آخر 10 مشاركات
استسلمي لي(164)للكاتبة:Angela Bissell (ج1من سلسلة فينسينتي)كاملة+رابط (الكاتـب : Gege86 - )           »          وكأنها رملة..! (59) -قلوب نوفيلا- للآخاذة: eman nassar [مميزة] *كاملة &الروابط* (الكاتـب : eman nassar - )           »          الزوج المنسي (10) للكاتبة: Helen Bianchin *كاملة+روابط* (الكاتـب : raan - )           »          [تحميل] تائهون إلى أن يشاء الله ، للكاتبة/ رررمد " مميزة " ( Pdf ـ docx) (الكاتـب : فيتامين سي - )           »          213 - لم أعد طفلة - بيني جوردان (الكاتـب : PEPOO - )           »          شيء من الندم ..* متميزه و مكتملة * (الكاتـب : هند صابر - )           »          4-عاصفة في عينيه-ليليان بيك-كنوز أحلام (حصرياً) (الكاتـب : Just Faith - )           »          56 - الندم - آن هامبسون - ع.ق (الكاتـب : pink moon - )           »          رحلة امل *مميزة*,*مكتملة* (الكاتـب : maroska - )           »          هل يصفح القلب؟-قلوب شرقية(33)-[حصرياً]للكاتبة:: Asma Ahmed(كاملة)*مميزة* (الكاتـب : Asmaa Ahmad - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > مـنـتـدى قـلــوب أحـــلام > منتدى قلوب أحلام شرقية

Like Tree6Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 07-12-19, 02:58 AM   #1181

ليناريان
 
الصورة الرمزية ليناريان

? العضوٌ??? » 393159
?  التسِجيلٌ » Feb 2017
? مشَارَ?اتْي » 564
?  نُقآطِيْ » ليناريان has a reputation beyond reputeليناريان has a reputation beyond reputeليناريان has a reputation beyond reputeليناريان has a reputation beyond reputeليناريان has a reputation beyond reputeليناريان has a reputation beyond reputeليناريان has a reputation beyond reputeليناريان has a reputation beyond reputeليناريان has a reputation beyond reputeليناريان has a reputation beyond reputeليناريان has a reputation beyond repute
افتراضي


وصلت نهاية الفصل ١٣ واجاني انهيااااااار زيييين 💔💔💔😭😭😭😭



ليناريان غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 07-12-19, 03:12 AM   #1182

riyami

? العضوٌ??? » 298758
?  التسِجيلٌ » Jun 2013
? مشَارَ?اتْي » 956
?  نُقآطِيْ » riyami has a reputation beyond reputeriyami has a reputation beyond reputeriyami has a reputation beyond reputeriyami has a reputation beyond reputeriyami has a reputation beyond reputeriyami has a reputation beyond reputeriyami has a reputation beyond reputeriyami has a reputation beyond reputeriyami has a reputation beyond reputeriyami has a reputation beyond reputeriyami has a reputation beyond repute
افتراضي

Chapeau للفصل روعه:he eeh:

riyami غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 07-12-19, 08:59 AM   #1183

Nahla Mahmoud

? العضوٌ??? » 433498
?  التسِجيلٌ » Oct 2018
? مشَارَ?اتْي » 41
?  نُقآطِيْ » Nahla Mahmoud is on a distinguished road
افتراضي

اخيررررراً كل يوم انتظرها بفارغ الصبر
الابداع و التميز و الروعه
كلي شوق للمتابعه


Nahla Mahmoud غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 07-12-19, 12:36 PM   #1184

Maryam Tamim

مصممة في قسم وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية Maryam Tamim

? العضوٌ??? » 435378
?  التسِجيلٌ » Nov 2018
? مشَارَ?اتْي » 2,733
?  مُ?إني » بغداد
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Iraq
?  نُقآطِيْ » Maryam Tamim has a reputation beyond reputeMaryam Tamim has a reputation beyond reputeMaryam Tamim has a reputation beyond reputeMaryam Tamim has a reputation beyond reputeMaryam Tamim has a reputation beyond reputeMaryam Tamim has a reputation beyond reputeMaryam Tamim has a reputation beyond reputeMaryam Tamim has a reputation beyond reputeMaryam Tamim has a reputation beyond reputeMaryam Tamim has a reputation beyond reputeMaryam Tamim has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   freez
¬» قناتك nicklodeon
?? ??? ~
لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العلي العظيم
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

تسلم ايدك يا ست الكل الفصل روعة والقفلة دمار شامل
رغم اني كنت واخذه موقف من ناصر من ساعة ماساب نشوى في الفرح لكن نهايته خنقتنني وحزنت عليه جدا جدا
سها مش عارفة اقول ايه عليها
حضرتك كاتبة رائعة ومتمكنه جدا ربنا يزيدك


Maryam Tamim غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 08-12-19, 05:38 PM   #1185

ليناريان
 
الصورة الرمزية ليناريان

? العضوٌ??? » 393159
?  التسِجيلٌ » Feb 2017
? مشَارَ?اتْي » 564
?  نُقآطِيْ » ليناريان has a reputation beyond reputeليناريان has a reputation beyond reputeليناريان has a reputation beyond reputeليناريان has a reputation beyond reputeليناريان has a reputation beyond reputeليناريان has a reputation beyond reputeليناريان has a reputation beyond reputeليناريان has a reputation beyond reputeليناريان has a reputation beyond reputeليناريان has a reputation beyond reputeليناريان has a reputation beyond repute
افتراضي

"ثمر" لم يكن مجرد اسم ..بل حصاد !
حصاد تقوى وإيمان وتورع ..ورجاء ممن لا يخيب راجيه !
يا الله ما أجمل هالجملتين... وما أجمل ما تكتبيه.... رائعة انت يا نرمين.... أحداث جميلة ودروس وعبر وعمق واحداث وجمال... كلها روعة اشكرك من كل قلبي ♥️♥️
وصلت الفصل ١٥🏃‍♀️


ليناريان غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 12-12-19, 10:35 PM   #1186

Tamaa

? العضوٌ??? » 407831
?  التسِجيلٌ » Sep 2017
? مشَارَ?اتْي » 155
?  نُقآطِيْ » Tamaa is on a distinguished road
افتراضي

بانتظار الفصل وكلي شوق

Tamaa غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 12-12-19, 11:18 PM   #1187

Maryam Tamim

مصممة في قسم وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية Maryam Tamim

? العضوٌ??? » 435378
?  التسِجيلٌ » Nov 2018
? مشَارَ?اتْي » 2,733
?  مُ?إني » بغداد
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Iraq
?  نُقآطِيْ » Maryam Tamim has a reputation beyond reputeMaryam Tamim has a reputation beyond reputeMaryam Tamim has a reputation beyond reputeMaryam Tamim has a reputation beyond reputeMaryam Tamim has a reputation beyond reputeMaryam Tamim has a reputation beyond reputeMaryam Tamim has a reputation beyond reputeMaryam Tamim has a reputation beyond reputeMaryam Tamim has a reputation beyond reputeMaryam Tamim has a reputation beyond reputeMaryam Tamim has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   freez
¬» قناتك nicklodeon
?? ??? ~
لا إله إلا الله وحده لا شريكَ له، له الملك، وله الحمد، وهو على كل شيءٍ قدير، سبحان الله، والحمد لله، ولا إله إلا الله، والله أكبر، ولا حولَ ولا قوةَ إلا بالله العلي العظيم
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

تسجيل حضورررر
بإنتظار عرس الززززززين


Maryam Tamim غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 12-12-19, 11:36 PM   #1188

داليا انور
 
الصورة الرمزية داليا انور

? العضوٌ??? » 368081
?  التسِجيلٌ » Mar 2016
? مشَارَ?اتْي » 1,195
?  نُقآطِيْ » داليا انور is on a distinguished road
افتراضي

تسجيل حضوررررررر

داليا انور غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 13-12-19, 01:26 AM   #1189

نرمين نحمدالله

كاتبة في منتدى قلوب أحلام وفي قصص من وحي الاعضاء ، ملهمة كلاكيت ثاني مرة


? العضوٌ??? » 365929
?  التسِجيلٌ » Feb 2016
? مشَارَ?اتْي » 2,008
?  نُقآطِيْ » نرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond repute
افتراضي

القطعة الثالثة والثلاثون
(الأخيرة)
=======
_ولادنا يا سها ..ولادنا ..ولادنا ..

الكلمات الأخيرة تدوي في أذنيها وهي تركض مع عابد في ظلمة هذه الصحراء لا يميزان وجهة لقدميهما ..
يبحثان بعينيهما عن أي مساعدة لكن صوت الفراغ هو وحده يجيب ..
قلبها يبدو وكأنه قد توقف عن العمل ..
عقلها كذلك قد توقف عن الإدراك ..
كأنها استحالت منذ لحظة الانفجار لآلة جامدة لا يعنيها سوى هدف واحد ..
المدرسة ..الأطفال!

_آه!
صرخة عابد جوارها تخترقها فتتوقف مكانها لاهثة لتجده قد سقط أرضاٌ وقد تعثر في صخرة ..

_قدمي التوت ..لا حول ولا قوة إلا بالله !
يهتف بها لاهثاٌ وهو يحاول النهوض من جديد لكنه يعود ليسقط مكانه هاتفاً بألم :
_لن أستطيع السير عليها ..قضي الأمر .

يقولها بنبرة ملتاعة وهو يتلفت حوله بعجز ليطلق صرخة أخرى ..
صرخة تضرع هذه المرة وهو يرفع عينيه للسماء بهتافه المستغيث :
_يارب لا تريني يوماً كيوم أبي ..يارب أنت لهم بالمرصاد ..يارب وعدك الذي وعدتنا ..انصر جندنا واحفظ ضعيفنا واشف صدور قوم مؤمنين .

دعاؤه يختلط ببكائه في مشهد مهيب زاده شعوره بالعجز وهو يستعيد تلك اللحظة التي علم فيها عن مقتل والده في ذاك الحادث البشع ..
فيرتعد قلبه بذعر وهو يتخيل حجم الكارثة لو نال المجرمون من المدرسة !
لهذا يصرخ بها هي برجاء أخيراً أن تستمر في طريقها لطلب أي نجدة قريبة ..

بينما تقف هي مكانها ذاهلة مشتتة -بالكاد- تراه وتسمعه ..
وكيف تفعل؟!
صورة ناصر تقف حائلة بين أهدابها وحدقتيها ..
صوته يدوي من جديد كالرعد وسط ظلمة روحها ..

_اعملي اللي تقدري عليه ..ولادنا يا سها ..ولادنا ..

تشعر بقدميها تعدوان من جديد دون إرادة منها ودون تفكير ..
البرد ينخر في عظامها وملابسها الممزقة لا تمنحها أي دعم هاهنا ..
لكنها تشعر ببرد من نوع آخر جمد الدماء في عروقها فلن تعود بعده لدفئها أبداٌ ..
ألمٌ حقيقي في صدرها يبدأ في الظهور مع تلاحق أنفاسها اللاهثة وهي تشعر أنها ستفقد وعيها تعباٌ في أي لحظة ..
لكنها تجاهد بكل ما أوتيت من قوة وهي تجر المزيد من خطواتها ..
لا تدري أي طريق تسلك ..ولا لأين تتجه ..
كل ما حولها متشابه ..
كله ظلام أسود !!

تشهق شهقة عالية وقدماها تخونانها أخيرا لتسقط أرضاٌ فتصرخ صرخة خافتة وهي تدرك ألا مفر من الاستسلام ..
ماذا يمكنها أن تفعل ؟!
فلتمت هنا ..مثله !!

الخاطر الأخير يجعلها تصرخ صرخة عالية تفجرت شظاياها في روحها ودموعها تتفجر فجأة لينتفض معها جسدها ببكائه ..
لكنها يهيأ إليها أنها تسمع صوته من جديد ..

_مفيش وقت يا سها ..قومي ..ولادنا ..ولادنا ..

فتتدفق الدماء في عروقها هادرة ولا تدري كيف انتصبت واقفة من جديد تجر خطواتها اللاهثة نحو مجهول لا تعرفه ..لكنها توقن من ضرورة أن تواصل ..

ضوء كشافي سيارة يقترب من بعيد فيبدو لها وسط هذه الظلمة الكئيبة كعيني وحش ضارٍ ..
تعدو وتعدو ملوحة بذراعيها قبل أن تزيغ عيناها وتشعر بالأرض تحتها تهتز ..
تسقط مكانها من جديد إنما وعيها كذلك يتهاوى معها هذه المرة ..

_واحدة ست ..شكلها أغمى عليها ..هدومها مقطعة ومجروحة في كذا مكان ..شكلها اتصابت في الانفجار ..ننقلها ع المستشفى ..

بالكاد تميز هذه الكلمات وما بقي من وعيها يتسرب منها ..
لكنها تدرك أن لا مجال لهذه الرفاهية ..
لهذا تجاهد نفسها لتفتح عينيها بصعوبة تهمس بصوت متحشرج :
_تليفون ..بسرعة ..

_اشربي لك بق مية بس يا بنتي وبعدها ..

_تليفووون ..

تصرخ بها بإعياء فيحوقل الرجل وهو يناولها هاتفه لتتصل بالرقم الساخن الذي أعطاها إياه ناصر ..ولم تكد تبلغ بما تعلمه حتى شهقت شهقة خافتة لتستسلم تماماً لغيبوبتها هذه المرة ..
======
_عابد في مستشفى العريش العسكري ..
يقولها زين عبر الهاتف مخاطباً ياقوت بنبرة خطيرة لتشهق الأخيرة بعنف هاتفة :
_العريش؟! ليه ؟! جراله إيه ؟!
_اسمعيني من غير انفعال ..هو كويس ..كسر خفيف في رجله ..بس عليه حراسة مشددة ..
يقولها مشفقاً عليها من هذه الأخبار لتهتف به بانفعال :
_قول اللي عندك كله يا زين ..أرجوك ما تخبيش حاجة ..

_صدقيني أنا معلوماتي مش كتير ..بس اللي فهمته إن الموضوع حساس لأعلى درجة ..فيه انفجار كبير حصل في محطة تحلية مية هناك ..وتقريباً هو المتهم فيه ..
يقولها بضيق لتنخرط في البكاء هاتفة بانهيار:
_مستحيل ..مستحيل ..منهم لله الظلمة ..عابد ..لجين ..لجين هتروح فيها.

زفرته الحارقة تصلها حارة عبر الهاتف مع هتافه بها:
_اهدي أرجوكِ..أنا ماسك نفسي بالعافية إني أجيلك ..ده مش آخر المطاف ..أنا بعمل اتصالاتي ومش ساكت ..

تشعر ببعض الأمان مع كلماته الأخيرة فتمسح دموعها لتتمالك نفسها بينما يزفر هو من جديد مردفاٌ :
_أنا بالعافية قدرت آخد تصريح زيارة ليه بس لشخص واحد بس ..مش هينفع لجين عشان ظروف حملها والسفر ..
_أروح أنا!
تهتف بها بلهفة مقاطعة ليهتف بها باستنكار عصبي:
_تروحي فين انتِ بتستهبلي؟! لو كانوا سمحوا بشخصين كنت خدتك ورحنا ..لكن مستحيل أسيبك تروحي لوحدك ..خللي إسلام هو اللي يروحله يطمن عليه ويطمننا ..لجين هتصدقه وتثق في كلامه .

دموعها تخونها من جديد فترق لهجته وهو يردف :
_ما تخافيش ..أنا معاكي ..كل اللي ممكن يتعمل هيتعمل ..خللي إسلام يكلمني وننسق سوا هنتصرف إزاي .

تغلق معه الاتصال لتتصل بإسلام وتبلغه عن الأمر ولم يكد يسمع حتى ظهر شحوبه في جوابه :
_يادي الوقعة السوده! ودي هنعمل فيها إيه دي؟!
_مش عارفة يا إسلام ..أنا خايفة قوي ..
تقولها بين دموعها لكنه يتنهد بحرارة ليحاول التخفيف عنها بقوله :
_اجمدي اجمدي ..ياما دقت ع الراس طبول ..عابد ابن حلال وربنا مش هيسيبه ..المهم طمنتِ لجين ؟!
_خايفة أقوللها ..هاطمنها من جهة ..وأقلقها م التانية .
_لا ..لا ..طمنيها وخلليها تهدا ..واديني رقم زين بتاعك ده أشوف هنعمل إيه ..
يقولها بتشتت لتهتف به باستنكار:
_إيه زين بتاعك دي؟!
_خلاص! نسيب المصيبة اللي احنا فيها ونقعد نبجل في جلالته ..اخلصي هاتي الرقم !
يهتف بها بحدة عصبية غريبة عن طبعه المرح وواشية بهذا القلق الذي يملأه فتعطيه الرقم بسرعة ليغلق هو الاتصال بينما تتردد هي قليلاً ثم تخرج إلى صالة بيت ثمر حيث جلست الأخيرة تحتضن لجين الباكية بصمت ..وجوارهما ياسمين التي أصرت على البقاء معهن هنا حتى يطمئنن جميعاً على عابد ..

_ولادي يارب ..يارب ما تسوءني في ولادي ..

لاتزال ثمر ترددها دون انقطاع فتتنهد ياقوت بحرارة وهي تتقدم منهما لتحسم أمرها بسرعة قائلة :
_زين عرف مكان عابد وإسلام رايح له .
=======
على فراشه بالمشفى يجلس عابد مجبّر الساق يرمق الحائط بنظرة قلقة ..
منذ وصوله إلى هنا وهو يشعر أنه في سجن حقيقي رغم الرفاهيات -النسبية- التي تقدم له ..
يحاول الوصول لأي معلومة عما حدث للمدرسة لكن لا أحد يرد ..
وهو يكاد يموت ذعرا!
ماذا حدث لسها؟!
لم يعرف عنها شيئاً منذ تركته هناك !
هل وصلت لشيئ؟!
لماذا يحبسونه هنا ؟!
السبب الوحيد أنهم يصدقون أنه متورط بهذا التفجير !!
لماذا لا يستجوبونه إذن وينهون هذا العذاب؟!

لجين!
دمعة حارقة تتجمع في عينه وهو لا يعرف كيف حالها الآن ..
بل يعرف!
ليست هي وحدها ..بل أمه ..ياسمين ..ثمر ..ياقوت ..
كلهم -حتماً- يكادون يفقدون عقولهم قلقاٌ عليه !!
رباه!!
رحمتك يالله !!

_لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين ..اللهم رحمتك التي وسعت كل شيئ ..اللهم سُنّتك التي قد خلت في عبادك أن يخسر هنالك المبطلون ..اللهم فرجاٌ ..اللهم جبراً ..

يدعو بها سراً والدمع الخاشع يترقرق في عينيه ليقطع دعاءه صوت طرقات قوية على الباب سبقت دخول هذا الرجل الذي لا يعرفه ..

طويل القامة رياضي القوام أسود الشعر وسيم الملامح لكن له عينين خطيرتين رغم الابتسامة المهادنة على شفتيه ..

_إزيك يا عابد ..بقيت أحسن ؟!
يقولها بنبرة ودود لم تخفف هذا القلق في عيني عابد الذي زاد ارتباكه والرجل يمد له يده مصافحاً فيلمح هذا الوشم ل"الصليب" على معصمه مع استطراده معرفاً نفسه :
_المقدم باسل جرجس .

