آخر 10 مشاركات
الستائر السوداء (الكاتـب : ررمد - )           »          بريق نقائك يأسرني *مميزة ومكتملة* (الكاتـب : rontii - )           »          آلام قلب (70) للكاتبة: كيم لورانس .. كاملة .. (الكاتـب : * فوفو * - )           »          036 - قلب من ذهب - روايات عبير دار الكتاب العربى (الكاتـب : samahss - )           »          نبض فيض القلوب (الكاتـب : شروق منصور - )           »          سارية في البلاط الملكي * مميزة ومكتملة * (الكاتـب : هديرر - )           »          عندما يُخطئ حبيبان!! (21) -رواية شرقية- بقلم: yaraa_charm *مميزة & كاملة* (الكاتـب : yaraa_charm - )           »          437 - الطريق الى الذهب - د.م (الكاتـب : Gege86 - )           »          وَ بِكَ أَتَهَجَأْ .. أَبْجَدِيَتيِ * مميزة * (الكاتـب : حلمْ يُعآنقْ السمَآء - )           »          240 - مبادئ الحب العشرة - داي لوكلير ( إعادة تنزيل ) (الكاتـب : * فوفو * - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى الروايات والقصص المنقولة > منتدى الروايات الطويلة المنقولة الخليجية المكتملة

Like Tree195Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 25-08-18, 10:48 PM   #1

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
Rewitysmile25 حادي العيس/ للكاتبة البيداء. "مميزة"، مكتملة






بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

نقدم لكم رواية
حادي العيس
للكاتبة البيداء.




قراءة ممتعة للجميع....




السلام عليكم ورحمة الله.

وأخيرًا روابط التحميل جهزت -وإن شاء الله تكون شغالة ومضبوطة-، في حال كان الخط غير واضح أتمنى مراسلتي هنا أو على تويتر أو انستقرام.


1)
رواية حادي العيس، كاملة، بصيغة docx


(الرابط غير مباشر، للتحميل من خانة download options> الخيار الثاني (word document) وسيتم التنزيل مباشرة)

https://archive.org/details/20200122_20200122_1950


2)
رواية حادي العيس، كاملة، pdf

رابط مباشر، بخط وسط (16)

https://ia801503.us.archive.org/10/i...%84%D8%A9..pdf

3)
رواية حادي العيس، كاملة، بخط كبير، pdf

رابط مباشر، بخط كبير (26)

https://ia801402.us.archive.org/7/it...9%8A%D8%B1.pdf

وبهذا انتهت آخر مهام حادي العيس 💘
ودي وحبّي..


الورقة الأولى والثانية أسفل الصفحة

الورقة الثالثة والرابعة

الورقة الخامسة والسادسة والسابعة

الورقة الثامنة والتاسعة والعاشرة والحادية عشر

الورقة الثانية عشر والثالثة عشر والرابعة عشر

الورقة الخامسة عشر والسادسة عسر والسابعة عشر والثامنة عشر

الورقة التاسعة عشر والعشرون

الورقة الحادية والعشرون والثانية والعشرون

الورقة الثالثة والعشرون والرابعة والعشرون

الورقة الخامسة والعشرون والسادسة والعشرون

الورقة السابعة والعشرون و (الأخيرة)





التعديل الأخير تم بواسطة لامارا ; 28-04-22 الساعة 03:55 PM
لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-08-18, 10:53 PM   #2

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

رابط لتحميل الرواية هنـــــــــــــــــــــــ ا









*•

مدخل

*•

في مكتبته العتيقة، يجلس بصعوبة .. يُمسك بالقلم، يفتح الورقة الأخيرة والمتبقية، ليثبّت نظارته وبكف تهتزّ يكتب
( مرحبًا ..
لا أعلم كيف لشخصٍ أن يكتب رسالته الأخيرة، وكيف يبدأها، كيف يثبّت القلم يمين الصفحة لينشر سواده، سواد أيامه..
لا أعلم لمن أكتب، ومن سيقرأها، بعد كل الفقد الذي سببته لنفسي .. كلّ ما أعلمه أنّي أفنيتُ حياتي وسنين عمري كحادي العيس الذي بحّ صوته وهو منطربٌ يشدو بعيسِه وأقدامه تغوص في الصحراء دون أن يشعر، ولم يفِق من طربه إلا وهو يراها ترحل مبتعدة مع قافلةٍ دخيلة..
كنتَ سألتني وأنت صغير عن معنى (حادي العيس)، ما زلت أذكر هذا السؤال الذي انساب من فمك، ضحكتُ يومها ورحتُ أترنّم وأهدهد وأنا أجرّك إليّ وأقول "حادي العيس هو صاحب الإبل الذي يغنّي لإبله ليلًا لتسير مع القافلة"، قد تستغرب أني ما زلتُ أذكر تفاصيلك وتفاصيلنا، لكن نعم أنا أملك ذاكرة لعينة، كل ما كبرت زادت قوة، لتذكّرني بأنانيتي.. وأنتَ تدرك ذلك أكثر مني، فلا حاجة لي هنا لأن أسرد تفاصيلنا لأثبت لك أني أحمل ذات الذاكرة اللعينة.
اسمح لي الآن أن أقول لك أنا مخطئ بجوابي لك عن حادي العيس، حادي العيس يا حبيبي هو أنا، أغمض عينيك ومرّر ذاكرتك بكل أيامي معك، بحلوها ومرّها -إن مازلت تحفظ حلوها- وأسألك بحقّ يومٍ ضحكت فيه من أجلي ألا تنسى أيامنا، مذ كنت جنينًا حتى خرجتَ من رحم أمك إلى قلبي، مذ كبرت وخطوت أولى خطواتك على روحي، ومذ شببت وجاء دورك لتكون أبي بعد ما كنت أباك، يا ابن قلبي وأبا شيبتي، كل ما كان .. وكل ما كنتُ عليه هو ما يكون عليه حادي العيس، وأنتَ .. وهم، ثلاثتكم، عيسي الثمينة، عيسي المفقودة ..
بالمناسبة لا أعلم لمَ أخاطبك أنت الآن، على أنّي ضيّعت الكثير، وهدمتُ كل شيء، وأتلفتُ الأمانات.. إلا أني موقنٌ بأنك وحدك من قد يكترث برسالتي الهزيلة هذه، وقد أضمّنها حديثًا يتيمًا للبقية..
الموت يا ولدي مرّ مني، تخطّف أحبابي وهجرني، دائمًا ما كنتُ أتساءل مع كلّ موت يمرّ لماذا لم أكن أنا؟ لماذا يتجاوزني الموت ليسرق من أستند عليهم؟ علمتُ الجواب الآن.. كان يُلهيني الموت وأنا أراكم حولي، أحبّ الحياة والله لأنكم معي، كم كنتُ نائمًا ومغفلًا عن غدر الزمن، أجلسني على بساط الريش لأظن أني أمتلك كل شيء، وبعدما هدّني التعب يسحبه مني لأسقط ولا أجد يدًا تتلقفني، وكم كنتُ أمنّي نفسي بذراعك، قد تتساءل لماذا ذراعك بالتحديد؟ لماذا لا تكون ذراع أحدهما؟ سأقول لك الآن لماذا.. لأني طالما سحبتُ يدي من تحت رؤوسهم لأسند رأسك، كنت لا أكترث لأني أؤمن بما يربطني بهما، لكن أنت .. كنت أخشى فقدك، أخشى أن أستيقظ يومًا ولا أجدك، أن أسير إلى صلاة الجمعة دون أن أجد كفك لأمسك بها وأقطع بها الطريق، طريق الحياة الشاق.
عندما يراودني الخوف مما أفعله كنتُ أهدئ نفسي بأني أحفظ الأمانة، لكني كذبت .. أدركت في ذلك اليوم أني لا أحافظ على الأمانة لكونها أمانة، بل بسبب أنانيتي وتملّكي .. أنا أصغر وأحقر من أن أكون مسؤولًا عن أمانة أمام العليم القدير.
كنت مغمضًا عيني حتى استيقظت يومًا ولم أجدك ولم أجدهم، فقدت أماناتي لأنانيتي، هل انتصرتُ لنفسي بعد كل ذلك؟ لا أظن يا ولدي، ها أنا أكتب خسارتي وأقرها ..
ولدي الغالي، أمانتي العظمى... كنتُ أقسى من أن أكون أبًا، أظن أن الجميع يُدرك ذلك، حتى بائع الخضرة العجوز الذي ما زال يقف على خياره مذ عشرات السنين يدرك هذا، وقد أشاح بوجهه عني عندما اقتربت منه قبل أسبوع، هل تُدرك حجم الألم الذي سببته لي نظرته اللائمة؟ هل تدرك كيف لنظرة من غريبٍ ما أن تحطمني وتقتلني لأني أدرك أن سوئي أصبح مكشوفًا للجميع، وأمام المارة..
عذرًا يا حبيبي، وعذرًا يا فؤادي .. وعذرًا يا عهدي ..
أستميحكم عذرًا بأن أصرف فوضاي هذه إلى راحلين قبلكم، ظنّوا أني أهلٌ لضمّكم، وكم أنا خجلٌ من ليلة مواراتي في لحدي، ماذا سأقول لهم؟
ماذا لو عُدنا بالزمن عشرات السنين؟ ماذا لو كنتُ أنا الضحية في تلك الليلة؟ لماذا اختارهم الله ليبتليني؟ هل يحبني الله؟ على ظُلمي وجوري وسوئي يحبني الله؟
قد ضيّعت الأمانات، فمن يُسامح؟ وحدك يالله تعلم كم حاولت، كم ضحيت .. وكم أخطأت وأنا أظنني أصبت، كم تغافلت وأنا أظنني فطنت، كم أهملتُ وأنت تمهلني.
حبر القلم بدأ يجف، ولا أجد من يعيرني قلمه، دمعي يجف، ولا أجد من يعيرني عينه .. وهل توجد عيون تعار للبكاء؟
رسالتي وإن طالت فهي لا تتحمّل حجم حبي وشغفي، أحبكم ويعلم الله كم سخّرت حياتي لكم وإن أخطأت، لم أكن أبًا صالحًا ولا كافلًا محسنًا، ولا صديقًا مخلصًا، لكنّي أؤمن أني كنت محبًا وفيًا ..
لا أعلم إن كان يحقّ لي قول هذا لكن كما كنتم أبناء بارين، كونوا آباءً بارّين، عندما كنا صغارًا لا يفتؤون يذكروننا ببر الوالدين، لكنهم نسوا ما هو أشد وأعظم، نسوا أن يحفروا في قلوبنا أن برّ الآباء للأبناء أشد وأعظم إيلامًا وصعوبة.. لذلك لن أكرر خطأهم وخطأي، لا تنسوا أن تكونوا آباء بارين، لا تنسوا بركم بأبنائكم يا كل بري..
وعلى كل ما سببته لكم، لا أحتاج لأن أقول كم أحبكم، يقيني الوحيد أنكم تدركون ذلك أكثر مني، وهو اليقين الذي مازال يُبقيني أتنفّس.
حادي العيس الضائعة، المذنب *التوقيع*







عقل likes this.


التعديل الأخير تم بواسطة فيتامين سي ; 25-01-20 الساعة 07:26 AM
لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-08-18, 10:54 PM   #3

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي






•*
الآن ..
*•


ينساب صوت القارئ في أذنيه ليتخلل قلبه، الصوت الوحيد القادر على انتشاله من شعور الغربة القاتل، يغمض عينيه ليسترخي على المقعد ويضم يديه .. رغم برودة الجو وتساقط الثلوج إلا أنه يُفضل الجلوس أمام المركز على أن يدخله قبل الموعد ويضطر للحديث مع الناس.
يفتح عينيه فجأة ليفز على صوت نغمة رسائل الواتسآب، يزفر بضيق لمقاطعة سكونه، لا أحد قد يذكره برسالة غير أخيه المزعج فقط، ومثلما توقّع كان هو.. والأسوأ هو أن الرسالة ملاحظة صوتية، يعلم أن أخاه يدرك كرهه للملاحظات الصوتية، لكن كما يقول (ضغطة زر وحدة ولا عشرين).. يفتحها بتململ ليصله صوت أخيه الخالي من الحياة (صباح الخير مدري مساء الخير عندكم، المهم طلعت من المعهد ولا باقي؟ لا طلعت دق علي).
يغلق جواله ليقف وعقربا الساعة ينبئانه عن موعده 7:59 عصرًا، يدخل المركز ليداهمه دفءٌ يُرخي أعصابه، يتوجه للمدرج الكبير .. وقبل أن يتخذ مقعده يخلع معطفه الثقيل ليتركه فوق فخذيه، يداهمه الملل وهو يسمع، لكن عزيمته وإصراره يصبرّانه، تدور عيناه حول الموجودين ليشعر بالاطمئنان وهو يدرك أن جميعهم مثله، جميعهم يتشاركون نفس المعاناة، ونفس الألم .. والعزيمة.
" اكسيوزمي؟ "
يفيق على صوتٍ ناعم صغير، يرفع رأسه ليرى فتاة كما يتضح من شكلها لا تتجاوز العشرين، شعرها الطويل مموج ويميل للخشونة، بشرتها جعلت شريان الحنين ينبض بقلبه بشدة، ليست سمراء ولا بيضاء، لونُ الصحراء يتمرّغ فيها.. لم ينتبه لغوصه فيها إلا عندما رفعت رأسها بعدما كانت منشغلة بهاتفها الجوال، لتصطدم عيناها بعينيه السوداوين..
نظرة خاطفة تفجّرت معها وديان الماضي لتلتقي بمفترق الحاضر، وخزة كهربائية أصابت عينه كما أصابتها، لكن سرعان ما قاطعت اتصال عينيهما وهي تقول مشيرة للورقة أمامه :" please, write your name and number- من فضلك، اكتب اسمك ورقمك"
يستعيد نفسه ليُمسك بالورقة ويدوّن عليها ما طلبت، بينما هو يكتب لم يلحظ حركتها وهي تقرأ حروف اسمه، ببطء شديد وحذر أمسكت بالبطاقة المعلقة على صدرها لتضعها في جيبها، رفع رأسه يسلمها الورقة بابتسامة باردة .. تجاوزته لتكرر ما فعلت مع غيره، زفر بشدة وهو يستند على المقعد، لا يعلم ما السبب الذي جعله يشعر بأنها مألوفة! قد تكون تشبه لشخص يعرفه، أو لأنها ذات ملامح عربية وكأنها ترجع للصحراء، وهذا ما ينقصه، هرب من الشرق إلى الغرب ليصادف في أول أيامه عربية؟ وليست أي عربية .. قلبه يخبره بأنها من الخليج المالح، وخبرته تؤكد له أنها نجدية.. يزم شفتيه ليعيد انتباهه للمتحدث أمامه وهو يخرج فتاة الصحراء من رأسه.
لم تمضي سوى عشرون دقيقة وها هو يقف ليغادر القاعة، وقت صلاة المغرب دخل توًا، ولا مجال لأن يؤجلها .. اتجه لجلسة استراحة صغيرة خالية ليخلع حذاءه ويتجه للقبلة ويُكبّر، وما أن سلّم التسليمة الأخيرة لصلاته حتى سقطت أنظاره على بنت الصحراء الواقفة أمام آلة القهوة وأنظارها مسلطة عليه، يعض شفته بتوتر لأول مرة يضطر للصلاة خارج شقته الصغيرة، يقف :" aaa i’m sorry if****- أأنا آسف إذا ****"
تقاطعه قبل أن يُكمل بابتسامة :" - لا لا بأس- no, it’s ok .. don’t worry"
يبتسم بهدوء ليجلس على المقعد ويلبس حذاءه :"thanks so much” - شكرًا جزيلًا "
يبدو التردد جليًا عليها قبل أن تخطو للأمام خطوة وهي تضع كفيها في جيبها :" are you muslim? - مسلم؟ "
يهز رأسه إيجابًا :" yea “ -نعم"
تهز رأسها بهدوء لتعود لآلة القهوة وتأخذ قهوتها، أما هو زم شفته مترددًا لكن السؤال يراوده .. وبلغة متقنة اللهجة “ عذرًا، امممم .. منذ متى وأنتِ هنا؟ - يرى عقدة حاجبيها ليوضّح - ااا أقصد أنا جديد .. وو أود أن أعرف.. عن ..."
تنفك عقدة حاجبيها لتبتسم :" اووه، نعم فهمت .. أنا متطوعة ولستُ مراجعة"
يهز رأسه بخيبة " اوه سوري "
تهز كتفيها :" أهلًا بك، وأتمنى أن تكون أقوى! "
يعود أدراجه للقاعة، ليتابع مركزًا انتباهه على المتحدثين .. يمضي الوقت سريعًا، وها هي الجلسة تنتهي، يخرج ليقف خارج المركز منتظرًا توقف تساقط الثلج ليواصل سيره مشيًا إلى شقته، وبينما هو ينتظر رآها تخرج وهي توزّع ابتساماتها لبقية المتطوعين معها ومسؤوليها، مليئة بالحياة على نقيضه تمامًا .. تنزل الدرجات بسرعة لتركب سيارة أجرة وقفت أمامها وبداخلها رجلٌ أربعيني..
تلتحم عيناها بعينيه..
تبتسم ..
ترفع كفها ملوحةً بالوداع ..
وترحل..
لو كان يعلم، لو كان يُدرك .. للعن اللحظة التي أوصلته هنا، للصدفة التي جرّته لتحصره في هذه المدينة، للفكرة التي راودته للتسجيل في المركز، لحديثه العابر معها، ولابتسامتها التي ستلازمه طوال حياته وتقتله!
هرب من وسط الجزيرة العربية، من جحيمه الصغير.. إلى وسط القارة الأمريكية، إلى جحيمه الكبير الذي لا يدركه، جحيم يحرق كل ما تبقى منه..
لو كان يعلم ما ينتظره، لتلذذ بجحيمه الصغير!




