آخر 10 مشاركات
على أوتار الماضي عُزف لحن شتاتي (الكاتـب : نبض اسوود - )           »          474 - الحب المر - ريبيكا ونترز ( عدد جديد ) (الكاتـب : marmoria5555 - )           »          موسم الورد* متميزه * مكتملة (الكاتـب : Asma- - )           »          نون عربية (الكاتـب : قصص من وحي الاعضاء - )           »          حــــصاد مــــاضي...روايتي الثانية *متميزة&مكتملة* (الكاتـب : nobian - )           »          [تحميل] مهلاً يا قدر ،للكاتبة/ أقدار (جميع الصيغ) (الكاتـب : Topaz. - )           »          كوابيس قلـب وإرهاب حـب *مميزة و ومكتملة* (الكاتـب : دنيازادة - )           »          [تحميل] كنا فمتى نعود ؟للكاتبة/ الكريستال " مميزة " (جميع الصيغ) (الكاتـب : فيتامين سي - )           »          201 - لقاء في الظلام - باتريشيا ويلسون - ع.ق (مكتبة مدبولي) (الكاتـب : Gege86 - )           »          بلسم جراحي (28) للكاتبة الرائعة: salmanlina *مميزة & مكتملة* (الكاتـب : Just Faith - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى الروايات والقصص المنقولة > منتدى الروايات العربية المنقولة المكتملة

Like Tree2Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 20-01-18, 04:17 PM   #21

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


الفصل الثامن عشر


أخذ مازن يرمق نيرة بغموض وهي جالسة إلى يمينه على مائدة الطعام تعبث بهاتفها كل خمس دقائق.. يتساءل بداخله عما يقلقها هكذا فهي تزم شفتيها بقوة.. وتعبث بخصلات شعرها بدون أن تدري.. وتتحرك يدها أحياناً فتمسك بعنقها للحظات ثم تعود إلى خصلاتها مرة أخرى..
كانت تبدو كتلك الليلة التي اصطحبها فيها لتناول العشاء مع جدته.. لم يظن للحظة أن نيرة تقلق مما قد يظنه الناس بها, إلا أنها بالفعل كانت قلقة من لقاء جدته وكأنها تراها للمرة الأولى.. وبالفعل خيم جو من التوتر الشديد على تصرفات نيرة وحتى جدته تتعامل معها بأسلوب متكلف لم يلحظه عليها من قبل, رغم أنها لم تعلم ما فعلته نيرة في حفل الزفاف, إلا أنها تعاملت برسمية مبالغ بها.. فكانت أمسية كارثية بجميع المقاييس خاصة وأن نفسيته لم تهدأ على الإطلاق بعد لقائه الحزين بشقيقه.. ورغم ذلك حاول احتواء التوتر المخيم على الأمسية حتى استهلك طاقته بالكامل في محاولة يائسة ليمر اللقاء بسلام.. واستغل أول فرصة سنحت له ليرحل مصطحباً زوجته معه..
وعند بوابة الفيلا الخارجية.. أنزل نيرة -طالباً منها ألا تنتظر عودته باكراً_.. وانطلق نحو.. دنيا...
أعاده تململ نيرة وهي تعبث بهاتفها إلى وجوده بمنزله.. على مائدة طعامه تجاوره عروسه.. عروس تبدو مشغولة للغاية بهاتفها..
فألقى بمعلقته فجأة هاتفاً:
ـ يعني مش قادرة تبعدي عن تليفونك ربع ساعة نتغدى فيهم..
رفعت نظراتها إليه لتسأله بلهفة:
ـ هو يزيد رجع مصر؟..
قطب حاجبيه بتساؤل:
ـ بتسألي ليه؟..
ـ بحاول أوصل لعليا بقى لي يومين.. ومش عارفة.. تليفونها مقفول على طول.. فقلت أكيد هو وصل ومشغولة معاه..
ردد مازن بتأكيد وهو يتذكر محادثته ليزيد في ليلة زفافه الكارثية.. ومحادثة أخرى بعد عودته من زيارة حسن:
ـ لا.. يزيد قدامه أربع أيام على ما يرجع..
تمتمت نيرة بعجب:
ـ غريبة!..
رمقها لوهلة وقبل أن يستفسر منها ارتفع رنين هاتفها لترفعه بلهفة ولكنها ما إن رأت اسم المتصل على الشاشة حتى أعادت الهاتف إلى المائدة وعلامات الامتعاض تعلو وجهها.. مما دفع مازن لسؤالها:
ـ ليه ما بترديش؟..
هزت كتفيها باستهانة:
ـ دي مش عليا.. دي صبا..
ـ صبا أختك؟..
مرت في عينيها نظرة نارية.. وأومأت برأسها موافقة.. بدون أن ترد على هاتفها.. حتى اختفى الرنين الذي ما لبث أن ارتفع مرة أخرى.. فقال مازن بلهجة آمرة:
ـ ردي على أختك يا نيرة..
أمسكت هاتفها بامتعاض.. تتمنى لو تخالف أمره, ولكنها حريصة على أن تحتوي غضبه منها.. وتحتفظ بالأوقات التي يتواجد بها معها هادئة قدر الإمكان.. علها تفهم ما الذي يريده منها بالتحديد... فتحت الخط وهي تقول بملل:
ـ خير يا صبا في حاجة؟..
جاءها صوت صبا متردداً وهي تسألها بدورها عن علياء المختفية منذ ليلة زفاف نيرة... مما جعل نيرة تتساءل بصوت نضحت منه الغيرة:
ـ وأنتِ بتسألي على عليا ليه؟..
ـ فريدة عايزاها.. موضوع بخصوص لوحات ورسم..
تشبعت أعماق نيرة بغيرة غاضبة.. وهي تستمع لكلمات صبا.. فهي لا يخفى عليها تعلق علياء بالرسم.. فهل ستسرقها فريدة منها كما سرقت والدها من قبل.. إلا أن أفكارها توقفت فجأة وكلمات صبا تتوالى:
ـ عليا مختفية يا نيرة.. مش موجودة في المزرعة ولا في أي حتة.. وبعد محاولات مع غفير المزرعة فريدة عرفت منه أن عليا ما رجعتش المزرعة من ليلة فرحك.. أنتِ تعرفي حاجة عنها؟...
ابتلعت نيرة ريقها بتوتر:
ـ استني.. ثواني كده فهميني..
كررت صبا نفس الكلمات على نيرة ببطء وتفسير أكبر وهي تحكي لها محاولة فريدة للوصول إلى علياء بكل الطرق.. حتى تيقنت أخيراً من اختفاء علياء..
أغلقت نيرة الهاتف مع صبا.. بعد أن وعدتها بإبلاغها بأي معلومة تصل إليها وتخص علياء..
سألها مازن على الفور:
ـ حصل إيه؟.. عليا فيها حاجة؟..
لم تجبه وأخذت تعبث بهاتفها.. فسحبه منها وهو يعيد سؤاله:
ـ في إيه؟.. إيه مشكلة عليا؟..
قصت عليه ما أخبرتها به صبا ومدت يدها تطلب هاتفها وهي تقول بتوتر:
ـ هات التليفون يا مازن لازم أكلم أونكل عصام.. أكيد عنده أخبار..
رمقها بنظرة غامضة قبل أن يقول:
ـ أنا اللي هكلمه..
مكالمة سريعة مع عصام.. بعدها ارتسمت معالم القلق على وجه مازن.. والتفت إلى نيرة التي كانت تسأله بلهفة:
ـ خير.. قال لك إيه؟..
رفع نظره إليها وظهرت عليه معالم التفكير العميق قبل أن يحسم أمره.. ويتصل بيزيد قاصاً عليه كل ما يعرفه وختم كلماته:
ـ أنا لسه قافل الخط مع والدك.. وبيتهيألي هو عارف حاجة.. بس مش عايز يقول..
أغلق الخط لينظر إلى نيرة التي كانت في شدة لهفتها.. وأخبرها بهدوء:
ـ يزيد هينزل على أول طيارة..
سألته بقلق:
ـ هو الموضوع خطير قوي كده؟..
أجاب بغموض:
ـ ربنا يستر.. أنا هروح لعمي عصام الشركة جايز أقدر أجيب أي معلومة منه..
خرج مازن متوجهاً إلى مجموعة الغمراوي في نفس اللحظة التي كان يهتف بها يزيد بأبيه على الهاتف:
ـ علياء فين يا بابا؟..
تلعثم عصام كان شديد الوضوح تلك المرة لأذنيّ يزيد وهو يقول:
ـ عليا.. إحنا هنرجع تاني للموضوع..
قاطعه يزيد بقوة:
ـ أنا عرفت كل حاجة..
هتف عصام بقلق:
ـ مين قالك؟.. هو عمها صالح كلمك؟..
أغمض يزيد عينيه بألم وهو يردد:
ـ أعمامها؟؟..
وقبل أن يرد عصام بأي كلمة كان يزيد قد أغلق الخط...
***************
كان حسن منهمكاً في إنهاء آخر بقعة من الجدار المواجه له.. بينما قرر باقي زملائه التجمع من أجل الراحة مع كوب من الشاي الأسود حتى يستطيعوا إنهاء العمل في موعده.. أخذ حسن يستمع إلى أحاديثهم الودية وبسمة هادئة ترتسم على شفتيه بينما يعتذر لهم بلطف عن مجالستهم لرغبته في إنهاء عمله والذهاب إلى منزله...
تقدم منه أحد زملائه وهو يبتسم بغموض.. مقدماً له لفافة سجائر غريبة الشكل:
ـ بنمسي يا بشمهندس..
التفت حسن إليه:
ـ متشكر يا أسطى سُمعة.. أنت عارف ما بدخنش..
وكزه سُمعة بمرفقه وهو يقول:
ـ وده دخان برضوه.. دي حاجة هتريحك وتروق مزاجك..
ابتسم حسن معتذراً مرة ثانية.. بينما ظل سُمعة على إلحاحه محاولاً اقناع حسن:
ـ صدقني يا هندسة.. دي اللي هتخليك تتحمل الوقفة على كعوبك طول النهار.. وهتنسيك ريحة التنر والزيت.. هتروقك وتعلي مزاجك..
وقبل أن يجبه حسن سمعا الاثنان صوت المعلم محمود.. المقاول المسئول عن تشطيب البرج السكني الذي يعملان به وهو يرحب بشخص ما بصوت خاضع:
ـ يا ألف مليون أهلاً وسهلاً.. نورتِ الدنيا كلها يا ابتسام هانم..
والتفت إلى أحد العمال:
ـ كرسي بسرعة للهانم...
جاء صوت الهانم مشمئزاً وهي تقول:
ـ ما فيش داعي يا معلم محمود.. أنا جاية أشوف إيه آخر أخبار الشقة..
ودارت بعينيها في أنحاء الشقة حتى توقفت نظراتها على حسن.. الذي توقف عن عمله وكتف ذراعيه ليتأمل المتطفلة المدللة بشعرها الأشقر المصبوغ وزرقة عيونها المزيفة.. لم تكن تضع الكثير من الزينة إلا أن طريقتها وملابسها القصيرة جداً _والتي رسمت خريطة جسدها واضحة لتلتهمها نظرات الرجال الشرهة_ ذكرته نوعاً ما بنيرة.. مما تسبب بنفور وامتعاض فوري بداخله, ولكنه حاول جاهداً السيطرة عليه وبينما هو يحاول السيطرة على رد فعله الرافض لتلك المرأة وجدها تحدق به بطريقة فجة..
كانت نظراتها تنطق بأفكارها القذرة وهي تجري بها فوق قامته الطويلة وكتفيه العريضين.. وكأنها تعريه من ملابسه لتتخيل ما تخفي تلك الملابس تحتها من جسد رياضي ممشوق وعضلات منحوتة..
أخرجت لسانها لترطب به شفتيها وكأنها تستمتع بمذاق قبلاته التي يصورها لها خيالها الجامح.. وبدا توهج وجهها دليلاً قوياً لشعورها بالإثارة.. تأملته للحظات.. وهي تفكر.. قد يكون عامل نقاشة ولكنه وسيم ومثير حقاً وهي تريده.. وطالما تعودت على نيل ما تبغى..
توجهت نحوه وعيناها تنهل من وسامته البارزة وسط عمال النقاشة وزاد في بروزها التي-شيرت الأسود الذي كان يرتديه.. وقفت أمامه مباشرة لتسأله:
ـ أول مرة أشوفك هنا.. يا...
أكمل لها المعلم محمود بسرعة:
ـ ده البشمهندس حسن.. بيشتغل معانا جديد.. هو مهندس صحيح.. بس نقاش ممتاز.. أحسن واحد عندي.. بس ده تربية عز وحياتك يا هانم..
ابتسمت وهي تقترب أكثر وتمد يدها لتمسك كتف حسن وتتحسسه بوقاحة:
ـ عندك حق يا معلم محمود.. شكله ابن عز فعلاً..
ثم التفتت لحسن:
ـ أنت اللي هتبقى مسئول قدامي عن تشطيب الشقة دي بالذات.. صحيح البرج كله بتاع دادي.. لكن الشقة دي هتكون بتاعتي.. وعايزاك تشطبها على ذوقك..
تراجع حسن خطوتين حتى يبتعد عن مرمى يدها وهو يخبرها بهدوء:
ـ الأفضل يا فندم أنك تحددي طلباتك بالظبط.. والمعلم محمود هو ريسنا كلنا.. وهنفذ طلباتك بالحرف..
أطلقت ضحكة عالية وهي تكرر كلمته:
ـ طلباتي!!..
ثم غمزت بعينها وهي تهمس له بدون خجل:
ـ لون عيونك!..
تعالت ضحكات العمال.. بينما اتسعت ابتسامتها:
ـ عايزة ألوان الديكورات تكون لون عيونك..
وعادت تطلق ضحكاتها العالية وهي تتلمس ذقنه بشغف.. وتتحرك لتخرج من الشقة وهي تلوح له بأصابع ذات أظافر مطلية بعناية:
ـ تشاو.. يا بشمهندس.. هعدي عليك بكره.. عشان نتفق...
وغمزت بعينها:
ـ على تنفيذ طلباتي..
خرج المعلم محمود خلفها مباشرة.. بينما وقف حسن يتأمل المكان الذي اختفت فيه تلك الوقحة بذهول... وشعر بوكزة سُمعة وهو يخبره بعبث:
ـ يظهر أنك دخلت مزاجها قووي.. صحيح هي وشها مكشوف.. لكن أول مرة تكون بالصراحة دي..
ـ صراحة!.. قصدك بجاحة..
ضحك سمعة:
ـ يا عم ما تبقاش مقفل.. هو أنت بنت بنوت هتخاف على نفسك..
ـ أنت بتقول إيه!.. أنت ناسي إني متجوز..
ـ وماله.. أنت شوفتها طلبتك للجواز.. أنت فاهم غرضها كويس.. و..
قاطعه حسن بغيظ:
ـ قفل على الموضوع ده يا أسطى سُمعة.. أنا مش بحب الطريقة دي في الهزار..
والتفت ليكمل عمله.. وأفكاره تتشتت فيما حدث للتو.. لقد التقى بآكلة رجال.. وهي أوضحت بدون خجل.. أنها ترغب به.. كوجبتها التالية...
*********
لفت علياء نفسها بذراعيها وهي تجلس مرتجفة بجوار يزيد وهو ينطلق بالسيارة بسرعة مخيفة.. وكأنه يريد الابتعاد بها عن قسوة الذكريات التي عاشتها في ذلك المكان.. كان يرمقها بقلق.. ويعود للتركيز على الطريق.. ثم ما يلبث أن يعاود النظر إليها مرة أخرى... وهي ترتجف بلا توقف ودموعها تغسل وجهها.. شفتيها تتحركان بكلمات هامسة.. يكاد يجزم إنها مناجاة لوالدتها..
يريد أن يضمها إلى صدره.. يجمعها بين أحضانه.. يمنحها دفء وأمان يعلم أنها تحتاجه.. ولكنها ترفض أي لمسة أو تقرب منه.. يتقوس جسدها في رد فعل رافض لاقترابه منها فيضطر للابتعاد عنها حتى لا يتسبب لها في مزيد من الأذى والألم..
عاد يتأملها.. جسدها الصغير المكدوم بقسوة وقد التف بثوب كالكفن الأبيض والمسمى.. ثوب زفاف.. وجهها الذي لم يفقد فتنته وبراءته برغم الجروح والكدمات المنتشرة به... يا إلهي.. ماذا فعلوا بها؟.. هل نزعت الرحمة من قلوبهم؟.. ألا يرون كم هي ضعيفة ومكسورة.. ضرب على مقود السيارة بعنف.. وهو يلقب نفسه بأبشع الأسماء ويتهمها بأقسى التهم.. لقد تركها.. تركها وابتعد وظن أنه بذلك ينظم حياتهما معاً.. ولكنه كان غبياً ولم يعمل حساب لتدخل أعمامها... ليته يعلم فقط كيف وصلوا إليها.. ومن أخبرهم تلك الترهات عن تورط علياء بوالده..
لا يتذكر بالضبط تفاصيل وصوله إلى بلدتها.. فهو بمجرد أن أغلق الهاتف مع والده.. لم يشعر بنفسه إلا وهو بمطار القاهرة.. ليجد مازن أمامه ومعه نيرة التي كانت ترمقه بنظرات نارية.. ومازن يهمس له أنه أعد كل شيء كما اتفقا.. وأرسل بالفعل عدة سيارات محملة بالرجال إلى بلدة أعمامها وهم الآن على أعتاب البلدة في انتظار وصول يزيد, ومتأهبون للتدخل عند إشارة منه..
رمقه يزيد بضياع ليهتف مازن متعجباً:
ـ في إيه يا يزيد.. مش أنت اللي كلمتني قبل ما تطلع الطيارة ورتبت معايا اللي هنعمله..
قاطعه يزيد بتوتر مرتعب:
ـ تفتكر.. أنهم.. ممكن.. ممكن.. يأذوها؟.. يمو..
قاطعه مازن وهو يمد يده بمفتاح سيارة:
ـ ركز يا يزيد.. هما مش أغبيا... وواضح هدفهم إيه.. هما عايزين الأرض.. ارميها لهم وخد مراتك..
ظل مازن ماداً يده بالمفاتيح ويزيد يتخبط في هواجسه المرعبة فدفع المفاتيح في يده:
ـ دي مفاتيح عربيتي.. اطلع بيها وأنا ونيرة وراك.. والرجالة سبقونا زي ما قلت لك..
انطلق يزيد بالسيارة متجاهلاً مكالمات والده التي لم تنقطع.. وكذلك رسائل ريناد.. لقد أرسل لها رسالة واحدة بمجرد وصوله الى القاهرة يخبرها فيها بسفره المفاجئ.. وأعقبها برسالة لوالده يعلمه فيها بتوجه الى بلدة علياء..
وقبل أن يدخل القرية بمسافة معقولة فوجئ بوجود والده الذي قرر الذهاب مع ابنه ومساعدته.. ووضح ليزيد الصورة كاملة... فازداد غضبه على نفسه لأنه وافقها في عدم إقامة حفل زفاف, ولكنه حمد ربه أنه يحمل عقد الزواج معه..
أصر بشدة على مقابلة أعمامها بمفرده.. عارض والده كثيراً.. ولكن يزيد كان في حالة من الغضب والإصرار لم تسمح لأحد بمعارضته حتى أنه رفض اصطحاب مازن معه وأخبره باقتضاب:
ـ خليك مع الرجالة ولو لقيت الوضع معقد هكلمك تجيبهم وتيجي..
استقبله أعمامها بعداوة وبغض واضح.. ولكنه لم يهتم.. يفهمهم جيداً ويدرك ما يريدون.. وسيمنحه لهم.. فقط يريدها هي.. لذا قرر اتخاذ المبادرة وهاجم عمها صالح بغضب:
ـ فين مراتي؟....
سخر منه الرجل بلامبالاة وهو يتحصن بعدد من الرجال خلفه:
ـ مرتك!.. مرتك كيف وبأمر مين؟..
تحرك ليواجه عمها بحسم:
ـ مراتي بقسيمة الجواز دي..
ومد له صورة ضوئية لعقد زواجه من علياء..
سكت صالح لفترة وهو يتطلع إلى عقد الزواج:
ـ بس الكلام اللي وصلنا غير كده..
ـ اللي وصلك إشاعات قذرة..
ـ مش أوشاعات.. اللي بلغني حد موثوج فيه..
أجابه يزيد وهو لا يعلم كم أصاب بكلماته:
ـ اللي بلغك بيدور على الدم.. وبلاش تنولهاله.. أنت عايز أرضك.. وأنا عايز مراتي.. يبقى متفقين..
سكت لحظة ونظراته تتركز على مجموعة الرجال.. ثم قال لصالح بتأكيد:
ـ أعتقد أنك أتأكدت إنها مراتي.. نقعد بقى ونتفاهم.. أنا مش عايز غير مراتي.. وتحت أمركم في كل طلباتكم..
ـ وإحنا هنتفاهم معاك أنت ليه؟.. فين بوك؟..
ـ الكلام معايا أنا.. أنا جوزها وأي مسائل قانونية هحلها بس تروح معايا الليلة..
وبالفعل.. تمت المفاوضات _كما أطلق عليها سراً_ معه هو.. حيث بدا اهتمامهم جلياً بالأراضي التي تخص علياء.. وقدمها لهم يزيد بدون نقاش.. واعداً نفسه أن يعوضها عنها بمجرد أن تبلغ الحادية والعشرين..
ثم بدأت طلباتهم تتزايد.. فأرادوا.. مهر.. شبكة.. مؤخر.. باختصار بدا أنهم يريدون كسب كل ما يمكن من وراء إتمام تلك الزيجة.. ووافق بدون معارضة فهو لم يكن يعلم أن موافقة أعمامها ما هي إلا خضوع لنساء الأسرة اللاتي قررن التخلص من وجود علياء بأي طريقة.. فهي تمتلك من الجمال والفتنة ما جعل كل واحدة منهن تخشى على رجلها أو أبنائها منها.. وخاصة بعد الخبر الذي زفته إليهن أم عواد.. فقد حسمن الأمر.. بضرورة إبعادها فلن يحمل أي من أبنائهن حِمل الفتاة.. وعارها..
وافق على كل طلباتهم بدون نقاش.. حتى حفل الزفاف التقليدي الذي أرادوه.. ولكنه اشترط أن يراها ويخبرها بنفسه.. ولم يعترضوا.. فهم حصلوا على ما أرادوه من خلفها ولم يعد يهمهم إلا إنهاء الموضوع بما يليق..
أصرت عمتها على مرافقته ومعهما عمها الأصغر مهدي فاصطحباه إلى غرفتها والتي ما إن دلف إليها ورآها حتى تجمد في مكانه.. لا يصدق أن فراشته الرقيقة هي تلك الكتلة الضئيلة والتي ترتدي السواد بداية من وشاحها الأسود الكبير إلى جلباب واسع يكاد يخفيها تماماً.. لولا لونه القاتم الذي ناقض بشرتها الشاحبة ما ميز وجودها داخله..
أجبر قدميه على التحرك خطوات بطيئة أولاً.. ثم ما لبث أن أسرع لاهثاً نحوها.. ركع على ركبتيه أمام الفراش الذي تكومت فوقه.. ليكتشف مع اقترابه كم الجروح والكدمات التي تملأ وجهها.. تكورت قبضتيه بعنف وهو يحاول منع نفسه من الذهاب إليهم لينتقم لها من كل خدش, لكنه يعلم أن خروجه بها من ذلك المكان يعتمد على تحكمه في غضبه وثورته..
مسح بيده على وجهها وناداها برفق:
ـ علياء..
لم تصدق علياء نفسها وهي تسمع همسته.. ظنت أنها تحلم بوجوده لينقذها.. ولكن رائحة عطره التي تحفظها جيداً كانت واضحة جداً.. حقيقية جداً بالنسبة لحلم..
عاد يهمس بخوف:
ـ علياء..
حركة بسيطة من أجفانها المغلقة أنبأته أنها تسمعه.. فعاود النداء:
ـ علياء ردي عليّ..
حركة ضئيلة أخرى من أجفانها ولكنها مصرة على عدم فتح عينيها.. تحرك ليجلس بجوارها في الفراش ورفعها من رقدتها ليضعها على صدره.. ويزيح بيده الوشاح من فوق رأسها.. لحظتها اتسعت عيناه بألم وهو يرى شعرها الجميل وقد اختفى بعد أن تم قصه بطريقة بدائية وهمجية..
شعرت علياء بيده تزيح الوشاح من فوق رأسها فارتعش جسدها وهي تتخيل نظراته عندما يرى شعرها الطويل وقد اختفى.. لم يبقَ منه إلا خصلات قصيرة مقصوصة بهمجية وعشوائية.. شعرت بأنفاسه تتسارع غضباً.. فشهقت بضعف..
وصلته شهقتها الضعيفة فأخفض بصره ليلتقي بزرقة عينيها وقد غشيتها نظرات الوحدة والخوف.. الألم والرعب.. وعتااااب وولوم بلا نهاية ممتزج بنداء استغاثة جعلها تغلق أجفانها عليه وكأنها لا تصدق أنه أتى بالفعل من أجلها..
خلل أصابعه في خصلاتها المشعثة.. فعادت تفتح عينيها لتواجه نظراته وعندها لم تستطع التحمل فانفجرت في نوبة بكاء دمرت تماسكه الهش من البداية فضمها لصدره بقوة هامساً:
ـ هششششش... هنبعد عن هنا في أسرع وقت..
لم تجبه بشيء واستمرت في البكاء.. بينما أصابعه تتحسس جروح وجهها العديدة.. وهنا تعالى صوت عمتها:
ـ اتحشمي أنتِ ورجلك..
التفت يزيد نحوها وقال بقسوة وحزم مخاطباً مهدي:
ـ من فضلك.. عايز أكلمها على انفراد..
ابتسمت السيدة باستخفاف تقريباً قائلة:
ـ جول اللي أنت عايزه.. وحد مانعك!
بنبرة باردة كالصقيع أجاب يزيد:
ـ عايز أكلم مراتي لوحدها..
رأى مهدي يهمس لها بشيء ما وعلى إثره خرجت عمتها بغضب وتركت الباب مفتوح.. ذكره موقفها بنيرة في ذلك الصباح بالمزرعة ولكنه لم يبتعد ليغلق الباب تلك المرة بل أعاد نظراته لعلياء التي عاودت إغلاق عينيها فقبلهما برقة وهو يهمس:
ـ سامحيني.. والله ما كنت أعرف.. والله ما كنت أعرف..
ظل جفناها مغلقين ودموعها تجري على وجنتيها الجريحة فقرب شفتيه يمسح بهما دموعها:
ـ افتحي عينيكِ يا علياء.. شوفيني..
ضغطت على جفونها بشدة وكأنها ترفض طلبه.. بينما ازداد انهمار دموعها.. فركن جبهته فوق جبهتها بتعب وهو يهمس:
ـ مش عايزة تفتحي عيونك ولا تكلميني كمان.. عندك حق.. بس يا ريت تسمعيني عشان نخرج من هنا بسرعة..
زادت دموعها.. وارتفع صوت شهقاتها قليلاً.. إلا أنها أصرت على عدم الرد عليه أو حتى فتح عينيها.. فعاد يهمس:
ـ علياء.. أنا عارف تفكيرك من ناحية الفرح والفستان والكلام ده.. بس دي الخطوة اللي باقية عشان أخدك من هنا.. أنا اتفاهمت معاهم على كل حاجة.. باقي بس موضوع الفرح ده.. ساعتين استحمليهم ونمشي أرجوكِ..
هزت رأسها بعنف فتطايرت خصلاتها المشعثة القصيرة لتغطي عينيها المستمرة بالبكاء.. ولكنه أمسك وجهها بين كفيه وهو يوقف حركتها الرافضة.. ويطبع قبلة طويلة على شفتيها.. لم تستجب لها فهمس أمام شفتيها وأصابعه تنغرز بين خصلاتها:
ـ عاقبيني زي ما أنتِ عايزة.. أما نكون في بيتنا.. بس اسمعي الكلام وجاريهم في موضوع الفرح..
ظلت تحرك رأسها برفض بينما استمر هو في همسه لها حتى هدأت بين ذراعيه وخضعت مضطرة لمراسم زفافها الصوري.. ارتدت ذلك الثوب الأبيض البغيض الذي لف جسدها كالكفن.. بينما غطت وجهها المكدوم بطرحة بيضاء شفافة.. وها هو ينظر إليها الآن وهي بجواره في سيارة مازن.. وقد قاربا على الوصول إلى شقتهما.. ولكنها مازالت ترفض التواصل معه بكل الطرق.. فحتى نظراتها تهرب بها منه.. عاد بعينيه إلى الطريق الذي لم يشعر بطوله فقد شغلته مراقبة علياء طوال الوقت.. التفت لينظر إليها مرة أخرى ولكنه فوجئ بوجهها وقد احتقن بشدة وهي تضغط على شفتيها بقوة وكأنها تحاول منع آه ألم.. أفلتت منها برغم ذلك وهي تهمس:
ـ بنزف يا يزيد.. دم.. بنزف..
************
ظل يزيد يجوب أروقة المشفى كأسد حبيس فهو منذ سمع منها كلمة "بنزف".. فقد إدراكه بكل ما حوله ومن حوله.. ولم ينتبه إلا وهم بالمشفى بالفعل ومازن يتولى الأمور.. بينما تمسك بعلياء رافضاً الابتعاد عنها.. حتى هتفت به نيرة في حنق:
ـ أنا هدخل معاها.. أبعد أنت بس..
ظل يجوب الردهة أمام حجرة الكشف بالمشفى ومازن يحاول جاهداً تهدئته.. حتى خرجت الطبيبة إليهما تجاورها نيرة..
بدأت الطبيبة كلماتها موجهة حديثها لمازن فهي صديقة وزميلة دراسة قديمة له:
ـ الحمد لله.. النزيف كان بسيط وقدرنا نوقفه.. الجنين بخير دلوقتِ..
هتف يزيد بقوة مقاطعاً:
ـ جنين!!.. هي علياء حامل؟..
رمقته الطبيبة بنظرة نارية وتعاود الحديث إلى مازن:
ـ هي محتاجة راحة لفترة بسيطة.. بس أنا ملاحظة..
قاطعها يزيد مرة أخرى:
ـ كلميني أنا.. دي مراتي..
فقدت الطبيبة أعصابها وهي تصيح به:
ـ من فضلك يا أستاذ.. أنا بحاول أتحكم في أعصابي أني ما بلغش البوليس.. مع أنه واجب علي أني ابلغ.. أنا بس عاملة خاطر لمازن..
هتف يزيد بتعجب:
ـ تبلغي البوليس!.. ليه؟..
ثم خبط جبهته بكفه منتبهاً:
ـ عشان الجروح والكدمات!.. أنتِ فاهمة إني السبب؟.. لأ طبعاً.. اتكلم يا مازن..
تدخل مازن مخاطباً الطبيبة:
ـ فعلاً يا ولاء.. كلام يزيد صح.. الجروح والكدمات دي مجرد حادثة و..
قاطعته الطبيبة:
ـ وقص شعرها حادثة برضوه يا مازن.. بص.. أنا منتظرة إنها تفوق ووضعها يستقر.. وهفهم منها كل حاجة.. ولو جوزها سبب للي هي فيه ده.. صدقني مش هسكت.. و..
قاطعتها نيرة تلك المرة وهي تخاطبها بنبرة حانقة:
ـ ما هو قالك يزيد هو اللي جوزها.. إيه مش شايفة غير مازن ليه؟..
رمقها مازن بعجب فهو لأول مرة يستشعر الغيرة في نبرتها.. ولكنه قرر تجاهل ذلك مؤقتاً.. وعاود الحديث إلى ولاء.. حتى أقنعها أن تسمح ليزيد برؤية علياء..
وقف يزيد أمام فراش علياء يتأملها في قلق.. بينما جاءه صوت نيرة من خلفه:
ـ بتتفرج على ضحيتك.. مش حاسس بأي تأنيب ضمير؟.. ده لو في ضمير من البداية..
أجابها وعيناه معلقة بوجه علياء الشاحب:
ـ تقدري تروحي يا نيرة.. أنا هبات معاها في المستشفى.. أكيد أنتِ تعبانة ومحتاجة ترتاحي..
تحركت نيرة لتجلس على الأريكة المواجهة للفراش.. واضعة ساقاً فوق الأخرى.. وأخذت تعبث بأظافرها في ملل وهي تخبره:
ـ لا.. مش همشي.. أنا كمان عايزة أطمن عليها..
التفت ليرمقها للحظات ثم توجه نحو فراش علياء.. وخلع حذائه ليرتقي الفراش بجوار علياء النائمة بعمق.. فالتصق بظهرها وأزاح الوسادة ليستبدلها بذراعه ويريح رأسها فوقه ماراً بأنامله فوق ملامحها البريئة.. حاجبيها.. جفنيها المغلقين.. وجنتها المشبعة بالجروح والخدوش الصغيرة.. ومال بشفتيه لاثماً تلك الخدوش.. فأتاه صوت نيرة متبرماً:
ـ ما تحترم نفسك.. أنت مش واخد بالك إني موجودة..
رفع شفتيه عن وجنة علياء وهو يخبرها بغيظ:
ـ قلت لك روحي.. أنتِ اللي مصرة تقعدي..
ثم عاد ليلتفت لعلياء وأخرج من جيبه السلسلة ذات الدمعة الماسية الصغيرة والتي أصر على أخذها من أعمامها _بعدما سلبوها إياها_ وأعادها إلى عنقها مرة أخرى.. متلمساً إياها برقة.. وأنامله تتحسس عنقها وقد ظهر طوله الملفت ورشاقته..
سمع صوت الباب يغلق بعنف.. فابتسم بشقاوة.. وهو يغرق بشفتيه كلية في روعة عنقها ويهمس:
ـ ياه.. حماتي دي صعبة قوي.. كنت فاكرها مش هتتحرك..
عدل وضع علياء بين أحضانه وهو يهمس لها:
ـ أنا عارف أنك صاحية.. صحيتِ وقت ما لبستك السلسلة..
لم يصله منها أي رد.. فقط تنفسها السريع أوضح أنها مستيقظة بالفعل.. فعاد ليتذوق عنقها بمتعة.. وهو يضمها إليه أكثر.. ممسداً بطنها بكفه الكبير:
ـ ابننا هنا.. حافظتِ عليه بأمان.. أنتِ كنتِ عارفة, صح؟..
لم تجبه أيضاً.. وهو يمنحها كل العذر.. ولكنه غير قادر على الابتعاد عنها.. فقط يريد البقاء ملتصقاً بها هكذا.. معتصراً إياها لتبقى بين ذراعيه إلى الأبد:
ـ ليكي حق تزعلي.. خودي حقك مني وأنتِ في حضني.. ما تبعديش يا علياء.. أنا كنت هتجنن لما عرفت اللي حصل.. ومش هسكت إلا لما أعرف مين السبب.. وأجيب لك حقك منه..
هنا لم تستطع علياء كبت دموعها أكثر فسقطت بغزارة وهي تعلم أنه لن يستطيع فعل شيء إذا علم أنها والدته من سلمتها لأهلها وكانت تهدف لقتلها وليس إيذائها فقط.. ولكن ما أنقذها حقاً هو الطمع المتأصل في نفوسهم الشرهة..
شعرت بشفتيه تغزوان عنقها مرة أخرى.. وأسنانه تنغرز برقة في شحمة أذنها.. بينما ذراعه الحرة تحرر كتفها من رداء المشفى.. ليداعب برقة الخدوش المنتشرة على كتفيها وهو يهمس بحرقة:
ـ كلميني.. ردي عليّ بس.. احكي لي عملوا فيكي إيه.. صدقيني سكوتك بيعذبني.. ولو عايزة تعذبيني أكتر احكي لي.. قولي كل اللي جواكي..
شعر بجسدها ينتفض بين ذراعيه وهي تشهق ببكاء مكتوم ما لبث أن ارتفعت وتيرته وهي تضغط جفونها بشدة حتى لا تفتحها وتقابل نظراته الملهوفة عليها.. تخشى أن تضعف أمامه.. تخشى من قلبها الأحمق.. من جسدها الخائن الذي يعلن انتمائه له بلا خجل.. من عقلها الذي يغيب أمام همساته.. غبية هي.. غبية ومقهورة بحبها البائس..




لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-18, 04:30 PM   #22

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل التاسع عشر


اتخذت علياء وضع الجنين في رقدتها كما اعتادت في الأيام الأخيرة وظلت تحاول العودة إلى النوم بدون فائدة.. فما أن تغمض عينيها حتى ترى أمامها وجه عمتها وهي تمسك بالمقص لتغتال خصلاتها الطويلة.. وتهمس لها بغل أنها ستسلبها كل ما يميز جمالها عن سائر نساء العائلة, ذلك الجمال الذي ورثته عن أمها "الساقطة" كما رددت عمتها.. وبعدما انتهت جذبت سلسلة يزيد من عنقها بعنف وهي تخبرها أن العهر لا يستحق المكافأة..
حاولت ضم نفسها بذراعيها تعوض بهما عن ذراعيه اللتين أحاطتاها طوال الليل.. منحها الدفء والأمان لا تنكر.. لكن هناك تلك القطعة من الصقيع والتي تشبه الخنجر مازالت تدمي روحها, تجعلها غير قادرة على التواصل معه.. أو حتى النظر إليه.. حالة من الصمت تمسكت بها وهو تقبلها بتفهم وظل ملتصقاً بها طوال الليل.. يطمئنها بوجوده كلما استيقظت فزعة هاربة من عذاب جديد أو تنكيل بها.. يضمها بين ذراعيه لتستكين برأسها على صدره فتهدأ قليلاً.. حكى لها كيف علم باختفائها وكيف اتفق مع أعمامها.. اعتذر منها لتفريطه في الأرض.. وشرح لها تلك كانت الطريقة الوحيدة ليعود بها إلى بيتهما.. أقسم أن يعوضها عن الأرض وما سلبوه منها.. وكأنها تهتم.. وكأنه يدرك ما سُلِب منها.. ليس الأمان ولا الطمأنينة فهما ضاعا مع موت والديها.. أو كونها ذات أهمية لأحدهم.. فهي تعودت الحياة على الهامش.. لكن الأيام الماضية أثبتت لها كم هي رخيصة بالفعل.. لا تساوي إلا حفنة من الأموال وطين أرض..
رائحة عطرية ثقيلة اخترقت أنفاسها وصوت حذاء ذو كعب عالٍ أكد لها أنها لم تعد بمفردها في الغرفة.. فيزيد أخبرها بهمس أنه سيذهب ليبدل ملابسه, ونيرة قررت الذهاب وإحضار العدة اللازمة لتعيدها إلى أنوثتها كما أخبرتها.. ولم تقبل جدال..
التفتت علياء ببطء لتواجه عينين ممتلئين بالكراهية والحقد وصوت سهام يدوي بكل مقت الدنيا:
ـ حقيقي.. زي القط بسبع أرواح!..
انكمشت علياء على نفسها وأحاطت بطنها بذراعيها تحمي طفلها بدون إرادة منها وهي تهتف بخوف:
ـ ابعد.. ابعدي.. عني.. أنا عـ..ا.ر.فـ..ــة.. عارفة كـــ..ل حــ..اجة..
كتفت سهام ذراعيها وأجابتها بسخرية:
ـ وناوية على إيه إن شاء الله!.. تحكي ليزيد عشان تبعديه عن أمه الشريرة!
وأطلقت ضحكات عالية جعلت علياء تعتقد أنها لم تكن في حالة عقلية سليمة.. وأردفت بغل:
ـ وتفتكري يزيد ابني.. هيصدقك.. أو يصدق كلامك؟.. أعمامك نفسهم ما جابوش سيرتي.. فكروا إزاي يجمعوا من وراكي قرشين.. زي أي واحدة مومس أهلها بيتاجروا بيها..
سقطت دموع علياء وشعرت أنها ستختنق بغصتها.. فسهام تضغط على جرحها بشدة.. لاحظت سهام صمتها ودموعها التي بدأت تهطل.. فاستمرت بقسوة كلماتها.. وكأنها تريد أن تكمل انتقامها:
ـ للأسف أهلك طلعوا في منتهى الرخص.. كان لازم أتوقع كده.. فكروا في مكاسبهم وبس.. بذمتك حاسة بإيه وأهلك بيطلبوا أنك تدفعي تمن جوازك من ابني أرضك وكل ما تملكي..
رغم قسوة كلمات سهام إلا أن شيء ما جعل علياء تنتفض لتواجه القسوة الموجهة إليها.. لم تعرف من أين امتلكت القوة.. ربما طفلها هو من يحثها على المقاومة.. ربما كثرة جراحها لم تدع مكاناً لجرح آخر.. ولكنها وجدت نفسها تتحرك من فوق فراشها لتواجه سهام وتهتف وسط دموعها المتساقطة:
ـ أنتِ ليه بتكرهيني كده!.. أنا عمري ما أذيتك ولا حتى فكرت أجرحك.. وأنتِ بمنتهى القسوة دبرتِ أنكِ تمحيني من الدنيا..
صرخت سهام وقد بدا تشوشها واضحاً:
ـ عمرك ما أذيتيني!!.. أنتِ سرقتِ جوزي مني.. هدمتِ حياتي ودمرتِ بيتي..
كان بيروح هنا وهنا.. ويرجع لي أنا.. لحد ما عرفك.. و..
قاطعتها علياء بذهول:
ـ أنــ..ا.. عملت كده!.. أنا عليااااء!
وكأنها لكمتها في وجهها لتستفيق لواقعها صارخة بجنون وكأنها تحدث نفسها:
ـ علياء.. نادية.. هتفرق.. نادية ملكته.. سرقته مني.. وسابت بنتها تكمل من وراها..
ثم هزت رأسها بقوة فتناثرت خصلاتها المصففة جيداً.. وبرقت عيناها بشدة وهي تقترب منها بشدة:
ـ أنتِ جريمتك أكبر.. أنتِ خطفتِ فرحة عمري كله.. خلتيني أشوفك في عيون ابني ليل ونهار.. كأنه عايش في ملكوت ما فيش فيه غيرك.. كان لازم حياتنا ترجع زي ما كانت قبل ما تظهري فيها.. وهو يتجوز ريناد.. ويفضل حبيب أمه وبس.. لكن أنتِ.. أنتِ.. أنتِ لازم تختفي من الدنيا!
صرخت بها علياء وهي تتراجع للخلف وتلف بطنها بذراعيها:
ـ ما تقربيش مني.. أخرجي بره..
اقتربت سهام وأمسكت بكتفيّ علياء وهي تهزها بشدة وتردد هاتفة:
ـ لازم تختفي.. لازم..
ـ ماااامااا..
صرخة يزيد التي أتت من باب الغرفة المفتوحة وقد برزت حدقتاه ذهولاً من المشهد.. والدته تهز علياء بشدة.. بينما علياء تلف ذراعيها حول بطنها ودموعها تتساقط وعلى وجهها ارتسمت أقصى درجات الرعب..
تحرك بسرعة لينتزع علياء من بين يدي والدته ليزرعها في صدره ويضمها بقوة بين ذراعيه محاولاً السيطرة على نوبة الهيستريا التي بدأت تظهر علاماتها واضحة عليها وهي تتخبط بين أحضانه وتشهق بقوة متمتمة بكلمات غير مفهومة..
هتف بوالدته بقوة:
ـ ماما من فضلك سيبيني معاها لوحدنا..
تجمدت سهام وهي تسمع نبرة ابنها الحازمة, والتي تناقض تصرفاته الرقيقة نحو الفتاة فهو يضمها.. يقربها.. يهمس لها.. يحاول طمأنتها وهدهدتها بكل الطرق.. وهي أمه يطلب منها الخروج بتلك اللهجة الباردة التي أعادها للمرة الثانية وهو يصرخ بأمه:
ـ ماما.. من فضلك أخرجي بره الأوضة..
رمقته سهام بنظرة ضائعة ثم خرجت مهرولة من الغرفة وصورة ابنها وهو يضم عدوتها بين ذراعيه لا تنمحي من أمام عينيها..
أما علياء فكان جسدها ينتفض بقوة وهي عاجزة عن السيطرة عليه, وكأن عنف سهام نحوها أيقظ ذكريات الأيام الماضية فكانت تفرك وجهها في عنق يزيد تارة, وتارة أخرى تخبط رأسها بقوة في صدره وكأنها تريد إسقاط المشاهد التي تتزاحم في رأسها.. ثم تعود وتلصق وجهها بصدره وهي تتمسك بقميصه بقوة.. متمتمة من بين شهقاتها:
ـ أنت سيبتني لها.. سيبتني لوحدي.. لوحدي.. بعدت.. عني.. بعدت عني.. وأنا لوحدي.. كلهم.. كلهم.. سابوني.. آذوني.. وجعوني قوي.. ما فيش حد عايزني.. أنا عايزة ماما.. عايزة أروح لماما.. هقولها أنا مش رخيصة.. أنا متجوزة.. مش رخيصة.. ماما.. ماما..
ظلت تخبط رأسها بصدره وهي تناجي أمها وتبكي بلا توقف.. بينما هو ثبت رأسها بكفه زارعاً إياها بصدره ومتمتماً بأذنها:
ـ اهدي يا علياء.. اهدي الله يخليكِ.. مش هينفع تاخدي مهدئ ولا منوم.. هدي نفسك شوية..
أخذت شهقاتها تتعالى واستبدلت رأسها بقبضتيها وهي تضرب صدره بقوة هاتفة:
ـ عايزة ماما.. أروح لها.. عايزة أروح لها..
وازدادت انتفاضاتها وهي تحاول التخلص من ذراعيه اللتين أحكمتا الطوق حولها.. حتى فقدت معظم قوتها وتهاوت بين يديه ليسقطا معاً أرضاً وهو يحاول دعمها حتى لا يرتطم جسدها بالأرض.. فسقط هو أولاً ليتمكن من تلقيها بين ذراعيه.. ويضمها إليه بقوة مسيطراً على حركاتها الرافضة له وهي تتمتم بلا انقطاع:
ـ ماما.. عايزة أروح لها..
عدل وضع جسده ليستند بظهره على الأريكة المواجهة للفراش ويجلسها على ساقيه اللذين امتدا أمامه وهو يهمس في أذنها:
ـ هشششش... علياء حبيبتي اهدي.. اهدي..
زاد من ضغط ذراعيه حولها وهو يضمها بقوة حتى هدأت شهقاتها قليلاً.. بينما دموعها لم تتوقف وهي تهتف بحرقة:
ـ أنا مش رخيصة.. أنا.. مش..
عدل وضع جسدها بحيث تستلقي بين أحضانه وأسند رأسها على ذراعه.. وأبعد بأنامله خصلاتها القصيرة المشعثة والتي غطت عينيها الدامعتين.. وامتدت أنامله لتمسح دمعاتها برقة وهو يقترب بوجهه منها واضعاً جبهته فوق جبهتها هامساً:
ـ عارفة ليه عمري ما ناديتك باسم غير علياء؟..
سكنت شهقاتها قليلاً وبدا أنها بدأت تستمع له.. فأكمل:
ـ اسمك بيوصفك يا علياء.. اسم أجمل وأغلى من أنه يختصر.. حتى لو بغرض الدلع والدلال.. مش بيقولوا كل واحد له نصيب من اسمه.. وأنتِ بقى اسمك بيوصفك كلك.. قلت لك قبل كده أنتِ غالية.. غالية قوي يا علياء..
سكنت بين ذراعيه وقد استسلمت لقبضته على خصرها وأخذت ترمش بعينيها الدامعتين وقد تعلقت الدموع بأهدابها.. وهي تستمع لكلماته التي يخبرها بها للمرة الأولى.. حرك جبهته قليلاً.. ليتمكن من رؤية عينيها اللتين تحدقان في وجهه بخوف وأمل.. فقبل وجنتها برقة شديدة هامساً:
ـ جننتيني لما بدأتِ تقلدي نيرة في لبسها.. ما كنتش ببقى فاهم إيه اللي بيحصلي.. عايز أغطيكِ وأخبيكِ عن عيون الناس.. كنت ببرر ده الأول وأقول لنفسي.. أختي الصغيرة.. زي ما بابا كان بيقولي..
ابتسم بسخرية من حاله وأكمل لعينيها المنتظرة بلهفة تكملة حديثه:
ـ لحد ليلة الحفلة في النادي.. وأنتِ بترقصي مع مازن.. من جوايا اتأكدت أنك مستحيل تكوني أخت لي.. كل اللي فكرت فيه أني عايز أخدك من إيدين مازن وأخبيكي.. لأنك بتاعتي..
ازدادت قبضته حول خصرها وهو يهمس بشراسة:
ـ بتاعتي.. فاهمة إزاي بتاعتي..
وترجم لها كلماته بقبلة ضارية على شفتيها تركتها تلهث بقوة وعينيها مازالتا تبرقان بغموض وهو يكمل:
ـ اللي حصل بعد كده أني أثبت ملكيتي بغباء.. وأنتِ دفعتِ التمن..
عاد الحزن مرة أخرى يترقرق في عينيها مع الدموع, وحاولت إبعاد وجهها عنه... ولكنه ثبته بشراسة لتسمع باقي كلماته وهو يخبرها:
ـ أنتِ بتاعتي.. مراتي..
ومد كفه يتحسس بطنها في شغف:
ـ أم ابني.. ومش هسمح لأي حد بعد كده يقلل منك.. ولا حتى أنتِ..
أغمضت عينيها فجرت إحدى الدمعات المعلقة في أهدابها وسألته في خفوت:
ـ ولا حتى مامتك؟..
عاد إليه مشهد والدته وهي تهز علياء بقسوة لحظة دخوله الغرفة.. فزاد من ضمه لها وهو يقول بحزم:
ـ ما فيش حد هيقرب منك, ولا هيأذيكِ تاني يا علياء.. ده عهد عليّ.. يا ريت تصدقيني وتسامحيني على اللي فات..
خرجت الكلمات منها قبل أن تستطيع منع نفسها:
ـ أنت سيبتني لوحدي..
اتكأ بجبهته فوق جبهتها ليهمس:
ـ لأني غبي!..
منعت بسمة خائنة كادت أن ترتسم على شفتيها وشعرت به يتمسك بيدها ويضغطها بين أصابعه قليلاً.. قبل أن يتحرك ليخرج من جيبه علبة صغيرة.. أخرج منها خاتماً مبهراً وأدخله في بنصرها هامساً:
ـ عارف أني أتأخرت.. والمفروض شبكتك كانت جت لك من بدري.. وكل حقوقك.. وحتى الأرض اللي ضاعت هرجعها.. أو على الأقل هعوضك عنها..
همست:
ـ بس أنا مش عايزة حاجة..
هز رأسه نافياً:
ـ لا.. المرة دي مش هينفع.. ومش هوافقك.. أنا بس اللي موقفني أنك توصلي لواحد وعشرين سنة عشان ما فيش حد من أعمامك يتدخل تاني..
أخفضت بصرها أرضاً والتزمت الصمت ولم تجبه.. فمد يده ليرفع ذقنها حتى
تواجهه عيناها وسألها هامساً:
ـ عجبك الخاتم؟..
انتقل بصرها بدون إرادة منها الى الخاتم في بنصرها.. كانت الماسة ذات اللون الأزرق الشاحب تتألق في يدها.. وقد ارتكزت على قاعدة بلاتينية ودعمها من الجانبين.. وردتين ماسيتين براقتين.. كان مميزاً بالفعل ولم ترى مثله من قبل وخاصة ماسته الملونة.. سمعته يهمس لها وهو يتناول يدها يقبل الخاتم بها:
ـ أنا طلبت الخاتم ده.. ولون الماسة الأزرق مخصوص.. ومن فترة.. ولسه الجواهرجي مكلمني الصبح عشان استلمه.. آسف أني اتأخرت عليكِ..
عادت لتلوذ بالصمت وكأنها تذكرت الآن أن تعاقبه بصمتها..
ابتسم بتفهم أمام صمتها الذي لاحظه على الفور.. ولكن ما يطمأنه أنها كفت عن البكاء.. وأمسكت قميصه بيدها التي ألبسها فيها الخاتم.. ويدها الأخرى التفت حول خصره لتدعم نفسها.. وأغمضت عينيها وهي ترمي برأسها على صدره وتباعدت شهقاتها.. وبدا أنها ستخلد للنوم بين ذراعيه.. فاستمر يهمس لها بمواقف وأحداث مرت بهما معاً.. بشعوره بالغيرة من مازن لأنه كان مقرباً منها في بعض الأوقات.. غيظه الشديد من نيرة بل غيرته من علاقة الصداقة بينهما.. كان يحكي.. ويحكي.. وهي تستمع في صمت.. تشعر أنه بجوارها بالفعل.. بأفكاره.. وعقله.. بروحه وليس جسده فقط.. تشعر أنها له.. وأنها بالفعل مميزة.. حتى ولو بقدر ضئيل.. ضئيل جداً..
وعلى بوابة المشفى أنزل مازن نيرة بعدما أحضرت لعلياء بضعة أشياء.. أهمها بضعة ثياب جديدة حتى تخرجها من ثوب المشفى الكئيب كما أخبرتها صباحاً.. وقبل أن تستدير لمازن مودعة لمحت سهام تغادر المشفى وهي تركب سيارتها ومعالم التوتر والغضب تحيط بها.. فقفزت من السيارة تركض نحو غرفة علياء.. وقد انتابها القلق الشديد عليها.. ولمح مازن اتجاه نظراتها.. فلحق بها مباشرة تاركًا السيارة في مدخل المشفى.. فهو يملك شكوكه الخاصة نحو سهام.. ولكنه بالطبع لم يستطع مواجهة صديقه بتلك الشكوك حول أمه..
وصلت نيرة أولاً إلى غرفة علياء لتجد الباب مفتوح على مصراعيه كما تركته سهام.. ولكنها تسمرت أمام مشهد يزيد الذي يضم علياء بين ذراعيه ويهدهدها كطفل صغير.. هامساً في أذنها بلا توقف بينما أغمضت عينيها باستسلام تستمع إليه ممسكة بقميصه بقبضتها.. وكأنها طفلة تختبئ بين أحضان أمها من قسوة العالم..
شعرت نيرة بيد مازن على كتفها وهو يسحبها خارج الغرفة التي لم يشعر من فيها بوجودهما وأغلق الباب بهدوء وحرص.. وجذب نيرة ليتجها إلى خارج المشفى:
ـ سيبيهم مع بعض شوية يا نيرة.. ابقي ارجعي لها بالليل.. هي محتاجة وجوده معاها دلوقتِ..
جذبت يدها منه بعنف وهب تهتف:
ـ ما هو وجوده ده هو سبب المشاكل كلها!
توقف مازن ليواجهها:
ـ علياء تقدر تحل مشاكلها مع يزيد بسهولة.. ما فيش خوف عليها منه, بالعكس هي لها سُلطة عليه.. وسُلطة كبيرة كمان.. من غير أي تدخل منك أو مني.. يلا بينا..
جلست بجواره في مقعد السيارة الأمامي.. بعدما اعتذر من أمن المشفى لتركه السيارة بتلك الصورة.. وسمعها تخبره:
ـ عارف.. كان نفسي ما يرجعش من دبي..
رفع حاجباً متسائلاً:
ـ وعلياء؟.. مين كان ممكن يخرجها من تحت إيدين اعمامها؟..
أجابته بثقة:
ـ أنت كنت تقدر بسهولة مع الرجالة اللي كانوا معانا هناك.. بس كانت علياء هتفوق من وهم يزيد..
أدار مازن السيارة وهو يجبها بغموض:
ـ وعشان هو مش وهم يزيد رجع.. وبلاش تلعبي في دماغها.. أو تزرعي أي أفكار.. دلوقتِ في طفل جاي في الطريق.. والوضع مش مستحمل..
غمغمت بحنق:
ـ طفلة هتخلف طفل!
ابتسم بسخرية وهو ينهي الحوار:
ـ طفلة يمكن.. بس عرفت ولو بالفطرة إزاي تسكن يزيد وتتمكن منه.. حاولي تتعلمي منها حاجة..
رمقته بحذر وقد جمعهما معاً نفس الشعور للمرة الاولى.. فهما يشعران ويالسخرية بالحسد نحو يزيد وعلياء..
*************
كان حسن منهمكاً في عمله كعادته.. نائياً بنفسه قليلاً عن زملائه.. يحاول جاهداً التأقلم والاندماج معهم والمحافظة على هويته في نفس الوقت.. ويعلم مدى صعوبة هذا.. فإن شعروا للحظة أنه يتعالى عليهم, أو يعاملهم على أنه أعلى منزلة لفقد مودتهم الفطرية وتقبلهم الطبيعي له.. يحاول المحافظة على علاقة متوازنة معهم, ولكن رغماً عنه أصبح يتنازل قليلاً.. فيشاركهم جلساتهم وخاصة بعد زيارة تلك السيدة التي تسمى ابتسام وازدياد التعليقات الموحية نحوه.. فاضطر لتبادل المزاح والنكات معهم حول الأمر محولاً إياه إلى مزحة سخيفة حتى لا يتحول الموضوع لاتجاه آخر..
دقات لكعب رفيع وعالي وصلت لأذنيه مع همهمات وضحكات مكتومة من زملاؤه.. وصوت يصطنع النعومة:
ـ هاي يا أسطى سونة!..
حاول ألا يلتفت نحوها.. ولكنها رفعت أناملها لتحركها على كتفه لتجبره على الالتفاف نحوها.. ليجدها ترتدي أقصر تنورة وقعت عيناه عليها.. حتى أنه ظن لوهلة الأولى أنها نسيت أن ترتدي واحدة تحت البلوزة الخضراء الشيفون التي ترتديها وتفسر جسدها بالتفصيل من ناحية الشفافية والضيق على السواء..
وجدها ترمش بعينيها اللتين تحولتا إلى لون زمردي:
ـ شفت عينيا بقيت لون عينيك إزاي؟..
رمقها بذهول:
ـ افندم!
اقتربت منه وهي تتغنج بوقاحة:
ـ ما بتردش على تليفوناتي ليه؟..
أجاب باقتضاب:
ـ أنا رديت عليكِ فعلاً.. وبلغتك أني مش فاضي لأي شغل خاص..
رفعت أناملها لتتحسس وجنته الخشنة حيث لم يتمكن من حلاقة ذقنه في الصباح لانقطاع المياه.. وهو شيء اعتاد عليه مؤخراً.. ولكنه وجدها الآن تتلمس خشونة ذقنه بشغف.. بينما لمح بطرف عينه زملاؤه يتحركون.. متعذرين باستراحة الغذاء ليتركوهما معاً.. وسط الغمزات والابتسامات الموحية.. سمع صوتها يتهدج:
ـ ما حلقتش دقنك ليه؟..
كاد أن يصرخ بها.. "أنتِ مجنونة يا ست أنتِ!".. ولكنه بدلاً من ذلك.. قرر أن يلاعبها بطريقتها فازاح يدها ببطء وهو يهمس لها:
ـ بحلقها بالليل.. عشان بتضايق مراتي..
ابتعدت عنه ولمعت عينيها بسخرية:
ـ أنت متخيل كده.. أني هغير... تؤ تؤ تؤ.. أنا ما يهمنيش مراتك.. ولا أيه اللي بيضايقها.. ولاحبها لك, ولا حتى حبك لها..
ورفعت أناملها لتداعب صدره بإغراء:
ـ أنت عارف اللي أنا عاوزاه..
سألها:
ـ واللي هو؟..
رفعت يدها الأخرى لتتسلل نحو صدره هي الأخرى وترتفعا معاً لتحيط بعنقه وهي تهمس بإغراء:
ـ الشالية بتاعي في الساحل.. نروح يومين.. نغير الديكورات..
وصمتت للحظة لتردف:
ـ ونغير جو.. وبعدين ترجع لمراتك.. ما ترجعش.. براحتك..
أجابها بابتسامة:
ـ فكرة كويسة.. حتى هتكون فرصة حلوة أني أفسح منى في الساحل..
سألت بغضب:
ـ منى مين؟..
هز كتفيه بملل:
ـ منى مراتي..
تحكمت في غضبها بصعوبة وهمست له وهي تحرك يديها من خلف عنقه ولكن لتمرر أظافرها بخفة تاركة خدش طويل على طول عنقه وهمست بخبث:
ـ ما تتحدانيش يا حسن.. أنا دايماً باخد اللي أنا عايزاه...
تركته في حيرة ورحلت.. ولم يعلم بوجود الخدش في عنقه إلا ليلاً ومنى تحاول دفعه بكل ما تملك من قوة صارخة بصوت مجروح:
ـ أنت كنت فين قبل ما تيجي يا حسن؟..
*************
تسللت دنيا بخفة من الفراش تاركة مازن ليرتاح قليلاً.. ارتدت روباً قصيراً.. واتجهت للمطبخ لتعد له النسكافيه كما يحبه.. بدون استخدام الماكينة.. ولكنها تعده له يدوياً حيث تدعك السكر مع حبيبات النسكافيه لفترة طويلة ثم تصب له الماء واللبن.. الثلث والثلثين.. ابتسمت لنفسها ابتسامة حزينة.. فهي أصبحت تحفظ عاداته وما يحب وما يكره كما تحفظ اسمها.. وتسعى دائماً لإسعاده وإرضائه..
وضعت يدها على قلبها تريد أن تخرجه من بين ضلوعها لتسأله..
"ليه؟.. ليه ما اختارتش تحبه هو؟.. ليه اختارت اللي بيوجعك ويجرحك؟.."..
كادت أن تسقط دمعة من عينيها.. لولا أنها شعرت بأنفاسه فوق عنقها.. ويديه تتسلل إلى فتحة روبها هامساً:
ـ ليه سيبتي السرير؟..
حاولت أن تبعد يديه ولكنها تعلم مدى إصراره عندما يريد شيئاً.. فتركتهما أخيراً:
ـ كنت بعملك نسكافيه..
لفها نحوه وهو يفتح الروب ليضمها لصدره طابعاً قبلة على عنقها:
ـ اممممم.. ممكن نأجل النسكافيه شوية؟..
حاولت التملص منه وهي تشعر بيده تلف خصرها من أسفل الروب والأخرى تثبت رأسها حتى يتمكن من تقبيلها.. فهمست بضعف:
ـ مازن.. عندي شغل.. لازم أنزل..
حرك يده من خلف رأسها ليزيح قدح النسكافيه فيسقطه في الحوض.. ورفعها بين ذراعيه واتجه بها إلى غرفتهما بسرعة..
بعد فترة.. كان يرتشف قدحاً آخر من النسكافيه بتلذذ وهو مستلقي في الفراش.. وهي جالسة بجواره.. تريد أن تعلم ما به.. فهي تشعر باختلافه.. وخاصة بعد ظهوره أمام عتبة شقتها في الليلة التالية لزفافه.. ليلتها همس باجهاد:
ـ صداع يا دنيا.. صداع هيفرتك دماغي..
اصطحبته ليلتها إلى الأريكة.. ووضعت رأسه في حجرها وظلت تمسدها لساعة كاملة قبل أن تظهر معالم الارتياح على وجهه..
همست له:
ـ أحسن دلوقتِ؟..
أجاب باقتضاب:
ـ أنا كنت عند حسن..
ولم يقل المزيد.. فقط أغمض عينيه واستسلم للنوم..
علمت ليلتها أنه لن يجيب على أي سؤال.. فاحترمت رغبته.. ولم تجادل.. ولم تناقش.. فقط عدلت من وضع رأسه لتتلقاها على صدرها.. وظلا هكذا.. حتى الفجر.. فنهض ليذهب الى منزله وهو يضمها الى صدره طابعاً قبلة على جبينها:
ـ متشكر قوي يا دنيا..
تحسست وجنته بحنان:
ـ انا موجودة دايماً يا مازن.. دنيا صديقتك قبل ما أكون دنيا مراتك..
أفاقت من ذكريات تلك الليلة على أصابعه تداعب ساقها وهو يسألها:
ـ سرحانة في إيه؟..
رمقته للحظة:
ـ عايزة أزور عليا..
ابتسم ابتسامة واسعة.. تحولت لضحكة عالية.. ولم يستطع التوقف عن الضحك.. حتى أن دنيا سحبت منه قدح النسكافيه وهي تلكزه بعنف:
ـ إيه!.. هو أنا قلت نكتة!..
هز رأسه وهو يحاول التحكم في ضحكاته:
ـ مستغرب بس.. مراتاتي الاتنين.. بيحبوا عليا جداً.. أعتقد أنها الست الوحيدة اللي هتجتمعوا على التعاطف معاها وحبها.. وهي تستحق بصراحة..
وقفت دنيا على ركبتيها ووضعت يديها في خصرها لتطل عليه من علو:
ـ سخيف.. على فكرة ما فيش حاجة تضحك؟.
ثم قطبت حاجبيها:
ـ أنت معجب بعلياء بجد؟
تصنع التأثر:
ـ أنتِ عايزة يزيد يقتلني, صح؟.. بس دي غيرة دي ولا إيه!.. غريبة.. أنتِ عمرك ما غيرتي من نيرة!
لفت جسدها وجلست بجواره وهي تناوله قدح النسكافيه مرة أخرى وتجبه بصراحة كما اعتادت:
ـ مش عارفة.. ممكن تكون غيرة.. بس مع نيرة أنا فاهمة إحساسك ناحيتها وعارفة مشاعرك.. واليوم اللي هغير فيه من نيرة.. هو اليوم اللي هبعد فيه عن حياتك, لكن يمكن غِرت إن إعجابك يكون من نصيب واحدة تانية..
رمقها بدهشة:
ـ عارفة.. على قد وضوحك.. على قد ما أنتِ لغز كبير..
أمسكت ذقنه بأناملها وهي تداعبه:
ـ بس لغز حلو.. مش كده..
تحرك فجأة ووضع القدح بجواره وقلبها على ظهرها وهو يهتف:
ـ لغز زي العسل.. وأنا ناقصني عسل اليومين دول!..
ضحكت بعبث.. وتملصت منه لتقف بجوار الفراش مكتفة ذراعيها:
ـ عايزة أروح لعليا..
رمى نفسه على الفراش وهو يتحسر متمتماً
"مكتوب عليك الحرمان من العسل يا مازن".
ثم رفع صوته:
ـ بلاش يا دنيا.. يزيد هيتضايق..
رفعت حاجبها:
ـ ومين قالك أني عايزة موافقته!
ـ طب وموافقتي أنا!
ـ وأنت مش هتوافق ليه؟..
اعتدل في جلسته وجذبها لتجلس بجواره:
ـ وضع عليا النفسي مش مستقر.. اللي مرت به مش بسيط.. ده غير الحمل.. بلاش.. يا دنيا.. وخاصة إنه المفروض أنك ما تعرفيش تفاصيل اللي حصل..
ـ بس أنا كنت عايزة أساعدها..
ـ يزيد موجود..
رمقته بنظرة نارية.. فعادت ضحكاته ترتفع وهو يجذبها لتصبح تحته مرة أخرى:
ـ يظهر أنك ونيرة بتشتركوا في حب عليا وكره يزيد..
همست بضعف:
ـ مازن..
اقترب منها بخطورة:
ـ مازن محتاج العسل...
**********
وصل يزيد إلى فيلا والده وهو يشعر بالإجهاد الشديد.. فهو لم يغمض عينيه منذ يومين.. ولن يطمئن ويغمضهما قبل أن يصطحب علياء إلى شقتهما بأمان.. حتى أنه طلب من رئيس الأمن في مجموعته وضع رجلين من أفضل رجاله أمام غرفتها بالمشفى.. وأمرهما ألا يسمحا لأحد بالدخول سواه, هو ونيرة فقط.. فبالرغم من سخافة نيرة إلا أنها تهتم بعلياء بصدق..
اقترب من مكتب والده ليخبره بقراره بعدم العودة إلى دبي مرة أخرى.. فهو قرر البقاء ومحاولة إنجاح حياته والتأقلم مع وجود زوجتين.. ضرب رأسه بقوة.. فريناد ما زالت بدبي.. كيف غاب ذلك عن باله؟.. حسناً.. سيطلب منها العودة.. ولكن أولاً.. يحتاج إلى الحديث مع والده.. ثم حوار طويل وحازم مع والدته ليوضح لها وضع علياء في حياته..
قبل أن يمد يده ليفتح باب المكتب وصله صوت والده يصرخ في والدته بغضب:
ـ أنتِ تعديتِ السفالة للإجرام.. ولو كنتِ فاهمة إني ما اكتشفتش اتفاقك مع أعمام عليا تبقي غلطانة.. السواق بتاع عليا اعترف بكل حاجة.. والقذارة اللي بلغتيها لأهل البنت أنا مش هسكت عليها.. اللي عملتيه ده يا مدام اسمه تحريض على القتل..
تجمدت يدا يزيد على مقبض الباب وهو يستوعب ما وصل لأذنيه للتو...


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-18, 04:33 PM   #23

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل العشرون


وقفت منى تمشط خصلاتها السوداء الطويلة يرتسم تعبير غامض في عينيها التي تقابل عينيّ حسن في المرآة.. منذ عاد من عمله وهي تتهرب منه.. ولكن عينيها تمسح ملامحه بغموض غريب.. وكأنها تبحث عن شيء ما..
تحرك حسن أخيراً من فوق الفراش وقد سأم لعبة تبادل النظرات عبر المرآة.. وقف خلفها وألصق جسده بها وامتدت يده لتمسك بكفها فتسقط فرشاة الشعر منها محدثة دوياً خفيفاً.. ولفها نحوه وهو يضمها بقوة هامساً:
ـ الجميل زعلان ولا مخاصمني!
لم ترد عليه, بل لم ترفع عينيها إليه حتى.. حرك أنامله ليمسك بذقنها يرفع وجهها ليواجه عينيها الحزينة وهو يهمس وقد ظهر القلق واضحاً بنبرته:
ـ منى.. أنتِ مش طبيعية.. في إيه؟..
حاولت الهروب من عينيه.. الابتعاد عن قبضته القوية حول خصرها.. تتناسى تلك المكالمة الملعونة.. صاحبة الصوت المغناج التي تتغزل بزوجها ورجولته.. ومتعتها بين ذراعيه..
رفعت له عينين معذبتين سقطت منهما دمعة بلا إرادة منها.. سارع هو على الفور ليمسحها بشفتيه وهو يسألها بهلع:
ـ في إيه يا منى؟..
تركت رأسها ليسقط فوق صدره وقد بدأت دمعاتها تتوالى وهي ترفع يديها لتعقدهما خلف عنقه.. لتصطدم أناملها بالخدش الطويل في جانب عنقه.. الخدش.. الذي وصفته لها ابتسام على الهاتف.. وحددت موضعه تماماً.. وهي تضحك بغنج وقح عن المتعة التي منحها لها حسن لتمنحه هذا الخدش..
دفعت منى حسن بقوة تخلص نفسها من بين ذراعيه هاتفة بصوت مجروح:
ـ أنت كنت فين قبل ما تيجي يا حسن؟..
لم يسمح لها حسن بالابتعاد.. وتمسك بذراعيها بين يديه يلمح دموعها التي أبت التوقف ونظرات الألم بعينيها وهو يهز رأسه بحيرة:
ـ كنت في الشغل يا منى.. هكون فين يعني؟..
دفعته للتخلص من ذراعيه.. ومنعته من محاولة الامساك بها من جديد وتعالت شهقاتها:
ـ لا يا حسن.. لا.. قولي كنت فين..
تحرك ليتمسك بكتفيها ويتغلب على مقاومتها الواهية ليقترب من عينيها الباكية:
ـ منى.. أنا عمري ما كدبت ولا هكدب عليكِ.. في إيه؟.. أنا مش فاهم حاجة.. فهميني..
رفعت عينيها الدامعتين لتمرا على الخدش بجانب عنقه وهي تحرك شفتيها بدون صوت.. فعاد هو ليضغط على كتفيها باصرار:
ـ منى.. أنا أعصابي اتحرقت.. في إيه؟؟..
مسحت دموعها بظاهر يدها وهي تشير إلى خدشه بإصبع مرتعش:
ـ الجرح اللي في رقبتك ده من إيه؟..
رفع يده يتلمس عنقه وهو يتساءل:
ـ جرح ايه ده!!
وتحرك ليقف أمام المرآة ليتفحص عنقه عن قرب.. فلمح الخدش الطويل.. وتذكر على الفور حركة أنامل ابتسام بجانب عنقه.. فشتم بصمت.. وهو يلتفت إلى منى التي أغرقت الدموع وجهها.. ويجذبها لتجلس بجواره على الفراش.. وبدأ يحكي لها كل ما حدث منذ لمحته ابتسام في المرة الأولى فاتسعت عينا منى بذهول.. وسحبت يدها من بين كفيه وهي تنهض من فوق الفراش وتكتم صرختها بيدها.. فنهض حسن بدوره ليواجهها:
ـ هي دي الحقيقة يا منى..
هزت رأسها بذهول:
ـ يعني الست دي.. عايزة... عايزة...
تركت سؤالها ناقص.. بدون أن تكمله.. بينما تضرجت وجنتيها خجلاً.. فلم يستطع حسن كبت تعليق مشاكس:
ـ لسه خدودك بيحمروا يا منى!!..
صرخت بغيظ:
ـ حسن!!..
مد ذراعه وهو يقبض على خصرها بقوة ويقربها منه هامساً:
ـ حسن!!.. حسن زعلان.. حسن مخاصمك.. معقولة تشكي فيا؟!!..
أخفضت منى نظرها حرجاً وهي تهمس:
ـ ده مش شك.. دي.. دي..
همس مستمتعاً:
ـ غيرة؟..
رفعت عينيها إليه ودموعها مازالت تتعلق بأهدابها.. وهمست بوجل:
ـ وخوف يا حسن.. خايفة أصحى من حلمي بيك.. خايفة أفوق وأنزل من سابع سما.. ووقتها مش رقبتي اللي هتنكسر.. لا.. ده قلبي..
ضمها إليه أكثر.. متكئاً بجبهته فوق جبهتها هامساً:
ـ بحبك يا منى.. وما حبيتش غيرك..
سكنت بين ذراعيه تستمع لدقات قلبه والتي رغم صخبها إلا أنها كانت تهدئ من مخاوفها.. وتمنحها أماناً وحماية كانت في حاجة لهما.. ظلا هكذا لفترة.. حتى علا رنين هاتف حسن.. تجاهله في البداية إلا أنه عاد للرنين مرة تلو الأخرى.. حتى اضطر أن يبتعد عن منى لييمسك بالهاتف ويتأمل شاشته المضيئة بغيظ جعل منى تتحرك بدورها لتجواره وهي تسأله:
ـ في إيه يا حسن؟.. مين على التليفون؟..
ـ أجاب بغيظ:
ـ دي الست ال****.. اللي قلت لك عليها..
توسعت عينا منى بذهول وهي تستمع إلى اللفظة التي أطلقها حسن على ابتسام.. وسرعان ما توردت وجنتيها حرجاً من مجرد التفكير بتلك الكلمة.. ولاحظ حسن ذلك على الفور.. فغمغم معتذراً:
ـ آسف يا منى.. الأسطوات اللي معايا بيقولوا الكلمة دي باستمرار.. يظهر أنها مسكت في لساني..
أومأت منى برأسها وظهر اللوم واضحاً بنبرتها:
ـ بصراحة يا حسن أنت بقيت تكرر كلام كتير من بتاع زمايلك ده.. يا حبيبي.. مش لازم تنسى أبداً أن دي فترة مؤقتة.. و..
قاطعها حسن بضيق:
ـ أنا فاهم يا منى.. وآسف إذا كنت ضايقتك بكلمة كده ولا كده..
عاد الرنين يرتفع مرة أخرى.. فما كان من منى إلا أن سحبت الهاتف من يده.. وتأكدت أن تلك السيدة هي من تتصل ففتحت الخط على الفور.. لتصدم أذنيها ضحكة مبتذلة وصوت ابتسام الذي تعرفت عليه من مكالمتها السابقة يهمس في شماتة:
ـ أكيد مراتك اللي أنت طالع لي بيها السما دي طينت عيشتك.. عشان تعرف أنك مش قدي.. أظن تعقل كده بقى وتهاودني بدل..
كانت عينا منى تتوسع بذهول من جرأة تلك المرأة وقاطعتها بقوة:
ـ لا.. اطمني.. أنا لا طينت عيشته.. ولا هو هيهاودك.. واقفلي الخط بقى.. كفاية سفالة..
صرخت ابتسام على الجهة الأخرى:
ـ أنتِ مين؟.. أنتِ مراته!!.. اعطيني حسن.. هو جبان للدرجة دي مش قادر يواجهني بنفسه..
أغمضت منى عينيها.. وابتلعت ريقها بصعوبة وهي تحاول استدعاء هدوء لا تمتلكه في تلك اللحظة:
ـ اسمعي يا مدام.. اللي أنتِ عايزاه من جوزي ده مش هيحصل.. خلي عندك كرامة.. ولمي نفسك وما عدتيش تتصلي تاني.. وأظن أنتِ عارفة هو ابن ناس قد ايه.. وواحد زيه عمره ما هيقرب لبواقي الرجالة التانية.. أظن فهماني..
وأغلقت منى الخط, بل والهاتف وهي ترتعش مما حدث بينما وجدت حسن يصفق بكفيه بقوة وهو يفتحهما على آخرهما قائلاً بصوت أجش:
ـ ينصر دينك يا ست الستات..
رمقته منى بذهول.. وداخل عقلها تتردد جملة أزعجتها كثيراً..
"حسن اندمج بزيادة في مهنته الجديدة"...
*********
"أنتِ تعديتِ السفالة للإجرام.. ولو كنتِ فاهمة إني ما اكتشفتش اتفاقك مع أعمام عليا تبقي غلطانة.. السواق بتاع عليا اعترف بكل حاجة.. والقذارة اللي بلغتيها لأهل البنت أنا مش هسكت عليها.. اللي عملتيه ده يا مدام اسمه تحريض على القتل"..
تجمدت يدا يزيد على مقبض الباب وهو يستوعب ما وصل لأذنيه للتو... وأغمض عينيه بألم وهو يتأكد من هاجس مجنون مر بذهنه واستبعده على الفور.. ليتبين أنه لم يكن هاجس ولكنه بكل تأكيد كان جنوناً..
فتح الباب ببطء.. لتصطدم عيناه بعينيَ والده الذي شحبت ملامحه على الفور مما جعل سهام تلتفت لتواجه عينيّ ابنها اللذين اتقدتا كجمرتين.. وهو يهمس لها بذهول:
ـ ليه؟.. ليه؟؟.. دي كانت ممكن تموت..
صرخت سهام بلهفة وهي تواجه ابنها:
ـ ما يهمنيش.. أنا ما يهمنيش غيرك يا يزيد..
حاولت تقترب منه إلا أنه مد ذراعه على طولها ليمنع اقترابها صارخاً بعنف:
ـ ما تقربيش مني.. ما تقربيش مني..
اندفعت سهام نحو يزيد متجاهلة تحذيره وهي تصرخ به بدورها:
ـ اسمعني يا يزيد.. افهمني يا بني.. أنا عملت كده عشانك.. كان لازم أحميك واحمي حياتك ومستقبلك..
صرخ بقوة:
ـ حياتي ومستقبلي!!.. أنتِ عارفة أنتِ قلتِ إيه؟.. فاهمة الصورة اللي وصلت لأعمام علياء كانت إيه؟.. مستوعبة أنهم كانوا ممكن يقتلوها..
قاطعته أمه بصرخة مدوية:
ـ يموتها.. يقتلوها.. وأنا إيه اللي يهمني!.. أنا قلت لك أني ما فكرتش غير فيك أنت وبس.. أنت وبس اللي باقي لي يا يزيد..
ـ أناااااااا..
كانت صرخة مشروخة.. وهو يتأمل أمه محاولاً التحكم في دموعه.. ومجاهداً كل شياطينه التي تحثه على الانتقام.. ولكن أينتقم من أمه؟!!.. كيف؟..
مسح وجهه بكفيه وهو يصارع للخروج من هوة حيرته.. هوة تبتلعه بسرعة.. ولا تهتم لمقاومته العنيفة.. دوار.. دوار عنيف أصابه وهو يحاول الوصول لقرار.. لوسيلة ليحافظ على وعده لعلياء باسترداد حقها ممن ظلمها.. وفي نفس الوقت يحتفظ بصلة ما بأمه..
"يا الله.."..
همسها لنفسه وهو يلقي بجسده على الأريكة المريحة في غرفة المكتب.. رامياً رأسه إلى الخلف.. ضاغطاً بأصبعيه على جسر أنفه حتى يقلل من عنف الصداع الذي يضرب رأسه بلا رحمة..
شعر بأنامل والدته تملس على جبهته بحنان.. فابتعد عنها صارخاً:
ـ قلت لك ما تلمسينيش..
ترقرقت الدموع بعينيّ سهام وهي تلومه بألم:
ـ للدرجة دي.. للدرجة دي بنت نادية سيطرت عليك وبقيت مش طايق لمسة من أمك..
ضرب ركبتيه بعنف وهو يقفز لينهض بعيداً عنها هاتفاً بقوة:
ـ علياء.. اسمها علياء.. مراتي.. مراتي اللي حضرتك شوهتي سمعتها وسمعتي وسمعة أبويا.. حولتينا لمجموعة شواذ عايشين علاقات مريضة.. وكل ده ليه.. ليه.. لييييييييه؟؟؟؟..
علا صوته بصراخ هيستيري وهو يلمح شفتي والدته تتحركان.. فقاطعها بقوة:
ـ ما تقوليش عشاني.. آسف جداً.. مش مصدقك..
كان عصام قد قرر اتخاذ وضع المتفرج في النقاش الدائر بين زوجته وابنه.. كان رجل أعمال محنك ويدرك أنه في وضع خاسر من جميع النواحي.. فيزيد لن يسامحه على اخفاء اختطاف علياء عنه.. وسهام قررت منذ زمن أن تسقيه الأمرين بسبب زواجه من نادية.. فقرر الاكتفاء بالمتابعة عن بعد.. وعدم التدخل.. إلا أن صرخة يزيد الأخيرة بسهام وما رسمته من ألم شديد على ملامحها أجبرت عصام على التدخل لينهر يزيد بلطف:
ـ يزيد.. ما ينفعش تتكلم مع والدتك بالطريقة دي..
التفت له يزيد وكأنه فوجئ بوجوده.. وأخذ يتأمله للحظات.. وأخيراً قال بعنف مكبوت:
ـ ما تقلقش حضرتك.. أنا وماما طول عمرنا بنعرف نتفاهم مع بعض بدون تدخل من حضرتك.. طول عمري وأنا لوحدي معاها..
توسعت عينا عصام بذهول لرد يزيد.. ليفاجئه يزيد برد آخر:
ـ وعلى فكرة.. سفر مش هسافر.. وهرجع لشغلي في المجموعة أول ما اطمن على علياء.. وحملها يستقر..
صرخت سهام بجزع:
ـ حمل!!.. حمل يا يزيد!.. هي البنـــ
وقبل أن تكمل إهانتها المعتادة لعلياء هتف بها يزيد بصرامة لم تعتدها منه:
ـ علياء حامل يا ماما ايوه.. علياء هتكون أم أولادي.. أنا فاهم أن ده شيء حضرتك صعب تتقبليه.. لكن مع الوقت هيكون الموضوع أسهل.. ومش هنضايق حضرتك بزيارات أو مقابلات...
قاطعت سهام كلامه وهي تصرخ بهيستريا:
ـ أنا كان عندي حق.. عندي حق.. أهي بعدتك عني أهي.. ومش عايزاك تزورني.. يزيد يا حبيبي.. لو على اللي في بطنها.. احنا نستنى لما تولد وناخد البيبي وريناد هتربيه وهتكون أم..
صرخ يزيد مقاطعاً:
ـ مامااااااااا
وضرب قبضته بسطح المكتب فارتطمت بمرمدة زجاجية.. تحطمت تحت قبضته لفتات.. وتسببت له في جرح بالغ بكف يده..
صرخت سهام بقوة لمرأى دماء يزيد.. وحاولت الاقتراب منه إلا أنه رفع يده المدماة إليها مانعاً اياها من الاقتراب قائلاً لها بصوت حاسم:
ـ أنا حاولت.. يشهد ربنا أني حاولت أني كلامي ما يكونش جارح أو مؤذي.. رغم أنك آذيتني وآذيتِ علياء.. لكن يظهر أني لازم أكون واضح.. ماما.. علياء هي مراتي.. هي ما سرقتنيش منك ولا أغوتني.. بالعكس.. أنا اللي..
ابتلع ريقه بصعوبة وهو يكمل:
ـ أنا اللي آذيتها كتير.. علياء هتكون أم ابني وهي اللي هتربيه.. ومن فضلك.. ما تقربيش ناحية علياء.. ما تكلميهاش في التليفون.. لو حتى شوفتيها ماشية في شارع.. غيري اتجاهك.. عشان أنا لو عرفت أنك قربتِ منها.. وقتها فعلاً هتكوني خسرتيني بجد..
شهقة ملتاعة كانت الرد على كلمات يزيد.. ولكنها لم تصدر من شفتي سهام, بل كانت ريناد هي من تقف على باب الغرفة وتنظر إلى جرح يزيد النازف بجزع وتستمع إلى كلماته الحاسمة بقلق جعلها تهتف متسائلة:
ـ هي.. هي علياء حامل؟..الكلام ده بجد..
التفت إليها يزيد بحنق:
ـ حمد لله على السلامة يا مدام ريناد.. وصلتِ امتى وازاي ومين سمح لك أنك تسافري؟
تحركت ريناد بثقة لتجذب يزيد من ذراعه وهي تلقي بنظرات حذرة على والديه الذين صمتا تماماً.. وتمكنت بسهولة من اخراج يزيد من الغرفة لتتجه به إلى غرفته القديمة وتبدأ في مداوة جرحه برقة بالغة, رقة لم يعتدها منها, تقارب حميم حرمته إياه منذ بداية زواجهما..
سألها في خفوت يخفي غضب مستتر:
ـ أنتِ كنتِ تعرفي ماما ناوية على إيه؟..
رفعت عينيها بسرعة إليه وأخفضتهما ثانية.. واستمرت بتضميد جرحه بمهارة.. ولكنه لم يستسلم لصمتها.. ضغط على يدها بقوة وهو يهمس من بين أسنانه:
ـ ردي عليّ..
ـ طنط سهام قالت لي أنه عندها الطريقة اللي تخليك تطلق عليا.. لكن ما وضحتش ازاي..
ضحك بسخرية مريرة:
ـ عبيط أنا عشان أصدق الكلام ده!..
أنهت تضميد جرحه وتحركت لتخبره بغضب:
ـ والله أنا كان ممكن أكذب وأقولك ما اعرفش بتتكلم عن إيه.. لكني جاوبت بصراحة وما كدبتش.. وقلت لك الحقيقة..
نظر إليها بتأمل.. كان منطقها سليماً.. ولكن حدسه يخبره أنها كانت تعلم..
تفرس في عينيها بحثاً عن الحقيقة ولكنه لم يجد إلا نظرات جامدة وواثقة..
موقفها الثابت أجبره على تصديقها وهو ما كانت تخطط له تماماً.. فلو أنكرت معرفتها عن الموضوع لما صدقها.. فتعمدت ذكر نصف الحقيقة.. حتى تقنعه بصدقها.. وهو صدقها ولكن مجبراً.. يجبره شعور بالذنب نحوها.. ذنب منبعه ضعف إحساسه بها.. نسيانه أو تناسيه لوجودها في اليومين السابقين.. لهفته القوية في الذهاب إلى علياء.. ذنب.. ذنب متعدد الأوجه.. ذنب لا يعرف له تكفيراً..
تنحنح ليجلي صوته:
ـ يلا بينا.. هوصلك وبعدين هروح المستشفى..
حاولت ريناد التحكم بأعصابها قدر الإمكان.. فيزيد يلعب بأوراق مكشوفة الآن ويصرح بوضوح عن أهمية علياء في حياته..
سألته ريناد بفضول واضح:
ـ فعلاً عليا حامل؟..
ـ أيوه علياء حامل..
لم يستطع السيطرة على الفرحة المتراقصة في صوته.. ولم تستطع ريناد السيطرة على غضبها الذي بدا واضحاً وهي تسأل:
ـ كام؟
لف وجهه عنها وهو يجبها بخفوت:
ـ شهرين..
اتسعت عيناها ذهولاً.. ثم أخفضتهما سريعاً.. وهي تهمس:
ـ مبروك..
ـ الله يبارك فيكِ..
رفعت عينيها وأخبرته ببساطة:
ـ أنا عايزة أروح لدكتور أتابع معاه وأعرف سبب تأخر الحمل..
رمقها بذهول وهو يسأل:
ـ حمل إيه اللي اتأخر!.. إحنا ما كملناش شهرين متجوزين!..
أجابته بنزق:
ـ بس عليا حملت على طول.. وأنا لازم أعرف إيه اللي غلط عندي..
وضع وجهه بين كفيه يحاول أن يخفي ضحكة مريرة ارتسمت على ملامحه وهو يتذكر المثل الشعبي الحكيم..
"هم يضحك وهم يبكي"...
ولكنه عاد ليتذكر.. تلك هي ريناد.. لا تسمح لأحد بأن يتفوق عليها.. حتى بأسبقية الحمل!!..
ـ يلا يا ريناد.. هوصلك بيتنا وهنتكلم في موضوع الدكتور ده بعدين.. أما أفوق من اللي أنا فيه..
أجابته بتردد:
ـ طيب ما توصلني عند ماما..
قاطعها بحسم:
ـ لا ماما ولا بابا.. هتروحي بيتك.. تفتحيه وتشوفي ناقصه إيه.. زي أي زوجة ما بتعمل.. ولو على خالتي.. كلميها تيجي تبيت معاكي الكام يوم الجايين دول.. لأني مش عارف ظروفي..
اجابته بضيق:
ـ أوك يا يزيد.. اللي تشوفه..
هل كان يقسو عليها؟.. كلا.. ربما قليلاً.. هز رأسه بعنف ينفض عنه تلك الأفكار.. فهو غير قادر على التعامل معها بتلك اللحظة..
********
وصل إلى المشفى بعدما قام بتوصيل ريناد إلى منزلهما.. ليجد نيرة جالسة على الأريكة وهي تقلب بقنوات التلفاز في ملل.. وعلياء مستغرقة في نومها بوداعة طفلة رقيقة..
زفرت نيرة بحنق ما أن رأته وهي تخبره بنزق:
ـ حمد لله على السلامة.. ما كنت نمت لك تلات- أربع ساعات كمان..
همس يزيد في تعب وهو يلوح بيد المضمدة:
ـ آسف يا نيرة.. اتأخرت غصب عني.. لو تحبي أوصلك بنفسي أو ابعت معاكِ واحد من بتوع الأمن..
لمحت يده المربوطة والتعب الواضح على ملامحه.. فهمست بخفوت:
ـ ما فيش داعي.. مازن سايب لي عربية بسواقها بره.. على فكرة, الدكتورة كتبت لعليا على خروج بكره.. هاجي على الساعة 11 كده عشان أساعدها..
تصبح على خير..
خرجت نيرة وهي تغلق الباب خلفها.. فتوجه يزيد بلهفة إلى فراش علياء.. ليجوارها ملتصقاً بها.. ومحيطاً إياها بذراعيه.. وهو يملس على خصلاتها التي رتبتها نيرة في قصة شعر جديدة.. لمحها فور دخوله الغرفة ولكنه أجل تفحصها حتى تغادر نيرة..
رتبت نيرة خصلات علياء وهذبتها فتركت غرة كثيفة على جبهتها وتمتد لتغطي حاجبيها وتستطيل قليلاً بينهما بينما ظهر عنقها الطويل جلياً نتيجة الخصلات القصيرة جداً خلف عنقها الذي طبع عليه يزيد شفتيه متأوهاً مدركاً لروعته والتي أظهرتها التصفيفة الجديدة.. فهمس بأذن علياء بغيظ وهو يتابع سلسلة الشامات الصغيرة بإصبعه.. ثم استبدل إصبعه بشفتيه:
ـ أنا هعمل خير للبشرية وأقتل نيرة.. هي عملت لك القصة دي عشان تجيب لي ذبحة!.. صح؟
تململت علياء بانزعاج بين ذراعيه.. فعاود تقبيلها في عنقها بخفة.. فتحت على إثرها عينيها ولفت وجهها له وكأنها تتأكد من وجوده.. قبلها على جبينها برقة وهو يزيد من ضمها حتى شعرت بضمادة يده تخدش بشرتها.. فنزلت بعينيها لترى يده المربوطة.. حركت عليها أناملها بخفة ورفعت عينيها بتساؤل قلق.. عاود مداعبة غرتها بلطف ورفعها عن عينيها هامساً:
ـ ما تقلقيش.. جرح بسيط..
شعر بأناملها تمر على يده الجريحة برقة وكأنها تربت عليها بحنان.. ثم ما لبثت أن لفت جسدها بين ذراعيه لتصبح في مواجهته وتغرز وجهها بعنقه وتلفه بذراعيها وتعود للنوم مرة أخرى..
رفع غرتها من فوق عينيها مرة أخرى.. وهو يهمس:
ـ يعني تكشف رقبتك وتغطي عينيكي!!.. صاحبتك دي مجنونة..
شعر بابتسامة شفتيها على عنقه.. فارتعش جسده تأثراً.. وزاد من ضمها.. وقد أدرك أنها لم توجه إليه كلمة واحدة.. هي مازالت تعاقبه بخصامها.. وهو مستعد للتحمل..
*************
مرت عدة أيام على وجود علياء بشقتها.. كانت تقضي أغلبها بالاستلقاء بفراشها كما أمرتها الطبيبة.. لم يفارقها بها يزيد إلا ساعات قليلة كان ينهي بها أعماله في فرع الشركة المواجهة للشقة.. ويعود إليها سريعاً.. فهي مازالت تتخبط رعباً من ذكرياتها الأليمة بين أهلها..
مازال رجلي الأمن مرابطان أمام الشقة.. وظف سيدة خمسينية لترعى علياء في ساعات غيابه.. وكانت دنيا هي من تكفلت بالعثور عليها, بطلب من مازن بالطبع.. فكانت "أم علي".. وهي سيدة في أوائل الخمسينات.. وحيدة تماماً بعد زواج أشقائها وشقيقاتها.. وهي من أفنت عمرها في رعايتهم.. لينطلق كل منهم في حياته.. مطالبين إياها بإكمال المشوار ورعاية أولادهم.. ولكنها السيدة المضحية تمردت على ما جبلت عليه من إيثار.. وقررت الخروج للعمل.. حتى لو كانت مدبرة منزل لزوجة شابة صغيرة.. صامتة وخائفة معظم الأوقات.. ولكنها تملك ذلك الشيء الغامض الذي دفع بـــ"أم علي" بالموافقة على رعايتها على الفور.. فهي تبدو وكأنها بحاجة إلى الحماية طوال الوقت..
نيرة كانت تأتي لزيارتها وتقضي معظم النهار برفقتها.. وكأنها تهرب هي الأخرى من بيتها.. من زوجها.. كما برعت في الهروب من نظرات علياء المتسائلة بشأن وجودها المستمر معها وابتعادها عن مازن..
ولكن علياء لم تصمت ذلك اليوم.. فهي ترى التعاسة بعيون نيرة.. ولا تدرك لها سبباً فعشق مازن لها واضحاً لعيون علياء التي سألت نيرة وهما جالستين في أحد الأيام بالشرفة التي ملأها يزيد بشتلات القرنفل.. حتى يسعد عينيها برؤية زهرتها المفضلة:
ـ نيرة.. حبيبتي.. في إيه؟.. مش معقول دي تصرفات عروسة جديدة..
غمغمت نيرة بتوتر:
ـ هيكون في إيه يا عليا؟!.. ولا حاجة.. أنتِ عارفة ظروف ارتباطي بمازن.. و..
قاطعتها علياء:
ـ مازن بيحبك يا نوني.. بيعشقك.. الحكاية أكبر من ظروف ارتباطكوا..
ضحكت نيرة بافتعال:
ـ هو يعني لازم يتصرف بجنون زي سي يزيد بتاعك.. اللي مش بيخليكي تخطي الأرض.. تصدقي ده طلب مني أني أكلمه لو حبيتِ تدخلي أوضتك عشان يجي يشيلك.. ربنا يعينك على جنانه..
كانت نيرة تلقي بكلماتها بغرض المزاح ولكن بداخلها شعور قوي يصرخ.. بأنها تريد ذلك أيضاً.. تحتاج أن يدللها مازن كما اعتاد في فترة خطبتهما.. ولكن بفضل اندفاعها.. حرمت نفسها ذاك الدلال والعواطف الجامحة التي كان يغرقها بها.. تباً.. ألم تكن تستطيع الانتظار لتنال من حسن في موقف آخر..
حسناً.. يجب أن تفكر وتجد حلاً لتستعيد شغف مازن.. ولكن كيف؟.. كيف أقربه مني بدون أن أبدو كالمتسولة لعاطفته؟.. كانت تعصر ذهنها بقوة وهي تفكر في أي حل.. أي طريقة.. حينما سمعت صوت "أم علي" المتفكهة وهي تخبرهما بضحكة مكتومة:
ـ ست عليا.. يزيد بيه وصل من شغله وبيقولك تحبي يدخلك الأوضة دلوقتِ؟
ابتسمت علياء بدورها.. فهي مازالت تخاصمه.. لا تطلب منه أي شيء مباشرة بل تستخدم "أم علي" لايصال رسائلها له.. والسيدة تكتم ضحكاتها مرة.. وتؤنبها مرة أخرى محذرة اياها..
"هتزهقي الراجل منك.. وهيطفش يدور له على ست تانية"..
كان رد علياء ابتسامة بلهاء.. فــ"أم علي" التي تدلل يزيد كطفلها العائد بعد غياب لا تعلم بعد بوجود زوجة أخرى في حياته..
ـ ست عليا.. ست عليا..
أخرجها صراخ "أم علي" من أفكارها نظرت لها بحيرة بينما همست نيرة بخفوت:
ـ خلاص يا أم علي.. قولي له يجي.. أنا نازلة دلوقتِ..
لحظة واحدة وكان يزيد أمامها.. ليرفعها من على مقعدها بين ذراعيه هامساً كالعادة:
ـ لفي ايديكِ حوالين رقبتي يا علياء..
أطاعته بصمت.. وركنت رأسها على كتفه وهي تخفي عينيها عن نيرة.. ولكنها لم تستطع كبح ابتسامتها الفرحة والتي لمحتها نيرة على الفور وهي تلحظ احتقان وجه يزيد بقوة..
ابتسمت نيرة بدورها وهي تتذكر قول مازن بأن علياء تملك سُلطة كبيرة على مشاعر يزيد.. ودوى بذهنها جملته الغاضبة.. أن تتعلم منها.. برقت الفكرة في رأسها على الفور.. فاتسعت ابتسامتها.. أكثر وأكثر.. وهي تتمتم..
"ماشي يا مازن.. أما نشوف هتقول إيه على اللي اتعلمته من عليا!"..
**************
جلس كلاً من مازن ويزيد على أحد الأرائك بمكتب هذا الأخير يستمعان إلى حسن وهو يقص عليهما مطاردة تلك السيدة التي تدعى ابتسام له بشتى الطرق والوسائل.. حتى أنها تجرأت وظهرت أمام منزله.. طالبة.. بل متوسلة إياه الذهاب إلى منزلها لمناقشة بعض الأعمال الخاصة!!..
يومها نهرها بعنف.. وهددها بفضيحة مدوية أمام أهل الحارة.. والذين لن يغفروا تفكير سيدة مثلها.. لتظهر منى لحظتها وتزيد في تهديدها بــ"علقة محترمة من سيدات الحارة المحترمات حتى يظهر لها صاحب"..
يومها هربت مسرعة بسيارتها ولكنها لم تكف عن الاتصال.. وإرسال الرسائل..
كانا الرجلين يكتمان ضحكاتهما بصعوبة وحسن يصرخ:
ـ أعمل إيه في *****... دي؟.. بطلوا ضحك وساعدوني..
قطب مازن متعجباً استخدام أخيه لمثل ذلك اللفظ.. وما لبث أن تذكر عدة ألفاظ مشابهة أثناء سرد الحكاية.. فسأل حسن بضيق:
ـ من إمتى بتتكلم بالطريقة دي يا حسن؟..
رد حسن بغيظ:
ـ بقولك إيه يا هندسة.. عيش عيشة أهلك وبلاش الأنزحة الكدابة دي!!
ردد مازن بذهول:
ـ عيش عيشة أهلك!!.. حسن..
قاطعه حسن بغيظ أكبر:
ـ يوووووه.. سايب المشكلة وجاي في الهايفة وتتنح لي فيها.. انجز يا بشمهندس وشغل الجمجمة..
هتف مازن بغضب:
ـ حسن...
أمسك يزيد بذراعه ضاغطاً عليه بقوة حتى يمنعه من الاسترسال في الكلام.. فسكت مازن على مضض.. بينما توجه يزيد لحسن مستفسراً:
ـ يعني هي عايزة جواز.. ولا...
ضرب حسن كفيه ببعضهما على معدته وهو يسخر:
ـ لا يا سيدي.. ولا.. وبعدين هتفرق معاك في إيه؟..
ـ خلاص يا حسن.. اهدى شوية.. عشان نتفاهم.. أنت أساساً اتعاملت معاها غلط..
كتف حسن ذراعيه وهو يسأل:
ـ غلط؟.. تقصد إيه يا دنجوان عصرك؟..
لاحظ يزيد نبرة حسن المحتدة وتغير أسلوبه.. وكان قد لاحظ تغير مفرداته كذلك.. فتبادل مع مازن نظرات قلقة.. حسن.. يتحول.. يتغير ويقسو بقوة.. فحسن القديم لم يكن ليهدد سيدة أبداً بافتعال فضيحة حتى ولو كانت تلك الابتسام..
ابتسم يزيد بتوتر:
ـ بص يا حسن.. أنت قعدت تقولها مراتي.. وبحب مراتي.. طبعاً جننتها وحطيتها قدام تحدي.. كأنك.. يعني..
قاطعه حسن بفظاظة:
ـ أيوه.. كأني رميت قماشة حمرا في وش تور..
ابتلع يزيد لعابه بضيق:
ـ يعني.. تقريباً..
هتف حسن بحنق:
ـ والمطلوب؟.. أخلي الــ ***** تغور من وشي إزاي؟؟؟...
تغاضى يزيد عن سوء ألفاظ حسن وهو يسأله بتوسل:
ـ أحل لك مشكلتك وتساعدني مع علياء.. عايزها ترجع تكلمني تاني.. هيه.. موافق؟..
ضرب حسن كف بكف وهو يصيح:
ـ يحرق دي صحوبية يا أخي.. يعني لو ما ساعدتكش.. هتسيبني أغرق مع الست اشتعال دي!!..
ـ خلاص يا حسن.. اهدا يا أخي..
كان مازن صامتاً بغضب وهو يستمع للحوار.. يريد أن ينهض ليمسك بتلابيب هذا الحسن ويسأله"من أنت؟.. وأين أخفيت شقيقي؟؟".. ولكنه حاول السيطرة على أعصابه بقوة فولاذية وهو يتذكر محاولاته الحثيثة مع والده ليفك الحصار قليلاً حول حسن.. محاولات يشعر أنها على وشك النجاح بها.. ولكنه يحتاج إلى القليل من الوقت بعد..
سمع يزيد ينصح حسن بهدوء:
ـ بص يا حسن.. هي بس حست أنك مميز شوية عن اللي حواليك وده جذب واحدة من نوعيتها.. يعني لو تقدر تحسسها أنك واحد عادي زي زمايلك يعني.. و..
صرخ مازن مقاطعاً:
ـ لاااااا.. أنت عايزه يتحول أكتر من كده!!..
انتفض حسن بغضب ليجذب مازن من قبه قميصه وهو يسأله بحرقة:
ـ قصدك إيه؟..
دفعه مازن بقوة ولكن حسن كان أكثر غضباً ليتزحزح.. والتمعت نظرة شرسة بعينيه مما دفع بيزيد ليتدخل على الفور بينهما ليبعدهما عن بعض وهو يهمس لمازن بغضب:
ـ لو مش عارف تتحكم في أعصابك.. روح.. لكن مش هسمح أن ترفع إيديك عليه.. فاهمني..
عاد مازن إلى مقعده بعنف.. بينما التفت يزيد إلى حسن مهدئاً:
ـ خلاص يا حسن خلينا في المهم.. زي ما قلت لك.. حاول تظهر قدامها كأي نقاش.. من زمايلك.. و..
قاطعه حسن بسخرية:
ـ هو ده الحل السحري بتاعك؟!..
هز يزيد رأسه نفياً وهو يلتقط هاتفه ليتصل بأحد أصدقائه.. وسرعان ما تعالت ضحكاته مع ذاك الصديق قبل أن يخبره بلهجة غامضة:
ـ عندي طلب صغير..
سكت قليلاً وأكمل:
ـ خدمة خاصة بنون النسوة أيوه.. تعرف ابتسام نيازي؟؟
قهقه يزيد بقوة:
ـ أنا قلت ما فيش غيرك هيحل المشكلة.. مدام ابتسام يا سيدي ناوية على واحد معرفة.. والراجل غلبان ما لوش غير مراته وبيته.. و..
قطع يزيد كلماته بينما وصله الرد على الطرف الآخر.. فصاح يزيد:
ـ تسلم يا غالي.. أنا برضوه قلت الحل في إيد ناجي..
سكت قليلاً وهو يستمع لناجي.. ثم أنهى المكالمة:
ـ حبيبي.. اللي تؤمر به.. عدي عليّ في الشركة وهخلص لك الموضوع..
أغلق الهاتف.. والتفت إلى حسن مبتسماً:
ـ خلاص يا سيدي.. وأهو ناجي هيخلصك منها.. وهيتحمل هو عذاب الست اشتعال.. ارتحت؟..
أومأ حسن موافقاً.. وقد تنهد بارتياح.. بينما يزيد يعاجله بلهفة:
ـ قولي أعمل إيه بقى؟.. نفسي علياء ترجع تكلمني تاني.. عايز أسمع صوتها.. كل اللي أعرفه عن الرومانسية عملتهولها.. قرنفل وغرقت لها الشقة.. نجاة وحفظت أغانيها.. أنا..
قاطعه حسن بهدوء وقد ارتسمت على شفتيه ابتسامة رقيقة فعاد للحظة حسن القديم:
ـ سيبها تخاصمك يا يزيد..
صرخ يزيد بعنف:
ـ إيه!!
اتسعت ابتسامة حسن:
ـ سيبها تخاصمك.. تعاقبك.. تحس أنها في إيدها حاجة تعملها.. أقضي عقوبتك لنهايتها.. بس ما تخاصمهاش أنت.. كلمها على طول, حتى لو ما ردتش عليك.. احكي لها عن شغلك.. عن يومك.. هتعملوا ايه لابنكم اللي جاي في الطريق.. كلمها وما تبطلش كلام.. واستحمل خصامها لحد ما هي تكتفي..
ربت على كتف يزيد وهو يخرج مودعاً وشاكراً له مساعدته.. بينما رمق مازن بنظرة خاطفة وتحرك ليفتح الباب قبل أن يشعر بذراعي مازن تنطبقان عليه بعناق أخوي وهو يهمس له:
ـ آسف يا حسن.. أخوك الصغير مدب.. استحمله بقى!..
ابتسم حسن بهدوء.. وهو يربت على كتف شقيقه.. ويخرج سريعاً..
********
وقف يزيد تحت الدش وهو يتلقى مياهه الباردة علها تخفف شيئاً من غليانه.. وهو يتذكر نصيحة حسن في ذلك اليوم.. بأن يسمح لعلياء بعقابه للنهاية..
وها هو يتحمل ببسالة دش بارد تلو الآخر حتى لا يزعجها.. ينتظرها بصبر لم يكن يعلم أنه يملكه حتى تعاود الحديث معه مرة أخرى.. لا ينكر أن نصيحة حسن كانت مفيدة.. حسناً مفيدة قليلاً.. فهو منذ تلك الليلة وهو يحادثها بلا انقطاع.. تعجبت من أحاديثه الطويلة في البداية.. ثم سرعان ما ارتسم الاهتمام في عينيها وهي تتابعه يسرد تفاصيل يومه.. وكيف حل تلك المشكلة.. وكيف أجل حل أخرى حتى يسرع ليكون بجوارها.. بجوار ابنهما.. كان يلمح نظرة حنان وابتسامة لا توصف بكلمات على شفتيها وهي تسمعه يحادث صغيرهما.. أو يحدثها بشأن من شئونه.. ابتسامتها تلك كانت مكافأة له على صبره.. على غليانه لقربها.. احتراق فعلي يشعر به.. ولا دواء له غيرها.. فقد تيقن من ذلك.. في عصر أحد الأيام برفقة ريناد.. ولكن للعجب كانت ريناد تبدو مكتفية وسعيدة.. يبدو أن طول الحرمان حسن من أدائه..
ابتسم بسخرية من نفسه وهو يجفف جسده ويخرج من الحمام ليستلقي في فراش علياء الوردي.. ذلك الذي أصرت على اصطحابه معها من المزرعة.. وتحول مؤخراً لفراشه هو.. فهو بعد عدة ليالِ احترق جسده برغبته بها ولم يستطع الاقتراب منها.. قرر أن ينتقل من غرفتها.. كان يضمها حتى تنام وتستغرق في نومها.. ثم يذهب إلى فرضه الليلي من الأدشاش الباردة.. وينام في فراشها الوردي الضيق.. مرر يده بخصلت شعره بغيظ.. ألا تشعر بغليانه.. باحتراقه.. بتوقه لها..
بينما كان هو يحترق داخل الفراش الوردي كانت علياء تعض يدها مترددة.. لا تعلم هل تقدم على تلك الخطوة أم لا.. توقفت يدها على مقبض غرفته وهي تفكر.. هل تذهب إليه؟.. هل تبدأ هي؟..
في بداية خصامها له كان يسعدها نظرة التوق العنيفة بعينيه.. والآن أصبحت تشعر بتوق مماثل.. وربما أعنف نحوه.. تباً.. أنها الهرمونات بالتأكيد.. كما قرأت في أحد الكتب الخاص بصحة الحامل.. وظنت وقتها أنه يمتنع عنها تنفيذاً لتعليمات الطبيبة.. ولكن انقضى الوقت وانقضت التعليمات وهو ما زال متباعداً..
حسناً.. ليس متباعداً تماماً.. فهي تشعر بغليان جسده وهو يجاورها كل ليلة حتى تستغرق في النوم.. غليان يزداد باضطراد.. وأنبأتها غريزة أنثى ولدت على يديه.. أنه وصل لأقصى درجات تحمله.. لذا حسمت أمرها ولفت مقبض الباب.. لتدخل إلى الغرفة المظلمة.. وتتحرك نحو فراش يزيد بتردد.. بينما عيني يزيد اتسعاتا في وسط وجهه وهو يراها تدلف إلى الغرفة.. وهي ترتدي منامة تويتي الشهيرة.. عبس شاتماً.. كم تمتلك منهم.. هل ينبغي أن يمزقهم جميعاً..
وقفت أمام الفراش وهي ترمقه بخجل.. بينما كاد مفرش السرير أن يشتعل بنيران توقه إليها.. ولكنه ظل صامتاً وهو يضغط على أسنانه بعنف بينما هي تقترب منه بتردد.. لتهبط تجاوره بخجل.. تلتصق به.. وتجذب رأسه نحوها.. تمنحه قبلة كانت هي ولأول مرة البادئة بها.. لم يستطع صبراً لثانية أخرى تمر, فجذبها إلى صدره برغبة حارقة.. عنيفة.. لن تشبعها سواها..
*******
صوت ارتطام شديد بأثاث غرفة المعيشة كان ما أيقظ منى.. والتي تعجبت كيف غفت وهي تنتظر عودة حسن.. والذي أصبح يتأخر بعودته يوماً بعد يوم.. والليلة تأخر كثيراً.. حتى أنها نامت قبل عودته..
صوت ارتطام آخر.. وسباب بذيء وصل إلى مسامعها.. قبل أن ترتدي مئزرها المنزلي وتخرج بسرعة لترى من بالخارج.. لتفاجيء بحسن راقداً على ظهره فوق الأريكة وهو يحاول خلع حذائه.. وفي كل مرة يفشل كان يشتم ببذاءة..
هتفت بتعجب وهي تتجه نحوه لتعدل من جلسته.. وتتكئ على ركبتيها لتخلع حذائه:
ـ حسن اتأخرت قوي..
فوجئت به يجذبها من عنقها بقسوة ويرفع وجهها إليها هامساً:
ـ منى.. ريحتك حلوة قوي..
مرغ شفتيه في عنقها بنهم.. حتى شعرت بأسنانه تغرز في بشرة عنقها الرقيقة.. فأـبعدته عنها بقوة:
ـ في إيه يا حسن؟..
جذبها مرة أخرى ليقبلها بعنف حتى أدمى شفتيها:
ـ هو إيه اللي في إيه.. في اني عايز مراتي.. عايز أتبسط شوية.. إيه مش من حقي بعد تعب ومرمطة طول النهار إني أرجع ألاقي الحتة بتاعتي مستنياني وعايزة تبسطني..
رددت منى بذهول:
ـ حتة بتاعتك!!.. تبسطك!!
جذبها مرة أخرى ليضغطها إلى صدره بعنف كاد أن يحطم أضلاعها وهو يقبلها بشهوة.. هامساً:
ـ اخرسي بقى هتطيري النفسين من دماغي..
شهقت منى بعنف.. وهي تتلقى منه معاملة لم تتصور أبداً أن تتلقاها أي زوجة من زوجها.. زوجها الذي كان يعشقها.. قبل أن يعرف التدخين.. والسجائر.. سجائر غير بريئة أبداً..


