الجو المشمس الهادئ وعيش لا يشوبه المشاكل ، لكن عندما تصل العواصف والكوارث ... يمكنها ان تنمو فى أى مكان .
ادركت ماريغولد تماما أن فلين يتحدث عما هو أكثر من مجرد نباتات الحدائق . حدقت اليه وهى تتساءل كيف أن مديحه المستتر يمنحها هذه البهجة العميقة بينما هى لا تعرفه سوى منذ ثمانى وأربعين ساعة أو نحو ذلك . توقفت عن الشعور بمثل هذه الحماسة والامتنان حين هتف بها هاتف فى أعماقها يحذرها بأنه من الافضل أن تعتتبر هذا الكلام مجرد ثرثرة . حتى لو تحدث فلين بهذه الحماسة عن زهرة الماريغولد . لكنه لا يعنى أكثر من مجرد غزل عابر ... كما فكرت ساخرة .
قالت له بعدم اكتراث قدر امكانها :- من المؤكد أنك تعرف الكثير عن الازهار .
- لا ، فقط عن زهرة الماريغولد .
كان ينظر اليها بامعان وجد . وتملكها احساس خفيف لم تستطع معرفة كنهه بعث رجفه فى كيانها . واذا بفمه الجاد الحازم يسترخى لتلتوى شفتاه بابتسامة :- هيا بنا الجميع سيتساءلون الى اين ذهبنا . هل لديك دثار أو معطف سميك ؟
كانت قد أحضرت معها فقط معطفها الصوفى والمعطف الواقى من المطر ذا القبعة ، وأى منهما لا يتناسب مع هذه الحفلة بأى شكل . راحت تفكر فى ذلك وهى تسرع عائدة الى غرفة النوم . لكن لم يكن لديها أى خيار اخر سوى المعطف الصوفى لئلا تتجمد من البرد . حتى انها لم تحضر معها سترة صوفية ... فقط عدة كنزات سميكة .
التقطت كيس نقودها الاسود الذى كانت قد أفرغته من النقود منذ دقائق ، ووضعت بدلا منها مشطا وأحمر الشفاه وألقت نظرة على صورتها فى المرآة . البنطلون الاسود الضيق ، والبلوزة التى تصل الى خصرها والحذاء الاسود الخفيف ... كل ذلك بدا لها حسنا للغاية .
نظرت الى المعطف الصوفى الغالى عليها ، والذى كانت تتباهى به ذات يوم ، ثم قررت أن تتجمد بردا .
راح فلين يستعمل الرفش الموضوع قرب الجدار لكى يزيل الثلج من الممر فيما أقفلت ماريغولد الباب ووضعت المفتاح فى حقيبة يدها . وهكذا كان السير حتى السيارة خارج البوابة من دون مشاكل .
توقفت قبل الصعود الى السيارة وهى تنظر الى السماء التى كانت خالية من الغيوم . بدت النجوم أشبه بالماس على غطاء من المخمل الاسود الممتد فى السماء الى ما لا نهاية . وعلى الارض كان الجليد قد شكل غطاء من البلور على وجه الثلوج أشبة بسجاد من الماس . كانت ليلة عيد الميلاد هذه رائعة ... رائعة ، كما أخذت ماريغولد تفكر بعجب . وهى ستمضيها مع هذا الرجل الغامض ... فلين مورو ...
كانت طوال النهار تكافح فكرة العلاقة الحميمة مع فلين لانها تعلم فى أعماقها أن رجلا مثل فلين سيعتبر هذا بمثابة استراحة سارة لا أكثر . ولان غريزتها كانت تصرخ محذرة بأن الامر سيشكل تهديدا لسلامتها النفسية وسعادتها وانها اذا فشلت فى تحصين نفسها ، فستندم بقية حياتها .
***************************************
نهاية الفصل الخامس

Just Faith 26-11-17 04:16 PM

6 - رجل الاحلام
كانت الحفلة قد وصلت الى منتصفها . واعترفت ماريغولد لنفسها بأنها لم تستمتع قط من قبل كما تستمتع الان . كان أصدقاؤه مجموعة كبيرة وقد رحبوا بها وكأنهم عرفوها طوال حياتهم ، كما أن فلين كان مضيفا ساحرا .
بدا المنزل كالحلم ، مزينا بالشرائط المخملية التقليدية المختلفة الالوان. كانت شجرة العيد الضخمة فى القاعة تتألق باللونين الاحمر والذهبى ولهب الشموع الصغيرة والحلى والزينة اللامعة التى تومض فى الضوء .
لم تبق ماريغولد لحظة وحدها ، رغم أنها رفضت دعوات الرقص بسبب كاحلها المصاب . وبشكل ما ، انجذبت بشكل طبيعى الى مجموعة من زملاء فلين فى مثل سنها أو اكثر بقليل . ومع تقدم السهرة ، وجدت صحبتهم رائعة . فقد كانوا مرحين صاخبين أحيانا ، واحيانا أخرى يغيظون بعضهم بعضا بمداعبات بريئة تنبئ بأنهم يعرفون بعضهم البعض جيدا .
شعرت أن فلين قريب منها دوما رغم أنه لم يبق معها طوال الوقت . الا أنها راحت تذكر نفسها على الدوام ، ان حرصه على ارضائها هو نوع من حسن الضيافة.
وعند منتصف الليل تصاعد الضحك مصحوبا بصياح ملؤه البهجة عندما ظهر بابا نويل حاملا كيسه الملئ بالهدايا . حصلت النساء على قطع من الحلى والرجال على أزرار ذهبية لاكمام القمصان . فتحت ماريغولد هديتها فأذا بها عبارة عن قرطين صغيرين ذهبيين يتدلى من كل منهما حجر أحمر على شكل دمعة . والتقت عيناها بعينى فلين مصادفة، فحاولت أن تومئ له شاكرة من فوق الرؤوس . وكان يستند الى جدار قريب منها ، شابكا ذراعيه على صدره ، وقد بدا على وجهه شرود خفيف . مرت لحظة قلق خيل اليها فيها أنه يتأملهم جميعا من بعيد ، وكأنه عالم مرغم على دراسة الحشرات تحت مجهره .
صدمت ماريغولد لهذه الفكرة وأصابها ارتعاش وكأنما انسكب عليها دلو من الماء البارد . فخفضت بصرها بسرعة واعتذرت لتذهب الى استراحة السيدات هربا من كل هذه الجلبة .
وفى استراحة السيدات دخلت أحد المراحيض وأغلقت الباب ، ارادت أن تنفرد بنفسها لتنظم افكارها. كل تصرفات فلين الساحرة المضيافة وسهولة معشرة ، ليست أكثر من تمثيل ... كما أخذت تحدث نفسها. لم يدرك اى من الضيوف ما يفكر فيه أو يشعر به هذا الرجل الليلة . مظهر وجهه ذاك بدا مثيرا للانزعاج والاضطراب .
تنفست عدة مرات بعمق وهى تحاول السيطرة على خفقات قلبها المتسارعة . طوال الوقت ، كانت تشعر بهذا الميل الى الابتعاد لدى فلين مع ان النساء احتشدن حوله الليلة ، حتى الرجال كانوا يسعون الى صحبته ، لكنه كان طوال الوقت ... كان غائبا عنهم .
أزعجها هذا الاكتشاف وجعلها تشعر بالغضب من نفسها فبقيت مكانها لبضع لحظات الى أن تهدأ مشاعرها . عندما تعود الى عالمها الحقيقى فى لندن، كل هذا سيبدو لها مجرد حلم لا أهمية له .
وأذا بها تسمع صوت باب الاستراحة وهو ينفتح تلا ذلك أصوات نساء يتحدثن الى بعضهن البعض :- ولكن من هى ؟ لابد أن هناك من يعرفها ؟
- يا عزيزتى ، أنت تعرفين قدر ما أعرف . انها حسب قول فلين ، صديقة له وهذا كل شئ . يبدو أنها تقيم فى ذلك الكوخ الصغير الذى مررنا به أثناء طريقنا الى هنا .
كانت ماريغولد على وشك الخروج لكنها جمدت لدى سماعها هذه الكلمات،بعد ان ادركت انهن يتحدثن عنها .
- صديقة ؟ حسنا ، هناك صديقات وصديقات .
وضحكت المرأة الاخرى بطريقة أرسلت الاحمرار الى وجنتى ماريغولد .
- جانيت، أنت فظيعة . أنت لا تعرفين شيئا عما يجرى . على أى حال ، لا تنسى أن سيلاين دوما فى الخلفية .
وأضافت المرأة باتزان أكبر :- أيا كانت تلك الفتاة ، ومهما كانت العلاقة التى تربطها بفلين، ستذهب كما ذهبت الاخريات .
- لكنه رجل الاحلام أليس كذلك؟ معرفة فلين تدمر احساسك نحو أى رجل أخر .
- جانيت !
بدا لماريغولد أن المرأة الاخرى شعرت بالصدمة رغم أنها كانت تضحك وهى تقول :- أنت متزوجة منذ ستة أشهر فقط ما يعنى أنك مازلت على عرش السعادة ، ولا تفكرين الا فى هنرى ! حسنا ، لقد أنهيت اصلاح زينتى . هل أنت قادمة؟
- نعم ، لا بأس . دعينى أضع على شفتى مزيدا من اللون ...
وساد صمت قصير قبل ان تسمع صوت الباب يفتح ثم يغلق خلف المرأتين .
ظلت ماريغولد جامدة تماما مدة دقيقة كاملة . اذا ثمة أمرأة فى حياة فلين ! سيلاين ؟ هذا ما يجب ان يكون عليه اسمها ، لان اسما عاديا ما كان ليتلاءم مع القائمة :- سيلاين ، تمارا ... أتراهما ولدتا بأسماء كهذه أم أنهما اختارتاها بنفسيهما عندما اختارتا ان تصبحا (نساء مدمرات) ؟
وقفت ببطء فيما بدأ الغضب يحل مكان خيبة الامل . لم يكن لديه الحق فى أن يعانقها فيما هو متورط مع امرأة أخرى . ( أيا كانت الفتاة ، ومهما كانت العلاقة التى تربطها بفلين، ستذهب كما ذهبت الاخريات) احترقت كلمات تلك المرأة فى ذهنها.
من الواضح ان ما يربط فلين وسيلاين علاقة من ذلك النوع المنفتح ، أو لعل المرأة الاخرى تصبر على الحالة الراهنة لانها تعلم أن علاقتهما مختلفة عن بقية العلاقات الطارئة ، وانها تملك قلبه ؟
نظرت ماريغولد الى يديها فاذا هما منقبضتان بشدة الى حد آلمها . أرغمت نفسها على اراحة أصابعها، ثم أخذت نفسا عميقا وفتحت باب المرحاض، وخرجت الى الغرفة المفروشة بالسجاد حيث يوجد حوضان لغسل الايدى فوقهما مرآة وكان المكان خاليا .
غسلت يديها بماء بارد كما مسحت رقبتها من الخلف. ما من سبب يجعلها تغضب وتشعر بالخذلان، كما حدثت نفسها بتعاسة . فلين عانقها فقط ... عانقها مرتين لاغير .
ثم عبست لا ، ليس عليها أن تبرر تصرفاته . لقد قال لها انه أعزب وربما كان ذلك صحيحا . لكن طالما ان لديه سيلاين ، فمن الخطأ ان يحاول اغواء امرأة اخرى . هذا لا يعنى أنه تمكن من اغوائها كما اكدت لنفسها غاضبة ، لكن هذا لا ينفى ايضا انه لم يكن صادقا تماما معها .. على الاقل هاتان المرأتان الثرثارتان لم تكونا واثقتين مما بينها وبين فلين . طبعا ، ليس بينها وبين فلين شيئا فى الاساس ، ولن يكون ، سواء اكان هناك سيلاين أم لم يكن .
وهكذا ... ستعود الى الحفلة وتتصرف بشكل عادى كما فعلت طوال السهرة . ستمزح وتضحك ، وتكون ودودة . وعندما يصطحبها فلين الى بيتها ، ستشكره بأدب على هذه الحفلة الرائعة ثم تنسحب من حياته بكل رشاقة ولطف . وهكذا ينتهى الامر وتحافظ على كرامتها ولباقتها ، ولن تصرح أبدا بمعرفتها بأمر سيلاين . انه حر فى ان يعيش حياته كما يريد ، لكن ذلك ينافى الخلق السليم ، بالنسبة اليها هى .
وقفت دقيقة أو اثنتين تحدق الى صورتها فى المرآة . ستوضح له بقوة انها لم تفتتن به أو ترغب فى اى علاقة معه ... وهكذا على الاقل سيتذكرها بشكل مختلف عن الاخريات .
أعادة طلاء شفتيها بأحمر الشفاه، ومشطت شعرها فانسدل على كتفيها ، ثم نصبت قامتها .
حسنا يا فلين ، كما أخذت تفكر بشئ من التسلية ، اصبح عليك الان ان تواجه حقيقة أنك لست نعمة من الله على النساء .
عندما عادت الى غرفة الاستقبال ، كان الراقصون يتمايلون فى القاعة على انغام موسيقى عيد الميلاد . اخذت تدور حول الراقصين بحذر، بينما جلبة الحديث والضحك فى غرفة الجلوس تصم الاذان .
- لقد افتقدتك .
لابد أن فلين كان ينتظرها . فما ان أطظلت بأنفها من الباب حتى كان بجانبها . عنف نظراته أحرق جلدها بالرغم عنها .
- أشك فى ذلك .
وأرغمت نفسها على اطلاق ضحكة مرحة ، كانت فخورا بها للغاية .
فغمغم برقة وقد ارتسمت على وجهه ابتسامته البطيئة :- اذن على ان أقنعك بشكل ما . فلنجلس فى زاوية هادئة .
آه ، لا لن تفعل شيئا كهذا . اذا كان يريد بعض التسلية ... لان سيلاين على ما يبدو فى مكان آخر ، فقد اختار الفتاة الخطأ ، كما حدثت ماريغولد نفسها متوترة . ومنحته ابتسامة متألقة :- لا أحلم فى ان أبعدك عن ضيوفك .
قالت هذا ببشاشة وهى تبتعد عنه متوجهة الى المجموعة التى كانت معها قبل قليل، وهى تشعر بالغليان فى داخلها . لاشك ان الجميع هنا يعلمون بقصة سيلاين كما يعلمون بقصة النساء الاخريات فكيف يجرؤ على التودد اليها امامهم ؟
توقعت أن يتبعها فلين ويلح عليها . لكن عندما لم تشعر بيد رجل حازمة على كتفيها أو تسمع صوتا رقيقا فى أذنيها ، افترضت أنه رأى أن الامر لا يستحق الجهد . . .