يزدرد عابد ريقه بتوتر وهو يدرك حساسية أن يتدخل ضابط مسيحي في شأن كشأنه ..
لهذا صافحه بارتباك لكن ابتسامة باسل اتسعت وهو يجلس جواره على طرف الفراش ليقول بود :
_عارف كل الأفكار السودا اللي ممكن تيجي في دماغك دلوقت ..بس أحب أطمنك ..احنا عارفين كل حاجة .

_المدرسة؟!
يسأله عابد برهبة وقلبه يخفق بجنون ليهز باسل رأسه مطمئناً بقوله :
_وقفنا التفجير في الوقت المناسب .
_الحمد لله ..الحمد لله ..
يهتف بها عابد بصوت لاهث من فرط انفعاله وقد عجز عن منع دمعة انفعاله ..
ليربت باسل على كتفه قائلاٌ بتفهم :
_كان نفسي أطمنك أكتر بس احنا نفسنا مش هنطمن إلا لما نقبض على ولاد ال(...) دول ..وخصوصاً اللي اسمه "الصقر" ده ..ولحد ده ما يحصل انت هتفضل تحت عينينا ..هنخبيك في مكان آمن تحت حراسة مشددة .

ارتفع حاجبا عابد بانفعال ليردف باسل مفسراٌ:
_انت لسه مستهدف طالما الصقر ده لسه حر ..اعتبره سجن مخفف واحمد ربنا ..شهادة مدام سها وضحت تحرياتنا بخصوصك ..كان زمانك لابس قضية مش هتخرج منها إلا على حبل المشنقة .

ذكر سها يعيد إليه ذكرى تلك الليلة الكارثية فيهتف به بتساؤل يعرف مسبقاً جوابه :
_ناصر؟!
فتغيم عينا باسل بنظرة بائسة وهو يطرق برأسه قائلاً :
_كان بطل ..ضحى عشان غيره يعيش .

فيبتلع عابد غصة حلقه وهو يعاود سؤاله بصوت متحشرج:
_زوجته ؟!

_مدام سها كويسة ..هي اللي بلغت عن التفجير وكانت السبب في إنقاذ المدرسة ..ربنا يعزيها .

يقولها باسل بحزن ليغمض عابد عينيه بدعاء خاشع لذاك البطل الذي رآه رأي العين ..
يغبطه على شهادة كهذه يحتسبه نالها بحسن نيته ولا يزكيه على الله ..
ويتمنى لو كان هو قد حظي بدور أكبر في هذا الشأن ..
لكن ..يكفيه أنه لم يشهد يوماً كيوم أبيه !
ويكفيه أن الله قد أظهر برأءته !

_عايز حاجة ؟!
يقولها باسل وهو ينهض واقفاً ليستعد للانصراف فيرفع إليه عابد عينين راجيتين وبكلمة واحدة:
_أهلي .
فيبتسم له باسل بتعاطف قائلاً :
_ولا تشيل هم ! فيه توصية جاية لك بزيارة من أخو مراتك ..بس مش هنقدر نسمح إنها تتكرر ..لكن اللي أوعدك بيه إني هابعت اللي يطمنهم كل فترة عليك ..واعتبرها هدية شخصية مني ..

_جزاك الله خيراٌ .
يقولها عابد بامتنان فيعاود باسل مصافحته بقوة أكبر هذه المرة قبل أن يقول بنبرة حازمة رغم ما شابها من ود :
_أبويا كان له جار اسمه محمد ..ما كانش جار وبس ..كان جار وصاحب وأخ ..ابن عمو محمد مات وهو صغير ..واتولدت أنا بعدها ..أبويا أصر يسميني باسل على اسم ابن عم محمد اللي مات ..ومن يوم ما اتولدت وأنا حاسس إن ليا أبّين مش أب واحد ..جرجس ومحمد ..هي دي مصر الحقيقية يا شيخ عابد ..مصر اللي عايزين يشوهوا صورتها ويحرقوها بفتن بين أهلها ..بس الرب حاميها .

تدمع عينا عابد بتأثر وهو يشد على يده ليبتسم له باسل ابتسامة أخيرة قبل أن يغادر ..
======
_يعني إيه مش هتقابلني؟! لازم أشوفها ..لازم أشوفها ..

عبر الضبابات الكثيفة التي يغرق فيها عقلها منذ يوم الحادث تسمع صوت والده يخترق هذه الظلمة ..
حبيسة الغرفة ..بل حبيسة الروح في ذكرياتها معه ..
مات !
كيف لثلاثة حروف ..ثلاثة حروف فقط أن تنحر عنقها بهذه القسوة ؟!
كيف يريدونها أن تدرك أنها فقدته للأبد ؟!
أنه لن يعود لها نادماً مستغفراٌ كما كان غرورها -الكسير- يمنيها ..

_ارجع يا ناصر وأنا اللي هاكفر عن غلطي في حقك العمر كله ..انت عمرك ما غدرت بي ..اشمعنا المرة دي خدتني غدر كده ؟! من يوم ما عرفتك ما سبتنيش ..معقول خلاص هييجي يوم تسيبني؟!

تتمتم بها بما يبدو كالهذيان وهي تتحسس إصبعها باحثة عن دبلته لكنها تتذكر أنها هي من رمتها يوماٌ ..
فعلتها ظناً منها أنه سيعود ويشتري لها أخرى بعدما يكفر عن خطئه في حقها ويعدها ألا يجرحها جرحاً كهذا من جديد ..
والآن تدرك أن طمعها في كرم حبه جعلها تفقد إحسانه ..
فلا دبلة قديمة ..ولا جديدة ..
ولا هو !
فهل أقسى من شعور الندم بعد فوات الأوان إذ يلوح الزمان بكفه أن : قُضي الأمر!


_لازم أشوفها ..لازم أشوفها ..

صوت والده يصلها من الخارج من جديد فتدرك وسط كل هذا التيه أن والديها يمنعانه رؤيتها كي لا يؤذيها ..
ليته يفعل!
ليته يزهق أنفاسها واحداً واحداٌ فتلحق به هو لعلها هناك تستجديه الغفران !
تنهض من فراشها بتثاقل يناسب وهن جسدها لتتوجه نحو خزانة ملابسها ..
هناك حيث احتفظت بثيابها الممزقة التي كانت ترتديها ليلتها ..
رفضت غسلها لتحتفظ ببقايا دمه عليها ..
آخر ما تركه لها !

ترفعها أمام عينيها ثم تضمها لصدرها بقوة لتتمتم بصوت مختنق:
_راضي عني؟! أنا أنقذت ولادنا زي ما كنت عايز ..مبسوط؟!

يهيأ إليها أنها ترى طيفه مبتسماٌ فتنهمر دموعها من عينيها غزيرة وهي تعتصر ثيابها بين راحتيها بقوة هامسة بانهيار:
_بس أنا مش مبسوطة يا ناصر ..مش راضية ..أنا خلاص عرفت إني مش عايزة غيرك ..بس بعد إيه ؟! بعد إيه ؟!

_مش هامشي غير لما أشوفها ..هي كانت آخر حد معاه قبل ما ..

صراخ والده من الخارج ينقطع بحشرجة تسمعها مكانها فتنتحب بقوة وهي تشعر أنها تصارع نفسها كي تبقى فقط واقفة على قدميها ..
تعيد ثيابها مكانها بحرص ثم تتحرك ببطء متثاقل لتغادر غرفتها ..

تسمع صياح والديها المستنكر لخروجها لكنه يبدو لها وسط هذه الضبابات كصدى بعيد ..
تشعر بوالده هو يقترب منها بسرعة ليحيط كتفيها بقبضتيه بقوة كانت لتكون مؤلمة في وقت آخر ..
تعجز عن رفع عينيها إليه مكتفية بنيل لعناته لعلها تكفر عنها بعضاً من عذابها ..
لعنات توقن أنها تستحقها !

_انتِ السبب ..انتِ السبب ..لولاكِ كان زماني شايل ابنه وشامم فيه ريحته تعوضني عن مصيبتي فيه ..انتِ السبب ..انتِ ..

صرخات الرجل الملتاعة تمتزج ببكائه في مشهد مهيب تدمع له عينا والديها فيقفان مكانهما عاجزين عن التدخل ..
قبضتاه على كتفيها ككلابتين من نار تصهرها بشعورها بالذنب أكثر ..
تغمض عينيها باستسلام تستحضر صورة- الفقيد الغالي -تستمد منها دعماً تعلم أنه لن يعود ..
فيما تتقطع كلمات الرجل أخيراً بالمزيد من دموعه الصامتة لتشعر بقبضتيه ترقان حول كتفيها ..
قبل أن تفاجأ به يجذبها بقوة ليضمها لصدره معتصراً إياها بنفس القوة مع مزيج دموعه وكلماته :
_انتِ أكتر حدّ هو حبه في الدنيا دي ..ياريتني سبته يعيش عمره القصير متهني معاكِ ..ياريتني ما شديت عليه في آخر أيامه ..هددته إنه مش هيمشي في جنازتي ولا هياخد عزايا ..مكنتش أعرف إني أنا اللي هامشي في جنازته واخد عزاه ..

"قهر الرجال" بأقسى صوره يتجلى في كلمات الرجل الذي ما رأته هي من قبل بهذه الصورة أبداٌ ..
لكن ما العجب!
وفاة ناصر كانت الضربة القاصمة لجبل جبروته وجبل عنادها هي ..
الآن فقط تشعر أنهما -هي وأباه- ربطا عقدة الحبل حول عنق ناصر بينما كلاهما يشدها من طرفه بكل قوته ..
متناسين أنه هو من كان بينهما يختنق!
بين عشقه واكتفائه بها وبين رغبته في بر أبيه !

تشعر بالرجل يربت على ظهرها بينما دموعه تمتزج بدموعها لكنها ترفع عينيها إليه صارخة بانهيار وهي تبعد نفسها عنه :
_ما تطبطبش عليا ..ما تحسسنيش إني صعبانة عليك ..أنا مااستاهلش أصعب على حد ..أنا ضيعت أجمل أيام كان ممكن أقضيها معاه ..ضيعتها بغروري وعندي ..ناصر مات وهو رامي عليا يمين الطلاق ..مات وهو يائس مني ومن جناني ..ومع ذلك مااترددش لحظة وهو بيقدمني على نفسه عشان أنا أعيش وهو ..
تنقطع أنفاسها اللاهثة للحظة تعود بعدها مع شهقة انتحاب قوية بينما تردف:
_هو يموت!

والداها يتقدمان نحوها يحاولان تهدئتها لكنها تنفلت منهما لتتوجه نحو الحائط القريب فتظل تخبط رأسها فيه بقوة مرة بعد مرة كأنما تعاقب نفسها بنفسها ..
صرخات ندمها لا تقل دوياً عن صرخات حسرتها ووجعها .
يهرع إليها والده لينتزعها قسراٌ فيعيدها بين ذراعيه محتوياً ألماً يجد في صدره توأمه ..
جسده يرتجف بخفقات قلبه المكلوم وهو يعانقها العناق الذي ود لو يمنحه لابنه في حياته ..
يصفح عنها الصفح الذي تمنى لو يصالحه به قبل رحيله ..
الآن لا يجد في نفسه لها ضغينة ولا حقداٌ ..بل -فقط- رائحة الفقيد الغالي ..
عجباً للأيام حين تدور دورتها ..فتتجمع القلوب على نفس الشيئ الذي قد كانت يوماً قد تفرقت عليه !!
=======
_ريما ..حبيبة بابا !

يفتح لها إسلام ذراعيه عقب عودته من رحلته القصيرة للعريش فتعدو لحضنه باشتياق قبل أن ترفع إليه عينين دامعتين :
_هو صحيح بطلي مات ؟! زي تيتة وجدو؟!

فتدمع عيناه بدوره وهو يخفي وجهها في صدره محاولاً تمالك شعوره ..
منذ سمع صدمة خبر وفاة ناصر وبهذه الطريقة وهو يكاد لا يصدق ...
لكنه تمالك نفسه ليقول بصوت متحشرج:
_الشهيد مش بيموت ..بيعيش فوق في السما ..دي أحسن حاجة ممكن تحصل لأي حد ..اوعي تزعلي .

تستسلم لبكاء طفولي على صدره فيربت على ظهرها برفق وهو يبحث بعينيه عن نشوى حوله ..
أين هي؟!
هل عادت للشرفة الضيقة تنعي فيها فقده ؟!

الخاطر الأخير يمزقه بغيرة منطقية لكنه يتجاوزه بعمق شعوره أنها الآن تحبه هو ..
بكاء ريما ينتزعه من شروده فيبعدها قليلاٌ ليمسح دموعها ويقبل وجنتيها برفق ثم يفتح لها التلفاز على أحد أفلامها المفضلة قائلاً بمرح مصطنع ومقلداٌ لهجة أبطال الكرتون :
_يبدو أن مهمتي الجديدة هي رسم الضحكة على وجه هذه الطفلة الباكية بعدما نجحت الأولى مع والدتها ..

فتضحك ضحكة قصيرة وهي ترسل له قبلة عبر الهواء لتنشغل نظراتها بما يعرض أمامها على الشاشة ..
فيما يطمئن هو لاندماجها فيما تراه قبل أن يتحرك نحو الشرفة الضيقة التي وجد بابها مغلقاً كما توقع ..
ينظر عبر الشقوق الضيقة له لكنه يجدها ..خالية منها !

يشعر بأناملها على كتفه من الخلف فيلتفت نحوها لكنها كانت مطرقة الرأس وقد بدا من احمرار أنفها وشفتيها أنها كانت تبكي ..
لكنها كانت تناقض هذا بابتسامة كبيرة مصطنعة وهي تهرب من عينيه :
_حمداً لله ع السلامة ..بتدور عليّا هنا ليه ؟! ماانت عارف إني ماعدتش بحب أقعد هنا ..مش اتفقنا هنقفلها بخشب ونعملها أوضة للعب ريما؟!

يعرفها حين تراوغ بالحديث كي تهرب من عينيه ..
تماماً كما تفعل الآن وهي تقبله بسرعة على وجنتيه لتعطيه ظهرها مردفة :
_بعمل لكم "كب كيك" بطريقة جديدة هيعجب ريما قوي ..غيّر هدومك على بال ما أخلص .

تبدو له وكأنها تهرب بهذه الخطوات السريعة نحو المطبخ الذي اختفت فيه من جديد ..
فيتنهد بحرارة وهو يخطو بخفة نحوه ليقف مستنداً على بابه ..
تعطيه ظهرها وهي تشغل المضرب الكهربائي للخفق ليعلو صوته ..
لكنه يشعر بانتفاضة جسدها المكتومة الواشية ببكائها ..
يتحرك نحوها بحذر ليبسط كفه على كتفها فتشهق وهي تلتفت نحوه ..
ثم تمسح دموعها بسرعة كأنه ضبطها متلبسة بجريمتها ..
محتويات الطبق السائلة تتناثر على مريلة المطبخ خاصتها مع الحركة العشوائية للمضرب الكهربائي ..
لكنه هو من يوقفه ليضعه جانباٌ بينما هي تهتف بتلعثم:
_أزوقلك بتاعتك بالشكولاتة البيضا زي كل مرة واللا حابب ..
_نشوى!
يهمس بها عاتباٌ ومنكراً لهذا البرود الذي تحاول التظاهر به مدركاً سبب ما تفعله ..
ثم يضمها لصدره بقوة مردفاٌ بألم :
_انتِ خايفة تبيني زعلك عليه ؟! ومين مازعلش عليه ؟! أنا من ساعة ما سمعت الخبر وأنا مش مصدق ..ناصر مات عشان ينقذ مدرسة فيها ألف طفل زي ريما ..مات وهو بينقذ مراته وعابد جوز أختي اللي مش متخيل كانت هتبقى حالتها إيه لو جراله حاجة ..

تنهار فجأة في نحيب مرتفع على صدره سامحة لمشاعرها بالتحرر مع هتافها الباكي:
_أنا زعلانة عليه قوي بس ..مش زي ما ممكن يتفهم ..معقول دلوقت المفروض كل ما تيجي سيرته أقول ..أقول "الله يرحمه" ؟؟!! هتصدقني لو قلتلك من ساعة ما عرفت الخبر وأنا مش شايفة غير صورته وأشرف واحنا صغيرين كأنه ..كأنه كان أخويا التاني !! مستغربة إزاي ..إزاي ممكن ..إزاي تتقلب ..

كلماتها المتلعثمة اللاهثة ترتبك بفيض مشاعرها وعجزها عن التعبير كعادتها فتقطعها ..
لكنه يربت على ظهرها برفق ليهمس لها يتفهم :
_شششش! أنا فاهم .

تمرغ وجهها في صدره بقوة ليشعر بذراعيها يتشبثان به بكل قوتها لينمحي كل أثر لغيرة طفيفة كان قد وجدها من قبل ..
فيضمها بدوره سامحاٌ لدمعة كتمها طوال الطريق أن تسقط أخيراً ..
عجباً للموت عندما يزيل ب"ممحاته السحرية" عيوب الناس لنتذكر فجأة مزاياهم ..
الآن لا يذكر من ناصر سوى وجه الصديق القديم ..
شهامته وهو ينفذ له أي خدمة طلبها منه يوماً ..
مظهره البائس في شقته المحطمة التي زاره فيها بعد زواجه هو من نشوى واللكمة التي تحملها منه صابراً مستسلماٌ بكونه يستحقها ..
موقفه البطولي يوم أعاد ريما بل وسعيه لضمان ألا يكرر والدها ابتزازهما ..
ثم..هديته الأخيرة لعابد زوج أخته !

_الله يرحمه !
يقولها أخيراً بحزن حار فتكررها خلفه بخفوت ثم ترفع له عينيها هاتفة بقلق:
_طمنت لجين ؟!
_رحتلها أول ما رجعت من عنده ..بس لجين مش هتطمن غير لما تشوفه ..لكن للأسف مش هينفع دلوقت ..خايف عليها تنهار انتِ ماتعرفيش هي متعلقة بيه أد إيه .
يقولها بنبرة متعبة غصت بالأسى لتهتف له بقوتها المعهودة التي تظهر في الشدائد وبوجه مختلف تماماً عن وجهها منذ قليل :
_ومين هيسمح لها تنهار؟! امال احنا بنعمل إيه ؟! محدش فينا هيسيبها ..أنا وريما وانت وهيثم وياسمين وياقوت وجدتها ..كلنا حواليها إيد واحدة لحد ما الغمة دي تنزاح !

شفتاه تنشقان أخيراً عن ابتسامة متعبة وهو يرمقها بنظرة عجيبة طويلة ..
ثم يدفن وجهه في تجويف كتفها مطلقاً آهة خافتة ناسبت قوله :
_عارفة عمو علاء قاللي إيه قبل ما يسافر؟! قاللي انت بالذات كنت خايف أسيبك لأني عارف إنك ما بتبينش لو زعلان ..عارف إني الكتف الوحيد اللي مش هتتكسف تحط راسك فوقه وتبكي وتشتكي..بس خلاص ماعدتش خايف عليك ..انت دلوقت عندك كتف تاني ممكن يشيل همك .

فتربت على رأسه برفق ثم تبتعد لتحيط وجهه براحتيها فتقبل جبينه بعمق كأنما تمنحه وعدها دون كلام ..
كلاهما صار لصاحبه كتفاٌ وقلباٌ وروحاٌ !
=======
في غرفة مكتبها بالمصنع تحدق نشوى في شاشة الحاسب بشرود وهي تشعر بثقل الأيام الماضية على الجميع ..
خاصة لجين التي يزداد ذبولها يوماٌ بعد يوم بين التعب المعتاد لشهور حملها الأولى وقلقها على مصير زوجها ..

