مساءا
برغم سنّها الصّغير الذي لم يتجاوز العشرين من عمرها إلّا أنّها استطاعت بجدّيتها وصرامتها وبقدرتها الكبيرة على تحمّل المسؤولية في تنشئة إخوتها ورعايتهما مع والدتها ما إن توفي والدها منذ تسع سنوات فرض احترامها على كلّ من يعرفها وهكذا وبينما كانت تمشي كانت تتلقّى السّلام من أغلب من تمرّ به "بالحارة" فتردّ التحيّة دون حتّى أن تلقي عليهم ولو نظرة، ليس إباء وترفّعا ولكن لانشغال عقلها بكلّ شيء ولا شيء فعقلها كما دوما يدور في دوّامة لا تنتهي من المسؤوليات والمصروفات والمذاكرة والـ... عمل
تنهّدت بتول وأكملت طريقها كما بدأته.. غافلة، فهي لم تكن مضطرة لتنظر أين تحطّ قدماها فهما تحفظان كلّ شبر في هذه الحارة التي لم تعرف غيرها طوال حياتها، تحفظ كلّ حجر في كلّ بناية حفر فيه الزمن حكايا ساكنيها، تحفظ كلّ عربة تقف على قارعة الطريق تعلم رائحتها وتحفظ مكوناتها وتميّز طعمها وتعرف صاحبها فها هي عربة الكبدة لصاحبها عمّ عبده تقبع بزاوية الحارة هي أقرب لمحلات الباعة منها للمباني السكنية، وها هي عربة بيع الكشري لصاحبتها أمّ سوسو قريبة من قهوة المعلّم حسن أبو علي والتي يصدح منها دوما رنين النرد وهو يناغش خشب "لعبة الطاولة" أو حفيف ورق "الكوتشينة" وهي تقذف على الطاولة بقوّة تتجانس مع مدى أهمّيتها في مجريات اللعبة، هذا عدى أنين الكراسي التي تُسحب على الأرض دونما رفق أمّا صوت الراديو وقرقرة "الشيشية" فهي خلفية صوتية دائمة في كواليس القهوة، لكن تبقى هناك تلك اللحظات التي يتبدّل فيها صوت الراديو -بأمرٍ من صاحبها- لصوت العندليب الأسمر يشدو بأغاني الشوق والعشق، والتي تترافق مع مرور ابنة الجيران الفاتنة بائعة الخضار شادية، تحمل لها قلبه وأشواقه لتتلقّاها هي بأذن من طين وأخرى من عجين متعامية عن لهفة القلب المكلوم بفقد أب وأم فارقاها تاركان لها منهما كبير الأثر... كومة من اللحم الحيّ تحتاج عناية ورعاية... أكل ولبس... نقود ليس الكثير ولكن على الأقل... ما يكفي!
أفاقت بتول من شرودها على رائحة الفول والطعميّة الشهيّة والتي كانت الآن تفوح بقوّة من العربة القريبة منها موقظة عصافير بطنها فتنهّدت براحة حيث أنّها تقريبا قد وصلت البيت أخيرا
ما إن دلفت من باب بنايتهم المكسور حتّى خلعت حذاءها وحملته بيدها بينما تصعد السلّم بدرجاته الضيّقة حتّى وصلت الدور الرابع حيث شقّتهم
دوما كانت شقّتهم رغم صغرها ورغم قدم أثاثها، هي المكان الوحيد حيث تجد فيه أمانها وراحتها، لذلك ما إن دخلتها حتّى استنشقت نفسا طويلا زفرت فيه كلّ العبء الذي كان يرزح على قلبها والضغط الذي كان يحرق أعصابها فيوم كامل مع مديرها.. الطفل المدلل المتلاعب المستفز ليس أمرا هيّنا أبدا
صوت شجار مريم شقيقتها ذات الستة عشر عاما مع محمّد شقيقها ذو الأربعة عشر عاما والذي بات استقبالا دائما لها في الفترة الأخيرة والقادم من الغرفة التي تتشارك بها مع أختها زاد من التقطيبة ما بين حاجبيها فخلعت نظارتها وزفرت بضيق قبل أن تنادي على كليهما بضيق مكبوت وما إن جاءا وكلّ منهما يحمل آثار معركة حامية بنظراتهما المشتعلة وزفراتهما الحامية حتّى سألتهما باقتضاب حانق: خير؟ بتتخانقوا كدة ليه؟
