شبكة روايتي الثقافية

شبكة روايتي الثقافية (https://www.rewity.com/forum/index.php)
-   روايات أحلام المكتوبة (https://www.rewity.com/forum/f203/)
-   -   26 -نداء المستحيل -أحلام قديمة ((حصرياً))(كتابة/كاملة) (https://www.rewity.com/forum/t421688.html)

Just Faith 20-08-18 02:47 PM

26 -نداء المستحيل -أحلام قديمة ((حصرياً))(كتابة/كاملة)
 
https://upload.rewity.com/upfiles/pe672740.png


https://upload.rewity.com/uploads/153994241892631.gif





رواية نداء المستحيل

عدد 26

روايات أحلام
الرواية حصرية

لذا لا يحق لأحد أن ينقل جزء منها نهائي



الملخص

لم تستطع مايسي حتى في احلامها، ان تنسى نظرة الغضب التي صوبها نحوها كورد باكلير في ذلك اليوم البعيد.وها هو الان يأتي بعد عشر سنوات ليواجهها قائلا: "اما ان تدفعي الثمن او تدفعه اختك ".
اذا لم تقبل مايسي بعرضه ستدخل اختها السجن بتهمة السرقة. لكن كيف تستطيع ان تقبل وتربط نفسها برجل تأسره فكرة الانتقام للماضي، رجل حاولت جهدها، طوال سنين، ان تكرهه وان تنسى حبها له؟
https://upload.rewity.com/upfiles/uV672740.png
يجب ان ترد لمشاهدة المحتوى المخفي

Just Faith 20-08-18 02:49 PM

-1-
بين نارين

نار تتأرجح في المدفأة، تعطي ظلالا حمراء، وترسل حلقات دافئة من النور فوق السجاده التي عاد بها والد مايسي هاريس يوما من الشرق...تكتكت الساعة..وتمطت القطه السياميه وأبرزت مخالبها وهي تحلم.وتكورت مايسي على نفسها كالقطة، فوق مقعد اثري قديم،وأكملت ما تبقى من غرز التطريز.
غرزت الابره في القماش متنهدة، ثم القته جانبا. والتفتت ثانية الى الساعة، لقد تجاوزت الواحدة بعد منتصف الليل. قامت عن مقعدها وأخذت تذرع الغرفه ذهابا وإيابا..ثم قطعت الغرفه نحو الباب، ثم عبرت الممر الى غرفة ابيغال الصغيره.كانت الغرفه مبعثره كالعادة...رف المدفأة الصغير ملئ ببطاقات الدعوه،فناجين القهوه، صحون سجائر،ثياب ملقاة على الكرسي وعلى الارض.طاولة زينه مكتظ بأدوات التجميل، اساور، خواتم، عقود...كم تكره هذه الغرفه...وكم تكره الفوضى!
ترددت قليلا..ثم فتحت خزانة الملابس وتساءلت..لم فعلت ذلك ياابيغال؟ المعطف لايزال في مكانه، والفساتين ايضا..حدقت مايسي بالملابس محتفظه بهدوء وجهها المعتاد،ثم مررت يدها فوق فرو الستره البني الناعم..فأحست بالذعر يقبض على عضلات معدتها من جديد..من اين لابيغال كل هذا؟حتى هي التي لاتهتم بالملابس تعرف انها غالية الثمن..احد هذه الفساتين من تصميم وصناعة "ديور"..الفرو من"سان لوران"، ولا يمكن مطلقا لشقيقتها أبي ان تشتري مثلها..فراتبها كسكرتيره في مؤسسة "باكلير ولايتوود" للمحاماة، اقل بكثير من راتبها هي في المعرض.قد يكون ديكي قد اشتراها لها..لكن مايسي لم تقتنع بهذه الفكره..ربما استعارتها..لابد ان يكون هناك تفسير منطقي لامتلاكها هذه الملابس.
تركت مايسي الغرفه بسرعة وعادت الى غرفة الجلوس.وقفت قرب النافذة وفتحت الستائر السميكة وراحت تتأمل ما خلفه تساقط الثلج فوق المدينه من مناظر خلابه.حيث انسدل ضوء القمر على بياض الثلج فانعكس سحرا على الليل الشتائي.
وكانت مايسي لا تزال مستغرقة في احلامها، حين سمعت هدير محرك سيارة، ثم تلاه صوت اطارات وقد اوقفتها المكابح..ثم تناهى اليها صوت الموسيقى من راديو السيارة.
تراجعت مايسي الى الوراء وأسدلت الستائر..وسمعت صوت اغلاق الباب في الاسفل ووقع اقدام أبي على السلم..فجلست على المقعد وأمسكت قطعة القماش بيدها، عليها ان تبدو هادئة..وان لا تفقد اعصابها..لابد من وجود طريقه تدفع أبي لشرح كيفية وصول هذه الثياب الثمينه الى خزانتها،فهي ما تزال مسئوله عنها، ولطالما كانت كذلك.
توقفت أبي امام الباب بوجه متجهم:
" اوه..لازلت ساهرة..حسبت انك نمت منذ ساعات ".
رفعت مايسي نظرها اليها..كم تبدو جميله..لقد ورثت الشعر الاسود الكثيف عن امهما..وخلعت أبي الشال الحريري عن كتفيها العاريين فشعرت بقشعريرة خفيفة فأسرعت نحو النار وركعت نحو القطه، وظهرها الى شقيقتها.
" هل يدفؤك ما تلبسين؟ ".
" اوه..لا تكوني مزعجه مايسي..تبدين احيانا كعمتي العجوز كارلا! بالطبع كنت دافئة، فالسيارات مجهزه بوسائل للتدفئة هذه الايام.ألا تعلمين؟ ".
" لكنها ليله باردة..وظننت انك سترتدين المعطف الفرو ".
فلمعت عينا أبي والتفتت بسرعة.
" هل دخلت غرفتي ؟ ".
" اجل..لأفتش عن قماش التطريز ".
تكدر وجه ابيغال، وعلمت مايسي انها تبحث عن الكذبه التي ستقولها لها.فبقت صامته..وأخيرا هزت أبي كتفيها:
" اه..هكذا أذن حان وقت الاستجواب..ولهذا انت بانتظاري ".
فتنهدت مايسي:
" بالكاد يكون هذا استجوابا، لكنني انتظرك..ولو لم افعل لما استطعت الامساك بك..صحيح هذا أبي؟ انت دائما مستعجله.ولا وقت لديك للتفسير ".
فصاحت ابيغال بحده:
" ما الذي يجعلك تظنين انني مدينه لك بتفسير؟كم اتوق بعد سنه من الان لأقول لك ان تذهبي الى الجحيم! ".
فابتسمت مايسي بحزن:
" هذا بعد سنه من الان..ولكن في الوقت الحاضر لازلت مسؤوله قانونيا عنك،انت في العشرين من عمرك فقط..أبي، الا يمكنك فهم هذا؟ ".
" وانت في الخامسة والعشرين..فما الغريب في الامر؟انت لست امي! ".
تألمت مايسي من كلامها.فابيغال بالكاد تذكر امهما..وما كانت امهما ستفعل ما تفعله هي الان.كانت ستترك ابيغال تفعل ما يحلو لها،كما كانت دائما.وربما هي على حق..فهذا اسهل.
" ابيغال..ارجوك..لم اختر هذا الوضع بنفسي..ولكن بما ان الامر هكذا..".
" هذا امر ممتع بالنسبه لك فلا تتظاهري بغير ذلك ولطالما كنت كذلك حسبما اذكر.وبما انك انت التي حصلت على المال انا لا استطيع فعل شئ..اليس كذلك؟ ".
" هذا غير صحيح! لم اكن اريد المال مطلقا ولا شان لي به واعلمي انه يكاد ان ينفذ ".
" على اقساط مدرستي؟ لا اصدقك! ".
" على هذا وأشياء اخرى ".
فضاقت عينا ابيغال مشككة:
" لا استطيع التفكير بشئ..فأنت لا تصرفين المال مطلقا، ولا تخرجين، ولا تقابلين أحدا لا تشترين شيئا، كل ما تفعلينه هو العمل، والعودة الى المنزل للعمل فيه مجددا...حسنا فلا تتوقعي مني ان اعيش مثلك.فقد ينتهي بك الامر لتكوني عانسا لعينه ".
" ابيغال..انت مجبره للاجابه على اسئلتي..من اين اتيت بكل هذه الملابس؟ ".
" اشتريتها طبعا.وما غير ذلك؟ ".
لاحظت مايسي ان اختها لم تستطع النظر اليها،بل التفتت الى النار، فتنهدت.وأجفلت ابيغال:
" هل اعتقدت ان ديكي هو الذي اشتراها لي؟ ".
" لم اعتقد شيئا..انظري الي..انها ملابس غالية الثمن جدا..حتى انا اعرف هذا..وأتساءل ما اذا كنت قد استعرتها؟ ".
فاستدارت ابيغال بعنف لتقول ساخرة :
" استعرتها؟هل ارتدي ملابس استعملها شخص اخر؟لا..مطلقا!اتظنين انني اذهب مع ديكي الى كل هذه الاماكن الفخمه وانا ارتدي ملابس مستعمله؟لا..فهذا ليس اسلوبي! ".
وضحكت.وخيم عليهما صمت قصير،وعادت ابيغال تداعب فراء القطه،وقد بدا عليها القلق والاضطراب فأحست مايسي بالشفقه والعطف عليها..فهما بالكاد تعرفان امهما وتحملتا سلسله لا تنتهي من وصاية العمات والخالات والمربيات، اما والدهما فكان دائم الترحال والتنقل حول العالم.وليس عجيبا ان تكون ابيغال كما هي عليه، عنيده، قوية الاراده، تحاول الحصول على ما تريد بأي ثمن،ثم لا تلبث ان تمله بسرعه.
" ابي...ارجوك...لا تدعينا نتشاجر ".
ومدت يدها اليها..فجأة التفتت ابيغال وأمسكت بيدها.والتقت عيناهما،فلاحظت مايسي ارتباك اختها الواضح جليا ووجهها وعينيها الدامعتين.فتنهدت..اذن هي محقه بشكوكها، فقالت مايسي بلطف:
" اخبريني ".
" اوه ماي!انا في مأزق! ".
جذبت مايسي اختها لتجلسا معا على السجاده امام المدفأة. وابتسمت لها فهي تفهم مزاج أبي المتقلب ودفاعها الحاد دائما كان يبشر بالاعتراف.ضمتها مواسيه وقالت بنعومة :
" لا يمكن ان يكون الوضع بهذه الخطورة..اخبريني..فأنت تعرفين انني لا اتخلى عنك وأنني على استعداد دائم لمساعدتك ".
فقالت أبي باكيه:
" لن تستطيعي هذه المرة! لن يستطيع أحد ".
" بالطبع استطيع! ".
" ثمن هذه الملابس من مال سرقته ".
حدقت فيها مايسي مذهولة غير مصدقه:
" سرقته؟أبي..لا يمكن ان تكوني فعلت هذا! ".
فرفعت ابيغال رأسها:
" لقد فعلت..كنت بحاجه لبعض المال..وذلك بعد مقابلتي لديكي..كان يأخذني الى اماكن فخمة واردت ان ابدو أنيقة مثل باقي الثريات اللواتي يرتدن هذه الاماكن الفخمة...".
" لكن أبي..كان لديك الكثير من الملابس...".
" لا..كلها ثياب قديمه باليه شاهدني الجميع عشرات المرات ارتديها...اردت التأثير على ديكي..وعلى تلك المرأة المشاكسة امه..احب ديكي ياماي، وأريد الزواج منه..اللعنه! ".
"ولكن..من اين حصلت على المال؟ ".
" من المؤسسه ".
احست مايسي بتصلب شرايينها..وحدقت بشقيقتها غير مصدقه.
" من مؤسسة باكلير ولايتوود؟ ابيغال كيف فعلت هذا؟! ".
عادت اختها الى البكاء:
" لقد فعلت!بدا الامر بسيطا، وهذا فضيع.اعرف انك تعتبرين اصحاب المؤسسه محامين وأوصياء على العائله لكنهم ليسوا وكلاء لعائلتنا فقط، انهم وكلاء كبار الاثرياء ايضا..وهناك زبونه لهم...عانس عجوز حمقاء، سلمتهم كل اعمالها..وهي مجنونه بحب الحيوانات ".
وضحكت بسخرية قبل ان تكمل:
" طبعت لها وصيتها بنفسي فقد تركت كل اموالها اللعينة لريع ملجأ سخيف للقطط المشردة! ".
" وماذا بعد؟ ".
" فكرت ان هذا هدرا للمال..والمؤسسة ترسل لها دائما شيكات، بمبلغ الفوائد من اسهمها، وهي تصرفها على الحيوانات..لدينا في المكتب دفتر شيكاتها، وكان السيد باكلير العجوز يملأ اسم المستفيد، ويوقعها بالنيابة عنها ثم يرسلها شهريا الى حيث تذهب. وكنت اطبع القائمة وأرسل الشيكات بنفسي. ثم..منذ حوالي الثلاثة اشهر، مرض السيد باكلير العجوز.وترك كل الشيكات على طاولته..أخذت بعضا منها، ثم حررت الشيكات بأسم المؤسسه وأخذتها الى المصرف، ليس دفعه واحده بالطبع، وصرفتها..دون ان يشك بي أحد فانا معتادة على صرف شيكات المؤسسه ".
وحدقت مايسي بشقيقتها برعب:
" لكن الشيكات بحاجه الى توقيع ".
فردت ابيغال:
" اوه..هذا امر بسيط!استطيع تقليد توقيع السيد باكلير وعيناي مغمضتان.وكنت انا من يطبع اللوائح وأغير الأرقام..".
" انت..زورت توقيع السيد باكلير؟ ".
" حسنا..كنت مضطرة..لن يصرفوا الشيكات وتوقيعي انا عليها ".
شعرت مايسي بالغثيان.
" كم..كان المبلغ..ابيغال؟ ".
" ليس بالكثير..".
" كم؟ ".
" حوالي الاربعة الاف دولار ".
فشهقت مايسي مصدومة. وأحست برأسها يدور..وبدأت على الفور بالحسابات المعقدة..كم بقي من مالها؟ لو انها باعت اخر مجموعه من اسهمها ؟ واستدارت ابيغال لتدفن رأسها في حجر شقيقتها وقالت بصوت مختنق:
" اوه ماي..انا اسفه..لست ادري مادهاني ".
ومسحت مايسي شعر شقيقتها وضمتها الى صدرها وحافظت على رقة صوتها وهدوئه وهي تقول لها:
" ابيغال..اسمعيني..ما من فائدة الان من الكلام..لا استطيع التفكير كيف تمكنت من فعل هذا،ولكن بما انه حصل وانتهى الامر، يجب ان نفكر بمخرج.اليس كذلك؟ اصغي الي..معي بعض المال..".
على الفور جلست ابيغال متسعة العينين:
" كم؟ "
فردت ببطء:
" اظنه يكفي..غدا سنذهب معا..ونشرح ماحدث..وستعتذرين وندفع المال، وأنا واثقة ان باكلير العجوز سوف.... ".
" الامر ليس بهذه البساطه! ".
" ابي..كل شيء سيكون على مايرام. وسترين. ستضطرين للاستقالة، فأنت لم تحبي يوما تلك الوظيفة اصلا..والسيد باكلير العجوز كان..مولعا بامنا..ومن اجلها،انا واثقه انه لن...".
" اوه...مايسي..لقد قلت لك من شهر مضى انك لا تستطيعين رؤيته..انه مريض جدا ولم يحضر الى المكتب منذ ان اصابته النوبه القلبية...".
وتملك الخوف قلب مايسي:
" اذن..من استطيع ان اقابل؟ ".
" كورد باكلير ".
" كورد؟ ".
" اجل...برأيك ماهي فرص النجاح معه؟ اتظنين كورد باكلير سيتركني بكل ادب مع اعتذار،وشيك ملائم ".
وعادت الذكريات بمايسي الى يوم صيف منذ سنوات بعيدة...يوم جنازة امها.كانت تقف قرب القبر،ومعها شقيقتها والشمس تلمع فوق رأسيهما وعينان محدقتان قاسيتان مصوبتان نحوهما فيهما نظرة ازدراء، قاسيه، اوه...اجل كانت اخر مره شاهدته فيها، ولكنها تذكر كورد باكلير جيدا...وتنفست الصعداء ثم قالت :
" لا..في هذه الحاله لا فرصة لنا ".
فمالت ابيغال اليها وقالت بإلحاح:
" الا ترين؟لهذا السبب كنت متوتره في الاسبوع الماضي.كان يجب علي ان اخبرك...لقد جاء كورد ليشرف على المؤسسه في غياب والده، عندما سمعت الخبر عرفت ان الامر مرهون بالوقت..اوه ماي سيكتشف الامر..لقد طلب جردة كاملة...وما ان يعرف...".
صمتت وأطرقت برأسها..فقالت مايسي:
" اتظنين انه سيقاضيك؟ ".
" اعرف انه سيفعل!وقد يتولى القضيه بنفسه !".
" حتى لو شرحت له الموقف او اعدنا له المال...".
" هذا لن يؤثر فيه...انت تعرفين كم هو قاسي القلب وهو يكرهنا! ويكره امنا..لطالما قلت لي ذلك! وسيكون سعيدا بهذا اليس كذلك؟ لو فعل لانتهى امري..ولن يتزوجني ديكي مطلقا اوه..ماي..اتمنى لو اموت! ".
ضمت مايسي شقيقتها بحنان،محاوله التخفيف عنها:
" لابد ان هناك شيئا نستطيع فعله ".
" شئ واحد فقط..نستطيع الذهاب الى ليو..اوه لن استطيع التحمل..هناك المزيد لم اقله لك ".
" المزيد؟هل له علاقة بليو؟ ".
" اوه..اعرف رأيك بليو..لكنه ليس سيئا كما تظنين!انه افضل من اخيه الرهيب.على الاقل ليس باردا..انه...".
وأغمضت مايسي عينيها..وبدأ رأسها يؤلمها..كورد وليو..لن يتركها الماضي وشأنها أبدا وركعت ابيغال امامها:
" ماي..اسمعي..يجب ان اخبرك..لقد اخبرت ليو بالأمر. وقال انه سيساعدني..لقد وعدني...".
" يساعدك؟اتعنين سيكلم كورد؟ ".
" بالطبع لا!فلن يهتم كورد بما قد يقوله ليو..قال انه سيحاول اخفاء الفضيحة ".
" اخفاء الفضيحة؟! ".
" اسمعي..لا تنظري الي هكذا!قال اذا وجدت طريقه لدفع المال فسيصلح الدفاتر قبل الجردة..ولن يعرف احد قط بما حدث..اوه ماي..الا تفهمين..انها فرصتنا الوحيدة! ".
" تعنين المزيد من الاكاذيب؟ ".
" وما الفرق؟ستستعيد تلك المرأة الحمقاء العجوز مالها..ونتجنب الفضيحة.ثم انا وديكي..لكن هناك مشكله..ليو اشترط امرا ".
فشهقت مايسي بحده:
" شرط؟ ".
فأحنت ابيغال رأسها :
" قال انه..سيفعل هذا من اجلي..اذا اقمت علاقة معه ".
احست مايسي بالدم يغلي في عروقها:
" ماذا؟ ".
فرفعت ابيغال رأسها وصاحت:
" وهل هذا امر فظيع؟لطالما كان معجبا بي.وهو يعلم انني لست مثلك..اعني..ليس سرا في المكتب انني..حسنا..."مودرن"..يعلم علاقتي بديكي..اوه..انت تعلمين ماي..كان لي علاقة عندما كنت في السادسة عشره. الا تفهمين؟الامر كله نوع من المزاح!غير انه يعني مايقول! ".
" اتظنين هذه مزحه؟انه ابشع شيء سمعته في حياتي! ".
" اوه لاتكوني متكبرة! ".
" متكبره؟أهكذا تنظرين الى الأمر ".
احمر وجه ابيغال، وقالت :
" سيخرجني من ورطتي ".
" لو كان عندك حد ادنى من الاخلاق، لما ورطت نفسك منذ البداية ".
فوقفت ابيغال وصاحت بشده:
" اخرسي!اكرهك احيانا مايسي..دائما تعظين..دائما تصرخين..من السهل عليك الكلام، فأنت لم تجربي الحب في حياتك...فكيف يمكنك ان تفهمي؟كنت يائسة، ألا تفهمين؟ يائسة.وكورد مسافر..ولن يعود قبل الاسبوع المقبل.حتى ذلك الوقت ستكون الجردة جاهزة.عندها سينتهي امري...وليو فرصتي الاخيره. الا يمكنك فهم هذا؟ ".
حدقت مايسي بأختها في صمت،ثم قالت:
" كورد مسافر؟ ".
" اجل..ولكن ليو هناك كالعادة.ومعه مفتاح الخزانه حيث دفاتر الحسابات..وبإمكانه اصلاحها..ولن يستطيع احد غيره هذا ".
" هل استطيع رؤيته؟ ".
" اوه ماي..هل ستفعلين هذا؟سيكون كل شيء على مايرام اذن..انا واثقة..اذا عرضت دفع المال..وإذا علم انك تعرفين.فانا واثقة انه سيتراجع عن طلبه..ويمكنك افهامه امر حبي لديكي..ارجوك ماي..اظنك ستنجحين ".
نظرت مايسي الى وجه اختها المبلل بالدموع،الاحمر اللون، وغمرت قلبها موجه من الحب والمسؤولية...انها لا تريد رؤية احد منهما..مجرد التفكير في الامر يجفف حلقها..لكن اذا كانت مضطره..فهي تفضل رؤية ليو على رؤية كورد.
" سأقابل ليو، ابيغال، هل تعديني ان لا تكرري الامر ثانية؟ ".
باندفاع قوي عانقت ابيغال شقيقتها وصاحت:
" بالطبع سأفعل !اوه ماري..ليباركك الله كنت اعلم انك ستساعديني ".
" اساعدك من اجل ديكي..لأنك تحبينه ".
" انت الحبيبه!اوه..ماذا افعل من دونك! ".
واستغرقت مايسي في التفكير ثم قالت:
" غريب..كنا نشاهد بعضنا كثيرا في الماضي..عندما كنا صغارا..خاصة ليو..كورد كان اكبر سنا، ودائما في المدرسه. اتذكرين يوم ذهبنا نحن الاربعه الى فنكوفر عند عمتنا كارلا لقضاء العطله الصيفيه ".
" بشكل غامض..كنت وكورد دائما معا..وكان الامر مملا بالنسبة لي.لكنني اذكر المنزل، كان على الساحل مقابل جزيرة فنكوفر..اليس كذلك؟ ".
" اجل..اجل..لقد مر زمن طويل، ولست ادري اذا كنت سأعرف ليو الان ".
فضحكت ابيغال:
" لطالما حاول ليو تدبير لقاء بينكما، لكنك انت كنت من يرفض..فأنت حمقاء بالنسبة لمثل هذه الامور ".
فتنهدت :
" اجل..ربما انا كذلك..حسنا سأراه في الغد.وربما من الافضل ان تبقي انت في المنزل غدا، الى ان انهي كل شيء ".
" ماي..اتظنين حقا ان كل شيء سيكون على ما يرام؟ ".
" طبعا..وسأتمكن من انهاء الأمر قد اكون امرأة..لكنني اكثر من ند لليو باكلير ".
" وكورد؟ ".
ارتجفت مايسي ولم تجب..وفكرت بصمت..لا..لست ندا لكورد..لكنني لن اتعامل سوى مع ليو..وليس مع شقيقه المحامي الشهير.
استعادت بذاكرتها تلك العينين الرماديتين الباردتين.فأرتجفت دون وعي..كانت المره الاولى التي ترى فيها الحقد في عيني انسان..حتى في ذلك الوقت المبكر من عمرها..فهمت معنى تلك النظره..
اوه..لا..انها لن ترغب مطلقا في مواجهة كورد باكلير.والشئ الوحيد الجيد في كل هذا الامر الفظيع انها لن تحتاج لمواجهته