كان الحديث بين أفراد المجموعة يدور حول الامور الطبية فمعظمهم من الاطباء والممرضات . وراح جراح شاب يخبرهم عن التعقيدات التى واجهته حين أجرى عملية الزائدة الدودية لشخص سئ الحظ ... أما زوجته فمالت نحو ماريغولد ثم قالت :- دوما يتحول الموضوع الى العمل . فقد سمعت عن مئات العمليات الجراحية خلال حفلات العشاء وهذا ممل للغاية. آه ، آسفة ، لم أفكر قط ... هل تعملين أنت ايضا فى هذه المهنة ؟.
- لا .
وابتسمت ماريغولد للمرأة الشقراء ذات الوجه الوردى. هذان الزوجان لفتا انتباهها من قبل . كانت الزوجة حاملا فى شهرها السابع تضحك باستمرار وتحتضن زوجها الطبيب الذى بدا مبتهجا بزوجته الجميلة . ووجدت ماريغولد نفسها تحسدها من كل قلبها، وقد أدهشها ذلك. فهى لم تكن يوما متلهفة الى الاستقرار وانجاب الاطفال حتى وهى مخطوبة لدين . لكن رؤية هذين الزوجين جعلتها تفكر كثيرا فى هذا الامر . لابد أن الحمل من رجل تحبه أمر رائع كما أخذت تفكر فى ذلك بالم مفاجئ حيرها .
- هذا حسن . أنا مسرورة لانك لست طبيبة أو ممرضة ، فهكذا يمكننا التحدث عن الازياء أو تسريحات الشعر ... أو أى شئ آخر غير المستشفيات والعمليات !
وابتسمت المرأة لها ، فبادلتها هى الابتسام مرغمة نفسها على التركيز على الحديث بدلا من القيام بما يريدها كل عصب فى جسمها أن تفعله، الا وهو الالتفات لتبحث عن فلين .
عند الساعة الواحدة دخلت برتا وهى تحمل من العصير وفطائر اللحم وكعك العيد ما يكفى لاطعام جيش صغير . وبعد أن أكل الجميع بدأ الضيوف يغادرون، البعض الى غرفة فى المنزل ، والبعض الاخر الى فندق القرية الذى يقع على بعد عدة اميال. وهؤلاء الذين ذهبوا الى الفندق سيعودون فى الصباح التالى ليتناولوا غداء العيد والشاى ، بحسب ما أخبرتها صديقتها الجديدة .
انضم فلين الى المجموعة بعد ماريغولد بربع ساعة تقريبا ، لكنه لم يخصها بأى اهتمام خاص ، بل راح يهتم بالجميع ليدخل التسلية الى قلوبهم بمزاحه اللطيف وسرعة بديهته اللاذعة أحيانا . فكان كل منهم يتلهف لجذب انتباهه اليه ، كما لاحظت ماريغولد بسخرية .
- مازال العرض ساريا لك لتمكثى فى الجناح الملحق بالمنزل الليلة .
وكانت ماريغولد قد سارت الى الطاولة الموضوعة فى احدى نواحى الغرفة لتضع كوبها وصحنها الفارغين أسوه بالاخرين . ولم تدرك أن فلين لحق بها الا بعد ان سمعت صوته العميق خلفها .
- لا ، شكرا .
وحاولت ، بقدر ما أمكنها ، أن تبقى صوتها مرحا ودودا . ولكنه بدا مرهقا حتى لاذنيها .
فقال بهدوء :- لا بأس ، ماذا حدث يا ماريغولد ؟.
- ماذا حدث ؟
والتفتت تواجهه بوجه جامد :- آسفة ، لا أفهم . أظننى أوضحت لك أمس أننى أنوى النوم فى الكوخ .
اذا كان يظن ان بامكانه أن يتسلى بها الى حين عودة سيلاين ، فليراجع أفكاره .
- لم أسألك اين ستنامين ، بل سألتك عما حدث .
حدقت اليه ... الى فمه الصارم وفكه الحازم وباشمئزاز عميق من نفسها أدركت أنها تحسد سيلاين أكثر مما تظن .
وقالت كاذبة بثبات :- لم يحدث شئ .
- ماريغولد ، الجراح الجيد ، وانا جراح جيد ، يعرف متى يكون الناس متوترين قلقين . كما يكتشف بسهولة اذا كانوا يخفون امرا ما . لقد حدث امر الليلة وأنا أريد ان أعلم ما هو .
كانت غطرسته لا تطاق . وواجهت عينيه مباشرة ثم قالت بحزم :- اذا كنت لا أريد البقاء فى بيتك ... فهذا لا يعنى أن شيئا ما قد حصل .
وجعل اليأس الكذبة تنساب بسهولة من بين شفتيها فأردفت :- أنا متعبة ، وأريد أن أعود الى الكوخ . لكننى أمضيت وقتا جميلا ، وشكرا لانك دعوتنى .
ضاقت عينا فلين وهما تتأملان وجهها المرفوع اليه . وسألها بنعومة :- وهل ستنضمين الينا لتناول الغداء غدا ؟.
- لا شكرا . لقد آلمنى كاحلى الليلة ، ولهذا قد ألزم السرير مرة أخرى.
أومأ فلين فيما غدا وجهه صلبا كحجر الصوان البارد :- سأعيدك الى الكوخ .
- آه ، هذا حسن .
لم تتوقع منه الاستسلام بهذه السرعة . لكن يبدو أنها انتصرت ، هكذا حدثت نفسها بصمت وهى تودع الضيوف الاخرين ، ثم تسير مع فلين الى الباب الامامى . ولكن لماذا تشعر وكأنها فشلت ؟.
بعد ان استقرا فى السيارة الكبيرة أدركت انها فشلت فعلا .
لحق بهما الى الخارج بعض الضيوف الذين سينزلون فى الفندق ، وما لبثت سياراتهم ان أخذت تهدر لتنطلق فى تلك الليلة القارسة البرد . لكن فلين لم يحاول أن ينطلق بالسيارة بعد أن أدار المحرك .
التفتت ماريغولد اليه بعد ثوان مرت ببطء مؤلم للغاية . فقال بسرور :- لن نتزحزح قبل ان اعرف الحقيقة . الخزان ملئ بالوقود ، ويمكننا ان نجلس هنا طوال الليل بينما المحرك يدور لكى يبقينا دافئين . هل تشعرين بالبرد ؟
لم ينعتها بالكاذبة فى الواقع ، ولكنه مد يده الى المقعد الخلفى ليسحب بطانية ويلفها بها ، فكان فى ذلك جواب كاف. ولم تحتج هى على حركته هذه ، فقد كانت أسنانها تصطك من البرد .
مرت خمس دقائق قبل ان يتحدث أى منهما . وكان السكون يصم الاذان عندما قالت ماريغولد بتوتر ، بعد أن شعرت بالدفء :- هذه سخافة ، وانت تعرف ذلك . سيتساءل الناس عما نفعله هنا .
تحرك فى كرسيه ليواجهها ، وقال بصوت هادئ :- عشت ثمان وثلاثين سنة من دون أن أهتم بما يظنه الناس، ولا أنوى أن أبدأ الان .
لعل كلامه هذا هو الاصدق منذ تعارفهما ، كما فكرت ماريغولد بمرارة . وردت عليه بعنف ونفسها تحفزها الى قول المزيد :- اذن فأنت تعيش وحدك من دون اعتبار لاى أنسان اخر ، اليس كذلك ؟
- لا أظننى قلت شئ كهذا .
- لكنها الحقيقة . حسنا ، اسفة لكننى ؟أؤمن بالاخلاص لشريك واحد سواء أكانت العلاقة قصيرة أم دائمة .
ضاقت عيناه وسألها :- ما معنى هذا . هل تلمحين الى ؟أننى لا أؤمن بذلك ؟.
- هل تقول انك تؤمن بذلك ؟
حتى تلك اللحظة كان يبدو دمثا أنيسا . وفجأة ، اصبح وجهه الوسيم بمثل برودة المشهد خارج السيارة ، كما أصبحت عيناه فولاذيتين :- أوووه ... أيتها الا نسة لدى انطباع بأن اخلاقى فى موضع الاتهام هنا . وانا لا أنوى الدفاع عن نفسى أمامك أو أمام أى شخص آخر .
ويا له من موضع ملائم ! كما أخذت ماريغولد تفكر بحرارة .
- والان ، لا أدرى ماذا يدور فى رأسك الجميل هذا ، لكن لمعلوماتك ، أنا أومن بأن أساس كل علاقة هو الاخلاص بين الرجل والمرأة ، سواء أكانت نية الطرفين دوام العلاقة أم لا . هل هذا يشكل جوابا عن سؤالك ؟.
آه ، يا للنفاق ! وكانت ماريغولد من الثورة بحيث نسيت نواياها وقراراتها ، فسألته ببرودة :- وماذا عن سيلاين ؟ هل توافقك رأيك ؟ أم ان مفهومك عن الاخلاص يختلف عن تحديد القواميس له ؟
مضت لحظة ساد فيها صمت مطبق داخل السيارة وكأن كلماتها علقت فى الجو وراح صداها يدور حولهما .
شعرت ماريغولد بأنها اقترفت غلطة فظيعة حتى قبل أن يرد عليها فلين .
شجعت نفسها لمواجهة الانفجار الذى سيأتى بكل تأكيد بأعتبار النظرة التى بدت فى عينيه. تقلصت معدتها وجف فمها فجأة .
- سيلاين ؟
وجاء صوته هادئا غير معبر حين أضاف :- من حدثك عن سيلاين ؟ وماذا قيل ؟.
هدؤه البالغ بدا أكثر ارهابا من أى ثورة أو هياج .
- لا أحد . المرأتان اللتان تحدثتا عنها فى استراحة السيدات ، لم تعلما بوجودى هناك .
وتلاشى صوتها . شعرت أنها تفسد الامر ، لكنه لم ينكر وجود امرأة تدعى سيلاين . تنفست بعمق ثم قالت بسرعة :- كنت فى الاستراحة .. راحت امرأتان تتحدثان . قالتا ...
وسكتت فجأة لتتذكر الكلمات بالضبط .
- نعم ؟
كانت كلمة واحدة لكنها كالثلج .
- قالتا ان سيلاين فى الصورة الخلفية دوما حتى عندما ... تكون مع أمرأة اخرى ...
وتلعثمت بضيق ... وتمنت لو أنها لم تفتح قط هذا الموضوع .
- وماذا بعد ؟
- لا شئ فى الواقع. بدا الامر فقط وكأن هناك ... حسنا كأن هناك الكثير من ...
فقال يكمل بقسوة :- العلاقات ؟
- نعم ، حسنا ، هكذا بدا معنى الكلام .
( كل الاخريات ) ! ما الذى يمكن أن تعنيه هذه العبارة غير ذلك ؟
- وهكذا افترضت أن لدى عشيقة ، لكننى أقيم علاقات عابرة مع نسوة أخريات اذا أعجبننى . هل هذا صحيح ؟ ولم تفكرى حتى فى أن تسأليننى أنا عن ذلك ؟ فضلت أن تجمدينى خارج البيت من البرد طوال الليل ؟
وصرف بأسنانه وكأنه يريد أن يهزها بعنف .
حدقت اليه ماريغولد . ما الذى فعلته؟ آه ، ما الذى فعلته؟ وأنكرت :- أنا لم ... لم أرغب بأن أجمدك فى الخارج ...
- الى جهنم بانكارك هذا .
واندفع بالسيارة بعنف وهو يتكلم ودار بها فى طريق البيت نصف دائرة فكادت تصرخ من الهلع .
أنذرها توتر فكه بالا تقول شيئا أثناء قيادته بهذه السرعة البالغة نظرا لحالته العصبية . جلست محنية الكتفين بجانبه ورأسها يدور ، فيما كل حواسها مركزة على الخروج من السيارة بسلام .
وعندما أوقف السيارة عند بوابة الحديقة ، شعرت ماريغولد بارتياح بالغ لانهما لم يسقطا فى قناة للرى أو يصطدما بشجرة . نزل فلين من السيارة ، فاستطاعت أن تتمالك نفسها وأبعدت عنها البطانية قبل أن يفتح الباب ويمد يده اليها ليساعدها على النزول .
نظرت الى وجهه الجامد :- شكرا .
جاء صوتها خافتا جدا . ولم يقل فلين شيئا ، بل أمسك بذراعها فقط وهى تعرج على الممر الذى أصبح الان أشبه بملاءة ثلجية .
بعد محاولتين فاشلتين تمكنت من أدخال المفتاح فى القفل بيدها المرتجفة .وعندما انفتح الباب ، استدار ثم شرع فى السير مبتعدا. حدقت ماريغولد اليه وخفقات قلبها تتسارع ، وأدركت أن عليها أن تقول شيئا ... أى شئ. لم تستطع ان تتركه يذهب هكذا، فنادته بصوت مرتجف :- فلين ؟
وقف ، لكنه لم يلتفت :- نعم ؟
- اذا كنت قد أسأت فهم الامر ، فأنا اسفة . صدقنى . لكنهما جعلتا الامر يبدو ... أنا اسفة .
فقال بعنف :- أنت صدقت ما أردت أن تصدقيه .
فتحت فمها لتنكر ذلك ، لكن الكلمات وقفت على لسانها . انه على صواب . وحدقت الى الجسم الكبير أمامها ، وتملكها الفزع . انه على صواب تام . كانت بحاجة الى ابعاد نفسها عن هذا الرجل فمنذ اللحظة التى قابلته فيها ، وهو يمثل نوعا من التهديد لها .
وعندما بقيت صامتة ، استدار ليواجهها ، وقد ارتسمت الان على فمه الصلب ابتسامة تنقصها البهجة وهو يرى الحقيقة فى وجهها :- لا تقلقى . لن أزعجك مرة أخرى . يمكنك أن تحصلى على عيدك الهادئ .
قال هذا وقد بدا عليه الانهاك ، ثم استدار وتابع طريقه .
- فلين ؟
ليس لديها الحق فى أن تسأل ، وربما بدا سؤالها قمة فى الوقاحة بالنظر الى ما قبل ، لكنها لن تتمكن من النوم ابدا اذا لم تعرف :- من هى سيلاين ؟
مضت لحظة ظنت فيها أنه سيتجاهلها لكنه وقف مرة أخرى وقال بصوت جامد :- كانت سيلاين خطيبتى ... ربما سمعت بها ... سيلاين جينيت .
لقد سمعت بها ماريغولد فعلا . فما من امرأة فى العالم لم تسمع بعارضة الازياء الفرنسية الرائعة الجمال .
- أمضينا معا فترة منذ سنوات ، لكننا افترقنا قبل موعد الزفاف بأسبوع . أثار الامر اهتماما بالغا حينذاك . ونظرا لما سمعته أنت الليلة يبدو أن ذلك الاهتمام مازال موجودا .
وكان فى صوته البارد نبرة ساخرة :- لقد أصيبت الصحافة بخيبة أمل عميقة ، كذلك أصدقاؤنا وأسرتانا ، لاننا لم نشأ ان نتحدث عن الامر أو نشوه سمعة بعضنا البعض . ولكن ، مازلنا صديقين ، هذا كل ما بيننا الان .