وحينها وكأنّما أعطتهما الإذن باستئناف ما كان أو فابتدءا بالكلام معا وكأنّهما أعضاءا في أحد مجالس النوّاب حيث الكلّ يتحدّث ولا أحد يصغي أمّا هي فمنعت نفسها قسرا من أن تكون نائب من نوع آخر في ذلك المجلس فتغمض عينيها... وتنام
مريم والتي لا تتشابه معها إلّا بلون عينيها الرماديتين والذي ورثتاه من جدّتهما لأمهما ابتدأت تشتكي من شقيقها كيف انتظرها عند باب مدرستهم ليلحق بها طوال الطريق متابعا لها بنظراته الحادّة وتكشيرته التي تزيّن وجهه لتكمل بينما تنفخ الهواء من حولها فيطيّر خصلات شعرها المتجعّدة والتي أفلتت عنوة من ظفيرة شعرها الطويلة كيف أنّها كانت مثارا لسخرية زميلاتها طوال الطريق وكيف أنّهم لم يكفّوا عن التغامز حولها وحول شقيقها الشكّاك
حينها هتفت بتول بضيق: ينشكّوا فنظرهم، قال شكّ قال، ما فكّروش ليه إنّ أخوكي تاعب نفسه وخايف عليكي علشان كدة ماشي وراكي، دة بدل ما تشوفي نفسك عليهم يا عبيطة إنّ أخوكي بيحبّك وخايف عليكي من ولاد الحرام العواطلية اللي مافيش وراهم لا شغلة ولا مشغلة إلّا إنهم يعاكسوا بنات النّاس المحترمين! صح يا محمّد يا حبيبي مش دة كان قصدك؟
هزّ محمّد رأسه كما طفل مخالفا مظهره الذي كان يحاول أن يظهر عليه في الفترة الأخيرة كرجل للبيت لا سيّما وقد استطال كثيرا حتّى فاق كلتا شقيقتيه طولا وقد ساعده مظهره الخشن على ذلك: آه والله يا أبلة، أنا بشوف ازاي العيال بيهربوا من المدرسة قبل ما يخلص اليوم عشان يقفوا على باب مدرسة البنات وازاي بيقعدوا يرخّموا عليهم فمشيت وراها عشان كلّ العيال يعرفوا إنّها تبعي ومحدّش يقرّب منها
هنا وبعد أن كانت مريم تأثّرت من خوفه عليها عادت لستشيط بجنون وتصرخ بصوتها الجهوري: تبعك!! تبعك دة إيه يا روح ماما تكونش مصدّق نفسك إنّك راجل وإنّك إنت اللي فيهم!!
هنا كان محمّد الفائر بشعوره الذكوريّ الحديث قد فقد كلّ ملامح تحمّله وصبره واقترب منها يريد شدّها من شعرها بينما تصرخ الأخرى بجنون فوقفت بتول بينهما تصرخ بأعلى صوتها: باااااااس... اخرسوا انتو الي تنين حرام عليكم كفاية ارحموني وارحموا ماما الي لغاية دلوقت ماعرفتش اسألكم هي فينها وبقت ازّاي
حينها صمتا كلاهما يبدو على ملامحه الندم وعلى ملامحها التحدّي الذي لا ينكسر قبل أن تنظر لبتول وتجيب وقد بدأت النظرات بعينيها تبرق وتلتمع وتهدأ بشكل عجيب وتجيبها بصوت لاهث: من وقت ما جه أستاز حسين وجابلها الدكتور وأخدت الدوا الي اشتراهولها وهي رايحة في سابع نومة ما انتي عارفة هي طول الليل ما كانتش عارفة تنام من وجعها
بهتت ملامح بتول وشحبت ملامحها بعد أن كانت متضرّجة بحمرة الغضب: الأستاز حسين؟
قالتها وسرحت عيناها بتلكما الساعتين اللتين غادر بهما المكتب اليوم بصمت ودونما أن يقول حرفا واحدا ليعود بعدهما على ذات الصمت دون أن يلمّح لها بحرف واحد عن مكانه، ورغما عنها شعرت بالإهانة والنقص فابتلعت ريقها وقالت: طيّب كويّس إنّها بقت كويسة وعرفت تنام... روحوا انتو زاكروا دلوقت على بال ما اعملّنا لقمتين نتعشاهم أكيد ماما معرفتش تعمل أكل وانتِ كالعادة مافيش حاجة بتعرفي تعمليها غير الكلام
حينها نفخت مريم صدرها وقالت: لأ ازاي يا أبلة أنا هروح أسخّنلك الأكل هوا
نظرت إليها بتول بصدمة حقيقيّة: لاااا، معقول، هناكل من ايديكي أخيرا... يا منتى كريم يا رب