صوت طرقات خافتة على الباب يقاطع أفكارها فتتنحنح لتسمح للطارق بالدخول ..
قبل أن تتسع عيناها بصدمة لتجد نفسها تقف مكانها دون أن تشعر ..
تتفرس في ملامح المرأة التي دخلت لتوها ..

_سها!

تتمتم بها مصعوقة وهي تكاد لا تتعرف عليها من فرط ما تغيرت هيئتها ..
جمالها الحيوي المشرق الآن صار باهتاٌ دون روح ..
جسدها الجميل فقد اتساقه لتصبح أشبه بهيكل عظمي أجوف ..
خصلات شعرها الشقراء تبدو مهملة باهتة تحت وشاح خفيف أسود انحسر عنها بإهمال ..
تكاد تقسم أن كل ما فيها صار أسود يعلن حداده حتى روحها !!
فمن يلومها ؟!

_وقت مناسب؟!

حتى صوتها صار أسود كئيباً بعيداً عن تلك الضحكات الواثقة التي كانت تثير غيرتها هي يوماٌ ..
لهذا لم تملك هي أن تكدست الدموع في عينيها وهي تشير لها نحو المقعد المقابل لمكتبها قائلة بصوت متحشرج:
_اتفضلي .

دقيقة تمر تلو الأخرى والصمت الكئيب يظلل كلتيهما في جلستهما ..
نشوى التي كانت تشعر بحرج -غير منطقي- هاهنا وهي متألقة اليوم زيادة عما اعتادته ببلوزتها الوردية المشرقة ووشاحها الذي مزج اللونين الوردي والأبيض وزينتها التي لا تبرزها مساحيق بل تشع بها روحها العاشقة من الداخل ..
كل هذا كان يشعر شخصية -مثلها- ببعض الذنب وهي تلمح ذبول سها الواضح أمامها ..
سخرية مشفقة تملأها في هذه اللحظة بالذات وهي تشعر بالغرابة ..
هل هذه سها التي كادت تقتلها غيرتها منها يوماٌ ؟!
كيف يمكن أن يبدل القدر المقاعد بهذه السرعة وبهذا الإتقان ..
فتكون كل منهما اليوم في هذا الموضع ؟!
السؤال ..لماذا جاءت الآن ؟! هل عاد هناك ما يقال بينهما؟!

_جاية أعتذر لك!

بنفس الاقتضاب البائس تقولها سها مطرقة الرأس فيرتفع حاجبا نشوى وهي تشعر بفقدانها القدرة على النطق ..
فيما تصمت سها للحظات بدت كسدّ طويل انهار فجأة باستطرادها الحار رغم نبرتها الفاقدة تماماٌ للحياة :
_أنا ظلمتك مرتين ..مرة لما اخترتك انتِ بالذات عشان تكوني مراته ومرة لما ضغطت عليه عشان مايروحش الفرح ..في المرتين ماشفتش غير نفسي وبس ..ما فكرتش غير في نقص جوايا كان لازم يكمل بأي صورة ..ما قدّرتش قيمة النعمة اللي في إيدي ..كان كل اللي ماليني خوف إني أخسره غصب عني فقلت أخلليها بمزاجي ..حتى لما جوازتكم اتفركشت وهو قعد بعدها يترجاني أسامح وأرجع كنت بعاقبه على صورة في خيالي أنا أول واحدة رسمتها ..صورته معاكي ..ودلوقت لما الصورة كلها كملت عرفت غلطتي ..بس للأسف بعد فوات الأوان ..

تعجز نشوى عن منع دموعها وهي تشعر أنها الآن ترى أكثر امرأة خاسرة رأتها في حياتها ..
كل أطياف غيرتها السابقة منها تستحيل الآن لطيف واحد من شفقة !!

خاصة وهي تقف أخيراٌ لتردف مطرقة الرأس :
_ياريت تقبلي أسفي واعتذاري بالنيابة عنه ..وادعيله ..ربنا يرحمه ..عايزة لما أقابله يكون فخور بيا زي ما أنا هاعيش طول عمري فخورة بيه .

تشهق نشوى كاتمة نحيبها وهي تراها تبتعد كطيف ذابل دون المزيد من الكلمات لتختفي عن ناظريها تماماٌ ..
ولم تكد تفعل حتى اندفع إسلام فجأة للداخل لتشتعل ملامحه بحمية وهو يرى دموع نشوى فيهرع إليها هاتفاً بقلق:
_كانت عايزة إيه ؟!

يقولها وهو يسحبها من ذراعيها ليوقفها ثم يضمها لصدره برفق بينما هي ترتجف بين ذراعيه ليهتف بها بلهفة تمتزج بالضيق:
_أنا غلطان..من ساعة ما شفتها داخلة وأنا قلت أمنعها بس مالحقتش ..أنا عارف طبع سها كويس ..قالتلك إيه عمل فيكِ كده ؟!

لكنها هزت رأسها لتقول عبر دموعها :
_كانت جاية تعتذر لي .

يعقد حاجبيه بصدمة وقد بدا متفاجئاً لتخبره باقتضاب عن فحوى حديثها فيتنهد بعمق وهو يربت على ظهرها قائلاً :
_لا حول ولا قوة إلا بالله ..سبحان من يغير ولا يتغير.

تعود لتهز رأسها بتأثر فيمسح دموعها متفهماٌ حزنها للحظات قبل أن يسمعها تهتف بحرارة :
_أنا سامحته وسامحتها من كل قلبي والله ..ربنا يصبرها ويعوضها خير .

يبتسم معجباً بروحها الطيبة المتسامحة هذه لكن ابتسامته يتخللها بعض الحزن الطبيعي في هذه الظروف ..
والتي جعلتها تتماسك أكثر لتبتعد فتتناول حقيبتها قائلة :
_أنا قلت لأشرف يشيل بقية شغلي النهارده عشان نروح للجين .
_بلاش انتِ عشان ريما ..كفاية أنا بروح كل يوم .
يقولها مشفقاً عليها من تعب السفر يومياً للقرية لكنها تهز رأسها بتصميم قائلة :
_لازم لجين تحس إننا كلنا حواليها دلوقت ..إيه فايدة العيلة لو مش هيشيلوا بعض في ظروف زي دي ؟!

تقولها وهي تلملم أشياءها من على المكتب لتضعها في حقيبتها فيحدق في ملامحها بعاطفة مشعة تليق بسؤاله :
_هو أنا قلتلك إني بحبك قبل كده ؟!
_كتير!
تقولها مبتسمة وسط بقايا دموعها فتبدو له بهذا المزيج الشهي بين براءة طفلة ودلال امرأة ومروءة ألف رجل ..
لهذا يعاود جذبها نحوه ليقبل جبينها بعمق هامساً بحرارة :
_عمري ما هابطل أقولها ..ربنا ما يحرمني منك .
فتتسع ابتسامتها وهي الأخرى تحاول تقليده بطمس حزنها عبر بعض المرح :
_ولا منك يا هندسة !
=======
في صالة بيت ثمر تفترش لجين سجادة صلاتها التي صارت قلما تفارقها ..
يقولون إن الابتلاء الحقيقي يصقل الإيمان كما تصقل النار الذهب فتزيح عنه خبثه وتذره نقياً كما جبلته الفطرة ..
هكذا كان شعورها منذ الأزمة ..
ربما لو كانت جابهتها قبل منحتها الأخيرة بعابد وحبه لكانت ارتدت على عقبيها خاسرة كل شيئ ..
لكنها الآن كانت تشعر -رغم سواد الليل الحالك- أنها تنتظر شمساً لو أشرقت عليها فلن تغيب بعدها أبداً ..

تسبّح على أصابعها وترسل ابتسامة واهنة لياسمين الجالسة هناك على الأريكة تهدهد يمنى برفق وترمقها هي بنظرات مشفقة داعمة لم تفارقها منذ علمت الخبر وقد أصرت أن تقيم هنا معها حتى يعود عابد ..
ليست وحدها ..أم عابد كذلك التي عادت للوطن بعد سماعها للخبر وهاهي ذي أيضاً تقيم معهم ..
وكأن بيت ثمر الذي طالما احتضن الناس في كرباتهم -بصورته الخفية في ياقوت- الآن جاء الدور ليساندوه هم في محنته ..

صوت طرقات على الباب يجعلهم جميعاً يتحفزون ..
تنهض ثمر لتفتح لكن إسلام يشير لها أن تستريح ليفتح هو الباب ..

_الشيخ أبو إدريس ..اتفضل!

تهتف بها ثمر بصوت ذابل لم يفقد إيمانه رغم كل شيئ ليتقدم الرجل مصافحاً إسلام وملقياً التحية ببصرٍ قد غضّه حياءً..
ثم يرمق لجين التي وقفت لتوها فوق سجادة صلاتها مسدلة نقابها على وجهها بنظرة راضية ليتقدم نحوها قائلاً بابتسامة سمحة :
_أبشري يا أم "المؤمن" وزوجة "العابد" ..رأيت لكِ رؤيا ما أظنها إلا خيراً .

_قول يا شيخ!
تهتف بها لجين مستبشرة فيشرد الرجل ببصره مستعيداٌ رؤياه التي يظنها حقاً :
_رأيت طائراً من نور يخرج من بطنك ليحلق حول رأسك ثم يجوب السماء طولاً وعرضاٌ يلقي الحَبّ من فمه فوق رؤوس الخلائق فيهللون ويكبرون ..يتساءلون من أين يأتي كل هذا الحَب الذي معه فيظهر عابد وبين كفيه حفنة من هذا الحَب يأخذها الطائر منه ليعود ويحلق بها بين الرؤوس فيهبهم إياها من جديد ..

_الله ! كأنها بشرة خير يا شيخنا.
تهتف بها ثمر باستحسان فيقول بدوره :
_سبحانه علام الغيوب ..أبشري يا بنتي ..فرجه قريب ..بشرنا بأن مع العسر يُسرين ..

_عابد برضه كان دايماً يقول كده .
تقولها لجين بتأثر متذكرة قول عابد المماثل فتربت ياقوت على أحد كتفيها بينما يربت هيثم على الآخر قائلاً بحنان :
_شفتي بقا ؟! ربنا بعتلك رسالة تطمنك .

فتقف ياسمين مكانها لترد باستبشار مثلهم:
_آه والله أنا كمان حاسة إن خير كبير مستنينا بعد القلق ده .

تقولها وهي تربت على كتف أم عابد التي جلست مكانها دامعة العينين تتمتم بدعواتها الصامتة ..

ولم تكد تنتهي منها حتى سمع صوت طرق الباب من جديد ليترقبوا جميعاٌ وجه الطارق الذي بدا غريباً عنهم ..
ملامحه الودودة هدأت توجسهم قليلاٌ رغم الهيبة التي بدت جلية على مظهره ..

_المقدم باسل ..جاي بخصوص عابد .

يقولها باسل وهو يدور ببصره بينهم قبل أن يتوقف أمام إسلام ليردف بنبرة أكثر وداٌ :
_مش فاكرني ؟! خرجنا سوا مرة من زمان ..أنا وانت وناصر .

_الله يرحمه .
يقولها إسلام بحزن وهو يتفرس في ملامحه ليميل باسل عليه هامساً بخفوت لم يخلُ من حرج:
_افتكر انت لوحدك اتقابلنا فين عشان مش هاقدر أقول هنا قدامهم ..

فابتسم إسلام ابتسامة شاحبة وهو يتفحص ملامحه قليلاً قبل أن يتذكره ..
كانت رحلة من رحلاتهم التي اعتادوها قبل سفره لتركيا انضم إليهم فيها باسل كضيف جديد وانتهت ب"بعض العبث"!

_مادام ابتسمت كده تبقى افتكرتني .
يقولها باسل بود لتهتف لجين به بلهفة :
_فيه جديد عن عابد ؟!
_للأسف لسه مضطرين نتحفظ عليه في مكان آمن ..أنا جاي النهارده أطمنكم عليه وقريب قوي هنقبض على الصقر ده واللي وراه ..
يقولها مطمئناً ليردف بنبرة حذرة :
_بس هنضطر نوفر حراسة قوية لكم هنا ..كلكم تقريباٌ هتبقوا تحت المراقبة وده أمان ليكم مش أكتر .

تشحب ملامح الجميع شاعرين بالخوف لكن إسلام يتدارك الموقف بقوله :
_أكيد طبعاٌ ده إجراء وقائي عشان نطمن ..شكراً يا سيادة المقدم .

_سيادة المقدم ؟! ده انت مصرّ بقا أقوللهم اتقابلنا فين .
يقولها باسل بمزيج من الاستنكار والبشاشة محاولاً كسر روح الإحباط التي تفشت في المكان ..
ليبتسم له إسلام فيربت باسل على كتفه مردفاٌ بجدية تامة هذه المرة :
_مش عايزكم تخافوا من أي حاجة ..القضية دي بالذات أنا واخدها بصورة شخصية ومش هاهدى لحد ما أقبض على الصقر ده وأحط رقبته تحت رجلي .

_ربنا ينصرنا ياابني .
تقولها ثمر بطيبتها المعهودة فيبتسم لها بودّ ثم يستخرج من جيبه هاتفاً غريب الشكل منحه لإسلام :
_خللي أختك تطمن عليه ..بس أقصى مدة خمس دقايق ..أنا عاملها على مسئوليتي .

تشرق عينا لجين بلهفة وهي تقترب منهما ليريها هو كيف تستعمل الجهاز ثم يقول بنبرة عملية :
_لو عايزة تكلميه لوحدكم مفيش مشكلة ..ماتخافيش المكالمة مش هتبقى متراقبة ..ده جهاز مخصوص عشان يمنع تتبع المكالمة أو اختراقها لمعرفة مكانه .

تتناول منه الجهاز بأنامل مرتجفة لتهرع به نحو الغرفة الجانبية فتغلق بابها خلفها لتستخدمه كما علمها ..
تنتظر لثوان بدت لها كدهر قبل أن يصلها صوته الحبيب ..

_عابد !
تهتف بها بين دموعها ليصلها صوته ليس أفضل منها حالاً ..

_لا تبكي يا حوريتي ..أنا بألف خير ..لا ينقصني إلا رؤيتك ..أنا آسف لكل ما تعانونه بسببي!

لكنها تمسح دموعها لتروي له بعجلة رؤيا الشيخ وتختمها بقولها :
_شايف الخير اللي مستنينا ؟! أنا مش زعلانة ولا قلقانة ..عارفة إنك راجع وراجع معاك الفرح كله .
ثم تمسد بطنها بأناملها لتردف بصوت هدجته دموعه :
_يا أبو "مؤمن"!

وفي مكانه كان هو يستمع إليها دامع العينين وهو يشعر بقلبه يكاد ينفطر اشتياقاً إليها وقلقاً عليها ..
بل عليهم جميعاٌ !
لكنه يستعيد تلك المواقف التي ظلله فيها حفظ الله فيشعر بالسكينة تملأ روحه رويداٌ رويداٌ ..
يستعيد رؤيا الشيخ أبي إدريس فيزداد اطمئنان قلبه ..
سيرجع ليرى ابنه ..يربيه ويعلمه من علمه حتى ينفع الدنيا بأسرها..
هل أجمل من هذه بشرى تستحق الانتظار؟!
=======
_مش فاهمة قصدك يا سامر برضه معلش ..مالها نجلاء؟!
تقولها ياقوت بحذر تخشى فهم ما يصلها من تلميحاته ليتنحنح بحرج قائلاً :
_مش عارف ..مش فاهم نفسي ..فجأة مابقتش شايفها مريضة عادية ..حاسس ناحيتها ب..
_بإيه ؟!
تسأله بعينين متسعتين ذهولاً لم يلبث أن تحول لإشفاق مع زفرته البائسة :
_مش عارف!

تفرست ملامحه للحظات باهتمام ثم نقرت بإصبعها على سطح المكتب لتقول بتعاطف :
_من ساعة ما عرفت موضوع ناصر الله يرحمه وأنا كنت متوقعة ألاقيك بتكلمني عن مشاعرك لسها ..يمكن ماكنتش هستغرب زي دلوقت وأنا شايفاك بتتكلم عن نجلاء ..
_لا سها حكاية واتقفلت وخلاص ..المشكلة دلوقت كمان في ..ريتال!
يغمغم بها بحرج لتشهق بدهشة هاتفة :
_ريتال بتاعتنا ؟!
_لا بتاعة الجيران ! أيوة ريتال قريبتي وصاحبتك !
يقولها بضيق من نفسه قبلها لتهتف به بانفعال:
_انت بتهزر؟! ماهي كانت قدامك طول عمرها ..ما حليتش في عينك غير دلوقت لما اتخطبت ؟!!

عاد يزفر ببؤس وهو يخبط رأسه في ظهر كرسيه ليقول بنبرة مشتتة :
_يمكن مش حب ..يمكن بس خوف إنها تسافر وتسيبني ..يمكن غيرة من خطيبها عشان ماعادتش بتهتم بيا زي الأول ..
_ويمكن بجد بتحبها بس ما حستش غير لما قربت تضيع من إيدك .
_يمكن!
يقولها بنفس التشتت ليفتح عينيه مردفاً :
_مش بقوللك ما عدتش فاهم نفسي .

صمتت للحظات تحاول التفكير قبل أن تتنهد لتقول برفق:
_هاكلمك بصراحة عن انطباعي ..انت بعد صدمتك في سها حاسس بفراغ عاطفي عقلك الباطن بيحاول يملاه بأي واحدة ..بصفتي صديقة هانصحك تبعد عن كل ده ..مش هاقوللك ما تبطلش تفكير لأنه مش بمزاجك ..بس حاول تغير روتين حياتك ..سافر ..غيّر جو ..قابل ناس جديدة ..خد لك أجازة كام يوم افصل من كل حاجة وبعدها شوف هتوصل لإيه ..

_والشغل؟!
_هاشيله أنا ..ماانت ياما شلته عني .
تقولها بامتنان ليسألها مشفقاً :
_في ظروفك دي ؟!
يقولها مشيراً لما يعلمه عن عابد ولجين فتغتصب ابتسامة باردة لترد :
_يااااه! ياما اشتغلت في ظروف أسوأ من كده !

_ونجلاء؟!
يقولها بتردد لترتدي ثوب مهنيتها فترد :
_ماهو بصفتي دكتورة هامنعك من النهارده تتعامل معاها..انت عارف القاعدة ..طول ماانت قريب من الحالة عاطفياً مش هاتقدر تشتغل صح ..احنا خلاص قطعنا شوط حلو في العلاج ..هي بقت بتتواصل وتشاور ..بنحاول حالياً نواجهها بالحاجة اللي بتخاف منها بالتدريج ..لحد ما توصل إنها تتكيف معاها وماتخافش وده بيحصل حالياً ..ببطء صحيح بس بيحصل ..ماعادش فاضل غير إنها تطمن تماماً فترجع تتكلم ..وده اللي أنا هاشتغل عليه الفترة الجاية ..ماتقلقش عندي فيه خبرة كويسة .