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-18, 04:36 PM   #24

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الحادي والعشرون


وقفت نيرة أمام المرآة.. وهي تنهي اللمسات الأخيرة لزينتها.. وعقلها يراجع خطة تقربها من مازن للمرة المائة.. فكرت أن تقدم اعتذار بسيط.. ولكن غريزتها أنبأتها أن ذِكر حسن بينهما لن يسبب إلا المشاكل.. فقررت أن تظهر اهتمامها.. بالفعل.. سهرة منزلية.. وعشاء شهي على أضواء الشموع.. فستان أسود من الحرير الناعم.. ذو فتحة عنق مهولة تكاد تصل إلى بداية معدتها.. يكشف عن عنق مرمري ناعم تعلقت به قلادة تتدلى لتداعب فتحة فستانها مع كل التفاتة منها.. جمعت شعرها في لفة راقية خلف عنقها.. وأتقنت زينة وجهها.. بالكامل.. ظلال الجفون أسود.. وحمرة قانية للشفاه.. وعطر يغري الحجر..
ألقت نظرة أخرى واثقة على نفسها ومنحت وجهها الفاتن قبلة..
وما أن سمعت صوت محرك سيارته يعلن عن وصوله حتى تحركت بسرعة لتكون في استقباله.. نزلت درجات السلم بسرعة تلتف حول ركبتيها أطراف ثوبها الحريري.. وتصاحبها غيمة من عطرها المغري..
صوت طرقات الكعب العالي على درجات السلم لفتت انتباه مازن على الفور فرفع رأسه ليتجمد تماماً تحت تأثير هيبة جمالها..
كانت جميلة.. بل فاتنة.. مبهرة.. لم يخطئ من أسماها نيرة.. فجمالها ينير عالمه.. حتى ولو هرب منها.. من تأثيرها عليه.. ولكنه.. يعي تأثره به جيداً.. وكما يبدو هي أيضاً أدركت من تعابير وجهه انبهاره بجمالها.. فأبطأت من خطواتها الراكضة.. وتحركت بثقة نحوه.. ولكنها لم تستطع التحكم في أنفاسها اللاهثة وهي تقف أمامه.. تواجهه..
ابتسامة خفيفة ظهرت على وجهه وهو يتناول يدها ليطبع عليها قبلة رقيقة.. ويتأمل لهفة ملامحها لإطراء منه.. ولكنه ظل صامتاً وعيناه تجوبان ملامحها في لهفة وحب وكأنه يبحث عن ارتواء.. اشباع.. فقط من ملامحها..
سألته أخيراً بهمس:
ـ إيه رأيك؟.. عجبتك؟!..
قربها منه بشدة ونظرات عينيه تركزان على حمرة شفتيها وهمس أمامهما:
ـ فإذا وقفت أمام حسنك صامتاً.. فالصمت في حرم الجمال.. جمال
ابتسمت بسعادة وهي تهتف:
ـ الكلام الحلو ده علشاني؟..
لف خصرها بذراعه هامساً بشقاوة:
ـ لو الجمال ده كله عشاني يبقى الكلام الحلو أكيد عشانك..
قهقهت تلك المرة بسعادة بالغة وهي تستشعر عودة مازن القديم.. مازن الذي كان يتفنن في تدليلها ويغرقها بعواطف لم تعرف مثلها أبداً..
هي على الطريق الصحيح إذاً.. تحقق نجاحاً.. مظهرها فقط جعله يلقي على أذنيها بكلمات الغزل..
فماذا سيفعل عندما يرى ما قامت به من أجله!!..
سحبته من يده وهو كان منقاداً لها تماماً.. فقلبه يقفز بجنون داخل صدره.. سعادة وفرحة حمقاء تنتفض بداخله منبعها إحساسه أنها تريد إرضائه..
تحرك معها بسلاسة لتصطحبه إلى غرفة الطعام.. حيث اصطفت أطباق الطعام.. وغابت الأنوار تاركة السطوة لضوء الشموع.. لتتراقص الخيالات حولهما وهي تتعلق به وتلف ذراعيها حول عنقه هامسة:
ـ نرقص؟..
ضمها لصدره ولف بها ومعها في الغرفة حتى اقتربا من جهاز تسجيل حديث.. فقامت بتشغيل الأغنية التي رقصا عليها ليلة زفافهما.. وهمست:
ـ هنرقص عليها لآخرها المرة دي.. ممكن؟!..
رمق نظرات عينيها المتوسلة.. وتعابير وجهها الملهوفة بتردد.. فرغم سعادته لما تبذله من جهد لتنال رضاه, إلا أنه أصبح يمقت الأغنية وكل ذكريات تلك الليلة البعيدة.. وصله صوتها متوسلاً:
ـ مازن.. بليييييز.. عشان خاطري..
هز رأسه برفض رقيق.. واختار أغنية أخرى وهو يهمس:
ـ هنرقص بس مش سلو.. اسمعي الأغنية دي.. كلماتها تحفة..
وبالفعل ارتفعت النغمات.. ليلف بها عدة مرات حول مائدة العشاء.. ذراعه حول خصرها.. نظراته تتواصل بنظراتها وكأنما يربطهما خيط غير مرئي.. عيونه بها تساؤل.. تجيبه هي بتوسل.. فتجوب نظراته وجهها الفاتن..
ويضمها إليه أكثر.. بينما تتعالى الكلمات الرقيقة..
قل لي- ولو كذباً- كلاماً ناعما ً
قد كاد يقتلني بك التمثال..
مازلتِ في فن المحبة.. طفلةً
بيني وبينك أبحر وجبال
لم تستطيعي -بعد- أن تتفهمي
أن الرجال جميعهم أطفال
فإذا وقفت أمام حسنك صامتاً
فالصمت في حرم الجمال.. جمال..
كلماتنا في الحب.. تقتل حبنا..
إن الحروف تموت حين تقال..
تتقابل الشفاه أخيراً.. قبلة خاطفة.. وكأنها تساؤل معلق بينهما..
نظراتها ترتفع إليه وكأنها تصرخ.. "خذني".. وتستجيب شفتيه لتمنحها قبلة.. قبلة عشق تلك المرة.. فضم شفتيها.. داعبهما.. قبلهما.. بل كاد يلتهمهما وهو يعمق القبلة لتصبح أقوى.. وأعمق وأكثر إثارة.. حتى أن نيرة لم تحتمل اندفاعه.. فحركت وجهها تدفنه بجانب عنقه.. تهرب قليلاً بمشاعرها التي بعثرها..
ماذا يحدث لها؟.. لقد ظنت أنها ستسيطر عليه.. تستعبده وتستغل حبه.. فيذوب عشقاً بهواها وتبجيلاً لجمالها.. ولكنها هي الآن من تغرق.. تغوص ببحر من الرمال التي تبتلعها.. وهي حتى عاجزة عن المقاومة.. يجب أن تكون هي المتحكمة.. المسيطرة.. فهو من يحبها.. هو العاشق.. أنها مستمتعة فقط بذلك العشق.. ذلك التميز..
تعالت الكلمات مرة أخرى..
قصص الهوى قد جننتك..
فكلها....
غيبوبة.. وخرافة.. وخيال
الحب ليس رواية يا حلوتي..
بختامها يتزوج الأبطال.
مشاعرها تتجاوب.. بقوة.. تكاد تخضع.. كلا.. فكرت بعنف.. يجب أن تهدأ قليلاً.. لن تستسلم الآن.. فلتتركه يحترق قليلاً كما تركها في بؤسها لأيام..
همست له برقة:
ـ نتعشى بقى؟..
توقف عن الرقص وهو يردد بذهول:
ـ نتعشى!!..
سحبته من يده وأجلسته على رأس المائدة.. وسحبت مقعداً وجلست بجواره وهي تبتسم محاولة السيطرة على اضطراب مشاعرها:
ـ الأكل يجنن.. دوق بس كده..
ابتسم ليجاريها:
ـ يا ترى أنتِ اللي طبختِ؟..
تلعثمت قليلاً:
ـ أنت عارف أني ماليش في الطبيخ والكلام ده.. بس أنا أشرفت على توضيب كل حاجة..
همس وقد برد اندفاعه قليلاً:
ـ وماله.. نبتدي خطوة.. خطوة..
أخذا يتناولا طعامهما في صمت متوتر.. فالمشاعر المتطايرة في الجو كانت أكبر من أن تحتويها تلك الغرفة رغم اتساعها..
هو وقد وصل صبره لمنتهاه.. يريد حبيبته.. من ضحى وواجه شقيقه من أجلها وكاد أن يخسره ليحصل عليها..
وهي مشتتة.. في أعماقها تتساءل عن تلك المشاعر التي تجذبها لمازن على الرغم من تيقنها بأنها لم تتغلب على حبها وخيبتها من حسن..
رنين الهاتف أوقف تيار المشاعر الملتهبة.. ليرد مازن بقلق.. فقد كان المتحدث والده.. أخذت نيرة تتابع ملامح مازن وانفعالاته وهو يحادث والده..
أعجبهتها سيطرته على مجريات الحديث.. كان يناقش والده بخفوت وحزم.. وكادت المكالمة أن تنتهي حين سمعته يذكر حسن.. ويكرر على والده الطلب بأن يعفو عنه.. أو على الأقل يخفف من حصاره.. وضعت شوكتها بهدوء متوتر وعيناها تتابع الحوار باهتمام لم يخفَ على مازن.. وأدركت هي ذلك فلعنت غبائها بصمت ولكنها لم تستطع منع نفسها من التساؤل بصوت عالٍ وكان مازن قد أنهى المكالمة للتو:
ـ هو أونكل حاتم هيسامح حسن خالص؟.. يعني هيرجعه للشركة؟..
أجابها بغضب مكبوت:
ـ يهمك اوي أن حسن يرجع؟..
تلعثمت:
ـ لا.. أنا أقصد..
قاطعها وهو ينهض بعنف:
ـ متشكر قوي على العشا.. الأكل كان لذيذ فعلاً..
نهضت خلفه لتتمسك بذراعه:
ـ مازن.. استنى بس..
التفت لينظر لها وهو يحاول احتواء خيبة أمله:
ـ خير.. في حاجة؟..
ـ يا مازن مش كل مرة تغضب وتبعد.. أرجوك..
هز رأسه بحزن:
ـ يمكن أنا غلطان أني بعدت.. لكن ده بيكون رد على غلطك أنتِ.. أنا مش هشرح لك أو أوضح لك الوضع معقد ومكلكع قد إيه.. لازم تكوني أنتِ حاسة.. أنا ظنيت للحظة أن الرسالة وصلتك.. بس يظهر.. أننا لسه محتاجين وقت أطول..
هو أن نثور لأي شيء تافه..
هو يأسنا.. هو شكنا القتال..
هو هذه الكف التي تغتالنا..
ونقبل الكف التي تغتال..
وصلته كلمات الأغنية وكأنها تصف حاله فأغمض عينيه قليلاً وتحرك ليرفع كفها يقبله:
ـ الأغنية.. دي قصيدة لنزار.. كملي باقي أبياتها.. يمكن.. يمكن..
لف ليخرج من الغرفة بينما هي تصرخ من خلفه:
ـ رايح فين؟..
ابتسم بغموض:
ـ للدنيا الواسعة..
خرج وتركها تغلي غضباً وغيظاً وقد فشلت خطتها للتقرب منه واسترداد اهتمامه.. التفتت للمائدة التي أعدتها من أجله لتجذب المفرش بقوة وتحطم ما فوقها.. وتدوس فوق حطام الأطباق بغيظ.. وبداخلها يتردد كيف تفشل في الوصول إلى مازن.. العاشق المتلهف.. بينما تنجح علياء بطفولتها في السيطرة على يزيد بجنونه.. ومنى تتغلغل داخل حسن برقته وحنانه..
أعادت مجريات السهرة في ذهنها.. لتقف عند مكالمة والده.. وبداخلها يكبر الإحساس أنه تعمد استقبال المكالمة وذكر حسن ليختبر ردة فعلها..
"غــــــــــبية"..
صرخت بقوة.. وهي تدرك أنها فشلت في اختبار أحمق.. تدافعت الدموع خلف جفنيها, ولكنها أحكمت سيطرتها عليهم.. كلا.. لن تبكي.. ولن تعترف بالفشل.. ستصل لزوجها.. وستسيطر على قلبه ومداركه.. فقط تحتاج إلى الهدوء.. والصبر.. وسياسة النفس الطويل..
ركضت إلى غرفتها.. لتبحث عن باقي القصيدة كما أخبرها.. لتتساقط دموعها تلك المرة وهي تقرأ..
لا تجرحي التمثال في إحساسه
فلكم بكى في صمته.. تمثال..
قد يطلع الحجر الصغير براعماً
وتسيل منه جداولٌ وظلال
إني أحبك من خلال كآبتي
وجهاً كوجه الله ليس يطال
حسبي وحسبك.. أن تظلي دائماً
سراً يمزقني.. وليس يقال
*************
فتحت علياء عينيها بصعوبة.. وبأذنيها يتردد همس يزيد, بل هو صخب.. صخب ضربات قلبه الهادرة والتي تستشعرها تحت وجنتها.. ومداعباته المستمرة لها حتى تستيقظ تماماً.. فسمعته يهمس وهو مستمر بمداعبته لعنقها طابعاً قبلات عميقة وحسية:
ـ علياء.. علياء.. ردي عليّ.. معقولة طول الليل من غير ولا كلمة..
عدلت من وضع رأسها لتضعه فوق ذراعه.. ورفعت عينيها إليه لتلتقي نظراتهما.. حديث طويل تبادلاه بدون كلمة واحدة.. نظراته تفضح شوقه.. توتره.. احتياجه الذي عجز عن التحكم به.. ونظراتها مليئة بالخجل.. والخزي.. فهي من ضعفت.. هي من ذهبت إليه.. وهي من تبكي دائماً..
التقط دموعها بشفتيه وهو يمرغهما في وجنتيها هامساً:
ـ دموع!!.. دموع ليه يا علياء؟..
لم ترد عليه بل دفنت وجهها بتجويف عنقه وسكنت تماماً.. فهمس بلوعة:
ـ سكوت!!.. سكوت ودموع؟؟.. علياء!!..
كانت تسمع توسله في نبرة صوته وأرادت أن ترد.. أن تقول أي مما يجول بذهنها.. ولكنها عاجزة.. فقط عاجزة عن فتح شفتيها للكلام.. عن تحريك لسانها.. تصطف الكلمات وتتدافع بين ثنايا عقلها ولكنها ترفض التحرك خارجه.. أنها لم تصاب بالخرس.. هي متأكدة.. فهي تحادث نيرة.. و"أم علي"
باستمرار.. فقط تنتابها حالة الخرس معه.. خرس غريب قد تطلق عليه "الخرس اليزيدي"..
طرقات قوية على باب الغرفة أفزعتهما معاً وصوت "أم علي" يدوي:
ـ سي يزيد.. سي يزيد بيه.. الحقني يا سي يزيد بيه.. الست عليا مش موجودة.. مش لاقياها في الشقة.. يا سي يزيد..
دفنت علياء رأسها بصدر يزيد لتخفي وجهها الذي اشتعل حرجاً.. وكأن "أم علي" تمتلك القدرة على الرؤية من خلال الباب المغلق.. بينما يزيد لا يتوقف عن اطلاق السباب..
وأخيراً ارتفع صوته حتى يسكت صرخات "أم علي":
ـ خلاص.. خلاص يا ست أم علي.. علياء معايا هنا.. ما تقلقيش عليها..
سمعا صوت ضحكات "أم علي" الخجولة وصوتها يهتف:
ـ يا نهار الهنا.. أنا هروح أحضر لكوا فطار معتبر..
جلست علياء في الفراش وهي تخفي وجنتيها المشتعلتين بكفيها, ثم تلفتت حولها باحثة عن منامتها.. حينما شعرت بيزيد يتحرك من الفراش ويمد يده إليها بروب طويل يخصه وهو يردد:
ـ ما فيش حتى صباح الخير.. وحشتني.. أي كلمة تبل ريقي..
تمسكت بالروب وعينيها تتسعان غير قادرة على إجابته بالكلمات.. أي كلمات تلك التي يبحث عنها.. وهي من أظهرت بكل وسيلة أخرى مدى اشتياقها له..
ارتدت الروب وتحركت لتخرج من الغرفة حينما وصلها صوته:
ـ استعدي عشان هنروح متابعة الحمل بعد الفطار..
لمعت عينيها اندهاشاً لتذكره الموعد.. وهزت رأسها موافقة.. فتحت الباب لتجد "أم علي" في مواجهتها.. فسحبتها إلى غرفتها وهي لا تكف عن الثرثرة.. وإطلاق النصائح وتهنئتها لأنها "خزت الشيطان وصالحت جوزها"..
اغتسلت سريعاً ومشطت خصلات شعرها القصير.. وخرجت لتجد يزيد متجهاً بدوره ليتناول الافطار.. اصطحبها ليجلسا سوياً.. فوجدت "أم علي".. قد أعدت مائدة حافلة.. كانت جائعة بالفعل.. فبدأت في التهام طعامها بتلذذ تحت أنظار يزيد المذهولة.. رمقت ذهوله للحظات.. ثم استمرت في تناول طعامها.. ولكنه ظل يناظرها بتعجب.. وارتسمت على شفتيه ابتسامة واسعة.. سرعان ما تحولت إلى ضحكة عالية وهو يسألها:
ـ إيه اللي أنتِ بتعمليه ده؟!
انطلق لسانها بدون إرادة منها وهي تجيب بدفاع:
ـ بآكل.. أنا جعانة قوي..
توقفت ضحكاته وهو يدرك أنها تحادثه.. تحادثه بالفعل.. بعد خصام أيام, بل أسابيع.. يعود صوتها الناعم ليداعب أذنيه مرة أخرى.. بينما هي وضعت أناملها على فمها وكأنها تتعجب لما قالته.. عادت ابتسامته لتتسع وهو يمد يده ليمسك كفها ويقبل أناملها بمتعة شديدة هامساً:
ـ وماله يا حبيبتي.. براحتك.. بس يعني هو البيض حلو بالمربى.. مش جديدة الوصفة دي!!..
نظرت إلى البيضة المسلوقة في يدها وقد غمستها في طبق المربى.. وابتسمت بحرج.. ثم أكملت طعامها.. تحت نظراته.. كيف تستطيع اخباره أن طعم البيض بالمربى في فمها الآن أروع من طعم الشيكولاة بالكرز...
أنقذها صوت أم علي وهي تخبر يزيد ببشاشة:
ـ سيبها يا سي يزيد بيه.. ده وحم.. هي بتتوحم على المربى.. اسم الله عليها.. بتغمس كل حاجة بالمربى..
ابتسم يزيد لها وضغط على أناملها بحنان وهو يسألها:
ـ بتحبي المربى كده!.. غريبة.. ما كنتيش بتاكليها أبداً..
تضرجت وجنتيها وهي تعي مراقبة "أم علي" لهما.. ورسخت كلماته في ذهنها تخبرها أنه يعلم ما تحب وما تكره.. شجعها ذلك لتخبره عن اقتراب موعد دخولها للكلية.. ولكن عادت حالة الخرس اليزيدي تتلبسها..
فأخذت تفرك أناملها في كفه.. حتى أمسكها وهو يقترب منها هامساً:
ـ دخول الكلية هيكون أول الاسبوع.. صح؟..
أومأت موافقة برأسها.. فعاد يهمس:
ـ خلاص يا علياء.. هوصلك وأجيبك.. ولو ما اقدرتش.. هيكون في سواق وفرد أمن معاكِ على طول.. بس المهم أنك ما ترهقيش نفسك..
سكت قليلاً ينتظرها لتجبه ولكنها ظلت صامتة.. فهمس بحزن:
ـ خصامك صعب قوي يا علياء..
رمقته بنظرة خاصة تنبهه لوجود "أم علي".. فالتفت لها ليصرفها بسرعة.. ويجذب علياء ليجلسها على ركبتيه.. وهو يداعب عنقها ويجري بظهر أصابعه عليه بشغف:
ـ تلبسي حاجة مقفولة.. وكمان كوفيه أو اسكارف.. مفهوم؟..
هزت رأسها رافضة.. يقودها شيطانها لتستفزه.. شيء ما يدفعها لتثير غضبه.. يبدو أنها هرموناتها تتقافز بدون وعي منها.. ولكنه أجاب على استفزازها بطريقة عملية بحتة.. حيث ضمها بقوة ليطبع على عنقها قبلة قوية.. قبلة حب.. قبلة طالت واستمرت وتطورت حين انتقل لشفتيها... وأخيراً رفع رأسه يخبرها بمتعة وهو يداعب جزء من عنقها وقد ظهرت عليه علامة واضحة نتيجة قبلته النهمة:
ـ كده لازم هتغطي رقبتك.. مش بمزاجك على فكرة.. الجمال ده بتاعي وماحدش يمتع عيونه به أبداً.. مفهوم؟؟
ثم ساعدها لتنهض على قدميها وهو يحثها على تبديل ملابسها.. حتى يلحقا بموعد الطبيبة...
وهناك في عيادة الطبيبة وعلى سرير الفحص.. حيث استلقت علياء لإجراء سونار للاطمئنان على الجنين.. ابتسمت الطبيبة ببشاشة وهي تخبر علياء ويزيد:
ـ يا ترى عايزين ولد ولا بنت؟..
سألها يزيد بلهفة:
ـ هو ممكن نعرف دلوقتِ؟..
ضحكت الطبيبة لتخبره بحرفية:
ـ لا.. ممكن كمان شهرين.. بس دلوقتِ ممكن أقولكوا مبروك.. مبروك يا علياء.. أنتِ حامل في توأم..
اتسعت عينا يزيد وهو يبحلق ببلاهة في شاشة المينتور والطبيبة تصف له كيسي الحمل وامتدت يده ليتمسك بكف علياء وهو يرغب بشدة في تقبيلها وتقبيل أولاده بداخلها.. ضم كتفيها بذراعه هامساً:
ـ مبروك يا أم العيال..
************
أتى صباح ذلك اليوم غريباً على زوجين كانا منذ وقت قريب يتقاسما البسمة قبل اللقمة.. حيث تكومت منى على أريكة قديمة وقد التفت بمئزر منزلي ينتمي لحسن.. وكأنها تستدعي حبيبها القديم.. تلتحف به لتستجير به منه.. حسن عاشقها.. حسن من حارب الجميع من أجلها.. ليس هو من حاول أخذها عنوة ليلة أمس.. والليلة التي قبلها.. والتي قبلها..
كانت تستسلم له في كل ليلة حتى لا يتحول حبهما إلى كائن بشع مشوه الهيئة.. سمحت له بمعاملتها بقسوة وهمجية حتى لا تتحول إلى امرأة اغتصبها حبيبها.. ولكن ليلة أمس.. لم تستطع.. فقط عجزت عن احتمال المزيد.. فهي للحظة تاهت عن نفسها.. لحظة أدركت فيها أن منى تضيع.. لحظة واجهت نفسها بأن حسن على وشك الاستسلام.. ليتحول إلى الأسطى حسن.. كما كان يداعبها في بداية عمله.. ليس أن عمله كعامل نقاشة مشين.. أو مسيء.. ولكن اندماجه مع مجموعة عمله الجديدة ومسايرته لهم تشي بأنه سلك طريق الضياع..
المرأة المضحية بداخلها تمردت.. ورفضت مزيد من الاستسلام لقسوته...
تحسست كدماتها بألم وهي تتذكر قوته التي يستخدمها لأول مرة ضدها.. قسوته التي تختبرها للمرة الأولى.. بوهيميته وعنفه.. وهو ينهرها حتى لا تناقشه في سلوكياته.. تغيره الذي بدأ يظهر جلياً.. فلم يعد يلتصق بها كما في بداية زواجهما, بل استهوته جلسات زملائه ممن يدعوهم أصدقائه الجدد واندمج بشدة في سهراتهم وجلساتهم على المقهى.. وتكاد ترتعش عندما يمر بذهنها مكان أكثر بشاعة من مقهى بريء..
صوت جريان الماء أنبأها باستيقاظه.. فمسحت دموعها بسرعة.. وأعدت الإفطار على عجل.. وما أن انتهت حتى وجدته أمامها.. يرمقها بنظرات قلقة.. فآثار عنفه ظاهرة على عنقها وما ظهر من صدرها وساقيها..
رمقته بلوم.. نظراتها تعاتبه.. تلومه.. تجلده.. تسلخه.. أخفض عينيه حتى لا يواجهها.. فهتفت به:
ـ ما تخبيش عينيك عني يا حسن.. بتنزلهم ليه؟.. مكسوف ولا حاسس بالذنب؟..
نفض إحساسه بالذنب سريعاً.. وركبته العصبية التي لازمته مؤخراً وهو يجذبها من ذراعها:
ـ وأنا هتكسف ليه؟.. وليه الذنب من الأساس؟!.. أنتِ ناسية..
قاطعته وهي تجذب ذراعها من قبضته بعنف:
ـ أنك بتاخد حقك.. وإني مراتك ولازم أسمع الكلام.. صح؟..
التفت يوليها ظهره وهو يشعل سيجارته.. فتقافزت الشياطين أمامها لتجذب اللفافة المشتعلة من بين شفتيه بعنف وهي تصرخ:
ـ سجاير قبل الفطار.. ويا ترى دي سيجارة بريئة ولا..
سحب اللفافة المشتعلة من يدها ويده ارتفعت في الهواء لتمنحها صفعة.. شيء آخر جديد عليها لتناله من حبيبها.. نظرتها المذهولة بفزع جمدت يده في الهواء..
ليخفضها ببطء.. ويخفض نظراته معها.. ويهمس وهو يتحرك ليخرج:
ـ أنا هتأخر الليلة.. ما تسهريش تستنيني..
كان جسدها كله ينتفض ومشهد يده المعلقة في الهواء لا يغيب عن ذهنها فوجدت نفسها تصرخ به:
ـ ويا ترى هتسهر فين؟.. في قهوة ولا غرزة وترجع لي مسطول زي الكام يوم اللي فاتوا؟..
لم تتأخر الصفعة تلك المرة ولم يتردد حسن ويده ترتفع لتحط على وجنتها الرقيقة.. رفعت يدها تتحسس وجنتها المكدومة.. ورمقته بنظرة مذبوحة..
لم تذرف دمعة.. وهو لم يتوقف ثانية واحدة ليعتذر.. خرج وكأن الشياطين تصارعه.. وتركها وقد أقسمت أن تسترد زوجها.. حتى لو اضطرت لمحاربته هو شخصياً..
***********
كانت ساقي مازن الطويلتين تقطعان الدرج بسرعة ولهفة حتى وصل إلى عيادة طبيب العظام وإصابات الملاعب الشهير, فاندفع بداخلها يسأل موظفة الاستعلامات:
ـ مدام نيرة غيث؟..
أشارت له إلى غرفة جانبية وهي تخبره بروتينية:
ـ اتفضل حضرتك.. هي منتظرة في الأوضة دي..
دلف إلى الحجرة بسرعة.. ليجد نيرة تجلس على أحد المقاعد وتفرد أمامها ساقها وقد غطت قدمها عدة لفافات بيضاء.. ورأسها مُلقى على مسند المقعد وقد تناثر حولها شعرها بإهمال..
جميلة حتى في لحظات ألمها..
ابتلع ريقه بصعوبة وهو يتوجه نحوها ويسألها بلهفة:
ـ خير يا نيرة؟... حصل إيه؟..
لمعت في عينيها نظرات عتاب رسمت على وجهها علامات الألم ببراعة وهي تناديه بصوت متهدج:
ـ مازن..
اقترب منها ليتمسك بكفها الذي مدته له ويجلس بجوارها.. يشبع عينيه منها.. فهو يتجنب حتى النظر إليها منذ عدة ليالِ.. منذ ترك لها مائدة العشاء غاضباً.. سألها بهمس:
ـ في إيه؟..
ومد يده ليربت على قدمها الملفوفة بالأربطة:
ـ طمنيني.. حصل إيه؟..
سألته بعتاب:
ـ يهمك تعرف؟..
استولى على جانب وجهها بكفه الضخم:
ـ أكيد يهمني.. أنتِ مش عارفة أنا كنت قلقان قد إيه.. ولا كسرت كام إشارة من ساعة ما وصلني التليفون أنك في عيادة الدكتور.. إيه اللي حصل؟..
هزت كتفيها بهدوء وهي تخبره:
ـ الدكتور بيقول شرخ في مشط رجلي..
ـ إيه؟.. وإيه السبب؟؟
ـ كنت بلعب ماتش تنس ورجلي اتلوت ووقعت عليها..
رمق قدمها بتعجب:
ـ طب مش كان المفروض يجبس الرجل لحد الركبة؟..
تلعثمت قليلاً:
ـ آه.. بس هو.. الشرخ بسيط.. وأنا اتحايلت على الدكتور مش عايزة الجبس.. فجبس القدم بس بشرط.. أني ما دوسش عليها نهائي..
عبس مازن بتفكير:
ـ غريبة قوي!!
هتفت بضيق:
ـ هو إيه اللي غريبة!.. يعني أنا كدابة؟.. خلاص.. اتفضل اتأكد من الدكتور بنفسك..
ـ لا خلاص.. ما فيش داعي.. يلا بينا نروح..
رفعت يديها له في طلب صامت لكي يحملها.. فرفعها بين ذراعيه وأحاطت عنقه بذراعيها وهي تخفي وجهها في كتفه وقد ارتسمت على وجهها ابتسامة انتصار واسعة.. فقد نجحت أول خطوة من الخطة