حينها قاطعهما محمّد قائلا بضيق واضح: لا يا ابلة ما تتأمّليش كتير، آبيه حسين هو اللي جابلنا أكل بعد ما جاب لماما الدوا
برودة عارمة اجتاحت كيانها قبل أن توقف خطوات أختها المتسارعة: استني يا مريم... ما تعمليش حاجة أنا مش جعانة، خشوا زاكروا انتو اللي تنين هروح أشوف ماما واريّح شوّية واما أقوم الي فيكم محتاج مساعدة فأيّ حاجة يقوللي
غادرتهما واتّجهت صوب غرفة والدتها غافلة عن عيون أخيها المتألّمة
طرقت الباب بخفوت وفتحته بهدوء خشية من إيقاظ والدتها ولكنّها سرعان ما بادرتها بصوت بدى لمسامعها أفضل بكثير ممّا كان في الصباح: تعالي يا حبيبتي
ابتسمت بتول وتوجّهت صوب سرير والدتها المعدنيّ وجلست على فرشته المهترئة بجانبها ليئن بخفوت رغم قلّة وزنها وصغر حجمها الذي يتشابه مع جسد والدتها إلّا فيما تركه الزمن والانجاب على أمّها من ترهّلات وأثر
أمسكت بيدها مقبّلة وسألتها عن حالها فأجابت والدتها: الحمد لله يا حبيبتي ربّنا يكرمه أستاز حسين كنت فين وبقيت فين
بجمود أجابت والدتها: طيب الحمدلله يا ماما... انتي بس ريحي اليومين دول وان شاء الله هتبقي كويسة
هتفت والدتها وقالت: لا يومين ايه من بكرة ان شاء الله هرجع الشغل وانتي تروحي كليتك تشوفي حالك
هزّت بتول رأسها وقالت بإصرار: لا يا ماما آبيه محمّد بيسلّم عليكي وبيقول مش عايز يشوفك قبل يومين تلاتة على الأقل عشان تقدري تستحملي قعدة الكرسي اللي بتهدّ الحيل في المكتب
لانت ملامح والدتها قليلا وقالت: الله يكرمهم يا ربّ والله منا عارف اودّي جمايلهم كلّها دي فين ستّ سنين بشتغل معاهم ماشفتش منهم غير كلّ خير
وأكملت بعدها مقطّبة: بس برضو يا بنتي كلّيتك...
قاطعتها بتول قائلة وابتسامة دافئة تزيّن محيّاها: آبيه محمّد قاللّي اروح الكليّة عادي وهما هيعرفوا يدبّروا نفسهم بالفترة الصباحيّة وانتي عارفة إنّ اساسا شغلها قليل ووقت ما يعوزوا يروحوا المحكمة همّ التنين هيسكّروا المكتب
ترقرقت دموع والدتها وابتدأت بالدعاء له فربّتت بتول على يدها وأخذت تتأمّل ملامحها الهزيلة الشاحبة بشفقة وألم فوالدتها رغم سنوات عمرها التي لا تتجاوز الخامسة والأربعين إلّا أنّ من يراها سيظنّ أنّها تقارب السّتين فكلّ يوم مرّ عليها منذ توفي والدها خطّ على ملامح وجهها اثره حتّى تاهت بين حكاياه ملامحها
قاطع تأمّلها صوت والدتها تقول بضحك: في ايه يا بت هوّ انتي بتودّعيني ولّا ايه ولا يكونش ناوية ترسميلي لوحة وأنا ماعرفش بتبوصّيلي كدة ليه؟
ابتسمت بتول وقالت بصوت متحشرج: وأحلى لوحة كمان يا ماما هوّ أنا طول أرسم القمر المنوّر دة
حدجتها والدتها وقالت: بتتّريقي عليّا يا بت قولي كنتي بتبوصّيلي كدة ليه؟
تنهّدت بتول وانحنت لوالدتها محتضنة إيّاها قبل أن تجيبها بصدق: مفيش يا ماما كنت بفكّر إنتي وحشتيني قدّ ايه النهاردة
بادلتها والدتها الاحتضان بينما تلهج لها بالدعاء الصادق: يا ربّ يسعدك يا بتول يا بنت بطني واشوفك أكبر محامية بالبلد واشوفك ببيت عدلك مع الراجل اللي يسرّ قلبك وخاطرك وما يخلّكيش في عوزة لأيّ حدّ
.................................................. .................................................. ......................