آخر 10 مشاركات
نبضات حرف واحاسيس قلم ( .. سجال أدبي ) *مميزة* (الكاتـب : المســــافررر - )           »          الطاغية - ساره كرافن - روايات ديانا ( إعادة تنزيل )** (الكاتـب : امراة بلا مخالب - )           »          الى اين الطريق.. (الكاتـب : مجهولة. القدر - )           »          لاادري مااكتب (الكاتـب : مريامي - )           »          القلب والروح والنفس تطلبها *مميزة* (الكاتـب : المســــافررر - )           »          انا طير .. (الكاتـب : المســــافررر - )           »          311 - لن ينتهي الرحيل - الكسندرا سكوت (الكاتـب : سيرينا - )           »          إن كرهتكـــــــ فلا تلوميني ... (الكاتـب : المســــافررر - )           »          308 – نيران الحب -جينيفر تيلور -روايات أحلامي (الكاتـب : Just Faith - )           »          112 - دمية وراء القضبان - فيوليت وينسبير - ع.ق (الكاتـب : بنوته عراقيه - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > مـنـتـدى قـلــوب أحـــلام > منتدى قلوب أحلام شرقية

Like Tree6Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 07-02-19, 11:25 PM   #531

راما الفارس

? العضوٌ??? » 386178
?  التسِجيلٌ » Nov 2016
? مشَارَ?اتْي » 1,037
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Jordan
?  نُقآطِيْ » راما الفارس is on a distinguished road
افتراضي


تسجيل حضووووووووووووووووووووووو وور لأحلى نرمين



راما الفارس غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 07-02-19, 11:52 PM   #532

نرمين نحمدالله

كاتبة في منتدى قلوب أحلام وفي قصص من وحي الاعضاء ، ملهمة كلاكيت ثاني مرة


? العضوٌ??? » 365929
?  التسِجيلٌ » Feb 2016
? مشَارَ?اتْي » 2,008
?  نُقآطِيْ » نرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond repute
افتراضي

القطعة الثامنة
=======
لو تخطئين بعدد ذرات الرمال لصفحت بعدد قطرات المطر...
لو تبعدين بقدر الشمس لاقتربت كما أنفاسك...
لو تركضين وتركضين بعيداً ما تركتُ صدر غيري يتلقفك !
قدرك المحتوم أنا...فهل فاز يوماً من عاند الأقدار ؟!
"مروان"
************
لا تلُمْ فراشاتي لو حلقت نحو النار بجناحين من شمع...
فقط...كن معي عند سقوطي!
لا تهزأ بحلم عشته مفتوحة العينين...
فقط...أغمض لي عينيّ وامنحني بين ذراعيك حلماً أجمل!
هذي يدي لا تدعها من يدك...
فما بقي من العمر أقصر من أن نهلكه انتظاراً !
"داليا"
************
جلس مروان ينتظرها في سيارته تأهباً لزيارة عمه التي طلبتها بنفسها ...
شعور غامر بالارتياح ينتابه بعدما أفضى ليامن بمكنون قلبه لكن يبقى الطريق لقلبها طويلاً بطول الحلم الذي يحتضنه قلبه بها ...
لهذا لم يملك جنون خفقاته وهو يراها تظهر أخيراً تتجه نحوه بخطواتها المنطلقة التي تشبه جموح روحها ...
صفراء مشعة بسترتها الأنيقة القصيرة وحجابها السماوي الذي ناسب لون تنورتها وحذائها الرياضي ...
ابتسامته العاشقة تجتاح شفتيه وتتسع مع مرأى مشبكه الخاص الذي يحمل صورة "ميريدا" المتمردة على جانب صدرها ...
آهة خافتة تنبعث منه وهو يشعر بقربها الوشيك يشعل
خلاياه كلها ...
لو بقي الحال هكذا فسيعترف أمامها كعاشق أبله أو ربما فقد سيطرته ليسمح لشلال حبه أن يتدفق فيغرقهما معاً ...



_اتأخرت عليك؟!
بشقاوتها الحلوة تقولها وهي تستقل السيارة جواره ليجيبها دون وعي:
_قوي.

عيناها تتسعان قليلاً وهي تميز هذه النظرة في عينيه والتي لا يمكن أن تخطئ تأويلها ...
والمعنى الذي وصلها من كلمته تفهمه صحيحاً تماماً فتزدرد ريقها ببطء لتشيح بوجهها هامسة :
_آسفة .

المعنى الذي قصدته يصله واضحاً هو الآخر فيطلق زفرة خافتة قبل أن يشغل السيارة لينطلق بها غير غافل عن نظراتها المختلسة نحوه ...
أناملها المتشابكة فوق ساقيها المهتزتين بعصبية تنبئه عن ارتباك يخشى أن يسرف في حسن الحظ فيه ...
لكنه ابتسم ليسألها بنبرة حانية :
_مالك ؟!

صمتت قليلاً وهي تعاود اختلاس نظرة متفحصة نحوه ...
هالته الرجولية تمنحها شعوراً غريباً لم تعرفه من قبل...
هو مزيج من "هيبة" دكتور ياسر و "احتواء" يامن و "حنان" هيثم...
المزيج الذي ظنته يوماً مستحيلاً لكنها تقسم أنها تستشعره الآن معه ...
والذي يختلط بإحساسها الدائم بالخزي نحوه مما جعل عينيها تدمعان وهي تهز رأسها في إشارة بلا معنى ...
فأوقف السيارة جانباً ليلتفت نحوها متسائلاً :
_غيرتِ رأيك ؟! تحبي أرجعك ؟!

لكنها عادت تهز رأسها نفياً قبل أن تطرق به متطلعة نحو كفيها المتشابكين لتسأله بتردد :
_دكتورة سهام قالت لك عني إيه ؟!
ارتفع حاجباه بإدراك وهو يستوعب سر ارتباكها ليراوغها بقوله :
_ما تسيبك م اللي هي قالته وتقوليلي انتِ .
_أقوللك إيه ؟!
رفعت بها وجهها نحوه ليميل رأسه بمكر مجيباً:
_اللي انتِ خايفة أفهمه منها غلط .
_وهتفهمه مني صح؟!

النبرة التي نطقت بها عبارتها كادت تجعله يميل نحوها ليضمها لصدره بقوة ...
وكيف لا يفعل مع مزيج الضراعة والكبرياء المدهش الذي لا تكاد تتقنه سواها ؟!!
لهذا أخذ نفساً عميقاً ملأ به صدره قبل أن يستدير بجذعه نحوها ليسند ذراعه على مقود السيارة وعيناه ترميان حمول العشق على شواطئها مع قوله الذي حاول أن يكون محايداً:
_مفيش حاجة تخليكِ عايزة تكدبي قدامي ولا حتى من باب أنك تجمّلي صورتك عشان كده أنا هاصدق كل كلمة تقوليها .

عبارته كانت تشير ل"جرحها القديم" له لهذا أشاحت بوجهها في خزي ناقض كبرياء عبارتها :


_أنا عملت حاجات كتير غلط لما بفتكرها بندم عليها بس عزائي الوحيد إني اتعلمت منها ومش هكررها تاني ...
_جميل .
قالها بنبرته التي تمزج حنانه بتعقله فشجعتها لتردف دون أن تنظر إليه :
_كان ممكن أهرب من غلطي بس أنا قصدت أروح النهارده لدكتور ياسر وفي وجود دكتورة سهام عشان ...عشان ...
لوحت بكفيها تبحث عن تعبير مناسب ليكمل هو لها :
_عشان تصححي الصورة وتثبتي لنفسك ولهم إنك اتغيرتِ .
أومأت برأسها لتهتف بحماس وهي تعاود الالتفات نحوه وكأنما أسعدها أن يفهمها هكذا :
_أيوة فعلاً...خصوصاً إني حاسة إن نظرات الدكتورة ناحيتي اتغيرت للأحسن .
_ده حقيقي.
قالها موافقاً وقد أسعدته هذه الحماسة الفرِحة في عينيها فابتسمت لتعاود الإطراق برأسها قبل أن تجد نفسها تحكي له دون تحفظ ...
عمّاذا؟!
عن كل شيئ!!
عن افتقادها لصورة الأب التي وجدتها في دكتور ياسر ...
عن تطلعها الطفولي لنظرة إعجاب من يامن ...
وعن صداقتها بهيثم التي كانت ترضي جزءاً من غرورها الأنثوي...
وعن شعورها ب"الفقر العاطفي" رغم وجود كل هذا!!
ورغم أنها لم تضف الجديد لمعلوماته لكن أن يسمعها منها هي نحوه هو ك"مروان" كان يعني الكثير له حقاً...
لهذا صمت محترماً فيض بوحها السخي هذا حتى انتهت بقولها :
_أنا عارفة إن كل ده ممكن يدي عني صورة البنت الفلتانة اللي مااتربتش...بس صدقني أنا كنت بدور عن حاجة
فعلاً كانت ناقصاني.
_ولسه ناقصاكي؟!
_مش عارفة...بس الأكيد إني اتغيرت...والفضل لربنا ...وللظروف..ول..لناس وقفت جنبي .

عبارتها الأخيرة اتسمت بالكثير من الارتباك قبل أن تشرد ببصرها في "العاشق المجهول" الذي اختفى من حياتها فجأة تاركاً خلفه فراغاً لم يكن ليملأه غيره...
لكنه لم يكن ليتركها لشرودها هذا الذي كان يدرك سببه ليسألها مباشرة :
_انتِ ليه بتقولي لي أنا بالذات كده دلوقت ؟!

سؤاله -على بساطته - صدمها لتصمت قليلاً قبل أن تجيبه دون أن تنظر إليه :
_عشان انت حد كويس ويهمني ماتاخدش عني فكرة وحشة.
_وإيه كمان ؟!
كان يدرك أن إجابتها تحتمل المزيد وصدق ظنه عندما تابعت بارتباك خجول:
_وعشان تقبل أسفي على اللي حصل مني زمان؟!
_وإيه كمان ؟!
لايزال يبحث بإلحاح عن الجواب الذي يرضيه لكنها لم تملك أكثر من قولها المتلجلج:
_وعشان انت عرضت عليّ صداقتك والصاحب لازم يثق في صاحبه ويعرف عنه كل حاجة.