******

Just Faith 20-08-18 02:49 PM

-2-
لا...ليست هي
اهتزت يدا مايسي وهي تدفع ببطء الابواب "الماهوغوني"الضخمه التي تذكرها جيدا منذ الطفولة. توقفت في الردهة، فالمكان كما تصورته تماما.لم يتغير خلال السنوات العشر التي تجنبت فيها المجيء الى هنا بكل حذر.صور مؤسسي المؤسسه على الجدران السيد لايتوود، المتوفي منذ زمن دون ترك اي وريث...والسيد باكلير العجوز..وهذه طاولة الاستعلامات حيث كات دائما وخلفها الغرفه الصغيرة
مشت على رؤوس قدميها عبر الردهة، لتصل الى السلم.اجل..لقد حالفها الحظ.موظفة الاستقبال منشغله بقراءة مجله، فلم تنتبه لوجودها.
وأسرعت مايسي تصعد السلم بسرعة...وعند اول فسحه له، توقفت للتأكد من اتباع تعليمات ابيغال، وما تتذكره. أجل هناك ممر صغير بعيد عن المكاتب الرئيسيه...من فوقها سمعت اصوات الالات الكاتبه المخنوقة خلف الابواب..انها تقصد الوصول الى الباب الذي في نهاية الممر، والأبواب الباقية هي لغرف الملفات.
بلغت الباب بسرعه،ثم دون تردد،طرقت مايسي الباب بخفه وفتحته، ثم دخلت لاهثة الانفاس.
كان هناك رجل خلف الطاولة..حين فتحت الباب رفع رأسه عن بعض الاوراق أمامه، مجفلا بشكل واضح. ووقف، دون حراك ينظر اليها.ووقفت مايسي كذلك جامدة، وراحت تحدق به وقد جف فمها فجأة. بدا وجهه شاحبا، غير قادر على الحركة، وكأنه امام شبح...فتساقطت الاوراق التي يمسك بها لتقع على الارض.حركة الاوراق المفاجئه اعادت له وعيه، فتغيرت سيماء وجهه، وأخذت عيناه تتجولان فيها،من قدميها حتى وجهها حيث توقفتا.ثم ابتسم، ابتسامه كرهتها على الفور،فقد نجح ان يسجل في بسمته مزيجا من الاعجاب والوقاحة، وبسرعة دفعت مايسي الباب وراءها لتقفله
حدق بها متفحصا تفاصيل الجسد النحيل متسائلا..
" ما هذه الزياره العجيبه "
وابتسم،بخبث ووقاحة..فاضحا تعويذة السحر العجيبة التي استحوذت عليها،لتجد نفسها غاضبه...بل تغلي من الغضب..غضب كبحته منذ حدثتها ابيغال..هذا الرجل القذر الكريه!كيف يجرؤ على الابتسام لها ؟خاصة بعد الذي قاله لشقيقتها!وتقدمت الى الامام.وقالت بهدوء:
" سيد باكلير ؟انت لا تذكرني ".
فقاطعها ببرود شديد:
" بالعكس، اذكرك جيدا.انت مايسي..اليس كذلك؟مايسي هاريس ".
الدهشه،او شيء ما في طريقة لفظه لاسمها، جعلها تتردد..وجلس خلف طاولته، ووضع ساقيه فوق بعضهما، ليتكئ الى الخلف برباطة جأش، يراقبها..وأشار الى الكرسي امام الطاولة:
" لا تستغربي..تفضلي اجلسي..لك وجه لا ينسى، كما لكل افراد عائلتك ".
احست مايسي بالدم يحرق وجنتيها..لم تكن تتوقع ذلك.لقد كان رائعا اكثر مما توقعت..وتنحنحت قائله بهدوء
" لن اجلس.ولن اتأخر.اظنك تعلم سبب وجودي هنا ".
فرفع حاجبيه:
" وهل يجب ان أعرف ".
فأزداد غضب مايسي وقالت ساخره:
" اظن هذا..لقد جئت من اجل شقيقتي ".
" حقا؟تعنين انك لازلت تكرسين حياتك لحمايتها؟ ".
كان يتحدث بهدوء في وقت ينظر في عينيها، عيناه رماديتان باردتان، وللحظات ذكرها بأخيه، تنفست بصمت لتثبت اعصابها...لافائده من الغضب، ويجب ان لا تثير غضبه ويجب ان تكون مقنعه بطريقة ما...ترددت قليلا ثم ابتسمت له اجمل ابتسامه استطاعتها:
" ربما الافضل ان اجلس ".
" تفضلي ".
بعد ان جلست وضمت يديها معا مالت الى الامام تثبت عينيها عليه وبدأت:
" اخبرتني ابيغال كل شئ..ليلة امس ".
" كل شيء؟ ".
للحظات رأت وجهه يتغير ورأت شيئا كالقلق الشديد يتحكم بعينيه، فتشجعت:
" اجل.اخبرتني عن المال و...ارجوك الا يمكن ان تتفهم؟ ما كان يجب عليها ان تفعل ما فعلت، لكنها لم تدرك هذا سوى الان.ولن يحدث هذا ثانية...فهي تشعر بخجل شديد، وقلقه حتى المرض حول ما حصل...ونستطيع اصلاح الخطأ...اعرف ان هذا بإمكاننا! لقد احضرت كل حساباتي المتوفرة واستثماراتي..ولو استطعت بيع أسهمي لأعطيتك المال الذي اخذته ".
وصمتت..فقد تغير وجهه، وأرعبها التعبير الذي اكتساه، لكنه لم يرد.فتابعت:
" ليتك تساعدنا فقط..كما اقترحت على ابيغال !ارجوك! ".
وضعت يدها على الطاولة، محاوله ان تنظر الى تعابير وجهه كي لا تتردد..وأكملت:
" اتعلم ؟ابيغال تحب..وتريد الزواج.لكن اذا افتضح امرها، فسينتهي كل شيء. فأسرته معروفه،ولن يسمحوا بمثل هذا الزواج..وهذا ما سيحطم قلبها !".
فأبتسم بهدوء
" احقا هذا ماسيحصل لها؟ ".
فمالت الى الامام وقد اتسعت عيناها:
" ألا ترى هذا؟ اذا اعدنا المال فلن يتضرر احدا..اليس كذلك؟ طبعا اعرف ان عليها ترك عملها هنا، لأنها..خانت ثقة ابيك بها وهو من ساعدها بكل لطف..لكن..الان..حسنا.لو اكتشف اخاك ما فعلت..وسيكتشف اذا لم تفعل شيئا...فما سيحدث واضح...اليس كذلك؟ ".
" صحيح؟ ".
" لكنك قلت لها بنفسك...انه سيقاضيها..وسيكون مسرورا بهذا..انه يكرهنا..نحن الاثنين ".
" هكذا اذن! ".
حدق بها لحظات،ثم بحركه مفاجئه اخافتها..وقف وقال باختصار :
" اخشى ان لا استطيع مساعدتكما ".
" لكنك قلت لها بالأمس ".
" ما قلته لا علاقه له بهذا الامر ".
فجأة توثب غضب مايسي، فوقفت خلف الطاولة تواجهه.وصاحت به:
" بل له علاقة!كيف تجرؤ على مساومتها بأمر كهذا ؟تعد بمساعدتها اذا عقدت معها اتفاقا قذرا! ".
" اعقد ماذا؟ ".
" اتفاقا، ابتزاز!لطالما كنت كاذبا..لم تتغير كثيرا ياليو..ولا حتى في عشر سنوات..اليس كذلك؟ ".
" لست ادري عما تتحدثين ".
لكنها قاطعته بحده:
" بل تعرف تماما..ايمكن ان تنسى تلك التغطيه التي طبختها لها ليلة امس؟وهل ذاكرتك على هذه الدرجه من الضعف؟كل ما يجري عمل قذر مقرف يجعلني احس بالسقام!لكن على الأقل ابيغال اسفه على ما فعلت، وأنا احاول مساعدتها بينما كل ما انت مهتم به هو كيف تبتزها وتجعلها تذهب معك الى الفراش..انت حقير لا تحتمل !".
ساد صمت طويل متوتر لم تغادر عيناه خلالها وجهها.ثم استدار ببطء وكأنما مكرها، جلس وراء الطاولة مجددا.وعندما التفت لتلتقي عيناه بعينيها،كان قد استعاد رباطة جأشه.واخذ يراقبها بوقاحة، ونصف ابتسامه على وجهه.
" اذن..لقد اكتشف امري...ضبطت...على يد الاخت الشريفه ".
" كيف تجرؤ!اتعني بهذا ان ابيغال ليست..".
فقاطعها رافعا يديه:
" اوه..اعرف تماما ما هي ابيغال ".
وهز كتفيه دون مبالاة..فأحست بموجة قنوط تتملكها..انها تتناول المسألة بشك خاطئ...لقد اغضبته او فقدت اعصابها معه..فأخفضت نظرها عنه وعادت تتكلم بهدوء:
" ما كان يجب ان افقد اعصابي..فهذا لن يفيد..فانا هنا لا قول لك شيئين واطلب منك شيئا.اولا:شقيقتي لا تنوي الاذعان لاقتراحك.ثانيا:سنرد لك المال، كما قلت. وأخيرا : اتمنى ان تساعدنا لما فيه مصلحة اختي ولا اجد وسيله اخرى للتخلص من هذا المأزق او طريقه افضل اسلك سبيلها ".
فرد بهدوء:
" يمكنك الذهاب الى كورد ".
حدقت به غير مصدقه:
" لابد انك مجنون!انه يكرهنا....بسبب امنا! ".
" كان هذا منذ زمن بعيد ".
" اعتقد انه لم ينس!انه يلومنا لطلاق والديك... هذا ما يجب ان تعرفه ".
" كانت ملامه ".
احست مايسي بشحوب وجهها..هذه هي الحقيقة...لكنها صدمه ان تسمعها بصراحة من شخص اخر، خاصة ليو، وأكمل يقول :
" قد يساعدك! ".
فاستدارت نحوه.
" كورد؟انه لا يساعد حتى رجلا يحتضر في الشارع! ".
" اوه حقا! ".
ووقف ثانية مبتسما ببرود.
" اذن...ليس امامكما اي خيار اخر.اليس كذلك مايسي؟ ".
انتما مضطرتان للاعتماد علي.
واستدار من نصف الطاولة متقدما نحوها..اجبرت نفسها ان تواجهه وان لا تخرج مهزومة.
" هل ستساعد ابيغال؟ ".
" اوه..اجل ".
" اتعني هذا؟ ".
" طبعا..بشرط واحد صغير ".
" لا!..لقد قلت لك...ابيغال تحب...ولن توافق..".
" انا لا اتكلم عن ابيغال ".
مد يده ليمسك ذراعها، فوق المرفق تماما، وجذبها قليلا نحوه وابتسم لها:
" انا اتكلم عنك ".
" ماذا؟ ".
فضحك بخبث. ضحكه قصيرة كريهة مريرة...ورد بوقاحة:
" عندما اقترحت هذه الصفقه، لم اكن قد رأيتك بعد...منذ عشر سنوات...والآن بعد ان رأيتك..اتساءل عن معنى ملاحقتي لأختك..لماذا الاحق ما استطيع الحصول عليه بسهوله؟ فأمامي من هي اكثر جاذبيه...فهل توافقيني مايسي؟ ".
" اوافق على ماذا؟ ".
فابتسم ببرود:
" اوه..هيا الان..هل يجب ان اتلفظ بما المح اليه؟سأفعل اذا احببت...تعالي معي الى الفراش مايسي..وسأسوي الامور مع شقيقتك ".
اعاقت الصدمة تفكيرها وملأ الخوف نفسها فرفعت يدها لتصفعه على وجهه صفعه بدت اثار اصابعها جليه على خده.فخفت قبضته على ذراعها، لكنه لم يتركها فانتزعت ذراعها وتراجعت بسرعة وهي ترتجف وقد ابيض وجهها.
" أيها النذل!كيف يمكن لك..".
وأحست بالاختناق في حنجرتها ولم تعد الكلمات قادرة على الخروج واستدارت نحو الباب فسمعت صوته البارد الهادئ يقول:
" لو كنت مكانك لفكرت بالأمر..وبكل ما يتضمنه اقتراحي ".
فتوقفت واستدارت نحوه بحده وهي تصيح:
" كيف تجرؤ على تهديدي؟كيف تجرؤ على تهديد شقيقتي؟سأجد طريقه للتخلص من هذا المأزق دون مساعدتك...ودون اقتراحك الوقح...انتظر...فسترى! ".
فضحك:
" اوه..بالتأكيد سارى..لكنني اعتقد انك ستعودين الي في النهاية...الن تفعلي مايسي؟ ".
" افضل الموت! ".
وخرجت مسرعه من الغرفه دون انتظار لتصفق الباب وراءها بعنف.
عندما عادت مايسي الى الشقه وجدتها خاليه..تقدمت منها القطه تموء طالبه الطعام..فوجدت لها علبه طعام جاهزة وأطعمتها..ثم اخذت تنظف طاولة الطعام التي تركتها ابيغال كما هي بعد الفطور.
دخلت غرفة الجلوس فأحست بالإعياء في اطرافها! جلست تحدق في رماد الموقد دون ان ترى شيئا..لقد ادهشها غياب ابيغال عن المنزل.وبمعزل عن هذا الشعور الذي تملكها احتفظت بقلب بارد فهي لم تعرف كم بقيت هنا محبوسة مع افكارها وذكرياتها..لكن وقع اقدام على السلم ايقظها اخيرا فوقفت وباب الغرفه ينفتح وتدخل ابيغال بصحبة ديكي..حدقت مايسي بشقيقتها بفزع.ثم سارعت نحوها قلقه..كان وجهها شاحبا ابيض وحول عينيها دوائر سوداء تستند الى ذراع ديكي وقبل ان تصل اليها كان ديكي قد اجلسها على كرسي..فسألته
" ماذا حدث؟ اين كنتما؟ ".
وبدا عليه الاضطراب..القلق يظلل وجهه الصبياني الوسيم...فهل قالت له ابيغال؟ قال وهو ينظر الى ابيغال بقلق:
" مايسي..كم انا مسرور لعودتك..اتصلت بي أبي صباحا.كانت متوعكة..ولقد اخذتها الى الطبيب ".
ركعت مايسي امام شقيقتها ممسكه بيدها فأحست بها ساخنة جافه بل محمومة.
" أبي..هل انت بخير ؟ماذا قال الطبيب؟ ".
" لاشيء..ربما انفلونزا او شيء من هذا القبيل.لم يفدني بشيء! ليتني لم اذهب اليه.كل ما قاله لي انه يجب ان ألازم الفراش وارتاح..وابقى دافئة....".
فابتسم ديكي وقال بنعومة :
" لن يضرك هذا حبيبتي !لقد ارهقنا انفسنا كثيرا مؤخرا..".
سارعت مايسي لتقول:
" سأشعل لك النار...والأفضل ان تبقي هنا اليوم أبي..وسابقى معك...سأتصل بالمعرض وأنا واثقة ان مايك لن يمانع...".
كان ديكي قد جلس على ذراع مقعد ابيغال وذراعه حول كتفها، فقالت له مايسي:
" اتود بعض القهوه ديكي؟ ".
نظر اليها بدهشة...ثم وقف:
" اعتقد انه الافضل ان اعود الى العمل..لقد تأخرت ما يكفي..هل ستكونين على ما يرام حبيبتي ؟سأحضر لاراك حالما انتهي من العمل هذا المساء ".
فردت ابيغال بتوتر:
" اوه..اذهب..سوق القطع ستنهار اذا لم تكن موجودا...اللعنه!وكنا سنذهب الى تلك الحفله الليله ".
" غير مهم لأنها ستكون مملة على كل الاحوال..ارتاحي حبيبتي.سترعاك مايسي.سأعود في السابعة..حاملا معي طعاما وبعض الشراب..ماذا تحبين؟سمك مدخن؟ نخاعات؟ ".
فأدارت ابيغال وجهها عنه:
" قرر انت..فالتفكير بالطعام يسقمني ".
سارعت مايسي للتدخل ملاحظه فظاظة شقيقتها ورافقته الى الباب حيث قالت له:
" لماذا لا تتصل فيما بعد..ستكون افضل حالا ".
فابتسم:
" عظيم..سأفعل..سأحضر طعاما خاصا لنا جميعا..كل ما تحبه..وتحبينه أنت..".
عادت مايسي الى جانب ابيغال..والتقت عيناهما:
" حسنا؟ ".
" ابيغال..اخشى انني لم انجح ".
" ماذا؟ماذا تعنين لم تنجحي...يجب ان تنجحي! ماذا حدث؟ ماذا جرى؟ الم تحصلي على المال؟ ".
" لا..حصلت على المال ".
" وماذا اذن؟سيكون كل شيء على مايرام..الم تقابلي ليو؟ ".
اخفضت مايسي عينيها وتصاعد الدم الى وجهها:
" اجل..قابلته..".
" اذن؟ ".
" لن..يساعدنا..ابيغال ".
حاولت ابيغال الوقوف فتعثرت بالسجادة وأمسكت بالمقعد ومالت الى الامام ووجهها الابيض زانة بريق عينين سوداوين.
" لكن يجب ان يساعدنا! لقد وعدني يوم امس.اوه..يا الهي!لقد افسدت كل شيء..اليس كذلك مايسي؟ ماذا قلت له بحق الجحيم ؟ اوه..لماذا اخبرتك..لماذا لم اتولى الامر بنفسي ".
امسكت مايسي بيد ابيغال الساخنة لتعيدها الى الجلوس..
" ولن ينفعك هذا ايضا ".
وركعت امامها فجذبت ابيغال يدها..وأكملت مايسي:
" اسمعي ابيغال يجب ان نفكر بمخرج آخر ليو لا يستطيع مساعدتنا..ولن اقبل مساعدته وان فعل...انه..فاسق مخادع..ابيغال..وأنا..".
نظرت اليها ابيغال بريبه:
" ماذا تعنين بفاسق؟ ليو لا بأس به..اما اذا كان حكمك المسبق عليه قد افسد لي كل شيء ماي..فلسوف...".
" الامر ليس هكذا..لقد تمسك بعرضه ".
" هكذا اذن.فهمت! ".
" لا أبي حبيبتي..لم تفهمي..لقد..غير شروطه، ولاتجاه غير معقول ابداً..انه..قال انه سيفعل، ولكن..لو ذهبت انا معه الى الفراش..".
" ماذا؟ ".
ضاقت عينا ابيغال غير مصدقه وحدقت بمايسي ثم القت رأسها الى الخلف وضحكت..وقالت بضعف:
" اوه..يااِلهي!كم هذا مثالي منه! ما هذه النكته؟ انت من بين كل الناس! "
فردت مايسي بشراسة:
" كان الامر مريعا..فهو لا يخجل ابدا..حاول احتضاني..ثم..".
فتوقفت ابيغال عن الضحك وردت ساخرة:
" ثم ركضت هاربة منه..كما اعتقد!حسنا..لا باس في هذا اذن ماي؟ ".
" لا بأس؟ ".
فابتسمت ابيغال ببرود:
" طبعا لا بأس..اعني ستفعلين ما طلبه منك اليس كذلك؟ عندها اصبح نظيفة اليد ".
فحدقت بها مايسي وصرخت غير مصدقه:
" ابيغال! ".
" اوه..الى الجحيم!لا تنظر اليٍ. الامر بسيط تماما، اذا كان هذا ما يريده مع انني اظنه مجنونا..لكن لما لا؟وماذا ستخسرين؟ ".
احست مايسي بالدموع تحرق عينيها :
" ابيغال..انت..الا يمكن ان تكوني جادة؟... ".
" اوه..بل اعني ما اقول..ومصيري مرتهن لما سوف تقررين.وليست هذه تضحية كبرى بالنسبة لشقيقتك؟ ".
" لكنني لا استطيع التفكير كيف يمكنك قول مثل هذه الاشياء..او الطلب مني التفكير بها..انه اكثر رجل مكروه! ".
" لا..ليس مكروها..بل جذابا جدا ".
" لا..انه ليس كذلك..ثم ان ما يقدمه لا علاقة له بالجاذبية.انه مقرف وغير معقول...".
" صحيح؟ ".
" طبعا!انه ابتزاز..من اسوء الانواع ".
" هل انت واثقة ان الابتزاز هو ما يقلقك؟فانا اقول ان ما يقلقك شيء اخر ".
" شيء آخر ".
فضحكت ابيغال ضحكه مريرة.
" اوه..هيا ماي..بإمكانك الاعتراف لي !فانا اعرفك جيدا !انظري الى نفسك! انت خائفة اليس كذلك؟وليس بسبب الابتزاز..بل من مجرد التفكير بعلاقه مع رجل. لأنك تخافين من الرجال..ولطالما كنت هكذا ماي..والى مدى ما استطيع ان اتذكر كنت هكذا..كالثلج.ما من رجل استطاع الاقتراب منك...حتى عندما كنا صغارا...اوه ياللجحيم...ما الفائدة؟ الكلام معك مستحيل..هل انت خائفة على عذريتك ام حمقاء..الله وحده يعلم! انت في الخامسة والعشرين ولازلت على الرف..ولو عرف ليو حقيقتك لما اهتم بك، ولن يحصل اي رجل على اي مرح معك؟ ".
" اخرسي!كيف تجرؤين على هذا القول؟ليس صحيحا!فعدم مشاركتي لك حريتك وأخلاقك السيئة لا يعني انني...".
" اوه..ماي..انا اسفه..لكنك تعرفين كيف اهذي في بعض الاوقات...من الواضح انني انظر الى الامر بشكل مختلف عنك.لكن الخيار بسيط...ايهما اغلى عندك...عفتك ام شقيقتك؟ ".
" ابيغال..لا!لا يمكن ان يكون الامر هكذا..ولن يكون لابد ان هناك طريق اخر.لا استطيع ابيغال..حتى من اجلك ".
" ولكنني قد افعل لأجلك ".
ووقفت ابيغال لتكمل:
" حسنا..لقد عرفت الان موقفي.احتفظي لنفسك بطهارتك..ولا حق لي بلومك..لكنني سأستمر في لومك لما تبقى من عمري! ".
وركضت الى غرفة نومها لتصفق الباب وراءها.
واستمرت مايسي بالتحديق خلفها مذهولة غير قادرة على الحركة..متخطيه الان مرحلة البكاء وأنفاسها متسارعه متألمة..ثم اخذت تذرع غرفة الجلوس ذهابا وإيابا
بعد قليل خرجت الى البهو الصغير..ترددت قليلا امام باب غرفة شقيقتها..من الداخل تناهى اليها صوت البكاء المخنوق. واحست بالالم يعتصر قلبها..ما يحصل الان يشبه ما حصل تلك السنه..السنه الرهيبة حيث خلالها ماتت امها..ابيغال بالكاد تذكر هذا الان..لكنها تستطيع تذكر وقع الاقدام على ارض غرفة نومها..وصوت شقيقتها:
"اريد امي..ماي..اين هي؟" .
"
امنا ذهبت ياحبيبتي..ألا يمكنك النوم؟ تعالي معي..سأحتضنك ".
"
طوال الليل؟ ".
"
اذا اردتِ ".
"
الن تذهبي انت ايضا ماي؟ ".
"
لا يا حبيبتي..لن اتركك ابدا..اعدك" .
اسندت مايسي جبينها بضعف الى الجدار البارد تستمع الى النحيب الجاف الفضيع الذي يتناهى اليها من خلف الباب. ثم، استقامت فجأة وعادت الى غرفة الجلوس..التقطت الهاتف، ترددت قليلا، ثم ادارت رقماً، هناك فرصه واحده اخيره...الوحيدة الباقية لها.
بدا الهاتف يرن دون توقف...ثم اجاب شخص ما..وتكلمت:
" مرحبا...اود التحدث الى سكرتيرة كورد باكلير ارجوك...انا مايسي هاريس.