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-18, 04:44 PM   #25

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الثاني والعشرون

أخذ حسن يقلب ألوان الطلاء بقوة في الدلو الكبير حتى يُظهر اللون المطلوب.. كان يضرب الألون بعنف شديد.. يماثل الغضب الذي يموج بداخله.. غضب نمى وتراكم مع الأيام.. غضب على الكل.. ومن الكل..
لا يريد أن يرسم لنفسه دور الضحية المظلوم.. كلا.. إنها اختياراته.. وطريق قرر اتخاذه.. ولا وقت للندم.. أو التراجع..
همسة بداخله ترددت..
"ويا ترى أنت فعلاً ماشي في طريقك صح؟"..
قذف العصا بغضب داخل الدلو الكبير فتناثرت قطرات من الطلاء على ملابسه ووجهه.. مسحها بذراعه بدون اهتمام.. ثم نهض ليخرج علبة السجائر من جيبه ويشعل إحداها.. اتجه نحو أقرب شرفة في المكان مبتعداً عن الفوضى التي أحدثها لينفث دخان سيجارته.. ويخرج معه.. غضبه.. ونقمته وذكريات صباح أحد الأيام الذي تبدل به كل شيء..
كان ذلك بعد عدة أيام من حديثه مع مازن ويزيد.. وبدا أن نصيحة يزيد قد نجحت بالفعل.. وبدأت تلك المسماه ابتسام اظهار بعض إمارات الامتعاض والتقزز كلما حضرت ووجدته يتناول طعامه مع زملائه, طعام شعبي بسيط.. أثار تقززها.. خاصة عندما تناول رشفة طويلة من كوب الشاي الثقيل, وبعدها مسح شفتيه يظاهر يده وهي تحادثه محاولة الوصول إليه.. وبدأ بتنفيذ بعض الأفعال.. التي لمحها من بعض زملائه كلما أتت.. ولم يكن ذلك بالشيء الصعب.. فهو كان قد التقط بعض السلوكيات تلقائياً نتيجة احتكاكه المستمر بهم.. حتى كان صباح ذلك اليوم.. وكانت قد تغيبت عن الحضور لعدة أيام وانقطعت اتصالاتها.. وبدا أن صديق يزيد قد نجح في تحويل اهتمامها عنه.. كان سعيداً وفي غاية الارتياح.. فبرغم تعقل منى وتيقنها من إخلاصه وأن تلك السيدة هي من تطارده, إلا أنها كانت تمر بنوبات غضب وغيرة لم يستطع احتوائها في بعض الأحيان.. وفي ذلك الصباح قرر أن يطلع شقيقه على الأخبار السعيدة.. ويطمئنه عن أحواله.. رمق ساعته التي تشير إلى السابعة والنصف.. فكر في الاتصال بمازن ولكنه تردد في إيقاظه, فجلس ينتظر باقي زملائه.. فمن المفترض أن يبدأوا العمل في السابعة.. ولكن في كل مرة تتحول السابعة لما بعد التاسعة, ولكنه بالرغم من ذلك يحضر يومياً في موعده.. ويجلس لينتظر.. تلك طبيعته.. ولم يستطع تغييرها..
قرر أخيراً الاتصال بشقيقه مجازفاً بإيقاظه.. رن الجرس عدة مرات.. قبل أن يفتح الخط.. ويصله صوت ناعم لامرأة ناعسة:
ـ آلــ..و..
تعجب بشدة ورمق شاشة هاتفه ليتأكد أنه اتصل برقم شقيقه.. حينما وصل إليه الصوت مرة أخرى كان بعيداً ولكنه تمكن من تمييز رنة الفزع به:
ـ آسفة والله يا مازن.. افتكرته بتاعي.. كنت نايمة وما اخدتش بالي...
كانت هناك زمجرة غاضبة.. ميزها على الفور.. أنه مازن.. شقيقه الذي سرعان ما وصله صوته:
ـ حسن.. صباح الخير.. خير؟.. في حاجة!.. أنت كويس؟
جاءه رد حسن بغضب:
ـ أنت فين؟.. ومين اللي ردت عليّ؟.. ده مش صوت مراتك..
تلعثم مازن قليلاً:
ـ حسن.. بص.. مش هينفع على التليفون.. أنا هشرح لك كل حاجة.. بس..
أغلق حسن الهاتف بعنف.. وبداخله ألف سؤال لا يود لهم إجابة.. بركان غضبه ثار فجأة.. بدون أن يجد له سبباً في الواقع.. فماذا يهمه إذا كان شقيقه خائن.. يخون زوجته.. وعائلته؟.. هذا لا يعنيه.. لا يعنيه البتة.. فلما يشعر بطعم الغدر المر يحرق جوفه.. لما؟.....
مرت فترة بسيطة.. حرق بها علبة سجائر كاملة.. ليجد مازن أمامه.. على وجهه ترتسم ملامح مبهمة.. وما أثار غيظ حسن أن الذنب لم يكن منها.. بادره مازن على الفور:
ـ حسن.. اسمعني.. دنيا مش ما زي أنت فاهم..
ردد حسن بتساؤل:
ـ دنيا!!.. اسمها دنيا؟..
زفر مازن بحرقة:
ـ حسن.. دنيا.. أنا أعرفها من زمان.. علاقتنا مش زي ما أنت فاهم..
رمقه حسن باحتقار.. واتجه إلى أحد دلاء الطلاء ليفتحه.. وبدأ الاعداد لعمله.. حين تردد صوت مازن يفسر بتردد:
ـ حسن.. دنيا في حياتي من قبل نيرة بكتير.. دنيا هي الحاجة الحلوة اللي مرت في حياتي.. شعور واحساس مختلف عن نيرة.. دنيا تبقى..
لم يكمل جملته فقد ألقى حسن بمحتويات دلو الطلاء نحوه هاتفاً بغضب:
ـ امشي من وشي يا مازن..
مد مازن يده في توسل ولكن حسن صرخ مرة أخرى:
ـ برررره..
خرج مازن بسرعة محاولاً تنظيف ملابسه على قدر الإمكان.. بينما تفجرت نار حارقة بأعماق حسن... نار عجز عن اخمادها.. نار لم يعرف لها سبباً.. ولم يهتم بالبحث.. فقط.. أراد الهروب.. الهروب من كل شيء.. فلم يستطع تحمل ما يرسمه له شيطانه, فاستجاب لشيطان آخر.. فحين عرض عليه الاسطى سُمعه.. إحدى سجائره.. قبلها بترحيب.. كأنه يريد الغوص بها بعيداً عن الواقع.. ومنذ ذلك اليوم وهو يتعمد تغيييب نفسه.. وكأنه امتهن الهروب بجانب النقاشة...
زفر بغضب.. متى ينتهي من تلك الدائرة؟.. متى يهرب من تلك الذكريات؟..
**********
وضع مازن نيرة على فراشها بحرص.. وهي ترسم ببراعة ملامح متألمة على وجهها.. أراح ظهرها على وسادة عريضة.. وعدل من وضعها لتكون أكثر ارتياحاً.. ثم رفع قدمها المضمدة على وسادة صغيرة برقة شديدة تعجبت منها للغاية.. وأخيراً جلس بجوارها يطوقها بذراعه وهو يسألها بحنان:
ـ هيه.. كده أحسن؟..
ألقت برأسها على كتفه.. ومدت يدها لتمسك بكفه بين أناملها وهي تسأله بدلال:
ـ أنت قلقت علي بجد!
تركها تعبث بأنامله.. بينما حرك ذراعه ليحيط خصرها ويقربها منه.. طابعاً قبلة خفيفة على جبينها:
ـ وده سؤال برضوه!!.. التليفون جاني وما وضحش في أيه.. أنا على ما وصلت كانت أعصابي اتدمرت..
لفت رأسها فسقطت شفتيها على عنقه.. لتطبع قبلة شقية عليها وتلاحظ تأثيرها عليه بسهولة حيث ازدادت وتيرة تنفسه وبرزت حنجرته بشدة..
بسمة خبيثة ارتسمت على شفتيها.. وهي تتوعده بداخلها.. هو يريد قلبها مستسلماً.. وهي تريده خاضعاً بالكامل.. وسلاحها أنوثتها.. حتى لو بدا ذلك ابتذال.. لا يهمها.. هو زوجها.. وهي تريده..
حركت رأسها فجأة.. وهي تمرر يدها بين خصلات شعرها وتنفضه قليلاً ليداعب وجه مازن بعبث.. جعله يلهث قليلاً وابتسمت هي بسعادة هاتفة بشقاوة:
ـ مازن.. ممكن تساعدني أغير هدومي..
اعتدل في جلسته وهو يرمقها ببلاهة وهي ترفع خصلات شعرها لأعلى وتوليه ظهرها.. لم يفهم.. ماذا تريد؟.. هل تريده أن يخلع عنها ملابسها؟..
جاءه صوتها تتذمر بدلال:
ـ ماااازن.. افتح السوستة.. عايزة أغير هدومي..
نظرة سريعة لوجهها في المرآة.. وأدرك أنها تتلاعب..
ابتسامة ساحرة ارتسمت على وجهه.. وهو يجمع شعرها من يدها ليبعده على أحد كتفيها.. وينفذ طلبها ببطء وأنامله تلامس ظهرها باستمتاع جعل ابتسامته تتسع وتتسع.. وهو يهبط بشفتيه يستبدلها بأنامله فشعر بها ترتجف تأثراً.. وتحركت مبتعدة عنه بسرعة وهي تهتف ووجنتيها تشتعلان:
ـ خلاص كفاية.. أنا هتصرف.. هات لي أي حاجة ألبسها..
تحرك ببطء نحو خزانة ملابسها وعيناه لا ترحماها.. سحب فستان طويل, رماه بين يديها.. واقترب ليهمس بجوار أذنها:
ـ خسارة.. كان نفسي أكمل..
شهقت بذهول واشتعل وجهها بأكمله.. ثم سمعته يكمل بشقاوة:
ـ وأقفلك السوستة..
طبع قبلة خفيفة على وجنتها وخرج من غرفتها وهو يطلق صفيراً طويلاً.. بينما هي كانت تراقبه مذهولة.. لقد خرج!.. تركها وخرج!!..
تكاد تقسم أنه تأثر بها.. مثلما فعلت هي تماماً.. ولكنه.. ابتعد..
ضغطت على أسنانها بغيظ حتى كادت أن تطحنهما.. لقد فشلت.. فشلت في التأثير عليه.. غمغمت في تصميم..
"ماشي يا مازن.. الجولة دي لك.. لكن الجاية هتكون لي.. وهتكون الأخيرة"..
وبالفعل.. لم تتراجع.. ولم تتنازل.. والتزمت فراشها.. تدعي عدم قدرتها على الحركة..
وفي المساء.. عندما دخل إلى حجرتها حتى يتناولا العشاء في حجرتها بناءً على طلبه.. وجدها جالسة على مقعدها أمام المرآة وقد ارتدت أكثر ملابسها احتشاماً.. ثوباً طويلاً يصل لما بعد كاحليها.. وله كمين طويلين يلتصقان بذراعيها.. ثم يتسعان عند المرفقين.. فيكشفان عن بشرة ذراعيها الناعمة كلما رفعتهما وهي تحاول تمشيط خصلاتها الطويلة.. وباقي الثوب كان مقفلاً تماماً عند الصدر والعنق.. أما لونه!!.. بالطبع.. أحمر..
ابتسم باعجاب.. لقد خالفت ظنه وغيرت قواعد اللعبة.. فقط لو يستطيع التأكد من إصابة قدمها..
تحرك بخفة ليقف خلفها وانحنى ببطء وذراعيه تلامسان ذراعيها يحتويهما برقة حتى لامس وجنتها ليطبع عليها قبلة عميقة وهو يهمس:
ـ امممم.. البرفيوم بتاعك يجنن..
أربكها.. للمرة الثانية يربكها.. ويسحب منها المبادرة.. لم تعرف بم تجبه.. ابتلعت ريقها بصعوبة وحاولت رفع ذراعيها لتكمل تمشيط شعرها.. ولكنه سحب منها الفرشة وبعثر خصلاتها بيديه.. ثم رفعها بين ذراعيه.. وهو يهس في أذنها:
ـ أنا بحب شعرك كده.. حر..
دفن رأسه بخصلاتها وهو يتشممها بشغف:
ـ رااائع..
لفت ذراعيها حول عنقه تتمسك به بقوة حتى لا تسقط من بين ذراعيه.. فلم تكن مستعدة لذلك الهجوم الحسي على مشاعرها.. ظنت لوهلة أنه سيحملها لفراشها.. خاصة وقد أخذ شفتيها في قبلة طويلة.. ولكنه أحبط أحلامها عندما أجلسها على مقعدها برقة بالغة وتحرك ليتخذ مكانه أمامها قائلاً:
ـ أنا طلبت منهم يعملوا كل الأكل اللي بتحبيه..
نظرت إليه بغيظ.. وكادت أن تنسى إصابتها المزعومة وتقفز على قدميها لتصرخ بوجهه.. ولكن بقايا من التعقل منعتها.. فجلست تتناول طعامها بصمت.. خيم عليهما الصمت لفترة.. ثم برقت عيناها ببريق ماكر قبل أن ترفع شوكتها نحوه هامسة:
ـ دوق كده من ايدي..
أمسك يدها وهي تضع الشوكة في فمه ليلتقطها بخفة.. ولم يترك يدها من يده بل همس في خبث:
ـ بس ده من الشوكة.. مش من ايدك!!..
رفعت حاجبها بتحدي.. وطالبته برقة:
ـ أكيد.. بس الدور عليك أنت بقى تأكلني..
ارتفعت ضحكاته عالية.. مما دفع ابتسامة إلى وجهها.. سرعان ما اختفت وهو يعود بيدها الممسكة بالشوكة ليضعها في فمها هي.. وهو يسأل بشقاوة:
ـ حلو كده..
امتدت السهرة بهما وهما يتبادلان الغزل ممزوج بوعود مبهمة.. وجاء الخدم ليرفعوا الطعام.. بعدها سألته نيرة:
ـ تحب نشغل أي موسيقى..
قاطعها قائلاً بعجلة:
ـ لا.. أنا خلاص.. اتعقدت من الأغاني.. بكل أنواعها..
ـ طيب.. ممكن تشيلني تواديني السرير؟..
رفع حاجبه بتساؤل:
ـ أومال اتحركتِ ازاي قبل اما أوصل؟..
رسمت معالم الإرهاق على وجهها وهي تخبره بألم:
ـ آه يا مازن.. اتحركت على رجل واحدة.... صعب قوي..
أرخت أهدابها لتخفي نظرات عينيها:
ـ ممكن بقى تساعدني..
حملها برفق وهو يضمها بقوة لصدره.. مستمتعاً بقربها الشديد منه.. وهي لم ترحمه, وهي تداعب خصلاته القصيرة بأناملها الرقيقة وتحرك وجهها على صدره ببطء هامسة:
ـ ياه يا مازن.. أنا مجهدة قوي.. عايزة أنام..
هتف بعجب:
ـ تنامي!!..
ـ آه هنام.. مجهدة بقولك!
تحرك بعنف ليضعها على فراشها.. لم يكن مراعياً لها.. بل شعرت بأنه يود لو يقذف بها فوق الفراش.. وسرعان ما نفذ هدفه فقذف بثوب نومها ليسقط أمام وجهها.. وهو يخبرها بغضب مكبوت:
ـ عايزة أي مساعدة تاني!..
هزت رأسها ببراءة واهتزت معها خصلاتها كما يعشقها.. وهمست:
ـ تصبح على خير..
خرج من حجرتها بسرعة.. ولكن بخلاف المرة السابقة كانت هي منتشية بانتصارها.. وهو يزفر غضباً..
استمر الحال بينهما على تلك الطريقة.. بين مد وجزر.. فكانت نيرة تتقدم نحوه خطوة لتعود خطوتين إلى الخلف.. وهو لم يترك فرصة لمشاكستها إلا وانتهزها.. ففي صباح أحد الأيام أيقظها بقبلة نهمة على شفتيها.. كان شغوفاً برقة.. والتفت ذراعاه حولها يضمها بقوة.. ويديه تتحرك بلا هوادة على جسدها.. حتى ظنت للحظة أنه سيندس بجوارها ليفعل زواجهما, ولكنه فاجأها كعادته بأن رفعها قليلاً وعبث بيديه بخصلاتها وهمس أمام شفتيها:
ـ صباح الخير..
برقت عيناها بشدة وهمست بدورها:
ـ صباح النور..
اعتدل في جلسته.. وأجلسها معه بحيث ظهرها قابل صدره وجدته يهتف بشقاوة:
ـ تصدقي أنا نفسي أمشط شعرك..
وأقرن قوله بالفعل.. فشعرت بأنامله تتخلل خصلاتها.. بعدها بدأ يمشط شعرها ببطء.. على الأقل هذا ما بدا.. ولكن ما حدث كان.. عذاب.. عذاب خالص.. فقد أشعل جميع حواسها.. بلمساته.. فمشط شعرها بيد.. وامتدت الأخرى لتتحرك ببطء.. من ذراعيها.. لكتفيها... وداعبت أنامله رقة ترقوتها لترتفع لعنقها بعبث جعلها غير قادرة على الصمود لمدة أطول.. وسرعان ما شعرت بشفتيه تمسحان عنقها برقة وسمعت همسه بجوار أذنها:
ـ أنا رايح الشغل.. عايزة حاجة؟.. أشيلك للحمام؟..
لم تصدر منها سوى هزة خفيفة من رأسها.. فقبلها على شعرها وخرج من غرفتها مغلقاً الباب خلفه بهدوء.. بينما هي أمسكت فرشاة شعرها لتلقيها نحو الباب بغضب.. وهي تتوعده.. لن تمررها له.. كلا.. لن تعلن الاستسلام..
وبالفعل نفذت انتقامها في صباح اليوم التالي.. فانتظرت موعد مروره الصباحي.. وكانت تعلم أنه سيكون متعجلاً ذلك الصباح لارتباطه باجتماع مجلس إدارة, أخبرها عنه الليلة الماضية.. فأعدت نفسها على عجل.. وارتدت أقصر ما تملكه من ثياب.. ثوب نوم حريري وردي اللون يتعلق على كتفيها بحمالتين رفيعتين.. ويلتصق بصدرها ليبرز امتلائه الخفيف ثم يتهدل على جسدها.. ليصل لبداية وركيها.. ورمت بجسدها جوار خزانتها.. حيث ثنت إحدى ساقيها.. وتركت الأخرى ذات الأربطة ممتدة أمامها.. وهزت رأسها بعنف.. فتبعثرت خصلاتها.. واحتقن وجهها.. وما أن شعرت بدخوله الغرفة حتى عصرت عينيها فترقرقت بالدموع وهي تلتقي بعينيه وترفع يدها نحوه هامسة بصوت ضعيف يحمل بحة محببة:
ـ مازن.. الحقني!!.. أنا وقعت!..
وقف أمامها وقد تجمد تماماً.. صعقه مظهرها الساحق.. كانت صورة صارخة للجمال بكل مقاييسه.. أيقونة للفتنة والاغواء.. بشرتها التي ظهرت أمامه.. تقريباً بأكملها.. لم تكن بيضاء شفافة كعادة الصهباوات.. لم تمتلك خيط نمش واحد كالمعتاد مع الحمراوات.. بل كانت بشرة وردية لامعة.. ولم يحتج للمسها ليدرك أنها تماثل الأطفال نعومة.. وكانت ترتدي ثوباً وردياً كاد أن يختفي لونه بين وردية بشرتها..
من قال أن الصهباوات لا يرتدين الوردي؟!!.. هو أبله بالتأكيد.. فالصهباء أمامه لا يجب أن ترتدي إلا الوردي.. وهو بخلاف الرجال عاشق لكل ما هو وردي.. وخاصة بشرتها الناعمة
أفاق على صوت بكائها:
ـ مازن.. مش هتساعدني!!..
تحرك ببطء محاولاً السيطرة على جسده.. وهو يدرك عبث المحاولة.. ولكن خيط بسيط من العقل أخبره أن فقدان السيطرة الآن ليس في صالحه.. ولا صالحها.. لا يضمن نفسه.. لا يضمنها على الاطلاق سيؤذيها.. بالتأكيد سيفعل..
وصل إليها وحملها بصمت.. حرص بشدة ألا يلامسها إلا للضرورة.. وضعها على فراشها برقة وابتعد سريعاً قبل أن تتمسك بعنقه.. كما كانت تنوي.. ولمع الغيظ بعيونها.. وأدرك هو لعبتها بسهولة.. ولكنه مازال متأثراً.. ثائراً.. وأيضاً غاضباً.. وظهر ذلك في صوته وهو يخرج أجش بنبرة غامضة:
ـ ايه آخرة اللعبة دي يا نيرة؟.. امتى هتفهمي أننا مش في حرب رابح ومهزوم؟..
رفعت رأسها له بغضب فبرقت عيناها الشبيهتين بعيون القطط.. وارتدت خصلاتها للخلف.. وظهر جمال عنقها وهي تتنفس بسرعة وتهتف:
ـ امتى أنت هتسامحني؟.. امتى هترضى؟..
مسح وجهه بكفيه وهو يزفر بيأس.. وقبل أن يتفوه بكلمة.. كان هاتفه يصدر رنين مزعج.. أجاب بتوتر.. فكان المتحدث والده يستعجل حضوره إلى الاجتماع..
اعتذر منها بغمغمة مبهمة وخرج سريعاً هارباً منها.. ومن غضبها.. وسؤالها.. بالفعل.. متى يرضى؟..
كان السؤال مازال يشغل باله طوال الاجتماع.. وغاب ذهنه تماماً عما دار به.. كما غابت باقي أحداث اليوم..
ضياع.. ذلك ما شعر به.. أنه بحاجة للراحة.. للهدوء.. لدنيا...
ودنيا جالسة أمامه الآن بغرفة مكتبه في شقتهما.. حيث افترشت بأوراقها أرض الغرفة.. ورفعت شعرها بعشوائية فوق رأسها حيث غرزت به أحد أقلامها.. ووضعت آخر بين شفتيها وهي تزمهما بفتنة محاولة حل معضلة تصميم ما ملقى أمامها بأحد الأوراق.. كانت غائبة تماماً عن الواقع حولها..
تكاد لا تشعر بوجوده حولها وهي غارقة وسط تصاميمها.. وهو جالساً خلف مكتبه يراقبها بصمت.. صمت خيم عليهما في الأيام السابقة.. بالتحديد بعدما أجابت على هاتفه عن طريق الخطأ.. وبعدها تدهورت علاقته بحسن تماماً.. وحملها هي الذنب.. رغم اعتذارها أكثر من مرة على خطأها الغير متعمد.. ولكنه كان في حالة من الغضب لم تسمح له بالغفران.. ومن جهة أخرى نيرة تضغط عليه بكل ما تملك من قوة اغراء وتأثير.. فشعر بأنه كحبة قمح بين شقيّ الرحى.. كم يحتاج إلى الراحة.. إلى النسيان.. والهروب..
التقط من طبق الفاكهة أمامه حبة كرز وألقاها نحو دنيا التي رفعت عينيها نحوه بغضب.. فسألها ببراءة زائفة:
ـ ايه.. جت فيكي؟..
اعتدلت في جلستها وهي تسأله:
ـ عايز ايه يا مازن؟..
أجابها بشغف:
ـ عسل..
رفعت حاجبها بغيظ:
ـ والله!!..
ضحك بتوتر:
ـ والله..
تأملته لوهلة.. تريد الاستجابة له.. ولكن شيء يمنعها.. تشعر تلك المرة بخطأ ما:
ـ جبرنا..
ضحك تلك المرة بخبث:
ـ طيب.. رقصة..
تأملته بحيرة ورددت:
ـ رقصة!!..
هز رأسه موافقاً.. فأجابته بغيظ:
ـ بعد كل التجاهل ده.. والغضب.. والخصام.. تيجي.. تاكل وتنام.. وكأنك قاعد في أوتيل.. كام مرة حاولت أعتذر.. وأنت مش راضي تسمع.. ودلوقتِ عشان...
قطعت كلماتها.. وهزت رأسها بحسم:
ـ عندي شغل كتير.. التصاميم دي لازم تكون في الورشة بكره الصبح..
اقترب منها ونزل على ركبة واحدة أمامها.. رفع ذقنها التي ترتعش غضباً وحزناً بأنامله:
ـ أنا آسف يا دنيا.. ما تزعليش.. اعذريني.. واستحمليني.. ما فيش حد بيفهمني ويستحملني غيرك..
رفعت له عينيها ودموعها تلتمع بهما.. فهبط برأسه ليتناول شفتيها برقة.. معتذراً هامساً:
ـ سامحيني بقى..
أنزلت رأسها بصمت.. ولم ترد.. فعاد يرفعه لها هامساً:
ـ لو عايزاني استنى هنا الليلة, هستنى معاكِ.. علشانك أنتِ..
هزت رأسها بحسم وتصميم:
ـ لا يا مازن.. مش الليلة.. مش هينفع..
نهض واقفاً على قدميه.. وقبل أن يخرج نادته:
ـ مازن..
التفت إليها وقد ظن أنها غيرت رأيها.. ولكنه وجدها تخبره ناصحة:
ـ اطلب من يزيد يتدخل بينك وبين حسن.. انتوا التلاتة كنتوا قريبين.. وهو أكتر واحد ممكن يأثر عليه..
أومأ برأسه موافقاً.. وهو يخبرها:
ـ ده اللي عملته فعلاً.. يزيد هيقابله الليلة.. تصبحي على الخير..
توجه إلى منزله وقد غمره إرهاق قوي.. لم يمر على غرفة نيرة.. فهو لا يمتلك طاقة لمزيد من المشاكسة معها.. كل ما يحلم به هو حمام دافئ يغمر به نفسه ويغيب به عقله..
توقف أمام غرفته وقد لفت نظره ضوء شاحب يظهر من تحت بابها.. امتدت يده ببطء ليفتحه.. ليجد عدد لانهائي من الشموع العطرية.. متناثرة بروعة في أنحاء الغرفة وقد ربط بين كل شمعة وأخرى مجموعة من أوراق الجوري الحمراء.. لاحظ أن الشموع يزداد تجمعها في منطقة معينة.. ويمتد أمامها مجموعة من الورود على شكل سهم.. رأسه يشير إلى.. إلى.. نيرة.. وقد لفت نفسها تماماً بورق هدايا لامع.. ربطته حول عنقها بشريط أحمر كبير.. والتف الشريط ليكون عقدة كبيرة على شكل فراشة فوق رأسها..
تجمد مازن تماماً.. بل صعق متجمداً.. لم يجرؤ حتى على اخراج كلمة من بين شفتيه خوفاً من اختفاء ما يرى..
التقطت عيناها نظراته الحائرة تحتويها برقة ظهرت في ابتسامتها المشجعة وملامحها الراغبة..
أشار بيده يتساءل عن هدفها.. فهزت كتفيها باستسلام:
ـ ما فيش حرب.. ما فيش مهزوم..
تأملها متردداً.. فعادت تهمس بنعومة:
ـ أنا جاية أصالحك اهوه.. مش هتفتح هديتك؟..
سأل بحيرة وهو يقترب منها:
ـ هدية!!..
أشارت له بعينيها.. ففهم أنها تقصد الشريط الأحمر حولها.. فاقترب منها أكثر وهو يهمس:
ـ ما فيش لعب؟.. ما فيش تحدي؟..
هزت رأسها بشقاوة وهي تزم شفتيها وقد طلتهما بلون وردي لامع.. وبدأت خصلاتها تفلت من الشريط الأحمر.. وهمست بإغواء:
ـ الهدية..
سحب الشريط الأحمر بسرعة ولهفة.. فانسدل شعرها ليغطي وجهها وظهرها.. وظهرت من تحت خصلاتها بشرتها الوردية وقد غطتها مجموعة متشابكة من الخيوط.. تشكل أصغر ثوب للنوم رآه في حياته..
جذبها نحوه بعنف.. ولكنها راوغته.. وهي تتجه إلى مشغل الإسطوانات.. وسرعان ما علت نغمات إحدى مقطوعات عمر خيرت.. وكانت موسيقاها كفيلة بإغراء الأحجار بالرقص..
اتجهت نيرة نحوه مرة أخرى بخطوات راقصة مدروسة.. اقتربت منه لتخلع عنه سترة بذلته ورابطة عنقه وتلقي بها بعيداً..
لمها بين ذراعيه ولكنها تمايلت على أنغام الموسيقى هامسة له بإغواء:
ـ ترقص معايا!..
انضم لها مازن.. واستمرت رقصتها بين ذراعيه لعدة دقائق قبل أن يقرر أنه اكتفى ويحملها إلى فراشه.. وجسده بأكمله ينتفض تأثراً بها.. وتوقاً إليها..
وبرقت عيناها انتصاراً.. وعقلها يردد في خفوت قبل أن يستسلم للمتعة بين ذراعيه..
"الاستسلام أحياناً.. لا يعني هزيمة.. بل قد يكون مقدمة لانتصار.."
************
رمى حسن جسده بإرهاق على الأريكة الكبيرة خارج شقته الصغيرة.. وألقى رأسه للخلف وهو يمسد جسر أنفه بإصبعيه السبابة والإبهام.. محاولاً إبعاد الصداع المؤلم عن رأسه.. ولكن بلا فائدة.. فألم رأسه نابع من التفكير.. تفكير مستمر لا ينقطع.. تزعجه أفكاره.. بل تقلقه.. فيهرب بها كل ليلة في دخان أزرق يعمي بصره وبصيرته.. ولكن الليلة مختلفة.. الليلة سحبه يزيد عنوة من وسط عمله.. ولم يسمح له بالبقاء مع أصدقاء الليالي السابقة..
ذهبا معاً إلى شقة يزيد.. الذي اصطحبه إلى شرفة واسعة معتذراً بحرج:
ـ معلش بقى يا أبو علي.. مش هينفع نسهر في أي مكان..
سخر حسن منه بفظاظة:
ـ ايه.. بتخاف من المدام!
هز يزيد رأسه مصححاً:
ـ بخاف عليها.. مش منها..
ثم استطرد متخابثاً:
ـ يظهر أننا هنبدل الأدوار..
رفع حسن رأسه بعنف.. وفي ذهنه تمر مشاهد له مع منى وهو يسيء لها مرة بعد أخرى وهتف بغضب:
ـ قصدك ايه؟..
وقبل أن يجبه يزيد وصلت "أم علي".. بصينية عليها عدة مشروبات باردة.. وتوجهت نحو يزيد متسائلة بوجه متجهم:
ـ أجهز العشا يا بيه؟..
كبت يزيد ابتسامة كادت أن تظهر على وجهه, فــ"أم علي".. بدلت معاملتها وتدليلها له فور أن علمت بوجود زوجة أخرى في حياته.. فأصبحت تعامله ببرود وجفاء شديد.. وإن ظن يوماً أن نيرة هي حماته.. فإن "أم علي".. قد يطلق عليها بجدارة.."عمله الأسود".. فهي لا تترك فرصة لتأنيبه وتقريعه إلا وانتهزتها.. بينما التزمت علياء الصمت كما اعتاد منها مؤخراً.. ولكنها لم تمانع مكوثه في حجرتها.. وهو أيضاً عجز عن الابتعاد..
ـ يـــا بيه.. أنت يا بيه.. أجهز عشا؟..
انتبه يزيد على صوت "أم علي" الأشبه بالصراخ.. وغمغم في نفسه..
"أنت يا بيه؟!.. ماشي"..
ـ لا يا ست أم علي.. حسن بيه متعود يتعشى مع المدام بتاعته..
ردت بصفاقة:
ـ وهو برضوه متجوز اتنين؟.. ولا زي مخاليق ربنا.. رضي بواحدة!
كاد حسن أن ينفجر ضحكاً من تلك السيدة التي تؤنب يزيد وكأنه طالب مشاغب.. وسمع يزيد يرد عليها:
ـ لا.. هو زي باقي مخاليق ربنا..
انطلقت "أم علي" تغرق حسن بدعواتها:
ـ ربنا يكرمك يا بني ويفتحها في وشك.. ويوسع رزقك.. و..
قاطعها يزيد:
ـ ادخلي كملي دعواتك له جوه.. وسيبينا نقول الكلمتين..
التفتت له "أم علي" بحنق:
ـ وأنت يا بيه هتبات هنا ولا في البيت التاني؟..
هتف بغيظ:
ـ وأنتِ يخصك ايه؟.. إذا كانت علياء ما بتسألش..
أخذت السيدة تغمغم بحنق:
ـ تسأل على ايه يا كبدي.. وأنت جايب لها الكتمة والسكات.. وأنا اللي كنت بقولها راضي جوزك.. وصالحيه.. أتاري قلبها مكسور يا حبة عيني و..
قاطعها يزيد بنزق:
ـ أنتِ بتقولي ايه؟.. سمعيني كده..
زمت شفتيها بحركة غاضبة:
ـ ولا حاجة.. هقول ايه؟.. بالإذن..
وتركتهما وهي تغمغم متحسرة على حظ علياء الذي أوقعها في وغد.. يهوى الزواج.. بينما انطلق حسن ضاحكاً بقوة حتى دمعت عيناه:
ـ يا نهار.. الست دي نمرة.. بس أنت ايه اللي مسكتك عليها؟..
رفع يزيد حاجبه وهو يخبره بغيظ:
ـ علياء بتحبها..
أومأ حسن بتفهم.. وانحسرت الضحكة عن وجهه وكلمة يزيد ترن في أذنيه "هنبدل الأدوار"..
ربت يزيد على كتفه بمودة ودعاه للجلوس:
ـ اقعد يا حسن.. عايزين نتفاهم..
ـ على ايه؟.
ـ اقعد بس وبلاش عِند..
جلس حسن بصمت وتناول أحد المشروبات الباردة وتجرعه مرة واحدة وامتدت يده ليمسح بها فمه كما اعتاد مؤخراً.. ورمق يزيد بتحدي أن يعترض.. ولكن يزيد بادره بالأهم:
ـ في ايه بينك وبين مازن؟..
ارتفعت رأس حسن بغضب وهب واقفاً:
ـ شيء ما يخصكش..
ـ لأ.. يخصني.. واقعد كده واستهدى بالله خلينا نعرف نتكلم..
جلس حسن مرغماً.. وسمع يزيد يخبره بتوتر:
ـ مازن.. حكى لي على اللي حصل..
قاطعه حسن بسخرية:
ـ قالك ايه؟.. أنه بيخون مراته وجوازهم ما مرش عليه شهر.. وأن..
أكمل له يزيد:
ـ أن دنيا في حياة مازن قبل نيرة.. أيوه.. عارف..
ارتد حسن في مقعده بتعجب وهو يهتف:
ـ وأنت ايه!.. عادي.. موافقه على اللي بيعمله؟..
سكت يزيد لبرهة وكأنه يفكر في كلماته قبل أن يقول:
ـ بص يا حسن.. دنيا.. نيرة.. مكان كل واحدة فيهم في حياة مازن شيء يخصه لوحده.. ما يخصش حد فينا.. لا أنا ولا أنت.. السؤال بقى.. ليه أنت زعلان من أخوك ومقاطعه؟..
انتفض حسن هاتفاً بغضب وهو يهب واقفاً على قدميه:
ـ ليه؟.. بتسألني ليه؟... بعد كل اللي حصل؟.. واللي عمله ليلة الحفلة؟.. وأنا اللي كنت فاهم أنه بيعمل كده عشان بيحب نيرة.. واتحملت..
قاطعه يزيد وهو يقف بدوره:
ـ اتحملت ايه يا حسن؟.. مش كل اللي أنت عملته كان عشان ترتبط بالإنسانة الوحيدة اللي حبيتها.. ولا أنا غلطان؟.. يفرق معاك في ايه إذا كان مازن بيحب نيرة أو لأ؟..
هتف حسن:
ـ تفرق.. تفرق.. تفرق في..
سكت حسن ولم يستطع اخراج أفكاره السوداء في كلمات.. فربت يزيد على كتفه بعطف وهو يكمل:
ـ تفرق أن مازن حقق كل اللي هو عايزه من غير ما يخسر حاجة, وأنت خسرت كل حاجة؟.. ده قصدك؟..
تهالك حسن على أقرب مقعد وهو يهز رأسه رافضاً بينما يزيد يكمل:
ـ بص يا حسن.. حياة مازن الشخصية كتاب مقفول.. ما فيش حد يقدر يعرف جواه ايه.. كل اللي اقدر اقولهولك وبمنتهى الأمانة.. أن ما فيش حد فيكوا كسب كل حاجة.. وبرضوه ما فيش حد خسر كل حاجة.. وعلى فكرة.. دينا تبقى مرات مازن.. أخوك لا بيُعك.. ولا هو من النوع ده..
كرر حسن بذهول:
ـ مراته؟.. مراته ازاي؟.. و..
قاطعه يزيد ثانية:
ـ شيء ما يخصش حد فينا.. اللي يهمني سؤال واحد.. أنت فعلاً بتعتقد أن مازن خطط ودبر عشان يستولى هو على الشركة؟..
رفع حسن عينيه بصدمة وقد واجهه يزيد بأسوأ أفكاره وأقسى شياطينه.. فأكمل يزيد وعلى شفتيه ابتسامة خفيفة:
ـ مصدوم ليه؟.. مش هي دي الأفكار اللي قلبت كيانك.. وبعدتك عن أخوك؟..
نهض حسن بعنف منهياً الحوار ومتحدياً يزيد أن يوقفه وتوجه نحو باب الشرفة.. ثم التفت إلى يزيد هاتفاً بخشونة:
ـ أنا عايز أمشي.. تصبح على خير..
ربت يزيد على كتفه وهو يصطحبه لباب الشقة مدركاً أنه يحتاج للانفراد بنفسه وترتيب أفكاره.. ولكنه أضاف قبل أن يودعه:
ـ أنت من جواك عارف الاجابة يا حسن.. ما تسيبش نفسك لشيطان غبي.. هيخسرك كل حاجة..
تبادلا النظرات لعدة ثوانٍ قبل أن يخفض حسن بصره.. فسأله يزيد بمودة:
ـ تحب أوصلك؟.. الوقت اتأخر..
هتف حسن بفظاظة:
ـ توصلني!.. شايفني نوغه قدامك.. ادخل لمراتك ولا هتنام في البيت التاني!
دفعه يزيد بمداعبة مغتاظة:
ـ طيب.. مع السلامة ياللي مش نوغه.. أصل الحكاية ناقصاك.. مش كفاية علي عملي الأسود اللي جوه..
رفع حسن يده محيياً وانطلق في طريقه.. وفي رأسه تتصارع الأفكار.. وسؤال يزيد اللائم يتردد بقوة..
"أنت فعلاً بتعتقد أن مازن خطط ودبر عشان يستولى هو على الشركة؟"..
وبداخله يتردد سؤال أقوى..
"أنا ازاي فكرت في كده؟.. ولا ده بداية ندم على قرارات أنا أخدتها ودلوقت عايز أحمل أي حد عواقبها؟"..
وسؤال آخر أكثر ازعاجاً.. وأكثر إيلاماً..
"هل يستحق الحب كل تلك التضحية دي؟.. هل تستحق منى؟.. هل........
وأخيراً سقط نائماً هرباً من كل أفكاره وشياطينه.. ليوقظه صوت منى القلق:
ـ حسن!!.. حسن!!!.. حسن.. رد علي الله يخليك أنت كويس؟..
اقتربت منه تجلس على ركبتيها ويدها تملس على شعره بحنان وقلق خالص ينطق به صوتها.. وحب خام يصرخ بعينيها مع هتافها:
ـ حــــســــن.. رد..
وضاعت باقي كلماتها بين شفتيه.. وهو يأخذها بقوة.. بعنف.. بيأس.. باحتياج.. بل.. اجتياح..