لم تعرف ماريغولد ما عليها ان تقول . ولكن سرعان ما تبين لها ان لا أهمية لما ستقوله لان فلين ، كما يبدو ، اعتبر الحديث منتهيا . تابع سيره واستقل سيارته من دون أى ايماءة منه .
بعد فترة طويلة من غياب أضواء سيارته عن النظر ، كانت ماريغولد لا تزال واقفة على عتبة الباب . ولم تدخل الى البيت الا بعد ان انتبهت الى ان البرد تسلل الى عظامها .
سيلاين جينيت! جلست على السجادة قرب النارالمتوهجة فى غرفة الجلوس . سيلاين جينيت . انها امرأة رائعة ، بل مثيرة يبلغ طولها ستة أقدام ذات شعر رائع وعينين واسعتين تفيضان بالحيوية . لا عجب فى أن تقول المرأتان ان ما من امرأة يمكنها أن تنافس سيلاين . لماذا تركته يا ترى ؟ بسبب رجل اخر ؟ ام من اجل وظيفتها ؟
حدقت ماريغولد الى اللهب وقلبها يخفق . مهما كان السبب ، فهو لم يجعل فلين يكرهها . لكن هل مازال يحبها ؟ لقد قال انهما الان صديقان فقط ، لكن هذا لا يعنى انه فى قرارة نفسه لا يتمنى أكثر من ذلك .
مدت يديها الباردتين الى النار لكنها ادركت ان البرد الذى تشعر به يأتى من داخلها وليس من الخارج . ربما لم يكره فلين خطيبته السابقة . لكن من المؤكد انه بات الان يكرهها هى ... كما أخذت تفكر بتعاسة . لماذا تصرفت بهذا الشكل السئ ؟ ليس من عادتها التوصل الى افتراضات خاطئة عن الناس بل الواقع ، انها على النقيض من ذلك تماما ، متسامحه الى حد الغباء. ففى كل مرة شكت فيها بوجود علاقة بين دين وتامارا ، كانت تعود فتسامحه لعدم وجود أدلة كافية . ولو لم تكن كذلك لادركت خيانته قبل وقت طويل ...أما مع فلين ...
الامر مع فلين مختلف . لامر ما يبدو تأثير هذا الرجل عليها أكبر من تأثير أى رجل آخر عرفته .
عضت شفتها بقوة ، كارهة شعورها هذا. لكنها لم تستطع التخلص من تلك الوحشة المظلمة التى اكتسحتها . أهذا هو عيد الميلاد الهادئ المسالم الذى تنشده ؟ ارادت ان تمضى بعض الوقت وحدها لكى تستعيد طاقتها. ليت نظرها لم يقع قط على هذا الكوخ ، او على فلين أو ...
أجفلها القرع على بابها الى حد خشيت معه ان تفقد توازنها وتقع فى النار . وضعت يدها على قلبها الذى أخذ يخفق بعنف ، ثم نهضت بسرعة . اخذت تعرج الى الردهة ومن ثم الى الباب الامامى وقالت بصوت خافت حذرمتوتر :- من هذا ؟
فقال صوت فلين ساخرا :- ومن غير بابا نويل ؟
فلين! فتحت الباب بارتباك ورأسها يدور , لم تتوقع ان تراه مرة أخرى وقد حيرها ما شعرت به من ألم بسبب ذلك ولكنه هنا ! أخذت تنذر نفسها بأن هذا لا يعنى شيئا ... لا شئ على الاطلا ق .
ظل فلين واقفا فى الباب ينظر اليها بثبات لحظة أو اثنتين، قبل ان يقول :- مرحبا ، يا ماريغولد . هل يمكننى أن أدخل ؟
- آه ، نعم ، طبعا .
كانت من الاضطراب بحيث لم تدرك على الاطلاق انها تركته طويلا بالباب .
عندما وقفا فى غرفة الجلوس انتبهت لذلك فقالت بسرعة :- هل احضر لك قهوة أم كاكاو؟
- قهوة من فضلك .
- هذا حسن.
شعرت بخديها يحترقان .وودت لو بامكانها ان تبتعد عنه دقائق ، لتتمالك نفسها بعيدا عن نظراته الفاحصة .
سألها بنعومة وكأن أحداث الساعة الماضية الحارقة لم تمر بهما قط :- هل أساعدك ؟
فقالت بشئ من الضعف :- لا . اجلس . لن أغيب اكثر من دقيقة .
وبعد قليل عادت تحمل الصينية مع بعض البسكويت . بدا لونها شاحبا رغم الحماسة الخفية والضيق المتوتر اللذين كانت تشعر بهما فى اعماقها .
كان فلين يجلس على الاريكة امام النار ، عندما دخلت . بدا مرتاحا للغاية وهو يضع ساقا فوق الاخرى ، وذراعاه ممدودتان خلف الوسائد . كانت جلسته تنضح بالرجولة .
- أريد فقط أن اقول اننى اسفة جدا لتوصلى الى استنتاجات خاطئة بالنسبة الى ... الى ما سمعته.
قالت هذا قبل ان تفقد توازنها وهى تضع الصينية على المنضدة الصغيرةالتى يبدو ان فلين وضعها امام الاريكة قبل ان تجلس .
- أن تصدقيننى اذن ؟
- طبعا أصدقك .
بدا جذابا للغاية مع أن وجهه ظل جامدا وقد بدا الغموض فى عينيه . وتملكتها رعشة جارفة .
قال فلين باتزان :- أدركت عندما غادرت أننى ربما توقعت أكثر مما ينبغى . فأنت كنت بين مجموعة من الناس لا تعرفينهم ، وسمعت بعض الكلام التافه من أناس جهلى . المسألة هى ...
سكت فجأة وقد توتر فكه قبل ان يعود فيقول :- حياتى الخاصة هى ... خاصة . ولا أحب ان يتحدث عنها الاخرون . فهى لا تهم احدا غيرى .
اخذت ماريغولد تفكر وهى تحدق الى وجهه الوسيم ، بهذا الجو النائى المستقل الذى يحيط به ، نوع العمل الذى يقوم به ، حيث مهارته وخبرته يشكلان الفرق بين الحياة والموت ، كل ذلك منحه جاذبية آسرة ومغناطيسية لا يمكن لامرأة ان تقاومها .
أرسلت هذه الفكرة رجفة فى كيانها وهى تحاول ان تبرر سبب انجذابها الى فلين . لم تشأ ان تنجذب اليه . انها لا تريد ان تنجذب الى اى رجل لسنوات وسنوات حتى تمحو ذكرى دين وتامارا من ذهنها .
أما فلين ، برجولته الطاغية فهو اخر رجل فى العالم عليها ان تتورط بعلاقة معه ، مهما كانت قصيرة .
مازالت غير واثقة من ان فلين مهتم بها عاطفيا ، او يكن لها أى مشاعر .ولكن فقط فيما لو ... اندفعت تقول قبل ان تجد وقتا تزن فيه كلماتها ، وتراجع ما ارادت ان توضحه :- فلين قلت اننى صدقت ما اردت ان اصدقه ؟ حسنا كنت على صواب الى حد ما .
قالت هذا بلهجة محمومة وهى تقف امامه ، ويداها مشتبكتان بشدة :- فى الواقع ، بعد ما فعله دين أشعر ان ليس بمقدورى ان اواجه ... اواجه صداقة جديدة .

Just Faith 26-11-17 04:16 PM

7 - على أجنحة الشوق
استيقظت ماريغولد صباح يوم عيد الميلاد ، فتذكرت أنها وعدت بأن تتناول وجبة الغداء وتشرب الشاى مع فلين وأصدقائه . انقلبت على بطنها جاذبة الوسادة فوق رأسها وهى تتأوه بجنون . انها مجنونة .... مجنونة تماما !
أمضى فلين بعض الوقت فى الكوخ الليلة الماضية ، وكان تصرفه مثاليا ، فشرب كوبين من القهوة ، وأكل معظم البسكويت ، وتبادل معها أحاديث مسلية ممتعة . وكأنما أغراها بذلك للموافقة على الحضور الى منزله فى اليوم التالى . ثم خرج تاركا ماريغولد مع فكرة غير مرغوب فيها أنما على شئ من الاثارة وهى أن فلين رجل يحصل دوما على ما يريد .
بعد أن أمضت فترة طويلة فى مياه المغطس الدافئة فى الحمام، تفحصت ماريغولد محتويات خزانة ثيابها المحدودة . وقررت أن ترتدى بنطلون الجينز الاسود مرة أخرى ، مع كنزة طويلة سميكة بلون القشدة ذات قبة عالية عريضة ، تصلح تماما لهذا النهار . شعرت بنشوة وبهجة تسريان فى كيانها . وأمضت الساعتين الاخيرتين وهى تنبه نفسها لئلا تتخلى عن الحذر لحظة واحدة .
ففلين من النوع المسيطر. سيجذبها الى مداره ويبقيها هناك الى ان يتلاشى التجاذب بينهما . وبعد ذلك ؟ بعد ذلك سيتركها هائمة وسط الفراغ . كان حماقة منها ان توافق على الذهاب الى منزله اليوم ، لكنها ستكون المرة الاخيرة التى توافقه فيها على ما يريد . كما أن المنزل سيكون مليئا بالضيوف ، ولن يكونا وحدهما .
وصل فلين ليصطحبها عند الحادية عشرة تماما ، وكانت هى جاهزة بأنتظاره ، مصممة على الا تمنحه عذرا لينفرد بها فى الكوخ .
أغلقت باب الكوخ بسرعة ما ان سمعت صوت السيارة الضخمة تقف أمام بوابة الحديقة وأسرعت تجتاز الممر المغطى بالثلج بشكل طبيعى تقريبا من دون أن تشعر بألم كاحلها المصاب .
خرج فلين من السيارة ، ودار ليفتح لها الباب فاذا بها أمام هيئة رجولية رائعة بطول يبلغ ستة أقدام وببنطلون جينز وسترة جلدية أسودين :- مرحبا .
بدا صوته رقيقا والضحكة تعلو وجهه وهو يساعدها على الصعود ثم يغلق الباب خلفها . وطيلة الطريق الى المنزل راحت ماريغولد تجاهد للسيطرة على خفقات قلبها المتسارعة . لكن مودته وتصرفاته الدافئة بعثت الراحة فى نفسها بشكل كاف سمح لها بالاستمتاع بيوم رائع .
كانت برتا قد تمكنت بمساعدة ويلف من تحضير غداء العيد الفاخر كما حضرت حلوى شهية خاصة بعيد الميلاد ما جعل الايدى ترتفع بالتصفيق حول المائدة .
بعد ذلك اخذ الجميع يمرح ويلهو طيلة بعد الظهر . ولاحظت ماريغولد أن فلين كان مشاركا فعالا وليس متفرجا . وبعد مقصف فاخر رافق الشاى ، اجتمع الضيوف فى غرفة الاستقبال حيث أخذ فلين يعزف على البيانو بينما راح الجميع يغنون أغانى عيد الميلاد . أخيرا انتهت الحفلة ، وابتدأ الضيوف يغادرون الى منازلهم .
قالت ماريغولد بتحفظ ، محاولة أن تجعل الامور أقل حميمية بينهما :- لم أكن اعلم أنك تجيد العزف على البيانو .
كان فلين قد تأبط ذراعها ، وبذلك ألزمها بالوقوف الى جانبه على درجات المدخل ، وهو يودع ضيوفه عند رحيلهم . ان وقوفها قرب تسعة وتسعين رجلا لا يشكل اى مشكلة بالنسبة اليها على الاطلاق. لكن فلين هو الرجل المئة الذى يفقدها السيطرة على حواسها وخفقات قلبها المتسارعة تشهد بذلك .
- هناك أشياء كثيرة لا تعرفينها عنى يا ماريغولد .
أجابها بأتزان ، ولكن بخفوت فى الصوت منحه سحرا له فعل الديناميت :- أشياء يسرنى جدا أن أقوم بها ما ان تسنح لى الفرصة .
وتأمل وجهها لحظة قبل ان يعود بنظره الى الطريق :- أنا استمتع بالعزف على البيانو ، كما بامكانى ان أحدث ضجة معقولة على المزمار . وأفضل كرة القدم الامريكية على كرة القدم الانكليزية ، وأكره الغولف وأحب الغوص . ولكن هناك طبعا نشاطات ... أخرى تمنحنى من البهجة أكثر من تلك كلها مجتمعة .
لم تسأله عما تكون هذه الاخيرة . وابقت نظراتها مسمرة على السيارة التى تقف قبالتهما وكان راكبها يلوح لهما بحماسة بينما هى تقول :- أنا تعلمت الغوص وحصلت على شهادة فى هذا المجال .
حاولت اقناع دين بأن يتعلم الغوص معها ، ليتمكنا من الغوص معا فى البحر الكاريبى أثناء شهر العسل لكنه لم يذهب معها الى التمارين . واحتج بوجود مشكلة فى أذنه الداخلية .
- اذن فأنت فتاة مائية ؟.
كان شعره الفاحم يومض فى ضوء القمر ، وأدار عينيه الفضيتين نحوها :- هذا لا يدهشنى ، فأنت شجاعة بقدر ما أنت جميلة .
فقالت بقدر ما يمكنها من مرح :- التملق يجعلك تكسب الجولة .
فرد بجفاء بالغ :- أتمنى ذلك ، لكن هذا ليس تملقا . لقد قلت لك من قبل ، انا اخبرك الحقيقة فقط .
- هذا يجعلك رجلا بالمليون .
قالت هذا بشئ من المرارة لم تستطع أن تخفيها .
فأبتسم بكسل :- هكذا اذا ؟ انا مسرور لانك أدركت ذلك بهذه السرعة.
ثم تصلب جسمه وهو ينظر الى الطريق قبل أن يقول بصوت خشن :- ما هذا بحق جهنم ؟ هذا السائق يقود السيارة كالمهووس ما جعل تارل ينحرف بسيارته حتى أوشك ان يخرج عن الطريق . لا أعرف تلك السيارة .
نظرت ماريغولد حيث ينظر ثم ابتلعت ريقها بصعوبة . لقد عرفت السيارة والسائق ، فالسائق ليس رجلا بل أمرأة .
كانت ايما تقود سيارة رياضية أنيقة هى هدية السنة الماضية من أبيها وقد توقفت بشكل مفاجئ أمام المنزل ما جعل الحصى تتناثر من تحت العجلات . نادتها وهى تخرج من السيارة :- غولدى، يا حبيبتى ! كانت رحلة أشبه بالكابوس .
تمتمت ماريغولد بيأس :- انها ايما . لم أتوقع وصولها قبل يومين .
- يا لك من محظوظة !
خرجت كلماته لاذعة خشنة عدائية ، تركت ظلها على ملامحه الصلبة المليئة بالرجولة وذلك بعد ان وقعت عيناه على البنطلون الجلدى الضيق والحذاء الذى يبلغ علو كعبه ثلاث انشات ، والشعر الاشقر المصبوغ والوجه الجميل المزين بعناية .