*******


Just Faith 20-08-18 02:50 PM



-3-
اسوأ من الماضي

مع حلول الظلام، خرجت مايسي تواجه هواء الليل البارد..والقمر لا يزال يرتفع ببطء..وقد بدا ابيض كالعظام تتخلله بضع غيمات بيضاء، من خلف المنتزه على كتف التل.سارعت خطواتها...وعند الزاوية ترددت اذ لم يكن هناك اي ضوء سوى المنبعث من مصابيح الشارع الطويل امامها...وتناهى اليها صوت الموسيقى وقرقعة الكؤوس من مقهى قريب..ونظرت الى البعيد، نحو البيوت البيضاء المرتفعه امامها...كانت تتوقع ان تجد كورد مسافراً..لكن سكرتيرته قالت انه عاد فجأة وانه لا يستطيع رؤيتها سوى هذا المساء،وليس في مكتبه بل في منزله
توقفت مايسي عند الباب..فالوقت لم يحن بعد.ولا زال بإمكانها تغيير رأيها..لكنها اجبرت نفسها على فتح الباب..احست بمعنوياتها ترتفع قليلا وهي تصعد السلم نحو الرواق المسقوف العريض، وضغطت على زر الجرس...لا بد انها كانت غبيه لحكمها المسبق على كورد لمجرد ذكريات الطفولة. فهو الان رجل،ولابد انه تغير، بالتأكيد، وإذا استطاعت ان تشرح له..فقد يساعدهما.
فتح الخادم الباب:
" آنسه هاريس؟ ".
وادخلها الى ردهة واسعة مضاءة.
" سيكون السيد باكلير معك بعد لحظات،انتظري هنا اذا سمحتِ..هل آخذ عنك معطفك؟ ".
قادها الى غرفة استقبال كبيرة، وانسحب بصمت..ونظرت مايسي بقلق حولها..لا بد ان كورد رجل غني جداً؟ سجاد صيني..اثاث اثري..احد الجدران مليء برفوف الكتب من الارض الى السقف..ستائر قرمزية قاتمة بلون الدم تظلل النوافذ التي تطل على المنتزه..وتحركت ببطء الى الداخل لتقف قرب النار المشتعلة في المدفأة
" آنسه هاريس ".
استدارت مجفلة...ثم تجمدت.تحدق عبر الغرفه غير مصدقة هذا الرجل الذي نطق اسمها،دخل الغرفه بصمت..يقف على بعد خمسة امتار منها تقريبا.يداه في جيبي بنطلون بذله رسمية وأحست بالدم يتصاعد الى وجهها..ثم قالت متلعثمة:
" لست افهم..لابد من وجود خطأ ما ".
فقطع الرجل الغرفه دون ان يبتسم ليقف على بعد خطوه منها:
" ليس هناك اي خطأ..لقد التقينا هذا الصباح، ام انك نسيتِ بسرعة؟ "
" اعرف..لكن..لا بد ان هناك سوء فهم ما ".
ابتسامته كانت متجهمة:
" ما من سوء فهم..ربما يجب ان نتعارف..فأنا كورد باكلير ".
ترنحت مايسي..ولم يحاول الامساك بها.لكنها وجدت الطاوله خلفها فأستندت اليها للحظات، تحدق فيه..بالطبع! كيف يمكن لها ان تكون غبيه؟لو لم تكن متوترة الاعصاب ومشغولة التفكير،لما ارتكبت تلك الحماقة. صحيح ان عيني ليو رماديتان ايضا، إلا انهما لم تحملا هذه البروده قط. فمه كان دائما ضعيفا، وكأنه فم فتاة، وليس قاسيا لدرجة الوحشيه مثل فم هذا الرجل.والصوت،كيف يمكن لها ان تنسى الصوت الخالي من المشاعر،حاد،جميل لكن خشن..فهو صوت محام لامع على كل الاحوال..لقد نظر اليها هكذا مره..بنفس الطريقه
الذكرى اعطتها الشجاعه.فأستوت في وقفتها وخطت الى الامام،تقول بهدوء:
" سأذهب اذن..لا فائده من بقائي الان ".
" أتظنين هذا؟استطيع القول، من وجهة نظر شقيقتك.ان في بقائك اكثر من فائدة، آلا تظنين ذلك؟ ".
تحرك بكسل، دون تردد، حتى اصبح يسد عليها طريقها..فاضطرت لرفع بصرها إليه فقال:
" ترغبين في تفسير دون شك؟ فالنساء عادةً يطلبن هذا ".
اكمل طريقه ليجلس الى كرسي قرب النار، دون ان تترك عيناه وجهها.كانت كلماته تؤلمها، فاستدارت اليه تدافع عن نفسها:
" الا تظن انك مدين لي بتفسير؟ ".
فهز كتفيه:
" ربما..وهكذا كلانا مدين..اليس كذلك؟ ".
ببطء اختارت كرسيا قبالته، وجلست.كان المقعد مغطى بالمخمل الأحمر وهي تجلس انفتلت تنورتها السوداء لتشكل هاله فوق اللون الاحمر..فابتسم:
" هل اخترت هذا الزي خصيصاً؟ ".
" لست ادري ما تعنيه ".
" بل اظنك تدرين بالضبط ما أعني انه رزين محتشم..اسود اللون،كثياب الراهبه.هل ظننت انني قد أتأثر به؟ ".
" لم افكر بشيء من هذا مطلقاً ".
" لكنني واثق انك فكرت، فكما يبدو لي، انك فكرت بدقه بهذا اللقاء ".
" لقد فكرت باللقاء..ولكن ليس بمظهري ".
" حقاً؟هذا مختلف عن تفكير بنات جنسك!فهن لا يتصرفن هكذا عادةً ".
" لقد جئت الى هنا اطلب عونك ".
" طلب عوني؟ هذا الصباح قلت عني انني لا اساعد رجلاً يحتضر في الشارع. انها صوره حيه، ولو ان الوانها مبالغ فيها لكنها مناسبة. هل تودين شرب شيء؟ ".
" لا..شكرا لك ".
" كما تشائين ".
ثم وقف قرب المدفأة، عمداً كي تضطر الى رفع نظرها اليه وابتلعت ريقها بصعوبة..بما انه لن يساعدها،وهذا واضح، فالأفضل ان تتكلم..ومالت الى الامام.
" لماذا لم تقل لي هذا الصباح..من انت؟ ".
" لأنني لم اختر ذلك".
" كان بأمكاني ان اوفر وقتي، والكثير من سوء الفهم ".
" ممكن ".
" كان يجب ان اعرفك.لكن..مضى زمن طويل لم نلتقِ فيه، وأنت لا تشبه ليو ابدا ".
" لا..لقد اخترت الذهاب اليه..لكنك دائما كنت مغرمه بليو ياكايسي..ومذ كنت صغيره ".
" لقد ذهبت اليه،لأنني ظننت انه سيفي بوعده لابيغال ويساعدها ".
" وعندما،كما ظننت، لم يفعل،جئت راكضه اليَ.ماذا كنت ستعرضين علىّ..ان تخبريني قصصا عن اخي؟ ".
" اذا كان هذا ضروريا..لست اهتم بما فعل..فاهتمامي الوحيد هو مساعدة ابيغال..ومسح كل اثر لما فعلت ".
" بداءاً هذا غير صحيح..فكما عرفنا هذا الصباح، انتِ تهتمين بما تفعلين.واهتمامك بأختك له حدوده..اليس كذلك؟ ".
وأحست مايسي بالخوف يتصاعد في داخلها من جديد..لن يعيد طلبه الان..بالتأكيد.
ضمت يديها معا امامها بتوتر،واجبرت نفسها ان لا تجفل،ولا تشيح بنظرها.
" اجل..له حد واحد..كما تحب ان تسميه ".
فأبتسم ورفع يده يمررها على خده حيث صفعته:
"كم انت متزمته! اتظنين انني سأخدع بكل هذا ؟هذا الثوب..تصرفك هذا الصباح ؟اوه لا..بالنسبة للتمثيل كان تمثيلك رائعاً.لكنه لم يقنعني! ".
فوقفت:
" هذا لا علاقة له بموضوعنا..كورد..ارجوك ".
لاحظت انه اجفل لذكرها اسمه مجرداً، وبدا على فمه دليل الاشمئزاز..فتقدمت منه وكررت:
" ارجوك..اعرف انك تكرهنا.اعرف انه لاشئ يدفعك لمساعدتنا..لقد اخطأت آبيغال..".
فقاطعها:
" مافعلته يسمى اختلاساً..كما يشمل السرقه.قمت ببعض التحقيقات بعد خروجك..اي بعد ان بُلغتُ بالقضية ".
" اعرف هذا! واعرف انه يجب معاقبة ابيغال..لكن الا ترى؟لقد نالت عقابها..لقد اعياها القلق فمرضت وهي تدرك فداحة ذنبها..".
فضحك بازدراء:
" هذا لأنها تخشى افتضاح امرها..لا تكوني ساذجه مايسي..لو لم اظهر أنا فهل كنت تتصورين حدوث ذلك لها؟ابيغال كانت ستستمر بكل سعادة في اختلاس مال المرأة المسكينة قدر المستطاع..هي ليست نادمه..انها خائفة ".
" هذا غير صحيح! لقد فعلت ما فعلت بتهور وطيش وندمت عليه، حتى قبل ان تطلب الجرده بوقت طويل...".
" طيش؟تصرف شيكات تزيد قيمتها عن اربعة ألاف دولار في ثلاثة أشهر وفي فترات محسوبة بدقه؟وتسمين هذا طيشاً؟ ".
" لقد..احتاجت المال! ".
" لماذا؟هل كانت تتضور جوعا؟هل لديها طفل تريد اعالته؟الم تستطيع دفع ايجار الطبيب ؟الم تقدر على شراء الطعام؟لا تتذرعي بهذا؟لقد عرفت نساء في اوضاع مماثله لِما ذكرتها أُرسلن الى السجن ثلاثة اشهر،وانت تحاولين اخراج ابيغال من المأزق دون عقاب؟لماذا بحق الجحيم يجب ان تنجو بفعلتها؟اتسمين هذا عدالة؟ ".
فاخفضت رأسها:
" لا..ليس عدالة! ".
" ماذا تسمينا اذن؟ ".
" لست ادري..العفو، الرحمة سمها ما شئت..".
" اتعلمين ماذا اسميها؟اسميها الرشوة للنجاة.شقيقه لديها ما يكفي، رقيقة الإحساس تظن نفسها قادرة على تخليص اختها او مسح كل ما فعلته، او جعل صحيفتها نظيفة..انه نظام خاص للأغنياء وآخر للفقراء. اللعنه على كل هذا..انه يسقمني".
نظرت اليه مايسي بهدوء، تحس بالدموع تقتحم عينيها.والقلق والخوف على ابيغال يتصاعد في نفسها،وقالت:
" حسناً..ما الذي تريد حصوله؟ ".
" اريدها،كما غيرها ان تواجه عاقبة عملها ".
" أتدمر حياتها؟انها لم تتجاوز العشرين من عمرها..ارجوك كورد..ألا ترى هذا؟ لقد اخطأت، لكنها تعرف خطأها الان.ولن تكرر مافعلت..ولديها فرصة مع شخص يمكن ان يجعل حياتها سعيدة، لتعويضها عن كل آلام الماضي.ما حصل كان ذنبي جزئيا..لو انها مرت بطفولة عادية ".
ودوت ضحكته ساخرة فصاحت به بحده:
" لا تضحك!انت تكلمني عن الحرمان عن اشخاص ".
يائسين ليس لديهم معنويات للحياة..حسنا هناك انواع اخرى للحرمان!آبيغال لم تعرف امها كثيرا، وبالكاد ترى ابيها، ولم تحظ بالحب وهي طفله..وإذا كانت حمقاء غير مسؤوله بعض الأحيان فهناك اسباب..ألا تفهم؟
" لا..لست افهم. فلا تقصي علي قصصا باكية، فهي لم ينقصها شيء ".
" بل كان ينقصها الحب ".
لاحظت تغييرا في تعابير وجهه.وظنت انها شاهدت شيئا مختلفا، نوعا من العطف في عينيه الرماديتين الباردتين..وسرعان ما تلاشى احساسها حين تقدم منها بسرعة لاوياً فمه:
" كانت تريد الحب؟ ".
مد يده وامسك ذراعها بعنف ليشدها اليه ويقول:
" سأقول لك شيئا مايسي..اتعلمين بمن تذكريني في هذه اللحظات؟ وبمن ذكرتني هذا الصباح،عندما انحنيت فوق الطاولة بنفس التعبير الآمل المتوسل الظاهر على وجهك الان؟ لقد ذكرتني بأمك..".
" بأمي؟ لكنني".
" اوه اعرف انك لا تشبهينها..لكنك مثلها، الست هكذا مايسي؟حيث لا يظهر ما في داخلك سوى في عينيك.يا إلهي..كم اكره عينيك! لا استطيع تحمل رؤيتهما، ودفعها بعنف عنه، واكمل...".
" لقد رأيت هذه النظره لدى أمك عندما جاءت زاحفه الى امي تختلق الاعذار والأكاذيب اللعنه! ياإلهيَ!".
وغطى وجهه بيديه:
" لن انسى تلك النظره مادمت حياً..قالت لها "سامحيني..سامحيني..لقد تسببت بتحطيم زواجك..وأنا اسفه جدا على ولديك وعلى زوجك وما فعلته معك ".
كان يقلد ساخرا صوت امها..ولهجتها الايطالية الغريبة حتى ان مايسي تذكرتها..وكأنها معهما في الغرفه..تقدم منها ثانية وامسك بخصرها، يضغطه بين ذراعيه ليكمل:
" كانت تتوسل لغاية في نفسها،واستخدمت ذلك التوسل كما تستخدمينه الان..يا الهي..لقد عرفنا عنها كل شئ..طفولتها في الازقه، عشاقها الكثيرين،ثم الرجل الذي احبها وساعدها..ابي، الذي ترك زوجته لأجلها تخلت عنه بعد ستة اشهر،بعد ان حققت الدمار في عائلته...".
" توقف !انت تقلب الحقائق..هذا غير صحيح".
" وماذا تعرفين انت؟ ".
" كنت لا ازال طفله! وكانت ابيغال رضيعه! وليس لها علاقة بما حدث..ليست مسؤوله عن اي شئ! كل ما ستفعله..هو القاء انتقامك عليها..وتكلمني عن الحق والعدالة..هذه ليست عدالة..انها الكراهية! ".
ساد صمت رهيب في الغرفه. وللحظات ظنت انها اثرت عليه..وان كلماتها خرقت قوقعة ذكرياته..لتلمس خزان غضبه.وبدا محيرا، لأول مره، فاستدار عنها..وقال باختصار وظهره لها:
" ربما..ربما! ".
ترددت قليلا، ثم امسكت بكم سترته، فلم يستدر، وقالت:
" كورد..ارجوك! ".
بدا صوتها المصدوم غريبا على اذنيها حين تكلمت بصعوبة.
" استطيع التحدث عن كل ما اذكره وكما اشعر به فقط..فانا لم اكرهك يوما..انا اسفه..انا اسفه تماما لما تشعر به لكنني ارجوك ان تنساه الان وتساعدنا ولو مره واحده "..
وتنهدت:
" اذا لم تساعدنا..فلا مكان لي غيرك الجأ اليه..ارجوك..لا استطيع سوى الطلب..التوسل..".
فاستدار..وقال ببرود:
" لقد طلبت هذا في الصباح ".
" اطلبه مجددا ".
ودفع يدها عن ذراعه:
" وقلت لك الثمن! ".
" ماذا ؟لا يمكن ان تعني ما تقول!انا..لقد ظننت ان في الامر مزاح..او نوع من...اللعب..".
" ليست لعبه..وعليك ان تقرري من الذي سيدفع الثمن عن عائلتك انت ام شقيقتك..عليكم تسددون بعض الديون ".
" وعدتك..بإعادة المال".
" لست اتحدث عن المال..سمها عدالة قاسية سمها ما شئت! فانا اعتقد ان هذا يوازن معادله قديمه..الا تظنين هذا؟ ".
" معادله قديمة ".
وساد الصمت مجددا، ليحدقا ببعضهما..وأحست مايسي بشئ يرتفع ثم يتحرك في قلبها، شيء قديم جدا..قوي جدا..اخافها جدا، فقالت:
" لا افهم ماتعني ".
" بل تعرفين ما اعنيه بالضبط..اليس كذلك مايسي؟ ".
حاولت التراجع عنه، لكن قبل ان تبتعد كانت ذراعاه قد التفتا حولها، ليحضنها دون جهد، لم يجبرها..بل امسكها بحيث لا تستطيع الحراك..ثم بلطف مدهش رفع رأسها اليه كي ينظر الى عينيها الواسعتين الخائفتين.وسألها:
" اهناك رجل في حياتك مايسي؟هل يشكل هذا خيانة لأحد ".
" لا ".
" لا تكذبي! ".
" لا اكذب! ".
" حسنا ".
انفرجت شفتاها لترد عليه لكنه احنى رأسه ليدفن وجهه في شعرها. يداه دافئتان ناعمتان، ارسلتا رعشه عنيفة في كل جسدها...فلم تقاوم وأحست بيديها عالقتين بينها وبينه..متوترتان..ثم مسترخيتان..وتنهد كورد، بطريقه لم تسمعها من قبل. وأحست بتوقه الغريب لها..وأخذت مشاعرهما تتواصل وكأنها تيار كهربائي، تسللت قوته الى داخلها دون مقاومة، تطالب بالتجاوب...وسمعت نفسها تتأوه، فشد عليها أكثر، يمرر يداه على ظهرها الى ان وصلت احداهما الى شعرها الطويل الكثيف،ورفع وجهها اليه كما ترتفع الزهره نحو النحله لترتشف رحيقها.
كان عليها ان تقاوم..ان تبعد رأسها عنه..فلم تستطع. شيء ما استيقظ في داخلها شيء مدفون منذ زمن ظنت انه انتهى...قوه هائلة قفزت في داخلها اتيه من أعماقها، كالرسالة اندفعت الى دمها، قلبها، ثم الى ذراعيها.. وسمعته يقول وكأنه يبعد عشر سنوات:
" مايسي..اتذكرين؟ ".
كانت تحس اكثر مما تسمع..بشرة وجهه الخشنة على خدها الرقيق..احست بمشاعر وكأنها في مكان اخر..ذات مره..في مكان ما..وهو يتلمسها عادت الذكرى اليها والصورة، ومعها كاد ان يتوقف قلبها..ومعها توقفت سعادتها..وتصلب جسدها...
وطغى عليها العار والخجل..وسمعت نفسها تطلق صرخة مخنوقة، وانقبضت يدها لتدفعه عنها بكل قوتها:
" لا! لا اذكر! ".
تحررت منه.فوقفا وكأنهما متصارعان، يتنفسان بقوة، وعيناهما مسمرتان وكأنهما منفصلان عن العالم..عيناه كانتا متوسلتين، اما مايسي، فكانت ترتجف وكان عينيها قد بردتا فجأه.
" لا..لن اتذكر! ".
" مايسي.. ".
مد يده اليها فضربتها..احست بقلبها يصغر ويتشدد ويمتلئ نقمه.
" ابتعد عني، ولا تلمسني ثانيه! ".
فتراجع ورأت القساوه تعود الى وجهه..وقالت له:
" في المرة القادمة..المرة القادمة التي تقف فيها في المحكمه..يا إلهي كم اتمنى عندئذ ان تتذكر هذا..واتمنى ان لا تنسى طالما انت حي! لا حق لك ان تقف هناك...اتسمعني؟ فما من احد يمكن لك ان تقاضيه اكثر من نفسك. ايها المبتز، الكاذب، الكريه المستغل لضعف الاخرين..انت لا تطاق..انت تقرفني..اتفهم هذا؟انت...".
ورأت فمه يلتوي بنصف ابتسامه.
" صحيح؟لو كنت مكانك لما قلت هذا.ثم ان خبرتي كبيره بمثل هذه المسائل ".
" هذا كذب! ".
" لا..انا لا اكذب..ما كنت اريده اردته انت ايضا..لم فعلتِ ذلك؟اين هي طهارتك المدعيه؟ ".
" اللعنه عليك كورد!اتركني! ".
لكن قبضته اشتدت أكثر، وفجأه تدفق الخوف مع الدم الى قلبها..خوف قديم اعمى غير منطقي..وفقدت كل السيطرة على نفسها..وبأندفاع حيواني، فاحنت رأسها لتتمكن من عضه، فتذوقت طعم الدماء الساخنة على شفتيها ولسانها.وسمعته يصرخ من الالم.وتركها على الفور متراجعا الى الوراء..تملكها الخوف مما فعلت فتراجعت بدورها وسمعته يضحك:
" ايتها الثعلبه الصغيره!ماذا ستفعلين بعد هذا؟اتضربين عيني بمخالبك؟ ".
التفتت لتركض بكل حماقة دون ان ترى،لتصطدم بالطاولة خلفها..بصرخة مدوية حاولت التوقف، لكن الوقت كان قد فات..وانقلبت الطاولة..الزهرية الخزفية الصينيه القديمه، المكحله الزمردية الاثريه،ارتمت على الارض وتحطمت..بعد التحطيم..ساد صمت رهيب بدا وكأن له رنين في اذنيها.وحدقت الى الارض بخدر ذهني.الى الشظايا الذهبية القرمزية البيضاء والزمردية..المسحوق الجاف للكحل الاسود تناثر كذلك.والزهور البيضاء التي كانت في الزهرية تحطمت.صاحت:
" اوه..لا ".
انحنت محاوله فعل شئ..لكنه منعها..
" اتركيها..لا يهم..كل شيء معرض للتحطيم ".
" انا اسفه...".
ماتت الكلمات على شفتيها ليقينها انه من السخافه الاعتذار الان.واستدار عنها برزانه ليضغط على زر جرس قرب المدفأه.
" سينظف الخادم كل شئ...وسيحضر لك معطفك ".
" كورد..".
فاستدار عنها،ثم فُتح الباب فقال:
" الآنسة هاريس تود الذهاب ".
" حاضر سيدي ".
" اوه..مايسي..ارجوك..ادرسي طلبي..اريد قرارا محددا نهائيا..هل نتفق بعد ثلاثة ايام؟عندها سأعرف ما سأفعل..في كلتا الحالتين ".
وابتسم لها ابتسامه مثلجه.
ولم ترد، بل خرجت بسرعه الى الردهه، وساعدها الخادم على ارتداء معطفها بشكل رسمي.ولم يبد عليه انه لا حظ ارتجافها.
" عمت مساء انسه هاريس ".
" عمت مساء ".
واقفل الباب.
وهي تسير نحو منزلها..توقفت والهواء البارد يلفح وجهها وقالت لنفسها كلمات صامته:
" لقد احببته يوما..احببته كثيرا ".
مواجهة نفسها بما تعرفه وتكتمه لسنوات اراحها..ثم وبكل تعمد تركت الفكره تتلاشى من جديد وكأنها قطعه النقود تغرق في ماء عميق اسود.لمعت ثانية،ثم اختفت.
يجب ان تدفع المال، بغض النظر عما سيحدث، واذا حصلت ايه فضيحة ستتحملها الى النهاية، ثم بما بقي معها من مال ستأخذ ابيغال الى بلاد بعيده لا يعرفانها ولا يعرفهما فيها احد.حيث ستتمكنان سويه من النسيان.

*****


Just Faith 20-08-18 02:51 PM

يجب ان ترد لمشاهدة المحتوى المخفييجب ان ترد لمشاهدة المحتوى المخفييجب ان ترد لمشاهدة المحتوى المخفي