الورقة الأولى

2004م



يجلس متربعًا وأمارات الحنين جلية عليه، يناشد بقلبه أرواحَ أحبابه الراحلة، يشعر بأخيه يربت على كتفه كما فعل ليلته الأخيرة .. ليلة رحيله، حبيبته تبتسم وها هو كفها الرقيق يمسح على عينيه .. يعض شفته بألم مانعًا تأوده أن يخرج، تمتد كف له .. تتشابك مع كفه، تشد عليه بمؤازرة.. هي كف نجد لا محال، مذ كانا طفلين صغيرين يسيران معًا ليقطعا طريق المدرسة وهو يشد على كفه.. ينسى كفه في كف الآخر سنين طويلة حتى خالَها التصقت به ..
همس مبحوح “ يُبـه! “
ترجع روحه له ولواقعها، تتسع بؤرته باحثًا عن أخيه الذي كان يجلس بجانبه يربت على كتفه، لا يجده .. عن حبيبته التي تمسح عينيه، لا يجدها ... عن نجد الذي يشد على كفه، ويجده ! ، نعم هذه كف نجد .. نجد لا أحد سواه، نجد الصغير، الذي سقط من رحم السماء قبل خمسة عشر عامًا إلى جوفه بعد ما جافاه أحباؤه .. تلمع عينا الصغير بانكسار لينزلها سريعًا ولا تزال كفه تشد على كفه “ يلله يبه، تأخرنا .... “
ينهض وهو يحث أباه على النهوض، زفر الحزن عن قلبه ليقف معه .. يدرك تمامًا أن ابنه نجد يكره أن يراه بهذه الحالة وهذا الانكسار، لكنه لا يجد سوى “ نجد “ ليتخلى عن قوته ويرميها بعيدًا ويتعرى بآلامه أمامه، أليس من حق الأب أن يضعف؟ أن يبكي؟ أن يلفظ مشقة السنين أخيرًا في وجه أولاده؟ لا يعلم الجواب.. فهو لم يعش في حياة والده الذي مات وهو لا يزال جنينًا في بطن أمه ... أمه! على ذكرِ أمه راح يتلفت سريعًا عله يراها، لكنها معهم .. مع الراحلين.
يسير به نجد متقدمًا إياه وكأنه هو والده “ نزور قبر خالي يبه؟ “
يهز رأسه إيجابًا وعيناه تضيع في الطريق، لا يحتاج أن يرفعها ليصل إلى وجهته، هو يدرك تمامًا عدد الخطوات التي تفصل قبر حبيبته عن قبر “ خال نجد”، ليصله صوت الصغير من جديد هامسًا “ يبه شوف ... “
ترتفع أنظاره ليظهر له من وراء نظارته ظلٌ أسود يرقد فوق ذلك القبر !
القبر الذي يرقد فيه الجسد الفارق في حياته، وحياة رفاقه، وحبيبته، وناصر، وطفليه.. أو أطفاله الثلاث والأربع، وجميع من تربطهم به الصلة !
مذ حلّ هذا الجسد ضيفًا على هذه المقبرة وموازين هذه الصحراء وما تحتويه من نخلٍ مالت..
هذا القبر هو جار قبر الغالي، ليس من العادة أن يرى زائرين له في مثل هذا اليوم، كل جمعة يرى شقيقه مع أبناء عمه فقط .. أما في ضحى الخميس، فهذه أول مرة .. وهذا الراقد فوق القبر، وصوت نحيبه يصل إليهم، من يكون؟ جسد ضئيل ليس كجسد موسى!
" يُبه! .. "
تنزل عيناه للصغير الكبير بجانبه ولا زال يشد على كفه " يبه أول مرة أشوف أحد يزوره! "
يهمس له " بلى، كل جمعة يجي أخوه"
هز رأسه بتفهم" اييييه، احنا ما نجي الجمعة "
يصمت قليلًا حتى يعود صوته " يُبه! "
" عينه .... "
يبتسم بزهو وهو الذي اعتاد على رد والده هذا إن أطال الحديث، وكأنه يثبت له عدم تململه من ثرثرته " تدوم لي هالعين ... - يعود الحديث الذي أثاره هذا الرجل الجاثي إلى نفسه، وبهمس يخشى أن يصله - يبه الرجال مسكين، حالته ترثى لها .. نروح ونرجع بعدين ولا نحرجه"
تنعقد حاجباه " لا .. بعرف منهو "
يفغر فاهه باندهاش من رد أبيه، اعتاد على كلمة والده دائمًا ( اتركوا عنكم اللقافة) ما باله اليوم يمارسها؟ .. لا يترك له مجالًا وها هو يسير به حتى يصلا إلى قبر خال نجد الملاصق للقبر الذي يجثو عليه رجلٌ ما وينتحب، يقفان على رأس القبر والرجل موليًا ظهره عنهما، تتسلل عينا نجد بحذر علّه يلمح الرجل، بينما يعلو صوت والده " الله يرحمه ويغفر له، والله يصبرك... كان نِعم الرجال"
لا رد .... ويبدو أن روح الرجل تعلّقت بروح (يوسف) صاحب القبر، يبتسم نجد وهو يذكر الرعب الذي عايشه لفترة طويلة كلما زار القبرين إثر الأسطورة التي حكاها (ثامر)، ثامر الذي يهوى إزعاجه وإزعاج أخيه .. كانوا جميعًا في المقبرة للزيارة، والده ابتعد ليلقي السلام على رفاقه وأساتذته في قبورهم، أما هو وأخوه يوسف كانا برفقة ثامر الذي يكبرهم سنًا أمام قبري (خاله نجد) وجاره (يوسف)، أخبرهم ثامر بخبث أن هذين القبرين هما قبريهما في المستقبل، وأنّ هذه الأجساد التي تقطن القبرين هي أجسادهما! وأن أرواحهما ميتة وما هما إلا جسدان حضرت من الماضي! ودليل ذلك أنهما يحملان ذات الاسمين. عاشا رعبًا مخيفًا طيلة فترة طويلة، إلى أن تجاوزها نجد .. أما يوسف ما زال يكره ويخشى زيارة المقبرة مذ كان صغيرًا حتى اللحظة.
تزيد التفاتة نجد رغبة منه برؤية وجه الرجل الغريب، إلا أن شماغ الرجل يغطيه متلثمًا به كأغلب الرجال في المقبرة، دائمًا يأبى الرجل الشرقي أن يظهر ضعفه وبكاءه، متلثمين أشمغتهم يدارون دمعهم حتى بين قبور أحبائهم!، تعود أنظاره إلى والده الذي يتمتم بالدعاء، يتبعه بحركته وهو يرفع كفيه “ يارب .. يا سميع الدعاء .. ارحم خالي نجد واجمعه مع أمي ومع نبيك في الفردوس الأعلى .. يارب أنا ما أعرفه بس انت تعرفه وتعرف إن أبوي يحبه فاسمع دعاءه .. آمين “
ينهي دعاءه المعتاد بعجلة لتتحرك خطاه نحو الرجل بفضول شديد لتسبقه كف والده وهو يشد عليه ونظراته تنهره بشدة ...
يشعر بعطف شديد ونشيج الرجل يصله وصوته الحزين يتسلل له رغم همسه وتأتأته" يا دواي وروحي.. تعبت من الهجر! ، والله ما فيني أكمل وحدي يا يوسف... عمري راح وأنا باقي واقف انتظرك! ... - يزيد بكاؤه - يا يوسف، أنا فقدت نفسي ... وين قميصك يرد ليعقوب روحه؟ وين ريحك ترجع لي الحياة؟ ما عاد بقى لي أي نَفَس ..... - يحتضن نفسه ليلوذ ببكائه، ويهدّئ من نفسه ، يرفع رأسه من جديد ليناجي بصوت متأود- يارب، رد لي روحي .. ردها لي يا رب "
يشعر به نجد يوشك على الوقوف ليعتدل بوقفته سريعًا متظاهرًا بالدعاء لخاله، ليفتح عينيه بصدمة وهو لا يرى والده، ليخرج صوته بتلقائية " يبــه ؟؟؟ "
يلتفت عليه الرجل الملثم بتلقائية أكبر، وسرعان ما يبعد عينيه وهو يعدل شماغه إثر رؤيته لرجل قادم وبيده الماء..
أما نجد يهدأ اضطرابه وهو يرى والده قادمًا إليه وبيده قارورتي ماء، يزفر بشدة " يبه، لا تبعد ثاني مرة بدون ما تقولي! "
تتسع ابتسامة والده على أمره المتعالي، يهمس وهو يعطيه الماء " ابشر .... - يفتح القارورة ليبدأ بسقي قبر الخال، وباعتياد يأخذ نجد الماء ليلتف إلى قبر الجار يوسف ويسقيه بالماء، يصله صوت والده - راح ؟ “
يشير نجد نحو بوابة المقبرة “ ايه هذا هو طالع “
ينتهي بسرعة من رش القبر ليمسك بكف نجد ويحث خطاه مسرعًا نحو البوابة، لا بد أن يعرف من خلف اللثام!، ولسرعة خطواته وبطء خطوات الملثم وتعثرها، يدركه أخيرًا ... يسير حذوه، وبحذر شديد يحاول أن يكشف ملامحه، لكن اللثام يعيقه، والنظارات السوداء كذلك..
“ يا عم ... “
يفز والد نجد على صوته، بينما تتجمد خطوات الملثم وتتلعثم، تبدو الربكة جلية عليه ... وبحركة مفاجئة يزيد من سرعة خطواته وهو يحكم اللثام وكأنه لا يسمع، تنسل يدا نجد عن والده ليهرول بخفة “ يا عم ... نسيت هذي عند قبر يوسف! "
تتوقف خطاه فجأة، ليدخل يديه في جيوبه مفتشًا عن شيء يخشى فقدانه ولا يزال موليًا ظهره عنهما، وكأن تماسًا أصابه يلتفت بسرعة ليجد ضالته الغالية بكف الصغير .. صورة صغيرة غير ملونة لشاب عشريني بابتسامة بيضاء، الصورة الوحيدة التي ما زالت تحفظ ملامحه وتفاصيله، يسحب الصورة بسرعة وفي جزء من الثانية تتعلق عيناه بالطفل الصغير لترتفع بتلقائية للرجل الواقف خلف الصغير يدقق بتوجس وخيفة...
جزء من الثانية تتوقف عنده الساعة، جزء من الثانية يشعر بأنفاسه تكاد تخرج من جوفه.. هو، ياسر! لا محال .. على الرغم من السنين التي فصلتهما عن بعضهما إلا أن هذه عينيه! لا يمكن لأي شخص أن يخطئ بعيني ياسر العذبة!
فجأة عاد إلى واقعه وصوت شقيقه يتردد في أذنيه “لا تقرب من الرياض ... - بس بزور قبر يوسف! - لا تفكر! انسى انسى المقبرة والرياض وكل محافظاتها... أكثر مكان أخاف عليك منه هو قبر يوسف! “
تنتابه رجفة شديدة ليُحكم لثامه وبتعثر أكبر يحث خطاه مسرعًا تاركًا خلفه الدنيا كلها.
تلعثم الملثم حجب عنه رؤية رجفة ياسر الذي سحب كف نجد بتلقائية وشدها إليه، تحت دهشة نجد الذي لا يعلم سبب حركة والده، رعشة مزلزلة أصابته من مظهر ذلك الرجل .. لن تكون هذه الرعشة إلا ليعقوب! أيُعقل ؟
بعد ستة عشر عامًا ... يعود؟
بعد كل تلك الفوضى ... يعود؟
بعدما ترك خلفه الدنيا كلها ... يعود؟
بعدما ظن الجميع أن الأرض لفظته، والسماء جذبته، والبحر ابتلعه ... يعود؟
بعدما كرّس ناصر حياته للبحث عنه وأضاع عمره لهذه الغاية، وما أن بدأ يتناساها ... يعود؟
“ يُبــه! “
لوهلة شعر نجد بأنه كان يصرخ من رعشة والده الذي قفز بخوف وعيناه جاحظة! مالذي يحدث؟
والده يلهث بسرعة وها هو ينقض عليه ليحتضنه بشدة آلمته، وكأنه يخشى بأن ينسل من بين يديه ويغوص تحت تربة القبور!
“ يُبـــــــه ! “
صوت نجد المتألم جعل ياسر يبتعد قليلًا عنه والدهشة/ الخوف لا يزالان يتربعان على عينيه، ازدرق ريقه ليمحي الجفاف الذي أصابه وها هو يعتدل بوقفته وبخطى سريعة يسحب نجد معه بقوة وسرعة .. يخرجان من المقبرة لتسقط أنظارهما على السيارة الزرقاء التي خطّت مسرعة وكأنها تعكس اضطراب سائقها.
طُبعت لوحة السيارة في ذهنه بتلقائية، وها هو يسحب نجد معه ليدخلان سيارته، يقود بسرعة متتبعًا السيارة الزرقاء ..
خيط الذكريات ينسل من ذاكرته، لتتساقط الصور واحدةً تلو الأخرى ...
“ ملعب المدرسة القديمة، وطفلان صغيران يركضان فيه بلا هوادة .. وعلى الجدار يقف طفلان آخران يترقبان بلا ملل، صراخ مزلزل، يركض اللاعبان لتتلقفهما يدا الآخرَين .. وتتشابك ثمانية أيادي مكونين حلقة قفز معًا .. أربعة لا خامس لهم“

صورة أخرى ... “ أربعة مراهقين تحت شجرة سدر كبيرة، يُخرِجُ أطولهم سيجارة ليشعلها بنشوة، وها هي السيجارة تدور بينهم، رشفةً رشفة .. لكل نفس، يقفزون بهلع إثر سماعهم صوت خطوات قادمة.. ليتفرقوا بخوف تاركين خلفهم سيجارة ..”

“ شابان يافعان يدخلان بوابة جامعة الملك سعود في أعرق أحياء العاصمة، يمرّ بجانبهما أحد الأربعة الذين قفزوا معًا متعاضدين أطفالًا، أحد الأربعة الذين تشاركوا (سيجارة الشجرة) كما أطلقوا عليها لاحقًا ... يمرّ مرورًا خفيفًا، يلقي السلام، خطاب رسمي يدور فيما بينهم، وها هو يوليهم ظهره، نعم ... هذا ما لم يكن في الحسبان، رياح الهجر تلقي بخرابها عليهم إثر احتدام النزاع بين عائلاتهم، يدركون من خلال الحديث العابر معه بأن رابعهم حلّق بعيدًا إلى الجزء الآخر من العالم، حيث كان يحلم دائمًا .. إلى أمريكا! كأول فردٍ من محيطهم يلتحق بركب المغتربين
نعم هكذا كبروا فجأة، وانحلّ تشابك الأذرع الصغيرة ”

تسير السيارة بسرعة كبيرة، حتى تنحى منحى اليمين وصوت ارتطام الحجارة أسفلها يهزّها.. يوقفها فجأة إثر استرجاعه لنفسه .. ماذا لو كان يتوهم؟ قد يكون طيفًا من طيوف الماضي التي ما فتأت تلاحقه، يرده إلى واقعه صوت ابنه القلِق :" يبه بخير؟ أدق على خالي ناصر؟ "
بسرعة كبيرة يهز رأسه نفيًا وهو يعيد تشغيل السيارة :" لا لا بخير يا خَلَفْهم"
آخر من يجب أن يعلم هو ناصر! لا طاقة له بتحمل وجع أكبر قد يجدده ناصر!
يتلفت ولا يجد أي أثر للسيارة، لا بد أنها رحلت .. ورحل معها آخر خيط!
يسير بصمت وشرود كبيرين، حتى يصله صوت نجد وكأنه استنتج شيئًا :" اللي كان عند قبر يوسف، شكله أبوه! "
همس بلا وعي منه :" توه صغير ليكون أبوه! "
لم يدرك خطأه إلا بعد سؤال نجد المستنكر :" شلون عرفت؟ "
استدرك نفسه ليتنفس بعمق :" يوسف الله يرحمه مات شاب"
عقد حاجبيه نجد :" كنت تعرفه يبه؟ "
أغمض عينيه لوهلة، وبأسى هزّ رأسه نفيًا :" يابوي على أيامنا كانوا أهل وسط الرياض كلهم يعرفون بعض.. وكان زميل دراسة بس.. - يلتفت عليه بتعجب - ووشلون وصلت لهالنتيجة! "
نجد بإحباط يدس نفسه بالمقعد :" بس سمعته يقول وين قميصك يرد ليعقوب روحه، وتذكرت النبي يوسف وأبوه يعقوب! "
يختنق ياسر، لماذا لا يسكت نجد؟ لماذا يتلذذ بتمزيق والده وهو الذي يشعر بكل ما يلم به من طرفة واحدة؟ ما باله اليوم! .. يلتفت عليه " تعبير مجازي يبه"