- كنت أنتظر أمام الكوخ فتوقفت احدى السيارات ، واخبرنى من بداخلها أنك هنا .
تابعت ايما كلامها وهى تتجه نحوهما . كانت تتكلم مع ماريغولد لكن عينيها الخضراوين الكبيرتين تركزتا على فلين :- يا عزيزتى ، كان على أن ابتعد عن لندن . لقد تخاصمنا أنا وأوليفر ، ولا أريد أن أراه بعد الان طوال حياتى .
أنهت كلامها بشكل مسرحى قبل ان تضيف ، وكأنها أدركت فجأة انها بدت قليلة التهذيب :- آه، انا ايما جونز بالمناسبة .
ومدت يدها الى فلين .
لم يمد اليها يده، وانما أومأ فقط وهو يقول :- يبدو أنك حفيدة ماغى .
توقفت ايما فجأة . لقد اعتادت أن ينحنى الرجال أمام جسمها المتناسق وأهدابها الخفاقة ، لا أن يحملقوا فيها بوجه متجهم كالرعد .
على اى حال ، ايما ليست مخلوقة ضعيفة بل هى أقسى مما تبدو عليه . قالت بصوت واضح فصيح :- ماذا تعنى بالضبط ؟.
- كنت صديقا لجدتك وقد اهتممت بها . اظن أن هذا يفصح عن كل شئ .
- حقا .
ورفعت ايما ذقنها الصغيرة وعينيها الواسعتين . من الواضح انها عرفت بالضبط ما يعنيه عندما قالت :- أخبرنى أبى أن رجلا فظا قليل التهذيب يعيش فى آخر الغابة .
- والدك على صواب ، وهذا الرجل الفظ ، القليل التهذيب بالذات يطلب منك الان ، وبكل أدب أن تنصرفى من منزله .
كانت ماريغولد أثناء هذا الحديث قد أفلتت يدها من ذراع فلين ، فقالت بسرعة :- سأحضر حقيبة يدى ، يمكنك ان تنتظرينى فى سيارتك يا ايما .
- بكل تأكيد .
وعندما استدارت ايما وذهبت تتهادى الى سيارتها، ركضت ماريغولد الى داخل المنزل حيث اختطفت حقيبتها التى كانت قد تركتها فى غرفة الاستقبال ، ثم عادت الى الردهة فوجدت فلين فى انتظارها .
- ليس عليك ان تذهبى .
فعضت شفتها :- بل على ذلك وأنت تعرف هذا .
فقال بهدوء :- هل يمكننى أن أراك غدا ؟.
- لا أظن أن هذه فكرة حسنة .
فقال برقة بالغة :- لا أوافقك على ذلك . فهى فكرة ممتازة .
- أرجوك يا فلين.
- مم أنت خائفة يا ماريغولد . منى أنا ؟ أم أن ثمة شئ اخر ؟ أمر فى ماضيك يتعلق بخطيبك السابق ؟ هل عاملك بشكل سئ الى هذا الحد؟
سألته ساخرة :- أتعنى أكثر من شعورى بالسذاجة لاننى كنت غافلة عن خيانته بشكل جعل كل من حولنا يعلم ما عداى ؟.
وسكتت فجأة وقد فوجئت بنبرة المرارة فى صوتها . حتى هذه اللحظة لم تكن قد أدركت مدى عمق الجرح فى نفسها . وشعرت للحظة بالاستياء لاعترافها بسذاجتها أمام فلين . لم تشأ أن ترى نفسها ضحية أو امرأة محطمة ، كما فكرت بعنف . عليها أن تنتصر على هذا . قالت وهى تشير الى ايما التى تنتظرها فى السيارة عابسة :- على أن أذهب . ايما تنتظرنى .
- تبا لايما !
- على ان اذهب .
وهرعت الى السيارة بسرعة أرهقت كاحلها المصاب . ما ان أصبحت فى السيارة حتى انطلقت ايما بسرعة أشارت بوضوح الى مبلغ الجرح القاتل الذى أصاب مشاعرها ، رغم مواجهتها الوضع بهدوء مدهش :- يا له من رجل فظيع ! كيف يجرؤ على أن يكلمنى بهذا الشكل ؟ ثم ماذا كنت تفعلين فى بيته على أى حال ؟.
لا بأس ، قد تكون ايما مستاءة لكن لاشئ يجعلها تعتذر عن وجودها فى بيت فلين . فأجابتها متحدية :- ماذا قلت ؟ لم أكن أعلم أن هذا الامر محظور .
ألقت ايما نظرة سريعة على ماريغولد وقالت بصوت أقل حدة :- ذلك غير محظور بالطبع . كل ما فى الامر أننى لم أكن أظنك تعرفينه .
- لم أكن أعرفه ، وقد حدث الامر بهذا الشكل ...
وقصت عليها الظروف التى جعلتها تتعرف الى فلين ، متجنبة اشارته اليها والى أسرتها وانتهت الى قولها :- أظنه كان يفكر كثيرا بجدتك ، يا ايما .
هزت ايما كتفيها من دون اكتراث :- أنا أكاد لا أعرفها . لكننى أعرف أنها قادت والدى الى الجنون برفضها الانتقال الى ملجأ العجزة ، وان لديها مجموعة من الحيوانات يعشش فيها القراد . كان ابى يزورها فى العادة وحده.
فسألتها ماريغولد بهدوء :- هل كان يزورها كثيرا ؟.
- من وقت الى اخر . لديها أصدقاء كثيرون فى هذه الانحاء .
- لكن ذلك لا يعوض عن الاقارب أليس كذلك ؟
- لا تبدأى .
وأنزلقت سيارة ايما ثم توقفت بجانب ميرتيل ، سيارة ماريغولد ، فشعرت وكأن سيارتها الصغيرة أجفلت عندما كادت سيارة ايما الرياضية تصطدم بها .
- أتيحت لجدتى فرصة دخول الملجأ حيث ستجد من يعتنى بها ، وحيث يتاح لوالدى أن يزوراها بسهولة . لكنها أصرت على الاقامة فى الكوخ . وابى لديه وظيفة هامة وليس بمقدوره أن يضيع وقته فى الركض فى الانحاء. كما أنه هو وأمى يستضيفان الكثير من الناس دوما ... انه مضطر لذلك من أجل تعزيز مركزه فى العمل . على أى حال لم تكن جدتى وأبى على وفاق لان أبى لم يستطع أن يحضر جنازة جدى ، قالت جدتى انها لن تسامحه أبدا.
- ولماذا لم يستطع أبوك ان يحضر الجنازة ؟
وحدقت ماريغولد الى وجه ايما الساخط ، وهى تتساءل كيف لم تدرك من قبل أنها لا تحب هذه الفتاة على الاطلاق .
فأجابت ايما من دون اكتراث :- انه ضغط العمل . عليك أن تضحى اذا كنت تريدين أن تصلى الى القمة .
- نعم ، أظن ذلك .
فتحت ماريغولد باب السيارة وهى تتابع :- أنا راحلة عند الصباح يا ايما . على أن أقوم ببعض الاعمال فى بيتى . هل مازلت تنوين بيع الكوخ ؟
- قد أبيعه .. لماذا ؟
ونظرت ايما اليها وهما تسيران الى باب الكوخ ، فيما ماريغولد تناولها المفتاح .
- أود أن أعرف كم تريدين ثمنه ، وهذا كل شئ .
لامر ما ، لم تستطع أن تحتمل فكرة أن تكون ايما مالكة ذلك البيت الذى أحبته تلك العروس الصغيرة الحلوة فى الصورة ، أو أن تبيعه الى شخص لا يقدر الدم والعرق والدموع التى بذلتها فيه ماغى العجوز أثناء السنوات الماضية . وتابعت تقول :- أعنى مع الاثاث والصور وكل شئ .
- كل تلك القمامة القديمة ؟
نظرت اليها ايما وكأنها مجنونة ، وربما كانت كذلك فعلا ، كما اعترفت ماريغولد لنفسها ساخرة وتابعت ايما :- ولماذا تهتمين بكل ذلك ؟.
- انه يلائم الكوخ فقط لا غير !
***********
أمضت ماريغولد الليلة على الاريكة فى غرفة الجلوس ، بالرغم من الحاح ايما عليها بأن تشاركها غرفة النوم .
وعند التاسعة من صباح اليوم التالى كانت فى طريقها الى المدينة . لو أمضت وقتا أطول فى الكوخ لتشاجرت مع ايما من دون شك . وهى لا تريدذلك . ليس فقط لان هذا سيجعل عملهما معا فى الشركة صعبا ، بل لشعورها بأن ماغى العجوزتعتمد عليها فى ان تشترى الكوخ وتجعله بيتا حقيقيا مرة اخرى .
وعندما اقتربت من لندن ، وجدت انها لا تستطيع منع فلين من غزو أفكارها. وهذا ما حصل طوال الليل ايضا . وكأن تفكيرها فيه يزداد مع ازدياد ابتعادها عنه . كان قد اتهمها بأنها تخافه، فهل هذا صحيح ؟ تساءلت عن ذلك وكرهت الجواب الذى جاءها ليثبت كلامه . لقد هربت هذا الصباح، لاول مرة فى حياتها تهرب من أمر أو من شخص ما ، وبتعبير أدق ، من رجل . كانت فى الواقع ، ستغادر الكوخ بعد انتهاء حديثها مع ايما وقد ضايقها كثيرا انها لم تتمكن من البقاء والادعاء ان كل شئ على ما يرام .
فكرت بأن تمر بفلين فى طريقها وتخبره بانها راحلة . فبعد كل ما تفعله من أجلها سيكون ذلك من باب التهذيب على الاقل .
ولكن ... كانت تعلم فى اعماقها ، وان لم تعترف بذلك الان بأنها متلهفة الى رؤيته بقدر ما تتوق لعدم رؤيته على الاطلاق .... وصرفت بأسنانها ، فما هذا التناقض ؟
هل تفكر فى شراء كوخ ايما لكى تبقى بجوار فلين ؟ قلبت الفكرةفى رأسها بنزاهة . لا ، ليس هذا هو السبب. وأراحها ذلك . لكن وجود منزل فلين عبر الوادى يجعل هذه الفكرة غير مناسبة ما دامت مصممة على قطع كل صلة به بعد الان .
آه ، هذا جنون ... غباء ! لماذا تمزق نفسها بالتفكير برجل لم تكن تعرفه منذ أسبوع ؟ ربما لن تفكر فيها فلين مرة أخرى بعد أن رحلت ... هذا اذا أزعج نفسه بالسؤال عنها .
اذا نجحت فى شراء الكوخ ... فسيكون امرا عظيما . والا ... فليكن ! فى الحالتين ستستمر فى تنفيذ خططها للمستقبل وتعمل حرة . لقد انتهت مرحلة من حيات وأبتدأت اخرى لتوها
لن تفكر فى فلين مورو بعد الان ، لعلها مجرد فترة استراحة أو لعله سحر عيد الميلاد ... لكن العيد انتهى كما انتهى عبثها مع فلين . وأمأت بحزم لهذه الفكرة
هذا يكفى ! لقد اتخذت قرار الاستقلال فى العمل فى المستقبل القريب . وحتما، حتما، لا مكان لرجل فى حياتها.
**************
أمضت ماريغولد اليومين التاليين من اجازتها فى تنظيف شقتها الصغيرة بشكل كامل ، وقامت بعدة أعمال منزلية كانت تؤجلها منذ وقت طويل . لم تسمح لنفسها بأن تفكر بفلين فأمضت الوقت تستمع الى الراديو أو التليفزيون ، كما كانت تطرد بقسوة أى فكرة طارئة تقود عقلها اليه.
عادت الى العمل صباح الاربعاء بعد ان طبعت استقالتها ووضعتها فى حقيبتها. بدت باتريشيا وجيف آسفين لتلقى استقالتها ، لكنهما وعداها بالتعامل معها على أساس العمل الحر ، وافقت على البقاء فى العمل حتى اخر شهر اذار ، فشعر الجميع بالرضى. كانت ايما فى اجازة حتى رأس السنة الجديدة ، ولم تأسف ماريغولد لذلك . لكنها فكرت بأن تبقى على علاقتها بها نظرا لرغبتها فى شراء الكوخ .
مر اليوم الاول من العمل بهدوء، ولاول مرة ، تمكنت ماريغولد من مغادرة المكتب فى الوقت المحدد والعودة الى بيتها قبل الساعة السادسة . وعندما دخلت الشقة كان جرس الهاتف يرن. واذا بأمها تتصل بها وتصر عليها بأن تنضم الى بقية أفراد الاسرة والاصدقاء لقضاء ليلة رأس السنة فى منزل والديها .
وعدتها ماريغولد بالتفكير فى الامر ، فلم يسعد هذا الجواب امها ساندرا فلاور البتة . بعد ذلك بثلث ساعة استطاعت ماريغولد ان تقفل السماعة بعد ان ملات أمها اذنيها بالاخبار ، بدءا من ساق الخادمة المكسورة الى احوال الدولة .
لم تكد ماريغولد تسير خطوة واحدة نحو المطبخ لتحضير فنجان قهوة حتى راح جرس الباب الامامى يرن ثم تبعته طرقات عالية متواصلة .
- مهلا ، مهلا ، أنا قادمة .
اخذت ماريغولد تتذمر وهى تسير الى الباب، فيما راحت تدفع شعرها عن وجهها بيد واهنة . العمل المرهق فى شقتها أثناء اليومين الماضيين جعل الالم فى كاحلها يزداد ، وهذا ما ارقها طوال الليل كما عاودها الالم بعد عملها هذا النهار .
- مرحبا ، يا ماريغولد فلاور.
انه فلين! شعرت ماريغولد وكأنه أكبر حجما واكثر وسامة ، فيما تضاعفت جاذبيته المهلكة مرتين عما تتذكرها. لقد شعثت الرياح الشمالية التى كانت تهب طوال النهار شعره الاسود ، اما عيناه الرماديتان فبدتا ضيقتين يشوبهما الحذر . بدا متعبا حتى الارهاق ، كما لاحظت وقد تملكتها الصدمة.
قالت بفتور :- كيف عرفت بيتى . هل أخبرتك ايما ...؟
فقاطعها بجفاء :- لا . لم تخبرنى ايما . فلنقل فقط ان ايما أسعدها جدا ان تصفق الباب فى وجهى ثم تدع الامر عند هذا الحد.
قالت بضعف ، وهى تحاول ان تتعود على فكرة وجود فلين هنا ، عند عتبة بابها :- وأنت كنت فظيعا معها .
- لقد هربت من دون عقاب ، تبا لها !
- وكيف عثرت على؟
- من يبحث يجد . ليس هناك الكثير ممن يحملون اسم (فلاور) فى لندن . وكان رقمك هو الخامس الذى جربته سكرتيرتى. المجيب الالى أعطى اسم ماريغولد ... هل ستدعينى للدخول ؟
- آه، نعم . طبعا.