حسناً فليكتفِ بهذه الإجابة مؤقتاً حتى تمنحه المزيد !
لهذا ابتسم ابتسامة وجدتها هي جذابة نوعاً وهو يعاود
الالتفات نحو الطريق ليشغل السيارة متجهاً نحو منزل عمه تلاحقه نظراتها المختلسة ...
لماذا لم يعلق على ما قالته ؟!
لماذا يعاملها بهذا الغموض الذي لا تفهمه؟!
ولماذا لا يحاول فرض عاطفته -التي تراها في عينيه هذه - عليها مكتفياً بمسافة مناسبة بينهما ؟!
لكن هل تراها تريد منه حقاً هذا الضغط؟!
هل يرتضيها ضميرها أن تعلقه بوهم وقلبها ملك لغيره ؟!

انقطعت أفكارها عندما وصلت بهم السيارة لبيت عمه فأخذت نفساً عميقاً تتأهب للّقاء القادم.
======
_نورتينا يا داليا.
قالتها سهام في نهاية المقابلة وهي تودعهما أمام باب بيتها بينما ترمق داليا بنظرات ود حقيقية جعلت الأخيرة تغمغم بارتباك:
_حمداً لله على سلامة دكتور ياسر ...آسفة لو تعبتكم.
_البيت بيتك.
قالتها سهام وهي تختلس نظرة ماكرة نحو مروان الذي كان يحتضن داليا بنظراته والتي مدت للمرأة يداً مصافحة لكن الأخيرة جذبتها في عناق دافئ قصير قبل أن تبعدها لتربت على كتفها قائلة بحنان غاب عنه تحفزها القديم:
_خللي بالك من نفسك ...لو عايزة تفرّحي دكتور ياسر بجد انجحي السنة دي بتقدير .

عضت داليا شفتها بخزي فجرته المواقف القديمة بينهما لكن المرأة عادت تربت على كتفها وعيناها تمنحانها عن سؤالها الصامت جواباً مُرضياً غير منطوق !

_سرحانة في إيه ؟!
سألها مروان بعدما انطلق بالسيارة ملاحظاً شرودها لتلتفت نحوه بابتسامة مرتبكة مع هزة رأس فقال وهو يتلفت للطريق حوله :
_الجو برد شوية .
_أحسن خلليه يبرد...
هتفت بها بنبرة عادت إليها حيويتها الطفولية لتردف وهي تضم ياقتي سترتها من الفرو الأنيق:
_من أول الشتا وأنا نفسي ألبسها وأهه جه وقتها .

عاد يضحك من عفوية تعليقها قبل أن يستجمع جرأته ليسألها:
_تحبي نتمشى شوية ؟!
_ياريت!
هتفت بها باستحسان وهي تنظر للرصيف الموازي ل"الكورنيش" جوارهما قبل أن تلتفت نحوه لتسأله ضاحكة :
_مش هتقوللي استأذني يامن الأول؟!
_اطمني...يامن مديني إذن مفتوح .
قالها وهو يوقف السيارة فأطرقت برأسها قائلة :
_أنا مبسوطة إنكم رجعتم زي الأول ...كنت خايفة تخسروا بعض بسببي .
كيف يخبرها أنه يكره إطراقها هذا ؟!
يكرهه وهو يفضح شعورها بالخزي...
يكرهه وهو يناقض طبيعتها المتمردة الجموح ...
ويكرهه وهو يحرمه استنطاق عينيها اللتين يعشق ترجمة نظراتهما !!
لكنه اضطر لكتم مشاعره كالعادة مكتفياً بقوله :
_ماتقلقيش على علاقتي بيامن ...اللي بيننا صداقة عمر مفيش حاجة هتهزها ...
ثم تلفت حوله ليسألها فجأة :
_بتحبي "الحَلبسّة"؟!
رفعت إليه رأسها فجأة وهي تشك فيما سمعته لتهتف بتساؤل:
_إيه ؟!
_الحلبسة ؟! ماتعرفيهاش ؟! البتاع اللي هناك دي ؟!

التفتت حيث يشير لتجد عربة صغيرة نظيفة زينها صاحبها بأنوار مميزة عصرية الطراز ووضع فوقها بعض
الأواني التي زينها بحروف انجليزية أنيقة وقد التف حوله الكثير من الناس لتهتف بابتسامة ساخرة :
_إيه العربية "الروشة" دي ؟! شكلها يفتح النفس ...المفروض يكتب عليها "الحلبسة لما تكمل تعليمها بره"!!
ضحك من عبارتها ليجاريها المزاح بقوله :

_ده "حمودة" قرب يصدرها للدول المجاورة من كتر
الإقبال ...ادعي بس نلحق لنا دور قبل العشا.

_آسفين يا "حمودة"!
قالتها وهي تشير بكفها نحو جبهتها ثم نحو صدرها في حركة مشاكسة ليبتسم وهو يترجل من السيارة ليبتعد نحو العربة هناك ...
فابتسمت بدورها وهي تغوص في مقعدها أكثر تراقبه وهو يزاحم الجمع هناك قبل أن يعود لها ب"غنيمته الساخنة" ...

ترجلت من السيارة بدورها لتتوجه نحوه فناولها أحد الكوبين ليسيرا متجاورين قبل أن تسأله وهي تتشمم الكوب بحذر:
_هي عبارة عن إيه ؟!
_حمص وشطة وحاجات كده فوق بعضها .
قالها ثم شرب من الكوب متلذذاً لتضحك هي قائلة :
_يامن لو عرف إنك شربتني "البتاع" ده من على عربية في الشارع هتخسروا بعض بجد .
فضحك بدوره ليرد مشيراً لطباع صديقه الوسواسية :
_أهي دي الحاجة الوحيدة اللي فشلت أقنعه بيها ...يتهيألي لو حب يشربها هييجي هنا يعقم العربية الأول قبل ما يعملها هو بنفسه.

عادت تضحك للحظات قبل أن ترفع كوبها لشفتيها هاتفة بمرح:
_ماتخافش أنا مش هاكسفك زيه...
ثم ارتشفت منه رشفة وقد أعجبها مذاقه لتردف:
_من النهارده اعتبرني "رفيق في حب الحلبسة"!

ضحك بسعادة حقيقية وهو يشعر بقلبه منتشياً بين ضلوعه مع صدى ضحكاتها هي الأخرى ...
قلبه الذي كان يستشعر تغير مشاعرها المتنامية نحوه لكنه كان يخشى أن يكون مجرد أمل كاذب ...
بينما كانت هي تعيش صراعها الخاص بين أحاسيس لا تفهمها ...
انجذابها نحوه يربكها ...
لماذا؟!
ربما لأنه يأتي رغماً عنها !
أجل ...هي كانت واعية -بل مختارة- عندما أقحمت -بل اقتحمت- كل من سبقه من رجال في حياتها ...
لكنه هو الوحيد الذي تشعر بأنها تسير نحوه مغمضة العين بلا حول ولا قوة ...
تراه مجرد "فراغ عاطفي" بعد غياب عاشقها المجهول؟!
لا تدري!
والأسوأ أنها لا تملك التوقف!!

لكنها تلهّت عن أفكارها بتناول "الحمص" قبل أن تلتفت نحوه ولايزالان يسيران بخطوات متمهلة لتسأله :
_سمعت إنك هتفتح عيادة.
_ آه ...بس بصراحة محتار بين مكانين ...واحد في (....)والتاني في (.....).
فارتفع حاجباها بدهشة وهي تقارن بين المكان الأول الذي كان في حي راقٍ بينما ينتمي الثاني لمنطقة شعبية نوعاً لتعاود سؤاله:
_إيه اللي جاب ده لده ؟!
_بالضبط ! ما هو ده اللي محيرني !
رمقته بنظرة متسائلة ليردف:
_المكان الأولاني مكسبه المادي أكبر بس المكان التاني ...
_المكان التاني هو مكان مروان الحقيقي .
قاطعته بها باندفاع تعجبته في نفسها قبله لكنها لم تلتفت لدهشته وهي تردف بحماس :
_لو أنا قارياك صح يبقى انت مش هاتفكر كتير قبل ماتختار تخدم الناس اللي محتاجاك ...اللي زيك مش عايش عشان يكسب فلوس وبس...عايش عشان شايف لنفسه رسالة وهدف ...وده اللي هتلاقيه بجد وسط
الغلابة.

سيحتضنها !
سيفعلها الآن وسط الشارع وستكون فضيحة !
لكن لا بأس!
سيصلح خطأه بعدها ويتزوجها ...وينتقم منها لكل هذا الحرمان الذي عاشه بسببها !!

كانت هذه أفكاره العابثة التي لجمها بتعقله وهو يشيح بوجهه عنها كارهاً لكنه لم يستطع منع ابتسامته ...
ولا ارتجافة أنامله على الكوب !
كما لم تستطع هي منع ابتسامتها وهي تهتف بشقاوتها الطفولية غير مدركة لما تفعله به :
_صح؟! صح؟! أنا صح؟! قول...قول...
ضحك ضحكة قصيرة وهو يعاود الالتفات نحوها لتردف بنبرة انتصار:
_شفت ؟!...شفت؟!...اهه ده الفرق بيني وبينك ...انت دايماً تطلعني وحشة لكن أنا بجبر بخاطرك.
قالتها وهي تهم بالانحناء لتلقي الكوب الذي فرغ مما به جانباً لكنها تذكرت تقريه يوماً فرفعت كفها في حركة اعتذار قبل أن تناوله له لتهتف ببساطة :
_بنات عائلات مابيوطوش في الشارع ...اتصرف انت بقا فيه .
قهقه ضاحكاً هذه المرة وهو يكاد يطير فرحاً ...
هذه هي روحها المنطلقة المحلقة دون قيود ...
بينما ابتسمت هي وهي تعود لطبيعتها المحبة للثرثرة لتقطع معه ساعة كاملة في السير تكاد تقسم أنها لم تشعر بمرورها إلا عندما لمحت الشمس تميل للمغيب مع رنين هاتف مروان الذي تناوله ليتنحنح بارتباك :
_يامن .
_هيعلقك عشان أخرتني!
هتفت بها بمرح متشفٍّ وهي تراه يفتح الاتصال ليصلها هتاف يامن الساخط:
_فين البنت يا بني آدم ؟! مش قلت نص ساعة وراجعين ؟!
فاعتذر له بكلمات مقتضبة قبل أن يغلق معه الاتصال ليبتسم لها بقوله:
_معلش...علقة تفوت ولا حد يموت !