Just Faith 20-08-18 02:51 PM

-5-
أتقبل بهذه المرأة؟

للحظات، لم يتحرك اي منهما..فثار غضبها وازداد خفقان قلبها وارتعشت يداها وبدا لها صمت الغرفه صراخ..والتقت عيناهما، فلم تميز ما رأته في عينيه..ربما الرغبة المشوبة بالألم..وربما الغضب.وطال الصمت..ونفذت قدرتها على الاحتمال..فخرج منها سؤال وكأنه رصاصه:
" حسنا؟ ".
فخطا نحوها، دون ان يلمسها واحنى رأسه ليقبل رأسها..فجمدت..دون حراك..ثم تراجع..رفع يده..ثم تركها تهبط ثانيه.وقال بخشونة:
" البسي ثيابك ".
فحدقت به مشدوهه..فصاح:
" اللعنه !قلت البسي! ".
التقت عيناهما بنظرة كره وحقد..وتمنت لو تغطي وجهها كي لا تراه وأحست ان ثمة شعور اخر يتحرك في داخلها..يشبه خيبة الامل.فأحست بالدم يتصاعد من عنقها الى وجهها.جمعت اطراف الفستان ببطء وقالت بصوت على شفير الانهيار:
" هل أذهب؟ ".
تقدم نحوها ليساعدها على ادخال ذراعيها في الاكمام،ثم اقفل السحاب، دون ان يلمسها.اجابها:
" لا..اجلسي..اريد التحدث اليك ".
" لا اظن ان هناك ما يقال ".
" حسنا هناك شيء ".
فجأة بدا لها تعبا..مرهقا..وقد تلاشت حيويته.فجلست بكل هدوء..وجلس بدوره..وبقيا صامتين لبضع دقائق.فأحست بشيء كالشفقة يتحرك داخلها له..انه رجل الان.لكن عندما كان صبيا كانت تبدو على وجهه علامات الوقاحة..مازالت تتذكر جيدا ولكنها لا تريد الحديث عن الماضي.
وأخيرا تكلم..بصوت بارد، خفيف، متحفظ، وكأنه يخاطب محكمه:
" لو اعطيتني الفرصه..لشرحت لكِ بأنني لا اهتم بهذا وخاصة معكِ ".
احست بأن الألم يطعنها كالسكين..فاتسعت عيناها..وحين لاحظ رد فعلها ابتسم بمرارة:
" واضح انك ارتحتِ..انا لا ارغب في امرأة اخرى..ولا بعشيقه اخرى..ولا احب اغواء الفتيات رغما عنهن، لأنه امر متعب، وكريه،لكلا الطرفين..لأنني افضل..هل أقول..امرأة لديها خبره؟ ".
" هكذا اذن ".
احست بالألم خلف عينيها، وكادت ان تبكي..لكنها ابقت على صوتها متزنا ومتجهما.فأكمل:
" باختصار..انت جميله جدا مايسي.لكنك لست من الصنف الذي يستهويني.فأنت مزيج من الحرارة والبرودة..لكن..ارجوك لا تبكي ولا لزوم للعواطف في هذا النطاق ".
وقفت مايسي تحدق به وتمسح الدموع بيد غاضبه:
" لا شك انك تستمتع بذلك؟فضلا عن اعطاء الموقف بعدا اخر تود ان تذلني وان تجعلني اشعر بالعار..يا الهي كورد..ارجو ان تكون قد اكتفيت! ".
" حسنا..انا آسف كنت مضطرا لجعلك تمرين بتجربة عاطفية، ثم عدلت عن رأيي لأنك تعجلت المراحل...".
" لا ومن يأمن شرك ويقتنع بأنك لن تستمر في إنتقامك، كورد ".
فابتسم ساخرا:
" الانتقام؟اعترف ان الامر كان مسليا..ان اراقب صراعك مع ضميرك.واعترف برغبتي بمتابعة تحركاتك مايسي حتى تقري بحقيقة دوافع ما تقدمين عليه.فلا تقولي انها تضحية من اجل الآخرين..".
" كيف تجرؤ؟اتظن انني اردت المضي بذلك؟ ".
" لقد اظهرت رشاقة وابتهاجا في خلع ملابسك.في الواقع كنت سأقول انك خبيرة محترفه ".
ومد يده برشاقة وبسرعة ليمسك يدها التي ارتفعت لتصفعه:
" لا..هذا لن يتكرر.فقط اصغي الي..فلدي اقتراح بديل ".
" اوه..صحيح؟لكنني لست مهتمة! ".
" من الافضل لك ان تهتمي، فالصفقة لا تزال قائمه.لكنني اود اقتراح بديل لشروطها،فقد تكونين مفيدة لي جدا مايسي ".
" مفيدة؟ ".
" اجل..فكما قلتُ لستُ بحاجه الى عشيقه اخرى..لكنني بحاجه الى زوجه ".
" ماذا؟ ".
ياللدهشه..لم تقاوم فبقت يدها بين يديه، وحدقت به غير مصدقه..فتركها، وجلس كأنما يتحداها بأن تهرب..لكنها بقيت، مسمرة، تنظر إليه
"الامر بسيط حقا، فانا في الثانيه والثلاثين، وغني جدا...واُعتبرُ ناجحا بكل ما افعله.حتى الان لا اميل الى الزواج..ونجوت من كل مكائد النساء الهادفة للإيقاع بي..لكنني اجد الامر متعبا جدا..فلو تزوجت..سأتحرر من كل هذا ".
" احقا ترغب في الزواج؟..لماذا؟ ألتختلق لنفسك الاعذار؟ ".
" شيء من هذا القبيل..وستكون طريقه مقنعه لإنهاء كل العلاقات الاخرى التي يمكن ان تشكل لي أزمة او ورطه ".
" اظن ان الاقتراح شرير ومريع، ولا يمكن ان تعنيه! ".
" اوه..ولكنني اعنيه.فالزواج ليس مجرد عقد قانوني وإذا ساورك شك ما..اطلعي على احدى قضايا الطلاق التي توليتها..وانظري ماذا يحصل عندما يقرر الناس الغاء هذا العقد.اتظنين انهم يتحدثون حينها عن الحب او المسؤولية او الرغبة يامايسي؟ ".
وضحك بمرارة:
" أؤكد لك بأنهم لا يتكلمون سوى عن المال والممتلكات الخاصة..ربما لا تصدقيني..فأنت رومانسيه ".
" ماذا تقول؟هذا غير صحيح فقد تتعقد الامور وتفشل احيانا..رغم الكلام والوعود التي يقطعها الزوجان في البداية ".
فضحك:
"اوه..حسنا..انهم يقولونها ويعنونها..واعترف ان مراسم الزواج مظاهر شاعريه...لكن اذا قطع الناس هذه الوعود، فعليهم الالتزام بها.اليس كذلك؟ وأظن ان من واجب المرء ان يخترع نوعا جديدا من الزواج..دون شاعرية دون قسم.مجرد اتفاق عملي قانوني ".
" هذا ليس زواجا! ".
" انه بديل ".
ضحكت ساخرة:
" لا اظنه يستمر ".
" قد يستمر..وهذا ما اعرضه عليك! ".
" عليَ انا؟ ".
" طبعا..سيمكنني هذا من ممارسة حياتي الخاصة كيفما أشاء، وأظن اننا سنتفق معا ".
" بالطبع انا لن اتفق معك! ".
" ولِمَ لا؟ ".
" لأنني لا احبك ".
" لكنني اقترح اتفاقا عذريا..افلاطونيا..".
" عذريا؟ ".
" طبعا..ولا تخافي ان استغلك..ستحصلين على غرفتك الخاصة..فلا تقلقي مايسي، ولا حاجه لك لأقفال بابك..فلن افرض نفسي حيث لا اكون مرغوبا ".
شيء ما في صوته جعلها تتردد:
" اتفاق؟ ".
" اجل..يمكن تسميته اتفاق قديم العهد ".
" قديم العهد؟ ".
" كفي عن تكرار كلماتي..انت تعرفين تماما ما اقصد..اعلم انك وجدت صعوبة في التمييز بيني وبين اخي..لكن ذاكرتك لم تنسَ ابدا..واجد غرابه في ترددك بالحديث عن فانكوفر. . .".
احست مايسي بالدم يضج في اذنيها.احست بالسنوات تمر امام عينيها، رأت وجهه يتغير، ويسترد طفولته وبدا لها اكثر لطفا..فغطت عينيها بيديها..فسارع يقول:
" اذن انت لم تنسِي؟ ".
" لقد مر زمن طويل...".
" ربما استطيع انعاش ذاكرتك.اتذكرين المنزل مثلا؟ ".
" طبعا اذكره! ".
فجأة احست بالعرق يتفصد على جبينها، وتابع:
" ربما تذكرين قطعة الارض الممتدة الى البحر؟والمرعى خلف المنزل؟ أتذكرين؟ ".
فاستدارت نحوه بغضب:
" توقف عن هذا! ".
" وتذكرين تبعا لذلك وجودنا هناك عند عمتك كارلا، وابيغال وأنت.. وأنا..وليو..".
صاحت وهي تلتفت بعنف نحوه:
" هذا يكفي !انت لست في محكمه الان..ولن تستطيع استجوابي..اتركني وشأني..فانا لا اذكر شيئا! ".
" لا تذكرين ام لا تريدين ان تذكري ؟ ايهما مايسي؟ ".
ومد يده يمسك ذراعها..لكنها تمكنت من الافلات منه.مع ذلك احست بالصور تتحرك في اعماق ذاكرتها..وعرفت دون سبب ان عليها تجاهلها وتعمدت تغيير الموضوع فقالت:
" اقتراحك سخيف! ".
" ليس سخيفا..عليك مواجهة الماضي عاجلا ام اجلا.فلم لا يكون اليوم؟هل تخافين من كل ما حدث او احسست به؟ ".
" اصمت..استحوذ الماضي عليك فلم تأت على ذكر سواه..منذ التقينا..".
" ربما لأنه مهم لي...".
فردت بحده:
" حسنا..لم يكن مهما لي..كان ذلك مجرد عطلة، كأية عطله اخرى..كنت يومها في الخامسة عشرة من عمري..والوقت الذي امضيناه هناك لم اعد افكر به...".
" وهل هذا صحيح؟ ".
كل ما تفكر به هو كيفية ايلامه بقدر ما تألمت بسببه..فردت ببرود:
" طبعا صحيح!وبالتأكيد انت..كورد..من بين كل الناس لا تتصور شيئا مختلفا؟ ".
" ما الذي حدث اذن؟ ".
" لا شيء. ولا اعرف..ربما عبثت معك قليلا...".
وضحكت ضحكه كريهة محسوبة وأكملت:
" ربما اكون اشبه امي على كل الاحوال ".
سيوقفها الان عند حدها لا شك.سيصيح فيها انها تكذب.ويجبرها على الاعتراف بالحقيقة، يقول لها ان ما تقوله كذب..وإنها يوما ما..لكنه لم يتحرك..ولم يقل شيئا.
اخيرا استدارت وقالت بصوت مخنوق دون ان تنظر اليه:
" وأنت؟ ".
" انا؟ ".
" اجل انت.يبدو انه استجواب من طرف واحد..اذا كنا سنتحدث عن الماضي اخبرني كورد، ماذا كنت تشعر يومذاك؟ ".
وتصلب وجهه ورد ببطء متعمد:
" اوه..ألا تعلمين مايسي؟ اعتقد ان الامر واضح..فانا مثلك لم اشعر بشيء اطلاقا..ربما بانجذاب عابر،كما قلتِ..ولا استطيع التحديد في ذلك السن ".
آلمها ما تفوه به وخسرت آخر امل تعلقت به وكأنها خطت الى الفراغ..ارادت ان تصرخ..لكنني كذبت..ما قلته غير صحيح.لكنها لم تستطع ان تتكلم..فقد امسك الخوف بكلماتها بل هو اكثر من الخوف..انه شك قاتل رهيب..ربما كان على حق!فطوال هذه السنوات كانت تتمسك بكذبه..فاستدارت عنه، وقالت مرتجفة:
"انا لا افهمك...وليس بيننا اي اتفاق ".
" هذا واضح.لم اكن دقيقا في تقديري.كان يجب ان اكون اكثر دقه.لقد بدا لي انه سيكون اتفاقا ناجحا نظرا لما حدث بين ابي وأمك...".
فقالت بشراسة:
" زواج دون حب؟ ".
" هل يمكن ان ندعوه زواج مصلحه واتفاق؟ ".
" ادعه كما يحلو لك!البسه اي ثوب يرضيك!انه نوع من الانتقام مهما زيفته...ولن يكون لي شأن به! ".
فتقدم منها خطوه:
" حسنا..نعود الى الطلب الاول ".
حدقت فيه مذعورة :
" ماذا؟بعد كل الذي قلت انك تفضل..المرأة الخبيرة؟ ".
" هذا صحيح..بوجه عام ".
وابتسم لها باسترخاء وارجع لها شعرها عن كتفيها ووضع يده على عنقها وقال بصوت ناعم:
" عليّ ان اقبل بالموجود.اليس كذلك مايسي؟ ".
ونفضت يده عنها بغضب:
" لا!لن تفعل!سئمت كل هذه الالاعيب !سأفعل ما كان يجب فعله منذ البداية..سأخبر الشرطه بكل ما حصل..".
" اوه..افعلي ارجوك.فعائلتك لا تخلو من الفضيحة..وبذلك تحصل ابيغال على حكم مع ايقاف التنفيذ..وديكي مخلص لها وسيقف الى جانبها ".
وترك التهديد يتغلغل في اعماقها..وساد صمت.
" لن تستطيع فعل هذا..كورد ارجوك !لطالما آمنت...".
" آمنتِ بماذا؟ ".
" بانك...شريف..اعرف انك تكره امي وعائلتي..لكنني ارجوك كورد..فأنت لا يمكن لك...".
" ربما تغيرت..وانتِ قادرة على التغيير مايسي، والله اعلم ".
عاد الخوف يجتاح قلبها وبدت على وجهه كراهية باردة لم تفهمها..استدارت بسرعة على عقبيها مبتعدة:
" انا ذاهبة..مكتفيه بذلك ".
فجأة امسك بها بين ذراعيه..بعنف وغضب مكبوحين.
" وأنا سئمت من اكاذيبك وادعاءاتك اللعينة.انت لن تغادري هذه الغرفه حتى تقرري بطريقه او بأخرى ".
وجذبها اكثر بين يديه ليصبح فمه على شعرها:
" مايسي..هل هذا صعب جدا عليك؟ لماذا لا تغمضين عينيك ؟لماذا لا تتخيلين انني أخي؟ ".
اعتمرت قلبها ثوره عارمة فدفعته بقوة وصاحت:
" لا!كيف احتملك وأنا اعرف تماما مقدار كراهيتك واحتقارك لي..وكأنني آله..هذا ما يعجبك اليس كذلك؟ سأتزوجك وحسب شروطك..ولي شرط واحد وهو ان لا تلمسني ابدا.عله يجعلك بائسا بقدري ".
وضحك تجاه غضبها:
" اهذا قرارك النهائي؟ ".
" اجل..قراري النهائي! ".
نظر الى ساعته:
" هذا جيد..اتفقنا.سنتزوج بعد أسبوع، وسأحصل على رخصه خاصة..وسنسافر الى باريس لقضاء شهر عسل.لدي اعمال اقضيها هناك، وهكذا نحافظ على بعض المظاهر. والآن..بعد ان اتفقنا.اتحبين ان اتصل لك بتاكسي ليوصلك؟ ".
حدقت به مايسي غير مصدقة، وقد التقط الهاتف بكل اتزان وطلب تكسي..ثم استدار.
" عظيم..سيكون هنا بعد دقائق..دعيني احضر لك معطفك ".
" كورد لا يمكنك فعل هذا! ".
" بل استطيع ".
البسها المعطف متحاشيا ملامستها.فنظرة اليه بعينين جف دمعهما وبصوت تخنقه البحه:
" كنت تخطط لهذا الانتقام منذ البداية ".
" هذا ممكن ".
" اكرهك!وهذا الزواج كريه..كذبه لعينه!وسيكون كالجحيم لنا معا..وأنت تعرف هذا! ".
" لا تقلقي مايسي..سيكون جحيما في غرف منفصلة..والآن دعيني اوصلك الى السيارة ".
*****
ثوب العرس كان قديما..يعود لامها.ثبتت طرحته على رأسها بزاوية حريريه من الزهور القماشية واللآلئ تتدلى كالدموع.
فأشاحت بوجهها..لقد حان الوقت.
عبر الغرفه كانت ابيغال في السرير تبكي بصمت..فأحست مايسي برغبة جنونية للضحك، فهذا زفاف اشبه بالجنازة. ووقفت:
" ابيغال ارجوكِ..لا تبكي الان..ارجوكِ توقفي ".
نفخت ابيغال انفها في المنديل:
" لا استطيع فهم ما تقدمين عليه ".
" ولماذا يتزوج معظم الناس؟ ".
" ماي! لا يمكنك اخفاء الامر عني !انت لا ترغبين في الزواج منه..لطالما كنت تكرهينه..".
" هذا غير صحيح! ".
" لقد فاجأني قرارك، زواج دون حفل او حظور.الامر فظيع مايسي! ".
" كورد...".
وترددت..عليها ان تعتاد مناداته:
" كورد اراده زواجا سريعا قدر الامكان ".
" ماي...انت تكذبين عليّ...فالأمر يتعلق بالمال.اليس كذلك؟ ".
" بطريقه غير مباشره ".
" تلك هي غلطتي ! الورطة هي التي جعلتك تقابلين كورد ثانية...اوه ماي..انا واثقة انك مخطئه ".
ابتسمت لها مايسي بلطف..هذا صحيح..ليس المال او ما فعلته هو دافعها للموافقة..انه الماضي،ورجل استطاع احتضان الانتقام عشر سنوات.
نظرت الى ساعتها بقلق، ثم الى عيني شقيقتها بيأس:
" حسنا..يجب ان نذهب الان ".
" لا تحزني..فتكدري مايك ".
خارج المنزل،سيارة كبيره فخمه كانت تنتظر، وكان مايك،رب عملها ينتظر، قبلها بحرارة، وساعدها وشقيقتها على الصعود وابتسم لها والسيارة تنطلق.
" اتعلمين عزيزتي..انا لم اكن مسؤولا عن تسليم عروس الى عريسها من قبل.حتى انني لم احضر زواجا من قبل..ومنذ اكثر من عشر سنوات..كان يجب ان يحل والدك مكاني..وكان يجب ان تبرقي له ".
ضغطت على يده بلطف:
" انا سعيدة بوجودك ".
غصت ابيغال ببكاء مكبوت توقفت السيارة:
" اوه..ماي! ".
امسك مايك بيد مايسي.
" اصمتي ابيغال..انها تعرف ما تفعل ".
تركتهما ابيغال متقدمه امامهما..واستندت مايسي بضعف الى ذراع مايك. ترددت قليلا ثم رفعت "الطرحه"الى الامام لتغطي وجهها، ودخلت الكنيسة.كان الارغن يعزف عزفا ناعما، داخل الكنيسة عتمة تنيرها شموع بنارها المتموجة المدخنه..وكان المكان خالي تقريبا.
لكن مايسي لم تشاهد المقاعد الفارغة، ولا الاشخاص القليلين على جانبي الممر المؤدي الى المذبح.فمنذ لحظه دخولها لم تشاهد سوى شخص واحد..ذلك الرجل الطويل الأسمر، الواقف وظهره اليها عند المذبح..تحركت نحوه وكأنها الشبح، تحلم غير واعية انها تمشي..استدار الشبح حين اقتربت والتقت عيناه الرماديتان بعينيها."ايها الاحبة الاعزاء..اجتماعنا اليوم هنا.."اخذ الكاهن يرتل الكلمات بدلا من القائها،وبدت الكلمات لمايسي انها اتيه من بعيد..حاولت ان تشيح بوجهها عن وجه كورد ولم تستطع فعيناه كانتا تحرقانها..وجهه جدي،وتعابيره متجهمة.
امسك يديها خلال تلاوة المراسم ولم يتحرك..وفجأة..تلاشى قلقها، وبدا لها ان قوة ما تنبض في ايديهما المتشابكة، من جسده الى جسدها، فأحست على الفور بالطمأنينة، وبأمان غير عادي،سرى في شرايينها مع الدم..
والتفت الكاهن نحوهما:
"
اتقبل بهذه المرأه زوجة لك، لتعيش معها كما امر الرب في سر الزواج المقدس؟ هل ستحبها، تواسيها، تحترمها، تحافظ عليها،في المرض والصحة وتخلص لها طالما انتما احياء؟ ".
عينا كورد مازالتا مسمرتان بها..وساد صمت طويل بارد.
بدا لها ان كل الدماء جفت من شرايينها..وفكرت بجنون:
سيكذب الآن، ويجب ان تمنعه قبل ان يقسم يمينا كاذبة. وتصاعدت الكلمات الى فمها، لكن الصمت انكسر وتعالى صوته العميق الاجش:
" سأفعل ".
فماتت الكلمات على شفتيها...وشحب لونها من الهلع عندما استدار الكاهن اليها:
"
هل تقبلين بهذا الرجل ..."
تمسكت بيد كورد..تنظر اليه.انه لا يرى وجهها من خلف الخمار، لكنه قد يرى عينيها القلقتين اللامعتين..ربما احس بشيء ما، فتغير وجهه للحظه..ربما الشك الذي تلاشى على الفور.كم هو متكبر...وفي تلك اللحظة طغت على سطح ذاكرتها صور الماضي والعلاقة القديمه وعواطف مكبوتة اطلقت عنانها الان فملأت قلبها بالحب الذي انكرته على كورد..
وتناهت اليها كلمات الكاهن، بوضوح كامل، تحدد الزمن مع الذكريات، ليصبحوا ايقاعا ضخما يستولي على تفكيرها،وعلى نبضات قلبها..الامر بسيط اذن..وليس بهذا التعقيد..لقد رغبت بذلك قبيل ان تبلغ مشارف انوثتها ونضوجها منذ زمن بعيد..في ذلك البلد.وها هي الان تحس انها واقفة..فوق صخره مرتفعه والريح المنعشه تهدهدها.
" تتخلين عن الاخرين..تلتزمين معه..في المرض والصحة، تخلصين له، طالما انتم ا احياء؟ "
ترك كورد يدها..فاستدارت تنظر الى الكاهن ودون تردد او تأخير قالت:
" سأفعل! ".
انتهى الامر...فسرت تنهيده وكأنها ريح باردة عبر الحشد الصغير..وارتجفت انوار الشموع للحظات.كانت مغمضة العينين..انه صوتها..تكلمت..وأقسمت..لكنها لم تشأ لشفتيها ان تتحركا..ثم تذكرت لحظة الانفصام.لا بد ان الكلمه خرجت من الموسيقى الصامتة في قلبها..او من الماضي..صحيح ان امرأة ناضجة تقف هنا، إلا ان فتاة صغيره هي التي تكلمت..وانتهى الامر !والتفتا معا الى الكاهن ليقول كل بدوره بصوت مضطرب:
" بهذا الخاتم أتزوجك ".
كان خاتما ذهبيا بسيطا...كانت يداه ترتجفان وهو يضعه في اصبعها، فأحست بلمسه باردة...وتلاشت الموسيقى وألم التفكير رأسها..لقد كذب، هذه الحقيقة اخافتها وحدقت بيديه..لم تكن قد احست يوما انها اقرب من الان من خطيئة انسان..بقيت عيناه تنظران في الارض ولم يخبرها بشيء.
ركعا..تبركا...وصوت الكاهن صدى انغام فوق رأسيهما المنحنيين...
عاد الارغن للعزف ثانيه بعد ان وقفا..فاستدار كورد اليها يرفع الطرحه عن وجهها، والتقت نظراتهما فحجبت العالم من حولهما..اضاء الامل في نفسها لحظة لمس الخمار..لكنه انطفأ كما تنطفئ الشعله من جراء النظره الباردة التي رأتها في عينيه الرماديتين، ومال اليها وقال بصوت مرتبك:
" يجب ان اقبلك مايسي ".
وبصمت رفعت له وجهها،مغمضة العينين.فأمسك بذراعها وقبلها على جبينها، فأحست بقلبها يحترق..انه يقبلها كما يقبل طفله ليطمئنها..
كان كورد،قد رتب كل شيء..فذهب الجميع الى منزل قريب لأحد اصدقائه.كانت النار مشتعلة ترسل الدفء في غرفه الاستقبال ورائحة الورد والزنبق تفوح من السلال التي غص بها المكان..على الطاولة في الزاوية كان الطعام والمقبلات والشراب..لكنها كانت تنظر الى ما حولها بعينين مكتئبتين،تحس وكأنها تتحرك بصعوبة وكأن صداعها يشل حركتها.كان هناك مجموعه صغيره من الضيوف..مايك كان هناك، يتحدث الى اللايدي تننت، التي جاءت دون تردد بناء على اصرار مايسي..وكذلك ديكي مع ابيغال.. ورجلان اخران لا تعرفهما مايسي، اصدقاء لكورد كما تعتقد...وكادت مايسي تنفجر بالضحك...هذا كله امر سخيف...هذه التمثيلية التي يصر عليها كورد..انها لا ترى ضرورة لها إلا اذا كانت رغبته في ان يجعلها اكثر تعاسة مما هي عليه.كانت تتوقع احتفالا بسيطا متواضعا..في مكتب تسجيل العقود، والشهود من الشارع.
" يا عزيزتي! ".
والتفتت لتجد اللايدي تننت تهنئ كورد، وتشير الى ايام المدر سه مع ابنها..ثم تقدمت لتقبل مايسي مبتسمة:
" انت كتومة وغامضة عزيزتي...لقد قلت لي انك لا تفكرين بالزواج! ".
" لم اكن افكر به..لقد حدث فجأة ".
" صحيح؟لكنكما تعرفان بعضكما منذ الطفولة..اظن ان ابيغال قالت هذا..".
" هذا صحيح ".
" اتمنى لكما السعادة يا عزيزتي..كم تبدين جميله،بوجنتيك المحمرتين ".
مر الوقت بطيئا.لكن دفء النار والطعام الممتاز،والجو الحميم، ترك تأثيره على مايسي فانسحبت بالأجواء التي مالت تدريجيا الى المرح والارتياح وتخلى الساهرون عن تحفظهم فتجاذبوا الاحاديث ولم تنسى مايسي التودد الى اصدقاء كورد..ومايك واختها ابيغال.
تقدم ديكي مهنئا مبديا سعادته لما اقدم عليه كورد معلقا:
" هذا افضل ما حدث له في حياته.اتعلمين...".
ارادت ان تسأله ماذا يعني..لكن صوتا اخر شد انتباهها:
" مايسي..كيف التقيتما ثانية بعد هذه السنوات ".
التفتت بسرعة، لترى الوجه العريض ذي الشعر الاشقر المائل للاحمرار،هو اقل كثافة من شعر كورد.بدا وسيما بفمه الطفولي، فنظرت في عينيه الرماديتين وقالت بصوت منخفض:
" ليو! ".
وقبل ان تعترض تقدم منها يعانقها.
" كنت اظن انك نسيتني !".
" لم انسك ابدا ".
وتحررت منه بسرعة، فبدت على وجهه السخرية:
" اوه..لا تنظري الي! ".
اتسعت عيناها بطريقه صبيانية، ورمقها بنظره صريحة لم تكن تثق بها ابدا.واخفض صوته هامسا:
" انا لست مدعواً ويفترض ان لا اكون هنا. ألا يصدمك هذا؟شقيق العريس..وصديق قديم لك ".
" الم يدعُك كورد؟ ".
" بل اصدر اوامره الصارمة بالابتعاد الى مكان اخر.اتساءل لماذا؟ أتعلمين؟ ".
نظرت اليه مايسي ببرود:
" اذن ألا يجدر بك ان تغادر؟اظنه بإمكانك، فهو لم يرك بعد...".
" انت محقه حبيبتي..انها تضحية جيدة، لكنني لا اعمل بالنصائح الجيده..فهذا هو مبدئي ".
" لم اكن اعلم انك ذو مبادئ ".
لكنه تجاهلها وأكمل وكأنه لم يسمعها:
" كان يجب ان اراك، مايسي.تبدين جميله.وكذلك ابيغال.كيف حالها؟وهل سويتم تلك المؤامرة الصغيره؟ ".
" الافضل لك ان تسأل كورد في هذا ".
" حقاً؟ ".
" اخرج من هنا! ".
انه صوت كورد..وتقدم ينتزع يد اخيه عن ذراع مايسي التي نظرت الى وجهه فتلمست فيه الغضب لكنها اطمأنت لان احدا لم يشعر بما حدث.تراجع ليو، ثم استعاد رباطة جأشه والتقت عيناهما:
" اجبرني على الخروج! ".
ونظر كورد في وجه مايسي الشاحب ثم في وجه اخيه الذي تثاقلت انفاسه ثم تقدم من مايسي يتأبط ذراعها بعيدا عن ليو.اقترب مايك يبدد القلق رافعا كأسه:
" اشربوا نخب العروسين السعيدين مايسي وكورد ".
التفت اليه الجميع، ورُفعت الكؤوس،وتعالت الضحكات...ووسط الهرج والمرج، ظهر الخادم بكل فخامة يجر امامه عربه طعام عليها قالب حلوى مذهل..لاحظت مايسي دهشة كورد مما فاجأه به الخادم فهذه الحلوى من صنع يديه..فتقدمت مايسي الى الامام وشكرت الخادم بقبله خجولة بينما كان كورد مقطب الجبين متجهما.
" انه جميل!شكرا لك ".
" شيء متواضع،سيدتي ".
رفع القالب بحذر ليضعه على الطاولة امام الجميع فتحلق الموجودون حوله..تظاهرت مايسي بالحيوية والسعادة ونظرت الى كورد تمسك بسكينه فضيه ملفوفة بمنديل سفره ابيض كانت بجانب القالب :
" يجب ان نقطعها كورد ".
استجمع كورد نفسه بصعوبة:
" طبعا ".
امسكا بالسكين بيدين مرتجفتين ليوجه كورد طرفها الى قلب الطابق الاول، ثم امسك باصابعها، يضغط عليها بقوه..واجبر السكين ان تقطع عميقا، لكن مايسي لاحظت انه لا ينظر الى القالب، بل الى الطرف الاخر للغرفه..نحو ليو الذي كان يقف غير مبال،يتكئ على الباب..تحيّن لحظة نضرت اليه فرفع كأسه بتحيه ساخره..فاشاحت بوجهها عنه.
اخذ الخادم يقطع الحلوى ليوزعها..لكن كورد نظر الى ساعته وقال لها:
" يجب ان نذهب بعد قليل ".
" الافضل ان اغير ملابسي ".
" نعم..هذا افضل ".
انفردت مع شقيقتها في الغرفة التي ستبدل ثيابها فيها وأحست بالارتياح..نزعت الخمار عن شعرها، وساعدتها ابيغال على خلع الثوب.فلاحظت شيئا ما على يد مايسي اليمنى فقلقت:
" اوه..حبيبتي !انظري!ماذا حدث ليدك؟انه اثر السكين الذي امسكت به لابد ان كورد لم يشعر كم كان يضغط على يدك، علامة وكأنها وشم حين تجمد خطا دمويا تحت جلد يدك ".
فضحكت ابيغال:
" كورد لا يعلم مدى قوته، الافضل ان تحذريه حبيبتي ".
فابتسمت مايسي،وقد سرها ان ترى ابيغال سعيدة. ثم قالت بسرعة:
" اوه..ليس مهما ".
وأكملت خلع الفستان. السيارة الفاخره التي احضرتها الى المنزل اخذتهما معا الى المطار..وبينما هما يغادران المنزل رشت ابيغال الارز عليهما، ورمتهما اللايدي تننت بحفنه من الاوراق على شكل قلوب وأجراس ملونه..في الطريق قال كورد لمايسي:
" اظن اننا سنصل ليلا..الرحله ستستغرق ست ساعات فوق المحيط..باريس دائما جميلة لكن للمره الاولى يجب ان يشاهدها المرء ليلا ".
لم تفهم مايسي ما يعنيه.كلماته جعلتها تتوتر، فهزت رأسها دون تعليق.وراقبها كورد صامتا للحظات،ثم اشاح بنظره عنها.
في الطائره كلمها مره اخرى:
" اعطني جواز السفر لأنجز لك اوراق تذكرة الدخول ".
اخرجت الجواز بصمت، هذا الجواز حصل عليه بمساعدة صديق له في وزارة الخارجية، قبل ثلاثة ايام..كان الاسم عليه "مايسي باكلير"فأشاحت بنظرها عنه.انها الان زوجته، خاتمه في أصبعها، وفي الكنيسة قطعت الوعد المقدس.
وبدا الالم يثور مجددا خلف عينيها.وعلمت انها لو تركت نفسها للتفكير..لتدفقت الذكريات..ذكريات عن منزل قديم معزول، بني عند عنق لسان عريض من المراعي يدخل في البحر،وصيف طويل حار، وشقيقان.ذلك المساء تركت نافذة غرفتها مفتوحة، مستلقية في فراشها الابيض تصغي الى هدير امواج البحر عند الجرف الصخري البعيد.كان الجو عابقا برائحة طحلب الماء، والعشب الجاف، والعرزال والخلنج البري..كورد قال ذات مره:
شعرك رائحته كالخلنج.
" بماذا تفكرين؟ ".
استفاقت من ذكرياتها..ارادت ان تقول:افكر بك...بالشخص الذي كنته لكنها احمرت خجلا فهزت برأسها:
" لا شيء ".
" سنصل بعد نصف ساعة.. والمسافة من المطار الى الفندق تستغرق ساعة..سنتناول العشاء حال وصولنا ".
احست بالخوف ثانية فردت بسرعة:
" لا..لست جائعة. ولكني تعبه..وأنا..".
" كما تشائين !سأطلب من الفندق ارسال العشاء الى جناحنا في حال غيرت رأيك ".
كان الهبوط لطيفا.ولم يكن المطار مزدحما كثيرا، ومرا عبر الجمارك ثم عبرا دائرة الجوازات بسرعة. اقلتهما سيارة مارة عبر الشوارع المزدانة بالأنوار وعندما توقفت، فهمت مايسي ماذا كان كورد يعني..امامها تماما امتداد المدينه السحرية، مدينة الصخب والأنوار..ووقفت هناك، متخلصة من خوفها، ليخفق قلبها فقط بالسعادة.
" كورد..انها جميله جدا.اريد رؤيتها كلها..كل شيء فيها ".
" لا استطيع التصديق..هل توافقين؟ ".
فضحك ولأول مره لم تشعر بالخوف منه..بدت عيناه اكثر دفئا، وأمسكت بكم سترته دون تفكير.وعلى الفور احست بحرارة يده فوق يدها.فرفعت وجهها اليه شاكره..كانا متقاربين اكثر مما ظنت، وحين احتضنها احست بموجة حنين غير عادي فحبست انفاسها.انه احساس مطالب جاء رأسا من قلبها دون المرور عبر عقلها.كانت انفاسه قريبه من بشرتها، وفمه قريب كذلك.ولكنه لم يكن بالقرب الذي تشتهيه نفسها الان.