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-18, 05:01 PM   #26

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الثالث والعشرون


اتكأت منى بمرفقها على الوسادة تتأمل وجه حسن النائم بجوارها.. ملامحه هادئة ومرتخية وقد اختفت معالم الشراسة التي اكتسبها مؤخراً..
تهوى كثيراً مراقبته أثناء نومه, وهو ما لم تعد تفعله كثراً في الآونة الأخيرة بسبب صعوبة ساعات عمله.. عمله الذي توقف عن الذهاب إليه منذ تلك الليلة التي وجدته بها نائماً على الأريكة خارج شقتهما الصغيرة.. ومنذ تلك اللحظة وهو يتشبث بها.. يلتصق بها كما يلتصق الطفل بأمه, وكأنه يخشى أنه بابتعاده عنها سيستدعي حسن الآخر.. ذاك الذي دأب على الإساءة لها.. وجرحها مؤخراً..
مرت بأناملها برقة على ملامحه.. مسترخية.. نعم.. ولكنها مجهدة.. وكأن ذهنه لا يتوقف عن التفكير حتى أثناء نومه.. فقط لو تستطيع الدخول إلى عقله لتريحه من الدوامة التي تسحبه من الحياة.. دوامة يصارع للهروب منها.. بإغراق نفسه بين أحضانها هي.. ليس بحثاً عن متعة, ولكن عن أمان.. كما لو كان يبحث بها عن هويته.. عن حسن الذي كانه مرة وأصبح عاجزاً عن استعادته إلا بين ذراعيها...
شعر حسن بحركة أناملها البطيئة على وجهه ففتح عينيه ومد يده ليمسك بأناملها الرفيعة وابتسم لها, فأخفضت عينيها خجلاً وبادرته:
ـ صباح الخير..
ضغط يدها على شفتيه ليطبع قبلة داخل كفها ويردد:
ـ صباح الخير على عيونك الحلوة..
ابتسمت لرده الغير مألوف.. وقبل أن تجبه جذبها بين ذراعيه لتتوسد رأسها كتفه ومد يده ليرفع يدها أمام عينيه وهو يهمس بتعجب:
ـ أنا ما جبتش ليكي شبكة!.. ازاي نسيت؟..
لفت لتواجهه وهي تسأله بذهول:
ـ شبكة!!.. شبكة ايه يا حسن؟.. هو ده وقته؟!
رفع جسده قليلاً وظل محتفظ بها بين ذراعيه:
ـ ومش وقته ليه؟.. تعالي ننزل نختار..
قاطعته قبل أن يكمل كلامه:
ـ مش هتروح شغلك يا حسن؟..
أشاح بوجهه بعيداً:
ـ لا.. أنا مجهد ومش قادر أنزل..
مدت يدها لتعيد وجهه ليقابلها:
ـ حسن..
قاطعها بسرعة:
ـ طب.. تعالي نخرج نروح أي مكان.. من فترة ما خرجناش سوا..
نادته برقة:
ـ حسن..
تنهد عالياً ورد بقلة حيلة:
ـ ايوه يا منى..
أحاطت وجهه بكفيها وقربت وجهها من وجهه هامسة:
ـ حسن حبيبي.. لازم ترجع شغلك.. أنت قدامك هدف ولازم تحققه.. الهدف هدفك.. والنجاح هيبقى ملكك أنت.. ليه تشغل بالك بأي حاجة تانية.. ليه تسمح لأي حد أو أي حاجة تعطلك وتبعدك عن اللي أنت عايزه..
همس بتردد:
ـ منى.. منى.. الفترة اللي فاتت غيرت جوايا حاجات كتير.. أنتِ أكتر واحدة حست بده.. منى..
قاطعته بحب:
ـ منى معاك وجنبك.. أنت قبل كده قلت لي احنا مش عايشين في فيلم قديم.. وأنا بقولك بقى دلوقتِ.. أوعى تكون فاكر أن اللي حصل الفترة اللي فاتت هيخليني أبعد عنك.. ولا أقولك روح ارجع لحياتك الأولانية يا ابن الناس.. لا.. مش أنا اللي هعمل كده.. أنت اخترت يا حسن.. اخترتني أنا فوق حاجات كتير.. ولازم أثبت لك أنك اخترت صح.. وأني فعلاً بحبك.. حتى لو اتغيرت شوية.. كلنا بنتغير.. مش هتخدعني بقشرة بتحاول تبنيها حوالين حسن القديم.. حسن ابن الذوات اللي بيحاول يتعامل مع مجتمع جديد عليه عشان خاطري وعشان خاطر حبنا..
وحركت يدها لتضغط على قلبه قليلاً:
ـ طول ما ده بيدق لمنى.. منى هتتحمل كل حاجة.. وحتى لو دق لغيرها..
طوقها بذراعيه قبل أن تكمل كلامها وهمس:
ـ كفاية يا منى.. أرجوكِ.. أنتِ كده بتعذبيني بطيبتك دي.. أنتِ ازاي كده؟..
أبعدت نفسها عنه قليلاً وهي تمسح جانب وجهه بكفها:
ـ أنا كده عشان أنا عارفة حسن.. وقلب حسن اللي عمره ما هيتغير.. انزل شغلك يا حسن.. انزل وارجع لي تاني.. وما تقلقش.. أنا عارفة ازاي أوصل لقلبك.. وهو ده اللي مش ممكن هخاف منه..
ظلت منى بجواره تحثه على النزول لعمله, حتى خضع أخيراً وتوجه إلى عمله مجبراً.. يملؤه شعور بغيض بأن كل ما يفعله هو محض عبث.. يرغب في هجر تلك المهنة وتلك الحياة إلى الأبد.. ولكنه لا يمتلك أي بديل..
أما منى فقد تحركت بسرعة لترتدي ملابسها فهناك زيارة عليها القيام بها.. قد لا تحبذ ما تنوي القيام به.. ولكن ليس أمامها طريق آخر.. فهي كانت صادقة عندما أخبرته أنها لا تنوي التخلي عنه ليعود مهزوماً مكسوراً إلى والده.. ستثبت لهم جميعاً أنه لم يخطئ عندما اختارها هي فوق الجميع.. خاصة وأنه يتشبث بها كما يتشبث الطفل الخائف بأمه.. وطفلها بحاجة إلى تدخلها السريع..
*********
أنهت علياء اللمسات الأخيرة على مظهرها قبل أن تخرج إلى كليتها.. سوت خصلاتها القصيرة.. وامتنعت تماماً عن استخدام مستحضرات التجميل.. وأخيراً لفت وشاح عريض حول عنقها.. كما طلب منها يزيد.. الذي يحرص على ترك علاماته المميزة عليه دائماً حتى يضطرها لارتداء الوشاح.. ولا تدري سبباً وراء هوسه بإخفاء عنقها.. قد تكون غيرة!.. ربما.. فهو كاد أن ينفجر غيظاً منذ يومين عندما لاحظ أنها لا ترتدي خاتمه في إصبعها.. وكانت تلك إحدى المرات التي يباغتها بسؤال غاضب فتضطر إلى اجابته غافلة تماماً عن عقابها الصامت له.. فكانت صرخته المباغتة يومها:
ـ علياء!.. فين خاتمك ودبلتك؟..
اجابت بدفاع:
ـ قلعتهم.. ضاقوا علي..
جذبها من يدها بقوة:
ـ واما تقلعي الدبلة.. زمايلك.. يعرفوا ازاي أنك متجوزة.. ولا عايزة حد يجي يخطبك مني؟..
نظرت له بذهول ويدها تملس على بطنها التي برزت بوضوح.. رغم كونها في منتصف شهرها الرابع إلا أن حملها بتوأمين.. ظهر بوضوح تام.. وأدرك أفكارها تماماً بدون أن تفصح عنها.. وشعر بسخافته التامة, ولكنه عاجز.. عاجز عن ردع غيرته عليها.. خاصة مع دخولها إلى الجامعة.. وزيادة معارفها.. وأصدقائها.. يخشى أن تتسرب من بين يديه.. أو يقل حبها له.. فهي تصر وبشدة على استمرار الصمت العقابي.. ولا تبادله الحوار إلا فيما ندر..
جاءه صوتها وهي تهتف بحنق:
ـ الخاتم والدبلة علقتهم في سلسلة ومش بقلعها من صدري..
ولحماقتها التامة.. وجدت نفسه تكشف له عن مكان خاتمه بدلاً من أن تخرجه لتلقيه في وجهه لإثارته أعصابها وصراخه عليها..
بالطبع قابل تهورها بتهور أكبر.. ففي اللحظة التالية كانت تستلقي بين ذراعيه في استسلام تام.. وعلى الأريكة العريضة بغرفة المعيشة.. ولم ينتبه أي منهما إلى مرور الوقت.. إلا بعدما سمعا طرقات عالية.. أدركا بعدها أن مصدرها"أم علي".. تنبههما إلى وجودهما خارج غرفة نومهما..
تورد وجه علياء وهي تتذكر ذلك الموقف.. وزاد تورده عندما وجدت "أم علي" أمامها تحاول أن تنبهها لوجودها.. فسألتها بهدوء مصطنع:
ـ خير يا ست أم علي.. في حاجة؟..
ـ ايوه يا ست عليا.. في واحدة عايزة تقابلك بره.. قلت لها أنك هتنزلي تروحي.. كليتك.. بس هي مُصرة..
شحب وجه علياء وقد ظنت للحظة أن سهام تنتظرها لتسمعها المزيد من اتهامتها الجارحة.. أو الأدهى تدبر لها مكيدة أخرى.. لمت يديها حول بطنها بحماية وهي تسأل "أم علي" بخوف:
ـ واحدة!.. واحدة مين؟.. ما قالتش اسمها؟..
هزت "أم علي" رأسها نفياً وهي تقول:
ـ لا.. مش عايزة تقول.. هي شابة صغيرة كده.. و..
تنهدت علياء براحة عندما سمعت تلك الكلمات.. وقالت بهدوء:
ـ طيب. ممكن تقدمي لها عصير.. وأنا جاية وراكي حالاً..
أومأت السيدة وخرجت مسرعة لتعد العصير للضيفة الشابة التي ما أن رأتها علياء حتى اتسعت عيناها ذهولاً وتمتمت في عجب:
ـ منى!!..
ثم استدركت بترحيب وهي تمد يدها بالتحية:
ـ أهلاً وسهلاً.. اتفضلي..
نظرت منى إلى يد علياء الممدودة باحتقار ممزوج بغضب بارد.. ولاحظت علياء ذلك على الفور فسحبت يدها إلى جوارها بحرج.. بينما منى كانت تتأملها بثوبها البسيط ولكن بأناقة ليظهر بروز بطنها الصغير.. وذلك الوشاح حول عنقها.. وخصلاتها القصيرة التي تغطي أذنيها بالكاد.. تذكرت المرة الأخيرة التي رأتها فيها.. تلك الذكرى الأليمة حين طُرِدت منى من عملها ظلماً وتمت إهانتها بدون وجه حق..
ظهرت أفكار منى جلية على وجهها, فأشاحت به بعيداً.. بينما تمتمت علياء بأسف:
ـ أنا.. أنا آسفة.. والله حاولت اعتذر لك كتير.. و.. و.. يزيد قالي أنه فهم حسن.. وأنا.. أنا غلطت.. و..
قاطعتها منى بحزم:
ـ أنتِ غلطتِ في حقي.. صح.. ولي دين في رقبتك.. وأنا جاية أطالبك تردي الدين ده!
هزت علياء رأسها بحيرة.. ومدت يديها بعجز وهي تهمس:
ـ مش فاهمة.. أنا..
قاطعتها منى بسرعة فهي تخشى أن تختفي قسوتها المصطنعة أمام الهشاشة الواضحة للطفلة التي أمامها.. أدركت بوضوح لما حسن حاول جاهداً أن يفهمها أن علياء ضحية لا حول لها في مكيدة نيرة.. حتى أنها شعرت بالغيرة وقتها منها.. فالفتاة.. صححت لنفسها بسخرية.. المرأة الحامل.. أمامها غاية في الرقة والهشاشة يوجد بها ذلك الشيء الغامض الذي يدفعك لمحاولة حمايتها, لا الصراخ بوجهها كما كانت تعتزم.. وهي الآن عاجزة عن استرجاع ذلك الغضب الذي حركها من البداية لتأتي إلى منزل علياء وتطالبها برد دينها..
عاد صوت علياء يتردد بتردد:
ـ منى.. ممكن تقعدي عشان نعرف نتكلم..
ثم أكملت بحرج:
ـ أنا مش بقدر أقف كتير..
جلست منى على المقعد خلفها وبادرت علياء بطلب صريح ولكن بنبرة تلونت برقة غريبة:
ـ أنتِ مديونة لي بوظيفة.. وأنا عايزاكِ تردي الدين..
سألتها علياء بحيرة:
ـ أنتِ عايزة تشتغلي؟..
هزت منى رأسها نفياً:
ـ الوظيفة مش لي..
ثم ابتلعت ريقها بحرج وهي تقول بتردد:
ـ وظيفة.. لــ.... وظيفة..
أكملت علياء وقد استوعبت الموقف:
ـ وظيفة لحسن؟..
أومأت منى برأسها موافقة وهي تطلق تنهيدة ارتياح.. وتقول:
ـ عصام بيه.. ممكن يساعده.. ممكن يتصرف.. أنتِ تقدري تكلميه.. أنا عارفة أنه له مصالح مع والد حسن.. لكن..
قاطعتها علياء وهي ترتكز على جانبي المقعد لتنهض ببطء:
ـ أنا هكلم عمو عصام حالاً.. ما تقلقيش.. واعتبري الموضوع منتهي.. وحسن هيكون له وظيفة تليق به.. و..
قاطعتها منى:
ـ وحسن مش لازم يعرف حاجة..
أومأت علياء بتفهم بينما منى تكمل:
ـ ولا يزيد.. مش عايزة أي حد يعرف أي حاجة عن المقابلة دي.. أنا..
قاطعتها علياء بتفهم:
ـ خلاص.. زي ما تحبي.. ما فيش حد هياخد خبر أبداً..
هتفت منى بعنف:
ـ ونيرة؟..
غمغمت علياء بحرج:
ـ منى.. يا ريت تنسي الموقف القديم والله أنا مش كده.. وأنا وعدتك أنه ما فيش أي حد هيعرف.. صدقيني..
أومأت منى برأسها ومدت يدها لعلياء بتردد, فأسرعت علياء لتتمسك بها وهي تحيها مودعة:
ـ إن شاء الله هيوصلك خبر قريب.. وهيكون خبر كويس..
حيتها منى بهزة رأس خفيفة وخرجت مسرعة وهي تبتهل بداخلها أن تكون قامت بخطوة صحيحة.. ولم تزد المشكلة تعقيداً.. أما علياء فقد التقطت حقيبتها وانطلقت نحو مقر مجموعة الغمراوي المواجه للمبنى الذي تقطن به..
وبعد عدة دقائق كانت تقف أمام عصام الغمراوي في غرفة مكتبه.. وهو يرمقها بمزيج من الدهشة والحرج.. فتلك كانت المرة الأولى التي يلتقيان فيها بعد اختطافها من قِبل أعمامها.. تأملته علياء للحظات قبل أن تبادره بسرعة:
ـ عمو.. لو سمحت أنا عايزة منك خدمة..
وانطلقت في الحديث ولم تتح له فرصة ليقاطعها.. وبعد انتهائها.. سألته بهدوء:
ـ ممكن تلبي ليا الطلب ده؟
تأملها عصام للحظات.. وتنحنح بحرج ليجلي صوته:
ـ عليا.. أنا اعطيت كلمتي لحاتم العدوي و..
قاطعته علياء بسرعة:
ـ بس أنا أول مرة أطلب من حضرتك حاجة..
مرت بذهنه مواقفه الأخيرة مع علياء وكيف خذلها مرة تلو الأخرى.. رأى في تلبية طلبها فرصة ولو ضئيلة ليعوضها عن خيبة أملها به.. وبلا تردد رفع سماعة الهاتف ليجري اتصالاً مع حاتم العدوي..
دقائق قليلة.. بعدها أغلق هاتفه والتفت إلى علياء وهو يبتسم في ود:
ـ خلاص يا ستي.. أنا اتفاهمت مع حاتم.. ويظهر أنه ما صدق يلاقي طريقة يساعد بها ابنه ويكون بعيد عن عيونه في نفس الوقت..
سألته علياء بتردد:
ـ يعني عمو حاتم ممكن يتصالح مع حسن؟..
ابتسم بهدوء:
ـ ده شيء أنا ما اعرفش اجابته.. لكن اللي اعرفه أن حسن هيمسك فرعنا الجديد في دبي.. مكان يزيد.. وأعتقد أن دي وظيفة كويسة جداً.. ولا ايه!..
ضحكت علياء بسعادة:
ـ بجد يا عمو!.. متشكرة جداً..
سكتت لحظة ثم أردفت:
ـ بس لو سمحت بلاش أي حد يعرف أني طلبت منك الطلب ده.. ولا حتى يزيد.. وطبعاً حسن ما يعرفش هو كمان..
سألها بتعجب:
ـ ليه يا عليا؟.. ده طلب غريب شوية..
ـ آسفة يا عمو.. مش هقدر أقول السبب لحضرتك.. أنا وعدت ومتأكدة أن حضرتك بتثق فيا..
أومأ عصام برأسه موافقاً وهو يشعر أنه مضطر لمنحها تلك الموافقة.. فابتسمت علياء بسعادة.. ودعته بسرعة متعذرة بموعد محاضراتها الذي اقترب ولم تتح له الفرصة حتى ليقدم اعتذار عن موقفه نحوها.. لا تريد أن تسترجع تلك الذكريات أبداً.. تحاول بقدر الامكان أن تبقيها مدفونة في أعماق ذاكرتها.. حيث لا يمكنها الوصول أو التذكر..
بينما هو وعدها بالاتصال بحسن على الفور وعرض الوظيفة عليه..
ظلت علياء على سعادتها ونشوتها بتحقيق طلب منى طوال اليوم.. ولكن ما لم تعمل له حساباً كان حضور يزيد إلى شقتهما في المساء_برغم أنه أخبرها صباحاً أنه سيقضي ليلته في منزل ريناد_ ليخبرها بتوتر شديد أنه مضطر للسفر بعد ساعات قليلة إلى دبي..
انتفضت علياء في جلستها على الأريكة وهي تصرخ:
ـ ايه!.. تسافر!!.. تسافر ليه؟.. أنت عايز تسيبني تاني وتسافر..
اقترب منها محاولاً تهدئتها وهو يخبرها:
ـ علياء.. اسمعيني بس..
صرخت بقوة وهي تبتعد عنه ببطء لتذهب إلى غرفتها وهو في إثرها محاولاً جعلها تستمع إليه:
ـ أنا مش هسمع حاجة.. أنت وعدتني.. بس زي كل مرة.. هتخلف وعدك وتجرحني.. وتسيبني لوحدي.. هتسيبني لوحدي..
جاءت كلمتها الأخيرة بصوت متهدج دفعه إلى احتوائها بين ذراعيه وهو يهمس:
ـ يا علياء.. ده اسبوع واحد بس.. بابا عرض على حسن أنه يمسك الفرع بتاع دبي.. وأنا هروح معاه عشان أسلمه الشغل وأنسق معاه.. الفرع هناك تقريباً واقف من يوم ما سيبته ورجعت..
دفعته عنها وابتعدت عن مدى ذراعيه وهي تسأله:
ـ وليه أنت اللي تسافر؟.. أي حد ممكن يقوم بالمهمة دي مكانك..
مسح وجهه بكفيه بتعب:
ـ لا.. ما ينفعش.. أنا اللي بدأت تأسيس الفرع ولازم أنا اللي أسافر.. وعلى فكرة هسافر لوحدي..
كتفت ذراعيها وهي تستوعب المعلومة الأخيرة.. ولكنها لم تهدأ.. فعادت تهتف:
ـ أنت وعدتني.. أنت وعدت يا يزيد.. أنا مش هستحمل أنني أكون لوحدي تاني..
اقترب منها ليحتوي وجهها بين يديه:
ـ ما تقلقيش.. وما تخافيش من حاجة أنا مأمنك المرة دي كويس.. وزودت الأمن على الشقة.. صدقيني الأسبوع هيعدي بسرعة..
هزت رأسها برفض وهي تبعد وجهها عن كفيه:
ـ بس هتسبني لوحدي..
ـ يا علياء ما أنا بروح عند ريناد وبتكوني لوحدك.. مش هتفرق صدقيني..
رمقته بغيظ وصرخت بوجهه:
ـ ابعد عني يا يزيد.. روح سافر.. ولا روح لريناد.. اخرج من هنا..
ضرب كفيه ببعضهما وهو يصيح:
ـ بلاش طريقة الأطفال دي.. وافهميني.. ده شغل.. اسبوع وهرجع.. ولو كان ينفع آخدك كنت أخدتك معايا..
كانت تغلي غضباً وغيرة من تذكيره لها بوجود ريناد في حياته ولم تسعفها هرموناتها بأي هدوء فلم يصلها من كلماته سوى لفظة أطفال... فتعالى صراخها بوجهه ودموعها بدأت تهطل بلا توقف:
ـ اخرج يا يزيد.. روح سافر.. روح.. يلا من هنا..
ارتفاع صوتها جذب "أم علي" للغرفتهما فدخلت مسرعة بدون استئذان وضمت علياء التي ترتجف بقوة وهي تحاول حبس دموعها مع ذكريات لا ترغب في استعادتها ولكنها لم تكف عن الصراخ:
ـ ابعد من هنا.. ابعد.. ابعد..
خرج يزيد وتركها بين ذراعي "أم علي" فانفجرت في عاصفة من البكاء.. والسيدة الطيبة تربت عليها وتهدهدها حتى هدأت قليلاً.. واصطحبتها "أم علي" إلى فراشها لتريح جسدها وذهبت لتعد لها كوب من العصير وعادت بسرعة لتهمس علياء وسط دموعها:
ـ شوفتِ يا ست أم علي اهو سابني ومشي تاني..
ـ مش ده كان طلبك؟..
شهقت علياء بقوة:
ـ آه.. وهو بينفذ كل طلباتي!
ربتت السيدة العجوز على كتفها بطيبة:
ـ بس هو ما بعدش.. هو قاعد بره وعلى آخره.. وبعدين أنا سامعاه بيقولك أنه شغله عايز كده.. ايه لازمة الدلع ده والعياط.. أنتِ مش عارفة أن البكا مش حلو على اللي في بطنك!..
ـ ما شاء الله يا ست أم علي.. أنتِ مركبة رادار.. بتسمعي دبة النملة..
كان ذلك صوت يزيد الذي وقف على مدخل الغرفة يراقبهما.. فأصدرت صوت ينم عن السخرية بشفتيها وهي تتمتم:
ـ وأنا اللي كنت ناوية احنن قلبها عليك.. وأنت قاعد تقولها لما بنام في بيتي التاني و..
قاطعها يزيد:
ـ خلاص.. خلاص.. عرفت أنك سمعتِ كل الكلام.. روحي حطي الغدا..
تخصرت له وهي تغمغم:
ـ ولك نفس تاكل بعد ما نكدت عليها!..
هتف بغيظ:
ـ اعملي قهوة.. شاي.. أي حاجة.. بس روحي من هنا..
خرجت السيدة وهي تغمغم بكلمات وتعبيرات اعتادها منها.. بينما اتجه هو نحو فراش علياء التي أولته ظهرها على الفور.. وجلس بجوارها وهو يهمس:
ـ أسبوع واحد يا علياء.. هتصل بيكي كل ساعة.. لا.. كل نص ساعة..
ظلت صامتة ولم تجبه.. فتنهد بيأس:
ـ رجعنا للسكوت..
ظلت صامتة ورفعت الغطاء حتى غطى وجهها.. فعاد يحاول جذبها للحديث:
ـ ما هو كده ما ينفعش يا علياء.. حاولي تفهمي الموقف.. رجوعي بدون سابق إنذار وقف حاجات كتير.. ولازم أسافر.. شغلي له حق عليّ.. وأم علي معاكِ.. وأنا مش هتأخر.. صدقيني..
طبع قبلة على رأسها المخفي تحت الغطاء وهو يشاكسها:
ـ قومي يلا نتغدى وتحضري لي الشنطة..
ظلت صامتة وهي تحاول اقناع نفسها بكلامه.. ولم تجبه بشيء فزفر بغيظ:
ـ مش هتردي علي.. طيب أنا هكلم ريناد تجهز..
لم تدعه يكمل كلماته وصرخت به:
ـ روح لبيتك التاني.. أنا مش عايزاك هنا..
جذب الغطاء من فوق رأسها بعنف وهو يهتف غاضباً:
ـ ماشي يا علياء.. أنا نازل.. وخلي شغل الأطفال ده ينفعك..
خرج من الغرفة ومن الشقة بأكملها لتنفجر هي في نوبة جديدة من البكاء.. أتت على إثرها "أم علي" مرة أخرى لتحتضنها برقة وهي تخبرها:
ـ معلش.. الرجالة ما لهاش في شغل المحايلة والمدادية.. وأنتِ زودتيها شوية.. مادام كده كده هيسافر, تسيبيه ليه يسافر زعلان منك.. أهو هيروح للتانية تدلعه وتجهز له شنطته.. وأنتِ قاعدة مفحومة عياط..
استمرت علياء ببكائها ولم تعد تعرف ما الخطأ وما الصواب..
*************
وصل مازن إلى منزله وهو يشعر بالإجهاد الشديد نتيجة تراكم العمل في الفترة السابقة.. فهو لم يذهب إلى عمله لمدة أسبوع كامل.. أسبوع عسل كما أطلق عليه.. قضاه برفقة نيرة لم يدخر جهداً في اسعادها أو تلبية طلباتها.. فالخروج والسهر كل ليلة وفي كل مرة مكان مختلف من اختيارها.. كان يختبر معنى أن يمتلك المرأة التي حلم بها لسنوات طويلة.. فلم يبخل عليها بأي شيء بدئاً من وقته ونهاية بهداياه الثمينة التي أغرقها بها.. يكفيه فقط أن تشير بإصبعها إلى ما تريد فيكون بين يديها في لحظتها.. كان يدللها بكل ما تعني الكلمة من معنى وهي كانت تتلقى ذلك الدلال بسعادة قصوى وهي تحكم من سيطرة أنوثتها على حبه لها..
صعد درجات السلم الداخلي مسرعاً يمني نفسه بليلة أخرى تغمره فيها بأحد مفاجآتها التي تسيطر على حواسه بالكامل.. ففي كل ليلة تكون عروس جديدة.. خجولة وناعمة.. وأحياناً شقية عابثة.. والليلة لم تخيب ظنه فقد فاجئته بتمددها في مغطس الحمام وقد ملأته بالمياه واستبدلت رغوة الصابون بأوراق الورد.. فغرق جسدها في غيمة ملونة من الأبيض والوردي ودرجات الأحمر والأصفر.. وتألقت خصلاتها كشعلة وسط ضوء الشموع العطرية التي تنير المكان.. ويدها الناعمة تمدها بكل اغراء وهي تشير له بسبابتها.. ليرافقها في حمامها العطري بأوراق الورد.. ويغرق أكثر وأكثر في أنوثتها السخية.. ولكن إلى متى؟..
**************
وصل حسن إلى شقته الصغيرة وهو يكاد يطير من سعادته.. لم يصدق أن تبتسم له الحياة أخيراً.. هل آن الأوان ليبتعد عن نوعية الحياة المزعجة التي اختبرها مؤخراً.. هل سيمكنه تحقيق أحلامه أخيرا؟ً.. سيعود لعمله الذي يعشقه.. وليس كمهندس فقط.. ولكن مسئول عن فرع شركة الغمراوي في دبي.. حقاً لا يستطيع تصديق نفسه.. وما يسعده بالفعل أن يزيد لم يتدخل ليمنحه الوظيفة.. فالذهول الذي سطر على وجهه وعصام الغمراوي يبلغهما معاً باختياره لحسن للإدارة الفرع كان أكبر دليل أن عصام اختاره بدون أي محاباة من يزيد.. أو حتى تدخل من والده حاتم العدوي.. بقي فقط أن يفاتح منى في الموضوع.. وهو أكثر ما يخشاه.. فالمفروض أن يسافر الليلة.. وبالطبع ستنتظر منى لبعض الوقت حتى تعد جواز سفر لها.. وهو يخشى رفضها ابتعاده ولو لعدة أيام..
دلف إلى شقته ليجد منى قد أعدت الطعام بالفعل.. ووزعت بعض الشموع على المائدة الصغيرة التي وقفت بجوارها ترتدي ثوباً قصيراً من الشيفون الناعم.. وبدا واضحاً من ثوبها الجرئ أنها أعدت نفسها لسهرة رومانسية برفقته..
اقترب منها ليضمها بين ذراعيه طويلاً ليهمس بعدها بفظاظة:
ـ هو احنا ليلتنا فل ولا حاجة!..
ارتفعت عيناها نحوه بذهول.. لتنطلق منه ضحكة قوية لم يستطع كبحها وهو يقول:
ـ آه لو تشوفي وشك.. وتعبيراتك دلوقتِ عاملة ازاي..
وكزته في كتفه بغيظ:
ـ كده برضوه يا حسن.. بتتريق عليا!
عاد ليضمها إلى صدره بقوة:
ـ لا يا حبيبتي.. أنا بس سعيد جداً جداً جداً..
ابتسمت بسعادة لسعادته الواضحة:
ـ خير يا حبيبي.. فرحني معاك..
جذبها من يدها وجلسا معاً إلى مائدة الطعام وبدأ يحكي لها عن مكالمة عصام الغمراوي وذهابه إليه في مقر مجموعة الغمراوي.. لينتهي بعرض العمل الذي عرضه عليه بمرتب يفوق كل ما تمنى يوماً.. أنهى حديثه وهو يخبرها بقلق:
ـ المهم يا منى.. أنا وافقت.. بس لازم أسافر الليلة مع يزيد..
سألته بتردد:
ـ تسافر!.. هو أنا مش هاجي معاك؟..
أمسك يدها يقبلها:
ـ أكيد يا حبيبتي.. بس أنتِ لسه هتعملي جواز سفر.. أنا هسبقك الليلة واظبط الأمور كمان هناك.. وانسق الشغل مع يزيد.. وأنتِ أول ما تخلصي أوراقك هتحصليني.. ده يضايقك في حاجة؟..
تحركت من مقعدها لتجلس على ركبتيه وتحتضنه بقوة:
ـ لا يا حبيب عمري.. أسبوع بالكتير وأكون عندك.. بس أنت اوعى تشتري حاجة لبيتنا لوحدك.. لازم نكون سوا.. متفقين!..
لفها بذراعيه وهو يحملها إلى غرفتهما ويهمس بعبث:
ـ أكيد لازم نكون سوا.. هو أنتِ عندك شك!..
ضحكت بدلال:
ـ والسفر يا حسن؟..
أجاب بصوت أجش:
ـ قدامنا لسه وقت.. ما تقلقيش..
ضحكت بسعادة وبداخلها تشكر علياء التي لم تتصورها بذلك النبل على الاطلاق..
*************
جلس يزيد بجوار حسن في مقعده بالدرجة الأولى في الطائرة المتجهة إلى دبي وهو يتأمل الرسالة القصيرة التي وصلته من علياء..
"توصل بالسلامة.. ابقى طمني عليك"..
زفر بغيظ.. وهو يتمتم بداخله..
"يعني قلقانة عليّ اهوه!.. يبقى ايه لازمة الغضب والغلط"..
تذكر ذهابه إلى منزله هو وريناد التي امتصت غضبه الواضح بكل يسر.. لا يعرف كيف وجد نفسه يقص عليها ما حدث بينه وبين والده وحسن.. واستطاعت بذكائها الأنثوي أن تخرجه من غضبه ليعبر عن سعادته بالفرصة التي منحها والده لحسن.. ليبتعد حسن أخيراً عن المجموعة الغريبة التي تعرف إليها مؤخراً.. امتد الحديث بينهما لفترة.. بعدها أعدت له ريناد حقيبته بهدوء..
واقتربت منه بخجل لتخبره بهمس عملي:
ـ يزيد.. الدكتور قالي أن الليلة مناسبة عشان الحمل والاخصاب وكده..
تنهد بعجب وهو يتذكر الليلة الماضية حيث أجلسها بين ذراعيه وهما يشاهدا أحد الأفلام الرومانسية وعندما حاول التقرب منها فاجئته بصرخة غاضبة.. واعتراض واضح لأن الليلة غير مناسبة لحدوث حمل.. وأنها أخبرته بذلك قبل بداية السهرة..
أخرجته من ذكريات الليلة الماضية بلمسات مغوية لا تجيدها إلا في الليالي التي يحددها لها الطبيب.. ولكنها للأسف تجيدها للغاية.. وهو مجرد.. رجل.. رجل محبط.. وضعيف أمام تلك الفتنة الأنثوية الشقراء... ولكنه رغم كل شيء يشتاق للحمقاء الصامتة التي تسبب له أقصى حالات الغضب..
التفت إلى حسن الجالس بجواره ليخبره بحسم:
ـ تلات أيام بس يا حسن.. هنخلص شغلنا في تلات أيام.. ارجع بعدهم مصر..
وكان له ما أراد.. فواصلا الليل بالنهار ليُنهيا أعمال أسبوع في ثلاثة أيام فقط..
لم يغمض لكليهما جفن بالفعل.. حسن يبذل قصارى جهده ليُلم بكل المعطيات التي يبلغه بها يزيد وبنفس الوقت يقاوم شوقه لزوجته الرقيقة.. ويزيد يكافح قلق عاصف وشوق حارق إلى علياء لا تطفئه مكالماته الهاتفية لها والتي تظهر له بوضوح أنها غاضبة.. وأيضاً.. خائفة..
وصل أخيراً إلى شقة علياء وهو يشعر بالاجهاد في كل خلية بجسده.. واتجه إلى غرفتها.. ليجدها تمسك بزجاجة العطر الخاصة به تستنشقها بعمق وعلى وجهها ابتسامة حالمة سرعان ما انتقلت لشفتيه هو لتتحول إلى شهقة عجب وهو يراها تنثر القليل من عطره على كفها لتلعقه بعدها باستمتاع جم.. جعله يصرخ بها:
ـ علياء!!.. أنتِ اتجننتِ بتعملي ايه!
التفتت له علياء بذعر وهي تخفي زجاجة العطر خلف ظهرها.. وتهمس بخوف:
ـ ما فيش.. ما فيش حاجة..
ـ ما فيش حاجة ازاي!.. وازازة البرفيوم اللي مخبياها دي بتعملي بيها ايه!!
أظهرت علياء يدها من خلف ظهرها لتتهدل بجانبها بتعب وتحركت لتجلس على الفراش لترفع عينيها نحوه بطفولية:
ـ طعمها حلو قوي..
تمتم بذهول:
ـ نعم!.. أنتِ شربتي منه!!
لتكمل هي:
ـ أم علي بتقول ده وحم.. بس الدكتورة زعقت لي ومش موافقة أني اشربه!!..
برقت عيناه في ذهول.. ثم انطلقت ضحكاته بلا توقف حتى دمعت عيناه.. فنهضت من جواره وقد تملكها الغضب.. ولكنه تمكن من الإمساك بها بسهولة بسبب بطء حركتها وأجلسها على ركبتيه وأحاطها بذراعه ومد يده ليأخذ الزجاجة من يدها ويغرق بها نفسه.. ثم همس لها بخبث:
ـ ايه رأيك كده ممكن تدوقيها من غير ما الدكتورة تزعق لك!!
احمرت وجنتاها بقوة ولكزته في كتفه:
ـ أنت قليل الأدب!!
ضحك باستمتاع وهمس لها:
ـ وحشتيني.. وحشتيني قوي.. ووحشني الكلام معاكِ.. وحشني صوتك يا علياء..
أخفضت عينيها أرضاً وحاولت التملص منه.. ولكنه منعها بلطف:
ـ رايحة فين!.. ده أنا ما صدقت..
رددت بخجل:
ـ أنت رجعت بدري..
دفن شفتيه في عنقها وهو يهمس:
ـ علشان خاطر عيونك.. تصدقي أنا ما نمت ولا خليت حسن ينام.. شوفتي بقى معزتك عندي.. أنا ما اقدرش على زعلك..
داعبت أناملها خصلات شعره ومرت بلطف على ملامحه ثم ضمت نفسها إلى صدره لتهمس بتوسل:
ـ أنا بحبك قوي يا يزيد.. بلاش تجرحني.. ولا تبعد عني..
رفعها بين ذراعيه ليستلقي على الفراش وهي بين ذراعيه ويهمس:
ـ اوعي تخاصميني تاني.. أنا خلاص استويت والله.. ومش قادر على زعلك..
دفنت وجهها بصدره وهي تحيطه بذراعيها.. بينما غرق هو في النوم على الفور.. فهو مستيقظ منذ ثلاثة أيام...
**********
وصلت دنيا إلى شقتها لتجد مازن ممدد على الأريكة باسترخاء.. وقد خلع سترته ورابطة عنقه واكتفى بقميص البذلة..
نهض فور دخولها ليستقبلها بلهفة بينما هي كانت في قمة الاجهاد.. فقد كانت عائدة للتو من العرض الأخير الخاص بدار الأزياء التي تملكها..
ضمها لصدره برقة ثم أمسك بها ليلفها بين ذراعيه وهو يطلق صفيراً عالياً.. فهي كانت ترتدي ثوباً فضياً طويلاً.. يلتصق بجسدها ليبرز قدها الرشيق ويتسع عند ركبتيها ليتداخل قماشه الفضي اللامع بقماش شيفون رمادي خفيف..
عاد ليضمها له ويلف خصرها بإحدى ذراعيه ويمد أنامله لتجري على فتحة صدر الفستان الواسعة التي كشفت عن عظام ترقوتيها الرقيقة..
فهمست له:
ـ شكراً لوجودك الليلة يا مازن..
داعب عنقها برقة:
ـ هو أنا عمري فاتني عرض ليكي..
همست:
ـ أنا عارفة أن الوضع اختلف...
وضع أنامله على شفتيها:
ـ هششش.. ما فيش حاجة اختلفت..
ثم أخرج علبة مخملية من جيب بنطاله.. وفتحها أمام عينيها.. لتظهر قلادة ماسية رائعة شكلت لتمثل الشمس بكل آشعتها المبهرة.. ولف حول دنيا ليثبت القلادة خلف عنقها.. ويضمها له بقوة وهو يهمس لأذنها من الخلف:
ـ وحشتيني..
ابتعدت دنيا عنه بمسافة كافية وهي تفكر جيداً فيما تود قوله له:
ـ مازن.. احنا لازم نتكلم جد شوية..
ـ خير يا دنيا؟.. قلقتيني..
ترددت قليلاً.. ثم تكلمت:
ـ الفترة.. الفترة اللي قضناها مع بعض كانت أيام جميلة.. بس أنت ظروفك اختلفت.. دلوقتِ في فحياتك زوجة.. وبيتهيألي نحاول نبعد واحنا لسه أصدقاء.. و..
قاطعها بغضب وهو يقترب منها بسرعة:
ـ وايه يا دنيا!.. ايه الكلام الغريب ده.. ايه اللي حصلك؟.. في حد دخل حياتك؟..
لم يدرِ أيهما ما حدث ولكن صوت الصفعة على وجنة مازن كان يدوي في أذنيهما.. بينما احمرت عينيه غضباً.. ولكنها لم تدع غضبه يؤثر بها فصرخت بعنف:
ـ لولا أنك مازن ما كنتش هتشوف وشي تاني.. أنت عارف كويس مين دنيا..
حرك يده على وجنته وهو يحاول كبح غضبه.. واقترب منها قليلاً:
ـ عايزاني اعتذر يا دنيا.. يبقى أنتِ كمان لازم تعتذري.. لأن كلامك معناه يضايق.. أنا ما كنتش مرتبط بيكي عشان مجرد رغبة أو شهوة.. مجرد ما بقى عندي زوجة يبقى هبعد..
قاطعته بغضب لم تستطع كبحه:
ـ أنت بعدت فعلاً..
ـ لفترة بسيطة.. وأظن وجودي الليلة في الديفيليه دليل على أنك في بالي وأني ما نسيتش أي حاجة تخصك..
مسحت جبهتها بتعب وهي تتهالك على أحد المقاعد:
ـ أنا ما بقيتش عارفة أي حاجة.. أنا حاولت بس أرفع عنك أي حرج..
اقترب ليجلس أمامها على نصف ركبة ومد أنامله ليرفع ذقنها:
ـ تحبي نعلن جوازنا؟.. أنا عرضت عليكِ الموضوع أكتر من مرة..
ابتسمت بتعب:
ـ وكل مرة كانت بتكون عقاب لنيرة..
ـ لكن المرة دي..
قاطعته:
ـ المرة دي ما ينفعش أني أوافق.. كده يبقى بندمر جوازك قل ما يبتدي..
جلس على الأريكة وجذبها من على مقعدها لتسقط بين ذراعيه وبدأ يحرك كفيه بحركات دائرية على كتفيها وعنقها وهمس لها:
ـ هعملك مساج مخصوص.. هدلعك المرة دي.. وآخر مرة اسمع كلام عن البعد ونفترق والكلام ده.. ووقت ما تحبي نعلن جوازنا أنا موافق..
********
مرت ثلاثة أشهر..
جلس يزيد بجانب علياء على فراشها وهي تحتضن صغيرها وتضمه إلى صدرها لترضعه للمرة الأولى.. ليهمس بغيظ:
ـ بيعمل ايه الواد ده؟..
ضحكت بتعب:
ـ زي ما أنت شايف.. وبعدين دي حمد لله على السلامة بتاعتك!
أحاطها بذراعه وهو ينظر إلى ابنه بغيظ مما دفعها إلى الضحك بقوة وهي تهمس:
ـ بتغير من ابنك يا يزيد!..
قطب حاجبيه وهو يسألها:
ـ مش بترضعي أخته ليه؟..
ابتسمت وهي تغير الموضوع وتسأله:
ـ أنت لسه ما سميتهموش؟..
ضحك وهو يتحرك ليرفع ابنته الصغيرة من سريرها:
ـ ازاي.. طبعاً سميتهم.. اتفضلي يا ستي.. أقدم لك الآنسة.. نادية.. والواد الشقي اللي مش بيبطل رضاعة ده.. هسميه علي..
ترقرقت الدموع في عينيّ علياء وهي تتأمله وتهمس:
ـ نادية!.. هتسميها نادية!!.. و..
قاطعها وهو يقترب ليطبع قبلة على جبينها:
ـ حمد لله على سلامتك.. أنتِ ونادية وعلي..
***********


بعد ثلاث سنوااااات...
........