ضحكت ضحكة عالية كتمتها بكفها وهي تعاود السير معه نحو سيارته شاعرة بالغرابة ...
هل هذا هو "الأصلع القبيح المعقد" الذي كانت تكره يوماً مجرد ذكر سيرته ؟!
كيف تغير هكذا؟!
أم تراها هي من تغيرت ؟!
ظل السؤال يؤرقها فالتزمت الصمت طوال الطريق
بالسيارة حتى وصل بها إلى بيتها ليوقف السيارة أخيراً وهو يلتفت نحوها لينتبه لانقباض أناملها على شيئ ما ...
قطعة من الشيكولاتة كانت قد قدمتها لها سهام هناك وبقيت تحتفظ بها هكذا في كفها طوال الطريق!

مد أنامله فجأة يتناولها منها لينتزع عنها غلافها المفضض لكنها اختطفت منه قطعة الشيكولاتة نفسها لتضعها في فمها بسرعة قبل أن تهتف بشقاوتها الطفولية :
_انت اتجننت بتخطف مني الشيكولاتة ؟! دي تضيع فيها رقاب دي؟!

لكنه ضحك ضحكة قصيرة وهو يقول بينما أنامله تعمل على "الغلاف المفضض" بمهارة:
_اصبري يا آنسة ...اصبري.

التمعت عيناها وهي تشاهده يصنع من الورق تاجاً صغيراً قبل أن ينتزع دمية صغيرة كانت معلقة على مرآة سيارته ليلبسها إياه قبل أن يناولها لها قائلاً :
_في ذكرى "اللقاء الأول للحلبسة"!

ضحكت ضحكة خالصة وهي تراه يثبت التاج بحرص تحت شعر الدمية بين أناملها لتصمت قليلاً ومشاعر متناقضة تجتاحها بعنف...

قبل أن تهمس له أخيراً بعينين دامعتين :
_شكراً...ع العروسة...
خفق قلبه لدموعها كعهده فعجز عن الرد خاصة عندما تهدج صوتها أكثر لتردف :
_ع الخروجة...على فكرة "رسالة"...وعلى كل اللي عملته عشاني.

اتسعت عيناه قليلاً وهو يشعر بانفعالها لكنها لم تمهله فرصة الرد وهي تغادر السيارة ب"هديته" لتصعد نحو البناية بخطوات راكضة ...
فخبط برأسه على مقود السيارة عدة مرات قبل أن يرفعه ليسنده على ظهر مقعده ووجهه المحمر يكشف عن بركان عاطفته المستعر ...

أما هي فلم تكد تصل إلى غرفتها حتى ألقت حقيبتها جانباً لترفع دميته بتاجها المميز أمام عينيها الدامعتين للحظات ...
قبل أن تتوجه بخطوات بائسة نحو فراشها لتستلقي على ظهرها ...

ثم تناولت هاتفها لترسل رسالة أخرى يائسة إلى عاشقها المجهول ...

_هترجع امتى؟! أنا خايفة...خايفة أكون بضيع منك !
=======













_باركك الله يا محمد !

قالها رئيس "النخبة" الذي استقبل عابد ب"اسمه" الجديد الذي اختاروه له ليرد الأخير ببعض الارتباك وهو يتأمل المكان حوله :
_جزاك الله خيراً .

لم يعرف اسم الرجل لكنه سمعهم ينادونه ب"الصقر" !
لقب مناسب لهذا المكان المنعزل الذي استقبله فيه والذي شعر فيه عابد بالرهبة رغم ضوء النهار ...
_ما رأيك في "الجهاد" يا محمد ؟!

تلجلج عابد قليلاً ليجيبه بما يحفظه من فتاوى شيخه :
_الجهاد طريق للجنة.
_إجابة خاطئة.
يقولها الرجل بملامحه الصارمة التي اكتسبت الآن المزيد من الخطورة وهو يردف بينما يلوح بسبابته في وجه عابد :

_حدود الله لا مجال فيها ل"الرأي"...هكذا يجب أن يكون ردك .

أومأ عابد برأسه وهو يستعيد فتاوى شيخه عن الجهاد...
هذه الحكايا عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن صدقوا الله فصدقهم الله ...
قلبه يرتجف بصدره وهو يسترجع الحماسة الفائرة في عروقه ...
والتي التقطها "الصقر" أمامه لتلتمع عيناه برضا مع قوله :
_الشيخ اختارك لتكون من "النخبة"...هؤلاء الذين شرَوا الحياة الدنيا بالآخرة...هل تدرك عظم هذا الشرف؟!

ظهر التردد للحظة على وجه عابد وصورة خاطفة ل"الصالح" تغزو مخيلته لكن "الصقر" عاجله بسؤال :
_لو رأيت ذئباً جائعاً يتربص بنعجة لك يريد صيدها....هل تقتله ؟!
_بالطبع!
هتف بها عابد بسرعة ليبتسم الصقر ابتسامة واهنة ويعاود سؤاله:
_وما ذنب الذئب؟! هو مجرد جائع ...وفطرته دفعته للصيد ؟!

عقد عابد حاجبيه وهو لايفهم التشبيه ولا ماذا يريد الرجل بالضبط...
لكن الأخير التمعت عيناه بعزيمة تشبه عزيمة شيخه وهو يقبض كفه أمام وجهه ليستطرد بنفس النبرة المسيطرة :
_هنا مربط الفرس...قد تدفعنا الضرورة لإيذاء من لا ذنب له كي نحمي ما يخصنا ...نعترف بذلك لكن لاحيلة لنا...هي سنة من سنن الله في كونه...شئنا أم أبينا ...لهذا يقولون دوماً إن الضرورات تبيح المحظورات .

ظهر الاقتناع على وجه عابد وإن كان بعض القلق قد بدأ يساور قلبه ...
لكن الرجل قضى على تردده تماماً عندما اشتد بقامته ليسأله بنبرة صارمة :
_هذا طريق لا رجوع فيه ...إما سير على درب الحق حتى الشهادة...وإما وهَن وانتكاس وخيانة لعهد الله ورسوله فأي الطريقين تختار يا محمد ؟!
_لا اختيار ولا رأي في حدود الله !
هتف بها عابد قاطعة هذه المرة لتنشق شفاه "الصقر" عن ابتسامة راضية وهو يربت على كتفه قائلاً:
_وعيتَ الدرس سريعاً ...إجابة صحيحة هذه المرة ....
ثم شد قامته مردفاً :
_غداً تبدأ تدريبك معنا .
========













_شوشو!
هتف بها هيثم يناديها في ساحة الجامعة لتتوقف مكانها دون أن تنظر نحوه !
عيناها تدمعان بقوة وهي تشعر به يقترب منها لكنها تتماسك وهي تضم كتبها نحو صدرها ...
لكنه تقدم ليتفحص ملامحها باهتمام متسائلاً:
_مالك فيه إيه ؟! بقى لك كام يوم ما بتكلمنيش؟!
ازدادت كثافة الدموع في عينيها فعقد حاجبيه أكثر ليقترب منها مستطرداً:
_فيه إيه يا شوشو ماتقلقنيش؟! ولو طلعت حاجة هايفة من بتوعك أنا اللي هخاصمك بجد المرة دي.
_هايفة ؟!
تمتمت بها عبر شفتين مرتجفتين وعينين خانتاهما الدموع أخيراً فجذبها من ذراعها جانباً ليهتف بجزع:
_اتكلمي ...فيه إيه ؟! مامتك كويسة ؟!
أومأت برأسها وهي تنزع ذراعها منه بحركة خاطفة جعلته يغمغم معتذراً:

_أنا آسف بس انتِ عارفاني مابعرفش أتعامل مع القلق...قصري بقا وقوليلي إيه الحكاية.
رمقته بنظرة طويلة لم يفهمها ثم مسحت دموعها لتبتسم ابتسامة واهنة مع همسها المتحشرج:
_ولا حاجة...أنا بس قررت أريحك مني.
مط شفتيه باستياء ليطلق تنهيدة مع قوله :
_نفس البُقّين الحمضانين بتوع كل مرة ...ماتبقيش سخيفة بقا وقوليلي عشان ألحق أصالحك زي كل مرة ...
ثم غمزها مشاكساً ليردف:
_يا سكر!
لكن مزاحه لم يجد صدى في الملامح التي بهت بريقها وهي ترد بصوت يقطر ألماً:
_المرة دي غير كل مرة...خلاص يا هيثم ماعادش ينفع ...
انقبض قلبه جزعاً وهو يشعر بأنها تعني حديثها حقاً هذه المرة لا دلالاً كسابقاتها ...
خاصة عندما استطردت بين دموعها :
_أرجوك ما عدتش تتصل بيا ولا تكلمني ...ومن غير ما تسأل عن أسباب.

عقد حاجبيه وهو يشعر بغرابة تصرفها لكنه تشبث بأمل أن تكون مجرد حماقة أخرى من حماقاتها ...لهذا هم بسؤالها من جديد لكنها أعطته ظهرها لتتحرك بضع خطوات مندفعة مبتعدة عنه قبل أن تتوقف مكانها ...
ثم عادت تلتفت نحوه لتعود الخطوات التي قطعتها متمهلة متباطئة فتقف أمامه قائلة بخفوت حار:
_كنت بس عايزاك تعرف إني ماحبيتش ولا هاحب حد غيرك.

انهارت تماماً في عبارتها الأخيرة لتختفي من أمام عينيه ركضاً في لحظات ...
حاول اللحاق بها لكنها كانت قد استوقفت سيارة أجرة من أمام بوابة الجامعة لتنطلق مبتعدة بها ...
ظل واقفاً مكانه متوتراً للحظات وهو لا يفهم سبب تصرفها الغريب هذا ...
إنها المرة الأولى التي تتجاوز بدلالها حتى هذا الحد...
لا!
ليس مجرد دلال!
إنها تبدو منهارة محطمة حقاً ...ماذا حدث؟!