في حارة تتوسط مدينة الرياض، وسعف النخيل يتدلى من أحواش البيوت الملتصقة ناشرًا الظلال في زقاقها الضيق ..
تجمع مثير يتوسطها، مجموعة صبيان الحي ينقسمون قسمين، تتوسطهم كرة زال لونها من شدة ركلها يمينًا وشمالًا .. وعلى الأبواب تنتشر فتيات الحي كل منهم تشجّع أخاها أو ابن عمها أو فارس أحلامها ، وعلى النوافذ تطلّ الأمهات والشابات مترقبين نتائج هذا الحدث الكبير.. وكبار سن يجتمعون معًا على الرصيف ليرفّهوا على أنفسهم ويعودوا بذكريات الطفولة.
جميع الأنظار تتجه لذاك المراهق الحافي، الذي يقف متوسطًا صخرتين كبيرتين وُضِعت كحدود للمرمى الوهمي.. يتنفس بتوتر، يصله صوت أخيه الكبير مهددًا :" والله تدخل الكرة ويسجلون هدف أتوطى ببطنك وأفرشك! "
يبتلع ريقه والعرق يتصبب منه خوفًا من بطش الكبير، صمت كبير يعمّ أرجاء الحي .. الجميع يترقب الضربة القاضية، قدمٌ شهباء تتحرك لتركل الكرة ويهتز الحي إثر صراخ المشجعين .. تطير الكُرة متجهة للصبي الخائف، جميع الآمال متعلقة به، حياته تتعلق بصد هذه الكُرة اللعينة، إما ينجح ويصدها وحينها سيُحلق به الجميع ويهتفون باسمه أسابيع، وإما يفشل و ( يفرشه ) أخوه الكبير ويجلس أيامًا لا يقوى على خطو خطوة واحدة...
وفجأة ....
جسدٌ ضئيل يخرج من اللا وجود لترتطم بوجهه الكُرة حتى يهتزّ ويسقط أرضًا ويصرخ متألّمًا،
صمت جديد يعمّ أرجاء المكان ...
من هذا؟
ما الذي حدث؟
وما هي إلا لحظات حتى يصرخ الجميع بغضب، يتجمهرون حول الفتى المُلقى على الأرض وهو يتحسس أنفه بوجع كبير: "اااخ! "
يفتح عينيه بألم والدموع تغطيها مجبرًا، لينصدم من الأجساد التي تشتعل نارًا من شدة العضب قادمةً إليه .. يحاول الوقوف، يفشل ...
" يا حمار وش سويت ؟! "
" والله والله لأذبحك! "
" غشاشين! "
تنهال الشتائم عليه وهو غير مستوعب لما يحدث، تمتد يد غليظة تنوي صفعه وتكسير عظامه.. لكن ....
" اتركه يا محمد ! "
صوت يزلزل الجميع، بوجوده ينقطع صوت تجبر صبيان الحي
أما هو ... يبتلع خوفه ليولد خوف جديد وهو يرى (ثامر) قادم نحوه، تنفرج الدائرة الملتفة نحوه، ليمرّ ثامر وعيناه تنبئ عن فيضان من غضب، بذراعه الطويلة تمتد كفه لياقة ثوب الآخر ويحمله بكل سهولة، يدخل من بين الجموع الصبي الآخر الذي كان يحرس المرمى ليهمس برجاء وهو يُمسك بكف أخيه الكبير وبهمس :" تكفى ثامر، بعدين.. في البيت مو هنا "
تنتقل عيناه بين عينيهما، شهوة التجبر والسيطرة تبلغ ذروتها عنده، كيف لا وهو رئيس عصابة أبناء الحي؟ .. لكن يطغى عليها شعور الحمية والمثل القائل (أنا وأخوي على ابن عمي، وأنا وابن عمي على الغريب)
يصله صوت غاضب :" ثامر هذا ظلم، الركلة كانت علينا وضاعت بسببه! خذ بالحق! "
شعور آخر يتفاقم داخله، شعور الرئاسة والقيادة! .. لكن وقبل أن يقرر مالذي يفعله، يتدارك نفسه بسرعة وهو يرى عمه يمشي على قدميه بعدما ترك سيارته في طرف الحارة، يترك ياقة الصبي وهو يرميه بغضب لتتلقفه يد الحارس، متظاهرًا بالحكمة وهو يخفي بداخله رغبة ضرب الصبي وخوفه من عمه إن رآه بهذه الصورة :" نعيد الركلة ونزودكم ركلة ثانية "
يهتف الجميع بما فيهم الفتيات الصغيرات وكبار السن بموافقة على قراره الصائب، ليلتفت على الصبي ويرميه بنظرة وعيد حارقة وبهمس لا يصل لأحد سوى المراهقَين المتعاضدَين" روح ادعي لربك، لو خسرنا بفرشك في البيت وأتوطاك! .. "
يتنفس الصعداء الآخر، يصلهم صوت بعيد :" يلله يا يوسف"
ينطق بسرعة وبهمس :" روح تخبى ببيتكم، وأنا بنام عندكم اليوم.. ثامر بيفرشنا ويتوطانا كلنا الليلة "
نجد بأسى واستسلام :" أبوي يقول أنام عندكم اليوم، وراه مشوار بيتأخر "
تتسع عيناه بوجل، إذن.. لا مجال للهرب من ثامر!
يترك نجد ليسرع إلى المرمى ويتأهب، أما نجد يمشي بخطوات سريعة إلى المنزل.. يسد باب المنزل كرسي أسود بعجلات متحركة، تجلس عليه فتاة صغيرة .. يتقدم ليفسحها عن الطريق بغضب من سوء اليوم، ليصله صوتها الضاحك والشامت :" هههههه شوف شوف كيف وجهك! "
يسحب كرسيها ليدخل المنزل ويعيدها من جديد حيث كانت، متجاهلًا حديثها، لتعود من جديد بخبث :" يا ويلك من ثامر! روح دوّر لك مكان تتوزى فيه! "
يقطب حاجبيه بغضب :" مو فايق لك يمام! انطمي "
تشعر بغضبه، يأنبها ضميرها لتحرّك عجلات كرسيها وتتقدم إليه، بينما هو يجلس على عتبات الباب الداخلي ويخلع حذاءه بغضب .. تقترب منه وتدني بجسدها إليه لتخطف من خده الذي بدأ يتخشن قبلة سريعة بيضاء كبياض سريرتها :" آسفة .."
رعشة مزلزلة أصابته مذ شعر بملمس شفتيها الصغيرة ليرفع رأسه سريعًا إليها وعيناه تتسع، لتصطدم بعينيها البريئة وصوتها الصغير:" اليوم رسمت رسمة -تحرك سبابتها صعودًا لعينيها ونزولًا إلى دقنها- تجنننننن"
يزم شفتيه وسرعان ما يرتبك وهو يرى والده خلفها عند الباب الخارجي، لا بد أنه رآه .. ليقف سريعًا وهو يفتح باب المدخل :" بشوفها بعدين يمام .. أبي أنام الحين "
يصله صوتها متحمسًا :" بتنام عندنا اليوم؟ "
يهز رأسه إيجابًا وبقدر المستطاع يتحاشى النظر لوالده الصامت والشارد، يخطو أولى خطواته للداخل ليصله صوت والده :" نجد يبوي نادي خالتك نورة "
يدخل للداخل ليعلو صوته :" أمي نورة ... "
تخرج إليه سريعًا وهي تلف جلالها عليها :" متى جيت ؟ "
ترى انكسارًا بعينيه وصوته يهدأ " قبل شوي ... أبوي يبيك عند الباب"
تهز رأسها وهي تشير للمطبخ :" سخّن لك الغدا، احنا تغدينا "
يزفر بشدة ليتجه إلى المطبخ الصغير، يبدأ بتسخين المرقوق .. يتكئ على الدولاب أمامه بضيق وهو يترقب الفقاعات تخرج من غدائه، (أمه نورة) منذ أن بلغ الحلم أصبحت تتحجب عنه، وهذا كفيلٌ بأن يجعله يبكي ليله كله .. لا يعلم لماذا تصرّ على الحجاب؟ هو محرمٌ لها .. حتى وإن انفصلت عن والده، لا يزال محرمًا لها، يعللّ ذلك يوسف وأبوه بأنها (تخجل)! ولا بد أن يراعي خجلها، كيف تخجل منه هو الذي ربته مذ كان بالتاسعة من عمره؟
ربته سويًا مع يوسف، وكأنها أمه .. يدرك تمامًا حياءها الزائد، فهي في أغلب الأحيان تلتف بجلالها حتى وإن كانوا ضيوفها نساء فقط! لكن نجد ابن طليقها وأخٌ لابنها! .. ليس غريبًا وأجنبيًا عنها.
لماذا تصر على أن تزيد نفسها عمرًا وكأنها جدة؟ ، لا يفهم سبب البؤس الذي يلازمها وكأنها حملت الدنيا على عاتقها وصارعت مخاضها!
يفيق على شهقة عالية:" حرقت الأكل !!!! "
ينتبه ليزفر بضيق :" اووووف! "
تسرع إليه لتطفئ النار وتقلب طبق المرقوق، يزم شفتيه :" آسف أمي نورة .."
تهز رأسها بقلة حيلة لتضعه بوعاء آخر .. :" أبوك يقول عنده مشوار ويمكن يطول، نام الليلة وبكرة هنا"
يهز رأسه إيجابًا بتململ، يحمل وعاء المرقوق إلى الصالة ليأكل بهدوء..





-




*•
استدعاء ..

يا حادي العيسِ في ترحالك الأملُ “
يا حادي العيسِ قد نفنى وقد نصلُ
قد يحتوينا سهيلٌ أو يرافقنا
وقد يمدُّ لنا أبعادَه زحلُ
قد نحضنُ الفجرَ أو نحظى بقلبتِه
وقد تجفُّ على أفواهنا القبلُ
إذا انتهينا على الأيام حجّتنا
وإن وصلنا يغنّي الرحلُ والجملُ
يا حادي العيسِ -فلنرحل- هلمّ بنا
فالحائرون كثير، قبلنا رحلوا

- سيد البيد (محمد الثبيتي)


Laila1405 and عقل like this.

لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 26-08-18, 01:32 AM   #4

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



السلام عليكم ورحمة الله ..

كما في الرسالة الأولى في المدخل فأنا لا أعلم كيف أبدأ، وكيف أقدم روايتي المتواضعة.
ما زالت غير مكتملة عندي، لكن ملامحها في قلبي وعقلي، كتبت شطرًا لا بأس به منها ..
في البداية أحب أن أنوّه أن الأجزاء الأولى منها ستتناول الماضي، كما هو واضح (2004) حتى تتشكل ملامح الشخصيات والأحداث فيها، كون الماضي هو المحرك الأساسي في الرواية ..
إن شاء الله لقاؤنا القادم يوم الأربعاء، الجزء جاهز عندي لكن أود أخذ بعض الوقت لمراجعته ولأنسقه مع بقية الأجزاء الجاهزة ..
سعيدة لهذه الفرصة التي مكّنتني من أن أضع جزءًا مني (حادي العيس) في متناول الجميع ..

للتواصل:
حسابي على تويتر : @seen_na
صارحوني هنا :
https://seen1baydaa.sarahah.com

لقاؤنا عمّا قريب ❤



عقل likes this.

لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 26-08-18, 08:35 PM   #5

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

ماشاء الله تبارك الله عودة جميلة لروايات صرنا لا نرى مثلها للأسف

اللهم صلي وبارك على رسوله محمد المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم

جميلة تبارك الله شخصياً تعجبني هذه الروايات

التي بها فلاش باك يعني عودة خاطفة للماضي ثم الرجوع للحاضر

للامانة لا يزال فيها غموض مع لخبطة في فهم الشخصيات ليست واضحة

الآن شخصين متوفين نجد ويوسف

تربطهم علاقة

هل هي قرابة هل نسب هل صداقة ليس واضح

هل هم شباب أم مراهقين حين توفوا ؟؟

//

الأب يحب إبنه نجد ؟؟

هل الإبن الآخر يوسف ؟؟

وثامر اخ يوسف بدون ما يكون اخ لنجد

//

هل البنت إللي على كرسي متحرك هي من رآها في امريكا ؟؟

يجوز

لأنها خبأت هويتها عنه

فهي قد عرفته من اسمه وادعت عدم المعرفة حين سألته انت مسلم ؟؟

//

تشابك في الأحداث أنا أعلم انه ستتضح الأمور فيما بعد لذلك منتظرة بكل حب وشوق

المهم عزيزتي استمتع بهذا الفصل وأتطلع للمزيد رجاء خاص إنك تكملينها ولا تتركينها صاير عندي أزمات نفسية متتالية بسبب الروايات المهجور

خاصة الجميلة مثل روايتك.....

أختم كلامي بهذا الشعر

يا حادي العيس

لما أناخوا قبيل الصبح عيسهم . . . وحملوها وسارت بالدجى الإبل

فأرسلت من خلال السجف ناظرها . . . ترنو إلي ودمع العين ينهمل

وودعت ببنان خلته علمٌ ناديت . . . لا حملت رجلاك يا جمل

يا حادي العيس عرج كي نودعهم . . . يا حادي العيس في ترحالك الأجل

ويلي من البين ماذا حل بي وبها . . . من نازلي البين حل البين و ارتحلو

إني على العهد لم أنقض موتدهم . . . يا ليت شعري بطول الدهر ما فعلوا


كلمات: محمد ابن القاسم

عقل likes this.

لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 27-08-18, 03:40 PM   #6

أميرة الوفاء

مشرفة منتدى الصور وpuzzle star ومُحيي عبق روايتي الأصيل ولؤلؤة بحر الورق وحارسة سراديب الحكايات وراوي القلوب وفراشة الروايات المنقولةونجم خباياجنون المطر

 
الصورة الرمزية أميرة الوفاء

? العضوٌ??? » 393922
?  التسِجيلٌ » Feb 2017
? مشَارَ?اتْي » 11,306
?  نُقآطِيْ » أميرة الوفاء has a reputation beyond reputeأميرة الوفاء has a reputation beyond reputeأميرة الوفاء has a reputation beyond reputeأميرة الوفاء has a reputation beyond reputeأميرة الوفاء has a reputation beyond reputeأميرة الوفاء has a reputation beyond reputeأميرة الوفاء has a reputation beyond reputeأميرة الوفاء has a reputation beyond reputeأميرة الوفاء has a reputation beyond reputeأميرة الوفاء has a reputation beyond reputeأميرة الوفاء has a reputation beyond repute
افتراضي


السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

روايــة فيها من الابداع والغموض

بدايــة رائعــة تعـد بالكثيــر

متابعـة معـ? إن شــــاء الله

بانتظـــار القــــااادم

لعل تتضح الأمور

ونعرف عن سبب وفاة نجد ويوسف

وهل لوفاتهما سبب في ابتعاد يعقوب واختفاؤه

والتوتر اللي بين العائلتين

ما سبب خوف ياسر

أن يعرف ناصر شقيق نجد (المتوفي)

عن يعقوب .. يبدو الموضوع

فيه ثأر وانتقام ..


أي جحيم هذا الذي ينتظر بطلنا

ومن الفتاة اللي التقاها

يبدو أنها من العائلة

هي تعرفت عليه لما كتب اسمه

ولا تريده أن يعرفها

لذلك أخفت بطاقتها


غموض يلف الأحداث

بالانتظـــااار بشوق
موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .




..

لامارا and عقل like this.

أميرة الوفاء غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-08-18, 01:55 AM   #7

هبةالربيعي

? العضوٌ??? » 362843
?  التسِجيلٌ » Jan 2016
? مشَارَ?اتْي » 718
?  نُقآطِيْ » هبةالربيعي has a reputation beyond reputeهبةالربيعي has a reputation beyond reputeهبةالربيعي has a reputation beyond reputeهبةالربيعي has a reputation beyond reputeهبةالربيعي has a reputation beyond reputeهبةالربيعي has a reputation beyond reputeهبةالربيعي has a reputation beyond reputeهبةالربيعي has a reputation beyond reputeهبةالربيعي has a reputation beyond reputeهبةالربيعي has a reputation beyond reputeهبةالربيعي has a reputation beyond repute
افتراضي

تججججججنننن الروايه ابداااااااع وغموض اعتقد ابو نجد يعاني من مرض وموقف من عائللته ضده امكن يكون سسبب وفات زوجته جهاله وصديقه ،ثامر ويوسف اخوان ونجد ابن زوجها رجاء يعانق ااماني ماتوقفين روايه
لامارا likes this.