الفصل القادم بإذن الله...۔۔۔


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-18, 05:08 PM   #27

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الرابع والعشرون


"الحب صبور دائماً وليس غيوراً أبداً, الحب أبداً ليس متبجّح ولا مغرور, وهو ليس وقح أو أناني أبداً ولا يعاتب ولا يستاء, الحبُ لا يسعد بذنوبِ الناسِ الآخرين.. لكن المسرات في الحقيقة..
هو جاهز دائماً للإعتذار للإئِتمان, للتَمنّي.. وللتَحَمُل, مَهما يحدث.."
A walk to remember
انهمكت منى في تنسيق ورودها التي بدأت بالتفتح.. ومراعاة براعم أخرى على وشك التفتح.. أنها حديقتها التي طالما حلمت بها.. وقدمها حسن لها مع منزلهما الرائع هذا.. لقد أعدها حتى قبل أن يعد المنزل من الداخل..
مسحت على جبهتها بإنهاك وقد تساقطت منها قطرات العرق البارد.. يبدو أن نزلة البرد الأخيرة تصر على مصاحبتها لفترة طويلة.. ذلك الشعور بالإرهاق المستمر لا يفارقها في الآونة الأخيرة.. وحسن يتوسلها الذهاب إلى طبيب.. وهي تعاند.. لا تريد إزعاجه ولا إثارة قلقه.. وبداخلها أمل خفي أن يكون ذلك الإرهاق سببه بذرة حبهما تنمو في أحشائها أخيراً.. فقد تأخر حملها كثيراً.. وكلما فاتحت حسن في الموضوع يخبرها أن كل شيء بأمر الله.. وهو لا يريد من يشاركه اهتمامها وحبها.. كانت ترضى بذلك في البداية مدركة أن السبب الرئيسي هو الظروف المادية المتعثرة.. ولكن الآن بعد مرور ثلاث سنوات قضياها بدبي.. وتحسن أحوالهما المادية بصورة فاقت كل توقعاتها.. أصبح تأخر حملها هاجس يرافقها طوال الوقت.. بينما حسن يصب اهتمامه الدائم على عمله والنجاح به.. حتى أن اسمه بدأ يتردد بقوة بين رجال الأعمال.. ويتهافت الجميع للتعاقد مع شركة الغمراوي حتى يقوم البشمهندس حسن العدوي بتصميم فيلا.. أو شاليه.. أو.. أو...
تحمد الله على كل هذا النجاح.. ولكنها تفتقد حسن العاشق الذي يبحث عن أمانه معها.. تغير حسن.. ليس كالتغير السابق.. حمداً لله.. لكن المادة أصبحت تشكل جانب هام من حياته.. طموحه أصبح بلا حدود.. بحثه عن النجاح لا يهدأ.. ولولا بقايا حسن القديم الذي يدين بولاء لا ينضب لعصام الغمراوي, لكان بدأ في تأسيس شركة خاصة به.. وهو قد كون من العملاء ما يكفي لانطلاقه ناجحة.. ولكن حسن القديم مازالت له القليل من السطوة في هذا الأمر.. ولا تعتقد منى أن تلك السطوة ستستمر طويلاً..
أمسكت رأسها بإنهاك.. فقد هاجمها دواراً آخر جعلها تترنح بقوة.. ولسوء حظها تزامن ذلك مع وصول حسن الذي سارع ليتلقاها بين ذراعيه قبل أن تلامس أرض حديقتها الغالية التي طالما حلمت بها..
وضعها على فراشها برقة.. نادى اسمها عدة مرات.. ودعك وجنتيها وجبهتها بقوة قبل أن تفتح عينيها بإجهاد هامسة:
ـ آه.. هو إيه اللي جرى!
هتف حسن:
ـ اللي جرى أنه أغمى عليكِ.. اللي جرى أن عِندك مالوش آخر.. مش عارف منشفة دماغك ليه؟..
دعكت منى جبهتها بتعب:
ـ خلاص يا حسن.. دول شوية إرهاق و..
قاطعها:
ـ ما فيش و.. احنا هنروح المستشفى النهارده.. وما فيش نقاش..
********
جلس مازن ويزيد بمواجهة شاطئ البحر أمام الشاليه الخاص بيزيد بالمعمورة.. وعلي يلعب بين قدمي يزيد بالرمال.. بينما رفع مازن نادية بين ذراعيه وهو يداعبها بقوة لتضحك الفتاة بسعادة وتهتف:
ـ ماسن.. ماسن.. أيزة قوة..
ضحك مازن بقوة وهو يوبخها بمداعبة:
ـ يا شقية.. بتستغليني عشان تشربي قهوة..
هتف يزيد بتوسل:
ـ بلاش أبوس إيديك يا مازن.. كده مش هتنام.. كفاية أدهم أخوها الصغير.. 10 شهور أهوه.. وصاحي ليل ونهار..
ضحك مازن بقوة:
ـ ما حدش قالك تتهبل وتخلف تاني وولادك يا دوب كملوا السنة.. الدنيا مش هتطير.. إرحم حالك شوية..
هتف يزيد بغضب:
ـ لِم نفسك يا مازن.. والله لولا أنك ماسك نادية كنت وريتك شغلك.. عيب عليك.. بدل ما تتشطر كده.. وتجيب لك كام نونو يقرفوك.. وينكدوا عليك عيشتك ليل ونهار.. وخصوصاً في الليل..
غامت عينا مازن قليلاً وهو يتذكر مناقشاته المستمرة مع نيرة من أجل الإنجاب.. ورفضها المستمر بحجة أن الوقت ما زال أمامهما طويلاً وهي تريد الاستمتاع بحبه ودلاله لها بدون أن يشاركها بهما أي شخص.. كما أنها سعيدة بما حققته من نجاح في عملها في مجال العلاقات العامة بمجموعة العدوي_غيث.. ولا تريد ما يعطلها عن نجاحها حالياً...
همس مازن بخفوت:
ـ مش كل ست تنفع تكون أم..
سأله يزيد:
ـ إيه؟ بتقول حاجة؟..
هز مازن رأسه نافياً:
ـ لا.. بس بتعجب من حب نادية للقهوة؟..
زفر يزيد بحنق:
ـ البركة في سي أدهم.. علياء اتوحمت على القهوة فيه.. ونادية من يومها وهي عايزة قهوة..
ضحكت نادية بشقاوة لتصيح:
ـ زيد.. أيزة قوة..
ضحك يزيد وأخذ ابنته من بين ذراعي مازن ليرفعها عالياً ويعود لالتقاطها مرة أخرى وضحكات الفتاة تتعالى.. وهو يعاود الكرة.. مرة بعد مرة.. حتى سمع صوت علياء تصرخ من داخل شرفة الشاليه وتسرع نحوه:
ـ يزيد.. بالراحة.. البنت.. مش كده..
وصلت عنده لتجذب نادية ناحيتها فأخبرها بشقاوة:
ـ روحي يا ندوش لماما.. هي هتجيب لك القهوة..
ثم اقترب منها وهمس لها لتسمع هي فقط:
ـ بس بيتهيألي المرة دي مربى!..
وغمز لعلياء بعبث فشهقت بقوة وتضرجت وجنتاها حرجاً.. بينما تظاهر مازن بمشاركة علي اللعب بالرمال..
سأل يزيد:
ـ أومال أدهم فين؟..
أجابته علياء:
ـ مع نيرة..
صرخ يزيد بهلع:
ـ إيه.. سيبتي الواد معاها لوحده.. دي ممكن تاكله!..
وكزته علياء في جنبه فصرخ متأوهاً:
ـ إيه.. جوزها قدامك وسامع كلامي وما اعترضش..
ضحك مازن بغموض وأخبر علياء:
ـ أهم حاجة أنه ما يوسخش فساتنها.. وإلا..
هتفت علياء بحنق:
ـ أنتوا.. أنتوا..
ولم تسعفها الكلمات فأخذت ابنتها وذهبت وهي تتمتم ليزيد:
ـ خلي بالك من علي..
فهتف مازن:
ـ سيبي نادية ألعب معاها شوية.. لو ممكن؟
ابتسمت علياء وابنتها تهتف:
ـ ماسن.. ماسن..
سلمتها لمازن وهي تعتذر بحرج:
ـ آسفة والله.. هي بتنادي على كل الناس بأساميهم..
وزغرت ليزيد الذي ارتدى قناع البراءة:
ـ كله من أبوها..
تركتهما وذهبت لتجالس نيرة في شرفة الشاليه.. والتي دفعت إليها بأدهم ما أن جلست على مقعدها وهي تهتف:
ـ امسكي ابنك.. مُصر يشد شعري..
ضحكت علياء وهي تسأل نيرة بود:
ـ مش بتفكري في الأطفال يا نيرة؟..
تغير وجه نيرة قليلاً.. ونظرت للشاطيء حيث تتعالى ضحكات مازن مع الصغيرين.. وخاصة نادية.. همست:
ـ مازن بيحب نادية قوي..
ـ نيرة..؟..
التفتت نيرة لعلياء لتسألها:
ـ هي.. منى وحسن لسه ما خلفوش؟..
شهقت علياء بغضب:
ـ إيه لازمة السؤال ده دلوقتِ يا نيرة؟..
ـ عادي بسأل.. عايزة أعرف.. فضول..
ـ فضول!!.. أنتِ كل فترة بتحاولي تعرفي أخبار حسن.. ليه يا نيرة؟
همست نيرة بغضب:
ـ مش قادرة أنساه يا عليا.. أنا اشتغلت في الشركة مخصوص على أمل أنه يرجع وأكون قريبة منه..
هتفت علياء بذهول:
ـ إيه الكلام ده!!.. معقولة بعد السنين دي كلها.. ومازن؟.. مازن بيحبك قوي يا نيرة.. ليه تظلميه كده؟..
هزت نيرة كتفيها وهي تراقب مازن أنه يعشقها بالفعل.. وهي تحب ذلك.. تحب علاقتهما معاً.. ستكون كاذبة إن أنكرت أنها تريد مازن كزوج.. وكرجل.. ولكنها غير قادرة على محو حسن من قلبها.. غير قادرة على منحه العفو لخطيئته بحقها.. ذنبه الذي لن يغفره إلا عودته متوسلاً السماح.. أو ربما.. العودة إليها..
التفتت لعلياء تسألها:
ـ يزيد مش بيقولك إذا كان حسن ناوي يرجع ولا لأ؟..
هتفت علياء بحنق:
ـ يووووه يا نيرة.. لازم تنسي حسن خالص.. أنتِ مرات أخوه.. فاهمة يعني إيه أخوه!..
هزت نيرة كتفيها:
ـ مازن إنسان كويس جداً.. بس برضوه غامض جداً.. الحياة معاه مش سهلة.. مش سهلة أبداً..
سرحت بنظرها لتراقبه وهو يرفع نادية فوق كتفيه.. ويجري خلف علي الصغير يطارده ضاحكاً.. ومسدت بيدها على بطنها وقد ارتسم على وجهها تعبير غامض.. وغاضب..
********
تمسك حسن بمقود السيارة بكلتا يديه وهو يضغط عليه بشدة يحاول جاهداً حبس دموع تتسابق لتعبر جفنيه.. وهو يقاوم ببسالة.. نعم لابد من المقاومة.. لابد من أن يظل صامداً حتى لا يسبب لها الفزع.. لا يريدها أن تحمل هماً سابقاً لأوانه..
لا يصدق ما مر به.. بعد دوامة كبيرة من التحاليل والآشعة.. وبعد إعادة الفحص والتحاليل أكثر من مرة.. كانت النتيجة لا تتغير.. وبدا على الطبيب التأثر وهو يخبره بكلمات موجزة عملية..
"آسف جداً.. زي ما توقعت.. كل التحاليل بتأكد التشخيص الأولي..
وفي مرحلة متقدمة.. بص.. هنا الطب متقدم جداًHepatic cancer
لكن نصيحة لو تقدر تسافر فرنسا.. هيكون أفضل"
"في أمل يا دكتور؟"..
وهنا كانت ربتة مواساة من الطبيب على كتفه..
"الأمل في ربنا كبير"..
أوقف السيارة على جانب الطريق.. ولم يعد يحتمل ضغط الدموع أكثر فتركها تسيل بصمت.. بألم.. وجع لا يحتمل.. لا يصدق أن تنتهي الرحلة بتلك السرعة.. لقد بدآ مؤخراً فقط الاستمتاع بالحياة وترفها سوياً.. ولكنها فقط أشياء بسيطة.. عشاء رومانسي في مطعم فخم.. رحلة بحرية صغيرة.. قطع بسيطة من المجوهرات.. شبكتها التي وعدها بها منذ زمن.. تجول بين واجهات المحلات وهما يدركان أنهما يملكان القدرة على شراء ما يحلو لهما.. بيت وحديقة كما تمنت يوماً.. أنها فقط أشياء بسيطة فقد أجل الأحلام الكبيرة لــ لاحقاً.. لكي يصفعه الواقع المر.. بأنه قد لا يكون هناك لاحقاً..
مسح دموعه وبدأ سلسلة من الاتصالات التليفونية.. بدأت بمازن.. وانتهت مع فريدة والدة صبا.. وقد وعدته بإنهاء كافة الاجراءات وتسهيل حضوره ومنى إلى باريس في أقرب وقت... وكانت عند كلمتها بالفعل فلم يمر يومان إلا وكانا على متن الطائرة المتجهة إلى مطار شارل ديجول بباريس..
مدت منى أناملها تتمسك بيد حسن وهي تهمس له بحنان:
ـ وبعدين يا حسن.. سيبها لله.. أنا مش خايفة.. وراضية بقضائه..
ضغط على يديها بعنف.. عنف لا ينبع من قسوة بل خوف.. فزع.. لا يقوى على تخيل حياته بدونها.. أنها منى.. منى وكفى.. عندما صارحها بحقيقة مرضها ابتسمت ابتسامة راضية.. وتمتمت بهدوء..
"قدر الله وما شاء فعل"..
كانت هي من تواسيه وتهدئ من روعه, وظلت على تجلدها وصبرها حتى وصلت إلى الحرم المكي.. وكان قد لبى لها طلبها بأن تقوم بالعمرة قبل السفر للعلاج.. وهناك فقط فقدت تماسكها.. وانهارت في نوبة بكاء.. ظنها في البداية خوفاً من القادم.. ولكنها كانت خوفاً من أن يكون مرضها ابتلاء لذنب ارتكبته.. وظلت تدعو وتتوسل المغفرة والعفو.. وهو يتوسل لها الشفاء..
وأخيراً.. انتهت نوبة بكائها.. وارتسمت على وجهها ابتسامة رائعة.. وكأنها تشع رضا وراحة.. بل ضياءً..
عاد من شروده ليرد عليها بصوت متحشرج:
ـ إن شاء الله خير.. مدام فريدة حجزت لنا في المستشفى الأمريكي في باريس.. مستشفى كبير قوي.. دول حتى بيوفروا مساعدة للمرضى العرب.. وفي ممرضة إنجليزية من أصول عربية.. هتكون شبه مرافقة ليكي.. مدام فريدة بلغتني بكده..
وضعت رأسها على كتفه تخبره بحنان:
ـ شوفت ازاي ربنا مسهلها.. سيبها لله بس.. وبلاش تعمل في نفسك كده..
أحاطها بذراعه بقوة يريد أن يزرعها بداخلها.. يداريها بين عينيه.. يخفيها عن الموت المتربص بها.. والذي يهدد بأخذها منه مع كل نفس..
وصلا إلى المطار.. وكانت فريدة بانتظارهما تصحبها صبا ابنتها فقد كانت في زيارة لها بذلك الوقت وبدا على شفتيها ابتسامة هادئة..
حياها حسن بمودة.. وهو يسألها عن أخبار والدها.. بينما تحفظت منى منها قليلاً.. فهي شقيقة نيرة ولا تعلم كيف تتعامل معها.. إلا أن تصرفات صبا السلسة والمرحة سرعان ما أذابت برود منى نحوها..
اقتربت فريدة من حسن تخبره بكل ما قامت به من ترتيبات لإقامة منى:
ـ وعلى فكرة يا حسن الممرضة اللي كلفوها بمرافقة منى اسمها لورا ستيفنز.. هي إنجليزية من أصل لبناني.. وإن شاء الله هتكون معاكوا في كل خطوة جوه المستشفى.. أنا اخترتها انجليزية لسهولة التواصل..
أومأ حسن موافقاً بامتنان.. واتجهوا جميعاً إلى المشفى, حسن قلبه ينتفض بداخله مع كل خطوة يشعر أنه في طريقه ليفقدها للأبد.. ومنى ترتسم على وجهها إمارات الرضا وابتسامة هادئة شجاعة.. تتأملها كلاً من فريدة وصبا بإعجاب يصل حد الانبهار من قوة تماسكها وصلابتها..
هناك التقوا مع لورا ستيفنز التي رافقتهم حتى الغرفة التي تم حجزها لمنى.. وهناك بدأت الشرح بطريقة عملية بحتة تناقض ملامحها الشقراء الرقيقة:
ـ أنا أدعى "لورا ستيفنز".. سوف أكون مرافقة للسيدة "العدوي" طوال إقامتها بالمستشفى.. في البداية سوف نقوم بإعادة جميع التحاليل والآشعة.. وبناء على ما يظهر بها سوف يتم التعامل مع الوضع.. الطبيب المشرف على الحالة يدعى دكتور "راندال آدمز".. وهو من أمهر جراحي المستشفى.. أي سؤال أو استفسار سأكون في خدمتكم..
ثم أكملت بلغة عربية ضعيفة نوعاً:
ـ أنا بفضل التعامل بالانجليزية.. هي أسهل شوي.. أنا بتكلم عربي بسيط.. لكن بفهم عربي كويس قوي..
ـ هل من الممكن معرفة متى أبدأ التحاليل؟.. وهل مطلوب مني أي شيء؟..
كانت منى التي ألقت السؤال.. فاقتربت منها لورا لتحادثها بود:
ـ ارتاحي الآن سيدة "العدوي".. وغداً نبدأ في جميع الاجراءات وسوف أكون معكِ في كل خطوة..
أومأت لها منى بامتنان وهي تحادثها بالعربية:
ـ يا ريت تناديني منى..
أشارت لها لورا موافقة:
..ok ـ
سألها حسن:
ـ ما هو الإجراء المتوقع بعد ظهور نتيجة التحاليل؟..
ـ في الغالب قد يقرر الطبيب إجراء جراحة لو وجد أنه من السهل استئصال الورم.. وستكون جراحة عاجلة... ولكنه رأي الطبيب في النهاية.. أي سؤال آخر؟..
رد حسن بهدوء:
ـ شكراً لكِ..
أومأت لهم وخرجت بهدوء تاركة اياهم تحت صمت رهيب لم تقطعه سوى ضحكة منى المتوترة:
ـ إيه.. ساكتين ليه؟.. هي بتقول أن الجراحة ضرورة وممكن الدكتور يستئصل الورم.. دي أخبار كويسة!!..
اقترب حسن من فراشها ليربت على كتفها بحب:
ـ أكيد يا حبيبتي أخبار كويسة..
تنحنحت فريدة بحرج فرغماً عنها روح الفنانة بداخلها قد سحبتها نحو ملامح لورا تريد أن تخطها على لوحة رسم فوراً:
ـ هنسيبك دلوقتِ عشان ترتاحي يا منى.. وأنت يا حسن.. كل تليفوناتي معاك.. أي حاجة تليفون صغير هتلاقيني عندك.. سلام دلوقت..
خرجتا معاً وتركتا حسن وهو يجاور منى في فراشها.. يلتصق بها وكأنه يخشى أن يفقدها.. منذ أن علم بحقيقة مرضها وهو يخشى النوم.. يخشى أن يغفل لحظة تختفي بعدها من أمام ناظريه.. يشعر أنه يحارب عدو مجهول.. يحارب في معركة خاسرة..
ربتت منى على كتفه وهي تجذب رأسه ليتوسد صدرها:
ـ نام أنت يا حسن.. ارتاح شويه يا حبيبي..
رفع عينيه نحوها يتوسلها ألا ترحل.. ألا تتركه.. فمالت لتقبله على جبهته هامسة:
ـ أنا هكون جنبك.. ودايماً معاك..
لفها بذراعيه.. رأسه ترتاح لقلبها يدق تحت أذنيه.. وحركة تنفسها المستقرة كانت بمثابة مهدئ لأفكاره البائسة.. فخلد للنوم ملتصقاً بها.. وهي تربت على رأسه وتداعب شعره بحنان..
وبدأت سلسلة التحاليل والآشعة مرة أخرى.. وبدأت معها تظهر أعراض المرض العديدة.. وأبرزها الآلام المبرحة التي بدأت تهاجمها وكأنها كمنت لسنوات ثم قررت مباغتتها مرة واحدة.. كانت تتمزق حرفياً من شدة الألم, ولكنها حاولت ببسالة أن تصمد وتظهر الراحة والعافية أمام حسن..
ظهرت نتائج التحاليل والآشعة وقرر الطبيب اجراء جراحة عاجلة محاولاً انقاذ الوضع..
**********
دخلت لورا بابتسامتها الهادئة إلى غرفة منى.. وهي تحمل مجموعة متنوعة من المستحضرات والمعدات الطبية المختلفة:
ـ مساء الخير..
ردت منى بإنهاك:
ـ مساء الخير, لورا.. هل حان الوقت؟..
اقتربت لورا منها بهدوء وابتسامتها الهادئة مازالت على شفتيها:
ـ لا تقلقي عزيزتي.. دكتور آدامز.. من أمهر الجراحين..
أومأت منى بتعب بالغ.. وسألت لورا:
ـ هل من الممكن أن تستدعي زوجي؟..
ـ بالطبع..
غابت لورا لدقائق عادت بعدها وحسن في إثرها... وقد ارتسمت على وجهه إمارات القلق:
ـ خير يا منى في حاجة؟..
مدت له يدها فهرع ليتمسك بها.. واقترب منها:
ـ ممكن أكلم بابا وماما؟..
ـ طبعاً يا حبيبتي ممكن.. أنتِ اللي رفضتِ تقوليلهم أي حاجة من الأول..
أومأت بتعب:
ـ معلش.. غيرت رأيي.. حابة أسمع صوتهم قبل ما أدخل العمليات..
اتصل على الفور بالعم نصر وأعطى لها الهاتف لتحادث والدها..
ـ أيوه يا بابا..
سكتت قليلاً:
ـ لا يا حبيبي.. أنا كويسة.. صوتي تعبان؟.. لا ده دور برد شديد حبتين.. كنت عايزة أكلم ماما وأطمن عليكوا..
حادثت والدتها قليلاً.. ومع كل جملة منها كان حسن يشعر أنها تلقي بكلمات الوداع.. رغم أنها كانت تخبرهم بإصرار أنها بخير.. وأن ما بها وعكة صحية طارئة.. إلا أن نبرة صوتها وملامح وجهها أخبراه أنها تودعهم.. وفي نفس الوقت لا تريد إشعارهم بأي قلق..
اختتمت كلماتها لوالدتها هامسة لها:
ـ خدي بالك من بابا يا ماما.. أنا بحبكوا قوي.. وبُعدي السنين اللي فاتت كان غصب عننا أنا وحسن.. كنا فاهمين..
قطعت كلماتها لتعيد صياغتها:
ـ كنا فاهمين أننا لازم نكون نفسنا بسرعة.. خدي بالك من صحتك ومن بابا.. لا إله إلا الله..
أخذ حسن منها الهاتف وطمئن والدتها ببعض كلمات بدت فارغة لأذنيه.. وأغلق الهاتف.. ليضمها بقوة لصدره ودموعه تتساقط فوق وجنتها:
ـ منى.. أنتِ بتستسلمي ولا إيه؟.. ليه طريقتك دي في الكلام.. إحنا هنعمل العملية ودي أول خطوة..
ابتسمت منى بتعب:
ـ طيب والدموع لازمتها إيه.. معلش بقى أنا اصلي جبانة وأول مرة أدخل عمليات فقلت أعمل شويتين زي الافلام.. ما تقلقش أنت وروح نادي لورا عشان تجهزني للعملية..
قبلها على جبينها بقوة وهمس:
ـ إوعي تستسلمي يا منى.. اوعي.. مش هسمح لك..
أمسكت يده وقبلتها بحب:
ـ أنا قوية بيك وليك يا حسن..
قاطعهما صوت لورا الرقيق:
ـ آسفة.. منى.. يجب أن نبدأ في إعدادك الآن..
ضمها حسن مرة أخرى.. وتحرك مبتعداً ليخرج من الغرفة.. وسرعان ما وجد منى تتوجه إلى غرفة العمليات محمولة على فراش متحرك.. فاقترب منها بسرعة ليهمس:
ـ لا إله إلا الله يا منى.. هستناكِ.. لازم تقاومي يا منى..
ابتسمت منى وقد بدت معالم الراحة على وجهها:
ـ هقاوم عشان خاطرك يا حسن.. محمد رسول الله..
همست لها لورا:
ـ أنه يحبك للغاية.. يبدو كالتائه بدونك.. فلتقاومي من أجله عزيزتي..
أومأت منى بابتسامتها الرقيقة:
ـ هل يمكنكِ أن تطمئنيه على مسار العملية أولاً بأول؟..
ـ بالطبع عزيزتي.. يسعدني ذلك..
غابت منى عن عينيّ حسن داخل المنطقة المخصصة للعمليات.. وهمست له لورا بأنها ستأتي له بالأخبار كلما استطاعت.. فالعملية قد تطول مدتها لساعات.. تبعاً لما قد يراه الجراح.. وبالفعل انتظر حسن في إحدى قاعات الانتظار.. ولكن لغرابة الأمر لم يطل انتظاره عن ساعة.. وجد بعدها لورا تأتي بصحبة الطبيب آدامز الذي أخبره بطريقة عملية واحترافية شديدة ونقلت لورا كلماته حرفياً:
ـ آسف سيد "عدوي".. لقد ظننت أن الجراحة من الممكن أن تشتري لنا بعض الوقت.. وقد نتبعها باجراءات قصوى.. كالعلاج الذري.. ولكننا اكتشفنا بعد أن بدأنا الجراحة أن المرض بدأ بالانتشار بالفعل وانتقل إلى عدة أجهزة أخرى.. وأي تدخل جراحي سيسبب الوفاة حتماً.. تقبل أسفي..
صرخ حسن بقوة في وجه لورا وهو غير قادر على استيعاب كلماتها:
ـ أنتِ بتقول إيه!..
ثم انتقل إلى الانجليزية:
ـ ما الذي يعنيه هذا؟.. لورا.. تكلمي بما أفهمه بالله عليكِ..
رمقته لورا بشفقة وأخبرته بتوضيح:
ـ الطبيب آدمز.. يقصد.. أعني.. أنه لا داعي للجراحة.. و..
قاطعها بلهفة:
ـ وماذا؟.. ما الخطوة التالية؟..
هزت لورا كتفيها بعجز وهي تحاول أن تستدعي أسلوبها العملي بلا فائدة:
ـ احممم.. لا توجد خطوة تالية.. أقصى ما في استطاعتنا فعله هو توفير سبل الراحة لها.. وتقليل آلامها قدر الامكان.. فحدة الآم ستتزايد في الأيام المقبلة..
ردد بلا وعي:
ـ أيام!!.. هل تخبريني أنه تبقى لها أيام؟!!..
ثم توجه للطبيب الذي كان يراقبه بشفقة وإن لم يتخلَ عن أسلوبه العملي:
ـ دكتور.. أرجوك.. تكلم.. أخبرني بالحقيقة..
أجاب الطبيب باحتراف:
ـ آسف سيد "عدوي".. تلك هي الحقيقة.. وسنحاول قصارى جهدنا أن تكون الفترة القادمة مريحة لها بقدر الامكان.. تقبل أسفي مرة أخرى.. معذرة..
غادر الطبيب تاركاً حسن غارقاً في شقائه.. تائهاً بين دروب وحدة يستشعرها تقترب منه لتقضي عليه.. سيفقدها.. لقد حارب.. وقاتل لتكون له.. عادى والده ومجتمعه.. كاد أن يدمر علاقته بشقيقه وأصدقائه.. انتصر عليهم جميعاً.. تقاليد بالية لم ينظر لها.. أعراف وعادات لم تهمه بشيء.. ضحى بمهنته لشهور.. باع الكل واشترى وجودها بجانبه.. لتأتي معركته الأخيرة.. يحارب ضد الموت.. ومن يحارب الموت يخسر بجدارة..
جاءت صرخة قاتلة من أعماقه:
ـ لاااااااااااااااااااااأ..
لتصرخ لورا بمن حولها:
ـ فليأتني أحدكم بأمبول مهدئ في الحال..
وصلت فريدة وصبا في تلك اللحظة لتشهدا انهيار حسن تحت قدمي لورا فأسرعتا نحوها لتخبرهما باختصار بما حدث وتطلب منهما التواجد مع منى حتى يستفيق حسن..
فترة بسيطة مرت استفاق حسن من غيبوبته الاصطناعية.. وكانت لورا وقتها بجواره.. رمش بعينيه عدة مرات.. ثم فتحهما ليسألها بهمس:
ـ هل الأمر حقيقياً؟.. ألا يوجد أي أمل؟..
ابتسمت لورا بعطف:
ـ حسن.. إن زوجتك بطلة.. صدقني بكل المقاييس هي بطلة.. إنها سيدة نادرة.. الآلام التي تحملتها في صمت الفترة السابقة لا يمكن أن يتحملها أشد الرجال..
اتسعت عينا حسن بذهول بينما هي تكمل:
ـ لا تتعجب.. لقد تحدثنا مطولاً في الأيام السابقة.. هي سيدة ودودة للغاية.. أنها تعاني من الألم منذ مدة.. وظنت أنه مرض ما سرعان ما يزول.. أو..
صمتت للحظة وبدا على وجهها التأثر:
ـ كانت تظن أنها تعاني من متاعب الحمل..
شهق حسن بحزن بينما أكملت لورا:
ـ لا يذهب عقلك بعيداً.. فلم يكن من الممكن تجنب المحتوم.. والمرض لدى زوجتك للأسف غاية في الشراسة.. وحتى لو تم اكتشافه مبكراً لم يكن ليحدث أي فرق.. أعلم أن كلماتي صادمة.. ولكنك بالفعل بحاجة لتناسي ألمك وحزنك الآن لتستطيع دعمها في الأيام القادمة.. أنها ستحتاج وجودك بشدة.. سأتركك لترتاح قليلاً.. أن السيدة فريدة والآنسة صبا برفقتها الآن وهي لم تستفق من المخدر بعد..
خرجت وتركته مستلقياً في فراشه.. عيناه معلقتان بالسقف.. وعقله فارغ من كل شيء بينما يشعر بقلبه محطم.. سوف تزهق روحه ويموت كمداً.. لقد قرأ في مكان ما عن مرض يسمى "القلب المفطور".. وهو ما تسببه الآلام النفسية والعاطفية الطاحنة.. هذا ما يشعر به الآن.. لقد فطر ذلك الطبيب قلبه.. ذبحه وهو يخبره بأن الأمل منعدم.. أنها سترحل.. حبة قلبه.. ستهجر القلب الذي ذاب عشقاً لها.. كيف يتحمل؟.. كيف يدعمها وهي تواجه الموت؟.. لقد كانت هي الداعمة على الدوام.. كانت السند والأهل وقت تخلى عنه أهله.. كانت الصديق وقت ما أحتاج لصاحب.. كانت الحبيبة والزوجة.. الوطن.. أنها وطنه.. والآن الطبيب يخبره أن يساعدها على الرحيل في صمت.. أي طلب أحمق هذا؟!.. وأي قدرة إعجازية يطالبه بها الرجل..
***
مرت عدة أسابيع بعد ذلك اليوم واظبت فيها فريدة وصبا على الحضور يومياً نشأت علاقة طيبة بين منى وصبا, فاتخذتها منى كشقيقة صغرى قضت معها أوقاتاً لطيفة كانت كمهدئ رقيق لآلام منى من غربتها وبعدها عن أهلها وآلام مرضها التي أصبحت في تزايد مستمر.. بينما قويت علاقة منى بلورا التي أبهرتها قصة حب حسن ومنى.. وكانت تدفع منى لتقصها عليها مراراً.. فالجانب الرومانسي منها عشق محاربة حسن ليحتفظ بمنى إلى جانبه.. فكانت ترمقه دائماً بانبهار من ذلك الفارس الذي حارب الجميع حتى عادات مجتمعه ليفوز بأميرته الرقيقة..
دلف حسن إلى غرفة منى فوجد لورا جالسة بجوارها كالعادة وتتهامسان سوياً.. فابتسم بحنان واقترب ليمسك كفي منى ويقبلهما ثم يقبل جبينها..
حيا لورا بهدوء وجلس ملتصقاً بمنى وسألها بحنان:
ـ هل دفعتكِ لورا لتقصي عليها قصة زواجنا مرة أخرى؟..
ابتسمت لورا:
ـ كلا.. لقد كنت أقص أنا عليها تلك المرة قصة أجدادي.. فقد عشق جدي وهو رجل إنجليزي.. وكما تقولون.. من أصحاب الأملاك والألقاب.. عشق جدتي عندما زار بيروت منذ خمسين عاماً.. ولم يعد إلى لندن إلا وقد أصبحت زوجته.. أرأيت.. توجد لدي قصص رومانسية, بل وصراعات حضارية أيضاً!..
ضحكت منى برقة فضمها حسن لصدره وطبع قبلة أخرى على جبينها.. وسأل لورا بابتسامة:
ـ إذاً.. لماذا أتيتِ إلى باريس وتركتِ لندن؟.. بالتأكيد توجد قصة أخرى هنا..
تغير وجه لورا ونهضت فجأة:
ـ سوف أذهب الآن.. حتى ترتاح منى قليلاً..
خرجت وتركتهما معاً.. فسارع حسن بوضع رأسه على صدر منى.. يريد أن يختفي بداخل قلبها.. فيذهب معها عندما ترحل.. ضمها بقوة وهمس لها:
ـ مازن ودنيا وصلوا باريس.. وهيجوا بالليل يطمنوا عليكِ..
سألت منى بسعادة:
ـ دنيا!.. دنيا جت معاه؟..
وافقها حسن بإشارة بسيطة من رأسه وهو يتذكر التآلف الفطري الذي نشأ بين منى ودنيا.. عندما زاره مازن في منزله بدبي بعد سفر حسن بفترة وجيزة.. واصطحب معه دنيا في تلك الزيارة التي عاتب فيها حسن لسفره حتى دون أن يودع شقيقه الوحيد.. فقط اكتفى بوداع سريع للجدة روح.. سافر بعدها تاركاً كل شيء ورائه..
كان حسن وقتها مازال غاضباً من الحياة المزدوجة التي يحياها شقيقه, ورافض كلياً لوجود دنيا في حياة مازن.. وجود لم يجد له حسن أي تفسير.. ولكن الصداقة السريعة التي نمت بين منى ودنيا أجبرت حسن على تقبل الثنائي الغريب.. تقبل تحول لمودة عميقة نحو دنيا بعدما تعددت زياراتها لمنى سواء برفقة مازن أو في رحلاتها المنفردة.. وقد بدأ يستشعر ذلك الشيء الخفي الذي يجذب شقيقه إليها.. ويربطه بها.. ورغماً عنه اعترف لنفسه أنها كزوجة لمازن أفضل من نيرة بمراحل.. ولكنها حياة مازن الذي يصر على استمراره مع نيرة..
استيقظ حسن من أفكاره أو ربما غفوة بسيطة نالها على همسة منى المتألمة:
ـ حسن.. من فضلك اضغط على الجرس.. محتاجة المسكن.. حاسة بألم رهيب..
رفع رأسه ليرى وجهها وقد تقلص بآلام مضنية.. سارع باستدعاء إحدى الممرضات.. التي سارعت بإعطائها جرعة المسكن.. وبدا أن الوقت يمر والألم لا تخف حدته فوجه منى زاد احتقانه من الألم حتى كاد أن يتحول إلى الأزرق.. والممرضة الشابة تسألها برفق:
ـ سيدتي.. هل خفت حدة الألم أم مازال كما هو؟..
لم تستطع منى الاجابة بينما هتف حسن بغضب:
ـ إنها تتألم بشدة.. ألا تستطيعين القيام بشي ما؟
أومأت الفتاة بالايجاب وهي تخبره:
ـ بلى سيدي.. يمكنني.. ولكن السيدة منى ترفض أن أزيد من جرعة المورفين كما أمر دكتور آدمز.. وتخبرني أنها ستتحمل.. ولكن..
ـ آآآآآآآآآآآه..
صرخة قوية من منى دفعت حسن ليصرخ بالفتاة:
ـ أعطيها الجرعة التي أمر بها الطبيب.. أنها تتعذب بشدة..
نفذت الفتاة ما طلبه منها حسن على الفور.. بينما تحرك هو ليضم منى إلى صدره.. وقد بدأت حدة آلامها تخف قليلاً ووجدها تهمس:
ـ يا رب.. ما اتعذبش اكتر.. يا رب ارحمني..
هتف حسن:
ـ منى!.. لا يا منى ما تقوليش كده..
ربتت على رأسه بإنهاك وهي تردد:
ـ عارف يا حسن.. أفضل حاجة حصلت أن شعري مش هيوقع.. وشكلي مش هيختلف قوي.. عشان تفضل فاكر منى.. منى اللي حبيتها ومن هي بضفاير..
سكتت قليلاً لتستجمع قواها:
ـ كانوا البنات في المدرسة.. وحتى في الكلية بعدها.. يقولوا لي.. ده بيتسلى بيكي.. وعمره ما هيفكر يتجوزك.. وأنا أقولهم.. أبداً.. حبيبي وواثقة فيه بعمري كله..
ترقرقت دمعة بعينيه فهمست له:
ـ ما تبكيش.. يا حسن.. طب أقولك على حاجة.. أما مرينا بالفترة الصعبة.. وأما.. أما كنت بتشرب سجاير وكده.. كنت مرعوبة أنك تكون ندمت على ارتباطنا.. أو بتراجع نفسك.. أنا كنت واثقة في حبك صحيح.. بس جه جوايا قلق أنه حبي مش كافية..
قاطعها بسرعة:
ـ يا منى أنتِ تكفيني عن العالم كله.. أنتِ دنيتي كلها..
ربتت على كفه بحب:
ـ بعد ما قابلت دنيا فهمت سبب غضبك.. أنت غضبت للحب نفسه يا حسن.. فكرت أن مازن شوه فكرة الحب النضيف اللي أنت ما عرفتش غيره.. وقتها حبيتك أكتر.. مع أني مش عارفة إزاي ممكن أحبك أكتر.. بس يظهر قلبي ما عادتش قادر يتحمل حب أكتر من كده.. حبك كان طاهر وبرئ ومركز يا حسن تشبعت به للعمر كله.. حتى لو كان العمر ده قرب يخلص..
همس بصوت متحشرج:
ـ ما تسيبينيش يا منى.. ما تسيبينيش..
خرج صوتها منهكاً:
ـ لو بتحبني يا حسن..
قاطع كلماتها ووضع أصابعه على شفتيها:
ـ لا يا منى.. لا ما تكمليش..
أغمضت عينيها بإنهاك ودمعة ألم هربت على جانب وجهها سارع هو بمسحها.. وسألته:
ـ لسه رنة موبايلك.."حبيبي يا عاشق"؟..
أومأ بالايجاب.. فردت هي:
ـ أنا بحب الأغنية دي قوي.. بتحكي حكايتنا يا حسن..
وأخذت تردد:
ـ حبيبي يا عاشق.. يا حر زي الطير..
فأكمل لها وهو يبكي:
ـ شاور هقول حاضر..
خفت صوتها لتهمس:
ـ للحب قلبي أسير...
ثم ضغطت بيدها على كف حسن بقوتها الواهية لتهمس:
ـ حرره يا حسن.. أرجوك حرره من الأسر.. أنا تعبانة وعايزة أرتاح.. عايزاك تعتق قلبي..
أجهش بالبكاء وسقطت رأسه بجانب يدها على الفراش وهو يردد:
ـ مش قادر.. مش ممكن أستغني عنك.. قاومي يا منى..
رددت بخفوت:
ـ حررني يا حسن.. تعباااانة..
همسة خافتة أخيرة:
ـ لا إله إلا الله..
خفت صوتها للغاية.. حتى اختفى تماماً فرفع حسن رأسه بهلع:
ـ منى.. منى.. منىىىىىىىىىىىى
دخلت بضعة فتيات من طاقم التمريض وعدة أطباء الغرفة استجابة لصرخته وسرعان ما ظهرت لورا في الغرفة.. وبدأ الأطباء بفحصها... وتبادلوا بضعة كلمات قبل أن يخبره كبيرهم:
ـ لقد دخلت السيدة منى في غيبوبة.. ولا ندري هل ستيستيقظ منها أم لا.. لقد هاجمها المرض بقوة وشراسة وسرعة.. ولا أستطيع توقع القادم..
خرجوا جميعاً من الغرفة وبقيت لورا فقط.. وحسن يراقبهم بذهول ويشير إلى منى ويردد:
ـ لا.. هو بيقول إيه؟.. مش هتفوق تاني!!.. مش هكلمها تاني.. إزاي!!.. بسرعة كده..
وهبط ليركع على ركبتيه بجوار فراشها:
ـ لا يا منى.. لسه بدري.. في كلام كتير ما قولناهوش.. في حاجات كتير ما اعتذرتش عنها..
صرخ بقوة:
ـ لاااااااا.. لا يا منى أنتِ قلتِ مش هتسيبيني.. مش هقدر أحررك يا منى.. ما اقدرش.. ما اقدرش..
دخل في تلك اللحظة مازن تصحبه دنيا.. ولمحا المشهد المآساوي.. حسن راكع على ركبتيه.. ومنى غائبة في عالم قد لا تعود منه.. اندفع مازن نحو شقيقه يرفعه أرضاً وهو يهمس بلهفة:
ـ حسن.. حسن..
ما أن سمع صوت أخيه حتى أغرق نفسه بين ذراعيه وهو ينتفض ببكاء مرير.. وما أصعب بكاء الرجال.. عندما يكون عن عجز.. عن فقد.. وحرمان..
همس لأخيه:
ـ خلاص.. خلاص يا مازن دخلت غيبوبة والدكتور بيقول.. بيقول..
لم يستطع إكمال كلامه واستمرت دموعه في الهطول بلا توقف.. فتحركت دنيا وهي تراقب حسن بإشفاق وقد خنقتها غصة مريرة لتمهس لمازن:
ـ مازن.. خده بره عشان يهدى شوية.. وأنا هانتظر مع منى هنا..
وافقها مازن واصطحب شقيقه الذي تحول إلى دمية لا حول لها ولا قوة..
بينما جلست دنيا بجوار منى التي أغمضت عينيها بسلام.. وأخذت تملس على وجهها وشعرها.. فسألتها لورا التي كانت مازالت بالغرفة:
ـ مرحباً.. أنا لورا.. الممرضة المرافقة لمنى..
رحبت بها دنيا وهي تتأملها بتعجب.. بينما أردفت لورا:
ـ أنتِ السيدة دنيا, أليس كذلك؟..
أومأت دنيا موافقة.. لتكمل لورا:
ـ لقد أخبرتني منى عنكِ.. وعن سيدة أخرى تُدعى علياء.. هل تعرفينها؟..
ـ نعم.. أعرف علياء..
تنهدت لورا براحة:
ـ هذا جيد.. فهي تركت لها رسالة معي..
ـ وأين تلك الرسالة؟..
ـ كلا.. أنها رسالة شفهية.. هل يمكن أن تبلغيها أن منى تشكرها كثيراً.. وتخبرها أنها سامحتها منذ زمن..
أومأت دنيا برأسها وقبلت منى على جبينها وهي تهمس:
ـ أنتِ هتمشي فعلاً يا منى.. ودعتِ الكل.. كان نفسي أشوفك قبل ما..
ظلت منى راقدة في غيبوبتها لأربعة أيام كاملة.. ولم تستفق أبداً.. بينما رافقها حسن في كل لحظة ينتظر لدقيقة واحدة.. لحظة واحدة تفتح بها عيناها.. ولكن لم تأتِ تلك اللحظة..
لم يتحرك كذلك مازن ودنيا من المشفى ووصلت فريدة وصبا التي رمقت دنيا الملتصقة بمازن بعجب شديد.. وأرادت أكثر من مرة أن تسألها عمن تكون.. ولكن الظرف لم يسمح.. وزاد من تعجبها أن لورا تلقبها بالسيدة "العدوي"..
في مساء اليوم الرابع.. دلفت لورا إلى غرفة منى لتغير لها المحاليل المغذية.. وأخذت تراقب حسن وهو جالس بجوارها يتمسك بكفها بكلتا يديه ويهمس:
ـ ارجعي لي يا منى.. لسه حكايتنا ما خلصتش.. لسه الكلام كتير بيينا..
قاطعته لورا فجأة بتوسل:
ـ .. "اسمح لها بالرحيل.. من فضلك"let her go... plzـ...
رفع حسن إليها عينين باكيتين وحمراوتين:
ـ ماذا تقولين؟..
رددت مرة أخرى:
ـ من فضلك حسن.. اسمح لها بالرحيل في سلام.. أنها في غيبوبة ولكنها تتألم..
أشارت إلى شاشة المونيتور أمامها:
ـ هل ترى هذا؟.. يجب أن أعطها جرعة المورفين الآن.. أنها تتألم بسبب مرضها وتتألم بسبب ألمك.. لا تكن أنانياً ودعها ترحل في سلام..
تلعثم حسن:
ـ ولكن.. ولكن.. هذا.. كيف.. كيف.. لا..
همست لورا:
ـ لا تستغل حبها لك ضدها.. واسمح لها بالرحيل..
خرجت من الغرفة وحسن ينظر لمنى بصدمة..
"أنا بعذبك يا منى!.. بعذبك بحبي؟!.. نفسي تفتحي عيونك لحظة واحدة.. لحظة واحدة يا منى.. عايز أقولك أن عمري ما حبيت غيرك ولا بصيت لواحدة غيرك.. عايز أقولك أنا آسف على كل لحظة وكل كلمة آذيتك بيها وعذري أني ما كونتش في وعيي.. لا.. لا.. ده مش عذر.. بس ما كونتش أقصد.. أنا كنت بعذب نفسي.. بضيع نفسي.. وأنتِ نفسي يا منى.. أنتِ أنا.. كنت بغيب عن الدنيا وارجع لك عشان ارجع لدنيتي بين ايديكِ.. سامحيني يا عمري.. يا أحلى حاجة في عمري.."
رفع يديها ليقبلهما وهو يهمس..
"عايزاني أحررك يا منى؟.. عايزة تسيبيني؟.."
هز رأسه بألم وهو يحبس دموع تحارب للهطول..
"آآآآه.. آآآآه.. شاور هقول حاضر.. حاضر يا منى.. حاضر هفك أسرك.. هنفذ لك آخر طلب.. خلاص يا منى.. خلاص.. "
هبط بشفتيه ليقبل رأسها هامساً ليرد على آخر ما همست به قبل أن تغيب عن عالمه..
"محمد رسول الله"..
ظل متمسكاً بكفها وعيناه تسمرت على وجهها.. ومرت ساعة كاملة قبل أن يعلن جهاز ضربات القلب سكون قلب طالما نبض بالحب.. الحب الطاهر البرئ..
تدافع عدد من الأطباء والممرضات إثر صوت الجهاز ليحاولوا انعاش قلبها عدة مرات.. ولكن فشلت جميع المحاولات.. ليلتفت الطبيب إلى حسن الذي تجمدت عيناه على المشهد:
ـ آسف.. لقد بذلنا كل المحاولات لانعاش قلبها ولكن...
قاطعه حسن بإشارة من يده ليصمت.. فأخفض الرجل بصره وهمس:
ـ آسف.. تقبل تعازيّ..
دلف الجميع إلى الغرفة.. ضم مازن شقيقه إليه بقوة بينما ظل حسن على جموده, عيناه شاخصة نحو منى فقط.. لا يشعر بمن حوله ولا يرى غير حياته معها مشهد تلو الآخر في شريط قاسي طويل ينتهي ليعود يكرر نفسه من جديد.. كل لحظة حب.. سعادة.. ألم.. قسوة..
"كم كانت الرحلة قصير يا منى.. قصيرة للغاية.. لم أستطع حتى التعويض"..
أيقظه صوت الطبيب يطلب من الجميع الخروج من الغرفة حتى ينتهي طاقم التمريض من عمله.. فخرجوا جميعاً يقدمون لحسن العزاء والمواساة.. وهو يحرك رأسه بلا معنى ولا يستوعب ما يخبرونه إياه.. حتى استفاق على جملة مازن:
ـ هوضب أنا كل الأمور عشان ناخدها مصر.. عشان.. الدفن..
كانت كلمته الأخيرة خافتة للغاية ولكن حسن شعر بها كطلقة رصاص تخترق أذنيه ليهمس بألم:
ـ ندفنها!.. هتتدفن؟!..
ـ أيوه يا حسن.. لازم نرجع.. مش معقول هندفنها هنا.. أهلها كلهم في مصر.. حرام نحرم أبوها وأمها من أنهم يودعوها..
همس حسن بحزم:
ـ أنا مش راجع..
ـ ازاي يا حسن؟.. ده مش كلام..
قاطعه حسن:
ـ مش راجع معاكم.. أنت هترجعها مصر.. أنا لأ.. مش قادر.. مش راجع..
ـ كلام إيه ده يا حسن.. لازم تدفنها وتتقبل العزا فيها..
صرخ حسن بجنون:
ـ أدفنها!!.. أدفنها!!.. أنت متخيل أني ممكن أدخلها قبرها بإيدي.. أهيل على وشها التراب.. أقفل القبر واسيبها لوحدها وأمشي.. أنت فاهم أنت بتقول إيه.. أنت عارف معنى ده إيه.. عااااارف..
ضغط مازن على كتفيه:
ـ وحد الله يا حسن.. الصدمة صعبة.. أنا عارف.. ومش قادر أتخيل شعورك.. منى كانت..
عاد حسن يصرخ:
ـ كانت!!.. بتقول كانت يامازن..
ـ يا حسن مش كده..
عاد حسن يردد:
ـ عايزني أتقبل العزا في نفسي يا مازن.. اسمع واحد يقولي دي كانت.. التاني يتحسر على شبابها.. وغيره يفتكر حاجة عنها.. هو أنا نسيت ولا هنسى ولا محتاجهم يقولوا لي على منى ويعرفوني هي مين وقيمتها إيه.. قلبي بيوجعني.. بيوجعني قوي.. أنا اتكسرت يا مازن.. ضهري اتحنى.. ضهري اتحنى من غيرها يا مازن.. آآآه يا منى.. آآه.. ليه طلبتِ أحررك ليه؟.. عشان أعيش بنارك طول عمري.. طول عمري يا منى..
اقتربت لورا بهدوء من مازن لتخبره أن حسن بحاجة إلى مهدئ على الفور.. ولكن حسن سمعها فصرخ بعنف:
ـ لألألألألألألألألألأ..
والتفت لها:
ـ لورا.. من فضلك.. أريد وداعها.. فقط سأودعها..
هزت رأسها بيأس:
ـ دقيقة واحدة فقط يا حسن..
اتجه سريعاً نحو الغرفة ليرى منى ممددة على فراشها وقد لفت في ملاءتها البيضاء, كشف الغطاء عن وجهها وهو يهمس:
ـ بحبك يا منى.. عشت أحلى أيامي معاكِ.. عارف أني ظلمتك وجرحتك وغربتك.. بس والله حبيتك.. أنت أهلي.. أبويا وأمي.. أنتِ بيتي وأماني يا منى.. حسن من غيرك ضايع.. ضايع يا حبيبة العمر كله..
حركت لورا يدها على كتفه تتعجله حتى لا يسبب لها مشكلة.. فطبع قبلة على جبهة منى وهمس:
ـ لا إله إلا الله.. لأول مرة بقولها وعارف أنك مش هتردي يا منى.. لا إله إلا الله..
خرج مسرعاً من الغرفة وتوجه نحو مازن هامساً:
ـ أنهي كل الإجراءات وانزل بيها مصر يا مازن.. وخد بالك منها..
أومأ مازن وقد بدأت دموعه تسيطر عليه وسأل حسن:
ـ أومال إنت هتروح فين؟..
هز حسن رأسه بضياع:
ـ مش عارف.. مش عارف.. أول ما أعرف هكلمك..
ابتعد بسرعة تحت انظار الجميع.. ثم عاد لمازن هاتفاً:
ـ مازن..
ـ أيوه يا حسن..
تردد للحظة:
ـ نيرة ما تحضرش العزا..
ـ حاضر يا حسن.. حاضر..
كرر حسن مرة اخرى:
ـ وعد يا مازن؟
أومأ مازن:
ـ وعد يا حسن..
بعد عدة ساعات طويلة هبطت الطائرة في مطار القاهرة وهم على متنها.. وأنهى مازن جميع الإجراءات بسهولة معتمداً على اسمه واسم والده الذي أرسل له من يسهل تلك الإجراءات.. ربما هي صحوة ضمير متأخرة نوعاً ما.. وربما ظن أن ابنه البكر سيعود تحت جناحه أخيراً..
كم كان واهماً.. فما أن خرج مازن من المطار وفتح هاتفه حتى وصلته رسالة نصية من حسن تقول..
"مازن.. أنا اتجوزت لورا وهستقر في باريس"..