تقولها وهي تدرك تشابه حالتها مع حالة همسة في الجزئية الأخيرة فيهز رأسه موافقاً ثم يقف قائلاً:
_هاعمل بنصيحتك يا شجرة الدر ..بس قبل ما أسافر عايز أشوف سها وأطمن عليها ..اللي هي فيه مش سهل خصوصاً مع الصدمة اللي جت لها قبل كده ..يمكن ده دوري أقدر أعمل لها أي حاجة في ظروفها دي

تهز له رأسها معجبة بشهامته المعهودة ثم تقف بدورها لتغادر مكتبها نحو غرفة نجلاء التي بادرتها بابتسامة مرتبكة وهي تبدو كمن تبحث خلفها عن أحدهم ..
فسألتها ياقوت بحذر:
_بتدوري على حد ؟!

تطرق نجلاء برأسها وهي ترص عرائسها واحدة تلو الأخرى لترفع لياقوت عينيها بنظرة فهمتها الأخيرة أنها تريد سامر لكنها تجاهلتها عامدة لتجلس أمامها قائلة :
_خللينا نجرب النهارده حاجة جديدة ..
تقولها وهي تمارس معها المزيد من الأنشطة المتعلقة ببرنامجها العلاجي والذي أبدت فيه نجلاء تطوراً ملحوظاً جعل ياقوت تبتسم لها بأمل لتسألها بحذر:
_شاوري على ياقوت .

تقولها مترقبة أن تشير نجلاء على صورتها هي ككل مرة مفضّلةً الصور والمجسمات عن البشر الحقيقيين لهذا كانت فرحتها عظيمة عندما أشارت عليها هي ..
وبالتحديد حول وجهها قبل أن تعود ملامحها للجمود من جديد ..
لكن ياقوت اعتبرت هذا تقدما رائعاً اكتفت به وهي تقف لتغادر ..
لكنها ما كادت تصل للباب حتى سمعت صوتها لأول مرة منذ رأتها ..
تقول بخفوت وبصوت يكاد لا يسمع :
_سامر!

فيسقط قلب ياقوت في قدميها وهي لا تدري هل تفرح بهذا التقدم أم تقلق بشأن عاطفة ما قد تكون تغزل خيوطها بينهما خارج إطار المريضة والطبيب!

تغلق الباب خلفها برفق لتفاجأ به قد كان واقفاً خلف الزجاج يراقبهما خفية ..
تتنهد بحرارة وهي تتقدم منه لتجد نفسها مجبورة أن تخبره بما كان ..
فترتسم على شفتيه ابتسامة بائسة وهو يختلس نظرة جديدة نحو نجلاء عبر النافذة الزجاجية وصراع مشاعره الغريب يزداد احتداماً ..وغرابة !
=======

*بعد شهر ..*

_تحيا جمهورية مصر العربية ..تحيا جمهورية مصر العربية ..

صوت الأطفال يعلو بتحية العلم في فناء المدرسة الذي تقف سها في زاويته ..
عيناها معلقتان باليافتة الجديدة التي تغير فيها اسم المدرسة لاسمه الثنائي ..
"مدرسة البطل الناصر...." !

دموعها هذه المرة تحمل فرحة خفية وهي تراهم قد خلدوا اسمه في نفس المكان الذي شهد تضحيته لأجله ..
ابتسامة باهتة تطوف بشفتيها وخاطرٌ ما يراودها ..
إن كان القدر قد حرمه ابناً يمتد به ذكره فقد اختار له تعويضاً من نوع آخر ..
سيبقى هذا المكان مع كل طفل فيه يخلد اسمه بعده !

هنا عجزت عن منع دموعها من الانهيار وهي تشعر بصورته تقف حائلاً بينها وبين رؤية الأطفال ..
صورته تبتسم لها بنفس الحب الذي عرفته عمراٌ !
وبصوته الحبيب الذي افتقدته يهتف بها ..
_ولادنا يا سها ..ولادنا ..

لكنها لم تكن ملهوفة جزعة كآخر مرة سمعته ينطق بها بل يستشعرها قلبها هذه المرة راضية هانئة ..
صورته تقترب أكثر فتشعر بها تضمها ..تهدهدها ..تقبل رأسها وتواسيها ..
لكنها تختفي بسرعة اختفائه هو من حياتها ..
فلا تبقى سوى صورة الأطفال متراصين بنظام وبنفس الزي ..
ينهون آداء الطابور المدرسي فيصعدون نحو فصولهم ..
تنتبه لطفلة ما بينهم تحدق فيها بإعجاب مع رفقتها ثم يلوحن لها جميعاٌ بخجل لم يلبث أن تحول لصخب طفولي معتاد فتزجرهن المشرفة لتتوجه هي نحوهن فتعتذر منها ..
ثم تستخرج هاتفها لتلتقط لنفسها صورة بينهن ..
صورة خلفيتها يافتة المدرسة التي ستبقى تحمل اسمه ..!
======
_بلاش يا بنتي تقلبي على نفسك المواجع ..هتروحي شقتكم ليه بس؟!
تهتف بها أمها بحسرة لتبتسم سها ابتسامتها الباكية التي ماعادت تفارقها ثم ترد بشرود :
_وحشني قوي يا ماما ..عايزة ألمس أي حاجة من ريحته .
_طب استني هالبس وآجي معاكِ ..ماتروحيش لوحدك .
تهتف بها المرأة بقلق أمومي لترد سها بحسمها المعهود الذي خالطته نبرة انكسارها الجديدة :
_معلش يا ماما ..عايزة أبقى لوحدي ..

تقولها ثم تقبل رأسها لتغادر بيت والدها متجهة نحو سيارتها ..
قدماها تتسمران أمامها وهي تستعيد ذكرى قريبة له واقفاً هناك مستنداً على مقدمتها ..
لكنها تبدو لها بعيدة ..بعيدة ..كأنما ما تلا موته كان لها عمراٌ آخر !

_انتِ طالق!

تسمعها بصوته في ذاكرتها فتشعر بنفس النصل السام الذي ينغرس في صدرها ..

__أنا ماشي بس انتِ عارفة هترجعيلي إزاي ..ده لو كنتِ لسة عايزة ترجعيلي .

دموعها تغرق مقلتيها عند الخاطر الأخير لتجد نفسها تتمتم بحسرة موجعة :
_عايزة ..عايزة يا ناصر ..بس ماعدتش عارفة إزاي .

خطواتها تلين أخيراً فتستقل سيارتها نحو بيتهما الذي توقفت أمامه ..
البواب يرمقها بنظرة مشفقة تتجاهلها وهي تصعد للأعلى ..
تتذكر آخر مرة كانت فيها هنا ..
ليلة زفافه الذي لم يتم على نشوى ..
هنا على عتبة الباب استمعت لحديثه مع والده ..
الباب الذي فتحته لتعيد غلقه خلفها ثم تنظر حولها ..
المكان مظلم كظلمة روحها ..
إلا من قبس بسيط يأتي من ضوء النهار عبر النافذة ..
هذه التي فتحتها هي لتسمح للضوء كاملاً بالدخول ..

قدماها تتعثران بحطام المكان حولها والذي لايزال على حاله منذ تلك الليلة ..
عجباٌ ! ألم يحاول إصلاحه ؟!
بل فعل! لكنها هي من كانت تصرّ أن يبقى -حطام حياتهما- على حاله !!
هي التي تسببت في كل هذا الحطام لكنها عجزت عن إصلاحه !

قدماها تسوقانها نحو صورة زفافهما هناك فتتفحصها باشتياق كسير ..
تمسح الغبار من عليها بأناملها ببطء لتعود الدموع تكسو مقلتيها ..
لكنها تأخذ نفساً عميقاٌ وهي تتلفت حولها قبل أن تشمر ساعديها لتفتح الباب وتنادي البواب بصوت عالٍ ..
ولم يكد يصعد إليها حتى هتفت به بحسم لم يخلُ من حزن:
_شوف لي حد ينضف معايا الشقة ..
_والحاجات اللي اتكسرت دي ؟!
يسألها الرجل بدهشة مشفقة وهو يتلفت حوله لتتلفت بدورها حولها في شجن لم يلبث أن امتزج بنظرة عينيها الحاسمة التي ناسبت قولها :
_هاصلحها .
=======

_نورتِ البلد يا بنتي .
يقولها والد ناصر بصوت هده حزنه وهو يستقبلها في بهو بيته الواسع بقريته بعد دعوة أصر أن تلبيها ..
طوال الطريق الذي سار معها به من أول القرية ونظرات أهل القرية مع هتافاتهم تلاحقها ..
لا مشيعة بالعار كما ظن بعدما اشتهر من سابق صورها ..
بل صارت مكللة بالفخر والأخبار تصلهم سريعة كالنار في الهشيم أنها زوجة البطل الذي مات مضحياً بحياته ..لتكمل هي مسيرته فتنقذ أطفال المدرسة !

_بقالي زمان ماجتش هنا ..المكان مااتغيرش بس احنا اللي اتغيرنا .

تقولها بحسرة موجعة وهي تتلفت حولها ليضم الرجل كتفيها بذراعه قائلاً بصوت متحشرج :
_واللي شفناه قليل يا بنتي؟! ده يهد جبل!

يقولها ثم يترحم على روح ابنه فتبتسم ابتسامة بنكهة الدموع وهي تستخرج هاتفها من جيبها لتريه صورة المدرسة :
_ماتبقاش تزعل بقا لو أهل البلد ضايقوك بكلامهم إن ابنك ماجبلكش اللي يشيل اسمك ..اهه اسم حضرتك منور جنب اسمه ع المدرسة ..قوللهم مش الخلفة بس اللي بتخلد أسامينا ..ياما ناس بتخلف وولادها بتحط راسها في الوحل ..عمل البني آدم هو اللي بيخللي سيرته الحلوة تفضل ..حتى لو هو مات..

ينهنه الرجل باكياً مع كلماتها مخفياً وجهه في راحته الحرة ولايزال يضم كتفيها بذراعه الآخر فتربت على صدره وهي تشاركه البكاء للحظات قبل أن تمسح دموعها وهي تتخيل صورة ناصر من جديد ترمقهما من بعيد راضية بهذا التقارب بينهما ..

بينما يهز الرجل رأسه بأسى وهو يرفع عينيه الدامعتين إليها شاعراً بالندم ..
لو كان يعلم أن الزمان لن يمنح ابنه سوى هذا العمر القصير لتركه يعيشه متنعماً بين ذراعي امرأة أحبها ..
=======

_قبضنا ع الصقر واللي معاه ..دلوقت تقدر تخرج من هنا وترجع لحياتك .

يستعيد عابد العبارة السابقة في رأسه بصوت باسل بينما تنهب السيارة الطريق به نهباٌ مغادرة مخبأه الآمن الذي توارى فيه طوال هذه الأيام السابقة نحو المكان الذي احتجزوه فيه ..
دقات قلبه تتسارع وهو يشعر برغبة حارقة في هذه المقابلة رغم ثقلها على نفسه ..
تتوقف به السيارة أمام المبنى الشامخ الذي حلق فوقه علم مصر بألوانه الثلاث ..
ليترجل من السيارة بصحبة رفقة آمنة من رجال الشرطة ..
يستقبله باسل بوجه بشوش على باب إحدى الغرف ليقول بنبرته العملية :
_معلش ! آخر مرة هتشوف فيها وشه العكر ..حقك تملي عينك من شكله وهو متكلبش ..وبعدها نخلص احنا اجراءاتنا .

يهز له عابد رأسه بملامح منفعلة فيشير باسل نحو أحد العساكر إشارة خاصة ليتبعه عابد وهو يزدرد ريقه بتوتر شاعراً بالدماء تفور في عروقه ..

غرفة ضيقة منعدمة التهوية إلا من نافذة علوية ضيقة مسدودة بالقضبان ..
هذه التي ولج إليها ليراه هناك متكوراً على نفسه في الزاوية كجرذ حقير ..
مقيد اليدين والقدمين ممزق الثياب رث الهيئة ..
يرفع إليه الصقر عينين معتمتين بمجرد شعوره بالباب يفتح ليبادره بقوله :
_جئت شامتاً ؟! لا تفرح ..أنا سأنال الشهادة ومثلك سيعيش متكالباً على دنيا لا تساوي عند الله جناح بعوضة .

فيعقد عابد حاجبيه بغضب وهو يتقدم منه قائلاً بانفعال:
_لاتزال تلوث العسل ب"سُمّك" يا بغيض ! مثلك سيموت تلعنه الأرض قبل السماء ..التراب الذي تلوث بدم أرقته يكاد يلفظك من باطنه ليتركك نهبة للجوارح ..مثلك يهلكون أذلاء صاغرين لأن سنة الله في عباده أن يخسر هنالك المبطلون ..ومثلي يرجو الله أن يعيش كي يعمر الأرض وينشر فيها دينه ..دينه الصحيح لا الذي ابتدعتموه لتداروا به عورات فجوركم .

_أحمق! تظن هذه النهاية ؟!
يهتف بها الصقر بغلّ أعتم ملامحه ..ليقترب عابد أكثر هاتفاً بيقين:
_الخير والشر سيصطرعان إلى قيام الساعة ..لكن الله الكريم قضى بحكمته أن ينصر أهل الحق ولو بعد حين ..هي فتنة يفلح فيها من يفلح ويخسر فيها من يخسر ..والموعد يوم الحشر لدى العليم البصير الذي لا تخفى عنه خافية ..الحَكَم العدل الذي لا يظلم مثقال ذرة ..الحكيم القدير الذي سن بسنته أن يشفي صدور قوم مؤمنين بمرأى من مثلك يهلكون .

_موتي لن يغير الحقيقة ..تعرف كم شخصاً مات على يدي ؟! مئات ..ألوف ..عشرات الألوف ..كلهم قرابيني إلى الجنة ..
يقولها الصقر بعينين متوهجتين ليلقي سهمه الأخير:
_وأبوك كان منهم !

هنا لم يملك عابد نفسه وهو ينحني فوقه ليعتصر رقبته بكفيه فيضحك الأول رغم ألمه بهستيرية تستفز عابد أكثر لكن العساكر يحيطونه ليوقفوه قسراً فيركل الصقر بقدمه ثم يبصق فوقه هاتفاً بصوت لاهث :
_لعنك الله في الدنيا والآخرة وجعل عذابك من صنف عملك .

يستمر الرجل بالضحك الهستيري مع قسوة ملامحه الشيطانية فيبدو كمخبول تماماً ..
فيما يتحرك العساكر بعابد ليخرجوه من الغرفة التي أغلقت خلفهم بإحكام ..

_معلش .. دي شغلته يلعب بأعصاب الناس ودماغهم .

يقولها باسل بنبرته الودود وهو يربت على كتف عابد محاولاً تهدئته ليسأله الأول باهتمام :
_كيف قبضتم عليه ؟!
_لا دي أسرار عليا ما أقدرش أطلعك عليها ..سامحني يا عابد.
يهز له عابد رأسه بتفهم وهو يعدل وضع جلبابه بعدما تركه العساكر ..
ليبتسم له باسل وهو يقول بنبرة غامضة :
_بس ممكن أقوللك خبر تاني هيبسطك قوي !
========
_حمداً لله على سلامتك يا ابني!
يهتف بها الشيخ أبو إدريس وهو يستقبله على باب بيت ثمر الذي احتشد حوله أهل القرية ليعانقه عابد بقوة هاتفاً :
_افتقدتك يا شيخي وافتقدت مجلس علمك ..
ثم يرفع إليه عينين لامعتين مردفاً بفخر حماسي:
_لكنني استغللت عزلتي في الحفظ ..لن تصدق ما أنجزته خلال هذه الأيام .
_فتح الله عليك يا بني ونفع بك .
يهتف بها الشيخ بإجلال وهو يقبل رأسه ليبتعد عابد بخجل هاتفاً:
_العفو يا شيخنا ..رأسك الأولى بالتقبيل ..
لكن الشيخ يدعو له بالبركة ثم تدمع عيناه برده :
_الحمد لله الذي نجاك من القوم الظالمين .
_الحمد لله .
يكررها عابد بخشوع قبل أن تتخطفه الأذرع تعانقه وتهنئه بالرجوع سالماٌ ..
يامن ..إسلام ..هيثم ..رجال أهل القرية الذين تراجعوا ليفسحوا له المجال كي يدخل للنساء ..
تبادره أمه بعناقها ودموعها ثم تتبعها ثمر وياسمين التي أطالت البقاء بين ذراعيه لتحتضن وجهه بين راحتيها هاتفة :
_حمدالله على سلامتك يا حبيبي ..
تقولها وهي تستخرج "ميداليته الملونة" التي كان قد أهداها لها يوماٌ من جيبها لتهتف به بانفعال:
_يشهد ربنا إن قلبي ما بطلش يدعيلك طول ما انت بعيد .
فيقبل جبينها بحنان هامساً :
_أعلم يا "وصية أبي" ..ما كان الله لينجيني إلا ببركة دعائكم ..

يقولها ثم يلتفت نحو لجين التي وقفت دامعة العينين تمسد بطنها بأنامل مرتجفة وانتفاضة جسدها تفضح انفعالها فيندفع نحوها ليعانقها بقوة ..
أنامله تنحدر لتتشابك مع أناملها على بطنها فيمسدها برقة هامساً بحب:
_لن أخبركِ كم افتقدتك سأدعكِ تشعرين بهذا وحدك ..يا أم مؤمن !

دموع فرحتها تغرق صدره فيعتصرها بين ذراعيه أكثر لتدمع عينا ياقوت مكانها وهي ترفع عينيها للسماء بالحمد ..
قبل أن تهرع إلى غرفتها لتتصل برقم زين ..
وما كادت تسمع صوته حتى هتفت به بفرحة طاغية :
_عابد رجع .
_عارف.
نبرته الرصينة كعهدها تفضح سعادته كذلك فتضحك ضحكة صافية وهي تسأله ببعض العتب:
_وما قلتليش بدري ليه ؟!
_كنت حابب تكون مفاجأة حلوة أحسن ..انتو تستاهلوا تفرحوا قوي بعد اللي شفتوه الفترة اللي فاتت .
يقولها بصدق مشاعره الذي مسها كعهده فتضحك من جديد رغماً عنها لتمعن في دلالها العاتب:
_أنا بقا كنت حابة تكون أول واحد يبشرني ..
_مممم ..يعني أنا مديون باعتذار؟!
يقولها بنبرته الرخيمة الكفيلة ببث القشعريرة على طول جسدها فتحمر وجنتاها بخجل وهي تهم بالرد ..
لكنها تشعر بالهاتف يختطف منها فجأة فتشهق وهي ترى إسلام يحادثه بنبرة سمجة :
_هو احنا مش بيننا اتفاق؟!
ترمقه بنظرة راجية وهي تربت على صدرها براحتها المبسوطة تباعاً لكنه يرفع أحد حاجبيه بعناد ..
بينما يصمت زين للحظة على الجانب الآخر متمالكاً نفسه من مفاجأة تدخله ..
ليرد أخيراً ببرود داعب نبرته المتسلية :
_أختك اللي متصلة !

فيكتم إسلام ضحكة مغتاظة وهو يلكمها في كتفها بخفة مداعبة هاتفاً له بجدية مصطنعة :
_ماشي ..هنربي بنتنا حاضر .

_إياك تكلمها نص كلمة !
يقولها زين بصرامة غافلاً عن كونه يمزح ليصمت إسلام قليلاً مستمتعاً بإثارة قلقه قبل أن يتنحنح ليقول بنبرة لانت قليلاٌ :
_ع العموم شكراً على اللي عملته مع عابد .

_لا شكر على واجب ..انتو أهلي .
يقولها زين ببرود ضاغطاً حروف كلمة أهلي ليمعن إسلام في إثارته وهو يرد سماجة :
_لسه ما بقيناش !