هبةالربيعي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 29-08-18, 03:18 PM   #8

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي





الورقة الثانية

________________

يومان تمضي، ولا يزال يلهث باحثًا عن مراده، لا أثر للسيارة الزرقاء في كل الأماكن التي خطرت على باله وقد تخطر على بال يعقوب، هل يكون وهم؟ أتعبه التفكير وأنهكه، يعود متأخرًا إلى منزله في كل ليلة عازمًا على طرد الأوهام والوساوس من رأسه، وإن كان ذاك الملثم هو يعقوب لا بد أن الأرض ابتلعته من جديد، لا فائدة من البحث عن طيف يمتلك خاصية الاختفاء متى ما أراد، وما أن تشرق الشمس حتى يجد نفسه مستقلًا سيارته باحثًا عن الطيف من جديد.
وبينما هو يقف بسيارته تحت ظل الشجرة القريبة من منزل موسى، يصله اتصالٌ من (ناصر)، لا يرد .. لا بد أنه ينوي دعوته على الغداء، آخر شخص يود رؤيته هذه الأيام هو ناصر.
يُسند جسده على المقعد علّه يهدأ قليلًا، يتفيّأ بظلال الشجرة، ترتسم على شفته ابتسامة حنين.. في هذا الشارع كانت لهم أيام وصولات، تمامًا كثامر .. يذكر وجه يوسف المشرق- على عكس ابنه الذي سمّاه وفاءً لذكراه-كان الفتى اللعوب والذي يبث الحياة في كل خطوة يخطوها، غير نزاعه الدائم مع نجد وكلّ منهما يثبت مجد أجداده ويدحض الآخر، مذ كانا صغيرين .. ينتهي يومهم المدرسي وقد جفت حلوقهم وانقطعت أصواتهم إثر جدالهم المنتهي، الجدال الذي يزيدهم قربًا، حتى يفتقد كل منهما الآخر إن غاب يومًا ويفتقد معه المتعة التي لا يتحلى بها ياسر أو يعقوب، يعقوب الذي لا يشبه أخاه إلا في الظاهر، لم يكن بمقدور أحد من أساتذة المدرسة وبقية الطلاب أن يميزوهما إلا نجد وياسر، رفيقيهما الدائمين.
تزيد ابتسامة ياسر وهو يذكر كيف كان يعقوب ويوسف يتفننان بالغش بحكم الشبه المتطابق بينهما، حتى أدركهم شقيقهما الكبير "موسى" (المطوع) كما يطلقون عليه.. يعقوب الفتى الذكي، حاد المزاج، لا يشبه أخاه إطلاقًا في روحه .. كان كثير الشكوى والتحلطم، لا يعجبه شيء، (نقّاد) كما يطلق عليه نجد، يكره الصحراء والنخل والقبيلة وكل ما يمت له ولماضيه بصلة، تمامًا يختلف عن يعقوب.. لكنه أكثرهم حلمًا وأكثرهم تمردًا.
أما نجد .... وآهٍ من نجد وما تفعله ذكراه بروح ياسر!، لم يكن مجرد صديق، كان جاره .. نشآ معًا وكبرا معًا، يدرك في قرارة نفسه أن أحد أهم أسباب هذا القُرب هو (الجوزاء)، تلك المحبوبة التي بكى أطلالها كثيرًا، شقيقة نجد .. حبها نما في صدره كنخلةٍ نجدية كريمة أبية لا يزلزلها شيء ولا يسقيها إلا راعيها، تلتف حول قلبه وتعصره وتتوارى عن الأنظار، يعجز عن إخبار نجد كاتم أسراره عن أعظم سر وأجمل سر ترعرع في قلبه، هي شقيقته .. ولن يتوقّع أي شيء من نجد إن علم سوى الويل والهجر، وهذا آخر ما يتمناه.. إلى أن يقع يومًا ما ويُكشف أمره على يد أحد الأربعة.. تعود الصورة في باله وكأنها وقعت توًا ..

" يسحب الكتاب من حقيبة نجد ليُخبأه بعناية، ونجد غير مبالٍ ونقاشه يحتدم مع يوسف.. :" نجد ترى خذيت كتابي من عندك"
يهز رأسه بلا مبالاة ليوجه كل اهتمامه ليوسف الذي يسخر منه، يبتعد عنهما قليلًا ليقلب صفحات الكتاب، تتسع ابتسامته ويشرق وجهه وهو يرى الورقة الصغيرة المصفوفة بعناية، يسحبها سريعًا ويخبئها في جيب ثوبه، ينزل إلى باحة المدرسة الخالية ويجلس تحت الشجرة التي تقع خلف دورات المياه، تزيد رعشته بعشق كبير وهو يُخرج الورقة، يتصبب عرقه ويتوهّج وجهه وهو يرى خطها الركيك، وما أن همّ بقراءة الحرف الأول يُصدم بسحب الورقة منه بسرعةٍ كبيرة، يجف وجهه بخوف وسرعان ما يهمس بغضب :" يعقوب هات الورقة! "
بتلاعب كبير وابتسامة خبث يخبئها خلفه :" غراميات يا قليل الأدب؟ "
يزيد نبض قلبه بتوتر، يتصبب عرقه :" يعقوب منيب فايق لك! .. هذي أسئلة الواجب بس"
يهز رأسه نفيًا وابتسامته تزيد، ليُخرج الورقة من خلفه ويهمّ بفتحها وسرعان ما ينقض عليه ياسر محاولًا سحبها بحذر، يفشل ويعقوب ينطق بتهديد :" ترى بتتقطع، ابعد "
يزفر بشدة :" الورقة ورقتي، هاتها وفارق"
يبتسم يعقوب ويفتحها بسرعة خاطفة تمكّنه من قراءة الاسم أسفل الورقة قبل أن يُسرع ياسر ويسحبها منه بغيض كبير، يتسع بؤبؤ يعقوب ليهمس :" جوزاء؟ "
يزيد تنفسه بشدة، سره الصغير الذي ظلّ مخبأً لسنين طويلة لم يعد سرًا، يشعر بأن هذا الحب ينسل من بين يديه بعدما كُشف، ولذة الخوف والكتمان التي كانت تلازمه ستفارقه الآن! يضرب يعقوب بقبضة يده على صدره :" حيوان! أنا قايلك ما تقرا! حمار ما تفهم؟ "
يهز رأسه يعقوب بصدمة، ليشعر بتأنيب ضمير وهو يرى غضب ياسر ليهمس :" والله ما أعلم أحد! "
يُبعده ياسر عن طريقه بعصبية وقهر كبيرين:" ابعد عن طريقي، مابي أشوف رقعة وجهك"
يبتلع ريقه يعقوب ليُمسك بكف ياسر بسرعة :" والله آسف ... "
يصده بنفور شديد ليعود ويُمسكه من جديد :" نجد عارف؟ "
تتقد عيناه بشدة تجعل يعقوب يخاف :" والله والله لو عرف نجد لأذبحك! "
يهز رأسه بسرعة وخوف :" طيب"
ياسر ونيران تشتعل بداخله يعود بتهديد أشد :" والله لأعلم أخوك موسى إنك تدخن! "
يهز رأسه نفيًا بسرعة ونقطة ضعفه تُهدد أمامه :" والله قلت لك ما أعلم أحد! "

يزفر ياسر بشدة لينفث عنه ذكريات الماضي، يرى الساعة ليزيد زفيره .. مضت اثنان وأربعون دقيقة ولا يزال ينتظر في مكانه..
حينما لا يرى أي بادرة قد تقوده إلى ما يصبو إليه يعتدل بجلسته وما أن همّ بتشغيل سيارته يرى باب المنزل الكبير يُفتح أخيرًا.
يتأهب ويُرجع سيارته للخلف بهدوء كي لا يثير الشكوك، ترتجف أصابعه وهو يرى ضالته، يتأكد من شكوكه .. هو يعقوب بلا ريب، يكاد يشمّ رائحة السيجارة منه على بعد أمتار .. رائحة السيجارة التي كلما أشتمها في أي شارع تمرّ صورة يعقوب في مخيلته، حتى بعد مرور ستة عشر عامًا!
لكن، كأن يعقوب انقسم إلى نصفين من شدة هزله، وكأن نصف جسده قد دُفن مع يوسف وتوارى خلف اللحود، يشدّ بكفيه المرتجفة مقود السيارة وهو يرى موسى يمشي بخطىً ثابتة متوجهًا إلى سيارته وخلفه يسير يعقوب المنكّس رأسه .. لله هذه الدنيا التي تصيّر الشجر المختال إلى حفنةٍ هزيلة مكسورة الأغصان!
تتحرك سيارة موسى مبتعدةً عنه، يسير خلفها على بعدٍ كبير كي لا يلفت الأنظار، مع بقاء عينيه وحواسه مسلطةً على السيارة.
يتبعهم لوقت طويل حتى ظنّ أن موسى ينوي مغادرة الرياض، لكن ها هي السيارة تقف أخيرًا أمام مجمع سكني كبير، يستطيع أن يلتقط شكل موسى وهو يشدّ على عضد يعقوب ويبدو أنه يوصيه، وها هو أخيرًا يترجل من السيارة ويلوّح لموسى مودعًا ..
يزيد اضطراب ياسر على رحيل موسى، يتأكد من خلوّ المكان ليترجّل هو الآخر بلا وعي منه .. جميع ضغائن الماضي ترحل، يتشبث بحنينٍ قاتل.. تعود روحه إلى ما قبل عقدٍ ونصف من الزمان، إلى عام ألف وتسع مئة وثمان وثمانين.. قبل يومٍ من ليلة رمضان، ذلك اليوم المشؤوم .. عاد إلى بيته بعد ما ودّع رفاقه الثلاثة على وعدِ السحور الأول، لكنه استيقظ اليوم الموعود ليدرك أنه وحيد، أن الجميع رحل دون سابق إنذار .. لا أحد يعلم أن بكاءه ورثاءه لا يزال قابعًا في صدره حتى الآن، لم يجد من يشاركه .. وها هو يقترب من الباب الذي يقبع خلفه (يعقوب) لا يطلب منه شيئًا سوى أن يربت على كتفه، فقط.. ويعده بأن يرحل.
طرق الباب طرقةً واحدة هزيلة مترددة، بدأ ارتجافه يزيد.. حرارة جسده ترتفع، صوت أنفاسه يضطرب .. فقط باب خشبي يفصل بينه وبين السنين الراحلة.
زفر زفرة طويلة ليعاودَ طرق الباب بقوة أكبر.
لا مجيب ..
يشد قبضته ليزيد من طرقه، متأكد من أن يعقوب يقف خلف الباب، لماذا لا يجيب؟ ألا تكفيه السنين الماضية التي وقف بها ياسر على أعتاب الأبواب يطرقها ليلًا ليستجدي البكاء لكن طرقاته لا يجيبها سوى الصدى؟ ألا يرأف بحال مَن وقف سنينًا ينتظر خبرًا يوقظه من صدمته؟
لم يُدرك أن طرقاته كانت أشبه بالضرب إلا حينما شعر بشخص يقف خلفه :" يا خوي ما يجوز هالإزعاج اللي تسويه للمستأجرين!"
وكأنه لا يسمع، يفقد نفسه وطرقاته تزداد.. يتهدّج صوته بتعب :" يعقوب افتح! "
لا رد ..
يزيد أكثر وبكاءه ينساب بوجع السنين :" يعقوب، أنا ياسر ... "
لا رد ...
يرخي رأسه على الباب بألم وكأنه يحتضنه :" افتح واللي يرحم يوسف..."
ينساب جسده بضآلة ليسقط أرضًا ويتكئ على الباب مادًا رجليه، يهذي بحجم حزن السنين على صدره، وكأن ليلة رمضان تلك الليلة المشؤومة كانت ليلة البارحة :" يعقوب مابي منك شي ... أبي هالوجع اللي بروحي يموت! .. ما أطلبك كثير .. أبي أبكي عمري اللي راح، اببكي الفرقى اللي قتلتني ! ..... - يحتضن وجهه بكفيه - والله مابي منك شي، أبي بس تسمعني وأسمعك ... أبكي لك وتبكي لي .... يا يعقوب والله أعرف إنك هنا، أعرف إنك تسمعني ... لا تكابر وتكسر نفسك! ... أدري مكسور، وتدري إني مكسور ... - ترتعش شفتاه ببكاء - كلهم راحوا ، ما بقى لك غيري! .. تظن إني بفرط فيك؟ ... لا توجع نفسك أكثر ! ... ابحكيلك عن دفنهم، عن عزاهم، عن أول عيد دونكم، عن وجع موسى، وعن وجع ناصر - يهمس عاضًا شفتيه - ووجع الجوزا! ... - ينزل رأسه لينتحب ببكائه- ابحكيلك عن الموت اللي مرني، عن نخل يوسف اللي احترق بعده! عن إبل نجد اللي صام بعد موته لين لحقه .. عن الرياض بعدك وبعد ذيك الليلة! "

ينتحب ببكائه ساعةً أخرى، حتى ظنّ المارين بأنه فقد عقله .. يرمونه بنظرات الشفقة، يتطوع منهم من يدعوه للمساعدة، لكنه ينهرهم ويبعدهم عن وجعه ..
حتى يهدأ أخيرًا بعد نوبة الجزع والبكاء، يرخي جسده على الباب وهو يتوهم صوت بكاءٍ خلفه .. يكاد يجزم أنه يسمع أنين يعقوب، يقف أخيرًا بتثاقل مستندًا على الباب .. حينما يئس من فتح الباب أخرج قلمًا من جيبه ومنديلًا مصفوفًا بعناية .. خطّ بأصابع مرتجفة عنوان منزله وأسفله رقم جواله مذيلًا بأحرف بسيطة { ياسر العمر - أنتظرك }
يدني جسده للأسفل، يُمرر المنديل من خلال فتحة الباب السفلية، يعتدل واقفًا وينتظر لحظات حتى تنهّد براحة وهو يرى المنديل ينسحب للداخل مما يؤكد له وجود يعقوب خلفه.







في ذات الوقت، خرجا من غرفة صفهما وثرثرتهما لا تتوقف ..
يتوقفان قرب البوابة الخارجية إثر سماعهما صوت الأستاذ ينادي من خلفهم وبيده مجموعة كتب لطلابه، يسلمهما كتابيهما ليلفت انتباهه الاسمان (يوسف ياسر العمر) (نجد ياسر العمر)، يعقد حاجبيه متفحصًا وجهيهما المختلفين: إخوان؟
يهزان رأسهما معًا والسؤال الذي اعتاداه دائمًا يعود من جديد، يُنزل الأستاذ نظارته: مين أكبر انت ولا هو؟
نجد: " بعمر واحد.."
يقاطعه يوسف سريعًا: "لا .. أنا أكبر منه أستاذ "
يعود نجد مقاطعًا بغيض:" بس بيومين!"
الأستاذ وانبهاره يزيد، لا يربطهما أي شبه إطلاقًا:" توأم انتو؟ "
نجد بحماس: "لا استاذ، هو أمه أمي نورة وأنا أمي الجـوز...."
وقبل أن يكمل، يكتم أنفاسه بشدة وهو يشعر بالقدم التي تدوسه بقوة، وما إن أفاق من وجعه حتى اصطدمت عيناه بلهيب حاد من عيني ثامر! ليداهمه وجع أشد .. لم يسمع صوت أستاذهم وهو يضحك ويسلم يوسف الكتابين، يبتلع ريقه بخوف ليقاطع اتصال عينيهما الأستاذ وهو يلتفت ليجد ثامر خلفه، تجحظ عيناه: "وهذا أخوكم بعد؟ "
يهز يوسف رأسه: "أخوي أنا "
يزيد تعجب الأستاذ لكنه يبادر بالمغادرة بعد أن نطق بتهديد:" انتبهوا تطلعون عليه! "
وما أن خطت قدما الأستاذ مبتعدًا، بادراه الإثنان بغضب كبير:" حمار انت؟ .. - شعر بكف ثامر العريضة تضرب رقبته بقوة، كاد يصرخ من الألم لو لا أن ثامر جرهما معًا :" امشوا قدامي أشوف"
يخرجون من مدرسة الأولاد المتوسطة ليصادفوا (نورة) بعباءتها السوداء تقف قريبًا من البوابة، يعقد ثامر حاجبيه بقهر يكتمه :" يمه ليش جيتِ هنا؟ بيشوفونك الرجال! "
تزفر بتعب :" ما دريت إنك بتطلع قبلهم وتمرهم"
يهز رأسه وبهمس :" حتى إن ما مريتهم، يمه خلاص هم رجال!"
يعقد نجد حاجبيه:" صحيح طلعت بدري اليوم ثامر!"
يسير متقدمًا :" اليوم سمحوا لنا نطلع بدري"
يعود صوت يوسف متذمرًا :" يمه نجد اليوم قال اسمك! "
تتسع عينا نجد بصدمة من خيانة يوسف الذي يشي به، وكأن ثامر تذكر توًا .. يلتفت بغضب :" انت لسانك يبي له قص! كل شي تخره قدام الناس! لا وبعد تقول اسم أمي؟ محد علمك علوم المرجلة يالرخمة!"
تهز رأسها بيأس أمهم ولا تعلق، ليعود صوت يوسف شاكيًا :" واحنا طالعين من المدرسة سمعت خالد ينادي (يا ولد نووورة! ) "
يعض شفته نجد وللتو يدرك خطأه، يمضي بقية طريقهم وهو يسمع توبيخ ثامر وشكوى يوسف ونورة لا تنفك تهدئ ثامر وتخوّفه بعمه إن فعل شيئًا ما يندم عليه حتى يصلوا المنزل، يُغلق ثامر الباب خلفهم ليحث خطاه مسرعًا، يسير كثيرًا حتى يصل نهاية زقاق الحي، يزفر بشدة وحرارة الشمس تطبخ رأسه، يعتدل بوقفته أخيرًا وهو يلمح سيارة الفورد القديمة تقترب منه، يتلفت يمينًا ويسارًا بحذر والسيارة تقف على جانب الطريق الموازي، يسير مسرعًا ليدخلها ويغلق الباب ..
تصل إلى مسامعه ضحكة السائق وهو يرى ثامر يتلثم بشماغه :" على هونك.. وش فيك خايف كذا؟"
يزفر بشدة ثامر :" يللا أستاذ بسرعة، مابي أحد يشوفنا! "
تتحرك السيارة أخيرًا ولا زالت ضحكته تهزه :" أستاذ؟! "
يصمت ثامر وهو ينزوي داخل المقعد بمحاولة منه ألا يكشفه أي مار، تقطع السيارة طريقًا طويلًا مملًا .. صمت طويل يتخلله صوت طلال مداح يغنّي عبر مسجل السيارة، يزمّ شفتيه ثامر :" عمي ماعندك غير هالشريط؟ "
يضحك وهو يهز رأسه نفيًا :" لازم تتعود على هالصوت الملائكي الله يرحمه "
تختفي المباني حول الطريق، لا شيء غير أراضٍ جدباء تتخللها بعض المزارع، يرفع معصمه ثامر ليرى الساعة الثانية تمامًا، يدعو بداخله ألا يعود عمه ياسر اليوم، أخبره نجد أن والده منشغلٌ هذه الأيام وقد يتأخر حتى منتصف الليل، وهذا ما يطمئنه.. يلتفت على صوت (الأستاذ) وهو يغني منطربًا :" زمان الصمت .. يا عمر الحزن والشكوى، يا خطوة ما غدت تقوى على الخطوة .. على هم السنين"
يزفر بضيق ليتابع الطريق تتخذ السيارة مخرجًا يودي بهما إلى طريق غير ممهد، تسير باضطراب حتى تختفي خلف أشجارٍ كثيفة، يركن سيارته ليخرجان معًا ..
يدخلان بين نخلٍ ذابل، تساقط سعفه .. حتى يصلان لغرفةٍ طينية متهالكة، يفتح بابها ليقطب حاجبيه ثامر بامتعاض إثر الرطوبة الشديدة التي تغطي الغرفة :" ادخل يا ولدي "
يدخل ثامر ليغلق الأستاذ الباب وبضحكة :" حياك يا ولد عمر، لك الصدر ولنا العتبة "
يهز رأسه مغتاضًا :" أمانة شلون تتنفس هنا"
يتقدم الأستاذ ويتخطاه، ليشغّل المروحة الهوائية خلفه .. يستنشق الهواء الحار باستمتاع :" كذا أتنفس! .. ولا عبدالخالق ما علمكم عملية التنفس؟ .. هاه علمني عشان أسلخه بكرة! "
يضيق به ثامر، يسحب الكرسي القابع أمام مكتب متهالك :" ماعندي وقت، علمني وش أسوي الحين؟ "
يقترب من المكتب ليجلس خلفه، يفتح مجموعة الصناديق أمامه :" يلله بسم الله ..."