بدت ماريغولد من الاضطراب بحيث كادت تسقط على الارض عندما تنحت جانبا لتدعوه الى الدخول.
تابع فلين بهدوء :- انا فى لندن منذ ست وثلاثين ساعة بعد أن اتصلوا بى من المستشفى لحالة طارئة .
وقف عند عتبة غرفة الجلوس الصغيرة وراح ينظر حوله باستحسان ، قائلا :- هذا ساحر للغاية .
- شكرا .
كانت قد امضت كل ليلة لمدة شهر فى طلاء شقتها وتجديد ورق الجدران بعد انفصالها عن دين مباشرة ، صارفة بالعمل أفكارها عن الاستسلام للالم والغضب والمرارة . لجأت الى الالوان الزاهية لكى تخفف من كآبتها الداخلية . قامت بطلاء غرفة الجلوس بلون أصفر فاقع يشبه لون زهرة عباد الشمس ، كما اختارت اللون الوردى للاريكة والستائر . عاد يقول وعيناه تبتسمان :- لقد أعجبتنى كثيرا وهى تلائمك .
آه، لقد بدا شخصا اخر . شخص صعب خطير وأكثر جاذبية من اى رجل اخر . حاولت ماريغولد ان تخفف من تسارع خفقات قلبها وهى تقول :- لماذا جئت ، يا فلين؟
فأجاب باسما :- لاراك . فأنت لم تقولى وداعا . هل نسيت ؟
- وهل جئت الى هنا لتقول وداعا؟
- ليس بالضبط.
واقترب منها ليضمها فى عناق محموم ، اخدث فى اعماقها تجاوبا فوريا . ثم رفع رأسه وهو يقول بشئ من السخرية :- لا، ليس بالضبط . لكنك تعلمين هذا ، اليس كذلك ؟ تماما كما كنت تعلمين أننى سألحق بك .
فقالت ساخطة :- لا ، لم أكن أعلم .
وكان صوتها يحمل نبرة صدق واضحة . فقطب جبينه وامال رأسها بيد حازمة ثم قال برقة من دون أن يبتسم :- اذن ، كان عليك ان تعلمى ذلك .
ربما ، لكنها لا تعرف كل الاعيب الحب مثل نسائه الخبيرات . فهى فتاة مكافحة ذات اسم سئ الحظ هو :- ماريغولد فلاور . انها فتاة عادية ، لا تسمح للافكار بأن تأخذها بعيدا ،فتحلم احلاما مستحيلة .
- جئت أسأل اذا كان بامكاننا ان نتعرف على بعضنا البعض اكثر .
قال هذا برفق وهو يرى الاضطراب والتراجع يبدوان بوضوح على وجهها :- هل يناسبك هذا؟ لا تخافى . مجرد مواعيد بين وقت واخر عندما أكون فى المدينة . عشاء حينا وجولة فى السيارة للنزهة والتفرج على المعالم أحيانا اخرى . سنكون معا فقط من دون اى نوع من الارتباط .
حدقت اليه غير واثقة . ماذا يعنى كل هذا بالضبط ؟ سألته وهى ترتجف :- بصفتنا ... صديقين ؟
نظر اليها لاويا شفتيه :- هل هذا ما تريدينه؟
فأومأت بسرعة :- انا لست مستعدة لما هو اكثر من ذلك .
كان لايزال يمسك بذقنها ، واحتدت نظراته وكأنه يتفحص أعماقها حتى شعرت وكأنه يخرج روحها لكى يفحصها ثم ، وبشكل غير متوقع ابدا ، ابتسم ابتسامته المدمرة تلك ثم جذبها الى صدره الصلب حيث استقرت ذقنه على قمة رأسها .
وقال بتكاسل :- صديقان حميمان .
دفء جسده ، رائحته والشعور به أسكرتها . وبالرغم من شعورها بالدهشة والصدمة والتردد أحست بالانتعاش والاثارة لانه عثر عليها ولانه هنا الان . وكانت مسرورة .... مسرورة للغاية :- سأعد قهوة ما رأيك ؟
وابتعدت عنه قليلا :- لا بأس ببعض القهوة .
وحرك كتفيه الجبارتين تحت المعطف الذى يرتديه :- كان يوما مأساويا حادث سيارة خطر تأذى فيه طفل فى الثامنة من العمر فقط .
- ولكن ألن يشفى ؟
- عمليتان كبيرتان خلال ست وثلاثين ساعة كما احتاج الطفل الى نقل دم . نعم ، سيشفى، لكنه أمضى فترة بين الموت والحياة ، وكنا على وشك ان نفقده أكثر من مرة .
سألته وكأنما أدركت فجأة سبب ارهاقه :- كنت تعمل طوال ست وثلاثين ساعة ؟
فهز كتفيه :- تقريبا ، انها مهنة كل شئ او لاشئ.
وهو ايضا رجل من نوع كل شئ او لاشئ .
- الم تتناول طعامك بعد هذه الليلة ؟
شعرت بالارتياح لانها نظفت شقتها منذ يومين وملأت الثلاجة بأصناف متنوعة من الطعام . فهز راسه :- اظننى أكلت فى وقت ما أمس . اما اليوم ، فكان الطعام قهوة وبسكويت .كنت سأقترح أن اخذك لتناول العشاء فى الخارج اذا لم يكن لديك مانع .
حدقت اليه غير مصدقة وسألته :- هل جئت الى هنا بسيارتك ؟
- بل فى سيارة أجرة
- فى هذه الحالة سأحضر لك كوب عصير بينما تخلع معطفك وترتاح هل يعجبك لحم العجل المشوى مع الليمون والزنجبيل والخضار المقلية ؟
شعرت بالر ضا وهى ترى عينيه تتسعان دهشة . قد لا تكون بارعة فى تحضير الطعام مثل برتا ، لكن بامكانها دوما ان تعد وجبة حسنة عندما تريد.
قال برقة ، وبلهجة أرسلت رعشة شوق فى جسدها :- سيكون هذا عظيما اذا كنت واثقة .
واثقة؟ لم تعد واثقة من شئ منذ وقع نظرها على فلين مورو لاول مرة .
- واثقة تماما .
ابتسمت وكأنها دوما متمالكة لنفسها الى حدج كاف ، ثم سارت الى الموقد الصغير تشعله وهى تقول :- اجلس وأدفئ نفسك فيما اسكب لك العصير .
كان يخلع معطفه عندما التفتت اليه فأثارت حركاته العادية أعصابها. وعندما عادت من المطبخ بالعصير كان الامر أسوأ . فقد بدا واضحا انه طبق كلمتها بالنسبة الى الراحة ، فخلع سترته وفك ربطة عنقه ليبقيها معلقة فى رقبته، وفك أزرار قميصه العليا ليكشف عن صدره الاسود القوى . كان يتأمل صورة فوتوغرافية لابويها .
مضت لحظة نسيت فيها ماريغولد كيف تمشى ثم عادت فاستطاعت ان تسير اليه مترنحة . سألها وهو ينظر الى الصورة مائل الرأس :- أبواك ؟
أومأت ماريغولد وهى تناوله كوبه وتقول :- التقطت هذه الصورة لهما فى السنة الماضية .
عادت عيناه الى الصورة . بدا الرجل رمادى الشعر رزينا ، وذراعه تلتف حول كتفى زوجته الضاحكة التى بدت صغيرة الحجم متألقة .
قالت برقة وفى صوتها حب كبير :- أحب هذه الصورة لانها تظهر شخصيتهما الفعليتين . ابى محام يحب الاستقامة واللياقة ، وأمى ... حسنا ، انها ليست كذلك .
قالت هذا بأسف ثم أضافت :- لكن كل منهما يرى بعينى الاخر .
سألها وهو ينظر اليها :- هذا واضح . هل هما متعلقان بك ؟.
- نعم ، اظن ذلك. ربما ليس بالقدر الذى كانا عليه منذ فترة قصيرة قبل ان انتقل لاعيش وحدى . لكن هذا التغيير كان ضروريا لامى كما هو لى. فقد أرادت انجاب الكثير من الاطفال ، لكنها تعرضت لمشاكل صحية بعد مولدى فلم تتمكن من انجاب اطفال اخرين ما جعلنى مركز اهتمامها . انما اختلاف شخصيتينا سبب لنا مشاكل حينذاك لكننا بأحسن حال الان لقد تقبلت فكرة أننى أصبحت راشدة مستقلة الان ولى طريقتى الخاصة فى معالجة أمورى ... غالبا .
أضافت كلمتها الاخيرة باسمة ، ثم سألته :- وماذا عنك أنت ؟ هل ترى والديك كثيرا؟
- ليس كثيرا .
وعاد يتأمل الصورة وهو يقول بفتور :- لقد تطلقا عندما كنت فى الخامسة ، ثم عادا الى بعضهما البعض وأنا فى الثامنة ، ثم عادا فتطلقا عندما كنت أقترب من سن المراهقة. ومنذ ذلك الحين تزوجا مرات عدة . تزوجت أمى والد سيلاين حينكنت فى الثامنة عشرة حيث تعارفنا ، انا وسيلاين ، لاول مرة . وكان هذا زواج ابيها الثالث .
ولم تعرف ماريغولد ماذا تقول .
- دام زواج أبوينا ثلاث سنوات ، ولكن الى ان تطلقا ، كنا ، انا وسيلاين ، قد أصبحنا صديقين حميمين . كنا نفهم بعضنا البعض لاننا كما أظن مررنا بظروف متشابهة فى طفولتنا .
أومأت ماريغولد من دون أن تنبس بكلمة . سماعها اسم المرأة من بين شفتيه آلمها اكثر مما تتصور .
- تربيت فى جو ثراء بالغ واهداف قليلة للغاية . وكنت بحاجة الى ان أحطم هذه الدائرة قبل ان تحطمنى . لهذا ، اخترت مهنة الطب .
ونظر اليها وابتسامة باردة تلوى فمه :- واذا بذلك يتحول بضربة حظ ، الى ما يناسبنى تماما ، كنت طالبا جيدا ، وقد أثارت اهتمامى أمراض الجهاز العصبى ، والبقية ، كما يقال أصبح تاريخا .
أرادت ماريغولد ان تسأله المزيد عن سيلاين . متى أدركا انهما يحبان بعضهما البعض ؟ ما الذى تسبب بفصم خطوبتهما ؟ لكنها أدركت ان هذه اللمحة القصيرة عن ماضيه انتهت .
ابتلعت جرعة كبيرة من العصير علها تشعر بالهدوء ثم ابتعدت عنه قائلة :- اجلس واسترح ريثما أهتم بالعشاء . يمكنك ان تشاهد التلفزيون فى هذه الاثناء .
وسرعان ما هربت الى حيث الامان الضعيف فى مطبخها الصغير ز أشعلت الفرن بعد أن وضعت فيه صينية الشواء التى تحتوى على فخد العجل ثم حضرت بسرعة الصلصة المناسبة والمؤلفة من الليمون وصلصة الصويا والعسل والثوم والزنجبيل ومكونات اخرى ، ثم سكبتها على الفخد المشوى . ودست الصينية فى الفرن ، ثم وسارت الى غرفة الجلوس .
كان شبه مستلق على الاريكة فى وضع مربك وكأن النوم باغته فجأة ، كما ظنت ماريغولد عند سماع دقات قلبها الفزعة . كانت احدى يديه على رأسه فيما يمسك كوبه باليد الاخرى .فكرت ماريغولد فى ان هذه هى المرة الاولى التى تراه فيها ضعيفا عديم الدفاع . وكادت هذه الفكرة تخطف أنفاسها.
بدا أثناء نومه مختلفا وكأنه أصغر سنا .كما بدت الخطوط الخفيفة حول عينيه وفمه أقل وضوحا وساهمت أهدابه الكثيفة السوداء فى اضفاء مظهر الفتوة عليه . حتى النوم لم يستطع ان يخفى رجولته الفياضة التى تشكل جزء هاما من جاذبيته .
لم تستطع ماريغولد ان تمنع نفسها من التقدم نحوه، رغم ان جزءا منها راح يعترض بأنه لو انعكس الوضع وكانت نائمة ، لكرهت ان يتأملها فلين طويلا من دون ان تدرك ذلك .
بدت بذلته رائعة التفصيل وغالية الثمن ، وكذلك القميص وربطة العنق . لكنها رأت فلين يبدو رائعا ايضا وهو يرتدى بنطلون الجينز والكنزة اللذين كان يرتديهما عندما أحضر لها شجرة العيد من الغابة .
نظرت الى فمه الذى بدا مسترخيا لكنه مازال يتمتع بتلك الجاذبية المدمرة . وتأملت ذقنه المربعة فيما بدت لحيته السوداء النابتة حديثا واضحا تماما.
مجرد النظر اليه جعلها تشعر بالوهن فى ركبتيها .
ركعت بجانب الاريكة ، محدثة نفسها بأنه تريد فقط ان تأخذ الكوب الفارغ من بين أصابعة المتراخية لتضعه على منضدة القهوة الصغيرة .
قربها منه الى هذا الحد وهالة الرجولة التى تحيط به أثارا اضطرابها , اخذت الكوب من بين أصابعه ببطء بالغ ثم وضعته على الارض بجانب الاريكة من دون أن تلتفت الى منضدة القهوة ، فهى لم تستطع ان تحول عينيها عن وجهه النائم .
لمست ذقنه الخشنة بأصابعها بخفة بالغة . لم تستطع ان تمنع نفسها . واغمضت عينيها لحظة واحدة ، عالمة ان عليها ان تبتعد عنه وتذهب الى المطبخ . وعندما فتحتهما ، كانت العينان الفضيتان تحدقان مباشرة الى عينيها البنفسجيتين المصدومتين .
بدا وكأنها لا تستطيع القيام بحركة ما عدا مبادلته النظر ،فقد جمدتها الصدمة . طوقتها ذراعاه وهو يتمتم :- هذا حسن ...
كانت هذه تمتمة رجل راض وهو يحتضنها بشدة واحكام بحيث لم تجد فائدة من المقاومة . ولم تشأ ذلك على اى حال .
أرسل عناقة شلالا صغيرا من المشاعر فى اعصابها وعضلاتها . فجأة ، كأنما انذار رن فى رأسها فتصلب جسدها ، واحس فلين بتراجعها فقال بصوت رقيق اجش :- لا بأس ، يا حبيبتى . انا لست فتى غير ناضج لالح عليك لتعطينى أكثر مما تسمحين به . ارتاحى ...
- على ... على ان انتبه للعشاء .
واستقامت فى جلستها ولم يحاول هو ان يمسكها :- تبا للعشاء .
لكن صوته بدا كسولا اكثر منه مزعجا .
وقفت بسرعة وقد توهج وجهها .
ابتسمت بضعف وهى تعود الى المطبخ وراحت تقطع البصل الى شرائح بحركة عنيفة . بعد كل ما قالته عن بقائهما صديقين اذا بها تذهب الى الرجل وتكاد ترتمى بين احضانه .