يقولها ثم يغلق الاتصال دون المزيد فتهتف به ياقوت باستنكار:
_أقسم بالله انت كتلة رخامة ..انت بتعامله كده ليه ؟!
فيضحك وهو يقرص وجنتها هاتفاً :
_مادام انت مدلوق كده يا "أبو التوت" يبقى لازم أنا اللي أشد ..الراجل بيقوللي أختك اللي متصلة ..خلليتي رقبتي أد السمسمة .
_سلامة رقبتك يا أخويا ! حسبي الله ونعم الوكيل فيك زي ماانت واقف حالي !
تقولها وهي ترفع سبابتها للأعلى في وضع الدعاء فيرفع حاجبيه هاتفاً بأسف مصطنع:
_بنت! بتدعي على أخوكِ الكبير؟! ما عاد فيه خشا ..ما عاد فيه تربية ..ما عاد فيه حياء .

يقولها ليضحك بمرح فتشاركه الضحك للحظات قبل أن يضمها إليه بحنان قائلاً :
_قلتيلي إن نجلاء خلاص تقريباٌ خفت ورجعت تتكلم صح ؟!

تومئ له برأسها إيجاباٌ مستعيدة أحداث الأيام السابقة التي تطورت فيها حالة نجلاء كثيراً لتستعيد قدرتها على النطق تدريجياً ..وتعاود حياتها بصورة طبيعية ..
يقولون إن اجتهادها هي هو السبب لكنها تعلم أن لسامر الفضل الأكبر في تشخيصه الصحيح ..وبعده لوالد الفتاة الذي دعمها عاطفياً بأقصى صورة ..
_الحمد لله !
تقولها برضا مدركة أثر هذا على رحلتها المهنية فتلتمع عينابقوة قائلاً:
_حلو! هو ده اللي كنت مستنيه ..سيبيني بقا أوضب لك مؤتمر صحفي حلو يرج الدنيا ..عايز اسم ياقوت سليمان ده يبقى أشهر من نار على علم ..ساعتها الروس تتساوى وأوافق إن الراجل الغامض بسلامته ده يتجوزك ..

_حبيبي يا سلمونتي ..حبيبي ..حبيبي..
تهتف بها بمرح وهي تقرص وجنتيه لتسمع استنكار نشوى على الباب :
_لا لا لا..سلمونتي وقرص خدود ده تعدي على اختصاصاتي يا آنسة ..اوعي كده من فضلك ..

تقولها وهي تندفع نحوهما لتدفعها بخشونة مصطنعة ثم تطوقه هو بذراعيها في تملك غيور فتضحك ياقوت بمرح ..
بينما تخاطبه نشوى بقولها الذي حمل نبرة التهديد :
_واللا إيه يا هندسة؟!
فيضحك ضحكة عالية ثم يميل عليها ليغمزها مجيباٌ :
_مفيش كلام بعد كلامك يا عسل!
=======
_كنتِ فين يا سها؟!
تهتف بها والدتها بلهفة وهي تفتح لها باب بيتها لترد بنبرتها الميتة المعهودة وهي تدخل لتلقي حقيبتها جانباً بإهمال :
_كنت مخنوقة شوية قلت ألف بالعربية ..الجو ..

كلماتها تنقطع وعيناها تتسعان بصدمة بينما تميزه هناك جالساً ..
لا ..مستحيل!
ناصر!!
إنه حلم !!
حلم آخر من أحلامها التي صارت تصبّرها على هذا العالم !
حلم ركضت إليه قدماها وهي تتفرس ملامحه المبتسمة القلقة بمزيج من صدمة وفرح ..
لم تكن ترى أي شيئ حولها ..
لم تكن تسمع سوى صوت تنفسه المضطرب ..
لم تكن تشم سوى رائحة عطره المميزة ..
لم تعلم كيف استقر بها المقام فوق ساقيه متشبثة بعنقه بكلي ذراعيها وهي تتمتم باسمه المختلط بدموعها ..

_ناصر ..بحلم تاني ..يارب ما أفوق زي كل يوم ..

لكنها تشعر بذراعيه يعتصران جسدها بقوة كأنه يود لو يصهرها معه في كيان واحد ..
وهمسه الحار ينسكب في أذنيها :
_مش حلم يا حبيبتي ..أنا آسف إني ما ظهرتش طول الأيام دي بس كان غصب عني ..لو ..

تشهق بصدمة تقاطع كلماته وهي ترفع عينيها من جديد نحو وجهه تتلمسه بأصابعها المرتجفة هامسة بذهول وهي تشعر أن أنفاسها تتقطع :
_مش حلم ..ماما؟!
تلتفت بتساؤل مصدوم نحو والدتها التي كانت عاجزة عن منع بكائها والتي تقدمت منهما لتربت على كتفها هاتفة بانفعال مماثل:
_أنا كمان ماصدقتش لما فتحت الباب ولقيته قدامي ..الحمد لله يابنتي ربنا كريم عالم بحالك ..كنت..

لكنها تقاطع أمها كذلك بهمسها المتقطع :
_مش حلم ..مش حلم ..
تقولها وهي تعود لتحتضن وجهه بأصابعها بقوة أكبر هذه المرة ..
بل بدت وكأنها تغرس أناملها فيه !

تشعر بذراعيه يشتدان حولها فتتسع عيناها أكثر ثم تفيضان بالدمع دون توقف وكلماتها تخرج منها متخبطة كالهذيان :
_إزاي؟! الانفجار! الجنازة ! العزا !
لكنه يمسح وجهها بكفيه ليخفيه في صدره هامساً بألم :
_هاحكيلك كل حاجة بس اهدي ..اللي حصل ..
_ناصر ..انت بجد هنا؟!

للمرة الثالثة تقاطع الحديث صارخة بدموعها كأنها لا تسمع ..
الرؤى تختلط في ذهنها فلا تميز واقعاً من خيال ..
الدم ..الانفجار ..الدخان ..النار ..
الأسوَد الكئيب الذي لوّن حياتها بعدها !!

تشعر بشفتيه الدافئيتين تلهبان وجنتها بقبلة اعتذار قوية فتكتسحها رجفة ساحقة وجسدها كله يرتعد بجنون مع تدفق دموعها ولاتزال أناملها تحفر فوق وجهه حفراً ..
ليس حلماً ..
ناصر هنا ..
عاد ..
عاد ومعه روحها ..
تسمعه يتكلم لكنها لم تكن تعي سوى أثر ذبذبات صوته الحبيبة على أوتار قلبها ..
تراه عبر غمامة دموعها فتتمنى لو لا تخونها أهدابها بإغماضة واحدة تحرمها رؤيته من جديد ..
تشعر بذراعيه حولها يمنحانها الأمان الذي افتقدته منذ رحل ..
ناصر عاد ..
عاد !

_عشان كده أنا كنت رافض اقتراحهم لما قالوا إني المفروض أختفي لحد ما يقبضوا ع المجرمين ..كنت خايف عليكِ من صدمة زي دي ..بس ..

يقولها بأسف حقيقي لكنها تقاطع كلماته من جديد كأنها لا تزال لا تصدق كونه حقيقياً لتفاجئه بصراخها المنفعل:
_ردني يا ناصر ..ردني دلوقت حالاً قبل ما تقول أي كلمة ..حالاً !

فيربت على ظهرها مهدئاً ليقول بحاجبين منعقدين كمن يخفي أمراً جللاً :
_فيه حاجات اتغيرت يا سها لازم تعرفيها الأول.
_حالاً يا ناصر ! مش هاسمع ولا كلمة قبلها ! حالاً !
صراخها الهستيري مع فيض دموعها وحفر أناملها المرتعدة على وجهه يثير المزيد من شفقته فيتردد قليلاً كأنما يقاوم صراعاً بداخله وهو يحاول تهدئة جسدها المتشنج بين ذراعيه لكنها تصرخ بها من جديد بالمزيد من الانفعال فيحسم أمره ليعلن ردها لعصمته ..
ولم يكد يتلفظ بها حتى شعر بجسدها يستكين فجأة بين ذراعيه مع ارتخاء أناملها فوق وجهه لتغمض عينيها و..
تفقد وعيها فوق صدره !
=====
تفيق من إغماءتها لتجد نفسها لا تزال بين ذراعيه المتشبثين بها وأمامها والدها يحاول طمأنة والدتها المنهارة ..
ولم يكد يميز عينيها المفتوحتين حتى حمد الله بانفعال لتدور هي بعينيها من جديد في المكان قبل أن تعود لتركز بصرها فوق ملامح ناصر الملتاعة ..
تشعر بانتفاضة جسده القلقة لتميز حينها فقط هذا الكرسي الذي يجلس عليه ..

كرسي متحرك !
تشهق بارتياع وهي تنهض لتترنح في وقفتها ثم تجلس على الأرض على ركبتيها أمامه تتلمس معدن الكرسي بأنامل مرتجفة ..
تهتف باسمه في تساؤل ليعقد حاجبيه وهو يشيح بوجهه قائلاً :
_عشان كده قلتلك اسمعي اللي حصل ..أنا ..أنا مابقتش زي الأول !

يتبادل والداها نظرات الأسى فيطرقا برأسيهما للحظات قبل أن يجذب الرجل ذراع زوجته ليبتعد بها تاركاٌ لهما حرية الحديث ..

فيما بقيت سها للحظات تتلمس معدن الكرسي بأناملها كأنها ترسمه مصعوقة بكل هذه المفاجآت ..

بينما كان هو غارقاً في شعوره المستحدث ب"العجز"!
منذ ذلك اليوم الذي اكتشف فيه ما صار إليه حاله وهو يخشى مواجهتها هي وأبيه ..
أغلى الناس عنده !
هو الذي طالما عشق نظرة الفخر في عيونهما ..
كم سيكون من العسير عليه أن ينقلب الآن لإشفاق!
ربما لهذا لم يكن يرغب في التعجل بردها لعصمته لولا ردة فعلها الهستيرية التي رآها ..
ربما لهذا وافق أفراد إدارته على اختفائه طوال تلك الفترة متهيباً من مواجهة كهذه ..
تراهما كان أهون على قلب رجل مثله ..
أن يموت شهيداً أو أن يعيش عاجزاٌ ؟!!!

دمعة حارقة تتجمع في طرف عينه واشية بمرارة هذه الغصة في حلقه فيتحاشى النظر إليها قائلاً بجمود ليس بخادع:
_زي ما انتِ شايفة ..مش هاقدر أرجع لحياتي الطبيعية بسهولة ويمكن ما أرجعش خالص ..فكري كويس قبل ما تقرري إذا كنتِ هتقدري ..
_أفكر؟!
تقاطع بها عبارته للمرة التي لا تدري عددها في هذا اللقاء الذي يبدو كالحلم وهي تستقيم مكانها لتعاود الجلوس فوق ساقيه ..
تطوق عنقه بذراعيها معانقة ملامحه بكل هذا الشوق الذي ذبحها طيلة غيابه ..
بكل هذا الندم الذي مزقها دون رحمة ..
وبكل هذا العشق الذي لم ولن تحمله لغيره !
لتهمس له أخيراٌ باستنكار عبر حرقة لهجتها الشاكية :
_أفكر في إيه ؟! إني أفضل جنبك واللا أسيبك ؟! أفكر؟! إني أعيش واللا أموت تاني؟! أفكر؟! إني أرجع لنفسي واللا أتوه زي ما كنت وانت بعيد ؟! أفكر في إيه بس ؟! ده أنا فرحتي وأنا شايفاك دلوقت بس قدامي تساوي عمري الباقي كله !

وجهها ينهار بدموعها فوق صدره الذي بدا لها كأرض وطن عادت إليها بعد طول اغتراب ..
وارتجافة جسدها تشكو إليه عذاباً قاسته وحدها دونه ..

فيكتم آهة وجعه بها ولها وهو يضمها إليه بقوة مستعيداً مذاق أنسه بها ..ليصله همسها المتقطع :
_ليك حق تسأل ماانت ماتعرفش الأيام اللي فاتت عدت عليا إزاي ..يوم ورا يوم ما كانش ليا طلب من ربنا غير إني أموت وأحصلك ..كنت مستعدة أدفع أي تمن عشان أرجع ساعة واحدة أعيشها معاك ..أتأسفلك ع اللي عملته فيك وفي نفسي ..وجاي دلوقت تقوللي أفكر ؟!

يغمض عينيه بألم وأنامله تمسح دموعها على وجهها والمزيد من العجز يطوق كلماته ..
لو كان الأمر بيده وحده لاحتكم لعقله وكبريائه فابتعد عنها حتى يعود لسابق عهده أو يتدبر أمره وحده مكفياً إياها همه ..
لكنه يعلم أنها لن تتركه يفعلها !
وهو ليس بقادر على ذبحها بفراقه من جديد !!

لهذا عادت عيناه تدمعان بهذا الصراع الفج في أعماقه وهو يحاول البحث لكليهما عن مخرج ..
لكنها تتناول كفه لتقبل باطنه بعمق ثم تهمس له برجاء منفعل:
_وحياتي عندك يا ناصر وأنا عارفة إنها غالية عندك ..ما تكرر الكلام بيننا في الموضوع ده تاني ..اطلب مني أي حاجة غير إني أسيبك تاني ..والله ما هاستحمل .

تقولها وهي تعود لتتشبث بذراعيها في عنقه بقوة أكبر ودموعها تتدفق كالسيل من جديد فيتنهد مشفقاً على حالهما معاٌ ..
ثم يمد أنامله ليمسح دموعها ولم يكد يفعلها حتى شعر بدفء شفتيها يكتسح شفتيه بقبلة اشتياق أودعتها كل هذا الكلام الذي عجزت عن البوح به ..
أنفاسه تتوقف للحظة قبل أن يعود قلبه لهديره العاصف وهو يعتصرها بين ذراعيه أكثر ليدرك في هذه اللحظة أن لا مفر ..
دواء أحدهما لن يكون إلا في كنف صاحبه !

تبتعد عنه بوجهها أخيراً وشبه ابتسامة تطوف بشفتيها في أمل وهي تقرأ بخبرتها به قراره في عينيه ..
لتهمس له بمزيج تسلطها المعهود ورجائها النادر :
_ولا يوم واحد هتسيبني فيه بعد كده .

فتنفلت منه آهة ساخنة وهو يغمض عينيه متكتماً على بقايا شعوره ومكتفياٌ بتربيتته الحنون على رأسها تمنحها وعده ..
فتبسط راحتها على صدره وهي تزدرد ريقها الجاف هاتفة بانفعال :
_احكيلي اللي حصل يومها ..إزاي خرجت من هناك !

ينعقد حاجباه وهو يستعيد أحداث تلك الليلة التي لن ينساها ما عاش ..:


_كنت عارف إنك جاي .

يقولها برضا عبر تنهيدة ألمه وهو يبصر عبر ضبابات وعيه- الذي يكاد يفقده- صورة باسل يتقدم نحوه مع رفقة معه ..
باسل الذي أطلق سبة لاعنة وهو يرى إصابة ساقيه ليهتف به بسخط بينما يفك قيوده :
_جهاز التتبع اللي كان في عربيتك كان آخر خيط وصلنا بيك ..طلعت روحي بعدها لحد ما قدرنا نوصل إنهم حاجزينكم هنا .
_روحنا كلها هتطلع دلوقت لو ما لحقناش نخرج ..
يهتف بها وهو يشير بعينيه للقنبلة هناك فيشير باسل لرفقته حيث تقدم احدهم ليحمل ناصر معه قبل أن يركضا بسرعة عبر طريق مختصر مستغلين خبرتهم بخريطة المكان ليغادروا قبل الانفجار بدقيقة واحدة ..

_مدرسة (....)! عايزين يفجروها ..الحقهم يا باسل قبل ..

كانت هذه آخر كلماته قبل أن يفقد وعيه بينهم ليسترده بعد وقت طويل مع حفنة من الحقائق ..
الأولى وحدها كانت المفرحة أنهم قد نجحوا في إنقاذ المدرسة ..
لكن ما تبقى كان كفيلاً ليدرك أن حياته بعدها لن تعود لسابق عهدها ..
وأنه يعود ليواجه العالم ب"عجزه"!

ينتهي من سرد ما حدث لها فتغمض عينيها بوجع حارق وهي تتخيل كمّ الألم الذي عاشه وحده طوال هذه الأيام ..
إذا كان قلبها يكاد ينفطر على عجزه هذا فما الحال برجل مثله اعتاد نظرات الفخر في العيون ؟!
آه لو كان الأمر بيدها لمنحته من نفسها الفداء!
لكنها لا تملك الآن سوى أن تبقى جواره ..
زوجته وصديقته وسنده كما عودته منذ سنوات !!
لهذا كتمت كل شعورها بالألم لتلون شفتيها بابتسامة واهنة وهي تربت على وجنته برفق ..
ثم تغير الموضوع لآخر برشاقة مشفقة عليه من تذكره فتهمس له برقة عاتبة :
_تليفون واحد ! كلمة واحدة كنت بردت بيها قلبي طول الأيام دي ..حرام عليك .

_غصب عني ..الأوامر كانت إني أفضل مختفي لحد ما يقبضوا عليهم ..حاولت أطلب إن حد يطمنكم لكن كانوا عايزين رد فعلكم يكون طبيعي عشان الأمان لينا كلنا ..

يقولها بنبرة اعتذار وهو يقبل جبينها برقة لتغمض عينيها بتنهيدة راحة قوية ثم تنهض عن ساقيه لتبتعد فتحضر هاتفها لتعود إليه بصورة المدرسة قائلة بصوت لايزال مرتجفاً بانفعاله :
_ولادنا .

ابتسامتها المتأرجحة بين وجع ورضا تحلق بينهما كطائر يغرد حراً بعد طول سجن ..
فيبتسم بعينين دامعتين وهو يتفحص الصورة للحظات قبل أن يقول لها باعتزاز:
_كنت فخور بيكِ وباسل بيقوللي ع اللي عملتيه .
_على كلامك انت كنت مبلغهم قبلي ..يعني انت البطل الحقيقي .
تقولها بفخر مشابه وهي تعاود الجلوس على ركبتيها أمامه على الأرض تتأمل ملامحه باشتياق لتتسع ابتسامته بقوله :
_بس انتِ ماكنتيش تعرفي ..وعملتِ اللي عليكِ للآخر .

تتناول كفيه فتتشبث بهما بكل قوتها ثم تقبلهما بحرارة واحداً تلو الآخر ولاتزال لا تصدق وجوده حياً معها لتغلبها دموعها من جديد فيربت على رأسها محاولاً التخفيف عنها بقوله ببعض المرح الذي تسرب عبره وجعه الحقيقي:
_مش كنتِ بتتضايقي عشان شغلي بياخدني منك ؟! اهه خلاص هنقضيها أعمال مكتبية .
لكنها تستشعر هذه الحسرة بين حروفه فتهتف به بعزم:
_مش هنستسلم ! هندور على أي علاج في أي مكان ولو في آخر الدنيا ..حتى لو ..

صوت رنين جرس الباب يقاطعها فيهتف بها بترقب:
_ده أكيد الحاج ..أنا كلمته قبل ما آجي هنا .

تستقيم واقفة لتركض نحو الباب كي تفتحه بينما يغمض هو عينيه بالمزيد من العجز متأهباً للمواجهة الثانية ...

_صحيح يا بنتي ؟! هو ..؟!