تمضي شهور ولا تزال صورة يعقوب تلاحقه أينما كان، كم كان يؤمّل نفسه بأن يجد ولو اتصالًا واحدًا منه .. أو أن يفتح يومًا الباب ليرى يعقوب خلفه، لكن لا أثر جديد له.. ولا حتى في المجمع السكني الذي رآه فيه.
يرسم على شفته ابتسامة صغيرة إثر انفتاح الباب وصوت ناصر المرحب به :" أهلاااااً، يالله انك تحيه .."
يسلّم عليه بحب أخوّي متبادل، يتلفت ناصر قبل أن يغلق الباب :" وين العيال؟"
يتقدم ياسر حتى يدخل الصالة :" والله أم ثامر طلعت مشوار وجلسوا مع يمامة "
يزفر ناصر بضيق :" لو جبتهم كلهم معك - بضحكة - ويذوقون طبخي "
ياسر يأخذ دلة قهوة :" ما تقصر ..."
يجلس أمامه بعد ما أشعل الموقد على الشاي :" وثامر، لي دهر ما شفته .. لو جاء معك اليوم أشوف استعداده للجامعة، مابقى شي وينتهي من المدرسة ويبدا التقديم"
يُبعد الفنجان عنه بضحكة سخرية :" ثامر وجامعة؟ .. نقول زين لو خلّص من هالثانوي "
يلحظ ناصر ضيق ياسر، يعقد كفيه :" وش فيه بعد؟ "
يزفر بضيق، ضيق كبير يجثم على صدره ومصدره الأكبر هو عودة ظهور يعقوب واختفائه مجددًا، المشكلة التي لا يجرؤ أن يذكرها لناصر .. يعللّ ضيقه بثامر، دائمًا ما كان ثامر سببًا للمشاكل، لا ضير أن يصبّ همه عليه :" منيب قادر أسيطر عليه، وأخاف يضيع أكثر وهو وصية أخوي "
يربّت على ركبته بمواساة :" انت مو مقصر، بس لا تشد عليه .. تعرف هو مراهق وهذا عمره، لازم تصبر .. لو يجيني بس، ممكن أفهم عليه "
يهزّ رأسه سريعًا :" ايه انتو الشباب بتفهمون على بعض أكثر "
يقف ناصر :" بشوف للشاي، خذ راحتك .. "
وقبل أن يدخل المطبخ يلتفت بمرح :" بس هاه بعد شوي تجي تقطع البصل معي! "
يكتفي ياسر بابتسامة ضاحكة له، يهبّ واقفًا ليسير في أرجاء المنزل الكبير، تتسع ابتسامته وهو يلمح بين الكتب صورة فوتغرافية قديمة، يُخرجها ليتأمل ملامح نجد المخبأة...
" الشاي جاهز "
يلتفت ليأخذ الشاي عنه، يجلسان متقابلين .. ليزفر ناصر بضيق :" متحلم حلم أسود"
يعقد حاجبيه بانتباه :" اللهم اجعله خير .."
يترك كوبه :" ما أذكر وجه يعقوب، بس بالحلم شخص أسود وثوبه أسود يجيني وياخذ مني نجد ويوسف.. وأظنه يعقوب... - يرفع رأسه - المشكـ...- يفغر فاهه من رؤيته لوجه ياسر الذي خُطف لونه .. يُنزل كوبه لينطق مستدركًا - كله كابوس ياسر! تعوّذً من الشيطان! "
يشعر بأنفاسه تكاد تخرج، هواء حار يخرج من رئتيه .. ترف عينه بوجل، يهمس :" كمّل .."
ناصر بقلق :" كنت واقف معي بالحلم، وأقولك الرجال أخذ عيالك .. بس، كنت واقف وتقول لي هذا يعقوب عادي! "
يتماسك ياسر، يحاول أن يشد على نفسه كي لا يُفتضح أمره .. يزدرق ريقه بعد ما ترك كوبه :" اقرا أذكارك قبل لا تنام، كله من الشيطان ..."
يتنهد ناصر بضيق :" أعوذ بالله منه .. لو أدري وين أراضيه! "
يشتت عينيه، لا يرغب بأن يقرأها ناصر .. يتمنى لو يسكت، لكنه يعاود الحديث بانفعال :" تدري شالقهر ياسر؟ ... كل يوم مضطر أشوف وجه أخوه! كل يوم! - يهز رأسه باستياء- اللي غابني أكثر وأنا أشوفه متلبّس لباس التقوى! "
يزم شفته ياسر، ماذا يقول؟ أيقول له أن موسى فعلًا رجلٌ تقي حتى وإن كنت تكرهه؟ أيخبره بأن موسى كثيرًا ما كان ينصح (نجد) ونجد يستأنس بنصيحة موسى وتوجيهه؟ أن نجد كان يرى فيه القدوة الحسنة؟ أن موسى فعلًا رجل تقي لو لا دم الأخوة الذي أجبره على ما يكره ولا يؤمن به!
يقف ياسر ولا قوة له بإكمال مشهد تمثيلي يكره أن يقوم به، وعلى أحب الناس إلى قلبه من يعدّه أخًا أصغر له :" تأخرت على العيال وهم وحدهم.. أشوفك على خير"
يزفر ناصر من تجاهل ياسر الذي يشعر به، يقف :" طيب تعشى بس! "
ياسر يرفع كفه ليرى الساعة تجاوزت العاشرة :" ما بتركهم وحدهم"
يهز رأسه بضيق"سلم لي عليهم .. "
قبل أن يغادر يلتفت عليه ليهمس :" شيل الماضي من راسك، مضت سنوات ومالقينا فايدة .. "
يهز رأسه بغير اقتناع :" إن شاء الله "


-



يطرق الباب مرارًا لكن لا رد، يزفر بضيق شديد :" يمام، افتحي الباب! "
يلتفت على صوت أخيه :" نجد اتركها، من يومين مو رايقة .. اتركها ومن نفسها بتفتح الباب"
لا يعجبه كلام أخيه، ليعاود من جديد طرق الباب :" يمام إذا ما فتحتِ الباب أنا بفتحه! "
لا يصله غير صوت سقوط الأشياء وتكسرها، ينتابه قلق أشد، ويوسف لا يعيرهما اهتمامًا.. يتوجّه إليه ليجده منكبًا على جهاز الكمبيوتر المكتبي، يزفر بقلق :" اترك خرابيطك وشوف لها! "
يخلع السماعة بضيق :" نجد ما تفهم! قلت لك هي ضايقة .. شوي وتهدا! "
يزم شفتيه بقلة صبر، يعود إلى غرفتها يطرق الباب .. تتسع أحداقه وهو يسمع أنينها :" يمام! "
لا ترد، يتجه سريعًا إلى المستودع الصغير ليأخذ (مطرقة)، يثبتها بين فتحتي الباب :" يمام ترى بكسر الباب"
قبل أن يسمع ردها يهمّ ليحرك قطعة الحديد بقوة وتتناثر قطع خشبية صغيرة ... وهاهو الباب ينفتح أخيرًا
تصطدم عيناه بالفوضى التي تعتري الغرفة، وقبل أن يعي يصله صوتها مزلزلًا :" اطلللع برى! ليش تكسر باب الغرفة؟ مابي أشوف أحد! ما تفهم!"
يمام اليوم ليست يمام التي يعرفها، نعم هي مدللة وكثيرًا.. لكن لم تكن بهذا القدر، يقترب منها على مضض :" يمام شفيك؟ علميني تكفين"
تهز رأسها نفيًا وهي تعود بعجلات كرسيها إلى الخلف، وبانهيار باكٍ :" مابي شي! أبيك بس تطلع ... "
تزيد خطواته اقترابًا، حتى التصقت أصابع قدميه بعجلتها .. يرفع كفه محاولًا تهدئتها، وما أن حطت على كتفها انهارت ببكاء حارق وهي تشد على رسغه بكفها وتُخبئ عينيها في ذراعه .. هاله منظرها، أوجع قلبه، جلس على سريرها ليحتويها ويطبطب على ظهرها :" بسم الله عليك يمام، هدّي .. هدّي يا عيني"
بكت بشدة على كتفه، نفثت وجعها فيه .. لتهدأ أخيرًا، شعر بها تبتعد عنه وهي تلم شعرها الخفيف عن وجهها .. زمّ شفتيه قبل أن ينطق وهو يشير لخزانة ملابسها المتناثرة :" تبين شي من فوق ولا وصلتيه، صح؟ "
يتغير وجهها، تكاد تعاود البكاء .. لكنها تستعيد نفسها لتهز رأسها إيجابًا :" ايه، بس نورة إذا جات بتجيبه لي"
يقف ليهز رأسه باستياء :" الحين تبكين من أول وزعلانة لهالسبب؟ طيب أنا موجود، ويوسف موجود.. مافي مشكلة تطلبين منّا "
تبتلع ريقها وتنزل رأسها :" لا نورة تعرف مكانه"
يقف أمام الخزانة بإصرار :" وش تبين؟ "
تهز رأسها سريعًا والخجل يتسلل لملامحها :" خلاص قلت لك مو لازم، نورة إن جات طلبته منها"
يتأمل احمرار وجنتيها، ليُدرك أنه شأن خاص.. لكن لن يغادر حتى يلبّي طلبها، يعلم تمامًا أنه أقرب إليها من يوسف على أن الآخر هو ابن أختها.. بإصرار يعاود :" يمام شتبين بالضبط؟ عادي أنا نجد مو أحد غريب!"
تتردد قبل أن تجيب بعدما شجعها بعينيه :" الكيس ... الأزرق"
يبتسم لها موضحًا بساطة الأمر، يصعد على عتبة الخزانة ليفتح الدرج العِلوي ويسحب الكيس الأزرق .. تتسع بؤرة عينيه وطرف ما بداخله يظهر، يتوتر .. يتعثر لكن سرعان ما يُوازن نفسه ويقف بخطىً متوترة، يُنزل رأسه للأسفل ولا يضع عينيه عليها، تأخذ الكيس منه بسرعة وتخبأه بحضنها، تخطو خطاه لخارج الغرفة ليصله صوتها ضئيلًا خجولًا :" شكرًا نجد "
يقف لوهلة لا يعلم ماذا يجيب، ليعود صوتها مجددًا :" قفل الباب وراك"
يستوعب أخيرًا الخطأ الذي فعله، يُمسك قبضة الباب ويخرج وهو يحاول شدّها حتى رُد الباب .. يتنفّس الصعداء، يجلس على أقرب مقعد له.. يستوعب ما حصل، تنتابه خيبة كييرة .. ينزوي على نفسه محاولًا عدم التصديق، يمام لم تعد طفلة! .. تلك الصغيرة التي ما فتأ يلعب معها ويعيّن نفسه مدرسًا ومعلمًا لها كبرت، لا يعلم ما السبب الذي جعله يظن أنها لن تكبر أبدًا! ألأنها (مُقعدة)؟ أم لأنها كانت دائمًا طفلة بنظر الجميع!
دفن رأسه بين كفيه بضيق شديد وهو يتصور الأمر الذي سيحصل، نعم ستتحجب عنه، لن يجلس معها كثيرًا .. سيفارق أيامه معها، وسيبكي كثيرًا.
يقف بسرعة على صوت الباب، وماهي إلا ثوانٍ حتى ظهر ثامر برفقة أمه نورة التي تعاتبه على غيابه المتكرر، زم شفته وهو يذكر الباب الذي كسره.. وكأن أفكاره وصلت إليهم، وها هو ثامر يتقدم أمه ليعقد حاجبيه ويُمسك بقبضة الباب :" وش صار عليه؟ "
ترتفع أنظار نورة إليه بتساؤل، ليمرر كفه على شعره بتورط .. وقبل أن يجيب يصلهم صوت يوسف واقفًا عند باب غرفته المشتركة مع ثامر :" ظنينا الباب تقفل على يمام وكسرناه"
يتنهد براحة كبيرة من إجابة أخيه، لتتوجه نورة مسرعة إلى يمام.. وثامر يهز رأسه بهدوء ليتجه هو الآخر إلى الغرفة التي تضمه هو ويوسف، وبصوتٍ مرتفع:" بكرة بصلحه يمه "
يخرج الآخر ليقترب من نجد ويهمس :" اوف الحمدلله مشت على ثامر!"
يتنفس الصعداء نجد :" كان ذبحني، تدري به يدور الزلة"
يصلهم صوت يمام من خلف باب غرفتها غاضبًا :" كان صحيتيني وقلتِ انك رايحة! "
نورة بضيق وصوت ضئيل :" نسيت والله! "
يتحشرج صوتها :" يعني تدرين اني مو قادرة أقضي أبسط أموري وتروحين كذا! "
يهز رأسه يوسف بضيق :" يمام ما أعرف وش فيها هاليومين! "
ينزل رأسه نجد بأسى لحالها، يصلهم صوت طرق الباب .. يقفز نجد مسرعًا :" أكيد أبوي"
يتبعه يوسف ، يرى والده أمام الباب ليتقدم ويقبّل كفه وقبل أن يُغلق الباب يصله صوت أبيه :" تعال نام عندنا اليوم، بكرة خميس "
يرفع رأسه بتردد، يصله صوت نجد متحمسًا :" ايه تكفى تعال، من زمان ما نمت"
يزفر بشدة ليخطو خارج المنزل، يُغلق الباب خلفه.. الظلام يغطي معظم الحي، يسير على يمين والده .. يشعر بكف والده تتسلل لتُمسك بكفه، ونجد لا يتوقف لسانه عن الثرثرة، يسرد لأبيه تفاصيل يومه.. على عكسه هو الذي يغطيه الهدوء، لا يعلم كيف لنجد أن يتمتّع بهذا القرب الشديد من أبيه وكأنه صديقًا له وليس أبًا، لا يُمكن لأحد أن ينكر قرب نجد الشديد من والده.. وكذلك قُرب ثامر من أمه، يُدرك تمامًا أن (نجد) هو الابن المفضّل لأبيه، و(ثامر) هو الابن الأقرب لأمه رغم ما يسببه لها من متاعب، أما هو .. في المنتصف، كان مجرد خطأ يعلم تمامًا أنه خطأ غير مرغوب، أمه التي تزوجت بشقيق زوجها بعد ما فارق الحياة .. لتُبقي ابنها (ثامر) بجانب عائلته وعمه، ليكون هو ثمرة هذا الزواج الذي لا يبدو وكأنه زواج! أما نجد هو ابن الحبيبة، ابن الزوجة التي لا يستطيع ياسر أن يُخفي حبّه وعشقه لها. . تمامًا كثامر بالنسبة لأمه، هو ابن الحبيب والزوج الأول والأخير في قلبها.
يترك أبوه كفه ليفتح باب المنزل الذي لا يبعد سوى بضع خطوات عن منزلهم، يتوجهان لغرفتهما.. غرفة مشتركة رغم قلة تواجد يوسف فيها، يجافيه النوم .. وهو الذي يواجه صعوبات في النوم إن غيّر مكانه في غرفته في منزلهم .. فكيف بغرفة أخرى لا يزورها إلا بضع مرات في الشهر! .. يهمس بأرق :" نجد؟ "
يزفر بشدة وهو يدرك أن أخاه غارق في نومه، ليهزّ جسده بضيق لساعات طويلة علّ النوم يرحمه .. سكَن فجأة وهو يسمع صوت باب يفتح، لا بد أن الفجر اقترب ووالده استيقظ ليصلي وتره.. يتظاهر بالنوم عندما شعر بباب غرفتيهما يُفتح، يسمع وقع خطوات والده.. وها هو يشعر به يجلس على سريره، دفء كبير غمره على وقع كف والده التي امتدت لجبينه، يمسح عليه وهو يتمتم بدعاءٍ خافت .. شعر بشفتي والده تقترب وتطبع على رأسه قبلة صغيرة :" الله لا يوجعني فيك ولا منك "
ابتسامة دافئة ارتسمت على وجهه رغمًا عنه، يكاد يشعر بوالده يفعل بأخيه نجد مثل ما فعل معه ..
قبلة والده هذه جعلته يرفرف بقية يومه، في الصباح أخبر أخاه نجد بفرحة غامرة .. ليُفاجأ بضحكة نجد الذي يخبره بأن هذه عادة والده كل ليلة .. انتابه حزن شديد على كل ليلة نام فيها بعيدًا عنه، حزن بعدد الأيام والمسافات الفاصلة بينهما..