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-18, 05:15 PM   #28

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الخامس والعشرون


في الحب لا توجد تفاصيل..
الحب اثنان..
حرفان..
أنا وأنتِ..
حسن و...
مهلاً..
أين أنتِ؟!
حاء الحب اقترنت بلا شيء!
بل ربما حرف وحيد..
حسن وحيد..
هل تعلمين أنكِ امرأةٌ مخادعة؟
نعم.. مخادعة واخترتِ الهروب
أترحلين؟!
قبل أن أسرد جميع تفاصيل عشقك..
أتهربين؟!
قبل أن أُنهي الدرس..
تُراكِ نسيتِ..
كان لدي درس..
بل مجلدات ولم أنهي منها سوى كتاباً واحداً!
بالأمس اخترت بقعة سحرية..
أسطر فيها عشقي نحوك..
لا ليس فوق كتاب ولا أوراق..
هي مجرد خيالات مؤلمة..
هل تعلمين أنني اشتهيتك بالأمس؟!
نعم اشتهيتك..
بكل ما تحمله الكلمة من عبث..
حمقاء!!
لا زلتِ خجلة وحتى أنتِ بين براثن الموت!
لا زلتِ حية تنبضين في صدري..
لا زلتِ هنا وهنا..
وأفعل المستحيل كي ترحلين..
ولكنكِ امرأة قاسية..
لا ترحلين..
في الحب مؤلمة هي التفاصيل..
لحرف واحد دون اثنين!!
خاطرة الفصل بقلم:
مروة جمال..
اتكأ يزيد بكتفه على مدخل المطبخ يراقب علياء التي وقفت حافية القدمين ترتدي ذلك الثوب الفضفاض الذي وصل إلى ركبتيها بالكاد.. كانت ترفع إحدى ساقيها تداعب بها الأخرى وهي تلعق ملعقة المربى باستمتاع أشعل الدماء في عروقه.. أراد الاقتراب, ولكنه يعلم أنها غاضبة.. فتواجده يكاد يكون منعدماً منذ عودتهما من رحلة المعمورة مع مازن ونيرة.. وعندما وصل الليلة الماضية وجدها تنام وسط أولادها بغرفتهما.. وكأنها ترسل له إنذار بعدم الاقتراب.. وكأن الصغيرة أدركت مكر النساء وبدأت تعاقبه به..
ولكنه عاجز عن تغيير الوضع في الوقت الحالي على الأقل.. ريناد بدأت المتابعة مع طبيب جديد.. وأدوية جديدة.. وأنظمة ومواعيد جديدة.. وهو لا يستطيع التخلف عن كل هذا.. هي تريد طفلاً.. ولا يستطيع إنكار حقها بأن تصبح أماً.. وهي غير مقتنعة.. وغير مكتفية بما يقوم به.. أكثر من ثلاث سنوات.. دارت فيهم على جميع أطباء الخصوبة.. في مصر وخارجها.. والكل أجمع على سلامتها الجسدية.. والسبب الأرجح لتأخر الحمل هو التوتر الشديد.. ليظهر أمل كما تقول هي مع الطبيب الجديد.. والذي تطلب منه التواجد المستمر معها.. والابتعاد الإجباري عن علياء.. وهو ما يغضبها.. بشدة.. ولكنه لا يمتلك حكمة لقمان ليتمكن من مراضتهما سوياً.. ولا صبر أيوب.. حتى يبتعد عن علياء أكثر...
اقترب منها حتى التصق بها, أحاطها بذراعيه.. وجمع شعرها_الذي استطال في السنوات السابقة ليصل إلى منتصف ظهرها_ جمعه على كتف واحد ليكشف عن كتفها الآخر الذي انزاح عنه طرف الثوب.. ليطبع قبلات دافئة على كتفها.. وجانب عنقها.. هامساً:
ـ صاحية بدري؟!..
حاولت التملص من بين ذراعيه ولم تنجح سوى في الاستقرار بين ذراعيه أكثر وأكثر.. وهو مستمر في توزيع قبلاته التي أصبحت أكثر عمقاً ونهماً..
تناولت ملعقة مربى أخرى قبل أن تجبه بخفوت:
ـ عايزة أروح المستشفى لنيرة بدري..
كان يمرغ أنفه في جانب عنقها باستمتاع ويتشمم خصلاتها بهوس تقريباً.. وهو يهمس:
ـ يعني ما ينفعش تتأخري شويه؟..
أجابته بغضب مكتوم:
ـ طبعاً ما هو كله تبع مزاجك وكيفك!
همس بخشونة وهو يلفها لتواجهه:
ـ علياء.. أنتِ عمرك ما كنتِ أنانية.. ليه..
قاطعته تحول التملص من بين ذراعيه ولكنه لم يكن ليفلتها:
ـ بس أنا زهقت.. أنت عارف بقى لك قد إيه غايب.. وكله على دماغي..
التهم باقي جملتها بين شفتيه بقبلة مشتاقة وهمس أمام شفتيها:
ـ طب ما وحشتكيش..
دفعته بضعف وبالطبع لم يتزحزح:
ـ ابعد.. كده هتأخرني.. كفاية إني بسيبها تبات لوحدها.. بناء على أوامرك..
أجاب بخشونة:
ـ مش هتقضي ليلة واحدة بره البيت..
ثم تغيرت نبرته بفعل معجزة ما لشقاوة عابثة:
ـ إلا لما تولدي.. بالمناسبة صحيح.. مربى إيه دي؟..
وعاد لتقبيلها مرة أخرى حتى يتأكد بنفسه من نكهة المربى.. وهي بادلته قبلاته بقلة حيلة.. تريد أن تأخذ موقفاً حاسماً منه مرة واحدة.. ولكنه في كل مرة يكتسحها.. وينسيها غضبها وأسبابه.. ينسيها زمانها وما يحيط بها..
حاولت مرة أخرى التملص منه وهمست بتوسل:
ـ يزيد.. اعقل الله يخليك.. أم علي..
همس أمام شفتيها:
ـ هي فين؟..
سألته بلوم:
ـ لسه فاكر تسأل دلوقتِ.. أنت ناوي تفضحني معاها.. وإيه ده؟.. كمان مش لابس جاكت البيجامة؟..
سألها بعبث:
ـ أنتِ لسه واخدة بالك؟.. إيه اللي كان شغلك!
خبطته بقوة على ظهره فتظاهر بالألم:
ـ آآه.. بقيتِ قاسية يا فراشتي..
أحنى رأسه ليعاود تقبيلها, ولكنه توقف في منتصف المسافة ليسأل بتوجس:
ـ هي فين صحيح؟..
هزت كتفها بدلال:
ـ راحت السوق..
رفعها بين ذراعيه ليهتف:
ـ وقاعدة تضيعي الوقت في الكلام..
استمر بتقبيلها ورفعها بين ذراعيه ليمددها برفق فوق العارضة الرخامية وهو يسألها بعبث:
ـ فاكرة.. اليوم ده.. والرخامة..
هتفت بحنق:
ـ يزيد.. نزلني.. الولاد.. أم علي..
قطع كلماتها بقبلاته المجنونة كعادته.. يسحبها معه في دوامته ولكن تلك المرة شعر هو بمن يجذبه من سرواله:
ـ بابا.. زيد.. بتعمل إيه؟..
نظر لأسفل ليفاجئ بعلي ابنه ينظر إليه بدهشة وتساؤل عما يفعله بأمه فوق العارضة الرخامية.. بينما أكمل علي ببساطة وهو يشب على قدميه حتى يرى علياء التي كانت ذراع يزيد تمنعها من الجلوس:
ـ ماما.. لولو.. عايز كورن ليكس..
تملصت علياء من ذراع يزيد التي تكتف حركتها وهي تتمتم غاضبة من الموقف المحرج الذي وضعها به, وتحاول السيطرة على الدماء التي تتصاعد إلى وجنتيها لتفاجئ بدخول أم علي إلى المطبخ وهي تشهق عالياً:
ـ هو أنت ما تسمعش عن أوض النوم والسراير!!.. في المطبخ يا...
وسكتت لتكمل بخفوت شديد:
ـ يا مفضوح..
رفع علياء بين ذراعيه وهي تحاول التخلص منه ولكنه منعها على الفور وهتف بأم علي:
ـ فطري علي.. ومش عايز أسمع ولا كلمة..
واتجه على الفور إلى غرفته وهو يحمل علياء.. دخل وأغلق الباب بقدمه.. ليلتفت لها ويأخذها بين ذراعيه مرة أخرى..
حاولت معاتبته ولكنه لم يتح لها الفرصة وهو يهمس لها بشوقه الكبير لها..
وبعدما ارتوى قليلاً من نبعها الذي لا ينضب..
همس لها:
ـ طلعت مربى توت!..
ابتسمت برقة وهي تلومه بغضب مفتعل:
ـ كده أم علي تقول علينا إيه!..
دس رأسه في تجويف عنقها هامساً:
ـ الدكتورة قالت لك إيه؟..
دفعته بقوة وابتعدت عنه وذهبت لتجلس على الأريكة واضعة ساقاً فوق أخرى وقد نسيت ردائها القصير.. وهتفت به بحنق:
ـ لو كنت مهتم كنت جيت معايا..
تحرك ليجلس على الأريكة ويجذبها لتستقر على ركبتيه:
ـ وبعدين بقى.. علياء.. طيب أراضيكي إزاي بس..
هزت كتفيها بدلال أنثوي اكتسبته مؤخراً دفعه ليقربها منه هامساً:
ـ هو إحنا هنوصل لمرحلة البرفيوم امتى؟..
كتم شهقتها بقبلته.. ولكن لو كانت علياء تضيع وسط عاطفته.. فمنزله أصبح مليئاً الآن بمن يمكنه هدم لحظات جنونه ودفعه للتعقل.. وكانت تلك المرة الصغيرة نادية التي دخلت عليهما الغرفة وهي تمسك الهاتف بيدها الصغيرة وتتحدث مع المتكلم بود:
ـ زيد هنا.. مع لولو.. بيديها سكر.. سكر.. بيبوسها..
وأطلقت ضحكة طفولية بريئة غافلة عن نظرات والدها المذهول وعلياء التي تحول وجهها إلى لوحة من الألوان... من الأحمر القرمزي, إلى الوردي, وأخيراً الأصفر الشاحب عندما أجاب يزيد عن الهاتف لتسمعه يهمس:
ـ مين؟.. مااااااااازن!!..
قطع شهقتها المحرجة هتاف يزيد:
ـ لا حول ولا قوة الا بالله.. إنا لله وإنا إليه راجعون.
****
استقرت دنيا بين ذراعي مازن.. رأسها على صدره.. أنامله تداعب شعرها بحركة رتيبة.. رغم الإجهاد الذي تصرخ به خلايا جسديهما, إلا أن النوم يجافيهما..
مازن تبنى حالة من الصمت المذهول بعد تلقيه رسالة حسن.. ولم يفتح الموضوع معها ثانية.. بينما تدبر أمر إجراءات الدفن وطقوس العزاء..
أدار الأمر بمهارة كعادته.. واسى أب مكلوم.. وقدم تعازيه لأم ثكلى.. اعتذر عن حضور شقيقه.. وبرر ذلك بانهيار أعصابه واحتجازه بإحدى مشافي باريس.. كذبة حمقاء.. ابتلعها والدي منى بدون تساؤل.. فبداخلهما يدركا عجز حسن عن مواجهتهما.. وقد منحاه طفلتهما كزهرة يانعة في ثوب زفافها الأبيض, ليعيدها إليهما ملفوفة بكفنها.. يدركا أن لا ذنب له.. ولكن يجب أن يكون هناك من يتحمل وزر كل مأساة تلم بنا.. تلك إحدى قوانين الحياة.. حتى لو كان قانوناً بلا معنى..
لا تنكر أن يزيد كان نعم الصديق.. جاور مازن في كل خطوة.. تقبل تفسيره عن غياب حسن_وقد أخبره الحقيقة_ بصمت تام.. لم يزعج مازن بتساؤل بلا معنى.. علياء كانت موجودة أيضاً.. تبدو جميلة بصورة غير اعتيادية.. استطاعت بحنانها الفطري احتواء والدة منى ومواساتها ولو قليلاً.. إلا أنه رغم كل النضوج الذي بدا أنها اكتسبته لم تستطع إخفاء دهشتها من وجودها هي.. "دنيا"!!!..
لا تنكر أنها تتعجب من إصرار مازن على الظهور برفقتها.. هناك في باريس أمام صبا وفريدة.. وفي عزاء منى أيضاً.. لا تدري_للمرة الأولى_ فيما يفكر.. ويخطط.. رغم تفهمها لعدم إخباره لنيرة بوفاة منى, بل أنه لم يخبرها بعودته من الأساس.. ولم يكن السبب وعده لحسن فقط.. حاستها الأنثوية أخبرتها أن نيرة لن تستطيع مواساته كما ينبغي.. كما يريد.. تتفهم ذلك.. كما تتفهمه دائماً.. وتستطيع معرفة ردود أفعالة حتى قبل أن يفكر بها..
شعرت بتوقف حركة أنامله في شعرها فرفعت رأسها قليلاً.. لتراه أغمض عينيه.. طبعت قبلة رقيقة على جبينه.. وتحركت من الفراش لترتدي روباً خفيفاً وتذهب لتحضير كوب من اللبن الدافئ.. عله يساعدها على النوم..
كادت أن تخرج من الغرفة حين استوقفتها صورتها المنعكسة في المرآة..
وقفت تتأمل نفسها قليلاً.. مازالت تتمتع بذلك الجمال الوحشي.. تحسست ملامح وجهها بإجهاد.. وهي تميز ظهور بعض التجاعيد الخفيفة.. الزمن بدأ يترك بصماته.. وستمر السنوات سريعاً وستتزايد تلك البصمات بسرعة أكبر.. لا تخيفها تلك التجاعيد, بل تخيفها الوحدة.. أن تنتهي وحيدة.. ألا تترك أثراً ورائها..
اسمها كأشهر مصممات الأزياء!..
الآن.. لا تعده شيئاً أمام رغبتها الجامحة لتكون أم.. نعم أم.. رغبة لم تظن أن تراودها يوماً.. ولكنها أصبحت الآن هاجساً مسيطراً عليها بقوة.. وما مرت به في اليومين السابقين؛ وفاة منى.. المرأة الشابة المليئة بالحيوية.. التي انتهت.. بلا أثر.. لم تبقِ ورائها شيئاً إلا ذكرى في قلب عاشق قرر أن يتناسى تلك الذكرى ولو كانت روحه الثمن.. كل تلك الأمور تدفعها دفعاً للاستجابة لرغبة الحياة.. تريد طفلاً.. طفله.. وبداخلها تعلم أنها لن تستطيع الاحتفاظ بالاثنين معاً.. الرجل والطفل.. عليها مواجهة نفسها.. مصارحة قلبها بما تهربت منه كثيراً.. عليها الانسحاب كما أخبرته يوماً.. فهي بكل حماقة الأنثى وقوتها سقطت في حبه.. عليها مصارحته والانسحاب.. ولكن قبلها.. عليها أن تسأله.. فهي لا تتحمل أن يكون لطفلها أباً غيره..
رأت صورته تنعكس أمامها في المرآة وهو يلتصق بها من الخلف.. يضمها إليه بقوة وهو يطبع قبلة خفيفة جنب أذنها ويهمس لها:
ـ زي القمر..
ابتسمت برقة وهي تسأله بشك:
ـ فعلاً!!
قبلة رقيقة أخرى على عنقها صاحبها سؤاله:
ـ في إيه يا دنيا؟.. أنتِ مش طبيعية..
التفتت له وهي تضم نفسها له.. وتضع رأسها على كتفه:
ـ وهو في إيه في الدنيا طبيعي!..
علم أنها تشير إلى وفاة منى وزواج حسن السريع.. فدس أنامله في خصلاتها ليرفع لها رأسها:
ـ غريب أنك بتقولي كده.. مع أنكِ شرحتِ لي تفهمك لسبب جواز حسن السريع..
ـ أتفهمه شيء.. وأنه يسبب لي الغضب شيء تاني..
حاول أن يتكلم فوضعت أناملها على شفتيه لتمنعه هامسة:
ـ مش هقدر أتكلم عن حسن ومنى.. لأني عاوزة أكلمك في موضوع تاني..
وضع ذراعه فوق كتفها واصطحبها ليجلسا سوياً فوق الفراش.. أراح جسده إلى ظاهر الفراش وثنى أحد قدميه وبسط الأخرى وجذبها لتجلس بينهما فالتصق ظهرها بصدره.. وارتكز بذقنه على قمة رأسها وتنهد هامساً:
ـ أيوه كده.. دلوقتِ نقدر نتكلم.. بس وأنتِ في حضني..
ابتسمت وهي تترك نفسها له لترتاح على صدره.. وتتساءل بداخلها.. إذا كان يدرك ما بها بالفعل.. ولهذا يبقيها بين أحضانه.. تعلم تشبثه بها.. هل يحاول أن يجعل الأمر أكثر صعوبة مما هو..
خيم الصمت عليهما لعدة دقائق.. اكتفت فيها بالإمساك بكف يده وتوزيع قبلات رقيقة عليه.. وأخيراً همست له:
ـ أنت إنسان جميل يا مازن..
قاطعها:
ـ دنيا.. أنا..
التفتت له لتضع أناملها على شفتيه مرة أخرى:
ـ أنا بحبك..
راقبت اتساع عيناه ذهولاً من اعترافها.. ثم ارتسم الذهول والغضب على كل ملامحه وهي تكمل:
ـ لازم ننفصل..
انتفض لينهض من الفراش بينما استندت هي على ركبتيها لتتمسك بكتفيه قبل أن يبتعد وتحيط صدره بذراعيها:
ـ مازن.. أرجوك افهمني..
التفت لها يهتف بغضب:
ـ أفهم إيه!.. بتحبيني وعاوزة تنفصلي في نفس الجملة.. وفي اكتر ليلة أنا محتاج لك فيها..
نزلت من فوق فراشها ومازالت ذراعيها تحيط بعنقه وهمست:
ـ لأن دي أكتر ليلة أنت محتاج فيها تسمع الحقيقة مني.. أنا بحبك يا مازن.. حبيتك.. امتى وازاي؟.. مش عارفة.. أنا أخدت عهد على نفسي.. على قلبي.. أنه يبعد عن الحب.. يهجره.. لكن أنت.. أنت من غير ما أحس.. وضد إرادتي اقتحمت قلبي.. دخلت تحت جلدي.. بقيت بتسري في دمي..
أغمض عينيه وهو يسمع اعترافاتها الصادقة.. لقد كانت محقة.. هو بحاجة لسماع ذلك.. سمعها تكمل:
ـ يمكن وفاة منى أجبرتني إني أواجه نفسي.. العمر قصير.. الحياة بتجري.. لا.. دي بتتبخر.. وممكن أموت في لحظة..
أسكتها بقبلة نهمة تركتهما يلهثان معاً.. وأكملت:
ـ أنا كنت محتاجة إني أقولك إني بحبك.. زي ما أنت بالظبط محتاج انك تسمعها..
امسك وجهها بكفيه متسائلاً بحيرة:
ـ ومع الحب ده كله.. بتطلبي الانفصال؟!..
أومأت لتهمس بألم:
ـ أنا قلتها مرة يا مازن.. يوم ما هبدأ أغير من نيرة.. يبقى هنسحب من حياتك.. ودلوقتِ..
هزت كتفيها بعجز.. ليهتف هو بتوسل:
ـ دنيا.. أنا ما اقدرش..
لم يكمل جملته بل التهم شفتيها بقبلة مفترسة.. شرحت عنه حاجته اليائسة لها.. تركت شفتيها له.. جسدها.. ومن قبلهما روحها وقلبها.. سلمت راياتها واحدة بعد الأخرى وهي تعترف لها بالسيادة الكاملة...
شعرت به يحملها ليضعها فوق الفراش بنعومة.. فاعتدلت جالسة وهي تبعد خصلاتها عن وجهها وتضع يدها على صدره لتوقف اقترابه وتهمس:
ـ مازن.. أرجوك.. اسمعني للآخر..
هز رأسه رافضاً:
ـ مش عاوز اسمع كلمة انفصال.. أنا بخطط من مدة أني أعلن جوازنا..
قاطعته والكلمات تجري على لسانها بلا إرادة منها:
ـ أنا عاوزة أكون أم يا مازن.
هتف بغضب:
ـ عايزة تطلقي عشان....
قاطعته حتى لا يجرحها بكلمات لا يقصدها:
ـ عاوزة يكون لنا طفل يا مازن.. عاوزاك توافق أنك تكون أب.. لطفل لنا إحنا الاتنين..
أغمض عينيه.. لا يستطيع تصديق أذنيه.. انها تتوسله طفل.. تحتاج طفله هو.. تريده أن يجعلها أم.. ويعلم أنها ستكون أم رائعة.. مجنونة قليلاً ربما.. ولكنها مذهلة.. وصالحة..
اقترب منها برغم منعها له وأمسك بوجهها بين كفيه وهو يهز رأسه بالموافقة فقد منعته قوة مشاعره من الإجابة.. بينما همست هي له بتوسل:
ـ وبعد الولادة.. هنتطلق..
********
فتح حسن عينيه ببطء.. رمش عدة مرات يحاول إدراك ما حدث ويحدث.. يعلم أنه مستلقِ على فراش ضيق.. فراش غريب.. جدران ذات لون أزرق فاتح جداً.. سجاد وستائر في غاية الفخامة بلون أكثر زرقة..
أين هو؟.. كيف وصل إلى هنا؟.. أين ومتى وكيف؟.. كلها كانت أسئلة بديهية.. لكن لا إجابة في عقله المشوش..
اعتدل جالساً وتلفت حوله عدة مرات.. محاولاً بضراوة التذكر.. لكن .. لا شيء.. ذاكرته صفحة بيضاء تماماً..
صفحة تلونت بالسواد.. بل تلطخت به.. تمزقت وتبعثرت وتناثرت قصاصتها.. عندما دوى في ذهنه السؤال الأهم؟..
مَن؟..
مَن أنت بدونها؟.. لا شيء.. قلب مبعثر بلا معنى.. بلا هدف.. روح هائمة.. ضالة وضائعة.. دائماً كانت هي الأقوى.. الأشجع.. للنهاية.. اختارت الرحيل بشجاعة.. بشموخ وكبرياء كما اعتاد منها.. لم تضعف ولم تنحنِ للمرض.. فقط.. اختارت الرحيل قبل أن يزداد العذاب فلا تتحمله روحها البريئة, أو فليقُل.. قُدِر لها الرحيل بكبرياء.. واستجابت دعوتها.. بألا يزداد العذاب.. فالمرض هاجمها بسرعة وشراسة كما أخبرته لورا..
لورا!!!..
لقد سطعت الإجابة في رأسه على الفور.. كانت لورا هي إجابة تساؤلاته العصية..
مد يده يلتقط علبة سجائره ليشعل إحداها, ومع شعلة اللهب البسيطة للقداحة هاجمته ذكريات ثلاثة أيام مضت.. ثلاثة أيام وهو يعيش الغيبوبة..
غيبوبة رمادية.. قاتمة.. بلا ملامح.. مشاهد وصور هلامية تتكاثف في عقله ليسترجع أحداث أيامه السابقة.. وكيف انتهى به الأمر بفراش لورا..
فبعد أن ترك المشفى هائماً على وجهه.. لم يحتمل الابتعاد.. لم يستطع.. فتهالك على أقرب مقعد خارج المشفى.. يراقب مدخله.. ينتظر آخر نظرة.. وآخر وداع.. مرت ساعات تجمد بها على وضعية واحدة.. عيناه شاخصة لباب المشفى.. ويداه تهدلت بجواره.. وقد ابتل حتى عظامه.. فالمطر لم يكف عن الانهمار وكأن السماء تبكيها بدلاً منه.. فدموعه تحجرت في مآقيه تأبى الهطول.. وكأنه ذرف كل ما يملك منها.. وكأنه يخشى أن يبكي مجدداً فيتأكد أنه يعيش حقيقة.. وليس كابوس قاتل..
دقائق من جحيم عاشها وهو يلمح سيارة الإسعاف تتحرك بها.. وخلفها سيارة فريدة.. لم يهتم بمن في السيارة.. فقط شعر بروحه تنتزع انتزاعاً لتحوم فوق منى لتصاحبها في رحلتها الأخيرة.. قلبه رحل معها.. لقد ناشدته تحرير قلبها.. ولكن ماذا عنه هو؟.. مَن يمنحه الخلاص؟.. مَن يريح ذلك الألم؟..
ألم!!.. إن أقل ما يشعر به هو الألم.. هو كالطائر المذبوح.. ولكنهم أساءوا ذبحه.. فلم يمت.. ولم يحيا أيضاً.. بقي على خط رفيع بين الحياة والموت.. عاجزاً عن التعبير حتى عما يشعر به فقط دمعة وحيدة.. ثقيلة.. جرحت جفنيه وهطلت بقوة.. لينتبه على يد رقيقة تربت على كتفه.. وبطرف عينه لمح لورا تجلس بجانبه وقد أمسكت بمعطف واقي من المطر تعرضه عليه..
هز رأسه رافضاً.. فهو يريد برودة تلك الأمطار.. يحتاجها.. بل يسعى إليها.. فقد تجمد مشاعره.. وقد تحييها..
وصله صوت لورا الهامس:
ـ حسن.. لماذا لم تسافر معها؟..
رمقها بنظرة مذبوحة ليهمس بالعربية وهو يشير إلى صدره:
ـ هي هنا.. ما بعدتش.. ولا عمرها هتبعد..
أومأت برأسها لتوضح أنها فهمت كلماته.. وأخبرته بشرود:
ـ قصتكما رائعة.. أنت عاشق متفاني, حسن..
أجابها بالعربية مرة أخرى:
ـ هي اللي عملت مني عاشق.. أنا زعلتها كتير.. وأذيتها كتير.. منى حكيت لك وصورتني بطل, لكن الحقيقة.. أنها هي.. هي منى..
غص بكلماته ولم يستطع إكمالها, ولم يتمكن من البكاء أيضاً.. ما بال تلك الدموع تعانده بحماقة..
صمت خيم عليهما طويلاً.. لتقطعه لورا بشهقة حزينة:
ـ حسن.. أنت مبتل تماماً.. هيا.. تعالى معي.. سأدعك تبقى في غرفتي بالمشفى حتى انتهي من مناوبتي..
مدت يدها لتساعده على النهوض وهي تتخيل أنه سيقاومها ولكن لدهشتها وجدته يتحرك معها بسهولة ويسر.. اصطحبته إلى غرفتها.. وهناك عرضت عليه أن يبدل ملابسه وينام حتى تأتي إليه...
غابت عدة ساعات.. وعادت لتجده على حاله كما تركته.. جالساً على الفراش.. يبدو كتمثال حجري بعينيه الساهمتين الشاردتين.. وهو ينظر إلى اللاشيء..
اقتربت منه ببطء وجلست إلى جانبه تهمس بعربية ضعيفة:
ـ حسن.. ليه مش تنام؟..
ظل على وضعه.. ولم يبدِ أي رد فعل.. فاقتربت منه أكثر تداعب شعره بأناملها وهي تهمس بجوار أذنه:
ـ حسن..
كانت همستها خافتة.. واقترابها بطئ ولكن موحي.. شفتيها تحركت على صدغه ببطء وإغراء شديد.. قبلات صغيرة دافئة.. عناق حنون.. رأسه يرتاح على كتفها براحة.. يدها تتحرك ببطء على ظهره تقربه منها.. ثوانٍ وكانت تداعب بشرة ظهره وكتفيه بعد أن خلصته من قميصه.. كانت تريد منحه الراحة.. السلام.. ولم تعرف سبيلاً آخر سوى ذلك.. قبلاتها توزعت على وجهه حتى وصلت لشفتيه.. وهو لم يقاومها.. تجاوب معها.. بضعف في البداية.. ثم بقوة.. ضراوة وشراسة.. بيأس جعله يستلقي فوقها ويلتهمها بشراهة.. بعنف.. عنف تألمت منه بضعف فانتفض بقوة.. ليبتعد عنها وهو يدرك ما كاد أن يحدث..
ابتعد قليلاً عن الفراش وكانت شفتيه تردد بهمس..
"آسف"..
ولكن لورا لم ترد اعتذاره.. أرادت منح الراحة.. السلام.. لذلك العاشق المكلوم.. تريد مواساته.. وتلقِي دموعه بين ضلوعها.. ذلك الفارس العاشق لا يجب أن يترك مهجوراً.. محروماً.. ومنبوذاً بعيداً عن الجميع..
نهضت من الفراش وهي تقترب منه ببطء وتمنعه من ارتداء قميصه هامسة:
ـ Hassan... plz... I know what i’m doing... I want to be with you.
نظر حسن إليها بيأس.. عاجز عن اتخاذ قرار.. هل يجاريها ويخسر ذاته معها.. هل بقي من حسن شيء بعدما فقد قلبه وكيانه؟..
أغمض عينيه بألم.. ليجدها تحاول تقبيله مرة أخرى.. قبلة.. وأخرى.. وأخرى.. ليهمس بضياع:
ـ marry me... marry me, Loraa.. now!...
حاولت لورا الاعتراض.. ولكنه اقترب هذه المرة ملتهماً شفتيها بعنف:
ـ أرجوكِ..
همسها كمن يلقي بنفسه من جرف عالٍ.. كمن أراد الخلاص من حياته.. أنه ظالم.. يظلم لورا.. يظلمها وهو يتزوجها ليموت بين ذراعيها.. لن يستطيع قتل نفسه.. يعجز عن الانتحار الفعلي.. لكن يمكنه قتل ألمه.. أن ينسى..
وهل يستطيع نسيانها؟.. كلا.. فلينسى فقدانها.. مستحيل آخر.. كيف يتجاهل ذلك الخواء بداخله.. دوامة سوداء تبتلعه ببطء.. وبقدر عجزه عن مقاومة الغرق بها, بقدر عجزه عن مقاومة النجاة منها..
فلينسى أن يتذكر.. ليستخدم ذراعي لورا.. وشفتيها.. وجسدها.. كممر للهروب.. الهروب من الذكريات.. الهروب من الضياع بضياع آخر..
ضياع استمر إلى الآن لثلاث أيام طويلة.. ثلاثة أيام لم يسمح لها فيهم بالابتعاد عنه.. يسكر بخمر شفتيها ويغيب عقله في طيات شعرها.. يضيع جسده معها كما أضاع قلبه مع منى..
وقفت بباب الغرفة تتأمل شروده.. تعلم أنه غارق مع غيرها.. ولكنها ستنتظره.. ستطهره من ذلك الحزن القاتل لتنال جائزتها.. فارسها العاشق الذي سقطت غارقة في غرام عينيه منذ اللحظة الأولى.. لقد أحبته حتى أنها صلت لتعيش منى.. لتجنبه وجع القلب.. فهي تدرك أنه ضائع بدون محبوبته.. تدرك أنه سيتشبث بها بخوف طفل يحتمي بأمه.. وسيرفضها بقوة عاشق ينتمي لامرأة غيرها..
انطلقت بدون إرادة منها همسة عاشقة:
ـ I love you Hassan...
فاجأته.. بل صدمته.. فقد أدخلت قلبها في المعادلة.. وهذا ما لم يضعه في حسبانه..
****
استعجلت الرحيل ياعمري
فما زلت لليوم أذكر نفسي
أن حب عمري قد أصبح
حلمي
وأضحى بين يدي عشقي
وأمسى ذكرى تتلاحقها الدموع
أتتركيني ها هنا أبكي على ضحكة
وأذكر منك تلك الكلمة
ويناديك ذلك الخافق الرابض في صدري
أيا روحه.. أيا نصفه
أيا دمي الذي يضخه قلبي
عبر شرياني
ليصب في قلبك
فبالله عليكِ قولي أنني
أحلم
وسوف أصحى مفزوعاً
وتصحين لتلميني في حضنك
وتهديني ترنيمة عشق
بأنني هنا أسكن في صدرك
الخاطرة الأخيرة
بقلم: نداء الحق



التعديل الأخير تم بواسطة لامارا ; 20-01-18 الساعة 05:39 PM
لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-18, 05:15 PM   #29

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


الفصل السادس والعشرون

الاحتياج

اجتياح كل العوائق والمسميات
يتسلط على العقل ويلغي الفؤاد
بسمتك.. نظرتك.. لمستك.. قربك
وجودك بجواري في الحياة
أنت دون الجميع أشعر معه بالضعف والاحتياج
رغم قوتي أدنو إليك باحتياج
تكمل الناقص والمطلوب دون تعقيدات
انصهار.. ذوبان.. إغداق.. نشوة.. متعة.. رغبات
نصفي الغائب وتفصل بيننا الظروف والمسافات
ولكنه الاحتياج يتحدى المستحيلات
معك أنسى الواقع والحاضر وكل ما هو آت
معك أهزم العالم وأقبل كل الإستثناءات
أخضع وأرضى وأتحول لكتلة احتياج
مشتعلة لا يطفئها إلا نيرانك المستعرة
ليكون الجنون في أغرب الحالات
خاطرة الفصل بقلم:
إيمان حسن
ظل مازن جالساً بسيارته يتأمل مدخل الفيلا لفترة طويلة.. خلف تلك الجدران يكمن حب حياته.. حلمه الذي ظن لوهلة خاطفة أنه حققه, وأمسك به بين يديه.. رفيقة طفولته.. حلم صباه وهوس شبابه.. جمع معاني الحب كلها باسمها؛ نيرة.. ولكنها ظلت حلم.. سراب.. أمل كان يخفت على مر السنين, ولكن في لحظة أصبح هو فارسها ليتوهج ذلك الأمل من جديد.. فخدع نفسه لفترة بكونه حبيبها.. لتصدمه بحقيقة أدركها قلبه العاشق منذ الأزل.. فهي قد تكون حبيبته الوحيدة.. ولكنه لم ولن يكون حبيبها أبداً.. وصرختها السعيدة بخبر مرض منى كانت صفعة قوية على وجه زواجهما هش الأسس..
"يعني منى عيانة وهتموت!"..
صرختها بفرحة طاغية.. لتنتبه لصدمته القاسية.. ولم تنتبه لقسوتها.. أو نبرة الشماتة بصوتها.. يومها نظر إليها مطولاً وكأنه بالفعل يراها للمرة الأولى على حقيقتها, فبرغم كل مساوئها التي يدركها ويتعامل معها, بل أنه بطريقة ما أحبها.. لكنه لم يتخيل يوماً أن تشمت وتفرح بموت إنسانة.. لقد شعر بالاشمئزاز منها, بل من قلبه لأنه أحبها يوماً..
جاءت رغبة حسن بعدم حضورها عزاء منى كقشة إنقاذ تمسك بها حتى لا يرى فرحة عينيها.. فرحة يتوقعها ويخشاها..
زفر بحنق وهو يتذكر أن عليه الآن أن يخبرها بموت منى, ليس ذلك فقط بل بوجود دنيا في حياته.. وجود لن يستغنى عنه ولن يخسره.. بل سيدعمه بموافقته على إنجاب دنيا لطفله, طفل ترفض نيرة وبإصرار إنجابه ولا يحق لها الاعتراض على رغبته في ممارسة أبوته بعيداً عنها..
يكاد يتخيل ردة فعلها.. صراخ وزعيق واتهامات متوالية بالخيانة والظلم والقسوة.. ستعاني صدمة حتماً وقد تحطم البيت فوق رأسه حرفياً.. ولكنها لن تنسحب.. يعرفها جيداً ليدرك أنها ستواجه.. وستحارب.. ليس من أجله للأسف, بل من أجلها هي.. من أجل نيرة.. ابتسم بسخرية لنفسه.. نعم.. لقد تعلم الدرس.. فنيرة لا يهمها إلا نيرة.. تحارب وتقاتل وتهاجم وتدافع فقط عن نفسها.. حتى كرهها توجهه لنفسها ولمن يتجرأ على خدش ذات النفس ولو بخدش خفيف.. وهو لن يخدش فقط.. بل سيغرز السكين ويلويه في الجرح؛
سيفضل عليها أخرى...
دلف إلى فيلته ليقابله هدوء تام.. لا وجود لأي صوت والمكان غارق في ظلام تام.. وكأن البيت قد هجره سكانه.. ساوره شك طفيف أن تكون إحدى مفاجآت نيرة الحسية التي دأبت على اغراقه بها... ولكن سرعان ما صرف ذهنه عن الأمر فهي لم تعلم بعودته بعد..
وفي غرفته قابله نفس الهدوء حتى بدأ يشك أنها خارج المنزل.. أضاء الغرفة ليفاجئ بكومة صغيرة فوق الفراش... تحركت بتعب وهي ترفع رأسها وتهتف بإجهاد:
ـ مازن!.. أنت وصلت؟..
التفت ليلمحها وهاله الشحوب الواضح على وجهها.. اقترب ليجلس أمامها بالفراش وهو يهتف بقلق:
ـ نيرة.. أنتِ تعبانة ولا إيه؟.. وشك أصفر قوي وشاحب ليه؟!..
ومد يده ليتلمس وجهها برقة:
ـ ملامحك مجهدة وعينيكِ تحتها هالات سودا.. حصل إيه وأنا مسافر؟؟..
ابتلعت ريقها بتوتر وهي تخبره:
ـ ولا حاجة يا حبي.. هيكون إيه.. أنت وحشتني قوي.. ما كنتش أعرف أني هفتقدك بالصورة دي؟؟..
واقتربت منه لترتكز على ركبتيها فوق الفراش وتطوقه بذراعيها وهي تطبع قبلات صغيرة متفرقة على وجهه حتى وصلت لشفتيه, فبادلها قبلاتها بلهفة.. لثوانِ فقط ثم ابتعد عنها مستفسراً:
ـ يعني أنتِ كويسة.. مش تعبانة ولا أي حاجة؟
أراحت رأسها على كتفه واقتربت أكثر حتى تقبله في عنقه.. تريد صرف ذهنه بأي طريقة عن شحوبها وهزالها الواضح.. فتمادت بقبلاتها تحاول أثارته بأقصى جهدها وهي تهمس:
ـ ما فيش حاجة بتتعبني قد بعدك عني!..
أبعدها عنه.. ونهض من فوق الفراش مبتعداً وهو يدعك عنقه بإرهاق وبداخله يتعجب لما لا يستجيب لها جسده كالسابق.. هل السبب هو إرهاقها الواضح.. أو فقط توتره من المواجهة القادمة..
تنحنح حرجاً وهو يخبرها بكلمات بسيطة:
ـ أنا مجهد, ومحتاج شاور دافي..
وتركها ليدخل الحمام بينما هي رمت بجسدها على الفراش متنهدة بعمق وبداخلها تبتهل أن تمر الليلة على خير.. فهي لا تريد إخباره.. لن تستطيع.. ولا تجد فائدة من إخباره.. لقد انتهى الأمر..
أجرت أناملها بين خصلات شعرها الذي فقد حيويته نوعاً ما.. وهي تهتف بداخلها بحنق..
"نسيت أسأله منى ماتت ولا لسه؟"..
**************
جلست علياء على الأريكة العريضة بغرفة المعيشة تراقب التلفاز بعينين شاردتين, "أم علي" تفترش وسادة عريضة على أرض الغرفة تثرثر مع نادية في حوار طويل, وأدهم نائم بجوارها على الأريكة, بينما علي يمارس هوايته المفضلة بـــعض عنقها!.. ومع كل ذلك الصخب لم تكن أفكارها معهم, بل كانت معه.. هو من سيتسبب في فقدانها ما تملك من بواقي العقل..
أخذت تسترجع بذاكرتها أحداث اليومين الماضيين.. لقد بدا حزيناً جداً لسماعه خبر وفاة منى.. وهي تأثرت كثيراً.. فبالرغم من أنها لم تكن صلتها بها قوية, إلا أنها تذكرها كامرأة شابة قوية ذات كرامة, وكبرياء, وجمال ناعم يخطف القلب.. بالطبع تأثرت لوفاتها.. وامتثلت لأمر يزيد ألا تخبر نيرة بأي شيء.. فهي بداخلها تتفق معه في ذلك.. رغم أنها طلبت منه أكثر من مرة أن يخبر مازن بوجود نيرة في المستشفى إلا أنه رفض, وعلل ذلك برغبة حسن في عدم تواجد نيرة بالعزاء.. وذلك ضاعف الحِمل على كاهل علياء.. فذهبت لنيرة وجالستها محاولة عدم ذكر أي شيء عن مازن وتواجده بمصر.. وانشغاله بمراسم عزاء منى.. واللغز الأكبر.. دنيا.. وعندما أنهت زيارة نيرة ذهبت إلى العزاء.. لتعود منهكة القوى.. وتفاجئ بعودة يزيد معها إلى منزلهما وليس بيت ريناد كما كانت تظن.. كان غامضاً.. حزيناً وكئيباً.. ويخفي غضباً مكبوتاً.. والأغرب من كل ذلك تشبثه بها بقوة.. حتى أنه اكتفى فقط بنومها بين ذراعيه.. فهي كانت غاية في الإنهاك.. وهو كان في قمة المراعاة.. لم يحاول إغوائها.. أو حتى مغازلتها, رغم أنها رأت رغبته تصرخ حية في عينيه.. رغبة لم يستطع كبحها في الليلة التالية.. بعد عودتهما من العزاء مباشرة.. اصطحبها لغرفتهما.. ولم يتركها إلا في الصباح... وأثناء تناولهما الافطار أخبرها عرضاً بخبر زواج حسن وبدا كأنه ينتظر ردة فعلها.. وعندما أخبرته ببساطة.."حسن مسكين".. انقبضت ملامحه وتوترت بشدة وكان على وشك إخبارها شيئاً.. ولكنه آثر الصمت.. وترك المائدة بغضب مكبوت وأخبرها أنه بانتظارها ليقلا نيرة من المشفى..
عضة قوية من "علي" أفاقتها من شرودها.. فأمسكته من خدوده لتقبلهما وتنهره برقة:
ـ مش بابا قال العض عيب؟..
ليجيبها علي ببراءة وهو يمسك بوجنتيها هو الآخر:
ـ أنا سوفته بيعضك..
شهقت علياء بحرج وغمغمت "أم علي":
ـ المفضوح هيتلف أمل العيال!
زجرتها علياء:
ـ وبعدين يا ست "أم علي"!
قامت "أم علي" بحركة بشفتيها:
ـ أنتِ جاية تتشطري علي أنا.. ابقي..
قاطعتها علياء:
ـ خلاص يا ست "أم علي".. الولاد موجودين.. ممكن تاخديهم تعشيهم؟..
صاح "علي" معترضاً وهو يتعلق برقبة علياء:
ـ لا.. أنا سعباااااان... يا ستي سااااااعبااااان..
ضحكت علياء بمرح وهي تمرغ أنفها في بطنه فأطلق ضحكات عالية.. وعاد يتعلق بعنقها فأخبرت "أم علي" بهدوء:
ـ طيب حضري العشا للولاد وأنا هأكلهم..
توجهت "أم علي" للمطبخ لتعد العشاء وتسلقت نادية الأريكة لتزاحم شقيقها وتستقر في أحضان أمها هي أيضاً..
ابتسمت علياء بحنين فالصغيرة تغار بشدة كوالدها تماماً.. وسرعان ما تحولت ابتسامتها الى ضحكة صافية وهي ترى يزيد أمامها.. لم تعرف متى أتى وكأنها أخرجته من ابتسامتها وهو يقوم بحركته المعتادة ويرفع "علي" من شعره.. وهو يؤنبه بغيظ:
ـ أنا مش قلت ما تعضش ماما!!
وتوجه نحوها بنظرة نارية.. فحاولت كبح ضحكاتها وهي تضع نادية على الأريكة لتنهض وتتوجه نحوه هامسة:
ـ هو بيقلدك.. ما تفتحش معاه الموضوع وهو هيبطله لوحده..
ليأتي صوت "أم علي" المتهكم:
ـ هيبطله لوحده إزاي طول ما هو شايف أبوه بيعمله!
أحاط يزيد خصر علياء بذراعه وزغر بعينه "لأم علي" ثم التفت موجهاً كلماته لعلياء:
ـ النهارده كان عندي ناس من جهة أمنية بيسألوا على "أم علي"!
كانت علياء تحاول كبت ابتسماتها فهي أدركت مزحته على الفور بينما شهقت السيدة بعنف وهي تسأله بتوتر:
ـ خير يا بيه كانوا عايزين إيه؟!
ـ كانوا عايزين يستخدموكِ كأول رادار بشري.. أصلهم سمعوا عن مؤهلاتك!
وكزته "أم علي" في كتفه وهي تتنهد براحة:
ـ يوه جاتك إيه يا بيه.. ده أنا صدقت!
هز رأسه بيأس.. لا فائدة.. سيموت قبل موعده بسبب تلك العجوز.. لمح الأطباق التي رصتها على المائدة الصغيرة.. فأمرها بحسم:
ـ عشي الولاد ونيميهم في أوضتهم..
وسحب علياء التي غرقت في حرجها إلى غرفتهما وهو يخبرها:
ـ عايزك في موضوع مهم..
أغلق باب الغرفة بالمفتاح تلك المرة.. والتفت إلى علياء التي بادرته بالهجوم:
ـ وبعدين معاك بقى يا يزيد!.. دي مش طريقة.. أنت ولا إنسان الكهف اللي بيجر الست وراه يدخلها الجحر بتاعه..
رفع حاجبيه بحيرة:
ـ إيه يا علياء؟.. فيها إيه اما أقول إني عايزك في موضوع مهم؟..
هتفت بحنق:
ـ لأني عارفة أنت عايز إيه.. و"أم علي" واقفة.. و..
قطعت كلماتها فجأة وهي تسأله:
ـ أنت تقصد أنه في حاجة مهمة فعلاً؟
تلاعبت ابتسامته العابثة على شفتيه وهو يقترب منها ليداعب خصلاتها برقة.. ويقترب من أذنها هامساً:
ـ هو كاااان في حاجة مهمة, بس لو أنتِ بتفكري..
ثم قطع كلماته وهو يطلق لفظاً بذيئاً.. فرفعت علياء عينيها إليه بدهشة ليهتف بغيظ وهو يلامس عنقها بإبهامه:
ـ الواد "علي" عضك بجد.. دي سنانه معلمة!
أطلقت ضحكة خافتة:
ـ معقولة يا يزيد!.. أنت متضايق فعلاً؟.. ده ابني.. ما حصلش حاجة لده كله!
لامبالاتها زادت من غضبه, فــلفها بذراعه بعنف وهو يهبط بشفتيه على عنقها ليمحو أي أثر آخر فهي امرأته هو.. ملكه هو.. كان يهمس لها بتلك الكلمات وهو يقبلها بوحشية وعنف لم تعهدهما به..
غضب.. غضب شديد يتملكه ولا تعلم له سبباً.. منذ وفاة منى بالتحديد.. وهو يكتم ذلك الغضب بداخله.. واليوم بعد ما قاما بإيصال نيرة إلى منزلها بدا أن غضبه بدأ يتسلل من تحت سيطرة قوية يمارسها على نفسه.. ولكنه لم يتمكن من ردع نفسه عن إلقاء النظرات الغاضبة نحو نيرة طوال الطريق.. ورفض تماماً أن تظل برفقتها في المنزل.. واصطحبها تقريباً بالقوة إلى السيارة..
هو غاضب.. وهي عاجزة عن التوصل إلى أسباب غضبه.. غضبه الذي مازال يمارسه عليها في صورة قبلات ولمسات وحشية.. لم تعد تحتملها.. فأبعدته عنها قليلاً.. لتلمح نظراته الغائمة برغبة غاضبة..
لم تره بهذا الغضب من قبل, حتى حينما كان يتهمها بأنها خططت لتوقعه في فخ الزواج.. لم يكن غاضباً هكذا.. لفت ذراعيها حول عنقه وهي تضع رأسها على كتفه تحاول تهدئة غضبه قليلاً.. وقد يحالفها الحظ فتعلم له سبباً..
ملست فوق عضلات ظهره المنقبضة فشعرت به يلين قليلاً.. فرفعت جسدها لتقف على أصابع قدميها وتطبع قبلات رقيقة صغيرة على وجنتيه.. وهمست له:
ـ مالك يا حبيبي؟..
زاد من ضغط ذراعيه حول خصرها فأصدرت آه خافتة.. دفعته ليبتعد قليلاً ويرفعها بين ذراعيها ليجلسا معاً على الأريكة الواسعة..
مسح وجهه بكفيه وكأنه يحاول إخراج المارد الذي تلبسه.. والتفت نحوها.. ليخبرها:
ـ أنا عايزك في موضوع مهم فعلاً..
ابتسمت بقلق.. فهي تخشى أن يفاتحها في موضوع رؤية والدته لأحفادها مرة أخرى.. وكان ذلك مثار مشاجرات عدة بينهما على مدار السنة الماضية.. وبالتحديد منذ ولادة أدهم..
ـ خير يا يزيد قلقتني!
اقترب منها ليخرج شيئاً من جيبه.. فعلمت أنه سيهديها قطعة مجوهرات جديدة.. فهو دأب على اهدائها تلك القطع, وعلل ذلك بأنه غير قادر على تسجيل أي أملاك باسمها حتى تصل الواحدة والعشرون.. ولكنها أتمتها بالفعل منذ شهور طويلة.. فهتفت بعجب:
ـ مش ممكن تكون اشتريت مجوهرات تاني!.. أنا عندي كتير قوي.. مش هلحق ألبسهم أساساً..
منعها من استكمال كلماتها وأغلق فمها بكفه:
ـ بعد الشر عليكِ.. إن شاء الله تلبسيهم وأزودهم كمان..
وأخرج بالفعل علبة مخملية مستطيلة ومنحها لها لتفتحها تطالعها قلادة على شكل فراشة ماسية براقة.. ولها نفس اللون الأزرق الشاحب الذي يميز خاتم زواجها.. تناول القلادة من العلبة وأدار علياء ليساعدها في ارتدائها وهو يهمس لها:
ـ جميلة.. بس الماسة صاحبتي لها معزة تانية في قلبي..
ضحكت علياء برقة وهمست له:
ـ وأنا كمان بحب الماسة دي قوي..
ثم التفتت له مؤنبة:
ـ يعني هو ده الموضوع المهم!
تنحنح ليجلي حنجرته وبدا أنه متردد في الكلام فأيقنت بما هو قادم وكما توقعت من قبل:
ـ علياء.. ماما.. ماما نفسها تشوف الولاد..
ابتعدت علياء عنه لتنهض وهي تهتف بحدة:
ـ لأ..
ـ علياء...
صرخت به:
ـ إحنا اتناقشنا في الموضوع ده قبل كده.. وردي ما اتغيرش..
ـ علياء... أرجوكِ فكري تاني..
قاطعته:
ـ أفكر!!.. أفكر في إيه.. إنها أول مرة طلبت تشوفهم اشترطت أني ما كونش موجودة.. ولا أنها كانت عايزة تشوف علي وأدهم بس من غير نادية.. أفكر في إيه!!..
ـ أيوة بس هي جدتهم ومن حقها..
هتفت بغيظ وهي تحاول التحكم في نوبة غضب لا تجيد التعامل معه.. فهي لم تعرف الغضب من قبل:
ـ حقها!!.. حقها!!.. لا مش من حقها.. لو على الحق هم ولادي.. وأنا اللي من حقي أرفض أو أقبل..
هتف محتداً:
ـ بلاش قسوة يا علياء..
كان ذكره القسوة هو ما فجر مارد من الغضب لم تدرك أنها تختزنه فصرخت:
ـ قسوة!!.. بتقولي أنا قسوة!!.. أنا يا يزيد!!.. أنت مش فاكر هي عملت إيه بكل برودة دم وأعصاب.. لو مش فاكر اللي حصل, العلامات اللي في جسمي مش بتفكرك بتعذيب أعمامي.. ما أخدتش بالك من علامات الحروق.. ولا أنت مش بيكون في بالك غير أنك ترضي نفسك بس..
صرخ بغضب مماثل:
ـ علياء.. خودي بالك من كلامك..
تقافزت دموعها وهي تصرخ بألم:
ـ أنت نسيت كل اللي حصلي.. لكن أنا ما نسيتش ومش هقدر أنسى.. ازاي عايزني آمنها على ولادي.. إزاي..
ـ بقولك أحفادها..
قاطعته:
ـ أحفادها اللي هتخلفهم ريناد..
ـ معقولة يا علياء.. شمتانة في ريناد عشان ما بتخلفش..
هتفت به:
ـ شمتانة!.. شمتانة!.. أنا يا يزيد..
وهزت رأسها بألم:
ـ أنا بحسدها.. أنت معاها على طول.. بتيجي هنا يوم ولا يومين.. والباقي عندها.. مرة بحجة دكتور ومواعيد.. ومرة بحجة حفلات وسهرات عمل..
بدا ضائعاً وهو يردد:
ـ أيوه يا علياء.. السهرات والحفلات دي ريناد بتعرف تنظمها صح.. و..
قاطعته:
ـ وأنا إيه؟.. بعرف أخلف صح.. وأخليك مبسوط صح.. وبسمع الكلام واسكت صح..
مسح وجهه بين كفيه يحاول السيطرة على أعصابه.. فهو يختزن غضب صامت منذ يومين.. ولا يريد أن يفجره بوجهها ولكنها تزيده بتمردها الذي لم يعتده منها.. تكلم بهدوء قدر استطاعته:
ـ أنا بحاول يا علياء.. بحاول أن حياتنا كلنا تنتظم.. ما تنسيش أننا جرحنا ريناد جامد.. وأن علاقتي بماما زي الزفت من يوم جوازنا.. و..
صرخت بغضب:
ـ وأنت بتكسب رضا ريناد على حساب وقتي معاك.. وعايز ترجع تكسب رضا مامتك على حساب ولادي.. لأ.. لأول مرة هقولك لأ يا يزيد.. كله إلا ولادي.. كله إلا ولادي..
ـ أنتِ ناسية إنهم ولادي أنا كمان!
ـ لا مش ناسية.. يا ريت ما تنساش أنت كمان.. تقدري تقولي كام مرة روحت معاهم لدكتور.. تطعيم.. كام مرة أجبرتني إني أبدل ميعاد حفلة عيد ميلاد التوأم عشان ميعادها الأصلي مش مناسب مواعيد ريناد هانم.. ولا بالصدفة عندك ارتباط في الوقت ده.. كام مرة سهرت جنب واحد فيهم لما بيتعب..
سكتت وقد ارتعش جسدها تألماً وغضباً:
ـ جاي دلوقتِ عشان تصالح مامتك بيهم تقول ولادي.. أما يكون لهم دور في حياتك ابقى سميهم ولادك...
همس بغضب:
ـ علياء.. اسكتي..
صرخت:
ـ لا.. مش هسكت.. هو ده كمان بمزاجك..
وتحركت لتخرج من الغرفة.. فأوقفها صارخاً:
ـ على فين؟
غمغمت وهي توليه ظهرها:
ـ هنام مع ولادي..
جذبها من يدها:
ـ ما فيش نوم غير هنا..
التفتت له وقد كتفت ذراعيها وتفجرت نوبة تمرد:
ـ طبعاً.. ما هو أنت جاي وسارق من وقت ريناد وكمان جايب لي هدية.. وبعد ده كله... أنام بعيد.. ما يصحش برضوه.. ما هو كله بمزاجك..
جذبها بعنف وهو يهتف بغضب:
ـ يعني هو ده بس اللي جابني؟..
رمقته بصمت وقد زمت شفتيها بغضب وتمرد.. يكره هذا التمرد.. يقلقه.. ويخافه..
تقدم منها ورفعها بين ذراعيه وهمس من بين أسنانه:
ـ خلاص يا علياء.. طالما أنتِ شايفة إنه كله بمزاجي..
وسقط بها في الفراش مطلقاً خوف وغضب وقلق اليومين الماضيين من عقالهم وهو يهمس بفحيح غاضب:
ـ يبقى هاخد مزاجي..
لم يكن عنيفاً, ولكنه لم يكن رقيقاً مراعياً أيضاً.. تغلب على مقاومتها بسهولة.. فبرغم غضبها منه إلا أنها لم تتمكن من مقاومته بقوة.. سيطر على قبضتيها في ثوانِ.. وغزتها شفتاه باجتياح يائس.. تتنقل بجنون بين وجهها وعنقها وصدرها الذي مزق ثوبها من عليه, لتصطدم شفتاه بدمعته الماسية فيلتقطها بلهفة, وكأنها تعويذة سحرية تأسره وتحجم من غضبه فسرعان ما تخلت قبضته عن كفيها ليتمكن من احتضانها برقة اختلفت عن عنفه السابق.. عادت تحاول دفعه عنها ثانية.. لا تريد أن تقدم حبها بتلك الطريقة.. لن تستلم لسطوة اشتهائه لها..
همسة يائسة أطلقها وسط صراعهما.. جعلتها تستسلم وتسكن بين ذراعيه.. لتمنحه ما يريد من حبها.. ولم تدرك أنه كان تلك المرة يستجدي هذا الحب ويحتاجه..
"ما تبعديش عني.. أنا محتاجك.. ما تبعديش يا علياء"..
مازالت همسته يتردد صداها بداخلها حتى الآن بعدما هدأت عاصفته ورفضت هي أن تسكن صدره كعادتها, بل ابتعدت عنه لتتحول إلى الجهة الأخرى موليه إياه ظهرها.. متجاهلة حركة أناملة المستمرة على ذراعها وبين خصلاتها.. لن يسترضيها بكلمات لطيفة بعدما قام بما قام به.. لن ترضى تلك المرة.. ولن تسامح..
"لن تسامحه تلك المرة"..
كان هذا ما يفكر به يزيد بالتحديد وهو يتأمل خصلاتها الداكنة المنتشرة على ظهرها بعبث.. ويراقب حركة تنفسها السريعة.. يعلم أنها تجاهد الدموع, وأنها غاضبة.. تفكر بأنه تصرف تحت سيطرة رغبة وشهوة.. تظن أنه انتهكها.. ولكنه لم يفعل.. وبأعماقها تدرك ذلك.. أنه فقط خائف.. خائف ويكره خوفه.. وغاضب للحالة التي وصل إليها.. يخاف فقدانها.. فقدان ما تدعيه له من حب.. لا يحتمل أن تكون ملكاً لغيره.. فهي له.. ملكه.. امرأته.. حتى لو تعالت آلاف الأصوات النسائية تعارض ملكية الرجل لأنثاه.. فلتهاجمن ملكية سائر النساء, لكن تلك المرأة له..
"تباً لك يا حسن"
لفظتها أفكاره الهائجة.. فهو لم يظن لحظة أن خبر زواج حسن السريع قد يبدل أحواله بتلك الطريقة.. فهو طالما تفهم حاجة الرجل إلى وجود امرأة في حياته.. ولم يزعج رأسه بتوصيف تلك الحاجة.. وتزيينها بكلمات كالحب والعشق أو حتى الإعجاب.. فالغاية واحدة.. والغرض معروف.. ولكن مع حسن.. كان يعلم أن تفكيره يختلف.. سلوكه وتصرفاته.. حسن بأكمله مختلف.. وأكبر دليل هو حربه المستمرة للزواج من منى.. والآن ماذا؟.. ماتت منى, وتزوج حسن!!.. مات الملك.. عاش الملك..
كيف؟.. اذاً هو على حق.. لا وجود للحب.. إنما هي مجرد مجموعة تفاعلات كيمائية بين البشر.. رغبات وأهواء.. يجملونها في النهاية بكلمات عشق لينأوا بأنفسهم عن أخلاق الحيوانات..
ابتسم بسخرية متخيلاً ملامح علياء وهي تستمع نظريته عن المشاعر والحب.. والتي تبجلهما, بل وتقدسهما تماماً.. وسرعان ما انمحت البسمة من على شفتيه وأفكاره تسحبه إلى دوامة الخوف, والغضب مرة أخرى..
هل من الممكن أن يختفي حبه من قلب علياء.. هل من الممكن أن تهجره.. أو تكون لغيره.. مع سهولة زواج حسن ثانية ماذا يمنع الحب من أن يتبخر بقلب علياء؟.. وتتركه!!!..
يعلم أنها معه فقط لأنها تحبه كما تدعي.. كما تؤمن هي بالحب.. لأنها مختلفة.. ليست كريناد.. تربطها به حسابات اجتماعية وعائلية.. ليست كأمه.. تربطها بأبيه علاقة سيكوباتية لا يفهمها..
هي مختلفة.. تحبه.. لذلك تمنح كل ما تملك تحت لواء حبها.. وهو خائف.. خائف أن يفقد حبها هذا.. أن تبتعد.. ألا تكون له.. أنه لا يثق بالحب.. كيف يأمن لشيء لا يفهمه ولا يثق به.. كيف يطمئن لدوامه وصموده بقلبها.. كيف وإمارات تمردها عليه وغضبها منه تزداد يوماً بعد الآخر..
تباً.. أنه يفكر كالنساء.. لقد حوله التفكير في الحب إلى امرأة بائسة..
تذكر جملة مازن عندما علم منه بحمل علياء..
"أنت بتربطها لتهرب منك ولا إيه!"..
قالها بصيغة مزح.. ولكنه لم يكن يمزح.. كان يلخص كل مخاوف يزيد نحو علياء.. فهو يعترف.. أنه يتعمد بالفعل أن يجعلها تحمل .. فلو تبخر حبها.. يظل أولادهما كأوتاد تربطها به على الدوام..
تباً أنه يفكر كالنساء بالفعل.. ولهذا تجنب على الدوام فكرة الحب.. لا يريد أن يكون رقيقاً هشاً كحسن.. أو مشتتاً ضائعاً كمازن..
الحب كان دائماً بالنسبة له.. رغبة ليشبعها.. ولكن.. ولكنه كان غبياً.. غبياً أخذ أربع سنوات ليفهم.. ويدرك.. ما يشعر به.. معنى علياء بحياته.. احتياجه لها.. واجتياحها لقلبه ومشاعره.. وجسده.. كيان متكامل.. ذلك ما يجمعهما.. وذلك ما يخشى بشدة فقدانه..
تحرك ليلتصق بها وضمها بين ذراعيه لتتوسد رأسها صدره كما اعتادت.. سيطر على مقاومتها له وهو يهمس لها بسؤال يفقده صوابه:
ـ علياء.. أنتِ ممكن تفكري تعملي زي حسن وتتجوزي راجل غيري؟..
ساد الصمت وكانت إجابتها على سؤاله دمعة ساخنة سقطت على صدره...
وهمسة بداخلها..
"هتفضل على طول طفل أناني يا حبيبي"
***************
خرج مازن من الحمام ليجد نيرة راحت في سبات عميق.. ولم يعرف لم انتابته الراحة لذلك, فدخل بجانبها تحت الغطاء محاولاً استدعاء النوم بلا جدوى..
وأخيراً سأم المحاولة.. نهض متجهاً إلى المطبخ ليعد لنفسه وجبة بسيطة.. وابتسم ساخراً.. زوجته كانت تتلهف إغرائه.. ولكنها لم تفكر حتى أن تسأله إذا كان تناول طعامه أم لا؟!..
قطب قليلاً وهو يضع شرائح الجبن مع الخيار في شريحة من الخبز يتذكر أنها لم تسأله عن منى.. أو حسن؟..
هل تعلم؟... هل أخبرتها علياء؟.. لا.. لا يعتقد.. علياء لا تخالف أمراً ليزيد.. محظوظ أنت يا يزيد.. فلا يعتقد أن تتركه علياء ينام بدون أن يتناول عشائه...
ـ صباح الخير يا مازن بيه.. حمد لله على السلامة..
التفت ليجد السيدة أنيسة مديرة المنزل_كما تدعوها نيرة_ تواجهه وهي تخبره ببشاشة:
ـ عنك أنت يا بيه.. أنا هحضر لك لقمة تاكلها..
أخذت تثرثر ببضع كلمات أثناء إعدادها لطعامه.. لم يكن منتبهاً لها في البداية, ولكن فجأة جذبت انتباهه بجملتها:
ـ الحمد لله أن حضرتك رجعت بالسلامة.. أكيد مدام نيرة هتحتاج وجودك جنبها اليومين دول.. معلش ربنا يعوض عليكوا أنتوا لسه صغيرين و..
قاطعها بحيرة:
ـ لسه صغيرين على إيه؟.. أنا مش فاهم حاجة!..
رفعت نظراتها له وهي تخبره بتعجب:
ـ هو سيادتك مش رجعت عشان عرفت بخبر إجهاض.. بس مدام علياء...
قاطعها بصراخ:
ـ إجهاض إيه!.. مين اللي اجهضت.. مدام علياء؟..
شهقت أنيسة بإنكار:
ـ لا.. بعد الشر عليها ربنا يكملها على خير.. أنا بتكلم على مدام نيرة..
تردد هتافه وهو يختفي من أمامها ليصعد الطابق العلوي في لحظات:
ـ نيرة... نيرررررة..
اقتحم الغرفة ليجدها جالسة أمام منضدة الزينة تمشط خصلاتها وبدا في ضوء النهار معالم الشحوب والإجهاد واضحة على ملامحها الجميلة..
التفتت على الفور.. فاقترب منها بلهفة وهو يركع على ركبة واحدة أمامها ويضم وجهها بين كفيه.. ويسألها بقلق:
ـ نيرة.. أنتِ كويسة يا حبيبتي؟.. أنتِ بخير؟..
همست بتوتر:
ـ أيوه الحمد لله .. أنا بخير.. ليه؟.. بتسأل ليه؟
ترك إحدى كفيه تحتضن وجهها بينما تحسست أنامله وجهها وجسدها كأنه يتأكد من أنها بخير بالفعل.. ثم عاد يضم وجهها بكفيه ويريح جبهتها فوق جبهته وهو يسأل:
ـ يعني أنتِ كويسة بجد؟.. أومال إيه موضوع الإجهاض ده؟..
رفعت رأسها بعنف وهي تهتف بتوتر:
ـ أنت عرفت منين؟..
ابتعد عنها وتحرك ليقف على قدميه ويسأل بتعجب:
ـ هو أنت ما كنتيش عايزاني أعرف ولا إيه؟..
ابتلعت ريقها بتوتر وهي تنهض بدورها وتحتضن جسدها بذراعيها:
ـ لا يا حبي مش قصدي..
قاطعها:
ـ أومال قصدك إيه؟.. وما قولتليش ليه امبارح بالليل لما سألتك؟..
اقتربت منه وقد تحكمت في توترها وانفعالها.. ورفعت كفها لتريحه على كتفه بينما أخذت تداعب أزرار قميصه وهي تخبره برقة:
ـ أنا كنت هقولك النهارده طبعاً يا حبي.. ما هو مش معقول كنت أبلغك بخبر زي ده وأنت لسه واصل من السفر وتعبان..
سألها بنبرة قلقة:
ـ وده حصل إزاي؟.. وليه ما قولتليش أنك حامل قبل ما أسافر؟..
أراحت جسدها عليه وهي مستمرة في مداعبة أزرار قميصه:
ـ ما هو أنا ما كنتش أعرف إني حامل.. أنت عارف أنا كنت مقررة تأجيل الحكاية دي.. أنا عرفت لما روحت المستشفى..
ورفعت عينيها إليه ببراءة وهي تكمل ولكن نبرتها شابها الكثير من التوتر:
ـ كنت نازلة السلم بسرعة.. واتكعبلت... وقعت.. و..
قاطعها بسرعة:
ـ سلم إيه؟.. كنتِ فين أساساً ومين وداكِ المستشفى؟..
لفت أحد أزرار القميص بقوة حتى انتزعته من موضعه فطار في أحد أركان الغرفة.. فابتلعت ريقها بصعوبة:
ـ كنت.. كنت عند علياء.. وهي اللي راحت معايا المستشفى..
قطب حاجبيه بحيرة:
ـ علياء!.. يعني يزيد عارف؟..
أومأت برأسها موافقة:
ـ آه.. أيوه طبعاً.. هو ما كانش موجود في الأول.. بس علياء اتصلت به وجه.. وكانوا معايا ليل ونهار اليومين اللي فاتوا..
نظر إليها بشك.. فيزيد رافقه معظم الوقت طوال أيام العزاء.. ولم يخبره بشيء.. وعلياء أيضاً كانت موجودة بجوار والدة منى معظم الوقت.. فكيف رافقاها طوال الوقت!!..
سمعها تكمل بتردد:
ـ حتى هما اللي وصلوني من المستشفى.. أنا خرجت إمبارح بس..
ردد بحيرة:
ـ إمبارح بس!.. وما كلمتنيش ليه يا نيرة؟.. هو موضوع زي ده مش لازم تبلغيني به؟.. إزاي ما تتصليش بيا؟..
ـ هو أنت كنت في إيه ولا إيه يا مازن.. معقول كنت اتصل بيك أبلغك خبر زي ده.. وأنت مسافر, وكمان ظروف مرض منى و..
قطعت كلماتها بغتة وهي تسأله:
ـ صحيح هي ماتت ولا لسه؟..
دفعها عنه بغلظة متناسياً وضعها الصحي وهو يهتف بتأنيب:
ـ ده مش أسلوب سؤال..
هزت كتفيها بلامبالاة:
ـ أنت عارف أني مش بحبها..
مسح وجهه بيديه وهو يهمس:
ـ الله يرحمها..
صرخت بلهفة:
ـ هي ماتت؟..
ثم أردفت بلهفة لم تستطع اخفائها:
ـ وحسن.. حسن عامل إيه؟.. رجع معاك؟..
رمقها لوهلة.. عاجز عن تحديد ما يشعر به.. دمائه تغلي في عروقه.. وقبضة من صقيع تعتصر قلبه في ذات الوقت.. الحقيقة الوقحة تصفعه مرة أخرى.. "لست حبيبها ولن تكون"..
وجد نفسه يخبرها ببرود وتشفي تقريباً:
ـ حسن اتجوز بنت فرنساوية وهيكمل حياته في باريس..
شهقت بغضب:
ـ إيه اتجوز!.. اتجوز إزاي؟.. وامتى؟.. طب ما هو عرف يتجوز واحدة غير منى.. اشمعنى..
قطعت كلماتها وعضت شفتيها لتمنع نفسها من الاسترسال.. ولكن بعد فوات الآوان.. فقد أدرك ما تريد قوله بالفعل.. وارتسمت في عينيه نظرة لم تستطع تفسيرها.. وكأن عينيه تصرخ بها بحزن.. حزن مقهور متألم..
وهي صمتت تبادله نظرات الأسف.. تطلب مغفرته التي منحها إياها طويلاً..
تأملا بعضهما قليلاً في صمت قطعه رنين هاتف نيرة فالتقطه مازن تلقائياً ليلمح الشاشة تضيء باسم..
"abortion clinic"
تنقلت نظراته بين وجهها وشاشة الهاتف.. لتتحول نظراته من الحزن إلى الغضب العاصف.. غضب لون ملامحه كلها بشراسة وقسوة وهو يلقي بالهاتف نحوها ويهز رأسه ببرود:
ـ ردي على تليفونك يا مدام..
تناولت نيرة منه الهاتف ولمحت بدورها المتصل.. فصرخت وهي تتمسك بذراعة متوسلة:
ـ لا يا مازن.. أنت فاهم غلط.. أنا..
قاطعها:
ـ أنا كنت.. كنت فاهم غلط.. بس أخيراً فهمت.. معلش كنت غبي شوية..
نفض يديها عن ذراعه وخرج من الغرفة.. بل من المنزل بأكمله..
**********
وقفت علياء في المطبخ وهي تعد طبق العسل الأسود بالطحينة وهو ما يفضله يزيد على الإفطار.. مع بعض شرائح التوست المقرمشة والتي تعدها له خصيصاً عندما وصلها صوت "أم علي" وهي تمصمص شفتيها:
ـ هو أنتِ تتخانقي معاه بالليل وتجهزي له فطاره الصبح!.. أومال يحس على دمه ازاي!
هتفت بها علياء بغضب:
ـ أم علي.. وبعدين معاكِ.. ما ينفعش تتكلمي عليه كده.. ولا عشان هو طيب وبيسكت لك..
بهتت "أم علي" للحظات.. وهي تدرك غضب علياء منها.. واعتذرت باحراج:
ـ معلش.. أنا بكلمك زي بنتي.. عندك حق.. يظهر أني نسيت نفسي..
التفتت لها علياء وقد شعرت بالذنب لتعاملها الجاف مع السيدة العجوز.. واقتربت منها لتطبع قبلة رقيقة على جبهتها:
ـ حقك علي.. أنا ما اقصدش أزعلك.. بس برضوه ما حبش أنك تتكلمي عنه بالطريقة دي..
سكتت السيدة العجوز وقد ارتسمت على ملامحها معالم الامتعاض.. فاستدركت علياء:
ـ بس أنتِ عرفتِ منين أنه احنا متخانقين؟..
أخذت "أم علي" تنهي غسيل الاطباق وهي تغمغم:
ـ ما هو قاعد بره ومش جاي يلزق فيكي زي عادته.. تبقوا اتخانقتوا!..
هزت علياء رأسها وهي تبتسم بعجز:
ـ أنتِ ما لكيش حل فعلاً..
بادلتها السيدة الابتسام.. وهي تدرك أن السيدة الصغيرة رضيت عنها ثانية.. وسمعت علياء تخبرها:
ـ يلا.. خودي الفطار بتاعه وحطيه على السفرة وبلغيه أن الفطار جاهز..
شهقت "أم علي" بعجب:
ـ لا طبعاً.. روحي افطري وفطري جوزك.. ازعلي واغضبي براحتك.. بس لا تنزليه من عندك غضبان.. ولا تنيميه غضبان.. أنتِ ناسية أن عندك شريكة مستنية أنك تبعتيهولها غضبان عشان هي تصالحه..
توسعت عينا علياء بإدراك ووجدت أن وجهة نظر "أم علي" صحيحة.. فحملت الأطباق وخرجت لتضعها على مائدة الطعام التي كان يزيد جالساً يقرأ الجريدة على رأسها.. وما أن انتهت من رص الأطباق حتى وجدته يجذبها من يدها ليجلسها على ركبتيه وهو يهمس بأذنها:
ـ أنتِ كويسة؟.. امبارح.. أنا..
أشاحت بوجهها عنه ولم تدعه يكمل كلماته ولكنه أدار وجهها ليقابله بينما كفه يتحسس بطنها:
ـ أنتِ كويسة؟.. محتاجة تروحي للدكتورة ولا حاجة؟..
هزت رأسها نفياً.. وقد تجمعت الدموع بعينيها وأخبرته بهمس:
ـ انا محتاجة آخد الولاد واروح يومين المعمورة..
وافقها بسرعة:
ـ وماله.. نروح..
قاطعته وهي تنهض من فوق ركبتيه وتهز رأسها رافضة:
ـ لا.. هاروح مع الولاد وأم علي بس..
صرخ بغضب:
ـ لا طبعاً.. ما فيش سفر لوحدك..
قطع صوت جرس الباب كلماته.. فتحرك ليفتحه بسرعة حتى يوقف الكلمات الغاضبة من الاندفاع على لسانه.. فها هو ما يخشاه يتحقق.. هي تريد الابتعاد عنه..
ذهب ليفتح الباب ليفاجئ بقبضة مازن تنطلق في وجهه فسقط أرضاً وسط صرخات علياء..