هل يدعو كل نسائه ياحبيبتى ؟
جاءتها هذه الفكرة من مكان ما فجمدتها مكانها ، وأمضت نصف دقيقة وهى تحدق الى الجزر، بانتظار ان تهدأ اعصابها ، بعد ما رأت تصرفها السابق مع البصل .
ثم هزت رأسها بضيق . هذا لا يهم ! حدثت نفسها بحزم فقد أخبرها للتو انه يريد ان يخرجا معا اثناء وجوده فى المدينة وذلك لكى يتعرفا الى بعضهما البعض بشكل افضل . وتوهج وجهها احمرارا وهى تتذكر عناقه لها .
زلكن هذا ذنبها هى ، وليس ذنبه، كما ذكرت نفسها بنزاهة . فقد كان الرجل المسكين مرهقا تماما ومستغرقا فى النوم فجاءت لمستها لتوقظه من نومه فوجدها قريبة جدا منه .
فى تلك اللحظة سمعت صوته الناعس من عند عتبة الباب :- أتريدين اى مساعدة ؟
- لا. انا بخير .
والقت بالبصل فى مقلاة واسعة ، وابتدأت تقطع الجزر من دون ان تلتفت اليه، ثم اضافت بسرعة :- انا اسفة لاننى ايقظتك . لم اكن أقصد ذلك...
وتلاشى صوتها...
- انا مسرور لانك فعلت ذلك ... أعنى أيقظتنى .
أمكنها ان تشعر بنظراته على رقبتها ، وادركت ان هذا الرجل يسخر منها رغم انها لم تجرؤ على ان تلتفت اليه :- مادمت قد استيقظت الان ، هل لك ان تعد المائدة فى غرفة الجلوس؟
كانت المائدة مطوية الى جانب الجدار ولم تكن ماريغولد تستخدمها الا عندما يزورها ضيف. لكنها تكفى لجلوس شخصين .
- ستجد الفوط والكؤوس وبقية الاغراض فى الخزانة .
والتفتت تشير الى خزانة الجدار عند باب المطبخ وهى تتجنب النظر الى عينيه.
- حسنا .
بعد عشر دقائق أنهت تحضير الخضار المقلية مع لحم العجل وزينت الاطباق بشرائح الليمون الطازج . كانت قد هدأت بما يكفى لكى تواجهه بابتسامة متألقة وهى تسير الى غرفة الجلوس حاملة الصحنين .
- آوه !
لقد طهت كمية كبيرة اذ يبدو عليه الجوع بقدر ما يبدو عليه الارهاق وكانت مكافأتها ان رأت وجهه يشرق لمرأى الطبقين الممتلئين .
- الحلوى هى فطيرة البندق والايس كريم لكنى اشتريتها من المحل، مع الاسف . لدى ايضا أرز بالحليب حضرته بالامس اذا كنت تفضل .
- هل لديك مربى فريز مع الارز بالحليب ؟
سالها مسببا لها الاضطراب مرة اخرى ، وهو يسحب لها كرسيا تجلس عليه عند المائدة قبل ان يجلس هو .
لم يعاملها اى رجل عرفته ، حتى دين ، بمثل هذا التهذيب . بدا لها ذلك حسنا ... حسنا جدا . لم تجرؤ على ان تعتاد على هذا ، وان كان هذا لا يعنى ان فلين يحبها طبعا . قالت له :- مربى الفريز؟ أظن ذلك .
- عظيم .
وابتسم لها ابتسامة عريضة فتساءلت كم من النساء وقعن فى غرامه من أول نظرة ، ام ان هناك من تطلب معها ذلك بعض الوقت ؟
راح فلين يتصرف بشكل طبيعى ما جعلها تشعر بالارتياح . ووجدت نفسها تستمتع ببقية السهرة .
انتهت السهرة بهدوء فشربا القهوة مع الحلوى . ولم يكن فلين يبدو مهددا بل مرافقا مسليا أخذ يبهجها بقصص خلابة عن حياته وعمله . احست انه يطلعها على قصص النجاح ولحظات التفاؤل ، وان ثمة ناحية مظلمة فى عمله ، لكنها انسجمت مستمتعة بكل لحظة . وادهشها ان بامكانه ان يسخر من نفسه ومن مركزه ووضعه الاجتماعى واحترامه لذاته. بدا ذلك محببا جدا حتى ان ماريغولد كان عليها ، اكثر من مرة أن تمسك قلبها من التأثر .
وعندما اراد ان يخرج حوالى الساعة الحادية عشرة ، شجعت نفسها متوقعة عناقا محموما قبل النوم أو ربما تلميحا الى ان بامكانه ان يبقى , لكنه بدلا من ذلك طلب سيارة اجرة ثم ارتدى سترته ومعطفه وعانقها عناقا عابرا قبل ان يسير الى الباب الخارجى. وعندما وقفا عند العتبة سألها برقة :- هل تسمحين لى بأن ادعوك على العشاء تعبيرا عن شكرى لهذه الليلة ؟
أومأت ماريغولد برأسها موافقة .
- الساعة الثامنة من مساء الغد ؟
فأومأت مرة اخرى .
- تصبحين على خير ، يا حبيبتى .
ثـــم خرج .
*******************
نهاية الفصل السابع

Just Faith 26-11-17 04:18 PM

8 - غيرة .. كراهية .. ام حب ؟
كانت تلك الليلة هى الاولى من ليال كثيرة أمضتها ماريغولد برفقة فلين . دعاها الى العشاء ، أخذها الى المسارح ، الى نواد للتسلية والى حفلات ونزهات فى الخارج مع اصدقائه .
واذا ما أمضى عطلة نهاية الاسبوع فى لندن، كانا يرتادان المعارض الفنية والمكتبات ، او يذهبان فى نزهات طويلة على الاقدام على ضفاف نهر التايمز، أو يمضيان النهار النهار فى النوادى الرياضية وأماكن التسلية الخاصة التى كان فلين عضوا فيها . ولم يحدث ان تصرف فلين ولو مرة واحدة الا كصديق حريص على ارضائها وكمرافق ساحر ظريف .
وكان هذا يقود ماريغولد الى الجنون .
عبثا حاولت ان تقنع نفسها بأنه يتصرف بهذا الشكل بناء على طلبها ولانها وضعت قواعد حاسمة جدا وحدودا صارمة بسبب مشاعرها المتضاربة نحوه ، وان هذه هى افضل الوسائل لقضاء الوقت على الاطلاق .
ففى كل مرة يمسك فيها بيدها او يشدها اليه ، وفى كل مرة يعانقها قبل ان يفترقا عند المساء أو يضع ذراعه حولها أو يملس على شعرها فيما هما جالسان معا كانت تنتظر منه ان ينتقل الى الحركة التالية ... لكنه لم يفعل !
حاولت ان تقنع نفسها بأن السبب فى تململها هذا هو تلك التغييرات التى أجرتها فى حياتها وهى كثيرة .
عندما عادت ايما الى ال مكتب فى بداية شهر كانون الثانى وافقت على بيع الكوخ . فيبدو أنها أمضت فيه وقتا فظيعا ، حيث لم تتمكن من اشعال النار مرة من دون أن تملأ الكوخ بالدخان . كما واجهت مشكلة فى حوض الغسيل فى المطبخ ... وهذا قليل من كثير عانته.
أما النقطة الاخيرة التى جعلت الكوب يفيض ، فهى دخول فأرة الى غرفة النوم ذات ليلة .
كانت ايما قد قررت أن تسافر فى مطلع السنة الجديدة الى أوروبا لقضاء فترة مع احدى صديقاتها فهى تريد شفاء قلبها الجريح بعد خروج أوليفر من حياتها . ونظرا لعزلة الكوخ وبعده عن لندن ، بدا الثمن الذى طلبته معقولا جدا . تمكنت ماريغولد من دفع نصف ثمن الكوخ من الارث الذى ورثته عن جديها لامها منذ سنوات والذى لم تمسه حتى الان . وبعد ان جالت قليلا فى الانحاء ، وجدت مصرفا مستعدا لاعطائها قرضا لدفع ما تبقى ، ما يعنى ان الاقساط التى يتوجب عليها دفعها بعد ذلك ستكون سهلة ومنخفضة . كما سهل عليها الامر ، الحل الذى اقترحته ايما لتصريف محتويات الكوخ من اثاث وأمتعة ... فلم تحسب أى ثمن لها .
أرسلت ماريغولد اشعارا الى صاحب الملك بأنها ستخلى شقتها فى اخر شهر آذار بعد ان قررت الانتقال الى اقليم (شروبشاير) حيث يقع الكوخ .كما طبعت نسخا عدة من سيرتها الذاتية مصحوبة برسالة تشرح فيها أنها ستعمل حرة من مسكنها الجديد ، ثم ارسلتها الى كل الزبائن والى الشركات التى تتعامل معها . وقد تلقت أجوبة عدة مشجعة بشأن العمل معها فى المستقبل القريب ، بالاضافة الى ان صاحبى الشركة التى تعمل فيها حاليا وعداها بأن تبقى التصميمات الجديدة لبطاقات المعايدات بين يديها القديرتين .
ومع بداية شهر اذار ، وقعت أحداث عدة تركت ماريغولد لاهثة .
عند الساعة العاشرة من صباح يوم عاصف من شهر اذار ، اصبح الكوخ أخيرا ملكا لها . وفى الساعة الحادية عشرة اتصلت بها شركة صغيرة عند حدود اقليم شروبشاير حصلت على اسمها من الشركة الام فى لندن ، لتسألها ان كان يهمها ان تتعاون معها فى اصدار تقويم فى نطاق الريف الانكليزى فضلا عن بطاقات ومفكرات ودفاتر .... الخ .
وتملكتها الحماسة ... ها قد بدأ العمل !
وفى نهاية شهر اذار ، وقعت ماريغولد على الاتفاقية وقلبها يخفق بحماسة . وبدا لها ان هذا المشروع سيلاقى النجاح ، فلديهم كل الاسباب التى تجعلهم يؤمنون بنجاحه حيث ان الشركة الام تنوى تقديم الدعم الكلى لهم .
وفى الثالثةمن بعد ظهر اليوم نفسه ، رن جرس الهاتف على مكتبها فرفعت السماعة لتقول بصوت مرح ، بعد كل ما حدث فى الصباح :- نعم .
ساد صمت قصير قبل أن يأتيها صوت رجل :- ماريغولد ؟ أنا دين ، انا ... أنا أتساءل عن حالك .
- دين ؟؟؟
لو ان المتكلم على الطرف الاخر كان ملكة انكلترا لما شعرت ماريغولد بدهشة اكبر.
- لا تقفلى الخط .
بدا صوته متلهفا ، فقطبت جبينها :- لم أكن أنوى أقفاله .
لابد ان دين اعتبر جوابها نوعا من التشجيع، لانه قال بقوة :- لقد افتقدتك ... افتقدتك أكثر مما يمكن ان تعبر عنه الكلمات . كنت أحمق يا ماريغولد . هل ستصفحين عنى ؟
أبعدت السماعة عن اذنيها لحظة وهى تنظر اليها بحيرة ، ثم قالت :- ما حدث بيننا أصبح من الماضى الان ، يا دين .
- ولكن هل تصفحين عنى ؟
هل تصفح عنه؟ وفكرت ماريغولد لحظة ثم أدركت أنها لم تفكر فى دين وتامارا فى الشهرين الاخيرين . فقالت بثبات :- لقد تغيرت امور كثيرة فى حياتى ، ولابد ان هذا يعنى أننى صفحت عنك ,
- لم أعد أعيش مع تامارا . لقد قادتنى الى الجنون . تريدنى أن أهتم بها دوما ولا شئ يرضيها على الاطلاق . انها ليست مثلك يا ماريغولد .
طفلان مدللان مغروران ! كان من السهل ان تدرك ان الامور لن تسير بشكل جيد بالنسبة اليهما.
- أعلم أننى آلمتك لكننى أفتقدك حقا صدقينى . كنت ملجأى دوما ... والشخص الذى أعتمد عليه .
عليها ان توقف هذا فهى لا تريد ان تكون ملجأ لاحد . وهى تدرك بوضوح تام أن دين لا يستطيع أبدا ان يعطى من ذاته . دين لا يهمه سوى دين .
- دين ، لو كانت الامور جيدة بيننا لما ذهبت مع تامارا. من الجيد أننا اكتشفنا هذا قبل الزواج .
- لا، لا ، الامر ليس كذلك على الاطلاق .
بدا صوته متلهفا ، وأدهشها أن تشعر بالاسف من أجله . كانت كمن يصغى الى طفل ... الى طفل أنانى كسر لعبته فى ثورة غضب وهو الان يطالب بأن يعيدها اليه كما كانت . لقد قال فلين انها ربما ستموت قبل ان يكبر دين وينضج ، وهو على صواب . قالت بحزم :- أنت الذى قررت الذهاب مع تامارا . وبصراحة ، اظن ان هذا هو الحل الافضل لنا نحن الاثنين ، اذ من الواضح أنك لست مستعدا للزواج ولاشك أننا كنا سنصل الى كارثة . ستجد المرأة المناسبة فى المستقبل يا دين ، لكنها لن تكون أنا وداعا.
ووضعت السماعة بحزم وقلبها يخفق بسرعة حتى ليكاد ينفجر . عاد الجرس يرن من جديد لكنها لم ترفع السماعة ، بل فتحت جهاز الاجابة .
- ماريغولد ، ارفعى السماعة ، ارجوك يا ماريغولد ارفعيها .
ثم مضت ثوان عدة من الصمت ، ليتعالى صوته مرة اخرى بنبرة شرسة :- أنا اعلم أنك موجودة . اسمعى ، اذااردتنى أن اعفر وجهى بالتراب فسأفعل ، لكنك تعلمين أننا خلقنا لبعضنا البعض . انت تحبيننى . لطالما كنت تحبيننى . أنا بحاجة اليك .
تلا ذلك لحظات اخرى من الصمت ، ثم وضعت السماعة فى الطرف الاخر .
تنفست ماريغولد الصعداء . ستة اشهر مرت ، ومع ذلك توقع دين أن يستأنفا علاقتهما من حيث توقفا ، وكأن شيئا لم يحدث خلال تلك الاشهر الستة ؟ بدا الامر مضحكا ان لم نقل مأساويا .
راحت ماريغولد تنظر الى مكتبها المغطى بالاوراق وأفكارها تتسابق . لم يسألها ان كان لديها صديق ، ويبدو أن ذلك لم يخطر بباله .. هذا امر لا يصدق. هل يظن انها كانت نجلس بانتظار اتصال منه طيلة هذا الوقت ؟ انه لا يعرفها على الاطلاق ... واعترفت لنفسها أنها ، هى ايضا ، لم تكن تعرفه ، وهذا مخيف .