حدسٌ بداخله يخبره أنها تغيرت نوعاً بعد تدريبها ذاك مع والده ...
ماذا ؟!
تراها الحمقاء قد صرحت له بمشاعرها نحوه هو وهو رفضها لفارق المستوى الاجتماعي بينهما؟!
الهبلاء تفعلها !
لماذا تسرعت؟!
زفر بقوة عند هذا الخاطر ثم تناول هاتفه ليتصل بوالده ولم يكد يسمع صوته حتى تصنع المرح ليسأله بضع أسئلة ودية سبقت سؤاله الذي حرص ألا يبدي لهفته :
_شوشو زميلتنا...أخبارها إيه في التدريب معاك ؟!
هنا ابتسم حسين ابتسامة عابثة لم يرها هو وهو يجيبه بحنانه الأبوي الخادع :
_بنت كويسة جداً...بس ماعادتش بتيجي...ابقى اسألها لو حد زعلها هنا ...انت عارف البنات بيبقوا حساسين بزيادة.
عقد هيثم حاجبيه وهو يشعر أن إجابة والده لم تمنحه الراحة فأغلق معه الاتصال ليحاول مع شوشو من جديد لكن هاتفها بقي مغلقاً كما كان طوال الأيام السابقة ...



وفي مكتبه أغلق حسين الاتصال ليفتح أحد أدراج مكتبه ليتطلع نحو شيئ ما هناك ...
قبل أن يعيد إغلاقه ليشبك ذراعيه خلف رأسه وهو يبتسم منتشياً ب"الذكرى الظافرة" لذلك اليوم الذي كانت فيه هنا...
شوشو!
==========











في البازار وحدها طوال النهار ...
تقف مكان العم علاء الذي ترك لها المسئولية كاملة اليوم وقد اضطر لقضاء بعض شئونه !
تحاول استغلال الخبرة التي منحها إياها في الجدال مع الزبائن ...
لا تزال لغتها "التركية" شديدة الفقر لكنه علمها منها ما يكفيها لتقف في موقف كهذا ...
لهذا كانت تبتسم بظفر وهي تسترجع حصيلة البيع لهذا اليوم ...
سيكون هو وإيناس شديدا الفخر بها هذه الليلة !

وفي مكانه وقف سيف يراقبها من بعيد بارتباك لم يعد يفارق صورتها في عينيه ...
لا يدري سر هذه المشاعر التي تجذبه نحوها هي
بالذات ...
لكنه صار مستسلماً لها بخنوع يكرهه في نفسه !

شيئ واحد يعزيه في كل هذا ...
هو شعوره الخاطف ب"حياة قلبه" الذي ظنه مات مع من مات!
هذه الخفقات المتواترة...الأنفاس اللاهثة...اللهفة الوجلة...
كلها -رغم ارتباكه معها- تعيد إليه مذاقاً للحياة التي كان يعيشها بلا مذاق!

تقدم نحوها بخطوات زادتها مشاعره اضطراباً ...
لتلتفت نحوه بملامح لم تقل عنه ارتباكاً وهي تستعيد ذكرى لقائهما الأخير ...
لهذا تشاغلت عنه بالبيع لأحد الزبائن قبل أن تخلو له المسافة بينهما ليبادرها بقوله :
_عمي علاء كلمني آجي أوصلك عشان هيتأخر الليلة دي.
_وتعبت نفسك ليه ؟! كان ممكن أتصرف!
قالتها متحاشية نظراته وهي تتحرك نحو الداخل ليتبعها قائلاً :
_مفيش تعب ولا حاجة .
تناولت حقيبتها والمفاتيح لتغلق "البازار" فعاونها في إدخال بعض المعروضات للداخل تمهيداً للمغادرة...

قبل أن يتحركا سوياً في السوق الكبير لتلاحظ بعينين راضيتين حركته وهو يحاول السير خلفها و إحاطتها بذراعه حماية لها من الزحام دون أن يمسها ...
ابتسامة صغيرة ترتسم على شفتيها وحركة بسيطة كهذه تدغدغ أنوثتها وتؤكد لها أي نوع من الرجال هو !

لهذا لم تشعر بتحفزها المعتاد وهي تجلس جواره وحدهما في سيارته يقطع بها الطريق نحو المزرعة ...
نظرة مختلسة نحو ملامحه الجادة جعلتها تدرك الفارق الكبير بينه وبين أخيه رامز ...
رامز وسيم بهذه الطريقة التي تخطف قلوب النساء ...ومع مكر نظراته وخفة ظله فهو حقاً ذو جاذبية ساحقة...
أما سيف فملامحه عادية جداً...يشبه أغلب المصريين ...لا شيئ مميز ...خاصة مع طباعه الجادة المتحفظة ...
ربما لهذا تشعر بارتياح كبير وهي معه ...
هو لا يهدد "قلبها" ولا "أنوثتها"...لكنه يستفز أمومتها بخطورة ...
أو -هكذا- تظن !!!

_أنا آسف ع اللي حصل من إسلام .
بصوته الرجولي الخشن يقولها دون أن ينظر إليها لتحتد ملامحها وهي تتذكر ما يحكي عنه فتقول بعنف لم تتعمده :
_وانت تتأسف ليه ؟! هو اللي غلط...بس أنا عموماً وقفته عند حده.

رمقها بنظرة جانبية مختلسة ليقول بضيق حقيقي:
_بس هو جرحك في بيتي ...وانتِ كنتِ بتعملي دور مش مجبورة عليه ...أنا فعلاً آسف.
_انت دايماً حساس قوي كده ؟! طب غلطاتك ماشي؟! إنما هتشيل ذنب الناس كمان ؟!

قالتها باستنكار وهي تلتفت نحوه بوجهها ليروعها الألم الذي سكن ملامحه خاصة مع قوله دون أن ينظر إليها :
_لما نتوجع واحنا بنتأسف على الغلط أحسن ما غيرنا يتوجع وهو بيدفع تمن غلطنا .



تنهدت بحرارة وهي تفهم مغزى عبارته حتى أنها كادت ترد لولا أنها رأت انعقاد حاجبيه مع صوت غريب في مقدمة السيارة ليصلها بعدها صوته المحرج :
_عملتها زوبة !

لم تستطع التحكم في ضحكتها "الكارثية" التي وجدت صداها في قلب هذا البائس جوارها لكنها لم تتوقع عبارة مرحة كهذه من "النِفري" هذا كما تصفه هانيا .."النكدي" كما تصفه هي!!!
لهذا وضعت كفها على شفتها بحرج عندما شعرت
بالسيارة تقف على جانب الطريق بينما هو يدير وجهه عنها ليقول بحرج :
_للأسف هنضطر نطلب مساعدة.
_لو قلت هنطلب إسلام وطلعت دي حركة منك عشان تخليه يعتذر لي هاتكون آخر مرة أكلمكم انتو الاتنين .
هتفت بها بحدة متطرفة تماماً ومناقضة لضحكتها المرحة منذ قليل ...
فالتفت نحوها بدهشة ليهتف بضيق أجفلها:

_أنا مش بتاع حركات ...ومش فاضي ألف ورا كل واحدة تعجب إسلام لأني ساعتها مش هاخلص.

ارتدت للخلف وهي تشعر بالندم على تسرعها جعلها تتغافل عن إهانته بوصفها مجرد "واحدة" تعجب إسلام !
بينما تناول هو هاتفه ليطلب رقماً ما ...

_أيوة يا عمي ...أنا آسف جداً ...العربية عطلت بينا ...أنا قلت أستأذن حضرتك قبل ما أكلم واحد صاحبي ييجي ياخدنا ...
ثم التفت نحوها ليردف:
_عارف حضرتك بتقلق على غادة ومش بتآمن عليها أي حد .
رمقته بنظرة معتذرة عذبة جعلت ملامحه الغاضبة ترتخي قبل أن يستمع قليلاً ليقول مخاطباً علاء:
_خلاص كويس جداً...هانتظر حضرتك...أسف مرة تانية.

_قدامه ساعة بالكتير ويبقى هنا ...خدي راحتك أنا هاخرج م العربية.
قالها مخاطباً إياها ليغادر السيارة ويتجه نحو مقدمتها مستنداً عليها فابتسمت وهي تهمس لنفسها :
_سيف ابن الناس الكويسين صحيح زي ما بيقول عمو
علاء.

ظلت مكانها تترقب الطريق حتى شعرت بالملل فجذبت حقيبتها لتغادر السيارة وتستند جواره على مقدمتها قائلة بعفوية :
_أنا جعانة ومعايا ساندوتشين ...لو ما أكلتش مش هاكل ...ياللا عشان يبقى عيش وملح.
قالتها ثم استخرجت الشطيرتين من حقيبتها لتمنحه إحداهما فتناولها منها قائلاً بعفوية تشبهها وكأنه لم يحتد منذ قليل:
_وأنا معايا علبتين عصير في العربية.
_بس...تبقى جبرت!
قالتها بمرح ليبتسم ابتسامة واسعة وهو يتحرك ليحضر العصير من داخل السيارة قائلاً:
_من زمان ما سمعتش "جبرت" دي .
_أنا بورسعيدية يا فندم...لو سبت نفسي هنكلموك بلهجتنا وممكن ماتفهمش مني حاجة.

قالتها باللكنة البورسعيدية المميزة فضحك وهو يعود ليعطيها إحدى العلبتين قائلاً :
_كان ليا واحد صاحبي بورسعيدي أيام الجامعة كنت بحبه قوي...كان عليه عزف ب"السمسمية" مالوش حل...وكان دايماً يقوللنا مصطلحات غريبة بالبورسعيدي ونقعد نترجمها معاه...
ابتسمت وهي تشعر بحنين جارف نحو مدينتها رغم قسوة ما تركته من ذكريات هناك لتقول بشرود :
_مهما شفت أماكن حلوة ...هتفضل بورسعيد في عيني أجمل حتة في الدنيا .

قالتها ثم قضمت قضمة من شطيرتها محاولة تناسي مشاعرها لكنه لم يغفل عن رنة الحزن في صوتها ليعود ويتساءل في نفسه عن سر هربها إلى هنا بدلاً من العيش مع والدتها ...
لقد فكر في سؤال رامز عن الأمر لكنه تراجع خوفاً من أن يلاحظ اهتمامه بها ...
ترى ما الذي يحمله ماضيها ويروعها إلى هذا الحد ؟!
"أرنب مذعور"!
هكذا وصفت له نفسها يوماً فماذا كانت تعني؟!