التعديل الأخير تم بواسطة لامارا ; 20-01-18 الساعة 05:33 PM
لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-01-18, 05:17 PM   #30

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل السابع والعشرون


حلم جميل طاردته منذ لاح..
بعت لأجلك كل نفيس وتحديت المحال..
وتخطيت لعيونك الخطوب والصعاب..
ونسفت لوصلك التقاليد والأعراف..
وسكبت دمعي ودموعي لكِ كل صباح..
وقدمت حبي وحياتي وكل مباح..
وتغاضيت عن كثير وسكبت السماح..
وللأسف لم تكونى إلا وهماً وسراب..
طاووساً جميلاً وفي داخله غراب نواح..
أبكي على قلبي المحطم تذروه الرياح..
خاطرة الفصل بقلم:
إيمان حسن
"همسات حالمة"
ارتمت نيرة على المقعد العريض بالغرفة ترمق مكان اختفاء مازن بذهول وقد تجمدت دموعها وذلك الهاجس المميت يخبرها أن مازن لم يخرج فقط من البيت, بل من حياتها بأكملها.. ستفقده مثلما فقدت كل ما هو مهم في حياتها.. وآخرهم طفلها..
أغمضت عينيها لتسمح للعبرات المحبوسة بالهبوط على وجنتيها.. فيبدو أنها لا تمتلك موهبة الاحتفاظ بأحبائها.. بداية بأمها.. ومروراً بأبيها ثم حسن.. وآخرهم مازن.. مازن الذي ابتذلت حبه لها.. وأفقدته معناه وقيمته.. وأخيراً نحرته عندما فكرت في التخلص من طفلهما..
حسناً.. لم يكن الأمر مجرد تفكير.. فهي خططت واتخذت خطوات بالفعل.. ولكنها عجزت عن التنفيذ.. لم تظن يوماً أنها تمتلك ما يسمى بعاطفة الأمومة, لذا كان قرارها حاسماً بالتخلص من طفل استقر في رحمها عن طريق الخطأ.. طفل لا تريده ولم تسعى له, بل وجوده سيزيد من تعقيد الموقف فإذا ما ماتت منى وقرر حسن العودة.. لا يجب أن يعود ليراها منتفخة بطفل رجل آخر.. طفل لا تريده في المقام الأول.. أو هذا ما كانت تظنه حتى تمددت على سرير الكشف أمام ذلك الطبيب الكريه..
لم تعرف كيف تردد بداخلها صوت نبضات صغيرها أو لعلها نبضات رعبها هي.. أو ربما هو صوت مازن تتخيله يدوي..
"هتقتلي ابننا يا نيرة؟.. هتقتلي ابننا؟"..
كان صوته يزلزل أعماقها.. وكأنه حقيقة.. عيناه احتلت المشهد تماماً حتى اختفى الطبيب ومساعدته خلف تعبيراتهما الحزينة اللائمة... وكلمة "ابننا" تتخيلها تدوي في الغرفة بأكملها.. ولم تدرك ما حدث بالفعل.. لكنها وجدت نفسها تلهث راكضة وهي تحاول الهروب من أمام الطبيب, بل أنها لم تنتظر المصعد واندفعت تركض على درجات السلم لتجد جسدها يطير في الهواء لينخفض زاحفاً متدحرجاً على سلم المبنى..
لم تشعر بآلام السقوط.. ولم تلتفت لوجع جسدها وكدماته فقط سيطر على عقلها شعورها بالسائل الدافئ يتسرب بين ساقيها لتدرك أنها لم تعد بحاجة لخدمات الطبيب.. وبالتأكيد لا داعي للقلق من وجود طفل لا ترغب به.. فالطفل نفسه أبى الاستمرار برحمها.. ولكن ما عليها القلق بشأنه بالفعل.. هو رد فعل مازن.. وهل سيصدق ما حدث؟.. هل سيسامحها؟..
أفاقها من شرودها صوت أنيسة وهي تطرق الباب المفتوح بالفعل وتسألها بتردد:
ـ مدام نيرة.. أحضر الغدا دلوقتِ.. ولا هننتظر مازن بيه؟..
رمقتها نيرة بشرود وهي تتعجب لمرور الوقت وهي غارقة في ذكرياتها.. وأخبرت أنيسة بجمود:
ـ اعمليلي فنجان قهوة بس..
هتفت السيدة بعجب:
ـ قهوة يا مدام!.. حضرتك محتاجة تتغذي كويس..
صرخت بها نيرة بغضب:
ـ أنتِ هتناقشيني.. روحي اعملي القهوة..
خرجت السيدة مسرعة لتنفذ الأمر فهي لا تحتمل إحدى ثورات نيرة.. بينما تكومت الأخيرة على المقعد وأفكارها كلها تدور حول مازن وكيف يمكنها احتواء غضبه.. واسترجاع نظراته العاشقة لها مرة أخرى...
*********
سقط يزيد أرضاً وهو يمسد جانب وجهه ويتأوه بخفوت بينما اندفعت علياء نحوه لتهبط على ركبتيها بجواره وتهتف بهلع:
ـ يزيد.. يزيد أنت كويس؟..
ثم التفتت إلى مازن لتصرخ به بشراسة:
ـ في ايه يا مازن؟.. أنت اتجننت!
لم يجبها مازن بل تبادل النظرات مع يزيد في صمت قبل أن يعتدل يزيد من سقطته ويرفع علياء معه ليخبرها بهدوء بدون أن يحيد بنظراته عن عيني مازن:
ـ ما تدخليش يا علياء وادخلي جوه دلوقتِ...
تذمرت بغضب وهي تقترب منه:
ـ ازاي ما اتدخلش وهو ضربك!
قطع يزيد التواصل البصري بينه وبين مازن ليلتفت لعلياء هاتفاً بحنق:
ـ جوه يا علياء!
قاطعه مازن بغضب أكبر:
ـ خايف عليها قوي!.. طبعاً ما هي طول عمرها شريكة نيرة هانم في كل جرايمها!..
التفتت علياء بذهول لمازن:
ـ أنا!!.. شريكة في جريمة!.. أنا مش فاهمة حاجة..
هتف بها يزيد من بين أسنانه:
ـ ادخلي جوه وما تتحركيش من أوضتك..
والتفت لمازن بسرعة وهو يشير له:
ـ الكلام هيكون بيننا.. مالكش دعوة بمراتي.. اتفضل على المكتب..
وصرخ بأم علي قبل أن يدخلا إلى غرفة المكتب:
ـ اياكِ اشوفك جنب المكتب..
أغلق باب غرفة المكتب بإحكام واستند عليه مواجهاً مازن الذي وقف في منتصف الغرفة بتحفز شديد بينما يزيد يخبره بهدوء:
ـ خلص شحنة الغضب اللي جواك كلها وبعدين نتكلم..
لوح له مازن بقبضته:
ـ ما تستفزنيش يا يزيد..
أومأ يزيد موافقاً:
ـ حاضر يا مازن.. أنت معاك حق.. أنا غلطت وكان لازم أبلغك أن نيرة في المستشفى من أول لحظة.. لكن الظروف كلها منعتني.. وهي ما كانتش لوحدها.. علياء كانت بتراعيها.. وعرضت عليها أني أبلغك, بس هي رفضت.. و..
هتف مازن بغضب:
ـ وأنت طبعاً ما صدقت عشان تحمي مراتك!
ضيق يزيد عينيه وأخبره بهدوء غاضب:
ـ احمي مراتي!.. أنت عايز تمشي الموضوع كده يا مازن.. والغلطة غلطتي أنا وعلياء.. صح؟..
أخذ مازن يبادله النظرات الغاضبة لعدة لحظات ثم التفت ليتناول أول ما طالته يداه وكانت مزهرية كريستالية فقذفها بكل قوته نحو الحائط.. وأخذ يتأمل حطامها المبعثر أمامه ويشير إليها بأصبع مرتعش وهو يردد بحروف مبعثرة:
ـ قتلته.. ابني.. قتلته...
كان جسده يرتجف مع حروفه.. وأكمل كلماته المبعثرة وكأنه يخاطب قلبه الذي امتدت قبضته لتضربه بعنف:
ـ الست الوحيدة اللي حبيتها.. اللي اتمنتها.. كنت بدعي ربنا أنه ما ينزعش حبها من قلبي حتى وأنا فاقد الأمل أنها تكون ليا.. كنت مكتفي بإحساسي أنه ما فيش راجل هيحبها قدي.. يبقى ده جزائي!.. ده المقابل لحبي, أنها تقتل ابني جواها.. للدرجة دي بايعاني.. للدرجة دي أنا ولا حاجة عندها..
راقبه يزيد بقلق وهو يدرك أنها لحظة مصارحة مع النفس.. لا يريد التدخل بها وفي نفس الوقت لن يستطيع ترك مازن يدمر عنفوانه بتلك الطريقة.. فجذبه ليجلسه على الأريكة.. وتحرك ليملأ له كوباً من الماء ويدفعه بيده قائلاً:
ـ مازن.. بلاش نسبق الأحداث.. تقرير الاسعاف بيقول..
ضغط مازن بكل قوته على الكوب الزجاجي ليتحطم بين يديه مسبباً بعض الجروح الخفيفة.. وسال الماء من بين أصابعه ممتزجاً بدمائه وهو يتأمل المشهد بشرود بينما اندفع يزيد ببضعة مناديل ورقية ليجفف يدي مازن ودمائه.. قائلاً:
ـ نروح دلوقتِ المستشفى ونستفسر عن حالتها بالظبط..
قاطعه مازن ونهض بقوة وقد بدا العزم على وجهه وألقى بالمناديل المدماة أرضاً:
ـ أنت هتيجي معايا فعلاً.. بس عشان نسجل عقد جوازي من دنيا عند مأذون شرعي..
*********
أغلقت دنيا الباب خلف يزيد ومن معه بعدما أخبرها يزيد بهمس أن مازن في حالة نفسية سيئة ولم يزد عن ذلك بأي كلمة..
التفتت لتواجه مازن الذي مدد جسده على الأريكة, واضعاً إحدى ذراعيه فوق رأسه بينما ترك الأخرى لتسقط بجانبه.. أخذت تتأمله لثوانٍ وقد بدا على وجهه معالم إرهاق عميق وأغمض عينيه يخفي عنها ما يفكر به..
تحركت لتجلس أرضاً على ركبتيها بجواره وسحبت يده الجريحة وأخذت تطهر جروحه وتعالجها برقة وهو مستسلم لها تماماً, وما أن انتهت من عملها حتى رفعت كفه إلى شفتيها تقبل باطن يده بعمق ثم بدأت في توزيع قبلات صغيرة على جروحه وارتكزت على ركبتيها لتتمكن من ملامسة وجهه باليد الثانية.. فأخذت تتبع ملامحه بأناملها الرقيقة واقتربت بوجهها منه لتهمس بقلق:
ـ أنت تعبان يا مازن؟..
فتح عينيه أخيراً وأحاط وجهها بكفه وهو يتأمل ملامحها الجميلة بحنين وارتسمت على وجهه ابتسامة حزينة وهو يخبرها:
ـ ما تشغليش بالك.. شوية إرهاق بس..
تمسكت بكفه الجريح وهي تسأله بقلق:
ـ والجروح اللي في ايدك؟..
داعب خصلاتها برقة وهو يرسم ابتسامة حزينة:
ـ زي ما يزيد قالك.. ايدي اتخبطت في كوباية واتكسرت..
هزت رأسها بعدم تصديق ولكنها لم تضغط عليه أكثر وتحركت على ركبتيها حتى التصقت بالأريكة وألقت برأسها على صدره فأحاطتها ذراعه تلقائياً بينما يديها كانت تمسد كتفيه وهي تهمس:
ـ قلبك تعبان يا مازن.. أنا حاسة به..
وحركت ذراعيها ليحيطا بعنقه وترتاح رأسه على كتفها وهي تكمل:
ـ احكي لي بس فيك ايه..
شعرت بتنهيدته الحارة تلفح عنقها وهو يرفعها من الأرض لتتمدد فوقه وإحدى ذراعيه تدعمها بينما الأخرى تتلاعب بخصلات شعرها بعبث وعلى شفتيه ابتسامة شاردة.. بينما هي رفعت رأسها قليلاً للتأمل ملامحه الحزينة وتسأله بقلق:
ـ مازن.. هو موضوع جوازنا سبب لك مشاكل مع.. مع.. نيرة؟..
اختفت ابتسامته وقست تعبيرات عينيه عند سماعه لاسم نيرة, وانتبهت دنيا لذلك ولكنها ظنت أن إعلان زواجه بها هو السبب.. فحاولت الابتعاد عنه ولكنه تمسك بها بقوة ومنعها من التحرك وهو يخبرها بحسم:
ـ دنيا.. وجودك في حياتي عمره ما كان ولا هيكون سبب لأي مشكلة.. واعلان جوازنا خطوة اتأخرت فيها كتير..
حاولت التملص من قبضته القوية عليها بينما هو تشبث بها بيأس لمحته في ملامح وجهه وتعبيرات عينيه فهتفت بقلق:
ـ اومال مالك بس يا مازن؟.. في ايه؟.. هي رفضت وجود زوجة تانية في حياتك؟..
أبعد عينيه عنها وشرد بنظراته بعيداً وهمس بقسوة:
ـ هي الزوجة التانية مش أنتِ..
انتفض قلبها من قسوة نظراته.. وسألته بخوف:
ـ اعلان جوازنا النهارده.. عقاب لنيرة يا مازن؟
تملصت منه تلك المرة بنجاح ونهضت واقفة وهي تكتف إحدى ذراعيها حول نفسها وتضع كفها على فمها تحاول كبت غصة كادت تفلت منها.. وعادت تكرر بألم:
ـ بتعاقبها بيا يا مازن؟.
نهض مازن ببطء واقترب منها ليمسك بكتفيها ويرتكز بجبهته على جبهتها وهو يهمس:
ـ أنتِ وجودك في حياتي مكافأة ليا.. وطلبك أني أكون أب لطفل منك هو جايزتي الحقيقية..
حاولت أن تجبه ولكنه قاطعها هامساً وهو يضع أصابعه على شفتيها:
ـ خلاص يا دنيا.. أنا مش قادر أتناقش.. أرجوكِ..
ارتفعت على أطراف أصابعها لتحتضنه وتقربه منها وبداخلها قلق عاصف لا تدري ما به.. أو ما يعانيه.. فقط تشعر بتشبثه اليائس بها.. تخللت أناملها خصلاته برقة فسحبها معه ليجلسا معاً على الأريكة الواسعة ورأسه تتوسد صدرها..
خيم عليهما صمتاً شجياً قطعه مازن بقوله:
ـ تعرفي أنا نفسي في بنت..
ابتسمت دنيا برقة وأناملها تداعب وجهه وهي تكرر:
ـ بنت!..
أكمل كلماته وهو يعدل جلساته فيريح رأسه على ركبتيها ويرفع باقي جسده على الأريكة:
ـ ايوه.. بنوتة.. أنا بحب نادية بنت يزيد قوي..
رفع عينيه لها وأكمل:
ـ بس علميها الحنية يا دنيا.. عايزها تبقى حنينة على الناس اللي بيحبوها..
صمت للحظات ولم تقاطعه دنيا ليكمل بعدها:
ـ أصعب حاجة أن القسوة تيجي من الناس اللي بنحبهم.. بتبقى مش عارف تتوجع من قسوتهم ولا من القلب اللي عاجز عن كراهيتهم..
همست دنيا بألم وقد بدأت دموعها تتساقط صدى للوجع الذي تستشعره بداخله:
ـ مازن..
ولكنه أكمل وكأنه لم يسمعها:
ـ بتبقى كرامتك بتصرخ فيك تاخد موقف.. وكبريائك بتدبحك.. وقلبك بيتنفض مجروح, لكن مش قادر يقسى..
شهقت دنيا بدموعها فرفع مازن رأسه متسائلاً:
ـ بتعيطي ليه يا دنيا؟..
منعتها دموعها من الرد عليه فاعتدل في جلسته ليمسح دموعها بأنامله ويكرر همسه:
ـ بتعيطي ليه يا دنيا.. أنا..
همست من وسط شهقات دموعها:
ـ أنت تعبان يا مازن وأنا مش فاهمة ليه.. ومش عارفة أعمل ايه!!
ضمها لصدره بقوة وهو يدفن ألمه داخل طيات شعرها ويتمسك بها بقوة:
ـ مش بقولك أنك مكافأة الدنيا ليا..
تمسكت به بقوة وهي تحاول التحكم في دموعها:
ـ قولي بس أريحك ازاي..
ابتسم لها محاولاً إلهائها عن ألمه وهو يخبرها بعبث حزين:
ـ مازن عايز عسل..
ضحكت وسط دموعها وهي تتحرك لتضم رأسه لصدرها بقوة وهي تهمس:
ـ مازن يستحق الحب كله..
لم يغرق مازن بالعسل, ولم تتركه دنيا يغرق في رثائه لنفسه أيضاً.. بل منحته كل ما يستحق من حب.. وكل ما تملكه من مشاعر.. لم تقدم له ذراعيها ليسقط بينهما.. ولا أحضانها لينسى ألمه.. ولكنها جعلته يدرك كيف تقدم امرأة حبها من خلال قلبها ومشاعرها وليس جسدها فقط..
***********
دلف مازن إلى غرفته بهدوء بارد ليلمح نيرة المتكومة على مقعد عريض بالغرفة.. بدا أنها سقطت نائمة وهي بانتظار عودته.. أغمض عينيه قليلاً وهو يشعر بالإمتنان لوجود دنيا في حياته.. فلولا حوارهما الطويل الليلة.. وقدرتها الفائقة على امتصاص شحنة الغضب بداخله.. كلا.. ليس الغضب فقط.. بل الحزن والقهر وكسرة القلب.. لولا حبها الذي قدمته بلا شروط.. بلا مقابل, لكان قام بقتل نيرة كما قتلت ابنه بدم بارد.. ولكنه الآن قادر على مواجهتها بدون أن تشعر بما يعتمل داخله من حزن.. من انكسار وخزي لأنه أحبها يوماً.. ويبدو أن لعنته مستمرة فهو عاجز عن التخلص من تلك المشاعر الصاخبة, فقط تحولت من عشق جارف إلى كراهية مريرة.. كم يحلم باللحظة التي يتحرر بها من قيد تلك المشاعر.. قد يدفع عمره كله ليصل بقلبه إلى نقطة الحياد..
يا الهي.. كم تبدو اللامبالاة حلماً ثميناً في عيون رجل غلبته مشاعره على أمره.. وقهرت رجولته وكبريائه..
زفر بألم وتحرك ليقف أمامها ويتأملها للحظات وقد بدا شحوب وجهها واضحاً والدموع قد تركت أثاراً واضحة على وجنتيها..
قلب شفتيه يتساءل بمرارة ساخرة عن سبب دموعها.. أهو انكشاف كذبتها؟.. أم زواج حسن وتفضيله امرأة أخرى للمرة الثانية؟..
هز رأسه بحزن وتوجه إلى خزانته ليخرج منها ما يحتاجه.. فهو لن يبقى معها في مكان واحد.. لن يسمح لرئتيه أن يتنشقا نفس الهواء الذي تتنفسه..
حركته المستمرة أيقظت نيرة ففتحت عينيها ببطء لتراه يتحرك في جميع أرجاء الغرفة, وما هي إلا ثوانٍ حتى اكتشفت أنه يجمع أشيائه في حقيبة كبيرة...
انتفضت بقوة فوق مقعدها وهي تتحرك متوجهة نحوه:
ـ مازن.. مازن.. أنت بتعمل ايه؟..
التفت إليها يرمقها بنظرة بلا معنى.. ثم أكمل جمع أشيائه.. فهتفت بجزع:
ـ ماااازن..
واقتربت منه لتتمسك بذراعه:
ـ مازن.. رد عليّ..
توقف عن الحركة وأبعدها عنه ليكتف ذراعيه ويجيبها ببرود:
ـ افندم..
ترقرقت الدموع بعينيها وهمست بحزن:
ـ ليه.. ليه بتكلمني كده؟..
هز رأسه بعجز:
ـ ليه؟!.. أبداً.. ما فيش أي حاجة..
هتفت بتساؤل متعجب:
ـ أنت بتعمل ايه؟.. واخد هدومك على فين؟...
أجابها بهدوء بارد:
ـ مع أنه شيء ما يهمكيش في حاجة.. بس هقولك.. أنا هرجع أوضتي القديمة..
وأشار إلى أرجاء غرفتهما بإزدراء:
ـ وجودي في المكان ده بيخنقني!
همست:
ـ وجودك معايا بيخنقك!.. ازاي؟.. فين كلامك عن حبك ليا..
التفت لها بغضب وهو يجذبها من ذراعها بعنف:
ـ حبي!.. بتكلميني عن الحب.. وأنتِ حتى ما اقدرتيش تحبي ابنك اللي من دمك!
مدت يديها لتتمسك بذراعيه وهي تهمس له بتوسل:
ـ لا.. لا.. مازن أنت فاهم غلط..
دفعها بقوة وهو يقاطع كلماتها:
ـ مش عايز أفهم ولا أسمع منك حاجة..
عادت تتمسك بذراعه وهي تخبره:
ـ أنا وقعت على السلم.. اللي حصل كان مجرد حادثة.. قضاء وقدر..
أطلق ضحكة ساخرة:
ـ والمفروض بقى أني أصدق..
أشاح بيده بمرارة قائلاً:
ـ خلاص يا مدام.. أنا كبرت وما بقيتش أصدق القصص الخيالية..
هتفت بثقة واهية:
ـ صدقني يا مازن.. أنت ممكن تشوف تقرير الإسعاف..
صرخ بها:
ـ كداااااابة..
ثم وضع وجهه بين كفيه وهو يحاول استعادة هدوئه.. فهو لن يمنحها أي من مشاعره حتى ولو كان الغضب.. حاول السيطرة على انفعلاته.. وابتعد عنها ليكمل جمع أشيائه.. وقد تحولت ملامحه لقناع ثلجي متجمد..
أخذت تراقبه بقلق وبدأ شعور قارص بالخوف يهاجمها.. فهو لم يصدقها, بل لم يمنحها الفرصة للدفاع عن نفسها.. والأدهى أنه سيتركها.. سيهجر فراشهما وستفقد كل سبل التأثير عليه..
اقتربت منه وهي تحاول محايلته والتغلب على حاجز البرود الذي يرفعه أمامها:
ـ مازن.. احنا الاتنين أعصابنا تعبانة..
التفت لها ورمقها بنظرة مزدرية وهو يهز رأسه بعجب.. بينما أكملت هي تحاول إحكام خطتها:
ـ ايه رأيك نسافر يومين نغير جو.. ولما أعصابك تهدى هنتكلم وأشرح لك كل حاجة..
رمى قطعة الثياب التي كان يحملها بيده في الحقيبة والتفت لها مبتسماً بسخرية مريرة:
ـ تعب أعصاب!.. أنتِ شايفة أن المشكلة كلها تعب أعصاب!!
اقتربت منه بسرعة لتتمسك بكتفيه.. وكلماتها تخرج بسرعة:
ـ مازن.. أنا عايزة نحاول نبدأ من جديد.. و..
قاطع كلماتها محاولاً ابعادها عنه إلا أنها تمسكت به ورفعت كفيها لتحيط بهما وجهه وهي تكمل كلماتها السريعة:
ـ أنا هتغير.. هتغير يا مازن.. أنا مش ممكن هخسرك..
أبعد كفيها عن وجهه وهو يردد:
ـ تخسريني!..
وتحرك مبتعداً عنها وهو يهتف:
ـ المسألة كلها بالنسبة لك مكسب وخسارة.. حسبة باردة بدون مشاعر.. المهم أن نيرة هي اللي تنتصر..
هتفت بقوة:
ـ لا يا مازن.. صدقني.. الموضوع مش كده.. أنا لسه عايزاك..
رد عليها ببرود وهو يعود لوقفته المتحفزة ويكتف ذراعيه على صدره:
ـ وأنا ما عدتش يهمني!..
هزت رأسها بعدم تصديق وهي تحاول استيعاب كلماته:
ـ يعني ايه يا مازن؟!
أجابها ببرود:
ـ يعني أنا عايز.. محتاج.. زوجة حقيقية.. زوجة تكون إنسانة عندها قلب ومشاعر قبل ما تكون مجرد...
وأشار إلى مفاتنها بازدراء, فهتفت بإتهام غاضب:
ـ أنت تعرف واحدة تانية فعلاً؟
ابتسم بسخرية.. وسرعان ما تحولت الابتسامة إلى ضحكة, ثم إلى قهقهات عالية وهو يصفق لها ساخراً:
ـ برافو..
قطبت حاجبيها بغضب وهي تهتف به:
ـ بتضحك.. أنت جاي تتهمني بقايمة اتهامات طويلة علشان تغطي على خيانتك ليا.. وكمان بتضحك؟!..
احتفظ مازن ببسمة ساخرة على شفتيه وهو يعاود التصفيق لها هاتفاً:
ـ أنتِ مش معقولة.. بجد.. مش معقولة..
ثم جذبها من ذراعها فجأة فارتطمت بصدره بعنف ومد يده ليمسك ذقنها ويقرب وجهه منها هاتفاً بقسوة:
ـ أنتِ مصدقة نفسك؟!.. ولو مصدقاها.. تعتقدي أني ممكن أصدقك.. أو أصدق حلمك الخيالي ببداية جديدة؟.. بداية لمين؟ ومع مين؟.. معاكِ!.. أنتِ؟!.. مع واحدة قتلت ابني بمنتهى القسوة والتجبر.. وجاية تدور على بداية!.. البداية أنتِ قتلتيها.. زي ما قتلتِ أي مشاعر كانت جوايا..
هزت رأسها بشدة فتناثرت خصلاتها:
ـ لا.. لا.. أنت بتقول الكلام ده لأنك زعلان وغضبان.. أنت بتحبني.. أنا متأكدة.. أنت مش ممكن تحب غيري.. أنت..
أبعدها عنه محاولاً السيطرة على غضبه ثم أخبرها بأقصى ما استطاعه من هدوء:
ـ أنا فــحياتي واحدة تانية فعلاً.. أنا متجوز..
صرخت بغضب:
ـ أنت بتعاقبني.. بتعاقبني على جريمة اخترعتها في خيالك..
مط شفتيه بسخرية:
ـ خيالي!.. ما فيش فايدة فيكي.. ما فيش فايدة.. حتى ما فكرتيش تعتذري..
اقتربت منه تحاول لمس وجنته وهي تخبره بهيسترية:
ـ مازن.. بص.. أنا غلطت.. وأنت عاقبتني واتجوزت.. خلاص خالصين.. طلق اللي أنت اتجوزتها دي.. وأنا هسامحك.. وهعتبرها نزوة وعدت.. و..
صرخ بها وقد عجز عن السيطرة على غضبه:
ـ نزوة!.. وهتسامحيني؟!.. فوقي بقى.. فوقي يا مدام.. أنا ودنيا متجوزين من أكتر من خمس سنين..
رمشت بجفونها عدة مرات.. وبدا أنها تعاني في استيعاب ما قاله:
ـ خمس سنين.. خمس سنين ايه؟!.. أنت بتقول ايه؟!
وابتعدت عنه وهي تشير له بعد تصديق:
ـ محاولة فاشلة يا مازن.. أنا مش ممكن أصدق الكلام ده..
هز كتفيه بعدم اهتمام:
ـ أنتِ حرة.. صدقي.. ما تصدقيش.. شيء يرجع لك..
وضعت يدها على جبهتها تدعكها بقوة وكأنها تحاول تنقية أفكارها:
ـ يعني.. يعني أنا الزوجة التانية.. وأنا... احنا.. أنت.. تلات سنين عايشهم معايا وأنت في واحدة تانية فحياتك.. ازاي؟.. ازاي قدرت تخدعني الفترة دي كلها؟..
أجابها بسخرية:
ـ ازاي قدرت أخدعك!!.. تفتكري ده السؤال؟!.. لا يا مدام.. السؤال هو ازاي زوجة ما قدرتش تحس بوجود واحدة تانية في حياة جوزها لمدة تلات سنين وأكتر؟.. عارفة ليه؟..
أطلق ضحكة مريرة قبل أن يخبرها:
ـ لأنها ببساطة مش حاسة به كزوج.. ولا هي اتعاملت معاه كزوجة..
صمت للحظة يتأمل أثر كلماته عليها.. ولكنه وجد أن ملامحها تحمل معالم عدم الاستيعاب.. وعدم التصديق.. فأكمل ما يريد قوله:
ـ خبر جوازي بدنيا هيكون منشور في كل الجرايد والمجلات بكره.. أنا طلبت من قسم العلاقات العامة عندنا في المجموعة يوزعوا بيان يأكد الخبر.. دنيا لها اسمها ومركزها ومش هسمح لأي شخص أنه يمسها..
رفعت عينيها له وقد تجمدت دموعها:
ـ دنيا!.. دنيا الموجي.. مصممة الأزياء؟..
أومأ برأسه موافقاً وهو يكمل كلماته:
ـ البيان مع السكرتيرة بتاعتك.. يا ريت تتابعي الموضوع بنفسك.. وأنا مستعد أرد على أي استفسار.. ولو احتاج الموضوع مؤتمر صحفي ما فيش مشاكل.. نحدد ميعاد ونعمل واحد..
صرخت به بعنف:
ـ أنت جبت القسوة دي كلها منين؟!..
ضحك ضحكة ساخرة:
ـ من أستاذة في القسوة..
حمل حقيبته خارجاً من غرفتها.. لعله يوماً يستطيع الخروج من حياتها بأكملها..


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:40 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.