عضت شفتها وقد تملكها ذلك الشعور بالقلق والذعر . فكم من الازواج ينجحون فى زواجهم ويمضون العمر معا . كما هى حال والديها ؟ فبحسب ما تراه ، ثمة الكثير من الازواج غير المتناسبين على الاطلاق ، كما كانت لتصبح لو انها تزوجت دين ... كيف يمكن للمرء ان يعرف اذا كانت العلاقة الزوجية ستدوم أم لا ؟
أخذت رشفة من فنجان القهوة ، وكانت ايما قد أعدت ما يكفى منها لكل من فى المكتب . لقد نجحت ايما فى اعداد قهوة أشبه بماء غسل الصحون . التفكير بتلك الفتاة حول أفكارها الى الكوخ ومن ثم الى فلين فأدركت أن تأملاتها السابقة لم تكن لها صلة بدين بل بفلين . انها مولعة به الى أقصى حد .
وقفت متململة وسارت الى النافذة . أخذت تنظر الى الشارع المزدحم تحتها . لقد تمكن دين من اخفاء شخصيته الحقيقية عنها ، ولم تكن لديها من الخبرة ما يجعلها تدرك خداعه. لكن بالمقارنة مع فلين ، كان دين اشبه بالفتى الصغير . كيف يمكنها أن تفهم فلين؟ لقد اقترفت مع دين غلطة كبرى ، وهى ليست بحاجة الى اقتراف غلطة أخرى ... وحتى لو تمكنت من نسيان شبح سيلاين ، فان فلين مورو ينتمى الى طبقة اجتماعية بعيدة كل البعد عن طبقتها .
بهتت كل حماستها للكوخ ولعملها الجديد ، وتملكها دافع سخيف لان تنفجر بالبكاء . ولكن وبدلا من ذلك ابتعدت عن النافذة عائدة الى مكتبها حيث انكبت على كومة الاوراق وراحت تعمل بعزم وعبوس.
لا مزيد من التفكير ... لا مزيد من (اذا) و(لكن) ... لديها عمل عليها ان تنجزه .
تركت المكتب متأخرة أكثر من المعتاد ، وعندما خطت على الرصيف كادت الريح تقذف بها . يبدو أن ثمة عاصفة قوية تتشكل فى الافق، كما أدركت وهى ترفع بصرها الى السماء الغاضبة
تسوقت فى طريقها الى شقتها ، وراحت تناضل وهى تسير فى الشارع الذى يمتد بين بيوت مؤلفة من ثلاثة طوابق . وضعت الاكياس أمام باب شقتها ، وفتحت حقيبة يدها لتخرج المفتاح فيما الرياح تولول والظلام يلف المكان .وفجأة ، لامست يد كتفها فكادت تقفز مكانها .
- أسف. هل أفزعتك ؟
- دين !
استدارت بسرعة فاصطدمت بأحد تلك الاكياس المليئة بالبقالة فتناثرت حولهما محتوياته. أخذا يلملمانها ويعيدانها الى الكيس . سألته بلهجة عنيفة :- ما الذى جعلك تأتى الى هنا ؟أظننا قلنا كل ما ينبغى ان يقال عصر هذا اليوم .
- كان على ان احضر .
وانتصب واقفا وهو يحتضن كيس المشتريات بين ذراعيه. أخذت ماريغولد تحدق اليه وهى تعجب من نفسها كيف لم تلحظ من قبل مدى هزاله . بدا وجهه جميلا لكنه صبيانى ... ما هى تلك الكلمة التى تصفه؟ طفولى ؟ نعم ، هذه هى صفته كما فكرت وهى تتأمله صامتة ...
مدت يدها لتأخذ منه الكيس وهى تقول :- لا فائدة من ذلك يا دين ، اذهب ارجوك .
فقال متجاهلا يدها :- أنت لا تعنين ذلك .
واقترب منها فتراجعت حتى انحشرت بالباب بينما تابع يقول :- لا يمكنك ابعادى عنك . نحن خلقنا لبعضنا البعض .
الى جهنم بهذا القول! لو كان فلين هنا لاسمعه هذا الجواب . هذه الفكرة جعلت ماريغولد تطرف بعينيها وكأنها سمعت صوته ، وقالت :- استغرقت وقتا طويلا لكى تكتشف هذا . لقد انفصلنا فى نهاية شهر آب ، اليس كذلك ؟
حدق اليها وقد فوجئ بلهجتها . يبدو انه توقع أن ترتمى بين ذراعيه مستسلمة بعد ان تنازل وعاد اليها . لم تحس ماريغولد بذرة من المشاعر حين رأته مرة اخرى ، وانما شعرت بالانزعاج فقط . والان ، وهو يواجهها شخصيا ، ادركت أنه لم يعد يعنى لها شيئا على الاطلاق .
- سأدع الامر لك . أعدك يا (دى) .
أزعجها ان يناديها باسم التدليل ذاك .
واندفع دين فجأة الى الامام وأمسكها بيده الطليقة محاولا ان يعانقها .
مرت لحظة جمدت فيها الدهشة ماريغولد . لكنها رأت من زاوية عينها سيارة تقف فى الطريق بالقرب منهما . وادركت من فى داخلها ، حتى قبل ان تلتقى عيناها بتلك العينين الفضيتين الثلجيتين . أدركت انه فلين ... انه القدر .
دفعت دين عنها بعيدا وهى تصرخ به بحدة :- اياك ... اياك ... أن تلمسنى .
- ولكن (دى) ...
رأى عينيها مسمرتين خلفه ، فاستدار وكيس البقالة لا يزال فى يده، ليرى الوجه الحجرى البارد ينظر اليهما .
خشيت ماريغولد أن يبدو منظرهما وكأنه عودة من رحلة تسوقا فرحة ، ويبدو ماحصل وكأنه عناق عند الباب. لذا توقعت من فلين أن يأمر السائق بمتابعة طريقه.
وبدلا من ذلك انفتح باب السيارة ، وخرج فلين من المقعد الخلفى بطوله وعرضه مقزما دين بجسمه الخفيف وقال :- مرحبا يا ماريغولد .
لولا وجهه الغاضب المظلم لبدا صوته طبيعيا تماما ، كما فكرت ماريغولد بشئ من التوتر . تابع فلين بنعومة فولاذية :- مررت فقط فى زيارة سريعة ، لكننى أراك مشغولة .
شعرت باستياء مر لان فلين افترض انها موافقة على ما يحدث ما جعل صوتها منفعلا وهى تجيب :- كان دين على وشك المغادرة .
- أحقا ؟
ونظر فلين الى الرجل الاخر للمرة الاولى بعينين لاذعتين . بالرغم من فظاظة الموقف ، مرت بماريغولد لحظة تسلية حين لاحظت الصدمة التى بدت على وجه خطيبها السابق .
وتابع فلين :- لا تدعنى أعطلك عن الذهاب .
تكلم ببرودة بالغة قبل ان يحول بصره الى ماريغولد .
لا ضرورة لمزيد من محاولات الاقناع ، فقد دفع دين كيس البقالة اليها بعنف ، وبدا وجهه كالرعد قبل ان يختفى فى الشارع .
قالت بضعف:- كان ذاك دين .
فقال بلهجة لاذعة :- هذا ما قلته منذ قليل .
- لم أكن أعلم أنه سيأتى الى هنا . لقد اتصل بى هاتفيا عصر اليوم ، واذا به يعود فيظهر عند عتبة بابى . لم أشأ .. أعنى أننى لم اكن اريد ...
وسكتت فجأة . فسألها بهدوء :- أتريدين ان تقولى انك لم تطلبى منه الحضور الى هنا ولم تشجعيه على معانقتك ؟
- نعم .
وكان هذا غباء منها فى الحقيقة . فاذا كانت تعتقد أن لا مستقبل لعلاقتها مع فلين لكان بامكانها ان تستغل هذه الفرصة لتدع فلين يظن انها مازالت على علاقة مع دين وهكذا ينهى هذه الصداقة بينهما .
وتقدم نحوها ، غافلا عن سائق السيارة الذى راح يراقب التطورات باهتمام :- انا مسرور لذلك .
فسألته بضعف وذهول :- هل تصدقنى ؟
- طبعا أصدقك . ألم تتوقعى منى ذلك ؟
ولوى شفتيه بابتسامة جافة .
- أنا ...
وتلاشى صوتها ... لم تعرف ما الذى توقعته :- أنا ...
- لابأس . يمكننى أن أصل الى استنتاجى الخاص .
ثم رفع ذقنها بأصابعه الدافئة قبل ان يضيف بصوت جاف للغاية :- أرى أنه مازال علينا أن نجرى بعض التقدم .
- ماذا ؟
عاد فلين الى سائق السيارة لينحنى ويناوله أجرته مع هبة بدا أنها سخية ، وقد استنتجت ذلك من الطريقة التى شكره بها السائق .
أخذت تنظر اليه بمشاعر مضطربة بحيث لم تعد تعرف نفسها . انها مولعة بهذا الرجل ، وهو سيحطم قلبها اذا لم تنه هذه العلاقة الا ن . هذه الليلة . لقد غزا حياتها بتصميم بالغ حتى انها راحت تتساءل عن السبب ؟ بامكانه ان يحصل على اى امرأة يريدها ، عدا عن المرأة التى ملكت قلبه ،سيلاين ... فلماذا يهتم بها ؟ الانها اوضحت له منذ البداية انها لا تريد علاقة معه ، ام ان السبب هو انجذابهما الى بعضهما البعض ؟
توقف سير افكارها وتركها وكأنها معلقة بين الارض والسماء وهى تحدق الى هذا الشخص الضخم أمامها . ثم حدثت نفسها بعقلانية صارمة بأنها لا تحبه ... لا تحب فلين مورو .
لكن الاوان فات الان والحقيقة التى حاولت انكارها بدون وعى منها ، فى الاسابيع الماضية ، ظهرت الى العلن . لم تكن تعى اليأس الذى جعل لون عينيها الزرقاوين داكنا . كل ما استطاعت التفكير فيه هو ان عليها الا تفضح نفسها بكلمة أو بأشارة .
- هل كدرك؟ ماذا قال لك؟
ها هو أمامها مرة اخرى ووجهه الوسيم غير باسم فيما راح يتأمل ملامحها الشاحبة .
- من ؟ ماذا ؟
بذلت جهدا بالغا لتتمالك أعصابها :- لا . لاشئ ... فى الحقيقة أخبرنى فقط أنه انفصل عن تامارا ... انه يريد ....
فقاطعها بجفاء :- أظننى أعرف ما يريد . وانت أخبرته أن يذهب ليصطاد فى مكان اخر . اليس كذلك ؟
- تعبيرى كان مختلفا ، لكن المعنى واحد، نعم .
- لن تندمى على ذلك .
لا ، لن تندم ! ليس مع دين . نادته :- فلين ...
لفظت اسمه برقة وانوثة فائقتين وهى ترتجف . عليها ان تبدو أكثر تحكما فى نفسها . أخذت نفسا عميقا فأصبح صوتها أكثر ثباتا وهى تقول :- فلين ... علينا ان نتحدث . أعنى عنا .
التوى حاجباه وقال بابتسامة جذابة :- هل ثمة (عنا) وانا لا أعلم ؟
- أرجوك يا فلين .
نبرة صوتها جمدت ابتسامته ، فأمال رأسه ونظر اليها متأملا قبل ان يقول :- لنتحدث اذا فى الداخل . الجو هنا بارد جدا والرياح عاصفة بحيث لا يمكننا معالجة مواضيع الموت والحياة.
أصر فلين على ادخال مشترياتها الى المطبخ قبل ان يعود الى غرفة الجلوس حيث كانت ماريغولد قد أشعلت النار فى المدفأة لتوها .
كان يرتدى معطفا كبيرا مفتوحا فوق بذلة رمادية غالية الثمن ، فبدا حقا ذلك الجراح اللامع ، المسيطر ، البالغ الحيوية . شبك ذراعيه فوق صدره واستند الى الجدار وهو يتأملها بعينين لا تطرفان :- فلنبدأ اذن .
أرجوك يا الله ، دعنى أجتاز هذا الحوار من دون أن أنفجر فى البكاء أو أذل نفسى بطريقة أخرى !
أخذت ماريغولد تدعو الله بلهفة قبل ان تقول متصلبة :- أظن أن علينا أن نتوقف عن رؤية بعضنا البعض فترة .
ونهضت من حيث كانت راكعة امام النار . ثم جلست على الاريكة .
- لماذا ؟
- لماذا ؟
حسنا ، عليه طبعا ان يطرح هذا السؤال ، كما حدثت نفسها باستياء فهو يتوقع ان تعطيه سببا معقولا لذلك . فقالت له :- لاننى لست مستعدة لاقامة علاقة بهذه السرعة بعد انهاء خطوبتى.
- ما هو السبب الحقيقى ؟ ان قولك هذا غير مقبول .
لم تجب على الفور فضاقت عيناه :- اريد الحقيقة يا ماريغولد . وسأعرف اذا ما كذبت على .
- انا ... انا لست مثل نسائك الاخريات .
ألقى عليها نظرة صارمة :- بعض الرجال يشعرون بالغرور لدى مقارنتهم بالسلطان الذى يملك الكثير من النساء فى حريمه ، الا اننى لست واحدا منهم . لم أكن اعلم أن لدى (نساء) بالجمع .
- أنت تعلم ما اعنيه .
- لا، يا ماريغولد أنا لا أعلم ما تعنينه . اذا كنت تلمحين الى اننى أتصرف فى حياتى كالثور الذى أطلق فى حقل للابقار ....
فشعرت بصدمة حقيقية :- فلين !
- الحقيقة من فضلك .
- أنت ... أنت فى الثامنة والثلاثين من العمر ومعتاد على معاشرة النساء .
لم تصدق مدى التزمت الذى ظهر فى صوتها ، وكذلك فلين على ما يبدو ، اذ أجاب ببرودة :- ماريغولد . ليسلديك أدنى فكرة عما اعتدته فى علاقاتى . والان ، اذا كانت هذه هى طريقتك فى سؤالى عما اذا كان لدى علاقات فى الماضى ، فجوابى هو نعم . وكما قلت أنت منذ لحظات ومن دون لباقة ، انا رجل ناضج ، ولست غلاما . على اى حال لم أطلق لنفسى العنان قط فى أى سلوك ، كما لم آخذ الى سريرى امرأة بالرغم عنها .
انها تصدق ذلك بكل تأكيد . وحدقت اليه بتعاسة . لاشك أنهن كن يقفن بالصف من أجله منذ تركته سيلاين بكل حماقة :- الامر هو ...
- آه ، ليس ذلك الشئ مرة اخرى ... ارجوك .
نبرة السخرية فى صوته كانت القشة الاخيرة ، لكنها أفادتها اذ قوت عزيمتها . لابأس ، انه يريد الحقيقة وسيحصل عليها حتما !
- لا أريد أن أكون احدى النساء اللاتى يدخلن ويخرجن من حياتك . هذا كل ما فى الامر . هذا النوع من الحياة قد يناسب تماما بعض النساء ، لكنه لا ينجح معى . قد تعتبر ما أقوله كلاما قديما ، لكننى أريد أن أعلم ان كان هناك على الاقل فرصة لشئ دائم فى المستقبل ، اذا نجحت الامور بيننا. فأنت ... أنت كتاب مقفل .