****

Just Faith 20-08-18 02:52 PM

-6-
تزوجت وهماً
دخل كورد ومايسي بهو الفندق واتى من يهتم بهما ويحمل حقائبهما وكانت الانوار الساطعه تغشي البصر مما ابهر عيني مايسي..وتقدم رجل صغير الجسم، يرتدي بذله سوداء رسميه مادا يده مرحبا:
" مسيو باكلير، سيدتي!اهلا بكما في باريس..وتهنئتي القلبيه مسيو، والى المدام الجميله.انه شرف لنا مسيو باكلير ".
رد كورد عليه بفرنسيه طليقه، وحاولت مايسي ان تفهم ماقاله.فلاحظت ان كلامه اصبح اكثر حده عندما طرح على المدير سؤالا.فتجهم وجه الرجل..وبدا عليه الشك، ثم قال:
" كيف؟لكن لا!مستحيل...تلقينا برقيه بالامس ".
واستدار الى مكتب الاستعلامات، ليخرج ورقه، نظر اليها كورد متجهما.واخذ المدير يتمتم بكلمات الاعتذار..استدار كورد نحو مايسي ليمسك بمرفقها ويتنحى بها جانبا..قائلا بصوت متوتر:
" مايسي! ".
" ما الذي حدث؟الم يتلقوا برقية الحجز؟ ".
" بلى..لكن الحجز تغير ".
نظر الى حيث كان المدير يدور حول نفسه بقلق، ثم تحرك يحجب وجهها عن نظر المدير، واخفض صوته :
" مايسي..ارجوك صدقيني..يجب ان تثقي بي.لقد حجزت جناحا بغرفتين لكن بطريقه ما تغير الحجز بعد ان تلقى الفندق برقية لتغييره البارحه ".
" برقيه؟..لست افهم ".
" فكرة احدهم للمزاح كما اظن ".
" لكن من يكون؟الا يمكن التغيير؟ ".
فهز رأسه :
" يبدو ان الامر مستحيل..فنصف الفندق مغلق للتصليحات التي لا تنتهي قبل الربيع.وهناك مجموعه كبيره حجزت ما تبقى هذا الصباح ".
انزعاجه وغضبه كانا ظاهرين، فلم تشك مايسي بكلامه.تنفست عميقا وامسكت بكم سترته وهي تبتسم :
" ارجوك كورد..لا تهتم..لابأس بما حصل..نستطيع تدبر امرنا..ارجوك.انا واثقه ان غرفه واحده ستكون جميله ومريحه ".
تردد قليلا، ثم قال بعصبيه ظاهره :
" اتظنين انني...".
فقاطعته بثبات :
" لا..بالطبع لا.والان قل له انني سعيده..هيا ".
للحظات برقت عيناه بما يشبه الاعجاب، واستدار الى المدير :
" حسنا...زوجتي سعيده بهذا ".
تهلل وجه المدير، وانارت وجهه الشاحب ابتسامه فرافقهما حتى المصعد منحنيا لهما، فامسك كورد بذراع مايسي وتقدما نحوه.
كانت الغرفه من اجمل الغرف التي شاهدتها في حياتها..سقفها تزينها قناطر مزخرفه رائعه..في طرفها الاخر ابواب مرتفعه تؤدي الى شرفه تتطل على منظر جميل..فيها صندوق مزخرف بالحفر سطحه من الرخام، الخزانة كبيره تناسب حجم الغرفه، لها ابواب من خشب الورد ثبت في داخلها مرايا طويله.السجاده اثريه زهرية اللون مزينه بالزهور..في طرف الغرفه باب يقود الى حمام كبيرارضه من الرخام، ومغطس ضخم له قوائم كانها مخالب....
وعبر باب اخر غرفة جلوس صغيره فيها طاوله مغطاة بشرشف ابيض عليها بعض الطعام وبعض الشراب وضع فيه الثلج ليبرد.كانت الزهور تحيط بمايسي من كل الجهات مما ابعد عنها شبح الشتاء وقسوته :الغردينيا، الورد، السوسن، والتوليب بألوانه المختلفه..نظرت للطرف الاخر من الغرفه، ثم اشاحت بوجهها..ثم اعادت النظر:هناك السرير، يحتل المسافه الاكبر من الغرفه، فاحمر وجهها وعاد التوتر اليها.كان السرير عريضا، مغطى باغطيه بيضاء مطرزه، عليه وسائد كبيره مربعه مزينه بالشرائط المخرمه.جانبه الاعلى عند الرأس اثري قديم من الخشب المحفور،تمثالان لطفلين ملائكين يمسكان بسنابل من الخشب المحفور بين ايديهما الصغيرة ويطلان بحياء من الزوايا..ستارتان من "الدانتيل"الابيض تتدليان فوق الرأس.انه سرير الزواج..سرير للعشاق..وليس للنوم.استدارت مايسي نحو النافذه تنظر ما خلفها، منتظره خروج المدير والحمالين.
بعد خروجهم، خيم الصمت للحظات..وشاهدت صورت كورد في الزجاج يقف محدقا بها.فاستدارت لتلتقي عيونهما.
فابتسم لها ابتسامه ساخره :
" اسف مايسي.ان ما خططته كان اكثر تحفظا ".
فجف حلقها، ووجدت صعوبه في النظر اليه:
" ارجوك..لايهم.لكنني لا افهم..كيف حدث ذلك؟ثمه خطأ في البرقيه،ايمكن ان يكون الحجز لاشخاص اخرين !".
فهز رأسه :
" اوه..لا..ليس هناك خطأ، اعلم من هو المسؤول عن هذا ".
حدقت به بعينين واسعتين :
" ليو؟..ولماذا؟ ".
" لاسباب عديده، ومن الافضل ان لا نتحدث عنها ".
" لكن...".
" ارجوك مايسي.ليو يحب اثارة المشاكل..فلا تأبهي..اكان هناك ما اساءك اليوم مايسي؟ ".
ردت بسرعه وهي تتفحص تعابير وجهه.
" لا..لا..ابدا.الكنيسه والمراسم..كل شيء كان جميلا...لقد ازعجت نفسك كثيرا..".
فابتسم :
" قلت لك انني احب الطقوس ".
ارادت ان تسأله:حتى الطقوس التي لا معنى لها؟او لا تحمل اي نوع من الحقيقه.
ما من فائده في طرح هذا الموضوع الان..لكنه اعجبها كل ما مر عليها اليوم.الجدال والمراره سيزيدان الامر سوءا.وبدأت تحس بشئ اخر يعتمل في قلبها، تريد ان تشرح له ما احست في الكنيسه،عن ذكريات،عن الماضي الذي يحضرها بقوة كلما كان قربها.وكادت ان تتكلم، لكنها لاحظت ان وجهه تغير،وقال:
" يدك..ماذا حدث ليدك؟ ".
فسحبت يدها بسرعه وراء ظهرها :
" لا بأس بها ".
لكنه اعاد الامساك بها.
" كيف حدث هذا؟انها مليئه بالكدمات..".
" انت فعلت هذا ".
" انا؟ ".
" عندما كنا نمسك السكين لنقطع قالب الحلوى..لكنها بخير..حقا..ولا تؤلمني..".
وامسكت ذكرى قوته السريعه بقلبها..واحست ان معرفتها بهذه القوة تفتح شيئا ما بينهما كأنه تجويف مظلم ضخم.فاحست نفسها تغرق وتغرق فيه..لكنه ضعيف ايضا..انها تحس بهذا الان، في عينيه، في اللطف المفاجئ، والقلق الذي لفهما.وسمعته يقول :
" مايسي..انا. . . ".
وتنهدت بعمق قبل ان يغرقا في عناق طويل.وفي اللحظه التاليه كانت بين ذراعيه، واحست بالرغبه تتفجر في داخلها.
فالتصقت به مغمضة العينين لا تسمع سوى نبضات قلبها وقلب الرجل الذي اصبح زوجها.واغمضت عينيها، ولم تعد ترى شيئا او تعرف شيئا،اوتعي اي شيء ما عدا احتضانه لها وضغط جسده عليها.كل احساساتها تجمعت في احساس واحد.فسمعت من خلال جسدها ضربات قلبها،وشاهدته..هذا الرجل الذي اصبح زوجها..من خلال عينين مغمضتين، شاهدت اعماق نفسه، واحست انهما شخص واحد..ما وراء التساؤل، ما وراء القلق.
لم يدم ذلك طويلا لان كورد تراجع عنها ووقفا قريبين، اعينهما مثبته في بعضهما، يربط بينهما ما هو ابعد من الكلام..وكانت ترتعش فلم تقدر على الكلام، وتوقعت منه ان يعاود التقرب منها فلم يفعل..فقط امسك يدها التي تحمل خاتم الزواج وقبلها..فاحست بالدموع تحرق عينيها، وان لديها الكثير لكي تقوله..لكنه ترك يدها، وتراجع، وكأنه يتعمد قطع ما كان بينهما منذ لحظات.
" مايسي..انا اسف جدا ".
فنظرت الى يديها، مخفيه وجهها عن عينيه :
" انا..زوجتك ".
وعلى الفور وجدت نفسها نادمه لانها لم تكن تريد قول ذلك، وساد صمت قصير قطعه قائلا :
" اجل..انت زوجتي، كما اتفقنا واشترطت انت بكل دقه.وليس في نيتي ان ادفعك الى اكثر من ذلك خاصه في الضروف الحاضره.ولا تظني انني خططت لكل ما حصل دون علمك ".
" اعلم..ولا اظن بك سوءاً ".
" اذن انت جديره بالثقه والاطراء ".
اطراء حمل لهجه مغايره لعله الاتهام..فاستدارت مايسي بائسه، وتقدمت نحو النافذه، حيث رأت اضواء المدينه المتلألئه المترامية امامها، اسندت رأسها على الزجاج.فاحست بالارهاق والتعب..وتمنت لو كانت وحدها كي تستطيع النوم او البكاء بحريه..فتسرب القلق الى قلبها لكنها بقيت صامته..
" اخبريني..هل انت من دعا ليو الى الحفله اليوم؟هل قلت له الى اين نحن مسافران؟ ".
فاجأها السؤال فواجهته بعنف واستنكار .
" دعوته؟لا!لم اشاهد ليو، ولم اتكلم معه..منذ سنوات ".
" حتى هذا اليوم؟لكنك كنت سريعه في الكلام معه ".
" ماذا؟ ".
فهز كتفيه قائلا وهو يتجه الى غرفة الجلوس :
" لا يهم..اتودين شيئا تأكلينه؟ ".
" لست جائعه..اود النوم ".
فرد بصوت بارد :
" افعلي ماشئت ".
ترددت مايسي قليلا فضحك.
" ستكونين بأمان..لن المسك فلا حاجه لك للقلق ".
" لكن اين تنام انت؟ ".
" لا انوي النوم..تصبحين على خير مايسي ".
ولم يضف شيئا ودخل غرفة الجلوس واقفل الباب.في الفراش اغمضت عينيها..انها ليلة عرسها، واحست بالدموع الساخنه على خدها البارد، تتدفق من تحت جفنيها المقفلين.لسوف يحطمها كورد...انها مسألة وقت..وغطت في النوم.
حلمت بفنكوفر، بذلك اليوم المشمس والسماء الزرقاء الصافيه..كانا في المراعي..خلف المنزل،حيث الحقل مفروش بالاف الزهور الصغيره.كان ذلك في فصل الصيف، حيث يستطيع المرء ان يرى اللسان الطويل الداخل في البحر حيث تتدافع الامواج الى اعلى الصخور عند ارتطامها بها..كانا وحدهما..لكن طالما كانا كذلك حتى بوجود الاخرين..عيناهما وتفكيرهما كانا يعزلانهما عن الجميع.
احست يومها،في ذلك الصيف ان حياتها بدأت لتوها..وامتدت امامها، كما نور الشمس الذهبيه اللامعه..واحست ان مستقبلها هو كورد..انها الان تستلقي على ظهرها فوق العشب غير بعيد عن الخراف التي ترعى حولهما، تحس بالدفء، دفء بعد ظهر يوم صيفي فوق جفنيها، كورد كان يداعب شعرها، فوق العشب، والزهور و"البافيه"ذات الزهور الزرقاء...قال لها ذلك اليوم الاخير من سعادتهما القديمة:
" رائحة شعرك كرائحة الخلنج ".
لم تدر كيف استيقضت..لكن نهاية الحلم كانت قاسيه فبقت تائهة للحظات مابين الواقع والحلم..وحين لامست واقعها احست بالسعاده تقفز هاربه من قلبها وكأنها الرمال المنزلقه من بين الاصابع.
تمطت،وتحسست السرير من حولها وكانت الغرفه مازالت مظلمه الا من نور ضئيل تسرب من النافذه يبشر بنهار جديد. . .
لقد تزوجت ذكرى..قديما بدا لها كورد قريبا جدا منها حتى ان كلا منهما كان يعرف نوايا الاخر دون كلام.ولم يخطر ببالها قبلا ان تتسائل عن نوعية هذا التفاهم، ولا ان تصرف النظر عنه او تفكر كم كانت يافعه،او لتكتشف ان الكلمات لايمكن لها ان تمحيّ الحقيقه التي احست بها..انه الحب الاول..حب المراهقه..لقد استعادت ذكرى كل شيء الان..لقد احبت كورد..لكنه الان رجل اخر:بارد متحفظ، لايمكنها الاقتراب منه، ولا فهم اعماقه.
وتنهدت..لا فائده من التفكير بالماضي.لا فائده من ترك الامور لتأخذ طريقها كما جرى ليلة امس..ولا فائده من الاحساس بالمراره والكراهيه.انهما هنا، وباريس جميله!واحست بثوره من التفائل لهذه الفكره..فهي، كما ادركت مندهشه، لا تريد ان تكون في اي مكان اخر.فهذا اليوم، وهذه المدينه الساحره بانتظارها في الخارج..فازداد خفقان قلبها.
سمعت طرقا خفيفا على الباب، ودخلت خادمه الى الغرفه تحمل صينيه:
" بونجور مدام! ".
وضعت الصينيه على الطاوله، لتدرك مايسي على الفور انها جائعه..الفطور لشخص واحد.فشكرت الخادمه التي انسحبت مبتسمه.وتناولت مايسي الصينيه لتضعها امامها وتبدأ
بالاكل وهي ترمق باب غرفة الجلوس قلقه..ما من صوت صادر من هناك..فجأه احست بالندم العميق..لقد نامت، حلمت، واستيقضت نشيطه، ثم تناولت الفطور..فماذا عن كورد؟
في تلك اللحظه فتح الباب، ودخل.حدقت به بارتباك، وراحت تتدثر بالاغطيه بحركه عفويه فابتسم وتقدم في الغرفة..بدا منتعشا، حليقا، نظيفا، انيق الملبس.يحمل بين ذراعيه الكثير من العلب التي رماها فوق الكرسي دون تردد وكانه يقوم بعمل بطولي،اقفل الباب وتقدم منها وانحنى ليقبل رأسها مستوضحا :
" هل نمت جيدا؟انا استيقظت باكرا ".
تناول بعض القهوه بابتهاج، ثم جلس الى حافة السرير متناسيا ما حدث بينهما ليلة امس.نظرت اليه، شيء ما في عينيه جعلها تبتسم:
" اظنني نمت افضل منك..ماذا فعلت؟اين نمت؟على الارض ام على احد المقاعد الطويله ".
فضحك:
" على المقعد.لكنه لم يكن مريحا.وانت يبدو انك نمت بدون ازعاج ".
احمر وجهها، وقد تذكرت حلمها، فابتسم متابعا :
" لقد راقبتك هذا الصباح..دخلت الى الحمام وغيرت ملابسي، ولم تنتبهي..نظرت اليك مدة طويله ولم تتحركي ".
" هذا امرغير منصف! ".
" ابدا..كنت تبدين جميله ".
اشاحت بنظرها عنه بسرعه.ثم ترددت قبل ان تقول :
" اذا لم يستطيعوا اعطائنا غير هذا الجناح..فلا يمكنك قضاء الليل في المقعد المخصص للجلوس..وليس للنوم ".
فرفع حاجبه ساخرا :
" اتعنين انه يمكنني الانضمام اليك في الفراش.يجب ان نضع شيئا يفصل بيننا، كما كان يفعل الفرسان فيما مضى.اليس هذا هو الحل؟ام نكتفي بالوسائد.طبعا هو سرير واسع..سنجد حلا دون شك ".
ووضع فنجان القهوه فوق الصينيه ووقف.
" والان..انت تريدين التفرج على باريس كما قلت بالامس..اذا اشرقت الشمس سيكون اليوم جميلا، بالرغم من برودته..هل انت مستعده؟ ".
فابتسمت.
" جوله سياحيه؟من الواضح انك تعرف المدينه جيدا ".
" بما يكفي..لطالما كنت هنا بمفردي..وسأتمتع بوجود شخص اخر لاطلعه على معالمها ".
" مارأيك بعد نصف ساعة؟ ".
فابتسم واستدار نحو الباب، ثم توقف :
" على فكره..كم حقيبه معك؟ ".
" اثنان، وواحده صغيره ".
" هذا ما ظننته..يبدو انهم لم يرسلوا لنا سوى واحده.لقد اتصلت بالمطار،فلا تقلقي،سيجدونها لك، هذا مايحدث دائما.اكان فيها اشياء نفيسه؟ ".
" لا..بل ملابس قديمه..لايهم ".
" حسنا..فكرت انك قد تحتاجين لشئ، فخرجت واشتريت لك بعض الاغراض، قد لا تهمك، ولكنها هناك ".
قبل ان ترد فتح الباب وخرج.فجأه احست بإثاره مجنونه غبيه، وكأنها الطفل ليلة الميلاد..لم يقدم لها احد من قبل مثل هذه الهدايا.بأصابع مرتعشه فتحت العلب، وازاحت الاوراق الناعمه التي تغلفها، وجلست على عقبيها..مذهوله..يبدو ان كورد اختار لها الاشياء التي كانت ستختارها بنفسها لو انها كانت تملك المال الكافي لشراء مثلها..علبه مليئه بالقمصان الحريريه، واخرى من افخر الكنزات، واغلى انواع الكشمير.وحقيبة يد من افخر الجلود.وعلبه اخرى للملابس الداخليه الرائعه المطرزه تطريزا يدويا، واخيرا فستانا من اجمل الفساتين عاجي اللون بالاضافه الى ستره اجمل منه.
حدقت مايسي بكل ما امامها غير مصدقه..كان هناك علبه رقيقه لا تزال مقفله، مصنوعه من الجلد..وبيد خائفه مرتجفه، فتحتها، وحبست انفاسها.في الداخل، وفوق مخمل اسود عقد ذهبي من اجمل ما وقعت عيناها عليه..كان قديم الطراز، من الكهرمان المثبت الى الذهب، والكهرمان هو من لون عينيها.وضعته حول جيدها باصابع مرتجفه، ونظرت في المرأة، فرأت الاحجار الكريمه تلتف حول عنقها وتضفي عليها جمالا غامضا، لا مثيل له.
واسرعت بتهور تفتش بين العلب..لابد ان كورد قد وضع فيها رساله.لابد ان يكون هناك مذكره ما، بطاقه ما..اي شيء.لكنها لم تجد شيئا..ثم وجدتها..شاهدتها داخل العلبه الجلديه الصغيره التي كانت تحتوي العقد، بطاقه صغيره بسيطه تقول:الى زوجتي..من كورد.
لا شيء غيره..دون تاريخ، دون عواطف، دون اثر او كلمه..هذا كل شيء.
بسرعه،انحنت لتلتقط الفستان الكريمي اللون وترتديه، ثم وضعت فوقه الستره المناسبه له.لابد ان كل هذا كلفه الكثر.يجب عليها ان ترفضها وان لا ترتديها، لكنها استسلمت لاغرائها مكتشفه ضعفها الذي طالما انكرته على نفسها ومن جهه ثانيه خافت ان يغضب كورد ان هي رفضت هداياه.
رقصت عيناها فرحا حين رأت صورتها في المرآة،فضحكت مداعبه العقد الكهرماني المذهب المتلألئ امام النور، فغمرتها سعاده عارمه وسارعت تصفق الباب خلفها وتنزل السلم،وحذاءها يطقطق على الرخام الابيض
فوجئ بها.فوقف حيث كان يجلس خارج المقهى.لاحظت محاولته اخفاءمشاعره، الا ان السعاده كانت تضيء عينيه.لكنه لم يقل شيئا، بل جذب لها الكرسي لتجلس، وامسك بيدها،ثم التفت يستدعي الساقي.
" قهوه؟ ".
فهزت رأسها..ثم جمعت شجاعتها ووضعت يدها فوق يده.
" كورد..لم احظ بهدايا جميله رائعه مثل هذه في حياتي...اشكرك ".
" ارجوك..انها لا شيء.انا سعيد انها اعجبتكِ..انها..".
وصمت برهه واطلق لعينيه العنان متأملا جيدها الذي يطوقه العقد، ثم شفتيها، فعينيها واكمل:
" انها رائعه عليك ".
فابتسمت رغم جفاف الاطراء وعيناها ترقصان.
" وهي تناسب مقاسي كما ترى..تناسبني تماما ".
واخفضت عينيها واكملت بحياء :
" كل شيء ".
فتقوست شفتاه بابتسامه..فسألته ملتويه :
" كيف عرفت مقاسي؟..معظم الرجال تنقصهم الخبره في المقاسات..وخاصه..".
فمال نحوها،وعيناه تسخران منها بكسل :
" حسنا..لدي ذاكره ممتازه.وفي المحل كانت البائعه بنفس مقاسك. . ".
وجال بنظره عمدا نحوصدرها ثم خصرها النحيل وتابع بخبث :
" وحجمك..انها فتاة جذابه..".
" اوه..حقا؟ ".
فضحك.
" لا..في الحقيقه.كانت بشعه وفي الستين من عمرها.لكن عندما شرحت لها الوضع تفهمته جيدا، وساعدتني.لقد وصفتك لها..بتفصيل لا بأس به..وهذه هي النتيجه.والان..للاسف لدي عمل اقوم به ونحن هنا.لكن في الاسبوع المقبل، لدينا عطله يومين، وانا تحت امرك.ماذا تريدين مشاهدته؟المتاحف، معارض الفن، الكنائس، برج ايفل، قوس النصر، الاسواق، الليدو..؟ ".
فضحكت واجابت بسعاده:
" احب ان اتجول في المدينه، اتفرج حبا بالاكتشاف...ثم اود الذهاب الى مونمارتر والى اكاديمية الفنون..هناك رسومات نصحني مايك ان اتفرج عليها ".
" حسنا..موافق.سنسير، ونرى اين تقودنا اقدامنا.بعدها نتناول الغداء ".
ظلا جالسين في المقهى يشربان القهوه ويتحدثان حتى اشرقت الشمس لتبدد برودة الصباح.فنظرت مايسي حولها بأبتهاج..ولم تجد الكثير من الناس في الساحه امامهما، فالوقت مبكر لوجود الكثير من السائحين.
وامسك بيدها ليقودها عبر الشوارع المشرقه باشعة الشمس..وسارا جنبا الى جنب متشابكي الايدي، لساعات طويله لم تحس مايسي فيها بأي تعب..وكان كورد الافضل والاكثر تفهما من اي دليل سياحي في العالم.في طريقهما كان يشير الى المزيد من الاماكن الشهيره والابنيه الاثريه، والنصب التذكاريه،والقصور الملكيه، يسرد بعضا من تأريخها..لكنه لم يحجز حريتها، تركها تستكشف ماتشاء،في الشوارع الواسعه والحواري الضيقه على قدم المساواة.
عند الظهر رحلا الى حي مونمارتر الشهير، فتوجها ليتعرفا على الفنانين الذين يرسمون في الشوارع، المكان الذي حدثها عنه مايك، حيث توقفت تحدق في كل شيء لفتره طويله..لكن ما لفت نظرها اكثر كان لوحه فنيه رائعه لسيده تحمل طفلها تنظر اليه نظره جعلت قلب مايسي يرتجف، وعلى وجهها دلائل الاهتمام والقلق...لاحظ كورد هذا وقال:
" اظن انني عرفت لماذا تهتمين بهذه الصوره ".
" لقد حدثني عنها مايك، واكد على ضرورة تأملها لتستفيد منها النساء خاصه ".
" ربما...".
واشاح نظره عنها محافظا على تحفظه من جديد، ولحقت به لكنه لم يكن ينظر الى اللوحات من حوله..بعد قليل، احست ان مزاجه تغير من جديد، فامسكها من مرفقها ليقودها بسرعه عبر شوارع صغيره جانبيه لترى نفسها فجأه في ساحة واسعه تلتقي فيها وتتفرع عدة شوارع،وفي ظل كنيسة مونمارتر تمكنا من رؤية السين والتله التي يقع عليها فندقهما.والى الجهه الاخرى دخلا مطعما صغيرا جلسا فيه الى طاوله تحت شجره فقالت له ممازحه:
" انت تعرف باريس حق المعرفه ".
" ابدا..لكن عملي غالبا ما يأتي بي الى هنا ".
فتمطت، وقالت متحسسه دفء الشمس على وجهها:
" اليس الطقس جميلا؟انه كطقس الربيع، كان الطقس باردا عندما غادرنا كندا ".
" لكنه الربيع هنا..او يكاد.والطقس سيبدأ منذ الان بالتغير.بحلول نيسان سيصبح دافئا...".
" لكن نيسان هو اقسى بروده عندنا ".
فضحك :
" ليس في فرنسا ".
احضر النادل الطعام اللذيذ.فتناولاه وهما يتحدثان، الى ان طرح سؤالا :
" هل عملت مع مايك لفترة طويله؟ ".
" لخمس سنوات..منزلك قريب من معرضه..والغريب اننا لم نلتقي قبل الان ".
" صحيح..هذا عجيب..لكنني غالبا ما اكون مسافرا...ولدينا الكثير لنعوض عنه كما اظن ".
احست بالخجل فقالت مرتبكه:
" ليس لدي الكثير لاخبرك عنه ".
" اوه..انا متأكد ان لديك الكثير..انها عشر سنوات..اين كنت خلالها يامايسي، ماذا حدث لك خلالها؟ ".
" القليل جدا..بعد وفاة امي..عشنا مع عمتي كارلا لبضع سنوات، وسافر ابي الى الشرق الاوسط لفتره، ثم عاد الى ايطاليه ولم نعد نراه كثيرا...تركت المدرسه،تدربت على السكرتاريا..ثم توفيت عمتي وتركت لنا القليل من المال.فاشتريت الشقه التي نسكن فيها وسكنت ابيغال معي، بعدها عملت مع مايك في معرضه.وهذا كل شيء ".
" الم تفكري مطلقا بالزواج؟ ".
" لا ".
ساد صمت قصير، تراجع في كرسيه الى الوراء، واحتسى قليلا من قهوته، ثم قال :
" تولت مؤسسة ابي رعاية اموالك..المال الذي تركته لك عمتك اليس كذلك؟ ".
فهزت رأسها:
" لطالما كان والدك كريما جدا ولطيفا معنا، انا وابيغال ".
تهدج صوتها لعلمها انها بدأت تطرق موضوعا خطرا، لكنه لم يلاحظ هذا،نظرت الى وجهه بقلق، وقالت :
" اسفه جدا لما حصل لوالدك..اهو..بخير الان؟ ".
فرد بصراحه دون تأثر :
" لن يعيش طويلا..انها الذبحه الصدريه..والاطباء حددوا له فترة سته اشهر ".
" اوه..كورد.كم انا اسفه ".
امسكت بذراعه،لكنه هز كتفيه :
" هكذا افضل.منذ وفاة امي، لم يعد يرغب في الحياة، على ما اعتقد،لقد تصالحا فيما بعد كما تعلمين ".
" اجل..عرفت هذا.لقد اخبرتني عمتي كارلا قبل ان تموت.هل كانا سعيدين؟ ".
" من؟ ".
" والداك..قبل ان يلتقي...".
" تعنين قبل يلتقي بامك؟ ".
صمت قليلا ثم تنهد، واكمل بصوت تلاشت الحده منه:
" كنت صغيرا، ولا افهم الاشياء.الا اذا كان هناك بعض الثغرات، داخل الزواج..اضافه الى ان امك لم تكن تقاوم..كانت جذابه لدرجة تفطر القلوب.وهذا ما جعلها لا تقاوم، لشدة جمالها.والجمال دائما يكون خطيرا، ووالدي كان الطف الرجال وارقهم احساسا..ولا اظن انه استطاع مقاومتها ".
نظرت اليه بصمت، تعرف ان عليها الدفاع عن امها، لكن ما الفائده..كل ما قاله كورد صحيح.وعادت الى الاطراق..فأكمل :
" الغريب كيف ان زوجان مثل والديك انجبا فتاة مثلك ".
" انا لست كأي منهما كورد! ".
مد يده يمررها على شعرها الكثيف، حيث اخذ يداعبها..ثم قال بخفه :
" الست مثلهما مايسي..اتساءل؟ ".
وعرفت تماما مايفكر به، لكن الكبرياء منعها من الاجابه.وقفت صامته فدفع كورد الفاتوره..وانطلقا مجددا باتجاه الفندق.ما ان وصلاه حتى كانت اعصابها على وشك الانهيار..واحست بانها اذا لم تتكلم على الفور، او لم تشرح موقفها فستجن.انها لا تحتمل ان يعاملها بهذه الطريقه..تارة تكون في قمة السعاده، قريبه منه..وتارة؟لماذا تزوجها..لماذا؟لماذالا يتركها وشأنها؟لماذا يستمر في تعنيفها؟
في المصعد وقف ملتصقا بها..احست بانفاسه ناعمه على بشرتها..دون ان يلمسها احست انه يرسل لها كلمات ابعد من اية لغه..نظرت الى عينيه المظلمتين..فأدركت انه بالرغم مما يقول، وينكره على نفسه..يرغب بها..يريدها، وبالحاح عنيف.فتحت ابواب المصعد، فامسك بذراعها وجذبها خلفه بسرعه، عبرالممر، فتح الباب، ادخلها، اقفل الباب دفع المزلاج.اخذت نبضاتها تتسارع، وتصاعدت في نفسها مشاعر ملحه لم تقو على مقاومتها.
جذبها بخشونه ليحتضنها بين ذراعيه، فحبست انفاسها بصرخه حاده وهي تحس بانسحاق جسدها عليه، ثم قال لها بأنفاس متقطعه :
" والان مايسي..لا تقولي شيئا..يجب ان يتم بيننا هذا... ".