_أنا آسفة إني انفعلت من شوية بخصوص إسلام.
قالتها باعتذار رقيق وهي تتطلع لضوء السيارات المارة أمامها لكنه أطرق بوجهه دون رد ...
ماذا عساه يخبرها؟!
أن إسلام في هذه اللحظة بالذات مع خليلته هنا في اسطنبول يقضي الليلة معها رغم أنه لا يبرح يشكو له من ضيقه بسبب رفضها له !
لا...ليست ازدواجية!
لكنه مثل كثير من الرجال يرى أن العلاقة الجسدية لا
علاقة لها بالحب!
وهو ما يختلف معه فيه سيف على أي حال .

_أنا مقدر حساسية الوضع...وحاسس إن "أنّا" بالذات بتضغط عليكِ في الموضوع ده ...بس صدقيني رغم إن إسلام صاحبي شايفكم ماتنفعوش لبعض...وماليش
علاقة بأي تدخل ليه في حياتك.

قالها بجديته الرصينة فابتسمت بارتياح وهي تعود لتناول شطيرتها قائلة بنفس العفوية :
_زمانك بتقول عليا مفجوعة ومش صابرة ساعة أروح البيت أتغدى بس بصراحة بجوع بالليل جداً ...ما بستحملش.
ضحك رغماً عنه لتحمر أذناه بهذه الطريقة التي تثير دهشتها فأردفت بنفس النبرة:
_كل بتاعك بقا عشان ماتحسسنيش إني مفجوعة لوحدي.

بدأ في تناول شطيرته بحرج كاتماً ابتسامة لم يعرفها من قبل بهذا الدفء ...
بينما أنهت هي شطيرتها لتتناول العصير دفعة واحدة قبل أن تقول ببساطة وهي تمسد ذراعيها براحتيها :
_بسرعة يا عمو علاء...الجو برد ...
ولم تكد تنتهي منها حتى فوجئت به يخلع سترته بسرعة ليعطيها لها محافظاً على مسافة مناسبة بينهما دون أي كلمة بينما يطرق برأسه في حرج...

حاولت الاعتراض بشدة لكنه لم يزد حرفاً ولم يغير وقفته بل ظل يمد يده بها نحوها بحركة صارمة مطرق الرأس...
فتناولتها منه شاكرة لتضعها على كتفيها ...
هنا أشاح هو بوجهه عنها وكأنه خشي أن يراها ترتديها !!
قلبه يخفق بعنف كمراهق يقابل معشوقته سراً في عزلة عن العيون ليضع فوقها سترته ...
مشهد استوجب جموح مشاعر لم تطله من قبل بهذه
المغالاة إلا مع...
انجي!

والخاطر الأخير أذاب ابتسامته وجعله يحافظ على إطراقته ما بقي من الوقت مكتفياً بتناول شطيرتها ...
حتى وصل العم علاء الذي توقف جوارهما بسيارته ليهتف به :
_عملتها فيك زوبة؟! اخس!
ضحكت غادة بارتياح وهي تستقل السيارة جواره لتهتف بعاطفة حقيقية :
_وحشتني قوي يا عمو النهارده...اليوم من غيرك فعلاً
مالوش طعم.
فتأمل علاء منظرها والسترة فوقها ليقول باشمئزاز مصطنع:
_إيه شغل الأفلام ده ؟! أسيبك معاه ساعة ألاقيكي لابسة الجاكيت بتاعه.

ربما لو كانت ملاحظته تخص إسلام لشعرت بالغضب ...
لكنها على العكس كانت تشعر بسعادة خفية ولدت لديها المزيد من المرح خاصة مع إطراقة سيف المتحفظ والجالس خلفهما في السيارة ...
لتهتف بعفوية جادة تحمل الكثير من التقدير:
_ده سيف ابن الناس الكويسين...مش بتاع أفلام.

ارتفع حاجبا علاء بمكر جعل وجنتيها تحمران بخجل لكنها وارته بقولها :
_ياللا بقا بسرعة ع المزرعة هاموت من الجوع .

عاد علاء برأسه للوراء يرمق سيف بنظرة متفحصة لم تخلُ من مكر لكن الأخير كان مكبلاً بمزيج مشاعره المتناقضة التي جعلته يطرق بوجوم طوال الطريق ...
صوت ضحكاتها المنطلقة مع علاء الذي كان يسألها عن العمل كان شديد الوقع في أذنيه ...
لكنه لاحظ شيئاً تمنى أن يكون حقيقياً رغم أنه لا يفهم حقيقة مدلوله !
منذ التقاها هذه الليلة وهي لم تداعب دبلة أحمد في أناملها بحركتها المعهودة ...
فهل يعني هذا شيئاً؟!
=========












الجلسة الثالثة التي يصر على حضورها معها يسمعها وهي تقرأ لهمسة !
الجلسة الثالثة التي تحاول فيها قدر استطاعتها التماسك أمام طغيان مشاعرها بالحلم الذي يكاد يتجسد !
الجلسة الثالثة التي تجاهد فيها نفسها للحفاظ على "مهنيتها" وسط كل هذا الشتات الذي تسبح فيه روحها بسذاجة امرأة لم تختبر يوماً مثل هذه المشاعر!

هذه المهنية التي جعلتها تتغاضى عن صراعها هي الخاص متفانية في قياس مدى استجابة همسة لما تقرأه لها ...
والحقيقة أنها كانت مُرضية ...ربما ليست فائقة لكنها تكفيها لتكمل الطريق بدأب!

_الحب يمنحنا الحياة ...يجعل للكون لوناً ورائحة ومذاقاً...ودونه حياتنا مجرد وهم ...سجن ...مهما تزخرفت أسواره.

كانت هذه آخر عبارات الكتاب "خفيف المحتوى" الذي كانت تقرأه لها ...
لكن الكلمات بدت وكأنها مست وتراً في قلب همسة التي أصدرت أنيناً خافتاً جعل زين يقترب منها ليضمها بذراعه لصدره قبل أن يعبث في شعرها بأنامله وعيناه الآسرتان تلتقيان بعيني ياقوت التي أشاحت بوجهها فوراً وكأنما مستها صاعقة !

ربما لأنها لم تستشعر في حياتها الخاصة هذا الحنان "الرجولي" من قبل!
هي عايشت عاطفة الأم...الجدة...الشقيقة...
لكنها لم تعرف معنى أن يكون لديها رجلٌ!
أجل..."عالم الذكور" بتعقيداته كان بعيداً تمام البعد عنها ...وأصرت قدر استطاعتها أن تكون هي الأخرى بعيدة عنه ...
والآن يأتي زين هذا ككنز ...بل "مغارة كنوز " كاملة !
يبهرها بسطوع شمسه في جميع وجوهه...
تباً...أليس لرجل مثل هذا عيوب؟!
أين هي؟!
ليتها ترى واحداً فقط وستتكفل هي بتضخيمه حتى تزيح هذا الثقل الذي صار يرهق قلبها ...

يالله !
الحلم صار ثقلاً؟!
نعم...عندما تتدخل عقولنا لترشدنا لاستحالة حدوثه بينما يتدخل طموحنا من الجانب الآخر ليدفعنا بقوله أن لا مستحيل!

ومن جديد تستدعي درع مهنيتها لتتخفى خلفه وهي تمنحها "بيضة" وقلم ألوان لتتناولها منها همسة فترسم ككل مرة ...
عينين وأنف ...وفم مبتئس ...
لكن الدمعتان اختفتا هذه المرة !
تراها دلالة جيدة ؟!

هذا ما حاولت به إقناع نفسها عندما قامت من كرسيها لتتناول حقيبتها منتوية المغادرة ...
لترفع إليها همسة عينيها بنظرة تعلق وهي تمد كفها لتتشبث بذراعها ولازال زين يضمها لصدره ...
هذه الحركة التي لم تجد أثرها في قلب ياقوت فحسب ...

بل في قلب زين الذي شعر في هذه اللحظة بالذات لو يملك حرية أن يتشبث هو الآخر بذراعها هنا فلا تغادر !

مشاعره نحو هذه المرأة لم تعد مفهومة...
أحياناً يبررها بأنها مجرد رغبة في طريدة لم يصادف مثلها من قبل ...
وأحياناً يخرج بها أصلاً خارج تصنيف النساء!
أجل...لقد صار يتعامل معها ك"كيان" غامض مهيب يثير حواسه بتناقض لا يفهمه !
ومما يزيد من حيرته هي تلك الحصون التي تتوارى خلفها دون أن تستجيب ل"شباك" يلقيها لها الصياد طامعاً فيعود بها خائبة ...

تماماً كما الآن وهو يتحرك معها ليغادر الغرفة نحو بوابة حديقته ...
_صوتك حلو.
_انت اللي صوتك حلو ...وكلامك حلو ...وكلك على بعضك حلو .

"العفريتة العابثة" التي فقدت عقلها تماماً هياماً به تعربد بين جنباتها بجنون صارت هي الأخرى تشاركها فيه ...
ربما لهذا لم ترد بفظاظة اعتدادها ككل مرة بل اكتفت بإطراقة صامتة لم ترضِ غروره ...
خاصة عندما تجاهلت القول لترفع رأسها بقولها دون أن تنظر إليه :
_فيه دكتور بثق جداً في رأيه عرضت عليه الحالة وراضي جداً عن تطورها ...تحب تتابع معاه هو ؟! هو أكبر مني سناً وخبرة.

عقد حاجبيه بدهشة وهو يتوقف مكانه ...
عبارتها بدت له وكأنها تتهرب من وجودها هنا !
وإلا كيف تضحي بمبلغ كبير كهذا الذي يدفعه لها ؟!!
لهذا تفحص ملامحها بدقة ليسألها بحذر:
_هو حد ضايقك هنا؟!

ورغم أن اللهجة التي خاطبها بها بمزيج من الاهتمام والضيق عززت "حلمها الذهبي" به لكنها عاودت التشبث بجدار مهنيتها لترفع إليه عينيها بقولها المعتد:
_إيه علاقة إن حد يضايقني بالموضوع ؟! أنا بتكلم عن مصلحة حالة عندي تقتضي إني أدور عليها معايا أو مع غيري ...شفاء همسة نجاح ليّ لكن مش هتكسف لو ماحققتش معاها تقدم.