تنقطع كلمات العجوز وهو يرى ابنه يتقدم نحوه بكرسيه لتدمع عيناه بصدمة لأول وهلة وهو يميز إصابته قبل أن يهرع إليه لينكب بجسده فوقه في عناق طويل هاتفاً بلوعة أب:
_أحمدك يارب وأشكر فضلك ..حمدالله على سلامتك يا غالي ..والله ما مصدق إني شايفك ..سامحني يا ابني ..سامحني ..

دموعه تخونه في كلماته الأخيرة وهو يتكتم على الاعتراف بحسرته لمصاب ابنه مكتفياً بسعادته بخبر رجوعه ..
لتقترب سها منهما شاعرة بما يكابده وقد وجدت في صدرها مثله ..
لهذا وقفت تربت بأحد كفيها على كتف الرجل فيما يتشبث كفها الآخر بكتف ناصر بقوة داعمة جعلته يرفع إليها عينيه لتتلو له عيناها تراتيل اعتذاراتها ووعودها ..
معاٌ ..حتى آخر العمر ..
فلا بداية ولا منتهى إلا في رحاب عشق لا يعترف بعجز ولا تقهره ظروف .
======
يستيقظ رائد من نومه ليتلفت حوله باحثاً عنها ..
منذ أزمة وفاة والدته وقد اعتاد أن يكون وجهها أول ما يراه صباحاً ..
بل إنه لا يكاد يرى غيرها في عزلته التي اختارها هنا هذه بعيداٌ عن كل ما يحمله له الخارج من ضغوط ..

_همسة !
يناديها بلهفة وهو يبحث عنها في الطابق العلوي لكنه لا يجدها فتمتلئ نفسه بخوف مجهول وهو يهبط الدرج نحو الطابق السفلي الذي كان خالياً منها كذلك ..

قلبه يخفق بهلع وهو يخرج إلى الحديقة يتلفت حوله حتى وجدها هناك ..
تلقي بنفسها في حمام السباحة !

الخوف الذي يملأه يجعله يصرخ باسمها وهو يركض بسرعة دون تفكير ليلقي بنفسه خلفها بكامل ملابسه فتشهق وهي تلتفت نحوه لتجده يضمها نحوه بعنف هاتفاً بجزع:
_بتعملي إيه ؟!

تهز رأسها بحيرة غافلة عن مخاوفه لتجيبه :
_المية دافية قلت أعوم شوية .

فيغمض عينيه بارتياح وهو يخفف ضغط ذراعيه حولها ..
تباً لهذا الخوف الذي يملأه تجاه كل ما يخصها خاصة بعد حادثة أمه الأخيرة !
كأنه لا يكتفي بعذاب ضميره تجاه أمه فيزيده على نفسه بخوفها عليها هي من أن تعيدها الضغوط لانتكاسة لن يستطيع تداركها خاصة وهي تصر على ملازمته في عزلته الاختيارية هنا في مزاجه الكئيب هذا !

_مالك يا حبيبي؟!
تسأله بقلق وهي تربت على وجنته ليزفر وهو يحاول الاسترخاء في الماء قائلاً:
_خفت لما شفتك بتنزلي المية ..من امتى بتعمليها من غيري؟!

تساؤله الأخير لم يحمل استنكاراً عاتباً بقدر ما حمل لها المزيد من الخوف لتتذكر ما أخبرتها به ياقوت أن جزءاً عظيماً من عذابه يكمن في خوفه عليها هي ..
هذا ما حاولت التعامل معه طيلة الأيام السابقة وهي تعمل قدر استطاعتها أن تدعمه بوجودها دون أن تشعره بما يعتمل في صدرها من مشاعرها السلبية هي الأخرى ..

لهذا ابتسمت وهي تقبل وجنته برقة هامسة :
_أي حاجة بعملها معاك لها طعم تاني ..بس النهارده المية كانت مغرية ودافية ما قدرتش أقاوم .

_ما خفتيش وأنا مش معاكِ؟!
يقولها بنبرته الغريبة وهو لايزال يتشبث بها لتجيبه بما ظنت أنه يحتاج سماعه :
_انت معايا حتى وانت بعيد .

يلتفت نحوها ليعانق عينيها الحبيبتين اللتين تزدادان توهجاً كل يوم ..توهجاً بلون القوة !
فتزداد أنفاسه سكينة ويرتخي بجسده أكثر في الماء ..
فقط ذراعاه يبقيان على تشبثهما بها ..
لكنها تمسك كتفيه لتجبره على التحرك بها بهذه الحركة الدائرية في الماء ثم تفرد ذراعيها حولها هاتفة بمرح يليق ببراءتها :
_كده عمر المية ما يبقى لها شط !

يبتسم رغماً عنه وهو يتذكر ما تحكي عنه فيجاريها في حركتها سامحاً لها بالدوران سابحة بين ذراعيه وهي ترفع وجهها نحو السماء ..
تبدو له كفراشة رقيقة تحلق بنعومة ..إنما بقوة !
هكذا كان يشعر بها وهي تفاجئه بتشبث ذراعيها هي به لتقبل وجنته بقوة هامسة :
_عندي طلب .
يرمقها بنظرة متسائلة وجلة وهو يخشى ألا يتمكن من تنفيذ رغبتها لأول مرة منذ عهد بعيد ..
لهذا عاد يزفر بضيق وهو يسمعها تقول راجية :
_تروح الشغل ..وهاجي معاك .

_مش هاقدر يا همسة !
يقولها معتذراً مشيحاً بوجهه لكنها تدير وجهه نحوها هاتفة بتصميم :
_لحد امتى ؟!

يسيئ تأويل عبارتها فتتجمد ملامحه بقناعه المعدني الذي يجد نفسه يستخدمه معها رغماً عنه ..قائلاً :
_معرفش ..أنا عارف إن الظروف دي مش مناسبة ليكِ وكذا مرة قلتلك تقعدي عند زين ..انتِ مش مجبرة تستحملي ..

يقطع كلماته وهو يرى الدموع تطفر من عينيها مع نظراتها العاتبة فيفض تشابك ذراعيه حولها ليعطيها ظهره محاولاً تمالك انفعاله ..
لقد ظن الأيام ستهون مزيج الحزن والذنب الذي ينهش صدره ..
لكن عزلته هذه تزيد من فتكه به !!

وما يزيد عذابه أنه يسحبها معه نحو هذا القاع دون وعي!

لكنها تحركت لتكون قبالته تمسح دموعها بنفسها بقوتها المستحدثة لتهمس له برقتها العاشقة :
_لو مش عايز تخرج بلاش مش هازعل ..بس هافرح قوي لو وافقت .

يطيل النظر إليها للحظات وكأنما يستمد من هاتين العينين قوته ..
ثم يسحبها نحوه ليضمها برفق هامساً :
_أنا آسف.
_وأنا بحبك وعمري ما هاسيبك لوحدك تاني .

تهمس بها ببساطتها الملائكية وهي تمسد على رأسه بأمومة تبدو غريبة على ملامحها الطفولية ..
لكنه خير من يدرك أنها تبزغ في حناياها كألف شمس !

ربما لهذا استجمع بعض شتاته ليقول بتردد :
_هتيجي معايا الشغل تعملي إيه ؟!

فتضحك وهي تدرك قرب استجابته لرجائها لتهتف بحماس:
_هابص عليك ..

يبتسم رغماً عنه لصدق مشاعرها هذه فتدلل ابتسامته بشفتيها ثم تردف بنفس النبرة :
_وأقعد جنبك عشان لو احتجت حاجة ..وأشغللك "ميوزيك هادية" تروق أعصابك .

_فكرتك عن الشغل غلط خالص.
يقولها مداعباً بابتسامة باهتة وهو يقرص أنفها بخفة لتضحك وهي تهز كتفيها هاتفة :
_خلاص خدني معاك وعلمني الصح .

يبدو التردد على ملامحه فتغمر وجهه بقبلاتها باندفاع طفولي هاتفة :
_وحياتي وحياتي يا رائد .

فيتنهد باستسلام وهو يقبل رأسها قائلاً بوجل:
_بس لو ماقدرتش أكمل نرجع بسرعة .
_فوراً .
تقولها قاطعة مستغلة هذه الفرصة النادرة التي تتحينها منذ عهد بعيد ..
كانت تعلم أن رجلاً مثله لن يخرجه من حزنه سوى الانهماك في عمله الذي يحبه ..
لهذا كانت أكثر من متحمسة وهي تسبقه للخروج من حمام السباحة ثم تمد له يدها بالمنشفة في سابقة أولى لانعكاس الأوضاع فيبتسم لها وهو يجفف جسدها أولاً قبل أن يلف المنشفة حولها ثم يفعل المثل بنفسه ..
فتضحك هاتفة له بحماس:
_مرة حلقت لزين دقنه وقاللي إنك هتغير لو عرفت ..تيجي أحلق لك دقنك قبل ما نخرج .

تتسع ابتسامته وقد سره أن ينفذ لها شأناً يسيراً كهذا فتمسك بكفه وهي تركض جواره على عشب الحديقة لتندفع به نحو البيت وبالتحديد نحو حمام غرفتهما الذي دلفا إليه لتبحث عن عدة الحلاقة فتضعها أمامه على طاولة الحوض ثم تبدأ في عملها ..

يبتسم برضا وهو يراها تعتلي الطاولة جالسة أمامه ثم يتابع أناملها الرقيقة منهمكة فيما تفعله ..
يسمعها تدندن بلحن رقيق اعتادا صغاراً التغني به فتتسع ابتسامته وهو يغرق في تفاصيل ماضيهما المشرق رغم غيوم الألم التي حلت به يوماً ..
_خلصت!
تهتف بها بانتصار وهي تضع ما بيدها جانباً فيفتح عينيه وهو يتأمل صورته في المرآة ..
أكثر إشراقاً ..كعهده مع إضافاتها الساحرة لحياته !

فيمد ذراعيه لينزلها من مكانها ثم يقبل رأسها بامتنان هامساً :
_شكراً .
_خد "شاور" وأنا هانقيلك الهدوم اللي هتلبسها .
تقولها بنفس الحماس آملة أن تكون تسير على الطريق الصحيح كما أخبرتها ياقوت ..
فيهز لها رأسه موافقاٌ لتندفع خارجة تركض كطفل أوكل له الكبار مهمة جسيمة ..

وبعد ساعة كان زين يجلس في مكتبه منهمكاً بين شئون عمله وبين بعض الأمور المتعلقة بدار الفتيات التي بدأ عملها بنجاح يزيد من شعوره بالرضا عن نفسه يوماً بعد يوم ..

صوت الطرقات على الباب يقاطعه فيسمح للطارق بالدخول لتشرق ملامحه وهو يبصرهما معاً فيندفع نحوهما ليعانق همسة أولاً بسرعة ..
قبل أن يمنح رائد عناقاً مؤازراً طويلاً وهو يربت على ظهره ليقول أخيراً بودّ:
_يارب تكون قررت ترجع ..مش عايز أقولها بس فعلاً محتاس من غيرك .

يبتسم له رائد بتردد لكنه يدور بعينيه في المكان شاعراً برغبة حقيقية فعلاً في العودة لأجواء العمل ..
هذا الذي قرأه زين بذكائه ليغمز همسة بخفة ثم يخاطبه بقوله :
_عندنا اجتماع بعد ربع ساعة ..احضره معانا خد فكرة وشوف الدنيا حصل فيها إيه وانت غايب ..فرصة !

يتردد رائد قليلاً لكن زين يشد على كتفه بنظرة داعمة بينما تتأبط همسة ذراعه الآخر بدلال هاتفة :
_مش كنت عايز تغير لي فكرتي عن الشغل؟! خلاص ..هاحضره معاكم ..هاقعد بعيد ومش هاعمل صوت .

تقولها مازحة بنبرتها الطفولية وهي تضع يدها على فمها فيضحك زين ضحكة عالية وهو يداعب شعرها بخفة ليبتسم رائد وهو يجول ببصره بينهما للحظات قبل أن يأخذ قراره ل..
يعود !


======
تتلفت ياقوت حولها في القاعة الفخمة التي قرر أن ينعقد فيها هذا المؤتمر الصحفي بعينين ملتمعتين ..
تشعر بالكثير من التوتر وهي ترى الحركة الدؤوب في المكان والمنصة التي تم إعدادها هناك ..

_دي شكلها ليلة كبيرة قوي سعادتك !
يهتف بها سامر بانبهار خلفها وهو يتلفت حوله كذلك ليضحك إسلام وهو يبسط ذراعه على كتفيه هاتفاً بمرح:
_امال يا أبو سمرة ! مش قلتلكم هتبقى نقلة جامدة ..والد البنت شخصية مهمة وليه معارف مهمين في منظمات حقوقية كتير هتلاقوا مندوبينهم هنا ..الحادثة اتقلبت قضية رأي عام وعايزين يصعدوها لأعلى مستوى ..القضية كانت هتنزل على فاشوش كالعادة وحقها يضيع ..بس البنت لما خفت افتكرت تفاصيل كتير فرقت في سير القضية ..والهاشتاج بتاعها بقا أكبر تريند على تويتر ..وطبعاً الفضل في علاجها يرجع -بعد ربنا -للعظيم أينشتاين وال ..."أنيقة" شجرة الدر!

يقول عبارته الأخيرة ضاغطاً على حروفها وهو يغمز ياقوت التي كانت ترتدي سترة بالغة الأناقة من الجلد النبيذي هو من اختارها لها مع سروال أسود ووشاح بلون كريمي أضاء وجهها وقد ربطته بهذه الطريقة التي تظهر قرط أذنيها كعهدها مؤخراً ..

تبتسم وهي تمسك كف إسلام طالبة بعض الدعم وهي تتلفت حولها تراقب الحضور الذي يتزايد عدده ..
بينما الأخير يهتف بنبرته المرحة :
_التليفزيون هنا بيصور ..بكرة الزهر يلعب معاكو ومحدش يعرف يكلمكم ..بس افتكروا ساعتها العبد لله !

فيضحك سامر هاتفاً بمرح مشابه :
_ولو إني عارف إني فقري والست حلاوة دايماً تقوللي إن حظي مايل زي المشط على مراية الأقرع ..بس مفيش مانع نتفائل يا صاحبي!

يشاركه إسلام وياقوت الضحك للحظات قبل أن تستأذن منهما ياقوت لبعض شأنها ..
فيلتفت سامر نحو إسلام متسائلاً بجدية:
_عرفت إن ناصر ..؟!
فيبتسم إسلام ابتسامة صافية وهو يرد بسماحة :
_عرفت وزرته امبارح ..مابقيتش عارف أفرح عشان طلع عايش ..واللا أزعل عشان اللي حصلله ..بس أنا سألت على حالته وعرفت إن ليها علاج بره ..ماافتكرش حد طموح زيه هيقصر .
_ولا سها هتسيبه يقصر!
يقولها سامر ببعض الفخر -بقريبته- الذي استغربه في نفسه ..
غريبٌ حقاً عندما تتبدل مشاعرنا بهذه الصورة ..
فتستحيل الغيرة الخانقة على "معشوقة الوهم" لاعتزاز حقيقي ب"حب قريبته" لزوجها !
سبحان من يقلب القلوب !!

وفي مكانها كانت ياقوت تطالع هاتفها حيث أرسل لها زين عدة صور حديثة من دار الفتيات خاصته ..
تبتسم بفخر وهي تتفحصها واحدة تلو الأخرى مدركة عظم الجهد المبذول لتقدم دعماٌ حقيقياً لمثل هؤلاء ..
صورهن وهن يمارسن بعض الأنشطة في فناء الدار ..أو يتلقين بعض الدروس فيما يشبه فصولاً معدلة ..أو يحتفلن بسرور مع المشرفات ..
كلها تجعلها تشعر أن زين في سبيله للتعافي حقاً من أثر ذنبه القديم ..
الصورة الأخيرة كانت له مبتسماً وهو يقف على مدخل الدار وقد بدا اسمها خلفه مزخرفاً بفخامة ..
"الياقوت والمرجان"!

يختلج قلبها بسعادة طاغية وأناملها تتردد فيما تريد كتابته ..

_هتيجي؟!

ترسلها وهي تعلم الجواب قطعاً ..هو لم يتأخر يوماً عن مشاركتها حدثاً يخصها فكيف بهذا اليوم ؟!

_أنا وراكِ !

تشهق بدهشة وهي تتلفت خلفها لتجده جالساً في الصف الخلفي مع عدد من الحضور الذين بدا عليهم الانشغال في التحدث ..
ولم تكد عيناها تلتقي بعينيه حتى لمحت ابتسامته المشرقة تضيئ الطريق من وجهه إلى وجهها ..
فابتسمت بدورها وعيناها ترسلان له من الحب ألف نجمة !

_فيش فايدة في المدلوقة ! يا بت اتقلي!

هتاف إسلام العابث يقطع سحر اللحظة فتلتفت نحوه بسخط ليرفع أحد حاجبيه مردفاً:
_بيعمل إيه هنا ده ؟!
_معرفش ! وبعدين هو قاعد في أرض الحكومة محدش له عنده حاجة !
تقولها مازحة وهي تكزه في أنفه بسبابتها ليضحك ضحكة عالية وهو يهم بتعليق لاذع ..
لولا حضور منسقة المؤتمر التي خبطت بخفة على كتف ياقوت قائلة بحماس:
_خلاص هنبتدي ..أول حاجة هتبقى كلمتك انت ودكتور سامر ..اتفضلي معايا .

_ونجلاء؟!
تسألها ياقوت باهتمام لكن الجواب يأتيها في صورة الفتاة المبتسمة التي كانت تجلس جوار والدها في الصف الأول وتلوح لها خفية ..
تبتسم ياقوت وهي تستعيد مراحل علاج الفتاة لتشعر باعتزاز حقيقي وهي تراها قد وصلت لبر الأمان ..
تسير جوار سامر الذي لم يكن أقل منها ارتباكاٌ وهو يعتلي المنصة جوارها ..
يختلس نظرة جانبية نحو نجلاء التي كانت عيناها تفضحان تعلقها به فيشعر بالمزيد من التخبط الذي لا يفهمه ..

يستعيد صورتها وهي ترص العرائس التي يحضرها لها فيربطها رغماً عنه بريتال ..
تراه تعلق بها لهذا السبب؟!
يعترف أن فرحته بعلاجها تفوق سعادته بمجرد شفاء مريض ..
يسترجع هذه اللحظة التي رآها فيها لأول مرة -من خلف زجاج النافذة كالعادة- تتحدث مع ياقوت بطريقة طبيعية بعد تلعثم طال لأيام فيشعر بقلبه يخفق وهو يميز أن أول اسم نطقته كان اسمه ..

يختلس نظرة أخرى نحوها فيجد عينيها معلقتين به بهذه النظرة الآسرة ..
فيخفق قلبه من جديد بهذا الشعور الذي لا يفهمه ..
ريتال أم نجلاء؟!
حيرة قاتلة تدك قلبه دكاً وهو يشعر بعجزه الحقيقي عن أن يفهم نفسه ..
لكنه يتجاهله عمداً وهو يشيح ببصره عنها ..
يلقي كلمته أولاً عن تعريف المرض النفسي وضرورة التوعية به في بلدنا وعدم التنصل من تبعاته خزياً أو انتقاصاٌ ..ثم يتحدث عن مرض نجلاء بالتحديد والذي تعافت منه تماماٌ ..
لتبدأ ياقوت في إلقاء كلمتها كذلك وهي تتناول الموضوع من زاوية الاهتمام الأسري وأثره على العلاج مشيرة لدور والد نجلاء الفعال معها ..
قبل أن تعرج على خطورة قضايا الخطف التي انتشرت مؤخراً وأسبابها وطرق الحد منها من الناحية النفسية بصفتها قد درست الجانب النفسي إضافة للجانب الدوائي في العلاج ..