****

Just Faith 20-08-18 02:53 PM

-7-
شيطان الظلام

استفاقت مايسي بينما كورد يحتضنها ويغط في نوم عميق...فبقيت مستلقيه هكذا لفتره، تسمع من بعيد الاصوات المتناهيه عبر النوافذ..لقد حل المساء..نظرت الى وجه كورد، بعد ان نزع النوم عنه كل قناع واحست بقلبها يدور..لقد احبته، ولا زالت تحبه، وستبقى تحبه دوما..ادركت هذه الحقيقه الجميله، وبدت رقيقه في اعماقها،فاعطتها دافعا للفرح..كانت تعلم انه لا يحبها، وذلك ليس كافيا لكي تعاني وتتالم لانها تتقبله دون تردد..لقد حصلت الان على ماتريد،وهي تحبه، وهذا يكفيها...
كان لايزال مستغرقا في نوم عميق عندما تسللت من حيث كانت تستلقي فوق السرير فاستفاق وامسك يدها متأملا وجهها..فابتسمت له والفرح السري يملأ قلبها..ثم همس:
" اريدك مايسي..ياحبيبتي! ".
وجذبها الى الفراش مره اخرى.فيما بعد قال لها:
" اتودين الخروج للعشاء؟ ".
" لا كورد ".
" ولا انا..ساطلب العشاء الى الغرفة ".
" نعم كورد ".
" هل انت دائما مطيعه هكذا؟ ".
" نعم كورد ".
" سأجرب هذه الطاعه فيما بعد..لقد اصبحت زوجتي مايسي..فقوليها لي..اريد سماعها منك ".
" انا زوجتك كورد ".
وكادت تقول له اكثر،لكنها لم تفعل..بل ابقت سرها لنفسها وهي تحتضنه..فهكذا افضل، اكثر امنا، واحست بالراحه في كتمانها.
في الصباح،تناولا الفطور معا.فهو الان لا يطيق ابتعادها لحظه عن ناظريه.ثم وقفت تراقبه وهو يرتدي ملابسه، فأخافها قليلا لانه عاد الان كما كانت تشاهده من قبل:مرعبا، متحفظا، بعيدا، ورجلا غير الذي كان ينام بقربها كل الليل.لكنها قاومت هذه المشاعر، لانها سخيفه.
تقدم منها كورد وهي تنتظره ليجذبها نحوه ويقبلها.وكأنما احس بخوفها..فاحتضنها فأحست بالامان من جديد، وسيبقى حلما جميلا ذلك العالم السري الذي عاشاه ليلا!بينما هو يرتدي سترته، رن جرس الهاتف، فقال متبرما:
" انزلي انتِ..لن اتاخر، وسألقاك في البهو ".
في البهو، كانت الشمس تتدفق من النوافذ، انه يوم رائع.
" مدام باكلير ".
ولم تستدر فورا، فهي بعد لم تألف الاسم، لكنها رأت المدير يتقدم نحوها مبتسما وهو ينحني بالتحيه.فابتسمت له قائله:
" نهار جميل اليس كذلك؟ ".
" بل رائع سيدتي..ارجوك، لدي برقيه لكِ ".

" لي انا؟انها لكورد دون شك...".
" لا سيدتي..انها لك ".
قدم البرقيه لها على طبق من فضه فأخذتها منه...كانت من والدها..فحدقت بها مذهوله..كيف عرف مكانها؟حدقت بالكلمات:
" احتاج الى المال بالحاح.الا تستطيعين المساعده؟ ايمكن ان اقابلك في باريس؟..والدك ".
احست فجأة بالغضب..لقد اعادت المال الذي اخذته ابيغال الى كورد، قبل الزواج..فاخذه منها ببرود وصمت.ولم يبق معها سوى بضع مئات، معظمها الان على شكل شيكات سياحيه..استدارت الى المدير:
" ايمكنك تحويل بعض المال الى روما..اليوم؟ ".
" طبعا مدام..من دواعي سروري ".
بسرعه، اخرجت الشيكات لتوقعها وتعطيها للمدير، وكتبت عنوان مصرف والدها في روما على بطاقه صغيره.
" ارجوك.يجب ان ترسلها فورا..مع هذه البرقيه المستعجله ".
اخذت عن طاولة مكتب الاستعلامات ورقه مخصصه للبرقيات وكتبت:
" المال سيصل اليوم..وليس لدي المزيد.ارجوك ان لا تاتي الى باريس..مايسي ".
انحنى لها المدير مبتسما ثم اختفى..واختفى المال معه..نفذ كل ماتبقى من ارثها.احست وكانها تخلصت من الماضي، وحررت نفسها.عندما انضم اليها كورد، كانت تقف في الخارج تحت اشعة الشمس، وفرحتها تماثل سعادتها.قال لها:
" نحن مدعوان الى حفله.صديقه قديمه لي كنت محاميا لزوجها منذ سنوات..انها الاميره"دوفان"، لديها قصر على نهر المارن خارج باريس، وتريد مقابلة زوجتي..انها عجوز الان، لكن قويه، وقصرها مذهل،واحب ان تريه ".
فابتسمت له:
" احب ان اذهب معك..متى؟ ".
" الليله..ولكنها حفله تنكريه في الثياب الفرنسيه التقليديه.ولن تبدأ الا في وقت متأخر..".
" وكيف عرفت الاميره بوجودنا هنا؟ ".
" اوه..لست ادري ربما عبر المكتب الذي اعمل به هنا ".
انطلقت بهما السياره المستأجره باتجاه فرساي..ما ان وصلاها حتى كانت الساعه قد قاربت الظهر..وبدا لهما قصرها الشهير من بعيد هادئ، لامع تحت ضوء الشمس الساطع...
سارا بين حدائق القصر يتمتعان بما حولهما بصمت...الى ان وصلا كاتدرائية القصر..من الداخل كانت بارده مظلمه..جدرانها واعمدتها الرخاميه الرماديه تبدو دائما كأنها مغسوله بالماء على مر العصور...
المكان كله حزين ومتجهم..واحست بالسرور عندما خرجا يتمتعان بنور الشمس.اخذها كورد الى مطعم قريب.جلسا الى طاوله خارج المطعم..تطل على الحدائق، ومن بعيد بدا لهما قصر لوتريانو الكبير والصغير حيث اعتقل الثوار ماري انطوانيت الشهيره ليسلموا رأسها الى المقصله..سمعته بعد قليل يقول لها بنعومه:
" هل كنت تظنين ان هذا سيحدث لنا مايسي؟ ".
التفتت اليه، بعد ان فهمت تماما ما يعنيه..ولم تستطع ان تكذب:
" انني دائما..كنت اعرف ان هذا قد يحدث ".
" انا كذلك ".
بدا لها ان مابينهما دقيق جدا ويجب ان لا تثقل عليه..فلو قالت حقيقة حبها له، فقد ينفر منها..ومن الافضل ترك الامر على ماهو عليه. وقال لها:
" جئت الى هنا من قبل..منذ خمس سنوات، وتناولت الغداء على نفس هذه الطاوله، وكنت وحدي..وفكرت بك مايسي ".
تنفست بحده، لكنها لم تقل شيئا..ثم اكمل:
" لكن ذلك لم يكن غريبا.فلطالما فكرت بك، طوال عشر سنوات ".
" فكرت بي بلطف ام بحقد ".
" كنت اكرهك احيانا.اذا كان هذا قصدك ".
احست بالالم..فادارت وجهها..فسألها:
" الم تحاولي مطلقا الاتصال بي خلال العشر سنوات هذه؟ ".
كان هذا سؤالا يحمل شيئا من الاتهام، والتقت عيناهما رغما عنها تتذكر الرسائل التي كتبتها ثم مزقتها..وكم مره هرعت الى الهاتف وهي تجلس وحدها محاوله الاتصال به، ثم تراجعت.لكنها ردت:
" لا ".
" هل فكرت مره بفانكوفر..؟ مايسي لا تنظري الى البعيد..اجيبي على سؤالي، اللعنه عليك! ".
" لقد فكرت..ويجب ان تعرف انني فكرت ".
احست بعينيها غارقتان بالدموع، لكن وجهه ازداد صلابه:
" فكرت بليو..كما اظن ".
حدقت به بحيره وارتباك:
" ليو؟كورد، انا لم افعل هذا،ولماذا افكر به؟ ".
" كنت اعتقد ".
حدقت به مذهوله..لماذا يستحوذ ليو على افكاره؟لماذا يذكره الان..وهما سعيدان؟
" لست افهمك ".
" بل تفهمين جيدا، الا اذا كنت مصابه بفقدان الذاكره.انت تعرفين تماما ماحدث! ".
بدا صوتها غريبا لها وهي تقول له:
" كورد ارجوك.لا اريد التفكير بكل هذا..ارجوك.واذا اردت التفكير،فسأفكر بك..".
امسك بيدها بشده، ثم وقف قائلا:
" سنعود الان ".
امسك بمرفقها بعد دفع الحساب، متوجهين نحو السياره التي كانت تنتظرهما..فقالت بصوت هامس تحاول تخليص يدها منه.
" ارجوك كورد، لا تمسك بي هكذا..اتركني ".
" لن افعل! اللعنه!اذا لم تتكلمي فسأبلغ الحقيقه بطريقه اخرى! ".
عندما وصلا الى الفندق كانت الشمس لاتزال مرتفعه لكن الافق كان متجهما بغيوم رماديه، وانوار البرق تلمع من بعيد.اخذ كورد يجرها عبر البهو صعودا على السلم دون انتظار للمصعد الى ان بلغا غرفتهما...حيث توقف فقط كي يقفل الباب بالمزلاج.واخذ يدفعها بخشونه نحو السرير احست بعدها به يدفعها الى الخلف،واصابعه تمسك بشعرها،فسارعت تغرز اظافرها في لحمه، وسمعته يصيح الما وغضبا، لكنه سارع الى الامساك بيدها ليرفعهما فوق رأسها وهي مستلقيه على السرير كي لا تعود الى خدشه.ثم سمعته يتمتم:
" سأخرج الحقيقه منك هكذا! ".
وبدأت تقاومه، وتقاوم الرغبه التي تصاعدت فيها.كان يتصرف معها كالحيوان.فكل حركاته كانت شرسه، ولم تستطع ان تقاومه فتعلقت به ملتزمه الصمت، ولم يدم حاله طويلا..فجأه، ابتعد عنها، ورقد صامتا، يحدق في السقف..بينما اخذت تراقبه بهدوء، دون تراجع او ثوره او حقد، بل برقه لم تعهدها في نفسها كانت تتحرك في اعماق قلبها.
فجأه تحرك، مستديرا نحوها، وقال بصوت منخفض متوتر وكأنه يكره نفسه:
" مايسي..هذا لم يحدث لي من قبل..سامحيني..".
" لا شيء يستدعي طلب السماح.كنت غاضبا..ورغبت بي...".
" انا ارغب بكِ دوما.اللعنه عليك!ماذا فعلتِ بي؟فرغبتي بكِ تتجدد باستمرار، انه نوع من السحر طغى على كل مشاعري ".
" وانا كذلك ارغب بك.حتى عندما..".
انحنى يهمس بكلمات لم تسمعها من رجل قبله واكمل:
" حتى عندما..شيء ما يضللني، يراوغني..ليس في جسدك بل في فكرك، في مشاعرك.وهذا ما يدفعني الى الجنون..مايسي..لماذا تزوجتني؟ ".
في هذا الوقت اصبح من الصعب عليها ان لا تقول له..لكنها ابتسمت له وقالت ممازحه بقصد الازعاج:
" لقد عقدنا صفقه! ".
" لكننا لم نلتزم بشروطها ".
" لا..لم نفعل ".
" لكننا ما كنا لنستطيع الالتزام بها..اليس كذلك مايسي؟ ".
" كان يمكنك الالتزام ".
" كاذبه ".
جذبها الى صدره مجددا..وكان الظلام قد غمر الغرفه الا من نور خفيف تسلل من خلف الستائر..فلم تعد تدري اذا كان الوقت ليلا ام نهارا..كل ما احست به ان العالم كله قد تقلص ليصبح هذا الفراش...احست بان طعم دمها في العروق اصبح كالعسل..يضج بحب لا يمكن لغير كورد ان يجعله حقيقه لمجرد لمسه منه..وقالت لنفسها:ليس هناك سوى هذا العالم...ولا عالم غيره.
عندما استغرقا في النوم فيما بعد، فحلمت بذلك الصيف في فانكوفر..بعد ظهر ذلك اليوم..بالشمس، بالعشب، بالقش، بالخلنج.
استيقظا عند الغروب ليستعدا للخروج.اخذها الى احد المجمعات التجاريه حيث تتلألأ الانوار ويزدحم الناس..
الجو لا زال يهدد بعاصفه...وتجولا في المحلات، كي يشتري لها فستانا، كما قال،لأجل الحفله:
" انها حفله تنكريه بالازياء الفرنسيه ويجب ان اشتري لك فستانا من هذا النوع ".
دخلا محلا يبيع ملابس اثريه مخمليه، كان المخمل فيه من النوع الفاخر ناعم الملمس.فارشدتها البائعه الى طريقة ارتدائه.
" هل اعجبك مايسي؟ ".
" طبعا انه جميل ".
" جربيه، اذا اعجبك سأشتريه ".
في غرفتها في الفندق جربته ثانية، وصاحت ببهجة الاطفال:
" انظر ياكورد!هل رأيت اجمل منه؟ ".
" لا..اتعلمين لماذا اخترته اسود اللون؟لأنه يذكرني بك في اول مره زرتني فيها.اتذكرين؟ ".
" اجل..واذكر ماقلته لي.قلت انني امثل في الثوب الاسود...وانني احاول التظاهر...".
" بالاحتشام؟لكنني كنت على حق..لقد اخفضت عينيك، وبدوت شاحبه،ورقيقه، خدعتني. وللفرنسيين وصف لهذا:"الشيطان بلحمه وشحمه"...وانت تملكين من هذا قليلا يا مايسي ".
" وانت كذلك ".
فنظر اليها ساخرا:
" صحيح؟ ".
" لقد قلت لي..".
فقاطعها ممسكا بيدها:
" لقد قلت الكثير ذات يوم..وقريبا، تكملين ما تبقى..الان..حان وقت حفلة الاميره ".
وابتسم..صوته كان يخلو من الهم، حتى انه اثر فيها، فنفضت عن نفسها الاحساس الحزين.فامسك بيدها.
" هيا بنا..انت على وشك التمتع بأجمل تجربه فرنسيه.سترسل لنا الاميره سيارتها..تعالي..اريد لمجتمع باريس المخملي ان يتعرف على زوجتي! ".
من بعيد سمعا صوت الموسيقى، ثم خففت السياره سرعتها لتدخل تحت قنطرة حديديه مشغوله بالزخارف تستند الى عمودين ضخمين وتسير في طريق داخليه، ثم تقف امام جدران قصر معتمه، الجو يعبق برائحة زهور لم تتعرف على نوعها..فسارت مع كورد لتصعد السلم العريض..كانت الريح تشتد حدتها عندما بلغا باب القصر، فامسك بذراعها ليدخلها الى بهو واسع ثم الى غرفه ضخمه تكتظ بالناس، مضاءه من الاعلى بعشرات الثريات الكريستاليه القديمه..وجئ لهما بالشراب..اخذت تنظر حولها لتجد ان اثواب النساء كانت تلمع بالحجاره كأنها المجوهرات:الزمرد والياقوت والالماس.واختلطت رائحة الزهور بعطر النساء، وبرزت الاكتاف العاريه البيضاء تحت الاثواب الداكنه، وتحت سترات الرجال المرافقين لهن..هنا مجموعة فرنسيين..هناك مجموعة اميركيين، وهناك مجموهة المانيين.ترددت مايسي مذهوله امام الاناقه، فابتسم لها كورد مشجعا.
" تعالي من هنا ".
مرا عبر ابواب زجاجيه طويله الى باحه ضخمه مليئه بالاضواء المعلقه.في احدى جهاتها فرقة موسيقيه تعزف الحانها، وازواج يرقصون في الوسط فوق خشبيه واسعه تعلو الارض الحجريه.في الجانب الاخر طاولات طويله.مغطاة باقمشه بيضاء، مثبته بأكاليل من الزهور فوقها اشهى المأكل.
" كورد! ".
صوت عميق اجش، تعالى فوق صوت الموسيقى، وتوقف كورد...وقال ببساطه:
" انها الاميره ".
امسك بذراعها ليقودها الى الامام، فوقع نظرها على امرأة تقف امامها، تتأملها باهتمام.
كانت الاميره صغيرة الجسم كبيرة في السن، كبيرة بقدر مايستطيع المرء ان يصفها..ربما في السبعين.وجهها كان خليط من الخطوط والتجاعيد، اخفيت بعنايه وصعوبه بكثير من المساحيق والالوان..من الواضح انها كانت جميله يوما.كانت تلبس مجوهرات كثيره لم تر مايسي مثلها على امرأه من قبل:الالماس يتألق على شعرها، في اذنها وحول عنقها.يدها الرفيعه التي مدتها، كانت مثقله بالخواتم واحد منها بحجم بيضة العصفور.
" انت مايسي..كم انت جميله ".
امسكت يد مايسي في قبضه ثابته، ثم جذبتها اليها لتقبل خديها، وابعدتها عنها لتنظر الى وجهها بعينيها السوداوين.
" هل اعجبتك؟ ".
سؤال طرحه كورد وهو يقف قربها مكتف اليدين يراقب ما يجري بسعاده.فضحكت الاميره لكلماته:
" اعجبتني؟طبعا!ولا تزال طفله، لكنك ستجعل منها امرأه ناضجه ".
عادت الى الالتفات نحو مايسي بابتسامه:
" اذن..لقد اخذتِ كورد مني..وهذا شيء مهم ".
مدت يدها نحوه لتجذبه قربهما وتابعت:
" انا احب هذا الرجل مايسي...بعد ان اصبحت ارمله، تمنيته لنفسي لكنه اختارك انتِ..وعليّ الان ان امضي سنواتي المتبقيه وحيده..اترين كم انا وحيده ".
واشارت حولها الى جمهرة الموجودين، فأبتسمت مايسي، بعد ان اعجبت بالمرأة، والتي دفعت كورد بعيدا عنهما.
" ابتعد عنا الان كورد..اود التحدث الى زوجتك..اوه لا تقلق، سأقول لها كم انت مثالي، وكم نحن مدينون لك.والان اذهب..ودعنا وحدنا! ".
نظر كورد الى مايسي نظرة احباط، لكن كان واضحا ان الاميره تعني بكلامها ان تطاع.فاستدار على مضض، وعلى الفور تجاذب الحديث مع مجموعه قريبه فامسكت الاميره يد مايسي وسارت بها قائله:
" انا اعرفك ياعزيزتي،واعرف امك طبعا..الم يقل لك كورد هذا؟كانت امرأة رائعه!لكنها ليست مثلك مطلقا.اشعر انني اعرفك منذ زمن بعيد....
" منذ زمن بعيد؟ ".
" لقد اسأت فهمي...اعرفك من كورد، فنحن اصدقاء منذ مده طويله، ثمانيه او عشر سنوات، وربما اكثر.وانا موضع سره، واعرف كل شيئ عنك.وانا سعيده لكما..انه الحب الاول...الاقوى والافضل، لكن الناس يقولون لايدوم..هراء!ماذا يعرف الناس؟لا شيء!لقد التقيت بزوجي عندما كنت في الثانية عشره، كان زواجنا تقليديا.لكنني احببته...من يعلم متى تموت هذه الامور؟من يعرف اللحظه التي يتغير فيها القلب؟من بعده لم انظر الى رجل،مطلقا...".
نظرت الى مايسي مبتسمه:
" حتى ولا كورد..تقريبا ".
كانت الاميره تمسك يدها بقوه تضغطها بألم على الخواتم الضخمه..وصوتها يتدفق:
" هكذا انا سعيده لك صغيرتي، ولكورد كذلك..انا امرأه عجوز، لكنني رومانسيه، واحب النهايات السعيده..تجعلني ابكي ".
بحركه عفويه،التفتت مايسي تجيل بصرها بين الموجودين، فضحكت الاميره:
" اتبحثين عن كورد؟هذا طبيعي!اتركيني الان عزيزتي..سنتحدث فيما بعد.اذهبي الى هناك فقد تجدينه ".
" شكرا لك ".
ضغطت على يد العجوز، فالقت نظراتهما بتفاهم كامل، وهذا ما اعطى مايسي الشجاعه..سنبحث عنه الان لتقول له عن مشاعرها نحوه...ولن تستمر في الاخفاء.