_أفهم من كده إنه حتى لو حد ضايقك هنا هتفضلي تتابعي الحالة ؟!
_لو في مصلحتها أكيد طبعاً .
قالتها بحسم قاطع أثار إعجابه لكن غريزته ك"صياد" جعلته يضغط على ما يراه نقطة ضعفها :
_تحبي نزود المبلغ اللي محددينه للجلسة ؟!

اتسعت عيناها بصدمة وهي تتلقى عبارته كصفعة اتهام !
لهذا احمر وجهها بانفعال قبل أن تهتف باعتدادها الذي
خالطه الآن الكثير من الغضب:
_انت متصور إني بقول كده عشان طمعانة في أتعاب زيادة ؟!
تراجع مكانه خطوة وهو يشعر أن ذكاءه قد خانه في عبارته الأخيرة ...
لكنه وجدها فرصة ليرد لها إهانة قديمة فعقد ساعديه أمام صدره ليقول بنبرته المسيطرة :
_أنا ماقصدتش كده بس حتى لو قصدت ...أفتكر أنا ماانفعلتش عليكِ قوي كده لما اتهمتيني إني أنا اللي طمعان فيها .

انعقد حاجباها بقوة وهي ترمقه بنظرة حادة قبل أن تقرر ما تجيده معه دوماً ...الهروب!
لهذا أعطت له ظهرها لتنصرف دون رد مما دفعه ليلحق بها فيقف أمامها معترضاً طريقها لكنه التزم الصمت هو
الآخر للحظات مكتفياً بحديث نظراتهما المتناطحة ...
اعتدادها لم يكن يقل سطوة عن غروره ...
غضبها لم يكن يقل حدة عن عناده...
وكذلك إعجابها لم يكن يقل وهجاً عن شعوره المتناقض نحوها !!

قمّتان متوازيتان لجبلين راسخين ...
يبدو أن لقاءهما مستحيل إلا بنسفهما معاً !

_واضح إنك حساسة جداً...المفروض تفهمي من كلامي أد إيه أنا متمسك بيكي ومش عايز غيرك يعالج أختي.

عادة قديمة تعلمها بحنكته في السوق أن يقلب الطاولة ويلقي بالعيب على من أمامه !
لكنها هي الأخرى لم تكن خصماً ساذجاً عندما عقدت ساعديها أمام صدرها دون أن تقل حدة نظراتها فلجأ للخطوة التالية ...
"الجرّ الناعم"

_انتِ مش شايفة هي إزاي بقت متعلقة بيكي ؟! عايزة تسيبيها بالساهل كده ؟!

عبارته آتت ثمارها هذه المرة لأنها مست بداخلها تعاطفها الخاص نحو همسة التي تشعر بها انعكاساً لمأساتها هي ...
لهذا رقت لهجتها نوعاً وهي تشيح بوجهها لتقول بنفس التحفظ الجاد :
_أنا ماقلتش هاسيبها ...أنا بس ضميري حتم عليّ أعرفك إن ممكن يبقى فيه حد تاني أفضل مني.

عقد حاجبيه بشك ولايزال يتفحصها غير قادر على فهمها ...
لقد ظن يوماً أن المال نقطة ضعفها وقد مرت بهما من المواقف ما جعله يميز بسهولة لمعة عينيها عند رؤيته...
لكن موقفها الأخير هذا يجعله في حيرة من أمره !
تراها تدعي كل هذا؟!
مجرد تمثيل؟!
من يدري؟!
ربما!
هو يعرف "امرأة" مثلها من الماضي خدعت أباه حتى لفظ زوجته لأجلها وتزوجها هي ؟!
عظيمٌ هو دهاء حواء عندما تجيد نصب الشرك ...
لكنه هو "الصياد" هذه المرة !
وقواعد اللعبة هو من سيضعها حتى يحصل على ما يريد !!

_أنا آسف لو ضايقتك.
بأرق لهجة لديه نطقها وعيناه ترميانها بهذه النظرة الآسرة التي دغدغت أنوثتها لكنها أشاحت بوجهها لتتمتم بفتور:
_ماحصلش حاجة.

لم تكد تنتهي منها حتى انتفضت بقوة وصوت الرعد يأتيها عالياٌ من السماء التي بدت وكأنها انشقت فجأة ليهطل منها المطر ...
لعنت غباءها وهي تتنبه للتحذير الذي قرأته عن التبدل المفاجئ للطقس ...
كان ينبغي أن تلغي جلسة اليوم!

_ممكن تتفضلي جوة لغاية ما المطر يخف شوية !

حاولت الاعتراض مراراً لكنه أصر بدوره لتجد نفسها مضطرة تستجيب لدخول البيت الكبير للمرة الثانية التي لم يختلف أثرها عن الأولى ...
نفس المزيج بين الرغبة والرهبة...
بين الأمل والألم ...
بين "حلم" يزين الغد و"هاجس" شوّه الأمس!

_اتفضلي .
هذه المرة كانت تجلس في بهو البيت حيث أحد الصالونات الفخمة ...
ورغم أنها كانت تحفظ بصرها عن التأمل كما علمتها ثمر عن آداب دخول البيوت لكن صورة كبيرة مؤطرة على أحد الحوائط الجانبية لفتت انتباهها فاختلست نحوها نظرة جانبية لم تخفَ على عيني "الصياد" الذي جلس جوارها لا تفصل بينهما سوى منضدة ذهبية صغيرة ليرد عن تساؤلها غير المنطوق:
_دي والدتي الله يرحمها .

ويبدو أن العاطفة التي اتشحت بها حروفه عبرت خلال قلبها لتغمغم برقة لم تتعمد تكلفها :
_الله يرحمها ...فيها شبه كبير منك.

ارتفع حاجباه للحظة من عفويتها الرقيقة التي تسربت عبر "وش الخشب" كما تحلو له تسميته ...
ليجد نفسه يسألها دون محاذير:
_وانتِ بقا شبه والدتك واللا والدك!


ربما لو كان قد صفعها لكانت ردة فعلها أهون من هذا!
فقد شحبت ملامحها فجأة لترتجف نظراتها الواثقة قبل أن تجد أناملها دون وعي تحط على صدرها في موضع "العشر جنيهات" التي لا تفارق مكانها هناك !
أنفاسها تتلاحق والسؤال الفاضح يفرض نفسه...
هل يعرف؟!
هل يعرف؟!
ورغم البرودة التي كانت تسري في أطرافها لكن حبيبات العرق التي احتشدت على جبينها فضحت انفعالها وجعلته يشعر ببعض الندم على تطرقه لهذا الأمر ...

لكنه عندما أراد تكحيلها أعماها!

_أنا معجب جداً بكفاحك رغم الظروف اللي مريتِ بها ...أكيد طريقك ماكانش سهل بس انتِ مشيتيه صح.

دمعت عيناها رغماً عنها وهي تتمنى الآن لو تنشق الأرض وتبتلعها !
هو يعرف!
بالتأكيد يفعل!
هو لن يدخل أحداً لبيته ويأتمنه على شقيقته إلا لو كان يحيط بكل تفاصيله ...
لكن لماذا كل هذا الفزع؟!
فليعرف أو لا يعرف!
لو كان هو "الحلم" الذي ترتجيه حقاً فلن يكترث بماضٍ أو حاضر ...
ولو كان مجرد "وهم" فليرحل مع من رحل!

كانت هذه إحدى حيلها النفسية التي تستخدمها عادة ل"التأقلم" !
ربما لهذا جفت دموعها فجأة كأن لم تكن لتستقر أنفاسها الثائرة أخيراً ...
نفسها تنازعها ألا تجيب سؤاله لكنها ردت باعتداد عاد يفرض نفسه على صوتها :
_والدتي.
_هه؟!

تساؤله الشارد كان له ما يبرره وهو يتفحص هذه "الحالة النادرة" أمامه !
لوهلة هيئ إليه أنها ستبكي !
هذا الشعور بالشفقة الذي كاد يدفعه للتأهب للاعتذار !!
لكن "معجزة ما" حدثت وجعلتها تستعيد عرش قوتها الذهبي هذا!!
أوه!
كم تبدو شهية مغوية حقاً ك"طريدة" تستفز كل حواسه ك"صياد"!

_شبه والدتي ...مش سألتني شبه مين؟!
قالتها ببعض الحدة وعيناها الخضراوين خلف زجاج نظارتها كقمرين سجينين تتوهجان ببريق حاد جعل عينيه هو الآخر تلتمعان بقوة وابتسامة خطيرة ترتسم على شفتيه وهو يتقدم بجذعه للأمام فيقترب منها أكثر قائلاً :
_الله يرحمها ...أكيد اللي تربي بنت زيك تبقى شخصية عظيمة.


عدلت وضع نظارتها على أنفها بارتباك لم تملكه لترد بفتور :
_والدتي اتوفت وأنا طفلة...الحقيقة جدتي صاحبة الفضل في تربيتي .
_الحاجة ثمر .

الاسم من بين شفتيه كان له وقع خاص في أذنيها !
جدتها كانت ولاتزال تحمل دوماً قدسية خاصة لديها لهذا شعرت بقشعريرة غريبة وهي تسمعه يردده ...
كأنه اقترب كثيراً من منطقتها الخاصة التي بقدر ما ترغب في إقصائه عنها بقدر ما تحلم منه باقتراب!

قاطع أفكارها وصول الخادمة تحمل صينية من المشروبات وضعتها جوارها قبل أن يصلها صوته :
_أنا فاكر كويس إنك مش بتحبي تاكلي أو تشربي حاجة وانتِ بتشتغلي بس انت دلوقت بره مواعيد الشغل .

الودّ الجذاب في صوته يدغدغ أنوثتها بهيمنة لا تنكرها !
خاصة عندما صرف الخادمة ليقف ويسألها بينما يشرف عليها بطوله الفارع من علوّ :
_كام معلقة سكر؟!
_خمسة!
قالتها ببعض الخجل فضحك ضحكة عالية وهو يضع لها ما طلبته بينما يقول بنبرته الآسرة:
_أطيب ناس عرفتهم في حياتي هم اللي بيحبوا الحاجات المسكرة بزيادة.

وعند الخاطر الأخير طافت صورة ياسمين بذهنه متذكراً أنها هي الأخرى تحب الإفراط في السكريات !
عجباً!
كم تتشابه المرأتان!
وكم تختلفان!
ربما لهذا اختلس نظرة متفحصة نحوها من مكانه وهو ينحني ليقلب السكر في فنجان الشاي ...
ترى كم من الأنوثة تخفيه هذه الأسمال التي ترتديها؟!!
وإلى أي حد قد تشتعل نارية مثلها في عاطفة ؟!!