-



في ثانوية الطلاب، يجلس في غرفة المرسم بملل كبير .. يخرج ليتوجه لمكتبه الآخر، ليمارس مهنته الأخرى كإداري بالإضافة لكونه مدرس الرسم لجميع المراحل الدراسية، تجمّدت قدماه قبل أن يعتّب الباب وهو يرى (ياسر) يجلس مقابلًا لزميله .. يزدرق ريقه ليصله صوت الآخر بابتسامة واسعة: خالد .. الله جابك، شوف مين مشرفنا اليوم.
تتجه أنظاره لياسر الذي وقف بابتسامة واسعة، سلّم عليه بترحيب حار .. ليجلس الأستاذ خالد في مكتبه: أنورت وأسفرت يابو بوسف.
يبتسم ياسر: الله يرفع قدرك.
يلتفت إلى زميله الذي نطق بابتسامة: الله يا الدنيا، نجد ويوسف كبروا وبيدخلون الثانوي!
يزفر براحة بداخله حينما أدرك سبب وجود ياسر: اي والله الدنيا تمشي
يتابع زميله: أذكر اليوم اللي جبت فيه ثامر وكأنه أمس.
يلعن زميله بداخله والعرق يتصبب منه ليُشغل نفسه بأوراقه وهو يسمع صوت ياسر الذي نطق بخجل : إلا شلونه ثامر معكم؟ أدري متعبكم من أربع سنين بس عاد اصبروا شوي وتنتهي السنة.
يتسع بؤبؤ عيني الأستاذ الآخر لينطق: ثامر منسحب من الدراسة!
يشعر وكأنه تعرض لصفعة حارة على وجهه لينطق : وشو ؟ شلون؟ أنا ولي أمره!
يقف غير مستوعب ليتابع الآخر وصدمته لا تقلّ عن ياسر: والله يا بو يوسف من بداية السنة سحب ملفه بموافقة خطية منك!
يفتح أزاير ثوبه غير مستوعب، ثامر لن يهدأ حتى يسبب له جلطة تقتله.. يزمّ شفتيه ويتمالك نفسه ليقف سريعًا: عن إذنكم
يغادر ليُبعد الأستاذ خالد الأوراق عن وجهه، وزميله يقف بذهول: شلون مو عارف!
يهز أكتافه بلا مبالاة ويُشغل نفسه بملفات الطلاب أمامه : الله العالم!
يجلس الآخر بضيق شديد: ما توقعت منه هالإهمال، ولد أخوه اليتيم ولا يدري عنه شي.
يقف خالد ليخرج من الغرفة وهو يحوقل ويتظاهر بالأسى، يتوجّه سريعًا ليفكر بحلٍّ سريع.
يعد الثواني ثانية ثانية حتى انتهى الدوام أخيرًا، يقفز سريعًا لسيارته القديمة، يسير بها في أرجاء الحي، لا أثر لثامر .. إما أن يكون وقع بين يدي عمه أو يتسكّع في الزقاق ..
يتوقف أمام مقهى شعبي قديم، المكان المفضل لثامر.. ومثل ما توقع وجد ضالته هناك، يُدخن سيجارة وأمامه كوب شاي مع مجموعة شبان متسكعين :" ثامر! "
يتوقف سريعًا ثامر ليرمي سيجارته: "هلا أستاذ خالد"
يهز رأسه بضيق ليشير إليه بكفه مناديًا : "تعال"
يدفع بضعة ريالات ليخرج إلى أستاذه ويتبعه إلى سيارته، يشعر بقلقه لكن لا يتحدث.. يسير به مسرعًا إلى مكانهم المعتاد.. وما أن يدخلان يبادر ثامر : صاير شي؟ "
يرفع رأسه ليمسح جبينه المتعرق: "عمك ياسر اليوم كان في المدرسة"
تتسع بؤرة عينه بخوف ليتابع الأستاذ: "جاي يتابع نقل اخوانك"
وقبل أن يتم حديثه يقاطعه ثامر بغضب:" مو اخواني! "
تذوب الكلمات في فمه، يُدرك تمامًا حساسية ثامر اتجاه هذه الكلمة.. يهز رأسه: "أقصد عياله"
لا ينطق ثامر والضيق جليًا عليه، يتابع أستاذه:" وسأل عنك! "
يغطي وجهه بكفيه: "اوف! شهالورطة.. يعني يوم قربت تنتهي السنة يعرف"
يزفر أستاذه: "هو عرف وانتهينا، الحين وش بتقول له؟ "
ثامر ببرود اعتراه فجأة:" بقوله أنا فشلت بالدراسة وانت أصريت أرجع أعيدها .. تحمّل نتيجة اصرارك، أنا مو ولدك تتحكم فيني! "
يعود بكرسيه للخلف، ليكتف يديه: "ثامر أنا أدري بكل شي، لكن لا تنسى هذا عمك.. أخو أبوك اللي تحبه، ولا تنسى هو اللي رباك"
ينوي أن يعترض لكن يرفع خالد يديه طالبًا منه السماع: "قدرك عندي عالي، ولا أرضى منك هالشي"
يبتلع غضبه وهو يهز رجليه بغضب، يصله صوت أستاذه: "اتفقنا؟ "
يهز رأسه على مضض، ليقف خالد ويتبعه: "بوصلك الحين، أكيد ينتظرك"
وما أن وصلا لحدود حيهم يترجّل ثامر من السيارة ليسير على قدميه وهو يراقب السيارات المركونة، يطمئن قلبه وهو لا يرى سيارة عمه .. يفتح الباب بهدوء ليغلقه خلفه وما أن لامست قدمه العتبة الأولى يتجمّد على الصوت من خلفه :" انتظر! "
يبتلع ريقه، ليأخذ شهيقًا يشجّع به نفسه ويلتّف على الجالس بطرف الفناء الخارجي.. يعقد حاجبيه متظاهرًا بالبرود :" هلا ..."
يمسح ياسر جبينه المبلل بالعرق ليقف محاولًا كبح غضبه :" وين كنت؟ "
يصمت قليلًا قبل أن يجيب :" اممممم، بالشارع! "
يرتفع حاجب ياسر بقلة صبر من رده :" ايوه، والصبح وين كنت؟ "
يتأفأف بضيق :" عمي أنا بمحضر تحقيق ولا وش؟ "
ينفتح الباب الداخلي في هذه الأثناء، لتظهر نورة بحجابها الكامل.. لتهمس بعتب :" ثامر احترم عمك"
يرفع ياسر كفه لها دون أن ينظر إليها:" نورة أنا بتكلم معه اتركينا وحدنا"
لا تتزحزح عن مكانها، ليتابع ياسر بهدوء شديد يتملكه ويخفي الغضب الكبير بداخله :" اليوم الصبح كنت بالمدرسة ...وأظنك تعرف السيناريو اللي حصل"
يجلس ببرود على عتبة الدرج:" لا ما أعرف .. نورني"
يفقد أعصابه ياسر، يقترب منه بشدة :" ثامر لا تجنني! "
يقف بمواجهته ثامر وهو يصده بكفيه :" عفوًا انت شايف نفسك مين؟ للبيت حرمته وأمي ماعاد هي حلال لك عشان تدخل وتطلع متى ما تبي! "
تشهق أمه بصدمة :" ثاااامر! "
يرجع للخلف ثامر وهو يصعد العتبات حتى يقترب من أمه وعينه لا تتزحزح عن وجه عمه المنصدم :" مثل ما سمعت ... ولا ودك الجيران يسمعونا؟ "
تهتز عينا ياسر بصدمة وخذلان من كلام ابن شقيقه، اليتيم الذي ضمّه في صغره.. يُدرك أنه فشل في مهمته، ينوي أن ينطق .. لكن يُقاطع رغبته صوت طرق الباب، تتجه أنظارهم له، لتعض شفتها نورة وهي تتخيل أن صوت ابنها وعمه وصل للجيران وتتوارى خلف الباب.
يزفر ياسر بشدة، قد يكون الطارق مرسولًا من السماء ليهدئ غضبه.. يتمالك أعصابه ليتوجه للباب ويفتحه، تنعقد حاجباه إثر رؤيته للطارق :" يا هلا خالد! .. حياك الله"
ترتسم ابتسامة واسعة على شفتي خالد :" الله يحييك ابو يوسف، لا يكون بس جاي بوقت غلط!"
يزم شفته ويتظاهر بالترحيب الشديد وهو يفتح الباب أكثر :" لا أبد، حياك الله .. أعز من ينورنا"
تخطو خطى خالد للداخل وهو يفتّش بعينيه عن مراده، حتى حطّت على ثامر المندهش.. :" السلام عليكم ثامر، ولا ما ودك تجي تسلم على أستاذك!"
يتحرك ثامر بعد ما كان متجمدًا ويتقدم إليه مسرعًا وهو يرحب به ويسلّم عليه، يدخلون المجلس الخارجي لينطق ياسر :" ثامر يابوي رح قلهم يجهزون الشاي والقهوة"
يبتعد ثامر ليلتف خالد على ياسر بخجل مصطنع :" والله يابو يوسف أبيك تعذرني، جيت بدون لا آخذ الإذن "
يهز رأسه نفيًا بسرعة :" لا الله يسامحك، لا عاد تقوله.. انت غالي وجيتك أغلى"
يزفر خالد :" ما كلمتك لأني ما توقعتك تكون موجود، كانت النية جلسة سريعة مع ثامر "
يلمح انكسار عيني ياسر على ذكر اسم ثامر، ليطبطب على ركبته :" ثامر مثل ولدي، عاشرته 12 سنة متواصلة.. من كان طفل وأنا أعرف له، وانت تعرف إنه كان يقدّرني .. لهالسبب أقولك خلّه بوجهي"
يرفع رأسه ياسر على كلمته الأخيرة، ليشد عليه خالد:" اللي ما تعرفه ان ثامر كان يشوفني مثل أبوه، وكان يشكي لي كل شي بصغره"
تلين نبرة ياسر لينطق بانكسار :" ايه يشكي لك شكثر أنا عم غير صالح! "
يهز رأسه نفيًا :" الله يسامحك ياسر، ثامر يعزّك.. لكن يحتاج من يفهمه"
يزفر بشدة ليُرجع ظهره للخلف :" أنا ما زعلت منه لأنه انسحب من الدراسة بدون ما يقول لي، أنا يا خالد خايف عليه من هالدنيا ومن هالشوارع.. يعني سنة كاملة يطلع الصبح ولا يرجع إلا الظهر واحنا نحسبه بالمدرسة! وفوق هذا ما ينتظر إلا ساعتين ويرجع يطلع وأقول الولد ضايق خلقه من المدرسة بيطلع يوسع صدره مع العيال بالكورة ولا غيرها .. وأنصدم إن كل هالوقت كذبة؟ ... والله لو انه يوسف يهون، بس هو أمانة! .. والأمانة تهدّ الروح يا خالد، أدري اني مقصّر معه، بس هو ماعاد يترك لي مجال، مقفل كل الأبواب بوجهي"
حزنه الشديد على ابن شقيقه حجب عنه رؤية ما توارى خلف عيني خالد، ليعتدل بجلسته وينطق :" طيب يا بو يوسف أنا طالبك تخليه يبقى عندي اليوم، وأوعدك أسمع له وأعدّله"
ترتفع عيناه بتردد، خالد ابن الحي .. وأستاذ يعرفه جميع أولاد الحي وآبائهم منذ ما يقارب اثنا عشر عامًا، علاوةً على أن ثامر الطفل المشاغب والمراهق الطائش لم يكن يستمع لأحد سوى (الأستاذ خالد!) حتى أنه يقدّم كلامه على كلام عمّه .. يشدّ عليه خالد بإصرار :" ثامر هو ولدي اللي مارزقني الله به، يقلقني طيشه مثل ما يقلقك، تطمّن يا ياسر"
على كلمته الأخيرة يدخل ثامر حاملًا القهوة والتمر.. يرمي نظره على أستاذه بقلق ليومئ له الآخر بعينيه ليطمئن، يصب القهوة على صوت عمه المستسلم وهو يقف ليشير له بعينيه وهو يقول :" المجلس مجلسك خالد، خذ راحتك... "
يخرج معه ثامر لباحة المنزل ليبادر ياسر بعتب :" عن إذنك، بس أبي أمك بكلمة "
لا يجيب ثامر، يكتفي بدخوله داخل المنزل وماهي إلا ثوانٍ حتى يعود وبصوت جامد :" ادخل"
يدخل ياسر شبرًا واحدًا لعتبة الباب ونورة تقف على رأس المدخل بينما ثامر يخرج بعدما ترك الباب مفتوحًا ليتوجه سريعًا إلى المجلس :" وش جابك الله يهديك؟ "
يغمز له خالد بضحكة :" هذا بدال ما تقولي شكرًا لأنك انقذتني من الجلد؟"
يزم شفتيه باعتراض :" ما يقدر يجلدني"
يعتدل خالد بجلسته :" لوني مكانه كان جلدتك! بس ياسر قلبه رهيّف"
يزفر بضيق شديد :" ماعلينا منه، بس قولي ليش جاي!"
خالد بضحكة:" جاي على أساس أكلمك وأعقّلك.. وأبشّرك قلت له باخذك معي البيت"
تتسع حدقتا عينيه مع اتساع ابتسامة شفتيه :" صدق؟"
يهز رأسه إيجابًا :" اي والله .. - يصمت ليهمس- هذا هو جاء"
يعتدل ثامر بجلسته على دخول عمه الذي نطق :" خلاص خالد، سوي اللي تشوفه"