فعاليات المؤتمر تنتقل برشاقة من موضوع لآخر كما قد تقرر له ..
لينتقل المايكروفون لمنسقة المؤتمر التي خاطبت الحضور بقولها :
_لو فيه أي أسئلة لدكتور سامر أو دكتورة ياقوت اتفضلوا !

تنهال الأسئلة تباعاً من ممثلي كثير من القنوات الفضائية فيجيبها سامر وياقوت تباعاً ..

حتى تفاجأ ياقوت بزين يقف فتقدمه المنسقة بفخر يليق بمكانته :
_رجل الأعمال المعروف زين الفايد ..اتفضل حضرتك قول سؤالك .

يخفق قلبها بجنون وهي تشعر بالخجل يكاد يحرق وجنتيها ..
ما الذي سيفعله هذا المجنون ؟!

_دكتورة ياقوت ..تتجوزيني؟!

يقولها بنبرته المهيمنة التي يخالطها الآن عشقه الجارف الممتزج بفخره بها في هذا الموقف ..
فيسود القاعة صمت مندهش للحظة قبل أن يملأها الصخب والحضور يتبادلون الضحكات المرحة ..
بينما تكاد هي تفقد وعيها خجلاً وهي تتلفت حولها لنظرات الحضور التي طوقتها بين فخر وفضول ..

_قلتيلي مجنون ماصدقتش !
يميل بها سامر على أذنها بخفوت ليردف وهو يرى العيون محدقة بها :
_قولي حاجة خللينا نخلص ..الناس بتبص علينا .

فتعدل وضع نظارتها فوق أنفها وابتسامة عاشقة تلون شفتيها مع إيماءة موافقة تجعل القاعة تضج بالتصفيق ..

يبتسم زين بدوره وهو يهم بالجلوس لكنه يشعر بكف إسلام على كتفه وبنظرته الماكرة يهمس له :
_عرض جواز ع الهوا ! بتحرجني يعني؟!
فيرفع زين أحد حاجبيه بحركة موحية تجعل إسلام يضحك ضحكة راضية وهو يمد له يده مصافحاً بقوله :
_مبروك .

يضحك زين بدوره وهو يشد على يده مصافحاً لتثبت الكاميرا هذا المشهد كتوثيق ..

وفي مكانها بصالة البيت كانت ثمر تطالع شاشة التلفاز برضا بينما لجين تهتف بفرحة :
_شفتِ يا ستي؟! ده طلب إيدها قدام الدنيا كلها ! شكله بيحبها قوي!
فتبتسم ثمر وهي تركز بصرها على كف إسلام الذي يصافحه ظاهراً في المشهد لتقول بنبرة راضية :
_وماله ؟! مادام بالأصول محدش يقول حاجة !

تقولها لتستمع لتعليق منسقة المؤتمر التي كانت تضحك ببعض الحرج وهي تتلفت حولها قائلة :
_دكتورة ياقوت شكلها مش متميزة في شغلها بس ..إنما في حياتها كلها ..الست اللي تخللي راجل زي زين بيه يطلب إيدها بالطريقة دي تبقى أكيد تستاهل ..

الحضور يتفق على تصفيق طويل والمشهد يتركز على ياقوت التي وقفت خجلة محمرة الوجنتين لكنها كانت ترفع أنفها باعتزاز يليق بها ..
لتتنهد ثمر بارتياح وهي ترفع وجهها للسماء بحمد صامت قبل أن تتمتم بحنان :
_مبروك يا بنت قلبي ..ألف مبروك .
=======
_يعني ترقصي في حنة اخواتي الاتنين وأنا لا؟!
يقولها إسلام بسخط وهو يغلق عليهما باب الغرفة التي يبيتان فيها في بيت ثمر في الليلة السابقة لزفاف ياقوت ..
"ليلة الحنة" التي لم تقل حميمية ودفئاً عن تلك الخاصة بلجين وإن زادها شعور ثمر بالسكينة والاطمئنان فرحة فوق فرحة ..

فتضحك نشوى وهي تكمم فمه بكفها هامسة بخجل:
_هتفضحنا ! قلتلك ماعرفتش ..جربت وماعرفتش .

_ماليش فيه ! تعرفي!
يقولها بعناد فتضحك من جديد بخجل وهي تشير لريما النائمة على الفراش هامسة :
_وطي صوتك ..البنت هتصحى!

_يعني المرتين اللي أشوفك فيهم بترقصي يكونوا فيديو ع الموبايل ..ده أنا لو شاقطك من شارع جامعة الدول مش هابقى كده ..مراااتي يا ناس وعايزها ترقص لي!!

يهمس بها بغيظ وهو يقرص أذنها لتعجز عن كتم ضحكاتها وهي تتملص منه لتسأله بنبرة اتهام:
_أنا بقا عايزة أعرف مين اللي صورني فيديو في المرتين وبعتهملك !

_ارقصيلي وأنا أقوللك .
يقولها بعناد فتهتف به بنبرتها الشوكية :
_وريهملي الأول .
_ارقصيلي وأنا أوريهملك .
يقولها بنفس العناد مكتفاً ساعديه لتزداد نبرتها هجوماً :
_انت إزاي أصلاً سايبهم على موبايلك ؟!
_ارقصيلي وأنا أمسحهم .
يهتف بها بنفس الطريقة ليعلو صوتها رغماً عنها :
_ارقصيلي ارقصيلي انت عليك عفريت ..قلتلك ما برقصش قدام رجالة ..بتكسف!

تهتف بها ثم تندفع نحو الفراش جوار ريما فترفع عليها غطاءها ليزفر هو بسخط وهو يتحرك ليشاركهما الفراش متمتماً :
_كل حاجة بتكسف بتكسف ..وهي عاملالي صافيناز قدام الناس !

_بتقول حاجة ؟!
تقولها بنبرتها الشوكية ليلكزها في كتفها هاتفاٌ بتهكم ماكر:
_بقول ما شفتش في أخلاقك ! نامي نامي!

يقولها ثم يبسط راحته مفرودة في وجهها لتضحك وهي تخفي وجهها في الوسادة ثم يصله صوتها بعد قليل :
_سلمونتي!

_نعم .
يقولها ببعض الأمل أن تعدل عن رأيها لكنها تقول بدلال مستفز :
_اتغطى كويس ونام .

فيعود ليلكزها في كتفها ليعلو صوت ضحكتها من جديد ..

هذا الذي وصل ياقوت وهي تمر جوار الغرفة لتسمع بعضاً من حديثهما مصادفة فتكتم ضحكتها وهي تبحث عن ثمر ليخبرها حدسها أنها ستكون هناك فوق السطح ..

تصعد إليها فتجدها متربعة على الأرض في جلستها المفضلة ..
تتقدم نحوها لتجلس واضعة رأسها في حجرها منتظرة رقيتها الأثيرة التي ما كادت تنتهي منها حتى رفعت إليها ياقوت عينيها لتقول برضا:
_كانت ليلة حلوة قوي يا ستي ..أهل البلد كانوا مبسوطين قوي .

_الحمد لله يا بنت قلبي ..ربك كريم ..

يتهدج صوتها في عبارتها واشياً قرب بكائها فتعتدل ياقوت في جلستها لتضمها لصدرها هاتفة بجزع:
_بتعيطي يا ستي؟!

والجواب يأتيها عملياً في دموع ثمر التي أغرقت كتفها وهي تهتف بحرارة :
_لو قلت مش فرحانة أبقى بجحد نعم ربنا اللي مغرقانا ..بس غصب عني فراقك عازز عليا ..أختك اتجوزت بس ما سابتنيش ..لكن انتِ ..

تقطع عبارتها دون تكملة فتتلقف ياقوت كفها لتقبله هاتفة بانفعال:
_عمري ما أستغنى عنك يا ستي ..أنا متفقة مع زين هنزورك هنا كل جمعة زي ما كنت بعمل ..اعتبريني زي ما أنا ..بشتغل وبجيلك آخر الأسبوع ..أرمي همي على كتفك وأشاركك فرحتي ..هو أنا أقدر أعيش من غيرك ؟!

تمسح ثمر دموعها وهي ترفع كفيها بأدعيتها المعهودة لها فتبتسم ياقوت وهي تعاود الاستكانة في حجرها ..
تكتفي بسماع صوتها العجوز المتهدج الذي يحمل لها سكينة الدنيا كلها ..
ورغماً عنها ينتابها خاطر يجعلها تقول لها بخجل:
_عارفة نفسي في إيه يا ستي؟!
ترمقها المرأة بنظرة حانية وهي تمسد فوق رأسها منتظرة جوابها لترد ياقوت :
_نفسي زين يقعد نفس القعدة دي كده ..ترقيه بإيدك الطيبة وتدعيله ..هو ماطلبهاش ..بس بشوفها في عينيه كل ما بكلمه عنك ..وكل ما بيشوفك ..ده بيحبك قوي يا ستي والله .

فتنقلب ملامح ثمر الباكية لضحكة حانية تليق بردّها:
_ربنا يحبه ويحبب فيه خلقه !

تتنهد ياقوت بارتياح وهي تتناول كف جدتها لتقبله ثم تضعه على صدرها مراقبة القمر الذي بدا لها وكأنه يحمل صورة زين ..
فتقول بهيام :
_بفرح قوي لما تدعيله يا ستي ..شفتي الفستان اللي جابهولي؟! إسلام ماصدقش لما شافه ..بيقوللي أغلى فستان اتعمل في البلد .

_الغالي للغالي يا بنت قلبي .
تقولها باعتزاز فتغمض ياقوت عينيها هامسة بنفس النبرة الهائمة :
_فاكرة لما قلتيلي إن عقلي لازم يصالح قلبي وأنا بتكلم عليه ..حاساها قوي دلوقت ..ماعدتش بحبه عشان هو صورة من كل حاجة اتمنيتها في الراجل اللي عايزاه وبس ..لأ..بقيت فخورة بيه وراضية عن كل خطوة بيعملها..

ثم تتنهد بحرارة مردفة :
_قلبي وعقلي اتصالحوا يا ستي .

فتهز ثمر رأسها برضا وهي ترفع عينيها للسماء من جديد نحو القمر ..
لكنها كانت ترى فيه صورة ابنتها الراحلة ..
لقد أراد القدر أن تُحرَم رؤية ابنتها عروساً تزفها كالأخريات لكنه عوضها خير عوض في حفيدتيها ..
ترمق "صورة أشواق" علي وجه القمر بنظرة طويلة راضية وهي ترى ملامحها التي تشبه ملامح ياقوت تبتسم بارتياح ..
فتتنهد بعمق!
الآن فقط تشعر أنها أدت رسالتها مع حفيدتيها على أكمل وجه وسلمتهما لمن تستأمنه عليهما بعدها ..
فالحمد لله الذي لا تضيع ودائعه ولا يكشَف ستره ولا يخيب سائله ..
تدمع عيناها من جديد لكنها تغلقهما على دموعها تتمتم بمزيج من رضا وشجن :
_ربنا يرحمك يا أشواق!
========
"قصر الفايد"

تطالع اليافتة الذهبية الفخمة بعينين دامعتين وهي تميز كفه الممدود نحوها والذي تشبثت به لتترجل من سيارة العرس ..
ترفع عينيها للسماء فتجد "القمر الحبيب" ظاهراً مستديراً كاملاً وحوله غيومه تبدو كعرائس تزفها إليه ..
تعود بعينيها إليه لتميز سراجا الذهب يتوهجان بنظرة خاصة هذه الليلة ..
منذ سلمها له إسلام على باب مركز التجميل الشهير الذي تولى زينتها الاستثنائية لتبدو بأجمل صورة رأت فيها نفسها يوماً ..
ثوبها الأبيض تتخلله خيوط كريستالية بلمعة ذهبية تشبه وميض عينيه هو ..
كذلك طرحة العرس التي مزجت اللونين الأبيض بنقائه والذهبي بفخامته ..
كل ما فيها كان يشع تألقاٌ يبزغ من داخلها أولاً ..
لم تسمع يوماً عن عرس يشترط فيه العريس زياً موحداً للحضور لكنه فعلها لأجلها ..
كتبها في دعوة العرس أن يحضر النساء كلهن يرتدين اللون الذهبي الذي يليق بفخامة العروس!
هل يمكن أن تعشقه أكثر من هذا ؟!

تراه يرفع كفها ليقبل باطنه بهذه الحركة التي تعشقها فلا تسمع صوت الزغاريد التي انطلقت عالية من حولها ..
بل صوت خفقات قلبها المجنون به فحسب !

تخطو معه لداخل البيت الذي تزينت حديقته استعداداً لحفل الزفاف فبدت شديدة الفخامة حقاً ك"بستان ملكيّ" مما يحكون عنه في الأساطير ..
تدمع عيناها وهي تتذكر كل لحظة قضتها هنا من قبل كمجرد عابرة سبيل ..
قبل أن تصبح الآن سيدة هذا البيت!

تتأبط ذراعه بمزيج من فرح وفخر وهي تخطو وسط الجموع ..
لتكون همسة أول من تقابلها لتعانقها بقوة هاتفة :
_مبروك يا أجمل عروسة ..يا بخت زين بيكِ!

تقولها ثم تعانق زين الذي يأبى أن يترك ياقوت بل يبسط ذراعه الآخر حول همسة فيضمهما معاٌ ثم يتنهد بحرارة ..
أخيراً أضاء بيت الفايد ب"شمسيه" معاً !!

يقبل جبين همسة بعمق فتتنحى لتفسح الطريق لرائد الذي عانق زين بحرارة صامتاً كعهده لكن عينيه كانتا تفيضان بعمق ارتياحه أن وجد زين راحته المنشودة أخيراً ..
قبل أن يرمق ياقوت بنظرة طويلة راضية ليقول أخيراٌ وهو ينقل بصره بينهما :
_من أول يوم شفتك وأنا حسيت إن هيبقى لك دور كبير في البيت ده ..ماكنتش أعرف إنك هتبنيه من تاني .
يقولها بامتنان راضٍ ثم يعود ليعانق زين مربتاً على ظهره بمؤازرة اعتادها كل منهما في صاحبه .

يتقدم بها زين ليجلس معها على منصة العرس الفخمة لتبدأ موسيقا هادئة كلاسيكية في العزف تدعو العروسين لرقصة أولى ..
تتعلق بذراعيها في عنقه ليحيط خصرها بذراعيه وعيناها تجولان في الوجوه حولها رغماٌ عنها ..
العناق التاسع عشر ..
بنكهة الإشهار ..الإعلان ..الهتاف الصارخ دون شك أنه لها وهي له ..
فليشهد العالم أنها تحبه ..
فليشهد العالم أنه يحبها ..
دون مزيد من مواراة وخزي وتخفّ خلف جدران الظلام !

تتفقد نظرة ثمر الراضية ..نظرة لجين الدامعة بفرحتها ..نظرة إسلام الداعمة المرحة ..نظرة هيثم السعيدة ..نظرة سامر الودود ..نظرة رابحة الهائمة بطفولية ..نظرات بعض أهل القرية الذين أصروا على الحضور رغم بعد المسافة والتي يملؤها الاعتزاز ..

وأخيراً نظرة ياسمين المشعة بالسعادة والتي تراقبها جوار يامن الذي فضحت نظراته ضيقاً لم يستطع كبحه كأنه قد حضر رغماً عنه !

تضحك للخاطر الأخير فيغازل ضحكتها بعينيه هامساً :
_كنت فاكر إن مفيش في الدنيا أجمل من عينيكِ ..لحد ما شفت ضحكتك دي النهارده .

فتخفي وجهها في صدره بخجل لتصلها ضحكته المكتومة وهويشدد ضغط ذراعيه حولها مردفاً :
_وعد مني تفضل منورة شفايفك العمر كله !

قلبها العاشق يتلقى وعده كنبوءة فترفع قمريها الحُرّين نحوه هامسة بامتنان:
_عمرك ما خلفت وعد ادتهولي .
_ولا هتحصل!

يهمس بها بحسم وهو يقبل وجنتها برقة لتتنهد بهيام وهي تشعر بأنها تكاد تذوب بين ذراعيه ..

_لا لا لا ..خف علينا كده يا حليوة احنا لسة في أول الليلة ..مااحناش أدك !

"العفريتة العابثة" كانت تعيش أزهى عصور حريتها الآن وهي تعربد بداخلها لكنها لم تعد تتجاهلها بل صارت تسايرها باستسلام لذيذ ..

تسمع الموسيقا تنتهي فتتوقف معه لتهم بالعودة لكرسيها لكنها تشعر به يتشبث بكفها ليوقفها مكانها ..
تراه يمسك بالميكروفون فتتأهب حواسها استعداداً لما سيقوله ..
الصمت يسود الحضور وهم ينتظرون كلماته التي جاءت أخيراً رزينة لكنها دافئة بل ..مشتعلة ..

_طول العمر ده كنت محتاج واحدة زيها ..مش عشان أحب ولا عشان أتجوز ..
ثم يصمت لحظة ليردف بنبرة أكثر حرارة وسراجا الذهب في عينيه يقسمان لها ألا ظلمة بعد الآن أبداٌ :
_عشان أعيش!

تغمض عينيها بتأثر وهي تشعر به يقصد هذه الكلمات بالذات كي يمحو عن ذهنها تماماً مرارة جملة شبيهة قرنها فيها يوماً مع ياسمين ..
كفها الحر يبحث عن كفه ليعانقه بينما يصفق الحضور بصخب تميز هي فيه صوت صفير إسلام العالي ..

ثم تراه يشير لأحدهم إشارة خاصة فيتقدم نحوهما يحمل ما خطف بصرها ..
تاجٌ فخم من الذهب المرصع بماسة رقيقة وقد حفرت على قاعدته تلك العبارة التي نطقها جهراً أمام الحضور :

_قولي لهم بكل كبرياء ..يحبني كثيراٌ !

تدمع عيناها بفرحة طاغية ونظراتها تتعلق بين الكلمات المكتوبة على التاج وبين شفتيه الناطقتين بها بهذه الحرارة ..
تهم بإحناء رأسها كي يلبسها إياه لكنه يثبت ذقنها ليرفعها بإباء ونظرته تحكي لها أن رأساً كهذا لا ينحني ولا كي يلبس تاجاً !

يضعه أخيراً على رأسها ثم يقبل جبينها بعمق فيعود الحضور يصفقون مع صفير إسلام العالي كعهده ..

وأخيراً يقدم لها خاتمه الذي بدا لها عادياً قبل أن يرفعه أمامها لتتسع عيناها وهي تميز غرابته ..
يبدو كأنه يتكون من حلقة واحدة لكنها تكتشف أنه يتكون من عدة حلقات متراصة متشابكة عند مركزين في منتصف الخاتم
هذه التي فردها هو تباعاً لتشكل ما يشبه الكرة الأرضية بخارطتها ..
تشهق بانبهار وهي ترى الخاتم البسيط يتحول لنموذج مصغر للعالم ..
لقد قرأت يوماً عن خاتم ألماني قديم يشكل خريطة فلكية بهذه الفكرة التي يبدو أنه اقتبسها عنها ..
لكن هذا يبدو لها أكثر جمالاً وأناقة ..
هذا الذي قربه من عينيها ليقول لها فخوراً عبر الميكروفون :
_انتِ الدنيا كلها !