_شكراً.
قالتها غافلة عن جموح أفكاره وهي تتناول منه الفنجان لترشف منه رشفة قبل أن تغمض عينيها باستحسان ...
الملمس الدافئ ...المذاق الحلو ...
ومتعة خفية تستشعرها من أنه أعده لها بنفسه !
لم تستطع مقاومة الشعور بالرضا عن كل هذا لتأخذ نفساً عميقاً وهي تراه يعود لجلسته قبل أن يبدأ في تبادل حوار قصير معها ...
لم تدرِ كيف مر الوقت ولا كيف انجذبت كفراشة نحو نور هالته الآسرة ...
كل ما كانت تشعر به هو ألفة غريبة !
وكيف لا؟!
وهي تتحدث نحو "رجل الحلم" الذي حاكت معه كل هذا الحديث من قبل في خيالها !!
لكن الألفة الدافئة كان يتخللها الكثير من الحذر ...
"الساحر الأنيق" خلف بللورته لايزال يخفي الكثير ...
رعد ...ومطر!!
هكذا هو بالضبط كما الطقس بالخارج!!
========
بعد شهر من الأحداث السابقة ...

وقف يراقبها وقد غطت عينيها عصابة في مشهد صار يتكرر كثيراً...
لكن الفارق هنا أنه لم يعد يخشى أن يراه زين !
ياقوت أوفت بعهدها له !
ياقوت التي تقدمت نحوه الآن لتقول بصوت شديد الخفوت:
_هاسيبك معاها عشر دقايق لوحدكم بس عايزاك قبل ما تمشي تسيب لها حاجة في إيديها .
رمقها بنظرة متسائلة لتجيبه بنفس الخفوت :
_أي حاجة مميزة من ذكرياتكم سوا ..سيبها معاها قبل ما تمشي ...عايزه أبدأ أقرب العالمين بتوعها من بعض .

هز رأسه باستغراب لكنها قالت بسرعة :
_قدامك عشر دقايق قبل ما زين يوصل.

قالتها لتغادر الغرفة نحو مدخلها المطل على حديقة البيت بينما ظل هو واقفاً مكانه متجمداً للحظات يبحث عما يمكن أن يتركه لها ...
ثم لم يلبث أن فتح حافظة نقوده الجلدية ليلتقط من بين جيوبها "زرّين معدنيين" كانت قد أحضرتهما له كهدية عقب تخرجه ...

ابتسم لعذوبة الذكرى وهو يسترجع رقتها بينما كانت تثبتهما له بنفسها في إسورتي قميصه قبل أن تعدل له رابطة عنقه لتهمس له في مكانهما الذي انعزلا فيه عن العيون :
_خد بالك ...هيفتنوا لي عليك لو كلمت واحدة غيري.
_ممكن أبص بس من غير ما اتكلم !
بمكر يقولها ليغيظها لكنها تبتسم ابتسامتها الرقيقة وهي تضع سبابتها على صدره في موقع القلب تماماً لتهمس بيقين لا يقبل الشك:
_وده راح فين ؟! ده اللي عمره ما هيشوف غيري زي ماعمري ماهاشوف غيره .

دمعت عيناه قهراً عند الخاطر الأخير ليبتلع مرارة غصة حلقه وهو يقترب منها ليجثو على ركبتيه أمامها ...
جسدها يرتجف مميزاً هالة حضوره فيمد أنامله ليحتضن كفيها ...
يرفعهما نحو شفتيه بقبلات دافئة ...
قبل أن يداعب شعرها الناعم بأنامله ...

_كل ده ولسة ما كفرتش عن ذنبي يا همسة ؟! إيه ممكن يكون أقسى عليّ من إني أشوفك قدامي وماكلمكيش ؟! كان أهون عليّ تعاقبيني أي عقاب حتى لو كنتِ اخترتِ تكملي مع راجل غيري ...لكن تبقي قدامي...مراتي...شايفك ..وبلمسك...ومش قادر حتى أقوللك سامحيني...أقوللك إني لسه بحبك...وهافضل أحبك لآخر يوم في عمري... عذاب يا همسة ...عذاااب!!


صرخت بها أعماقه دون صوت ليجذب رأسها لصدره فجأة مطوقاً إياها بذراعيه ...
دقات قلبه تعوي تحت أذنيها فيرتجف جسدها وهي تود لو تصرخ ...
هي تشعر به ...
حبيبها ...صِنو روحها ...
تميز ترنيم أنفاسه وسط كل هذا الصمت الموحش حولها ...
لكنها لا تذكر شكله ...
لماذا لا يرفع العصابة عن عينيها ؟!
فلترفعها هي!!
لا!!
صوتٌ بداخلها يخبرها أن الجحيم سيفتح أبوابه من جديد لو رأته...
فليبقَ هكذا بلا صورة...
بلا صوت ...
مجرد وهم غير مرئي ...
تماماً مثلها ...هي ..هي التي عاشت عمرها كله غير مرئية !!

تشعر به يفتح كفيها ...يضع شيئاً ما هناك ...قبل أن تسمع خطواته يبتعد ...
ملمسه بارد يناقض دفء أنامله ...
لا ...لا تريده ...فليأخذه معه !

تقذفه بكل عنف لتسمع صوت ارتطامه بالجدار هناك!!!

وفي مكانها كانت ياقوت تراقبها خلسة من وراء النافذة وجوارها رائد ينقبض قلبه جزعاً مما تفعله...
خاصة عندما مدت أناملها ببطء تنتزع عصابة عينيها لتدور بهما في المكان الخالي بعدما أغشاهما الضوء ...
تمسح دمعاً لم يجف لتنهض من على كرسيها وتتوجه نحو الجدار هناك حيث ألقت عطيته...
تنحني على ركبتيها لتراهما ...
فتبتسم وتبكي ...
تبتسم وتبكي ...
حتى تحتضنهما في راحتيها لتتكور على نفسها في وضع الجنين مستلقية على الأرض!!

هنا لم يستطع رائد التحمل وهو يعطي ياقوت ظهره ليبتعد مخفياً عبراته خلف قناعه الجليدي ...
لكن ياقوت أشارت للخادمة كي تقترب وتدخل لهمسة الغرفة ...
قبل أن تلحق به لتقول بنبرة مشفقة :
_عارفة إن الموقف صعب بس مالاحظتش حاجة حلوة حصلت؟!
التفت نحوها بيأس ملهوف لتبتسم ابتسامتها "الطيبة" مردفة:
_من اللي عرفته منكم...دي أول مرة هي اللي تفك الرباط من على عينيها ...ماتستناش حد يفكهولها .

اتسعت عيناه قليلاً ليستدعي صوتاً خرج منه متحشرجاً :
_وده معناه إيه ؟!
فتنهدت بحرارة لتطرق برأسها قائلة :
_مش عايزة أديك أمل كبير ...بس دي خطوة كويسة جداً معناها إن هي نفسها اللي بدأت تشق الشرنقة وتخرج ...أعتقد لو استمرينا ممكن نوصل إنها في مرحلة ما تبقى قادرة تشوفك وتسمعك .

التمع الأمل في عينيه لتردف هي باستطراد دافئ
ولازالت مطرقة برأسها:

_صدقني هتكون من أسعد لحظات حياتي لما تقدر ترجع طبيعية وترفع راسها قدام الناس كلها وتقوللهم إنها مرا...

لكزها لكزة خفيفة في ذراعها لتقطع عبارتها وتنتبه لتقدم زين نحوهما فتشددت وقفتها وهي تشيح بوجهها ...

بينما عقد زين حاجبيه وهو يراقب وقفتهما بريبة...
لماذا يقفان هكذا خارج الغرفة يتهامسان؟!
أليس مكانهما بداخلها؟!
ولماذا لكزها رائد هكذا لتصمت عندما رآه ؟!
ما الذي يجري بينهما بالضبط ؟!!

ضم قبضتيه بغضب داراه ببروده وهو يتقدم نحوهما أكثر ليصافح رائد الذي رقت نبرته وهو يخاطب ياقوت بقوله :
_لو احتجتِ أي حاجة أنا تحت أمرك.

ازداد انعقاد حاجبي زين وشعور غريب يتملكه !!
منذ متى يتشقق القناع الجليدي لرائد ليقول لامرأة ما "تحت أمرك" هذه ؟!!
منذ متى تحمل عيناه هذه اللمعة الدافئة ؟!
هل ما يظنه صحيحاً حقاً ؟!
هل تعجبه هذه المرأة ؟!!

_أشوفك بكرة ونتفق ع التفاصيل قبلها .

ورغم أنها كانت تقولها بنبرتها المهنية المعتادة لكن أذن "غيرته" جعلته يسمعها بنبرة أخرى أججت المزيد من نيرانه ليرمق رائد بنظرة حادة سبقت قوله :
_أنا لسه مش راضي عن اللي بيحصل ده ...
ثم التفت نحو ياقوت لتنال نصيبها من سخطه :
_وزي ما قلتلك أي انتكاس ليها مسئوليتك .
رفعت ياقوت حاجبيها بدهشة من تغير أسلوبه بينما التوت شفتا رائد بابتسامة ماكرة وهو يدرك سر غضبة قريبه ...
لكنه آثر الصمت والمراقبة كعهده فمضى مبتعداً دون مزيد من الكلمات ...

_انت ليه اتضايقت من وجوده ؟! ما احنا متفقين !!
قالتها بتساؤل حائر فكز على أسنانه قائلاً ببرود مشتعل:
_طبعاً لو سألتك كنتو بتتوشوشوا في إيه هتقولي لي أسرار شغل ...

_أوبا.....وجرب نار الغيرة ...شكل السنارة غمزت يا بنت أشواق!
مداخلة خبيثة من العفريتة العابثة إياها لكنها لم تكن في مزاج رائق لتقبلها وهي تتأمل غضبه بنظرات متفحصة ...
خاصة عندما استطرد وهو يضع كفيه في جيب سرواله :
_وأنا بحترم أسرار الشغل ...فمش هسألك.

