بعد مشي طويل وعدّة محاولات للاتّصال، وصلت لميس البناية الشاهقة حيث تقطنان، ونظرت حولها بالشّارع تتأكّد من عدم وجود سيّارة المهندس جمال زوج منال مقرّرة الصعود إليها فاختفاءها بات مقلقا وأغلب الظنّ أنّها مريضة أو تعاني خطبا ما، فهي وإن كانت أحيانا تتغيّب عن المركز لتأخّرها بالنّوم لكنّها ومنذ عرفتها قبل عام كامل لم تتأخّر في النّوم حتّى هذه السّاعة، وهي لا أحد لها هنا لتذهب إليه أو يأتي إليها حيث أنّ أهل زوجها في محافظة أخرى بعيدة جدا
..................................
تأفّف الكاسر بضيق، وتَمَلمَلَ فوق السرير بطوله الفارع متأفّفا، ألا يكفيه هذا الحرّ الشديد الذي يعاني منه بسبب غباء شقيقته التي أخذت جهاز التحكّم الخاص بمكيّف التبريد بدلا من هاتفها عندما غادرت غرفته صباحا بعد وصوله بعدّة ساعات استمرّا بها بالكلام والسؤال عن الحال والأحوال، ليأتي هاتفها الذي لم يتوقّف للحظة عن استقبال الرسائل ليصدّعه باتّصالات كثيرة لحوحة الآن؟ ألم يكن من الأفضل له لو كان زوجها قبل بمكوثه بأحد الفنادق القريبة كما كان ينتوي!
ألقى الكاسر بطّانيّته الخفيفة بينما يتمتم لاعنا بغضب، وأمسك ببنطاله الرياضيّ الرماديّ الملقى بجانبه وارتداه بسرعة ليلحقه ببلوزة سوداء قطنية منتصفة الأكمام ليغطّي بها جذعه، ولكنّه وقبل أن يفتح باب غرفته المقفولة بالمفتاح سمع صوت هاتف شقيقته يرنّ من جديد، فشتم شتيمة نابية بغضب بينما يبحث عنه ليجده ملقى تحت بطّانية أخرى كانت شقيقته قد وضعتها له على كرسيّ بالغرفة في حال شعر بالبرد من مكيّفها المصاب بالشلّل!
كان الهاتف قد توقّف عن الرنين فتنفّس كاسر الصعداء ولمح شاشته وقد سجّلت أربع مكالمات فائتة وكلّها معنونة باسم واحد... لميس!
حسنا يبدو أنّ أشكال اخته عليها تقع فمن الواضح أنّ صديقتها أشدّ ازعاجا والحاحا منها، تلك الصديقة التي انتظر طوال الأمس من منال أن تحدّثه عنها بحماس لجوج افتقده... مرتابا
ما إن وضع الكاسر الهاتف من يده بحنق حتّى ابتدأ جرس الباب الرنين صادحا مجلجلا كعصفور ناعق، فشدّ شعره للخلف بغيظ مكتوم فعلى ما يبدو أنّ شقيقته قد نقلت عدوى ازعاجها لكلّ ما يخصّها، أين هي بحقّ الله لتجيب مكالماتها وتفتح باب منزلها؟ أهي نائمة أم في غائبة عن الوعي !
احتار الكاسر ان كان من اللائق أن يفتح باب البيت أم أنّه سيعتبر متطفّلا، أم تُرى كسر باب غرفة شقيقته على رأسها سيكون أفضل وأسلم...
وما بين هذين الخيارين، وما بين رنين جرس الباب المتواصل وصوت رنين الهاتف الذي عاود الزعيق، وجد نفسه يأخذ الهاتف بغضب ويتوجّه ناحية باب الشقّة بينما يجيب الاتّصال صارخا بكلمة واحدا: نعم!
ولكنّ نَعَمَه لم تلقَ أذنا مصغية واستيعابا سريعا فلميس بالجهة المقابلة كانت تقول بفزع وصوت مرتعش زاده التوتّر نعومة ورخاوة: بتعرفي اذا ما فيكي شي وكلّ هاد التجاهل عشان ما وافقت على زواجي من أخوكي... راح... راح أدبحك يا منال فاهمة؟ راح أدبحك!
ذلك الالتواء الذي شعر به الكاسر بداخل أمعاءه ما إن سمع صوتها رقراقا منعشا كماء عذب.. تلك الحرارة التي شعر بها سائلةً تنسكب داخل أوردته جرّاء ارتعاشات صوتها المنفعل بخوف، سرعان ما تحوّلت للكمة مفاجئة ضربت معدته فانقبض كفّه بغضب وخيبة وبداخله يردّد ذات كلماتها... سيذبحها... نعم سيذبح شقيقته ويريح الأمّة العربية جميعها منها
غارقةٌ في خوفها وترقّبها... غارقٌ في غضبه وخيبته... بينهما باب... لم يشعرا متى جاءت تلك المأسوف عليها ولغت ذلك الحاجز الذي يفرّقهما متواريان به... متى سمعت الباب ومتى جاءت ومتى فتحته كلّها أمور غير معلومة، كلّ ما وعاه كلٌّ منهما أنّه وجد الآخر فجأة... أمامه
.................................................. .................................................. ......................
بأنفاس لاهثة ويدين مرتجفتين فتحت لميس باب شقّتها بشقّ الأنفس، وما إن دخلت إلى حيث أمانها وحصنها ارتمت على الباب وقد أوصدته بإحكام وكأنّما تجعل بينها وبين شياطين الأرض حجاب، ولكنّ أنّى لها أن تطمئنّ وهي خير من يعلم بأنّ شياطين النّفس لا يمنعها ولا ألف باب وباب
جرّت قدميها تقاوم ارتخاءهما ودخلت غرفتها ومن ثمّ وقفت فوق سجّادتها تبحث عن راحة في كنف رحمة ربّها عبر الصّلاة
غافلة عن نقابها الذي لم تخلعه عن وجهها، غير واعية لالتصاقه على بشرتها بفعل دموعها المنهمرة، يخنق أنفاسها، تكاد لا تشعر باختضاضات جسدها العنيفة، انكبّت بوجهها فوق السجّادة بمناجاة صامتة قبل أن تكسر شهقاتُها الحادّة المتواصلة الصمتَ المهيب من حولها
يتبع من هنا
https://www.rewity.com/forum/t402401-58.html