هذه المرة لم تستطع منع دموع فرحتها التي أخفتها في كتفه ليعيد هو طي حلقات الخاتم ليعيده كما كان ثم يلبسها إياه مع تصفيق الحضور الذي كان له صدى عذباً في أذنيها ..

لم تتخيل يوماً أن يكون زفافها بهذه الفخامة ..
أن يعلن حبه لها أمام الجميع بهذه الصورة ..
لكن لم العجب ..؟!
هو رجل سبقت أفعاله كلماته منذ غزل الحب أول خيوطه بينهما !

تشعر به يربت برفق على ظهرها فترفع إليه عينيها الدامعتين لينحني برأسه فيقبلهما تباعاً شاعراً أنه يتلقى بنظراتها هذه آخر صكوك غفرانه ..
يبعد الميكروفون منهياً عهد الجهر ليهمس جوار أذنها بنبرته الرخيمة :
_لسه أجمل كلام مااتقالش ..عاينه لحد ما نبقى لوحدنا .

يتحرك معها متعانقي الكفين ليعود بها لكرسييهما ..
فقرات الحفل لم تقل فخامة عن زفاف همسة وإن كانت أكثر تحفظاً بطبيعة الحال ..

الحفل الذي انتهى أخيراٌ لتقف ثمر في مواجهتهما دامعة العينين بسعادة ..
تعانق ياقوت بحرارة فتتشبث الأخيرة بها وهي تشعر أنها حققت لكلتيهما حلم حياتها ..
_راضية عني يا ستي؟!
تهمس لها بها بصوت متهدج بانفعاله لتحتضن ثمر وجهها ..
ترى في سعادتها حصاد عمرها ..
فتهمس لها بضحكة عبر أسنانها المكسورة وتجاعيد وجهها تحكي حكايات من فرح :
_ربنا يرضى عنك العمر كله يا بنت قلبي .

تقولها لتتوجه نحو زين ببصرها فينحني الأخير ليقبل كفها باحترام لكنها تبعد كفها بسرعة لتبادره بعناقها الأمومي الذي افتقد مثله طويلاً ..
قبل أن تهمس له بحرارة :
_غلاوتك بقت من غلاوتها ..أنا مش هوصيك عليها لأني لو ماكنتش متأكدة إنك هتخلليها في عينيك ماكنتش وافقت أجوزهالك ..بنتي عزيزة وانت تستاهل !

يرفع إليها عينيه بتقدير ثم يقبل رأسها ..
ستبقى هذه المرأة تبهره بكلماتها بسيطة الظاهر عميقة الباطن ..
ليدرك في كل يوم يمر أن امرأة كهذه هي من ربت "أسطورة" كياقوت !

_مبروك يا توتة !
تهتف بها لجين وهي تأخذ دورها في عناقها لتهمس في أذنها بحرارة :
_فاكرة كلامك ليا ليلة فرحي؟! افرحي يا غالية ..افرحي أد ما تقدري ..احنا شفنا كتير بس عوض ربنا أكبر .
تدمع عينا ياقوت وهي تشدد من عناقها لها شاعرة بعظم هذا المعنى ..
الآن فقط تشعر أن لحظة فرح كهذه طمست حزن العمر كله !
تسمع عابد يشكر زين بامتنان على مافعله لأجله ثم يبارك له و لها بدعاء متحفظ لكنه حمل لها صدق شعوره الطيب ..فتبتسم له بمودة حقيقية شاعرة أنه أخوها الثالث ..
بل الرابع محصية رائد الذي تقدم لتوه ليباركها مع همسة ..

_يوم فرحي قلتلك عقبالك باللي يستاهلك ..ماكنتش أعرف إنها هتتحقق بسرعة كده .
تقولها نشوى وهي تمنحها عناقها الأخوي الممتن فتربت على ظهرها قائلة بمرح:
_اللي تتجوز إسلام أكيد دعوتها مستجابة ..ليكِ الجنة يا بنتي !

تضحك نشوى بمرح وهي تحمل ريما لترفعها نحو ياقوت فتهتف لها الأولى بفخر طفولي وهي تغمزها بحركة إسلام:
_مبروك يا عسل ..أجمل عروسة "كيرفي" شفتها!
تتسع عينا ياقوت بصدمة وهي تنظر لإسلام نظرة اتهام يضحك لها عالياً مشيراً لصدره بفخر ...فيما يحمر وجه نشوى بحرج وهي تعيد ريما أرضاً ..


_مبروك يا "أبو التوت"! تاج وخاتم وحركات جامدة ..الواحد كده هيحس إنه راحت عليه !

يقولها إسلام وهو يتقدم ليعانقها بدوره فتحتضنه بكل قوتها ليلتفت هو نحو زين مردفاً بمشاكسته المعهودة :
_أنا عالجتلك ذوقها بس انت لو حسيت إنها انتكست في أي لحظة وشفت في الدولاب حاجة برتقاني هنا ..حاجة بطيخي هناك ..كلمني بس وأنا هاجي أظبطلها التردد على القناة الصح !

يضحك زين ضحكة صافية وهو يراها تلكز أخاها في كتفه ليضمها إليه قائلاً باعتزاز :
_تلبس اللي هي عايزاه ..وأنا هاخليهولها موضة !

_ياااا سيدي!
يهتف بها إسلام بمرح لتهم ياقوت برد خطفه هو من طرف لسانها وهو يبسط راحتيه في وجهها هاتفاً:
_والله ما انتِ قايلاها ..عارفها ..
ثم يرفع أنفه مقلداً حركتها وأسلوبها :
_إيش فهمك انت ؟!

تشاركه الضحك بمرح وهي ترى هيثم يتقدم مع آخر امرأة توقعت حضورها الليلة ..
أجل ..جيلان!
لم تحضر الحفل من بدايته لكنها جاءت لتوها كما يبدو !

ملامحها الجامدة تفضح ألماً حاولت إخفاءه وهي تتقدم منها لتصافحها قائلة بصوت مرتجف:
_مبروك!

الوجوم يسود بينهم للحظات مع ظهورها بطبيعة الحال لكن جيلان تبتسم وأحد كفيها يتشبث بكف إسلام بينما الآخر يتشبث بكف هيثم كأنها تعلن ابنيها خيارها الأوحد ..والأبقى!

تنظر جيلان لثمر نظرة طويلة تقبلتها الأخيرة بسماحة تليق بها ثم تهز لها وللجين رأسها بنفس الابتسامة المرتجفة قبل أن تتراجع مع إسلام الذي آثر الابتعاد بها مكتفياً بهذه التضحية التي رآها عظيمة منها ..
فيما بقي هيثم ليعانق ياقوت بدوره ثم يقبل وجنتها قائلاً بعاطفيته المعهودة :
_أجمل أخت وأشطر دكتورة وأشيك عروسة ..يابختي بيكِ .

فتربت على وجنته بحنان لينسحب هو مدركاً أمه وأخاه ..
فيما تتحفز ملامحها وهي ترى ياسمين تتقدم مع يامن ويمنى التي تلقفتها همسة كالعادة لتلاعبها ..

_مبروك يا ياقوت !
تهتف بها ياسمين وهي تعانقها بحرارة لتهمس لها بصدق:
_مش محتاجة أقوللك فرحانة أد إيه ! بجد ..هاطير م الفرح عشانك !
تبتسم لها ياقوت شاعرة بصدق إحساسها لتبتسم وهي تميز الغيظ الذي كسا ملامح يامن وهو يستجيب لكف زين الذي بادره بمصافحته فتقبلها على مضض ..
منذ موقف مروءته الأخير مع عابد في محنته وهو يشعر أنه مدين له ..
لكنه لا يستطيع نسيان الرواسب القديمة !
ربما ..بعد حين !

_خلاص ..بقينا عيلة .
يقولها يامن من بين أسنانه لتكتم ياسمين ضحكتها وكذلك ياقوت مدركتين مشاعره الحقيقية فيما يبتسم زين بتثاقل ليرد :
_أكيد ..شيئ يشرفني!
يهز له يامن رأسه بابتسامة صفراء ثم يبارك لياقوت قائلاً بفظاظته المعهودة التي خالطها الكثير من الود :
_مبروك يا "شقراط" ..ربنا يسعدك .

يقولها ليسحب ياسمين من كفها بتملك غيور مبتعداً بها ليقترب مروان وهو يحدج يامن بنظرة متسلية ردها له الأخير بلكمة في كتفه جعلته يضحك وهو يقترب من ياقوت قائلاً بتحفظه الودود :
_مبروك يا دكتورة ..تستاهلي كل خير .
_البركة فيك ..انت اللي فتحت الباب ده !
تقولها متذكرة أنه لولا ترشيح مروان لها لدى يامن لما كانت لها قصة مع زين من الأساس ..
فيضحك مروان وهو يمازحها بقوله ممسداً كتفه من أثر لكمة يامن :
_حاولي تنسي الحكاية دي وما تقوليهاش كتير قدام يامن ..العمر مش بعزقة !

يشاركهما زين الضحك بسماحة لتنقلب ملامحه لبرود منطقي وهو يرى سامر يتقدم منهما فيشيح بوجهه وهو يسمعه يحدث ياقوت:
_مبروك يا "شجرة الدر" .
تبتسم له ياقوت بمودة وهي تشعر بتحفز زين الغيور جوارها فيبتسم سامر وهو يمد يده لزين مصافحاً مع قوله :
_مبروك ..شفت الخطف بيجيب م الآخر إزاي؟!
فيبتسم له زين رغماً عنه لينسحب سامر مع مروان وهما ينخرطان في حديث ودود افتقدته صداقتهما لانشغال كل منهما بحاله ..

ينصرف الجميع فتلوح لهن بسعادة ثم تتأمل أضواء الحديقة التي بدت لها متلألئة كالفرحة التي يهيم في واديها قلبها في هذه اللحظة ..
تراه يتحرك ليقف قبالتها كأنه يغار على عينيها أن ترى سواه بعد هذه اللحظة ..
_ياللا بينا .

يقولها بنبرته الرخيمة وعيناه تتثاقلان على ملامحها بعاطفة هادرة اكتسحتها ..
لكنه هذا الاكتساح الآمن الذي يكسب الخدين حمرة ..
ويغزل فوق الشفاه بسمة ..

تتأبط ذراعه لتتحرك معه نحو الداخل شاعرةً أن هاهنا فقط ..
بدأ العمر !
=======
يقف بها في غرفتهما التي أعدها بذوقهما المشترك ليغلق بابها خلفهما ..
عيناه تطوفان فوق ملامحها بتبتل عاشق فتغمض عينيها بخجل ..
تشعر به يحتضن كفيها بكفيه ثم يلصق جبينه بجبينها ..أنفاسه بأنفاسها ..شفتيه بشفتيها ..
لم يكن يقبلها بل بقي فقط على هذا الحال لدقيقة كاملة كأنه فقط يأنس بانصهاره هذا فيها ..

_عارفة يعني إيه تعيشي عمرك كله حاسة إن ناقصك حاجة ..وأخيراً تكمل؟!

يهمس بها دون أن يغير وضعهما هذا فيشعر بكفيها يتشبثان به أكثر مع همسها الذي يشاركه اشتعاله :
_عارفة .

يبتعد بوجهه ليهم بنزع تاجها لكنها تتشبث به هامسة بلهفة راجية :
_سيبني لابساه شوية ..دي أجمل هدية جتلي في حياتي .
فيبتسم وهو يطبع على شفتيها قبلة ناعمة ليهمس لها بأروع ما يكون العشق :
_أجمل هدية جتلك تاج قلبي إداهولك من زمان ..تاج بيتلبس في العمر مرة واحدة بس وما بيتقلعش بعدها أبداً !

تدمع عيناها بمزيج من فرحة بهذه الكلمات ورهبة خفية تجتاحها بينما يداعب ملامحها بأنامله في افتتان ليرتجف جسدها فجأة وهي تلعن ظنونها التي ذكرتها في هذه اللحظة بالذات بأسوأ ليلة قضتها معه ..

تلك التي لم تذق في حياتها ذلاً كالذي عرفته فيها ..
سيارته معتمة النوافذ ..فيديو لجين ..ابتزازه القاسي ..عقد الزواج القسري ..شقته الأنيقة وتلك المرأة تجهزها له ..
ثم تنتقل خواطرها عاصفة نحو تلك الليلة التي تقاربا فيها حميمياً لتنتهي بطعنتها له فتتلون في عينيها بلون الدم !
قلبها يستحلفها أن تفتح عينيها ..
أن تبصر هذا العشق الكفيل بمحو الماضي بينهما ..
لكنها تجد نفسها رغماً عنها تغمضهما أكثر وهي تشعر بجسدها ينتفض ..

_ممكن تسيبني خمس دقايق؟! خمس دقايق بس أغير هدومي !

ارتجافة صوتها تفضح له خوفاً يتفهمه وهو يقرأ خبيئتها بخبرته العتيدة بها ..
فينحني ليقبل عينيها المغمضتين برقّة ثم يداعبهما بأنامله ليجبرها على فتحهما هامساً أمام قمريه :
_ولا ثانية الليلة دي هاسيبك فيها لوحدك ..أنا عارف فيه إيه هنا .

يقول عبارته الأخيرة وهو يشير بسبابته نحو جانب رأسها فتهتز حدقتاها بنظرة اعتذار وجلة تتلقفها ابتسامته المتفهمة وأنامله تعاود عزفها على وجنتيها :
_ما تفكريش كتير ..افتكري بس إنه لولا البداية القاسية دي ماكناش وصلنا هنا !

_زين ..أنا بحبك !
تهتف بها فجأة وهي تضم رأسه لصدرها بقوة حانية فتتسع عيناه قليلاٌ مع اعترافها الذي يسمعه بهذا الوضوح لأول مرة ..
تضطرب خفقاته وهو يسمع هدير قلبها تحت أذنه يكاد يزلزله ..
هاهنا فردوسه المفقود الذي ضل عنه طيلة هذه السنوات ..
تعويذته الأبدية نحو الخلود في عشق ساحرة كهذه ..
وجحيم الهوى الذي لا يريد أن يعفَى من لهيب احتراقه أبداً ..
أبداً !

بينما تأخذ هي نفساً عميقاٌ كأنما تمزق باعترافها هكذا كل هذا الخوف الذي يحاول نسج شباكه حولها ليرفع هو وجهه نحوها من جديد وعيناه تشتعلان كجمرتين من نار ..
فتردف هي بحرارة أكبر وعيناها تنافسان عينيه اشتعالاً :
_عارفة إن كلمة زي دي في حق راجل زيك قليلة بس ..
لكنه يقاطعها وهو يحتجز بقية حروفها بين شفتيه للحظات ساحباً معه أنفاسها ليهمس لها وقد ابتعد أخيراٌ :
_كلمة زي دي من واحدة زيك تساوي الكون بحاله .

_يا لهوووي على كلامه ياني ! أنا دخت خلاص!

تهتف بها العفريتة العابثة بداخلها فتضحك فجأة لتبسط راحتها في وجهه هامسة بخجل:
_أنا عندي اعتراف!
يرمقها بنظرة متسائلة فتكتم ضحكتها براحتها لتقول بخجل:
_أنا عندي عفريتة .
_عفريتة !
يرفع بها أحد حاجبيه بمكر مرح لتشيح بوجهها عنه هامسة بارتباك خجول :
_عفريتة كده بتطلع فجأة ..عكسي خالص ..
_عكسك إزاي؟!
يقولها بنبرة متسلية مستمتعاً بهذا الارتباك الخجول الذي يزيد فتنتها لتلوح بكفيها مجيبة :
_شقية ..جريئة ..و ..قليلة الأدب !

يضحك ضحكة عالية تسحق خفقاتها المتيمة به ثم يميل عليها ليهمس لها بنبرته المتثاقلة كمن يعلن سراً :
_أنا كمان عندي عفريت ..تيجي نعرفهم على بعض!

تنفجر فجأة في ضحكة عالية ترقص على إيقاعها روحه بينما عفريتتها العابثة تهلل منتشية بداخلها :
_تصدق بالله ؟! انت هتشوف مني أحلى شغل عشان البقين الحلوين دول ..أموت أنا في التقيل لما يتجنن !

_مش عايزة تعرفي سر مثلث برمودا اللي عندك ؟!
يقولها بمكر وهو ينزع عنها تاجها لتطلق صيحة تذمر لكنه يميل عليها ليقبل موضع قلبها هامساً بتملك رجولي آسر :
_ما احنا قلنا تاجك الحقيقي هنا !

أنفاسها تتلاحق وهي تشعر به يزيح عنها طرحتها برفق ليسدل شعرها فوق كتفيها ثم تتخلله أنامله بهيام ..
قبل أن يتحرك نحو المرآة هناك ..
يفتح سحاب ثوبها ثم يزيحه عنها برفق ليدير جانب جسدها نحو المرآة ..
ويقف هو خلفها مشيرا لتلك الشامات الصغيرة متناهية الصغر التي تشكل مثلثاً صغيراً على جانب كتفها ..
فتتسع عيناها بصدمة هاتفة بدهشة خجول :
_هو ده المثلث ؟! أول مرة آخد بالي ..
_أنا بقا هاتجنن من يوم ما شفتهم ..
يهمس بها بتثاقل وعيناه تغيمان بنظرة زلزلتها لتشعر بحلقها يجف مع هذه الرجفة التي شملتها ..

_ليه مسميه مثلث برمودا ؟!
تلقي سؤالها بوهن وهي تشعر بعباءة عاطفته تسدَل فوقها ثقيلة آمنة دافئة ..
تنظر إلى صورتهما عبر المرآة وقد ألصق ظهرها بصدره ..
ليبسط أحد راحتيه فوق موضع قلبها بينما تسبق أنامله شفتيه اللتين مالتا فوق "مثلثها الخطير" مجيباً بهمسه الشغوف:
_عشان اللي بيدخل جواه ..مفقود !

تتأوه بخفوت وهي تستقبل عناقه العشرين ..
بنكهة الانصهار ..الذوبان الحلو الذي ما عاد يفرق بين جسد وآخر أو روح وأخرى ..
الامتزاج الأبدي لاثنين في العشق صارا واحداً ..

العناق الحادي والعشرون ..
ثم ..
الثاني والعشرون ..
ثم ..
الثالث والعشرون ..
ثم ..
ال ...؟؟؟
عداد "عناقاتها" يطيش مؤشره فيعجز أخيراً عن الإحصاء !!
النكهات تتداخل وتمتزج ..

تعاطف ...احتياج...عجز...شكر....خوف...تق دير ...دعم..حماية ..استراحة ..فراق ..اشتياق ..رغبة ..خلاص ..حرمان ..تعرية ...وعد ..غيرة ..انتماء ..اشهار ..ذوبان ..


لتصنع الآن نكهة واحدة مجمعة ..
نكهة الحب الحقيقي الذي قلما نقابله في رحلة العمر الطويلة ..
فحقّ لنا متى وجدناه ألا نضيعه !
======
انتهي الفصل الثالث والثلاثون ..
تتبعه الخاتمة باذن الله


نرمين نحمدالله غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 13-12-19, 02:40 AM   #1190

Aya a qabeel

? العضوٌ??? » 400707
?  التسِجيلٌ » May 2017
? مشَارَ?اتْي » 19
?  نُقآطِيْ » Aya a qabeel is on a distinguished road
افتراضي

رهيب فظيع يهبل يجنن
حاجة كدة تخلي القلب يرفرف 😍😍😍💕💕💕💕


Aya a qabeel غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:14 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.