داخل المنزل، يجلسان متقابلين تفصلهما طاولة صغيرة عليها كتاب ودفتر.. ترفع رأسها بعد ما انتهت من حلّ المسألة :" شوف كذا صح؟"
لا يرد عليها، وكأنه لم يسمعها وأنظاره تتجه لخارج الغرفة .. ترفع كفها لتضرب خده :" هيه نجد! "
يفز على لمستها :" هلا هلا معك "
تترك القلم على الطاولة :" واضح "
يزفر بضيق شديد :" ودي أعرف وش جالس يصير برى"
يصله صوت المستلقي على الأرض وبيده جهاز المسجل الصغير :" ثامر كالعادة"
يلتفت على يوسف وبرجاء :" قوم ياخي شوف وش صاير"
ترجع بكرسيها للخلف :" أنا بشوف"
تخرج من الغرفة لينطق نجد بضيق :" يوسف شهالبرود؟ "
لا يلقي له بالًا وهو يضع السماعات في أذنيه، يزفر بضيق نجد لينتظر حتى تعود أخيرًا يمامة :" أبوك ينتظرك برى"
يقف سريعًا:" يوسف شوف حل يمامة إذا صح أو لا ... - يلتفت عليها بابتسامة - أشوفك بكرة، مع السلامة"
تبادله الابتسامة وتتبعه حتى يصل إلى أبيه، يبادر سريعًا :" وين ثامر؟ "
ياسر وكأن جبال من الهم تهوي على صدره، يزفر :" راح مع أستاذ خالد، وبيرجع بكرة"
تتسع عيناه بضيق :" أستاذ خالد كان هنا ولا علمتونا نسلم عليه؟!"
يطبطب على رأسه ياسر وهو يفتح الباب يقصد الخروج :" جاي مستعجل وراح"
يخرجان وقبل أن يغلقَ الباب، يشعر بالكف التي أمسكت بالباب تمنعه من إغلاقه :" يبه .."
يلتف ليجد يوسف خلفه، يعقد حاجبيه ليبادر يوسف بخجل ممزوج بضيق :" آسف على اللي قاله ثامر"
تلين ملامح ياسر ليبتسم بحنو :" لا يبه ما صار شي، هو ولدي ومقامه من مقامك انت ونجد ولا يطاوعني قلبي أزعل منكم"
ينزل رأسه بوسف ليعود صوت أبيه :" يلله ييه قفل الباب ورانا، وروح اجلس مع أمك وداري خاطرها"
يهز رأسه يوسف ليغلق الباب، يسيران معًا ممسكًا بكف ابنه نجد.. يزفر بحرارة لتخرج كلماته أشد حرارة :" نجد يبوي أنا ظلمت ثامر؟ "
يعقد حاجبيه نجد ليهمس :" لا .. حاشاك"
يرفع رأسه بضيق :" الولد دايمًا يشوف أبوه على حق"
يشد على كفه نجد بقلق :" يبه انت طول عمرك تعامل ثامر مثلي ومثل يوسف، بس هو الله يهداه ...."
يقاطعه ياسر :" اليتيم يبه، اليتيم يبقى طول عمره وجع بقلب عمه"
تلين ملامح نجد :" الله يبعد الوجع عنك، لو فيني أشيل هالهم من قلبك"
ينزل رأسه لتظهر له ملامح ابنه الموجوعة لوجعه، يبتسم بحنو ليسير به بقية الطريق، وما أن وقفا أمام المنزل .. أخرج ياسر مفاتيحه، فتح الباب ليُدخل نجد أولًا ويلحقه.. وقبل أن يُغلق الباب شعر بالظل الذي امتد من خلف ظلام الحارة ليتسلل إلى جسده، رفع رأسه عاقدًا حاجبيه من زائرٍ بوقتٍ غير مناسب، ليفغر فاهه باندهاش، أنفاسه تسارعت وتضارب قلبه وهو يرى النحيل الملثم.. اهتزت شفتيه برعشة، ليتقدم الملثم بخطى غير واثقة، أدركته أنفاسه ياسر ليهمس :" يعقوب؟ "
لم يصله صوت، فقط عينان ارتعشتا وضباب الدمع يغطيها، كان التردد جليًا عليه، وأكثر كان يغطيه الضعف وقلة الحيلة وكأنه يبحث عن ملاذ أو جواب .. تراجع ياسر للخلف فاتحًا الباب أكثر وبدون تصديق لما يراه همس :" ادخل يعقوب .. ادخل"
خطّت قدماه أولى خطواتها للمنزل المتواضع، ليُدرك أن لا مجال للهرب أكثر .. أغلق الباب ياسر بسرعة وكأنه يخشى أن يهرب، ليلتف إليه ويزم شفتيه مانعًا دموعه :" أبطيت يا يعقوب! فقدت الأمل والله! "
يُنزل رأسه والدمع يغطيه، لا يُسعفه صوته.. ليُفاجأ بذراع ياسر التي جذبته إليه بقوة وآوته إلى كتفه.. انهار باكيًا بصمت وجسده يرتعش وهو يشد على رفيق صباه، لم يبكي حزنه وفقده وقلة حيلته أكثر من بكائه لإدراكه أن كل ما كان يحتاج إليه هو هذا الكتف الأخوي، شدّه بقوة وأنينه يخرج بطول المسافات التي قطعته عن الإحساس بالحياة، عن الإحساس بأنه هو، بأنه يعقوب الذي ابتلع نفسه ونساها..
بكى ياسر كثيرًا كل البكاء الذي كان يخبأه لستة عشر عامًا، بكى السنين التي خُذل فيها ولم يجد أحدًا يأويه .. ريح يعقوب كانت محملةً بريح يوسف، بريح نجد، بريح الحياة الراحلة، لم يكن فقط يعقوب.. كانت حيوات كاملة مختزنة بين كتفيه.
ابتعد ياسر قليلًا ليُمسك اللثام عن وجهه ويزيحه، لانت ملامحه بحزنٍ أكبر وهو يرى الملامح التي اعتاد أن تكون مشرقة، ذابلة.. هي ليست ملامح يعقوب أو يوسف، هي ملامح جثة هامدة، لو لا صوت ابنه نجد لظّن أنه جُن أو أن يوسف قرّر في هذه الليلة أن يغادر قبره ويزوره!
بتعجب وخوف كبير :" يُبــه؟ "
شعر بوجود نجد ليبتعد مسرعًا عن يعقوب ورعشة مزلزلة أصابته وهو يستوعب وجود نجد همس بحشرجة صوته :" نجد يبوي ادخل داخل ونم"
عقد حاجبيه بعدم راحة، ليباغته صوت أبيه آمرًا :" نجد احكي لك بعدين كل شي، روح غرفتك"
بتردد كبير تراجع للخلف، حاول أن يحفظ الملامح التي شعر بأنها جزءٌ من أبيه .. ليدخل الباب الرئيسي ويتركه مفتوحًا، وما أن دخل غرفته فتح نافذته ليراقب عن كثب المدخل الخارجي بقلق وخوف على والده.
تراجع ياسر للخلف ليعود ليعقوب الذي تجمّد بمكانه وهمس بجزع:" نجد؟ "
لم يُدرك الخطأ الفادح الذي ارتكبه إلا وهو يرى الخوف الذي تملّك يعقوب إثر سماعه للاسم!، اقترب منه ليُمسك بكفه ويسير به إلى المجلس الخارجي.
ملامح يعقوب الذابلة ازدادت ذبولًا أكثر عند سماع الاسم، بشفتين ترتجف :" اسمه نجد؟ "
شتت أنظاره عن صاحبه وهو يهز رأسه، شعر بيعقوب يتضاءل أكثر وبكاءٌ حارق بلله وبرعشة المستنجد وصل صوته ضئيلًا :" بكل الزوايا أشوفه! .. كل شي بهالمكان ينادي باسمه .. تعبت يا ياسر! "
شدّ على كتفه ياسر بحزنٍ وقلق :" انت وين كانت أراضيك؟ تعرف إنا حفرنا الأرض وكل مكان واحنا ندورك؟ "
ترتفع أنظاره بريبة وخوف يلازمانه :" انتو؟ انتو مين؟ "
ثبّت أنظاره عليه بلومٍ ممزوج بخوف: "الكل يعقوب! لا تظن إنهم نسوك ونسوا اللي صار، هذا دم يا يعقوب! "
ارتعش بخوف ليشد على ركبته ياسر :" انت عندي بأمان، لا تظن خويّك يغدر بك.. بس، أبي شي يشفع لمقامك ولأخوتك بقلبي! احكي .. برر لي يا يعقوب، خل هالسواد اللي سببته يروح!، أنا ماعاد أعرف أصدق مين وأسمع لمين! كلكم بليلة وحدة رحتوا وبقت الأسئلة عن اللي صار تقتلني.. أبي أسمع من لسانك عن اللي صار بعد ما تركتكم"
على أنّ الماضي يقتله، إلا أنه بحاجة ماسة للحديث، لاستفراغ الحزن والملامة عن قلبه.. لم يقطع كل هذه المسافات ليبقى صامتًا ويعود كما كان بألمه.. :" اللي عرفته بذاك الصبح إن الله يحبك يا ياسر! .. مدري وش الخبيئة اللي بينك وبين الله شفعت لك لتكون بعيد عنّا بذاك اليوم.. - أنزل رأسه وضمّه بين كفيه ليسرد ما حصل وكأنه يوم أمس بغصة تُخفي الحياة بصوته - يوسف ونجد .. مثل ما تركتهم ورحت بيتك كانوا يصيدون بخيلهم.. ودّعتني وبقيت وحدي، كنت أكره الصيد وتعرف هالشي يا ياسر .. - زفر زفرة حارة- ليت الله خذاني قبل لا أمسك السلاح.. ليت الله ألهمني وأجبرت يوسف يروح أي مكان إلا إنه يروح يصيد .. مشيت ناوي ألحق يوسف ونجد، وان كانك تذكر يوسف كان يبي يعلمني الصيد بذاك اليوم قبل لا أرجع .. كان صوت الرصاص يهزني بكل دقيقة، لين ....- بحّ صوته ببكاء ضعيف، شعر بذراع ياسر التي احتوته .. حاول إكمال حديثه لكن بكاءه منعه، لم يمنع نفسه.. استمرّ بالبكاء حتى اختلط صوت بكائه بصوت عبرات ياسر، رفع رأسه بانهيار - شفت يوسف يا ياسر يطيح من حصانه، شفت دمه غرّق التربة تحته.. يوسف يا ياسر! يوسف توأمي والوحيد اللي حلفت بروحي أفديه، كان يوسف وحده اللي يؤمن بي .. يشد على يدي كثر ما ارتكبت من أخطاء.. - بانكسار تابع- شفت اللي صاوبه، كان قدّامي ويبعد عني أمتار.. فقدت عقلي يا ياسر .. أنا حتى ما أذكر وش سويت، ما وعيت إلا ونجد طايح جنب يوسف ورصاصتي هي اللي أردته! ... ما كنت أدري إنه نجد والله! ... - بضياع هز رأسه- حتى لو دريت إنه نجد أنا ما أدري وش كنت بسوي، يوسف لو يصيبه شي تنعمي عيوني.. لو هو موسى اللي يضر يوسف تنعمي عيوني.. - رفع رأسه باحثًا عن دعم- تلومني ياسر؟ هذا يوسف والله .. يوسف اللي للحين أعشّم نفسي يجي يوم ويفتح بابي- زمّ شفته ليُمسك بشماغه- هذا شماغ يوسف، فجر اللي صار فرشه لنصلي أنا وياه ونجد الفجر عليها .. تدري يا ياسر إني للحين أشم ريحته فيها؟ - قرّبه من وجه ياسر ليؤكد - تشمها؟
ياسر كان غارقًا بدموعه والألم يتجدد إثر سماعه للقصة لأول مرة.. هزّ رأسه باستياء من حالة يعقوب، تابع يعقوب :" الشباب اللي كانوا حولنا سحبوا يوسف ونجد من بين يديني، ما كنت أسمع .. ولا كنت واعي، سحبوهم وسحبوني معهم وركبونا سيارة.. كنت أنادي على يوسف وعلى نجد، بس .... قدر يوسف كان أسرع من صوتي.. حاولت أغطي مكان الجرح بس دمه غطاني .. أما نجد ... نجد قدر يمسك يدي.. - ارتعشت شفتاه بألم- ما أسعفه عمره إلا إنه يقول (أختي يا يعقوب لا تضيمها) ويرددها..
تجمّدت أطراف ياسر، انقطع نفسه وضربات قلبه تزيد.. ليرفع رأسه يعقوب بقلة حيلة: "كنت أدري إنها بتنضام عندي... - يصمت للحظة ويتابع - تعرف أخبارها؟ "