فجأه شاهدته، فتوقفت في مكانها وقد تجمد الدم في عروقها.كان يقف عند مؤخرة الشرفه، يستند الى احد الاعمده، والى جانبه امرأه طويله، شعرها الاسود معقوص عند عنقها الطويل الجميل،ترتدي فستانا طويلا من الحرير الابيض الملاصق لكل خط من خطوط جسدها المتكامل...وكان رأساهما متلاصقين..ضحكت المرأه فجأه، ومدت يدها لتلمس شعر كورد.فاحست مايسي بغضب مرير، امسك قلبها بعنف لم تستطع معه الحراك.
من خلفها سمعت صوت رجل يقول:
" من الرجل الواقف مع باسكال؟ ".
فاجابته امرأه:
" انه ذلك المحامي المقرب جدا من الاميره..اليس كذلك؟ اسمه...باكلير..".
" هل هذا هو باكلير؟سمعت كثيرا عنه..لكنني سمعت انه تزوج ".
فضحكت المرأة وهمست بشيء لم تسمعه مايسي، وشهق الرجل.
" صحيح؟ اتعنين انه وباسكال...".
ابتعدت مايسي ووجنتاها تحترقان..تسللت بين الجموع لتجد مكانا هادئا بعيدا عن الموجودين...التفتت لتجد باسكال تقول شيئا لكورد مشيره الى حلبة الرقص، وبدا التردد على كورد،ثم ضحك وتقدم معها الى الامام يضم خصرها بذراعه.
لم تحتمل مايسي ما رأت..استدارت على عقبيها وهرعت بين الحشد، تبحث عن باب لتهرب منه، لانها لم تعد تحتمل سماع التعليقات الساخره.
في نهاية الشرفه، لمحت ممرا مظلما، خاليا فدخلته على الفور، استدار بها الممر في زاويه حاده، ليتفرع.فركضت وتابعت ركضها...قادها الممر بعيدا، واخذت اصوات الموسيقى تضعف.الجدران الصماء من حولها، الارض الحجريه والسقف المنخفض جعلت وقع اقدامها ترن بالصدى..المكان بارد..فاحست فجأه بالبرد واصطدمت ذراعاها العاريتان بالجدران الرطبه. فجأة سمعت صوت الماء، وادركت الى اين وصلت، وانفتح الممر الضيق لتقف فجأه، وتستند الى الجدار البارد الرطب،فأحست بألم حاد في صدرها..لقد وصلت الى غرفة القوراب، على بعد اقدام منها كانت مياه المارن تنساب بجانب القصر، وكانت المياه سوداء تلمع وكأنها الزيت تحت الضوء الخفيف المنبعث من الابواب الحديديه التي تسد المنفذ.في الحديد الصدئ، حلقتان حديديتان رُبط بهما قاربان اسودا اللون، يتموجان مع اندفاع المياه..فأرتجفت خوفا، وهي لا تزال تسمع اصوات الموسيقى، لكن المكان الواسع الخاوي كن يردد صوت الماء وصدى انفاسها اكثر.
ثم سمعت وقع اقدام...كانت تتجه في الممر الذي سلكته.توقفت لحظه، ثم تقدمت بسرعه اكثر.برعب مفاجئ، التصقت بالجدار المختفي، تحس برطوبته وبرودته تدخل جسمها من خلال الفستان.كتمت انفاسها ولم تتحرك واصبح وقع الاقدام الان اقرب، مندفعه وكأن صاحبها يركض.ثم توقفت فجأة..لابد انه وصل غرفة القوارب...وساد الصمت.
شخص ما كان يقف في المدخل، دون حراك، وكأنه يصغي بأنتباه.ثم تكلم بصوت منخفض:
" مايسي؟ اعرف انك هنا.رأيتك تغادرين..اين تختبئين؟ ".
احست بالخوف يخنق صوتها.وعلمت ان كل هذا غباء..لكنها لم تستطيع ان ترد.
علا الصوت الى اكثر من الهمس، فتردد صداه فوق الماء:
" مايسي الافضل ان تظهري،والا سأضظر الى التفتيش عنك ".
في تلك اللحظه، سمعت دوي رعد منخفض، وكأن السماء تمطر..وتصاعدت الاصوات وهزت الجدران من حول مايسي..ثم لمع البرق مضيئا النهر في الخارج،والغرفه المظلمه بضوء يخطف الابصار..وشاهدت في لمح البصر كل ما حولها من جدران خضراء رطبه..وصورة رجل ينظر نحوها مباشرة.لقد رآها، فتقدمت الى الامام.
" كورد؟ ".
لكنها ادركت في لمح البصر..وقبل ان تدوي ضحكته، وقبل ان يتكلم من هو.
واجابها:
" لا..مايسي..انا ليو ".
تجمدت مايسي في مكانها تنظر اليه مذهوله، غير قادره على الكلام، وكأنما لسانها متيبس في حلقها.اخذ الخوف يتسرب الى قلبها واقشعر جسمها.فتقدم منها ليو مبتسما، لكن عينيه في الظل. وادركت احساسه بخوفها:
" حسنا..الاتقولين شيئا؟الست مندهشه؟ الاترحبين بي ".
تراجعت عنه،لكنها اصطدمت بالجدار،وخرج صوتها بقوه اكثر مما ارادت لكنه ظل يحمل علامات الخوف:
" ماذا تفعل هنا؟ ".
فضحك..ومد يده الى جيبه، واخرج سيكاره اشعلها، فرأت وجهه بوضوح على ضوء الولاعه:
" جئت لأراكِ..ولو انني اكره مقاطعة شهر عسلكما، خاصه لأنني بذلت جهدي كي اجمعكما معا..ما ذلك الترتيب الذي رتبه اخي ؟غرف منفصله؟هذا لا يمت الى شهر العسل بشئ، ولاحتى الى الزواج.لذلك قررت لعب دور "كيوبيد"..لارى ماذا سيحدث..انه الفضول.امر رهيب اليس كذلك مايسي؟لكنني كنت دوما فضوليا..اتذكرين؟لذا كان علي المجيء لأرى بعيني كيف الحال بينكما..انت واخي العزيز ".
" انت مجنون! ".
فضحك ثانية:
" انا هكذا دائما.لكن لا تخافي مايسي، انا شديد القلق عليك..لذلك انا هنا..لأزوركما زياره رسميه صغيره في الفندق.اتصلت عدة مرات لكن يبدو ان هناك تعليمات مشدده بعدم ازعاجك، وهكذا قررت ان اجعل زيارتي اجتماعية هنا عند الاميرة.. امر سهل ان الاحق تحركات اخي العزيز، اليس كذلك؟كل باريس تعرف تحركاته...اخبريني هل تمتعتِ بزيارة فرساي؟ ".
حدقت به مايسي مذهوله، فعاد الى الضحك..من بعيد سمعت مايسي اصوات الرعد..اجبرت صوتها على الخروج، محاوله جعله يبدو صارما غير خائف:
" ماذا تريد؟ ".
وهي تتكلم ادارت رأسها جانبا، تريد التأكد مما اذا كانت قادره على تجاوزه بسرعه ما بين الجدار والماء.تحرك سريعا ليسد عليها الطريق.ثم ابتسم ساخرا.
" ماذا اريد؟اريدك ان تعرفي الحقيقه، يجب ان تعرفي..اليس كذلك؟ ".
" الحقيقه؟ ".
" الحقيقه حول سبب زواج كورد منك...من بين امور اخرى.لطالما كنت اؤمن بان من حق الزوجه معرفة هذه الامور ".
" لا..لااريد معرفة شيء. ولا اريد ان استمع الى اي شيء ستقوله ليو! ".
استعادت قوتها فجأة، وحاولت دفعه جانبا، الا انه لم يتزحزح.بل مال نحوها، ورفع ذراعيه الى فوق بحيث اصبحت راحتا يديه مستندتين الى الجدران، وبحيث اصبحت مايسي محجوزه.
" لكنك ستستمعين اليّ..الم يفاجئك الامر مايسي..انا مندهش كيف ان امرأه ذكيه مثلك قبلت بمثل هذا الزواج.الا اذا كان هذا ماتريدينه، بالطبع...".
صاحت بعنف:
" ابتعد عن طريقي ".
ادهشتها قوتها وهي تدفعه، لكنه امسك بيدها على الفور، ولوى ذراعها الى الخلف، حتى انها صرخت من الالم، ثم دفعها بخشونه ليسندها الى الجدار، وشد على ذراعيها:
" لا تفعلي هذا ثانية..فقد اؤذيك اذا اغضبتني مايسي..".
احنى وجهه قرب وجهها وابتسم.ثم استقام دون ان يتركها.
" والان..بضع توضيحات.وهي تشمل اختك العزيزه، لذا عليك الاستماع ".
ادرك ان الموضوع قد شد اهتمامها، فأرخى قبضته عنها واكمل :
" لست ادري بالضبط، لكن اعتقد ان ابيغال قد اخبرتك حقيقة العلاقه التي كانت بيننا، علاقه ناجحه لكنها لم تدم طويلا لانني في الواقع ما كنت اريد ابيغال..لكنها كانت افضل ما استطعت الحصول عليه، ويمكن ان اعترف لك انني لم استطع النجاح في ادعاء انها انتِ..".
" انت قذر فاسد !اتركني ".
قاومت مايسي بشراسه لتخلص ذراعها منه، ثم لاحظت انه يتمتع بمقاومتها..فتوقفت.ورغم النور الخافت،استطاعت ان ترى في عينيه شيئا من ذكرياتها البعيده...شئ ملأها بخوف شديد، خوف قادم من الماضي...لكنه استمر ينظر اليها ببرود.
" ابيغال الصغيره وانا..توصلنا الى اتفاق..لنقل انه اتفاق عمل...اتعلمين مايسي، حتى ظهر اخي العزيز، كان لي خط صغير يدر عليّ الربح. امر سهل في مؤسستنا العائليه القديمه الطراز، خاصه عندما يكون الاب قابعا في بيته، والابن هو الموثوق به والوريث...وانا احب المال...مال اكثر مما قد يتلقاه المرء من راتبه كمحام...وكذلك كانت اختك الصغيرة، وكان هذا امرا مشتركا بيننا.لذلك عندما سألتها التعاون معي،وافقت...الى ان وصل كورد...فخافت منه ".
ثم نظر اليها بعينين تلمعان مثل الماء في الظلام، وفي مكان ما من بعيد كانت العاصفه تدور...فسمعت رعده قويه تدوي..ولمع البرق.وضحك ليو متابعا كلامه:
" كانت الامور ستسير على مايرام، لولا تدخلك، وذهابك الى كورد..لذلك وجدت نفسي اتخبط في المشاكل..علما ان مشاعري نحو كورد كانت مشوشه، لكن علي الاعتراف بذكائه.ولست ادري ما قالته ابيغال لك، او قلته لكورد، لكن قبل ان تتنفسي كان اخي العزيز قد راجع الحسابات واكتشف كل شئ، ووجد الكثير من المال، وبأسم ليو في البنك..اليس هذا امرا شنيعا؟ شرف العائله اصبح مهددا وكورد شديد التمسك بالشرف...الم تلاحظي هذا؟ ".
تنفست مايسي بعمق وحده، خوف غريب، مألوف،سرى تحت جلدها...لكنها قالت بشراسه وصوت منخفض:
" لا اصدقك...انت كاذب...على كل الاحوال لا علاقه لي بشأنك...".
" بل له علاقة بك.اتعرفين لماذا تزوجك كورد؟اوه..هيا مايسي..لاتقولي لي انك لازلت تحتضنين تلك المشاعر الحمقاء حول الحب الطفولي؟ هل صدق عقلك البريء الصغير،انه ربما احبك؟هل قال لك هذا؟كورد مستقيم حول هذه الامور...وقد يعجبه ان يذهب معك الى الفراش، فهذا نوع من التغيير نحو نساء امثال باسكال..مايسي!الامر بسيط..لقد تزوجك ليسكتك ".
" ماذا؟ ".
ضحك ليو ثانية، وتقدم منها اكثر، حتى ضغط صدره على صدرها قليلا، وجهه يبعد قليلا عن وجهها:
" ماذا قلت له مايسي؟هل هددته بفضح الامر..او الذهاب الى البوليس؟اجل..هذا ماقد تفعلينه وكما ترين...هذا اخر ما يريده كورد.حرص على كتمان كل شئ...كان غاضبا بالطبع حين اخبرني فهو مرعب جدا عندما يغضب...تتملكه فكره غريبه ان عليه حمايتنا..ليس انا فهو يكرهني ولا اعرف السبب لكن لحماية والدنا...فمثل هذه الفضيحه قد تؤدي بحياته، فلقد دفع كورد من جيبه معظم المال، وانا كنت حريصا جدا على ان اتخلص بكل سهوله...لكن بقيت مشكله وحيده...انت مايسي ".
" هذا غير صحيح! ".
" اخشى ان يكون صحيحا، فهو يعرفك جيدا.ويعرف انك عندما تتزوجينه ستبقين صامته بدافع الولاء له.فانت من النوع المطيع..الست هكذا مايسي؟ ".
وهو يتكلم عاد الى لوي ذراعها بحده حتى صاحت ألما، فجذبها اليه بقوه لتلامس جسده، وبيده الاخرى كان يزيح فستانها عن كتفيها
" هيا...هيا مايسي!اعرف ماترغبين فيه، ولطالما عرفته.انت مثل امك..لم تكن سوى عاهره..ولست افضل منها..هيا.الاتذكرين مايسي؟منذ سنين طويله...في فنكوفر، وكنت لازلت في الخامسه عشرة...".
" ابتعد عني! ".
حاولت ان ترفسه يائسه، لكنه صفعها بشده.
" قلت لك..لا تفعلي هذا! ".
اصطدم رأسها بالجدار الحجري، وسرى فيها الالم..مد ليو يده الى شعرها ليزيد من المها فبكت.حدقت به غير قادره على الكلام في وقت اخذت افكارها تتسارع لتتدفق امامها صور الماضي متسارعه امام ناظريها.
" ماذا ستفعلين الان؟اتصرخين؟لن يسمعك احد...لكن اذا فكرت بالصراخ...".
وضع يده الرطبه على عنقها وكاد ان يخنقها ثم رفعها الى فمها، فكادت ان تختنق.
في تلك اللحظه تذكرت،ولا بد ان شيئا ظهر في عينيها لانه ابتسم:
" اذن..لازلت تذكرين...كنت يومها تتظاهرين بمقاومتي..اليس كذلك؟لكنك لن تخدعيني، فانت تحبين هذا ".
ضغط بشده على جسدها يرفعه عن الارض، ثم اخذ يدفعها الى الخلف والاسفل.فانطوت ساقاها تحتها ووقعت بقوة فوق الاحجار المبلله..وضحك ليو..فسمعت نفسها تقول:
" ارجوك..ارجوك ليو..لا تفعل هذا..لا تفعل..".
صفعها ثانية وصاح:
" اخرسي! ".
واطبق بفمه عليها ليخرسها بالفعل، يده تمسك برأسها كي لا تحركه..وامتزج الدم بالرطوبه، واحست انها ستختنق..وبالقوه الغريزيه التي ولدها الخوف، لفت ذراعها حوله، وامسكت بشعره وشدته محاوله ابعاده عنها، فخدشت وجهه وعينيه...بدا لها ان تفكيرها يتباطأ، مثل الحلم..فكل لحظه كانت تمر كساعه..لقد بدأ ليو يستنفذ قواها والالم يشل عضلاتها..فاستجمعت اخر ما تبقى لها من قوة، وانشبت اظافرها في جسده..لكن فجأة احست به يرتفع عنها، ويضيع اتزانه وهو راكع على ركبتيه، ثم رأت ذراعاً ترتفع لتسدد ضربه.لكن البرق الذي اضاء المكان للحظات كشف لها عن كورد..
كان يقبض على ليو من عنقه، يجره الى الخلف ليقف على قدميه، ثم ترنح الرجلان، دون ان يتكلما..واخذت الجدران تردد صدى انفاسهما الحاده..فتقاتلا، دون ان تتمكن من الحراك!احست بسائل على وجهها لم تتبين اذا كان ماءا ام دماء لشدة المها.
دوى الرعد ثانية فوق الرؤوس، وعلى الفور لمع البرق، ليضيء للحظات صورتين سوداوين ظلهما طويل وضخم فوق الجدران، اذرعهما متشابكه وهما يتقاتلان، ثم قبل لمحة بصر من زوال النور، شاهدت كورد ينفلت، وتراجعت ذراعه الى الخلف، وساد الظلام، لكنها سمعت صدى لكمه..وفي العتمه لاحظت ليو وهو يتهاوى الى الخلف، وقدماه ترتفعان ليقع بقوه..اصطدم بالجدار، ثم انزلق الى الاسفل نحو الحجاره الرطبه، ووقف كورد فوقه، مرتفعا كالبرج، دون حراك يراقبه.فاطلقت مايسي صرخة خوف، ولمع البرق ثانيه، فاستدار كورد نحوها،لكن ليو لم يتحرك.
صاحت عاليا محاوله النهوض:
" كورد! ".
وقف ينظر اليها والى الفستان الكاشف عن ساقيها..الى المخمل الاسود المفتوح عن صدرها.وقال ببرود:
" اتظنين انه مات؟ ".
الحقد في صوته قطع الطريق على الكلمات التي كانت ستقولها.فاكمل:
" لاتقلقي.انه لم يمت.لكنني تمنيت الموت لك، انهضي..لا اطيق النظر اليك ".
" كورد..ارجوك..ليس الامر كما تظن..دعني اشرح لك...".
" لا اريد سماع اكاذيبك القذره! انت وليو بدأتما امرا فيما مضى..وقررتما اكماله ".
حاول الامساك بها، ثم تراجع:
" هذا غير صحيح! ".
" خذي ".
خلع سترته بسرعه ورماها لها:
" الافضل ان تستري عريك..فانت الان تبدين حقيقتك! ".
التقطت الستره ببطء لتلف نفسها بها مخفيه ارتعاشها.
" حسنا..استمعي اليّ الان..ساحاول اخراجك من الباب الخلفي،وسآخذك الى الفندق..بعدها لا اريد ان تقع عيناي عليك..مطلقا، والى الابد..اتفهمين؟ ".
" كورد..".
" لا تلمسيني! ".
لم يشاهدهما احد وهما يغادران القصر، ونقلتهما سيارة الاميره التي جاءت بهما نحو باريس.في الفندق، اسرع بها فوق السلالم يدفعها امامه كانما لايطيق ان يراها احد..ولم يتوقف قبل ان يصلا الى الغرفه ويضيء النور.
اخذ ينظر الى وجهها..ففكرت انه لابد يكون هناك بعض الكدمات او الدماء على بشرتها.ادارت نظرها اليه متوسله، فرأت علامات الارتعاش على وجهه.
" قلت لك من قبل لا تنظري اليّ ".
استدار عنها بعنف، واخذ يفتح الادراج والخزانه ثم اخرج حقيبة وبدأ يضع فيها الثياب..وبدا لها ان عقها يعمل ببطء، بسبب الالم الذي تحس به..ثم شاهدت على الرف الاعلى للخزانه، شيئا مدفوعا الى الداخل:
" هذه حقيبتي..الضائعه ".
فابتسم ابتسامه متجهمه:
" اجل..لقد كذبت..انا من وضعها هنا ".
" انت؟ ".
" اجل..اختلقت عذرا لاشتري لك شيئا.غبي..اليس كذلك؟لكنني لم اكن اعلم انك رخيصه ".
فصاحت به.
" انظر اليّ كورد..".
تقدمت لتجذبه الى مواجهتها:
" انظر الى وجهي بحق الله!اتظن انني تقبلت هذا بارادتي؟ ".
نظر اليها ببرود:
" اوه..هيا مايسي..كلانا يعلم ان الكدمات تظهر عليك بسهوله..".
استدار عنها مجددا ليقفل الحقيبه ويحملها متجها الى الباب.
فامسكت بذراعه:
" كورد ارجوك الى اين انت ذاهب؟ ".
" هذا ليس من شأنك ".
" انا زوجتك! ".
" كنتِ ".
فركضت خلفه:
" ارجوك كورد، لا يمكنك الذهاب..".
" وهل لديك سبب يجبرني على البقاء؟ ".
توقفت مايسي خجله من توسلاتها..وتنفست بقوة..وقالت بعنف:
" لا..ليس هناك من سبب..ولماذا تبقى؟ لكن على الاقل لاتدّعي..لا تكذب..فانا اعرف اين انت ذاهب..اتظنني غبية؟ انت ذاهب الى باسكال..اليس كذلك؟ ".
وقف كورد للحظات،ووجهه متجهم، ثم قال بسخرية متعمدة:
" انتِ كأمك تماما..عاهرة..وتفكيرك عاهر ".
واستدار ثانية الى الباب:
" خذي المفاتيح..واحتفظي بهذا الحجز.سأدفع الفاتورة، بعدها رتبي امورك بنفسك ".
وخرج صافقا الباب وراءه.