- أظن أن التعبير الانسب هو حالة تفتح وتقفل .
حملقت فيه. انه يعلم بالضبط ماذا تريد . فهى لا تريد ان تكون امرأة يريدها لفترة قصيرة حتى تفتنه امرأة اخرى وتثير تحديه. لو استسلمت له منذ البداية لربما أصبحت الان خارج حياته، وهى لا تستطيع ان تواجه ذلك . انها تحبه واذا ما سلمته قلبها ، فلن تتحمل ابدا هجره لها .
عندما عرفت فلين ، ادركت ان دين لم يكن مناسبا لها ، رغم انها لم تعترف بذلك . منذ اليوم الاول الذى عرفت فيه فلين ، لم يعد لدين أهمية لديها . وهكذا أصبح الامر واضحا بحقيقته المخيفة . فجأة تملكتها رغبة مدمرة فى الانفجار بالبكاء ، لكنها سيطرت على نفسها .
- ماريغولد ، اذا كنت مخطئا فصححى لى الخطأ .أليس أنت من ألح على أن نبقى متباعدين؟ مجرد صديقين ؟
ارتجفت الكلمة على فمها . ورغم انها كانت واثقة من أنها لم تفضح نفسها، الا أنها كانت واعية الى عينيه الفضيتين .
وقال برقة :- تعالى .
- لا ، اريدك أن تدرك أنه لا يمكننا الاستمرار بهذا الشكل . نحن نعيش حياتين مختلفتين . نحن مختلفان . لاشئ يجمع بيننا والافضل ان ننهى كل شئ بيننا الان ...
سار اليها ووصل بخطوتين ، واتزعها عن الاريكة ليضمها بين ذراعية ... وفجأة أظهر لها مشاعر محمومة لم تراها منه من قبل .
وجدت نفسها تتشبث به . وخلال ثوان كان كل منهما قد ضاع فى الاخر .
جاء صوته منخفضا وهو يتمتم :- أنت تجعليننى مجنونا بك . هل تدركين هذا ؟.
كان جوابها أن ضغطت بيديها على صدره الصلب ، فيما أردف :- أريد ان نكون دوما معا ، لا يبقى مكان لشئ عدانا نحن الاثنين فى ذهنك وقلبك . أريد ان أتزوجك ...
تراقصت هذه الكلمات فى الجو ، وارتعشت كقطرات المطر البلورية العالقة فى خيوط العنكبوت الواهية .
- ماذا ؟
ابتعدت عنه قليلا وهى تحدق اليه ذاهلة :- ماذا قلت؟.
- أريدك أن تكونى زوجتى .
رقت نظراته الصارمة فانحبست أنفاسها فى حلقها فيما أضاف :- انا أوافقك الرأى على أننا لا يمكن أن نستمر بهذا الشكل ، لاسيما ان ذلك يوشك على ان يفقدنى عقلى . تقولين ان حياتينا مختلفتان ، فلنعالج اذن ذلك فتصبح حياتنا واحدة معا . يمكنك ان تتابعى عملك ، كما يمكنك ان تجعلى الكوخ استديو لعملك اذا شئت ، حيث يمكنك العمل بهدوء من دون أن يقاطعك أحد حين أكون فى لندن . وعندما أحضر الى البيت سنمضى من الوقت معا قدر ما نستطيع .
لقد فكر فى كل شئ ، كما خطر لماريغولد . لابد أنه يفكر بهذا الامر منذ بعض الوقت .
تمتمت بضعف ك- ولكن ... لكنك لم تقل شيئا من قبل .
- أنت أوضحت تماما أن على ان أتقرب منك بكل رفق وانا تفهمت الامر بعد كل ما عانيته. لكنك على صواب فى شئ واحد ، يا ماريغولد ... انا فى الثامنة والثلاثين من العمر . كان على ان أخبرك بنيتى بالزواج منك بعد أيام من تعارفنا . أعترف بذلك . لكنك لم تكونى مستعدة لهذا الامر ...
ولمس جبهتها بخفة باصبعه .
-0 فلين ...
وتلاشى صوتها وهى تنظر الى عينيه المضيئتين اللتين أصبحتا كحبتى لؤلؤ لامعتين :- هل أنت ... واثق ؟.
- كما قلت أنت ، أمضيت وقتا كافيا لاعرف ماذا اريد ومن أريد . لكننى لم أطلب من أمرأة قط ان تتزوجنى .
ما عدا سيلاين . خطرت لها هذه الفكرة لحظة قبل ان تدفعها بعيدا . لا يمكنها ان تحلل هذا الرجل المعقد البالغ الذكاء ، لكن ها هو يقدم لها أكثر مما تحلم به ، كما أنها تحبه الى حد انها لا تعلم كيف كانت ستعيش من دونه . أما الان فلم تعد مضطرة لذلك .
سألها بهدوء :- ما هو جوابك ؟ فكرى جيدا قبل ان تتكلمى . ولكن ثمة أمر مؤكد ، وهو اننى لن أدعك تخرجينى من حياتك ، كما ان صبرى فرغ. واريد ان اذيع بيانا على كل تافه مدع ، مثل خطيبك السابق ، انك لى .
بيان للرجال الاخرين ؟ هل هو مجنون ؟ هل يتصور حقا انهم يقفون امام بابها بالصف ؟ فقالت برقة وفمها يرتعش :- يبدو وكأن لا خيار سوى ان أقول نعم . لكننى لا أفهم ...
قطع كلامها بعناق طويل محموم ولم يتركها الا بعد ان اخذت ترتجف :- ما الذى لا تفهمينه؟
- لماذا تريدنى ؟
سألته هذا بصدق مؤثر ، فلامس وجنتها برفق بالغ :- اذن ، سأجعلك تفهمين .
قال هذا بصوت أبح وعيناه تحدثانها بأكثر مما يمكن للكلمات ان تقوله ثم أضاف :- لكن الوقت ليس مناسبا الان .
نظر الى ساعته وتابع يقول :- تبا، على ان اذهب . كان فى نيتى ان امر فقط لزيارة قصيرة لاوضح لك امرا ، لكن لم يعد لدى وقت الان . على ان أذهب. سأتصل بك هاتفيا ، اتفقنا ؟ سأتصل فى الصباح قبل ذهابك الى العمل . لا بأس .
- نعم ، لا بأس .
وتملكها الارتباك ، لكنه بدأ يسير نحو الباب وقد بدت عليه اللهفة للخروج :- هل أنت ذاهب الان الى المستشفى؟
سألته وهى تعلم الجواب مسبقا . فقد لاحظت من قبل التعبير الذى ارتسم على وجهه عندما كان مشغولا جدا بحالة الصبى ... لابد ان لديه حالة طارئة ، وكأن جزءا منه أصبح الان فى غرفة العمليات .
- نعم
عانقها مرة اخرى طويلا وبعنف :- لكننى سأتصل بك صباحا .
هذا يعنى أنه سيبقى على الارجح فى غرفة العمليات حتى ساعات الصباح الاولى . لابد ان الحالة خطيرة ولا يمكن لها ان تنتظر ، ولاشك ان وضع المريض خطير الان ليجرى فلين العملية .
قالت له بسرعة لتسهل عليه الامر :-اذهب .
ثم ولاول مرة ، وقفت على رؤوس أصابعها لتعانقه ، فضمها اليه مرة اخرى قبل ان يخرج وهو يقفل معطفه .
بعد ذهابه ظلت لدقيقة كاملة مستندة الى الباب الامامى وهى تنظر بذهول الى ردهتها الصغيرة . كان طلب فلين الزواج منها الامر الاكثر غرابة ومازالت لا تستطيع استيعابه .
ماريغولد مورو ... طرفت بعينيها ووضعت يدها على قلبها الذى راح يخفق بعنف ، فلين يريدها ان تكون زوجته .
سارت الى المطبخ حيث أعدت لنفسها فنجان قهوة حملته الى غرفة الجلوس . لم تستطع أن تأكل شيئا ... ليس الان ، فقد شعرت باثارة بالغة . آه ، فلين ... فلين ... وابتدأت ضخامة الامر تتضح لها . الزواج ! بدا الامر فى غاية البساطة حين كان هنا يعانقها ، اما الان فراحت تتساءل لما طلب منها ان تتزوجه فى هذه الليلةبالذات . اتراها أرغمته على عرض الزواج عليها بهذا الموقف الذى اتخذته الليلة ، فضلا عن سلوكها معه فى الاشهر الاخيرة ؟ اذا كان الامر كذلك فهذا نوع من الابتزاز، مع انها لم تفكر فى ذلك لحظة واحدة . فى الواقع لم يخطر ببالها قط ان فلين سيطلب منها يوما ان تصبح زوجته .
أبعدت شعرها عن وجهها المتوهج ، ثم أغمضت عينيها بشدة لحظة أو اثنتين وهى تتصارع مع افكارها الصاخبة المضطربة ، وكلما زاد صراعها زادت شكوكها القديمة ومخاوفها .
هل قال لها فلين انه يحبها ؟ عادت تفكر فى تلك الدقائق المشحونة التى عاشاها ، وذهنها يبحث بلهفة عما يطمئنه . لا ، لم يقل . لكن الطريقة التى نظر بها اليها أعلنت ذلك بوضوح ، اليس كذلك ؟
أو ... وسألها صوت خفى فى أعماقها متفحصا ... هل لانها كانت تريد ... أو تشعر بحاجة الى ان تصدق ، رأت ذلك اعلانا ؟
وبعد دقائق اخذ رأسها يدور . سكبت لنفسها كوبا اخر من القهوة السوداء والثقيلة ، لكن ذلك لم يهدئ روعها أو يطمئنها.
كانت بحاجة الى ابعاد تفكيرها عن الامر لعدة دقائق ، فمدت يدها الى التلفزيون . وعندما ظهرت الصورة على الشاشة الصغيرة استندت الى الوسائد الناعمة خلفها على الاريكة .
لم تستطع ان تتذكر تفاصيل البرنامج المعروض... لابد انها كانت فى شبه غيبوبة أثناء عرضه... لكن حواسها تنبهت عند تقديم الفقرة التالية :- الليلة موعدنا مع مناسبة فى عالم الازياء ... ومضى الحديث بهذا الشكل لحظة أو أكثر ، لكن ماريغولد ما لبثت ان جلست منتصبة عندما قال المذيع :- من القادمات عصر هذا اليوم سيلاين جينيت التى أعلنت حديثا تقاعدها . ثم عرضت بشكل مختصر صورة لسيلاين الباسمة وهى تخرج من المطار . لكن الرجل الطويل الاسمر الذى كان يحيط خصرها بذراعه هو الذى لفت نظر ماريغولد .
فلين ! رفعت ماريغولد يديها تغطى فمها ، وضغطتهما بشدة عليه وهى تحدق ، من دونان تفهم ، الى الشاشة قبل ان تتغير الصورة .
عصر هذا اليوم ، هذا ما قاله المذيع . كانت سيلاين هنا ، فى لندن ومع فلين .
- لا. آه ، لا .
بدا صوتها كالانين ، وسمعت ماريغولد نفسها بشئ من الاشمئزاز لكنها لا تستطيع ان تفعل شيئا حيال الالم والصدمة اللذين تملكاها.
هل كان فلين هناك الليلة ؟ مع سيلاين فى هذا المهرجان ؟ واقفلت التلفزيون ورأسها يدور . كانت فى الواقع قد شجعته ليتركها ، ظنا منها انه ذاهب الى المستشفى .
شعرت بأنها تكاد تتقيأ ما جعلها تتنفس بعمق مرات عدة لتسيطر على الغثيان الذى أصابها . كيف يمكنه ان يفعل ذلك بها ؟ ان يكذب عليها بهذا الشكل ؟ كيف يمكنه ان يعرض عليها الزواج ثم يذهب مباشرة الى امرأة اخرى ، الى سيلاين ؟ واخذت تسير جيئة وذهابا وهى تحاول ان تفكر فى ما عليها ان تفعله . ها هو التاريخ يعيد نفسه كما يبدو . هل الخطأ فيها هى ؟ لابد ان الامر كذلك، وان فيها ما يجعل الرجال يظنونها غبية .
ولكن ... اليس ثمة احتمال بأن تكون قد أساءت فهم الامر ؟ ربما ... ربما ذهب فلين لاستقبال سيلاين فى المطار نظرا لصداقتهما القديمة هذا ممكن .
أدركت أنها كالغريق تتمسك بقشة .... بأى شئ مهما كان واهيا ولكنها لم تستطع منع نفسها من ذلك . ماذا لو ان فلين أخبرها الحقيقة وكان فى المستشفى الليلة؟ اذا استقبلها فى المطار عصر اليوم ، فلا يعنى هذا بالضرورة أنه سيبقى معها خلال الاحتفال فى المساء .
ولكن كيف يمكنها ان تتأكد من ذلك ؟
ستتصل ببرتا علها تعرف منها شيئا ، مدت يدها الى سماعة الهاتف وطلبت رقم منطقة شروبشاير . وما ان انفتح الخط فى الطرف الثانى حتى ادركت انه كان بأمكانها ان تطلب المستشفى ، اذ لعل فلين طلب من برتا ان تنكر وجوده مع سيلاين .
فكرت ماريغولد بسرعة ، ثم قالت :- برتا ؟ انا ماريغولد . اتصلت لاتحدث مع فلين لكننى تذكرت لتوى أنه مع سيلاين ، اليس كذلك ؟ لقد نسيت . لقد أمضيت يوما متعبا فى العمل وتفكيرى غير مستقيم .
- لابأس فى ذلك يا عزيزتى .
لم تنكر ذلك . لم تنكر ذلك .
- سأتصل به على هاتفه الخلوى لاحقا . انا مستعجلة وداعا
قالت الجملة الاخيرة قبل ان تبدأ برتا بالثرثرة وهكذا وضعت السماعة قبل ان تنتظر جواب برتا ، ثم جلست تحدق الى السماعة ببلادة انها تكرهه ... انها تكرهه حقا.
نظرت الى رقم هاتف شقته فى لندن ، ثم ادارته ببطء . على الطرف الاخر لم تسمع سوى المجيب الالى . لكنها توقعت ذلك فراحت تتكلم بوضوح واختصار :- فلين ؟ انا ماريغولد . ارجو ان تكون قد امضيت سهرة ممتعة مع سيلاين . آه، ثمة امر اخر .انا لن اتزوجك حتى لةو كنت اخر رجل فى العالم . ولمعلوماتك انا لم أثق بك قط ، ولهذا لا تظن انك خدعتنى ولو لحظة واحدة لا اريد ان اراك أو اسمع عنك شيئا مرة اخرى وداعا.
وضعت السماعة . وازاحت خصلة شعر عن عينيها ثم انفجرت بالبكاء
******************************
نهاية الفصل الثامن


الساعة الآن 04:24 PM

Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.