في ذات الحي، لكن بمسافة بعيدة .. في بيت صغير، يخرج من السيارة بحرج، ليتقدمه خالد وهو يفتح باب المنزل :" ادخل حياك"
يزيد حرجه، لينطق وهو يمرر أصابعه على شعره :" عمي لو توصلني للمزرعة، أريح لك ولا أضايقكم"
يرفع رأسه خالد ممثلًا المفاجأة :" الله شهالأدب! من ذا؟ ذا ثامر اللي أعرفه؟ "
يزفر بضيق ولا يعلّق وهو يسند جسده على السيارة، ليضحك خالد وهو يسحبه للداخل :" لا تشيل هم، أستاذك وحيد .. مثلك تمامًا"
يشعر بالطمأنينة تتسلل له، ليدخل .. يعاوده الحرج وهو يرى الفوضى التي تعمّ المنزل الصغير، يلحق أستاذه ليدخلان متجاوزين الباحة الصغيرة.
ينطق خالد وهو يتجه لإحدى الغرف :" خذ راحتك .. - يلتفت عليه بضحكة قبل أن يغلق الباب- تعرف على البيت، ولو تبي قوم سوي لنا العشا .. الظاهر دايمًا بتكون ضيفي "
يبتسم وشعور بالغرابة يراوده، أستاذه خالد يكبره بخمسة عشر عامًا، لكنه يشعر به وكأنه نسخة منه .. وكأنه هو في المستقبل، غير أن روح خالد كثيرة المرح، عكسه تمامًا .. يسير ببطء حتى يتعرف على المطبخ، يدخله بتردد .. لتداهمه الفوضى العارمة فيه، مطبخ خالٍ من الدولاب، لا يحتوي إلا على موقدٍ أرضي ومغسلة صدئة، والكثير الكثير من الأكياس والبلاستيك الموزعة في كل مكان .. لا يعلم ما يفعل، يقف ليحمل الأكياس ويحاول ترتيب بعض الفوضى، هو لا يجيد الترتيب لكن صورة مطبخ منزلهم تتراءى له لتجبره على ترتيب المكان .. يأخذ أحد الأكياس ليلتقط كرتون البيتزا ويضعه فيه، علب المشروبات الغازية الفارغة .. يزفر بضيق لا يبدو على أستاذه خالد كل هذه الفوضى!
فجأة .. شعر بأن رأسه قُسم إلى نصفين، كهرباء شديدة الألم تسري به، ليصرخ بتلقائية ممسكًا برأسه :"آآآآآخ! "
يغمض عينيه بشدة متألمًا، ليصله صوت يزيد من ألم رأسه :" رغـــد! "
صوتٌ حاد غير مألوف :" حرااامي الحق الحق "
شوشرة ما تحدث خلفه، لا تسعفه أذنه للسماع، وها هي ذي ذراع أستاذه تمتد له لتمسك رأسه بخوف متفحصًا وجود آثار أي دماء.. :" ثامر معي! "
يغمض عينيه بشدة ويفتحها هازًا رأسه :" ايه معك معك"
يزفر خالد بشدة ليلتفت للخلف :" روحي لغرفتك الحين! "
يعتدل ثامر بجلسته ليلمح طيف جسد يمر سريعًا ويدخل إحدى الغرف، تصله زفرة خالد :" مافي كسر منّا ولا منّا"
يتنهد كاتمًا ألمه ليُبدد الإحراج عن أستاذه :" لا ما صار شي "
يرفع خالد عصًا غليظة ويلوّح بها أمامه :" كل ذي براسك ولا صار شي! - يبتسم كعادته وهو يرمي العصا بعيدًا- الحين وش بيقول عنّا ياسر؟ "
يضحك ثامر بخفة :" تلقاها حوبته"
يقف خالد ويمد يده لثامر ليقف معه وهو يضحك، يجلس على فرشة أرضية تتوسط الصالة .. ليقف خالد ويتجه للمطبخ :" ايه الظاهر من حسن حظك أنا اللي بجهز لك العشاء"
يبتسم ثامر وعيناه تجول في أرجاء البيت المتواضع، لا يعلم ما سبب الحميمية التي يشعر بها تغلّف جدران البيت على بساطته، تسقط عيناه على الجدار المواجه للمطبخ، ملطخٌ بالألوان .. رسومات عشوائية، تشي بالكثير .. يكاد يميز رسومات أستاذه خالد عن رسم عبثي آخر، كيف لا يميزه وهو الذي أمسك بكفه صغيرًا ليلوّن معه أول لوحة؟ كان على عكس معظم الطلاب .. يستميت شوقًا لحصة الفنية التي يتململ منها الجميع، كان في أول سنين فقده لوالده، وكان خالد شاب صغير متحمس للعطاء .. رأى في انعكاس عيني خالد والده، نبرة صوت والده التي نساها كان يشعر بأنها نبرة أستاذه، حتى عندما يزوره والده في المنام، يتشكل على الهيئة التي يحفظها لكن صوته كان صوت أستاذه خالد.
يقف بتلقائية مشدودًا للوحة فنية مرسومة لجسدٍ صغير مضرحٌ بدمائه يتوسّد جسدًا أكبر، جسدٌ وكأنه السماء، سماء لوّنت باللون الأسود والأبيض والأخضر وعلى يسارها مثلث أحمر، نعم يذكر تلك اللوحة الكبيرة التي شارك في تلوينها، قبل ما يقارب الأربع سنوات .. حينما وقفت جميع المدارس وقفة روحية، خصصت مدرستهم ذلك اليوم لمحمد الدرة وللانتفاضة الفلسطينية، يتأمل الطفل الفلسطيني الذي طُبعت صورته بذاكرة كل طفل وكل كبير .. كل ما استطاع أستاذه أن يقدمه في ذلك اليوم لأرض الشهداء هو هذه اللوحة البديعة، لروح محمد الدرة ولأرواح الشهداء الأبطال.
" ايه وين وصلت؟ "
يلتفت على أستاذه، ليبتسم ويحمل عنه طبق الفاصولياء وقطع الخبز :" عنك أستاذ"
يضعها على الأرض ويجلس، يرفع رأسه مستنكرًا وقوف أستاذه، ليرى ملامح خالد التي تشي بالاستغراب .. يعقد حاجبيه بقلق، لتنطلق ضحكة من خالد وهو يتجه له :" اي والله ما عرفتك اليوم ثامر! "
يجلس أمامه دون أن يعلق ثامر، يأكل لقمتين ليقف وكأنه تذكر شيئًا :" الله يلعن الشيطان، شلون نسيت" يقف مسرعًا وهو يحمل قطعة خبز من الكيس، يتجه للمطبخ ليأخذ صحنًا آخر يحمل القليل من الفاصولياء، يفتح باب أحد الغرف ويغلقه خلفه، يصل لمسامع ثامر ذات الصوت الحاد يتناوش مع أستاذه خالد.. وأخيرًا يخرج خالد وهو ينفث، ليجلس أمام ثامر :" كل لا تستحي"
يتقاسم مع أستاذه قطعة الخبز، تتراءى له صورة عمه ياسر وهو يقطع الخبز ثلاثة أجزاء .. يضعه أمام كل واحد منهم، يستنكر نجد الثرثار وهو يرى أن الخبز كثير فلا داعي لتقسيم الواحدة بينهم، يخبره ياسر أن هذه العادة ورثها من أمه و أخيه الراحل، حتى وإن كان الطعام زائدًا لا ينفك ياسر عن عادته هذه في تقطيع الخبزة الواحدة بينهم ويعود ليقطع المزيد دون بخل.
يشعر باستغراب أستاذه من حركته والخبز الموجود يكفيهما ويزيد، يبتسم :" هذي عادة عمي ياسر .. عودنا عليها"
تزيد ابتسامة خالد :" ايه الحين أذكر محاسن عمك، يوم فقدته"
يود أن ينطق أنه لا يكره عمه ياسر، ولكن غيضه كبير عليه وغيرته أشد كونه كان زوجًا لأمه وازداد الأمر سوءًا بعدما طلقها، لكن صوت صرير الباب يخرسه وهو يراه يُفتح وتخرج منه فتاة صغيرة يخمّن أنها بعمر يمام .، شعرها قصير لا يكاد يغطي رقبتها .. تحمل قطعة الخبز والغيظ ظاهرًا عليها، لا تنطق، تكتفي بالجلوس بينهما وتضع الخبزة فوق خبزة خالد بلا مبالاة وتبدأ بالأكل..
يتجمد بمكانه وهو لا يعرف كيف يتصرف، لكن لا يعلم ماسبب الضحكة التي تكاد تنفجر من بين شفتيه، يزم شفتيه ليمنعها.. يرفع رأسه لأستاذه الذي يبحلق بالفتاة الصغيرة وهي تأكل وباستنكار :" ماااااشاء الله! "
تضع الفاصولياء في الخبزة لتأكل بلا مبالاة، وببرود شديد :" أباكل معكم"
تزيد دهشة خالد ليكتف يديه وهو يثبت أنظاره عليها ينتظر مغادرتها :" ايوه؟ "
لا تبالي، بل ترفع رأسها لتشير على إبريق الشاي :" أبي شاي"
يشعر بإحراج شديد، ينوي الوقوف ومغادرة المكان قبل أن تنفلت منه ضحكة في غير موضعها .. ليصله صوتها الحاد وهي ترفع نظرها له:" وين؟ باقي ما أكلت شي! "
وكأن صوتها هذا كان الدبوس الذي فجّر نافورة من الضحك، لم يستطع تمالك نفسه ليدخل في نوبة ضحكٍ شديدة، لا يعلم سببها .. بسبب غرابة الموقف؟ أو دخولها المفاجئ؟ أو لصوتها الغريب؟
تتوقف عن مضغ اللقمة بسبب ضحكته، ترفع رأسها له باستنكار .. تلتفت على صوت خالد الذي بدى ضاحكًا لضحكة ثامر :" ايه يا رغد، مين قدك؟ سمعتينا ضحكة ثامر! "
يخرج من الصالة بسرعة واللقمة تقف في منتصف حلقه بسبب الضحكة، يصله صوت خالد بعيدًا :" الحمام على يمينك"
يتجه للمغسلة ويسعل بشدة، يغسل وجهه وهو يتكئ عليها .. وما أن رفع وجهه حتى ظهر له وجه خالد على انعكاس المرآه أمامه.. يلتفت لينطق :" اعذرني والله.. ما حسيت بنفسي"
يتنهد خالد بقوة ليبتسم ببطء :" لا ولا تعتذر"
يتنحنح، ليتابع بالفكرة التي راودته :" أستاذ خالد ما ودي أضايقكم، ونفسي هدت .. برجع بيتنا"
تتغير ملامح خالد، لأول مرة يرى البؤس فيها .. ملامحه الضاحكة والمرحة سقطت ليظهر له الوجه الآخر، وجه لا يشبهه، مليء بالتعب والسوء.. يتكئ خالد على الجدار لينطق بهمس :" انت أول شخص أسمح له يطّلع على حياتي.. مافي شي أقدر أخبيه أكثر"
تنعقد حاجبا ثامر باهتمام ليعتدل خالد بوقفته يُمسك بكتفه ليجره معه للباحة الخارجية الصغيرة.. يُجلسه على بساط أرضي رقيق ويعود للداخل مجددًا، دقيقة حتى يرجع محملًا بفراشين وبعض الوسائد.. يقف ثامر ليساعده بترتيبها، يتمدد أخيرًا خالد والسماء السوداء لحافه .. يبدأ يسرد عليه، وثامر مدهوش بما يسمع.. يرق قلبه، ينسى نفسه .. وينسى همومه الصغيرة التي بصق على تفاهتها، حتى شعر بصوت أستاذه يغيب .. ويبدو أن النوم سرقه، يتنهد بقوة.. يُعيد كل الكلام الذي سمعه، ليفارقه النوم.
يقف ويسحب اللحاف الخفيف ليغطي أستاذه به، يتأمل ملامحه عن كثب .. لمَ يشعر بأنه يراها لأول مرة؟ الحزن يرتسم عليها ويشكل خطوط جبينه .. يبدو أكبر من عمره، يُقارن بينه وبين عمه .. على أن عمه لا يكبر خالد إلا بثلاثة أعوام إلا أن خالد يبدو كبيرًا جدًا وكأن ابن الخامسة والثلاثين تجاوز الأربعين.
يعود إلى فراشه، يحاول النوم لكن لا يستطيع .. يقف ويلبي نداء الطبيعة، يدخل للداخل متذكرًا دورة المياه القريبة، يقضي ما بنفسه ليخرج ويتجه للمغاسل..
" انت اسمك ثامر؟ "
يلتفت بسرعة وخوف من صوتها، ذات الفتاة الغريبة تقف على مقربة .. وابتسامة واسعة تشق طريقها، تشبه لخالد حتى في ابتسامتها المرحة! ، من كانت تثير ضحكه قبل قليل تثير حزنه وشفقته الآن، يبتسم بحنو :" ايه ثامر .. روحي ادخلي ونامي"
تتقلب ملامحها :" اسمك خايس! "
تتسع عيناه، ليشير لنفسه :" أنا اسمي خايس؟ "
تهز رأسها تأكيدًا :" ايه .. "
يقترب منها، يعبث بشعرها القصير الناعم .. قصيرة لا تكاد تصل إلى وسط بطنه، تتراءى له صورة خالته يمام، ماذا لو كانت سليمة؟ كيف سيكون طولها؟ لا بد أنها أطول من القزمة أمامه .. :" خلاص روحي نامي"
يتركها خلفه وهو يسمع صوت حلطمتها وغضبها، تبدو متلهفة للحديث مع أي كائن.. يعود للبساط الخفيف، بجلس عليه، يتأمل ما حوله .. لحظة سكون نادرًا ما يشعر بها، يستلقي .. وما أن داهمه النوم حتى قفز على صوت جواله النوكيا القديم، يعقد حاجبيه ليسحبه وحركة أستاذه توتره .. يقف ويمشي بعيدًا، رقم منزل عمه يضيء الشاشة، يزفر بضيق .. متى يفهم عمه أنه لم يعد صغيرًا؟ متى سيصدق أن ثامر الصغير على عتبات العشرين؟ لا يفصله عنها سوى يضعة أسابيع ..
ينوي عدم الرد، ينقطع الاتصال لتظهر له رسالة من رقم عمه (أبوي تعبان .. تعال بسرعة)، يعقد حاجبيه، غادر وعمه بخير .. مالذي حدث؟ هل هي خطة من يوسف أو نجد ليعود؟
وقت الفجر اقترب، ولا يود إزعاج أستاذه.. يمشي بهدوء ليعود للداخل، يرى رغد مستلقية أمام التلفاز بتململ، يهمس :" أنا بروح .. لو صحى خالك قولي له عم ثامر تعبان"
لا يتوقف لسماع ردها، يمشي مسرعًا ليخرج بهدوء .. يسير مشيًا حتى يصل إلى منزل عمه مع تردد الأذان في الأرجاء، يطرق الباب ليفتح يوسف بسرعة، يعقد حاجبيه :" وش صار؟ "
يزفر يوسف بضيق :" مدري، نجد يقول تعب فجأة ولا يعرف وش فيه"
يدخل للداخل إلى غرفة عمه، يراه مضطجعًا على السرير وآثار دم تغطي أنفه .. ونجد يجلس بجواره ممسكًا بكفه والخوف يغطيه، يقترب ليجلس على الجهة الأخرى، لا يعلم ماذا يفعل .. تنتقل عيونه إلى نجد:" وش صار؟"
نجد يزيد من شده لكف والده، يزم شفتيه متذكرًا ما حصل، ضيف غريب، انعزال والده مع الضيف لوقت طويل.. حتى سماعه لصوت ارتطام باب المجلس، يتذكر الهيئة التي خرج بها الضيف، كان التوتر جليًا عليه .. مرتبكًا وغادر متعثرًا وكأن السكرة تغطيه، قلق نجد على والده الذي لم يظهر جعله يقفز إلى المجلس، ليصطدم برؤية والده يتكئ على الجدار بقلة حيلة ودموعه تغطيه .. لم تمضي سوى لحظات حتى نزف أنفه بشدة، ساعده على الوصول لغرفته والقلق يأكله مما حصل، ليشد عليه والده ويردد (لا تقول لأحد، لا تحكي وش شفت، هالشي بيني وبينك نجد، سر أبوك احفظه) حتى فقد وعيه. . يعود صوت تحذير والده له، لينطق أخيرًا :" كان بمكتبه، رحت أتفقده لقيته تعبان وجالس على الأرض وخشمه ينزف وحرارته مرتفعة"
يزفر بضيق ثامر وخبرته الحياتية لا تتجاوز الشوارع والسكاكين وعصابات الأحياء الصغيرة، ماذا يفعل؟ لينطق بسرعة وكأنه تذكر :" عطني رقم خالك "
نجد وكأنه تذكر وجود خاله، سحب جوال أبيه ليتصل بخاله سريعًا .. لم تمضي سوى أقل من عشرين دقيقة وها هو ناصر بينهم يحمل ياسر مع ثامر.
تشخيص سريع في غرفة الطوارئ، ضغط دم مرتفع .. إجراءات سريعة، وها هو يستعيد وعيه مجددًا ..
يواجهه ناصر بقلق :" وش صار؟ وش فيك بسم الله؟ "
يعقد حاجبيه متذكرًا ما حصل، لينطق بثقل :" نجد ويوسف، وينهم؟ "
يصله صوت محبب لقلبه :" يبه احنا هنا"
يلتفت ليستقبل نظرات نجد القلقة وكفه لا تفارق كف والده، تدور نظراته في الغرفة ليزفر براحة وهو يرى يوسف يقف بجانب مؤخرة السرير ونظراته تشي بالخوف الذي بداخله .. يصله صوت خجول :" الحمدلله على السلامة عمي "
تسري بجسده الطمأنينة وهو يرى ثامر بجانب أخيه يوسف ممسكًا بكتفه، يهز رأسه إيجابًا ليريح جسده .. يقف ناصر ليأمرهم بمغادرة المكان وترك والدهم يستريح وينام، يبتعد الجميع .. لينطق نجد قبل أن ينصاع لأمر خاله :" يبه تبي شي؟ محتاج شي؟ "
يعقد حاجبيه ياسر، يشد على كفه بقوة :" اللي صار ما يطلع لأحد يا نجد"
يشعر بالحرارة تسير بجسده وبخوف أشد :" يبه انت بالأول قولي وش صار وأوعدك ما يطلع لأحد! "
يزفر ياسر :" ما صار شي .. المهم ما تعلم أحد باللي جانا أمس، حتى يوسف لا تعلمه"
يهز رأسه إيجابًا ليتابع والده بتحذير :" ولا يمامة ولا ثامر ولا حتى خالك! "
يعاود هز رأسه وهو يطبطب على كف والده :" تطمن يبه"
يعود صوته أشد تحذيرًا:" ولا حتى نفسك"
يتابع هز رأسه :" ولا حتى نفـ...- يعقد حاجبيه مستنكرًا قبل أن يتابع كلمته"
ليهز رأسه ياسر :" ايه .. حتى نفسك، انسى اللي صار واعتبر أمس انتهى من طلعنا من بيت خالتك نورة.. لو تحبني نجد اعتبر ما صار شي"
يزيد قلقه، تمنّى لو لحق بسيارة الضيف أمس حتى يعرف مكانه ويوسعه ضربًا على ما تسببه لأبيه .. يقاطع خلوتهم دخول ناصر :" نجد يلله تعال، اترك أبوك يرتاح"
يهز رأسه سريعًا، يقبّل جبين والده .. يهمس :" الله لا يوجعني فيك"
ويخرج مسرعًا، يعود صوته العذب لأبيه (الله لا يوجعني فيك) تداهمه غصة، ابنه يقتص دعاؤه ولا يكمل بقيته (ولا يوجعني منك) وكأنه يستبعد أن يتسبب والده بالوجع له، يضم شفتيه ليهمس بدوره :" الله لا يوجعني فيكم، ولا يوجعني منكم"




•*

لي ولك
نجمتان وبرجان في شرفات الفلك
ولنا مطر واحد
كلما بلل ناصيتي بللك
سادران على الرمس نبكي
ونندب شمسًا تهاوت
وبدرًا هلك
وكلانا تغشته حمى الرمال
فلم يدري أي رياح تلقى
وأي طريق سلك


- سيد البيد







Laila1405 and عقل like this.

لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 30-08-18, 04:42 PM   #9

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته

كيف حالك إن شاء الله دائما بخير ؟


غاليتي

بهذا الفصل اتضحت أمور

مثلا الزوجة نورة أو بالأحرى الزوجة السابقة اتضح أنها أرملة خ ياسر

وإن ناصر هو أخ الراحل نجد

وأن يعقوب توأم الراحل يوسف

يبدو أن نجد قتل يوسف بالخطأ وكذلك فعل يعقوب من غير قصد قتل نجد لقتله ليوسف حسب رواية يعقوب لكن هل هو صدق أم كاذب ؟؟....

نجد أوصى يعقوب على شقيقته فهل هي جوزاء أم أخرى ؟؟

وجوزاء ليس لها ظهور فعلي حتى الآن سوى أنها كانت تكتب رسائل عشق لـ ياسر وياسر يهيم بها عشقاً....

ثم ياسر تزوج نورة وطلقها لأن الإثنان ليس بينهما أي عاطفة....

بينما نجد الأبن عندما يتكلم عن أمه نورة يتكلم عنها بعاطفة شديدة أكثر من أمه جوزاء فهل جوزاء على قيد الحياة أم واراها الثرى ؟؟

شيء آخر لو كانت هي غير موجودة فلماذا يطلق ياسر نورة ؟؟


أيضا ظهور شخصية خالد

خالد هل هو الملاك الحارس أم هو الشيطان الوسواس الخناس ؟؟

ظروفه توحي بالتواضع لكن نظراته لياسر مريبة

أشك أنه هو من زور الموافقة الخطية لثامر حتى يترك المدرسة

ثم من هي البنت الصغيرة هل هي ابنته أم ابنة أخ أو أخت له أو حتى يمكن تكون أخته الصغيرة من زوجة أب ؟؟

وما العمل الذي يدرب ثامر عليه هل هي أعمال إرهاب ؟؟

ولماذا ثامر يقول عن نجد و يوسف ليسوا اخواني ؟؟ فإذا كان نجد فقط ابن عمه فيوسف الإبن هو أخيه الغير شقيق لأنه من أمه.....

ألهذه الدرجة يصل الحقد ؟؟

أشياء وأشياء كثيرة تدور في خلدي وتحتج لأجوبة صحيح أن أشياء قد اتضحت لكن أشياء أخرى قد تعقدت....

لهذا ننتظر البارت القادم بكل حب وشوق...

بالتوفيق لك دمت بود عزيزتي....

Laila1405 and عقل like this.

لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 31-08-18, 05:22 PM   #10

أميرة الوفاء

مشرفة منتدى الصور وpuzzle star ومُحيي عبق روايتي الأصيل ولؤلؤة بحر الورق وحارسة سراديب الحكايات وراوي القلوب وفراشة الروايات المنقولةونجم خباياجنون المطر

 
الصورة الرمزية أميرة الوفاء

? العضوٌ??? » 393922
?  التسِجيلٌ » Feb 2017
? مشَارَ?اتْي » 11,306
?  نُقآطِيْ » أميرة الوفاء has a reputation beyond reputeأميرة الوفاء has a reputation beyond reputeأميرة الوفاء has a reputation beyond reputeأميرة الوفاء has a reputation beyond reputeأميرة الوفاء has a reputation beyond reputeأميرة الوفاء has a reputation beyond reputeأميرة الوفاء has a reputation beyond reputeأميرة الوفاء has a reputation beyond reputeأميرة الوفاء has a reputation beyond reputeأميرة الوفاء has a reputation beyond reputeأميرة الوفاء has a reputation beyond repute
افتراضي


بـــــارت راااائــــع

اتضحت فيه بعض الأمور
ومازال الغموض يكتنف بعضها ..

حسب كلام يعقوب
فنجد قتل يوسف من دون قصد ..
ويعقوب قتل نجد بعد أن فقد عقله
بسبب المنظر اللي شافه ..
توأمه مضرج بالدماء ..
وناصر يريد أن يثأر لأخيه (نجد)
من قاتله (يعقوب) ..
لهذا يعقوب متخفي كل تلك السنين ..



خالد أمره محير يتعامل
مع ثامر بمنتهى اللطف
والأخير يبادله باحترام
فعلا كأستاذ وتلميذه ..
لكن توتره ونظراته تبعث على القلق ..
والمكان اللي اخده له مريب ،
أي شغل ذاك يريد منه أن يقوم به
في تلك الغرفة الطينية المتهالكة
ومكتب وصناديق ...!!! ..
ويوم شاف ياسر في مكتبه بالمدرسة
وتوتره ذاك كأنه كان خايف
من كشف ياسر للأمر اللي بينه وثامر
وما ارتاح إلا لما عرف سبب زيارة ياسر ..
هل هو وراء ترك ثامر للمدرسة
هو من أقنعه بذلك وشغله معه
ذاك الشغل اللي ما ندري ما هو ..
أم فعلا يريد أن ينقذه من الضياع
ويخرج ثامر رسام متألق في سماء الابداع ..!

" يكاد يميز رسومات أستاذه خالد عن رسم عبثي آخر، كيف لا يميزه وهو الذي أمسك بكفه صغيرًا ليلوّن معه أول لوحة؟ كان على عكس معظم الطلاب .. يستميت شوقًا لحصة الفنية التي يتململ منها الجميع "




"أنا بروح .. لو صحى (خالك) قولي له عم ثامر تعبان"x

يعني رغد بنت أخت خالد ..
لم هي مقيمة لديه ..
أين والديها وأهله هو ..
حزنه وهو يحكي مع ثامر له علاقة بهم
ممكن يكون فقدهم أم ماذا ..؟




بانتظـــااار القــــااادم

موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .



..

لامارا and Laila1405 like this.

أميرة الوفاء غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:31 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.