***

Just Faith 20-08-18 02:54 PM

-8-
ستبقى حبيبي

تنهدت مايسي ،تتطلع في عتمة الغرفه،الى النوافذ الخشبيه التي تحجب النور...وتدافعت الاحداث في ذهنها..لقد قال لها :
" انت كأمك..وصاحت لنفسها:هذا ليس صحيحا..انا لست مثلها..".
لكنه يصفها هكذا.استطاعت ان تتذكر تعابير وجهه منذ عشر سنوات عندما فاجأها وليو في نفس الموقف،وقف ليو يصب اكاذيبه،وكيف ان الذنب والعار امسك بخناقها..عار،حتى الان،لم يترك لها مجال لان تبكي على امها يوم ماتت..فقد كانت يومها تخاف ان تكون مثلها.
ايمكن للمرء ان يرغب في شخص ويكرهه في نفس الوقت؟فكرت بالم:اجل..كورد قادر على هذا.ربما كان يعاقبها بزواجه منها،او يعاقب امها،او يعاقب نفسه،او يحاول تحطيم الصبي الذي كان..لن تعرف الحقيقة الان.كل ما تعرفه انها بكل سذاجه وبلاهه ظنت انهما اصبحا قريبين...بينما في الواقع،كان هناك خليج واسع بينهما باتساع المحيط.وادارت وجهها نحو الوساده تدفنه وتبكي.
فجأة احست بوخزه عنيفه في قلبها،كالحمى تذكرت واقعا نسيته في بؤسها..ليس معها مال.لقد ارسلته كله الى ابيها...ليس معها حتى ثمن تذكرة العودة.بطريقه ما يجب ان تحصل على مال يكفي ثمن تذكرة طائره تعود بها الى كندا...يمكن لها ان تتصل بابيغال..او مايك..مايك الافضل..التقطت الهاتف بيد مرتجفه.فأجابتها عاملة الهاتف..
" اوتاوا؟اسفه جدا..لقد حاولت منذ قليل والخطوط كلها مشغوله..ايمكن لها ان تحاول فيما بعد؟ ".
" لا..لا..شكرا..سأقرر هذا فيما بعد ".
فجأة لم تعد تطيق البقاء في الغرفه..جوها خانق والعتمه تطبق على انفاسها.بسرعه توجهت الى النوافذ تفتحها،فاندفع النور الى الداخل ليبهر عينيها...وسمعت طرقا على الباب،فاستدارت،قبل ان تتكلم..فُتح الباب لترى الاميره مستنده الى عكازها.
" ياحبيبتي...!".
ودخلت الغرفه مقفله الباب وراءها،ثم توقفت لتجول بنظرها نحو الفراش المبعثر والوساده المبلله،والثوب الممزق المرمي على الارض. تقدمت العجوز منها لتمسك بيدها:
" يجب ان ترتدي ملابسك فورا..اجمعي ماتحتاجينه فقط..سنرسل بطلب ماتبقى فيما بعد ".
حدقت مايسي بها باضطراب..فابتسمت الاميره.
" هيا..لا تتباطأي.ما هذه المهزله؟ ".
" اسفه، يبدو ان تفكيري ليس قويما..عندما قرعت الباب ظننتك.. ".
" ظننتني كورد هه؟للاسف سافر الى كندا صباح اليوم..ساساعدك..".
وقفت مايسي جامده بصمت، فضحكت الاميره:
" اذا كان لديك خطط اخرى ياعزيزتي فأنسيها.لقد رتبت لك كل شيء..ستقيمين معي ".
" معك؟ ".
" بكل تأكيد ".
" وهل يعرف..".
" كورد؟ بالطبع لا.سيبقى سرا بيننا عزيزتي.هؤلاء الرجال حمقى بكبريائهم!كل شيئ هنا...".
واشارت الى قلبها..
" ولا شيء هنا ".
واشارت الى رأسها
" ماذا نفعل بهم؟عندما يكون رجل مثل كورد غاضبا يكون كالنمر الهائج...في هذه الحال دعيه وشأنه..انسيه قليلا..صدقيني عزيزتي!فأنا اعرفه..هكذا افضل! ".
" انت لا تفهمينني..".
قاطعتها الاميره ضاحكه:
" افهمك بكل تأكيد..انا امرأة عجوز،وشاهدت مثل هذه الامور من قبل..بالنسبه لك الامر جديد،ومؤلم..لكن لن نتكلم في هذا الان..هيا ..وضبي اغراضك ".
كانتا تجلسان على شرفة القصر،تطلان على الحديقه..كان الوقت مساء ورائحة الارض تفوح بعد ان دفأتها شمس النهار..في الهدوء والسكينه،احست مايسي بشيء قريب من الارتياح،وقالت للاميره:
" اذن لقد مرض والده مجدداً؟ ".
" هكذا قال...المكان جميل هنا...اليس كذلك؟ والد زوجي هو مؤسس هذه الحديقه .عندما جئت الى هنا اول مره كانت الحديقه رسميه..كلاسيكيه..ولا احب هذا الطراز..بل احب الحدائق حسب طريقتكم ،اشكالها جميله وطبيعيه.اذن..هل ستبقين معي عزيزتي؟الى ان..".
_
لو سمحتِ..مجرد فتره قصيره..شكرا لك ".
" لم يقل لي كورد شيئا عما حصل.ولست مضطره ان تخبريني طبعا..لقد تخاصمتما،وهذا واضح...هذه الاشياء تموت بين الرجل والمرأة.وهذا ليس من شأني...فابقي هنا الى ان يهدأ قلبك ".
" اتظنينه قد يهدأ؟ ".
فوقفت الاميره تستند الى عصاها،وتنظر الى وجه مايسي بجديه اكثر:
" ربما..من يعلم؟انت شابه...وكل شيء متوقع..هيا الان لنتناول العشاء..وفي طريقنا سأريك شيئا عزيزتي ".
توقفت بها عند نهاية الممر المؤدي الى الداخل ،ورفعت عصاها لتشير الى رسم معلق في اول الردهه.
" اتعرفين هذا الرسم؟انها والدتك..انه رسم رائع لها.اليس كذلك؟ لكن الرسام كان شابا ممتازا وغنيا..وقع في حبها،مثل معظم الرجال.لكنه التقط فيها شيئا لم يلتقطه غيره في عينيها..الا تظنين هذا؟ ".
" متى رسمت هذه الصوره؟ ".
" ليس قبل فتره طويله من موتها.ربما سنه..خلال اقامتها في باريس..ومات هو كذلك..بعدها بقليل ".
حدقتا بالرسم معا،لكن مايسي ارتجفت:
" الا تعجبك؟استطيع فهم السبب..فالصوره قاسيه ".
" تبدو فيها حزينه ".
" لقد كانت حزينه حقا،يائسه،محبطه..ولم تكن لتعطي شيئا يمت لقلبها بصله ".
فالتفتت اليها مايسي لتقول دون معرفة سبب قولها:
" لكنني احب كورد ".
فابتسمت الاميره:
" اعرف.ولهذا عرضت عليك الصوره..لكنك لم تبلغي حبك لكورد..اليس كذلك؟ ".
احنت مايسي رأسها:
" لا ".
" اذن يجب ان تقولي له..كوني جريئه قليلا.هل الامر صعب؟لا يمكن لاحد ان يفعل هذا عنك...على كل الاحوال..ماذا يمكن ان يحدث؟في اسوء الاحوال ستتألمين.لكن الامر يستحق الالم والتضحيه..هذه نصيحتي لك..لنذهب الى العشاء ".
مرت الساعات بسرعه تلحق بها الايام.وصلها ذات يوم خطاب من ابيغال،عبر الفندق.فاسرعت مايسي الى غرفتها لتفتحه .واخذت تفتش فيه عن الاسم الذي تتمنى ان تقرأه..لكنه جاء في اخر الخطاب حين تمنت لهما ابيغال السعاده.يبدو ان ابيغال لا تعرف بعودة كورد الى كندا.واخبرتها ابيغال عن فستان العرس الذي سترتديه،وعن شراء ديكي لتذاكر رحله بحريه الى اليونان..
تركت مايسي الرساله تقع من يدها..ابيغال سعيده الان.وهذا واضح..لكن فيما بعد؟اذا كانت احداهما تشبه امها فهي ابيغال،في بحثها الدائم القلق عن الاثاره،وفي رفضها الدائم للتفكير برغبات الاخرين..فهل تستمر في حب ديكي بعد ثلاث سنوات من الان؟بعد عشره؟عشرين؟
علمت في تلك اللحظه ان حبها لكورد لن يتغير..ستحبه الى مابعد ثلاث سنوات،عشره،عشرين،على الدوام.فجأه احست بدافع للكتابه له او الاتصال به بطريقه ما...بينما هي على وشك الكتابه ،لمحت خطاب ابيغال مرميا على الارض وفيه الامل بأن تكون سعيده مع كورد،وعاودتها الذكرى...كورد وباسكال،وانغام الفالس الناعمه التي راقصها عليها،فرمت القلم من يدها..لن تتمكن من الكتابه.وربما الاميره على حق..فهي لا تملك الجرأة بعد.
في الاسبوع التالي من اقامتها،وفي حديقة الاميره،بدأت اول دلائل الربيع..ازهر البنفسج والنرجس وفاح عطرهما،وفي احد الايام،لملمت مايسي باقة ورد لتقدمها للعجوز التي ابتسمت لها راضيه مسروره.
" شكرا لك عزيزتي..اليوم جميل ويحلو فيه المسير،اليس كذلك؟عديني ان تخرجي لتنشق الهواء النقي..لأجلي مايسي ".
هكذا وعدتها مايسي..فخرجت بالسياره نحو باريس، المتألقه تحت اشعة الشمس كما شاهدتها اول مره..لكنها هذه المره لم تبعد نظرها عن الاماكن التي زارتها مع كورد،بل تأملتها جيدا وبدلا من الالم احست بالراحه...وكأنه معها.
بأندفاع متهور،صعدت الى باص متجه الى فرساي.وكان مكتظا بمجموعه من فتية المدارس،يتصايحون ويتضاحكون وينشدون.راقبتهم مايسي ينزلون ويتجمهرون تحت اشراف استاذين معهم،ليقوداهم فيما بعد الى القصر.
لكنها لم تقصد القصور،بل توجهت الى الحدائق تسير فيها تحس بدفء الشمس على كتفيها وظهرها ،تراقب ظلها يتحرك امامها فوق الممرات المرصوفه بالحصى ..احساسها بكورد في هذه اللحظات كان قويا،حتى انها احست بأن هذه الذبذبات بالرغم من الاف الاميال التي تفصلهما يجب ان تصل اليه.وقفت تصغي الى الهواء والصمت...
وصلت الى الكاتدرائيه التي سبق ان زارتها مع كورد،ودخلت واحست ببرودتها.هذا المبنى صمد هنا لألف سنه،كم من النساء كم من الرجال،طوال هذه القرون،توافدوا الى هنا وهم يشعرون كما تشعر؟لقد اصبحوا من الماضي..لفهم النسيان..ذهبوا..وبقى البنيان وازداد ايمانهم بالقضاء والقدر..ماذا يهم ما يحدث الان؟فالنهايه واحده..مهما كانت قوة الحزن او خفقان القلب.
فجأة تلاشى كسلها فاستدارت نحو الباب الفارغ،حيث كان يقف كورد في المره السابقه.وفي الصمت المطبق الرهيب صاحت:
"كورد! ".
واخذ صوتها يدوي بصدى غريب.
وعرفت في تلك اللحظه بالذات ما يجب ان تفعله..
يجب ان تخبره،مهما كانت النتائج..لا شيء يهمها غير الحقيقه.ركضت تصعد درجات السلم في قصر الاميره لتصل غرفتها،وبيدين مرتجفتين ،اخذت ورقه وقلما،ومغلفا..وبدأت تكتب:
"
عزيزي كورد.يجب ان تعرف .حاولت ان اقول اليوم للهواء..لكن يجب ان اقول لك الان...احبك...احبك كثيرا ولطالما احببتك دوما،لكنني كنت جبانه وخائفه .."
عندما انتهت،لم تعد قرائتها،بل وضعتها في المغلف،ختمته،وكتبت عليه العنوان..قد لا يعيده هذا الخطاب لها..ربما ليس فورا.لكن عليها ان تقول له.
عندما عادت من مركز البريد،متسلله من باب جانبي،عبر قاعة الاستقبال ،سمعت اصواتاً من غرفة جلوس الاميره،التي لا بد انها سمعتها، اذ صاحت:
" مايسي؟ياعزيزتي ..ادخلي الى هنا! ".
فتقدمت نحو الباب المفتوح لتقف محدقه في الغرفه.كانت الاميره افضل حالا..ونظرة الالم قد بارحت وجهها كانت مرحه تجلس تحت اشعة الشمس المتدفقه من النوافذ.الى جانبها على السجاده طفلان اسمران يلعبان،وفي مواجهتها امرأة جميله.واشارت اليها الاميره مبتسمه لتدخل:
" مايسي ...لدي زوار كما ترين،وانا سعيده لتعرفك اليها.هذه حفيدتي ..باسكال..وهذه جانيت وهذا شارل..انه يشبهني هه؟ ".
ووضعت يدها بحنان على رأس الصبي المحدق بمايسي،بينما وقفت باسكال ومدت يدها:
" مايسي..".
وكأنما تسير في نومها تقدمت مايسي نحوها تعانقها، محدقه في وجهها ،والمرأة تبتسم. وادركت مايسي انها اكبر منها سنا،لكنها جميله جدا..والابتسامه تضيئ عينيها.وضغطت المرأة على يد مايسي بحراره:
" انا سعيدة جدا..تمنيت تلك الليله في الحفله ان التقي بك.لقد سمعت كثيرا عنك...من كورد ".
" كيف حالك؟ ".
فضحكت باسكال:
" انا وكورد نعرف بعضنا منذ زمن طويل..زوجك رجل عظيم.استطيع ان اتحدث عن هذا الان،كما اظن ؟ ".
التفتت بسؤالها نحو الاميره،فهزت الاميره رأسها،فاستدارت باسكال ثانية الى مايسي،ولا تزال تمسك يدها:
" يجب انت تسامحيني..فانا سعيده جدا،لتمكني من الحديث بصراحه الان،بعد عدة اشهر .لقد مر عليّ بؤس كبير ولا بد ان كورد اخبرك بشيء عنه؟ ".
تبادلت مع جدتها كلاما سريعا بالفرنسيه لم تفهمه مايسي تماما ثم ضحكت.
" اذن..لم يقل لك شيئا؟ هكذا دائما.يقوم بأشياء مذهله، ولا يتكلم عنها مطلقا.انه بطل لكن بطل متكتم .ليس مثل الفرنسيين..لا يعرف التفاخر ".
جذبت مايسي بلطف ليجلسا جنبا الى جنب واكملت:
" زوجي عمدة بلدته ..كنا نعرف دائما انه في خطر،ورغم كل الاحتياطات والحذر خطف..منذ شهرين بينما كان في طريقه الى مكتبه، اوقفوا سيارته وقتلوا سائقه..يجب ان لا اتكدر..لقد انتهى الامر الان..ولكن مايسي لايمكنني تصديق ما جرى حتى الان.لقد طلب الخاطفون شروط سياسيه،بضع سجناء يطلق سراحهم مقابل اطلاق زوجي...والا..!اجبروه على تسجيل الرسائل وكتابتها،وطلبوا المال ايضا.لكن الحكومه لم توافق على مطالبهم..فتملكني اليأس..وارسلنا الى كورد نطلب منه الحظور فجأة على الفور..انه يعرف فرنسا جيدا ،وعمل في مثل هذه القضايا من قبل....".
وصمتت لتنظر الى مايسي الجالسه بصمت تستمع:
" هكذا تطوع كورد ليكون وسيط..وتولى امر التفاوض..بالرغم من خطورة الموقف. اتعلمين ما كان سيحدث لو حصل اي خطأ؟ اعطى الخاطفين المال بنفسه،وتفاوض معهم..لكننا لم نعرف بهذا..وفجأة ..قبل مجيئكما الى هنا..تلقينا هاتفا يبلغنا بتحرير زوجي دون اذى،ولهذا السبب اقامت الاميره الحفله بمناسبة حرية زوجي وسلامته،واعادة اتحاد عائلتنا..ولكورد..الم تعلمي بهذا حقا؟الم يقل لك كورد شيئا؟ ".
فابتلعت مايسي ريقها بصعوبه،تحس بالدم يتصاعد الى وجنتيها..فجأة اتضحت لها احداث كثيره صغيره ،واجابت بصوت متهدج:
" انا..لم اكن اعلم بشيء..انا سعيده جدا بما عرفته وسعيده لاجلك...".
ضغطت على يد باسكال وصمتت واحست بالدموع تتدفق.فبدا القلق على وجه باسكال فورا،ولفت ذراعها حول كتفي مايسي ،ثم وقفت الاميره متقدمه نحوهما.
" مايسي..لا تكدري نفسك..لقد انتهى هذا الامر عزيزتي " .
فرفعت مايسي وجهها المبتل بالدموع الى الاميرة:
" لماذا لم تخبريني بهذا من قبل؟ ".
" ليس من واجبي شرح هذا لك..كنت اعتقد ان كورد سيعود باكرا..لكنني ايقنت ان من واجب باسكال ان تشرح لك..وكنت على حق..اليس كذلك؟ ".
" اجل..انت على حق ".
تعانقت المرأتان ،ثم وقفت مايسي .احبت ان تخلو الى نفسها، لم تعد تستطيع البقاء في الغرفه لحظه،حتى امام لطفٍ كهذا.واحست الاميره بما تريد،فاشارت الى باسكال التي وقفت على الفور.وابتسمت الاميره:
" والان اتفضلين التمشي قليلا ام ترغبين بالراحه؟فباسكال تود رؤية الحديقه..ووعدنا الاولاد باللعب هناك ".
فهزت مايسي رأسها شاكره:
" اجل..ربما بعض التمشي في الهواء الطلق..".
وعانقت باسكال ثانية وقبلتها:
" انا سعيده..مسروره جدا لك وللاولاد ".
وضحكت مايسي.
خرجت من المنزل،ثم استسلمت لدفء شمس بعد الظهر.وسارت هائمه دون اهتمام الى اين،الى ان وصلت الى النهر.من هناك استطاعت رؤية مشارف باريس..ومن بعيد للجهه الاخرى الفندق الذي كانت تنزل فيه مع كورد.
" مدام باكلير؟ ".
اجفلت من صمتها لتجد سائق الاميره..اصبحت على معرفه وثيقه به الان..كان ينظر اليها والخطوط حول عينيه،وهذا اقرب مايصل اليه من الابتسام.
" اتحبين الخروج في رحله سيدتي ..انها امسيه جميله..ربما نذهب الى الفندق؟ ".
ترددت مايسي لحظات ،ثم هزت رأسها:
" اجل..سنذهب..شكرا لك ".
عند مدخل الفندق قال لها:
" اتريدين ان انتظرك سيدتي؟ ".
نظرت الى نوافذ الفندق وشرفاته، وهزت رأسها..لا داعي للانتظار ستعود لوحدها.فهز كتفيه ،وانطلق عائدا.
للحظات وقفت مايسي تنظر الى واجهة الفندق تفكر اي منهما قال الحقيقه عن زوجها ليو ام باسكال؟ومتى ستصدق كورد نفسه وهو يتحدث اليها بمثل تلك الكراهيه،ام عندما يلامسها بحنان في ساعات الليل الطويله ؟
فجأة تملكتها رغبه قويه لرؤية الغرفه التي قد تجيب على سؤالها ..فتقدمت نحو الفندق ..هنا ستستعيد ذكرى ماحدث وهو الشيء الوحيد الواثقه منه.وبسرعه دخلت البهو.
كان فارغا،هادئا ..من مكتب المدير تناهت اليها اصوات..طاولة الاستعلامات فارغه.
قطعت البهو،وصعدت السلم لتصل الى الطابق الاول.قد تكون الغرفه مقفله..الا اذا تركتها احدى الخادمات...امسكت بمقبض الباب وادارته،فانفتح.ودخلت ثم توقفت ..مرتبكه.
شخص ما كان هنا..احدى النوافذ مقفله والاخرى مفتوحه،هواء خفيف كان يحرك الستائر،وتناهت اليها الاصوات من الشارع البعيد.الخزانه مفتوحه،الفراش مرتب،وعليه حقيبة رجل سوداء جلديه.على الفور احست بصوت من الشرفه، وتحركت الستائر لتشاهد خلفها طيف رجل طويل اسمر ،يستدير عائدا الى الغرفه:
" من هناك؟ ".
لقد رآها..فتوقف. اذهلتها المفاجأة فلم تعد تقوى على الحراك او الكلام .تحرك الرجل اولا..ودخل الغرفه.ثم توقف،ووجهه في الظل.حدق بها جيدا..فخفق قلب مايسي..وفكرت بارتباك:
" انه يعرف..ما احست به في الكنيسه اليوم وصل اليه..فتحت ذراعيها بسرعه وتقدمت نحوه ".
" كورد ".
لم يتحرك، فتعثرت خطاها ..وتوقفت على بعد ذراعين منه.والتقت عيونهما.فتحسست برودة نظراته وارتعشت.كل الفرح والسعاده اللذان احست بهما فجأة ذهبا ادراج الرياح وانقبض قلبها ببرودة لم تتوقعها..فابتسم بدهاء:
" اجل..وانا اسف لخيبة املك مايسي! ".
هذه الكلمات التي نطق بها كورد حطمت شيئا ما في داخل مايسي ودموع الغضب تقفز من عينيها،وصاحت:
" كفّ عن هذا ياكورد!لن اسمح لك بقول هذه الاشياء .لن اسمح لك بالتفكير بها..بعد الان! ".
لاحظت ان عنفها اذهله..وعلمت انه سيقاطعها،فاسرعت لتستمر بالكلام،امله ان لا يخونها صوتها:
" لا..لا تقل شيئا. ستصغي اليّ! اقسم انني..انني لن اتركك تترك هذه الغرفه..ليس هذه المره..الى ان..".
وافتر فمه عن ابتسامه ساخره:
" وكيف ستفعلين هذا! ".
" لا تسخر مني! ".
وخطت نحوه وهي تتكلم،حتى اصبحا متواجهين وعيناها متقدتان.
" هذا ليس عدلا كورد! مهما اكن قد فعلت،على الاقل يجب ان تتوفر لي فرصة للكلام دفاعا عن نفسي..لن اسمح لك بلعب دور الحاكم والجلاد كما يحلو لك.انت تحكم علي من خلال الماضي بأشياء حدثت منذ سنوات .ولن اسمح لك بهذا..وانت في مطلق الاحوال لا تحاكمني ،بل تحاكم امي! ".
ووصلته شحنة الغضب..ولاحظت هذا..فتراجع قليلا،بعينيه المظللتين ووجهه المتجهم:
" اهذا رأيك؟ ".
" انه اكثر من رأيي..انه الحقيقه! ".
فهز كتفيه مستديرا عنها:
" حسنا..لكن امك اهم ما في الامر. ولا يمكن الانكار ".
" ولماذا تكون عنصرا هاما؟هذا ليس عدلا وانا بالكاد اعرفها!انها ميته منذ عشر سنوات.من يعلم دوافع تصرفاتها تلك؟ ".
قال ببرود:
" انت ابنتها ".
" وانت شقيق ليو..ذلك الرجل الكريه من دمك ولحمك..!لكنني لا احكم عليك من تصرفاته ".
استدار غاضبا من كلامها وعيناه تلمعان:
" اتذكرينه امامي ؟الان؟ ".
ظنته سيضربها ،فرفعت يدها لتدافع عن نفسها،لكنه نظر اليها بأزدراء:
" اهذا رأيك بي؟ اتظنيني قد اضرب امرأة؟ اوه مايسي..انت تخلطين بيني وبينه مجددا..فهذه شيمة ليو وليست لي .اوه..بالله عليك!اغربي عن وجهي..لا اطيق النظر اليك! ".
" لن افعل!كورد ارجوك....".
" حسنا..تابعي..ماذا ستقولين؟ ما هي الاعذار التي اختلقتها خلال الايام الماضيه؟ هل ستقولين ان ما شاهدته ليس غلطتك؟ ام انك لم تستطيعي مقاومة ليو وانك اشتقت اليه؟ وانك لم تبالي كيف واين يحدث ذلك؟ وعلى الارض كالحيوانات ..كان بأمكاني قتلك، اتعلمين هذا؟ اكنت تفكرين به طوال الوقت؟ ".
امسك بها بين ذراعيه وجرها امام مرأة الخزانه كي تواجه صورتها:
" انظري الى نفسك مايسي..وجه عذراء ..لكن بنفسية عاهره ".
فصاحت به:
" هذا غير صحيح!توقف عن معاقبة نفسك كورد..توقف عن معاقبتي ..هذا غير صحيح! ".
مد يديه بعنف نحوها،فضربتهما لتبعدهما عنها صائحه:
" لا!لا تلمسني! لا اطيق لمستك وانت تظن بي هذه الظنون..كيف تمكنت من النوم بين ذراعي وانت مؤمن بهذه الاكاذيب؟ كلها خاطئه كورد! انت لم تسألني مرة عن حقيقة ما حدث. حتى انك لم تمنحني فرصه للكلام. ان اي رجل كان يمكنه معرفة ماحدث. حتى في تلك الايام..لكنك فضلت ان تصدق اخاك. وكل قذاراته واكاذيبه..انا اكرهه..ولطالما كرهته. لكنك صدقته لانك اردت ذلك. لان ما قاله يناسب ما تؤمن به، بانني مثل امي اليس كذلك؟ لماذا صدقته كورد؟ اهو تبرير لكراهيتك لي ".
" هذا غير صحيح..لقد سألتك يوما، لكنك هربتِ ولم تتفوهي بكلمه.. وسألتك في اوتاوا.. حاولت اجبارك على الكلام..حتى هنا.. اللعنه على كل شيء.. كنت تعرفين تماما ما هي افكاري.. خاصه عندما علمت انني الاول في حياتك، وان ليو لم يلمسك..اللعنه عليك مايسي..كم مره اضطررت ان اسألك وانت تتهربين من الاجابه؟ ".
" لم استطع ان اتذكر! ".
" كم هذا مقنع! ".
" لكنها الحقيقه كورد، كان يمكن ان اقول لك ولكن كان ينقصني الدليل، ولا استطيع احضار شهود على ذلك..اذا لم تصدقني ..كورد..ما حدث في فنكوفر..مع ليو..هو اجبرني عليه..جاء الى غرفتي وقال اشياء رهيبه، عن امي، عنك، عن والديكما..انه يكرهك كورد، كراهيته نوع من المرض لديه..لم يكن يريدني انا حقا.. لكنني كنت افضل وسيله تسبب لك الالم.. كي يحطم شيئا يعرف انك تحبه..حاولت ان ارفعه عني .. ومررت بحلم بطيء لم اصدق انه يحدث، ووضع يده فوق فمي كي لا اصرخ.. ولو لم تحضر عندها...".
تأوه متألما واندفع نحوها..وعيناه تحملان علامات الغضب:
" مايسي..لكنك لم تقولي شيئا..".
" لم استطع..لم استطع..الم تفهم هذا؟كان يكذب وشاهدت الشك في عينيك..صدقته بينما انا احببتك كثيرا! ".
" مايسي...".
" لم استطع البكاء على امي،مع انني حاولت..كل ما استطعت التفكير به هو الدعاء: اوه يا الهي ..لا تدعني اصبح مثلها.. لكنني بعد تلك الليله في فنكوفر لم ار اياً منكما سوى في المأتم..بعدها اجبرت نفسي على النسيان.. اتصدق هذا ياكورد؟وعندما جئت الى المكتب وظننتك ليو، وحاولت ان ...ثم بعد زواجنا عندما جاء خلسه وامسك بيدي، احسست بالغثيان، ولم استطع التنفس.مع ذلك لم اتذكر الماضي..صدقني كورد..لم اتذكر قبل حادثة غرفة المراكب تحت القصر..ذلك المكان الرهيب حيث امسك بي ولم يتركني واستمر في لوي ذراعي يضحك مني،ثم وضع يده على فمي كي لا اصرخ.عندها تذكرت نفس الموقف في الماضي ".
وتقدم كورد يضمها:
" اوه! ياإلهي! سأقتله. فليساعدني الله..سأقتله لأجل مافعله بك! ".
" كورد..لا! لاتفعل هذا، لاتفكر به حتى، الا ترى ان كل مايريده ان يؤلمنا..ان يؤلمك انت؟ لكنه لن يستطيع ان يؤلمك، طالما انت تصدقني..فلا شيء يفعله او يقوله يجعلني اتغير ".
مدت يدها بلطف لتلمس وجهه،تحاول محو الالم الذي سببه الغضب:
" احبك كورد،من كل قلبي..احببتك دائما..ولا احد غيرك..".
عانقها عناقا حاراً وهو يردد بانكسار:
" يا حبيبتي..ياحبيبتي..".
القت بوجهها على صدره:
" اوه..الهي!ارجوك كورد..قل انك تصدقني..لا شيء غيرهذا يهمني
" تعرفين انني اصدقك..لطالما صدقتك في صميم قلبي.كنت انت الحقيقه الوحيده في حياتي ..والامل الوحيد في كل الفوضى التي صنعتها بنفسي..والنور الوحيد في ظلامي حولي.لكنني لم استطع التصديق هنا..في رأسي..كنت اعيش في جحيم طوال هذه السنوات.كنت المرأة التي احببتها والتي اموت لاجلها..المرأة التي لازلت احبها ..والتي ملكت عليّ كل حواسي..ولعشر سنوات خلت..هذا ما لم تعرفيه قبل الان ".
" اعرف انني احببتك..لكنني ظننت ان..".
" حبيبتي..اوه..لم يكن في حياتي سواكِ،وكان يجب ان اعود اليك..اوه..كل ما حدث كان غلطتي..لو لم اكن احمقا وغيورا..تعالي اليّ مايسي ".
وجذبها نحو النافذه ليجلسا الى الكنبه،وجلس قربها يمسح الدموع عن وجهها .وعندما هدأت امسك بيدها وقال:
" اتسمحين لي ان اشرح لك؟ارجوك مايسي..لن يبرر هذا مافعلته،وكيف فعلته،لكن قد يساعدك على الفهم..لا اريد ان تبقى اية اكاذيب بيننا او سوء تفاهم ".
صمت قليلا،ينظر الى البعيد خارج النافذه ثم تابع:
" في البدايه ..كان نوعا من الجنون..كنت الحقيقه الوحيده في حياتي ..وظننت ان هذا الواقع زال،فحاولت تحطيم ذكراك..فعلت كل مايفعله اليائس..حاولت التظاهر لنفسي انني قادر على نسيانك..لكنني لم انجح..بل جعلت من الم الخسارة يزداد سوءا..ولم ارى عائلتي حتى والدي .ولم استطع تحمل وجودي في مكان يُذكرُ فيه اسمك..اتذكرين ماقلته لي عن ابيغال؟قلت انها "عابثه"..احببتك رغم خوفي ان تكوني مثلها اردت ان اكون معك،ان احميك.اعطيك الحنان الذي اعطيته بسخاء للجميع،لابيغال..لابيك..وكنت واثقا انك تحبينني..رأيت هذا في عينيك،وفي وجهك..امنت بهذا كما لم اؤمن بشيء في حياتي..ثم اعتقدت انني فقدت الحقيقه..ولم يبق شيئا! ".
" اوه..كورد! ".
" هذا ما احسست به..وعندما مرض والدي وبدا لي واضحا ان المؤسسة تنهار،فوافقت على المساعده،وبدأت اتحقق من الحسابات..ووقع نظري على ملفك،ولان رؤية اسمك على الورق كان كصلة وصل لي مع الماضي،دققت فيه..كان كله اخطاء.فعمتك لم تترك لك الكثير،لكن ماتركته كان يتبخر بطريقه ما..وراجعت حسابات الزبائن الاخرين ،فاكتشفت ذات الامر .عندئذ ادركت ان ليو هو الوحيد الذي طالما كان ضعيفا امام المال ".
" مالي ايضا؟هذا مستحيل! ".
" لكنه صحيح! ".
" قال لي ليلة رأيته في غرفة القوارب انه كان يفعل شيئا من هذا وانك كشفت امره.لكنه قال...ان ابيغال ساعدته وانه كان على علاقه معها...".
" انها كذبه اخرى من اكاذيبه..فهي اقل خبرة منه في هذا المجال .لقد اعترفت بما فعلت،وانتهى الامر الان.وستبدأ حياة جديدة...".
" لكن..هذا يعني انك كنت تعرف قبل ان اتيك الى مكتبك...اي قبل ان اراك؟ ".
فابتسم:
" اجل..كنت اعرف..لكنني لم استطع اقرار مايجب ان افعله.الاسوء انني كنت سعيدا بكل هذا لانه اعطاني الفرصه لرؤيتك..والمؤسف انني كنت اعاقب ليو على ماحدث بينكما وليس على ما اختلسه من اموال الزبائن،وهذا هو الانتقام،وليس العدل.وما فعله ليو لا يمكن ان يحتمله والدي فحرصت على كتمانه للحفاظ على بصيص الامل والسعاده في حياته.."
" وماذا فعلت؟ ".
" لاشيء..تعرفين كل ما حدث.ذات صباح وجدتك تقفين ببابي فلم اصدق عيني ".
" وادعيت بانك ليو؟وتركتني اؤمن بانك هو؟ ".
" اللعنه!اجل لكنني لم اخطط لما حدث..وصدقت انك نسيتني ..وكنت مضطرا لاكتشاف الحقيقة..فقد لا تتاح لي فرصة اخرى ".
" وهل اجتزت الامتحان؟ ".
وهو يبتسم:
" اجل..لكنك فشلت في الامتحان التالي ".
" عندما جئت الى منزلك؟ ".
" تماما ".
" اكان علي القبول بمطالبك اللااخلاقيه؟ ".
" كنت راغبه..كما اذكر ".
" لا..لم اكن راغبه! ".
مال نحوها ليقبلها ويسأل ساخرا:
" هل انت واثقه؟ ".
" كل الثقه ".
دفعته قليلا ثم اكملت:
" لن تغلبني..اتذكر كم كان اقتراحك مشينا ".
" كنت انتظر دليلا ،كي اتقدم باقتراح شريف.لكنك عندما بدأت بخلع ملابسك..".
اخفضت مايسي عينيها خجلا من الذكرى:
" اكنت ترغب بي،بالرغم مما قلته؟ ".
" اللعنه عليك!تعرفين هذا! ".
احست مايسي بالرغبه ثانيه.
" كورد..".
" لا ..انتظري..واصغي اليّ في ذلك اليوم كنت خائفه ومزريه..ولم اشعر بمثل ذلك الخجل في حياتي.وكدت ان استسلم ..لادعك فيما بعد وشأنك "..
" والزواج؟ ".
" اه الزواج! ".
امسك بيدها ملاطفا واخذ يعبث بالخاتم الذهبي وتابع:
" ما رأيك انتِ؟ ".
" ظننت انك تود معاقبتي..او معاقبة نفسك ".
" اوه..لا مايسي،عقابنا هو في الفراق،وليس في الزواج ".
" هكذا اذن؟ ".
رفعت يده الى فمها تقبلها،فشاهدت الارتياح على وجهه،وقال:
" اعرف انه لم يكن طلبا رومانسيا،ياحبيبتي ".
فضحكت مايسي،وتابع يقول:
" لعبت دورمحامي الشيطان،وفكرت بانني لو كنت صريحا في طلبي الحقيقي لرفضتني على الفور..".
" وهكذا فكرت بقليل من الخداع؟ ".
" ظننت الغايه تبرر الوسيله،ولو لمره واحده.واذكر انك اخترت تلك اللحظه لتوضحي لي انك لا تحبينني..".
" لم يكن ذلك صحيحا ".
" هل انت واثقه مايسي ".
" اجل..لطالما عرفت ياكورد انك تحبني،وانه من المؤلم لك الاعتراف..كما كان بالنسبة لي..لكن يوم الزفاف في الكنيسه ..تأكدت رغم خوفي في البدايه ..وبدا لي انه من الخطيئه الالتزام امام الله وقطع الوعود الكاذبه..فما اتفقنا عليه يجعل من كل مراسم الزواج كذبه..اليس كذلك كورد؟وكنت على وشك مقاطعة الكاهن..لكنك..".
" امسكت بيدك..اليس كذلك؟ ".
" اجل امسكت بيدي،وفجأة تلاشى كل الخوف،واحسست بالفرح،والسكون.وعرفت ان الامر لم يكن كذبه،اتفهمني؟اوه..لقد عنيت كل ما وعدت به واقسمت عليه..من كل قلبي ".
" انا كذلك.ولكنني اعتقدت انك لم تَصدُقيني الشعور ذاته..".
" ليس في تلك اللحظات ".
" والان؟ ".
" الان..اجل حبيبي ".
تركها بلطف ليسألها:
" اذن ..الافضل ان تخبريني..اين كنت هذا الاسبوع؟عندما كنت مسافرا،اكاد اجن من قلقي عليك ".
فضحكت:
" كنت افكر بك.في قصر الاميرة..انا واثقه انك طلبت منها العنايه بي.لاتنكر هذا ".
" ربما..وهل اخبرتك كم احب زوجتي بجنون؟ولا استطيع العيش بدونها؟لديها تعليمات صارمه ان لا تخبرك! ".
" لمحت لي بتحفظ..وسعت مابوسعها لالتقي بباسكال ".
" ولم يعد لديك اي شكوك سخيفه؟ولا غيره؟ولن يكون هناك سبب حبيبتي ".
" اعرف هذا الان،واشعر بالخجل " .
" لاتخجلي حبيبتي..فالغيره هي الوجه الاخر للحب،لكنه الوجه المظلم.ولا يمكن الادعاء بانه غير موجود ".
" وماذا عن ليو؟ ".
فتنهد:
" عالجت الامر دون ان يعرف والدي ..وهو افضل حالا لكنه لن يعيش طويلا ..ليو سيترك المؤسسه ويعيش خارج البلاد ...وسأخصص له راتبا،شرط ان لايحاول فعل ما فعله ثانيه،وان لايقترب منك او من العائله .وهذا كل شئ ".
" اي نوع من النفي؟! ".
" اذا احببت هذه التسميه.فهو الذي انتفى ومنذ سنوات. واتصور انه سينتهي الى ما هو عليه والدك..ولن يزعجنا بعد الان،ولن يلمسك،قلت لها هذا ".
" كورد... ".
" كفي عن الكلام ".
" لكن..".
" تعالي الى هنا يا امرأة..يازوجة،ياإلهي مايسي..مرت عشرة ايام بلياليها بعيدا عنك..اوه ياحبيبتي..".
وتعانقا مجددا تلفهما الرغبه والشوق والحنين.فانارت السعاده وجهيهما وسمعته يقول:
" مايسي..وداعا للخصام والاكاذيب وكل الخلافات ولن يكون بيننا بعد اليوم مايعكر صفو حياتنا حبيبتي ".
هزت رأسها وضحكت.على الفور مدت ذراعيها حول عنقه ،فتمسك بها:
" لماذا ضحكت؟بما كنت تفكرين؟ ".
" لا شئ..لكنني كنت افكر لماذا لا تزيد على ما ذكرت ان لا تغضب بعد اليوم ".
" لماذا؟ ".
" لان الاميره اخبرتني ماذا افعل لو عدت للغضب.هذا كل شيء ".
" وماذا قالت لك؟ ".
" قالت يجب ان امحو غضبك بالحب ".
" فقط عندما اغضب؟ ".
" حسنا..ربما حينها فقط..".
" لكنني لست غاضبا الان ".
" لا..ومع ذلك....".
مررت باصابعها فوق شفته واقتربت منه حتى لامسته،فقال :
" مع ذلك ماذا مايسي؟ ".
فارتجفت ،لكن جسدها امتلأ طمأنينه وهدوءا،وقالت:
" مع ذلك ..ستبقى حبيبي ياحبيبي! ".
***

تمت بحمد الله

my feel 21-08-18 04:02 AM

شـكــ وبارك الله فيك ـــرا لك ... لك مني أجمل تحية .


الساعة الآن 10:20 PM

Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.