ضاقت عيناها وهي تشعر بتلميح سخيف في عبارته لكنها لم تفهم سر ضيقه بالضبط...
تراه يخشى أن تعجب هي رائد فيزهد في أخته ؟!
الأحمق!
ألا يدري كم يحبها ؟!!

انقطعت أفكارها برنين هاتفها الذي تناولته منتوية تجاهله لكن اسم لجين في هذه الساعة حيث تدرك أنها لا تتلقى اتصالات أثناء عملها لا يعني سوى كارثة ...
وقد صدق ظنها عندما فتحت الاتصال ليصلها صوت شقيقتها الملتاع:
_الحقي ستي ثمر .
=======
_اهدي بس هتكون كويسة إن شاء الله .
قالها مطمئناً وهو يقود بها سيارته نحو بلدتها بينما كانت هي تشعر بذهول صادم لا تصدق كيف تطور الأمر هكذا !!
عندما وصلها الخبر كانت تريد اللحاق بأقرب قطار لكنه أقنعها أنها لن تجد تذكرة بسهولة عارضاً عليها توصيلها بسيارته حتى أقرب موقع لقريتها مراعياً ألا يراهما أحد من أهل البلدة...

لم تفكر وهي توافق!!
لم يكن شيئ ما يهمها في هذه اللحظة إلا أن تطمئن على جدتها !!
لجين تقول إنها في المشفى بعدما نقلوها إذ وجدوها فاقدة للوعي وحدها في البيت !!

تسربت منها دمعة مسحتها بكفها بسرعة وهي تشيح بوجهها مغمغمة بكلمات شكر لم تتبينها ...
لكنه اختلس نظرة نحوها وهو يشعر بارتجاف جسدها جواره يثير بداخله مشاعره -المبهمة- نحوها ...
لم تتحدث بكلمة واحدة منذ ركبت جواره...
فقط تضم كفيها في حجرها مراقبة هاتفها برعب !
لهذا حاول إخراجها من هذا الصمت بقوله :
_هي مالهاش حد يقعد معاها وانتو مسافرين؟!
_مالهاش غيرنا ومالناش غيرها .
قالتها بصوت متحشرج وشى بقرب انهيارها فانقبض قلبه وهو يشعر بغرابة هذا الوجه العاطفي منها الذي يراه لأول مرة ...
ترى ماذا يختفي خلف الواجهة الأنيقة للطبيبة المعتدة الواثقة بنجاحها ؟!
عفواً...هل قال "الأنيقة"؟!!
فليراجع مفاهيمه إذن قبل أن تصيبه عدوى منها !!

تخطى الخاطر الأخير برشاقة وهو يزيد من سرعة السيارة محترماً صمتها وخشية أن يدفعها الحديث لرؤيتها في وجه لا يحبه ...
"وجه ضعيف" لا يرضاه في طريدة نموذجية مثلها!

نفس الخاطر الذي كان يراودها وإن اختلفت الأسباب بينهما ...
نفس الخاطر الذي يمنعها بصعوبة من الانهيار خشية أن يرى ضعفها ...
هي تواجه العالم كله بقناع قوتها ...
لو سقط فبماذا تواجهه ؟!!

لهذا ما كادت تصل لأقرب مكان يمكنها فيه استقلال عربة نحو قريتها حتى هتفت بحزم :
_ممكن تقف هنا ...هاكمل لوحدي!
أوقف السيارة كما طلبت وهو يهم بعرض المزيد من المساعدة عليها لكنها لم تنتظر وهي تقفز منها نحو عربة ما مما يسمونها "ميكروباص" انحشر فيها جسدها الصغير حشراً لتختفي من أمام عينيه في لحظات !!

ظل واقفاً مكانه للحظات يتابع العربة التي رحلت بها قبل أن يتخذ قراره و...يتبعها !!
=====
انكبت على كف ثمر النائمة في غرفتها بالمشفى تقبله وهي تحمد الله سراً ...
الحالة استقرت سريعاٌ لكنها أصرت أن تبيت جدتها هنا الليلة كي تجري لها المزيد من الفحوصات !!

اهتز هاتفها في جيبها دون صوت كما ضبطته لتجدها لجين التي لم يسمحوا لها بالبقاء فغادرت كارهة ...
خرجت من الغرفة نحو الممر الخارجي لتحدثها مطمئنة إياها قبل أن تتأوه بإرهاق عندما اهتز هاتفها للمرة الثانية ...
برقمه هو هذه المرة !!

لم تملك ابتسامة ناعمة تسللت لشفتيها وهي ترد برقة غير متكلفة بعد تحية عابرة :
_شكراً لاهتمامك ...تعبتك النهارده.
_تعبك راحة .
ورغم أنها كلمة عادية لكن مجرد صدورها منه كان يحمل في أذنيها وقعاً آخر ...
لهذا ارتجف قلبها رغماً عنها لتشهق بدهشة وهي تسمعه يردف:
_لو محتاجة حاجة أنا هنا.
_هنا فين؟!
_في البلد...قدام المستشفى بالضبط..لو بصيتي م الشباك هتشوفي العربية.

لطمت وجنتها برفق وهي تتلفت حولها للممر الخالي قبل أن تهرع نحو النافذة الجانبية لترى سيارته الفارهة أمام الباب ...

_هيفضحنا المجنون ...بس والله عسل ...عسل...شكله طَب ابن الإيه !

تجاهلت سخافات عفريتتها التي لا تنكر أنها صارت تسعدها لكن صوتها عاد لاعتداده :

_مالوش لازمة تتعب نفسك كده ...الحاجة بقت كويسة.
_ما انا عرفت...البلد كلها مالهاش سيرة حواليا غير صحة الحاجة ثمر ...واضح إنهم بيحبوها قوي .
ابتسمت وصوته يأتيها متراخياً عذباً لترد وهي تسند رأسها للنافذة شاعرة بانسحاب الحدود بينهما رويداً رويداً :
_فعلا...هي أم الكل هنا .
_يابختك بيها ...ربنا يخليهالك.
لايزال صوته الرخيم يدك حصون أنوثتها فلا تصدق
تناقضه مع هالة الفخامة التي يحيط نفسه بها ...

_أرجوك روح دلوقت ...وقوفك هنا ممكن يعمل مشكلة.

تقولها وتتمنى ألا يستجيب!
أن يظل هنا ك"أمير الحلم" تراقبه من نافذتها وهو ينتظرها!!

_انتِ عارفة إني غالباً مابتحركش من غير حراسة شخصية ؟! لو جرالي حاجة وأنا راجع ذنبي في رقبتك !

_الراجل الغامض بسلامته !
تغمزها بها عفريتتها بهيام لتضحك ضحكة قصيرة نفذت عبر قلبه مع قولها:
_عمر الشقي بقي ...عموماً متشكرة.

_يعني أمشي؟!
_اتفضل.
_بس افتكري إني جيت بلدكم وما عزمتنيش حتى على كوباية شاي ...يا بخيلة.

ارتفع حاجباها وهي تشعر بسخونة وجنتيها مع تطور مستوى الحوار بينهما لهذا الحد !!
إنه يمازحها هكذا ببساطة !!!
ضاعت الهيبة !!
ضاعت!!!

_وقت تاني إن شاء الله ...توصل بالسلامة !
قالتها وهي تغلق الاتصال بسرعة لتلصق وجنتها بزجاج النافذة البارد لعله يهدئ اشتعالها ...
لا تكاد تصدق أنه أتى هنا !
هنا ينتظرها طوال هذا الوقت !!

وفي مكانه كان يراقب هو شاشة الهاتف بابتسامة جذل!
لقد أغلقت الاتصال في وجهه تقريباً!!!
بعد رنة خجل ميزتها خبرته غير الهينة بالنساء!!
هذه ال"ياقوت" كنز دفين سيستمتع كثيراً باستخراجه ...
ثم ؟!!
منذ متى يسأل الصياد هذا السؤال ؟!!
هو يكتفي بمتعة الصيد فحسب ...
لهذا التمعت عيناه باستمتاع وهو يخبط طرف هاتفه بذقنه للحظات سبقت همسه الخطير وضحكته الماكرة:
_عاجباني!
======


_الله أكبر!
رفع معها يامن كفيه وهو يبدأ في الصلاة ...
لتعاوده وساوسه كالعادة ...

_ياترى هي بتعمل إيه دلوقت؟!
_خانتك زي ما كانت بتقول؟!
_ليه لا؟! مين هيمنعها؟!
_إزاي سايبها لوحدها هناك تعمل ما بدالها !
_طلقها وخلص نفسك !

هل قرأ الفاتحة ؟!
أم لم يفعل؟!
يعقد حاجبيه وهو يسلم من صلاته قبل أن يرفع رأسه للسماء باستجداء صامت ...
ثم أخذ نفساً عميقاً ليبدأ من جديد ...

_الله أكبر!

لكن سلطان وساوسه يعاوده بنفس الضراوة !

_عمرك ما هتفرح ...ذنب ابن سيلين هيفضل دايماً في رقبتك .
_ربنا مش هيقبل منك صوم ولا صلاة ...
_ربنا؟!

والخاطر الأخير انساق لأفكار أخرى أشد خطورة لكن
الاختلاف هذه المرة كان فيه هو !!

_حارب دماغك بدماغك !

بصوت ياقوت يسمعها فتنير له قبساً وسط العتمة ليتفل عن يساره ثلاثاً قاهراً وسواس شيطانه قبل أن يجاهد نفسه للتركيز فيما بقي له من صلاة...
ولم يكد ينتهي حتى سجد طويلاً وهو يرفع حاجته لرب العالمين في دعاء طويل خاشع بللت فيه دموعه لحيته ...

_اللهم إني أبرأ من حولي وطولي وقوتي إلى حولك وطولك وقوتك ...لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين .

ظل يرددها بلا كلل حتى شعر ببعض السكينة تتسرب إلى قلبه فرفع وجهه يمسحه بأنامله قبل أن يجول بعينيه في أرجاء بيته الذي شاركته إياه يوماً ...

حنين جارف يجتاحه وهو يتذكر جلسته بين ذراعيها !
نعيمٌ طردَ منه بركلة قدم !
ابتسم ساخراً عند الخاطر الأخير ثم قام من مكانه ليتوجه نحو الأريكة حيث وضع حاسوبه المحمول ...
جلساته مع ياقوت تؤتي ثمارها خاصة مع انتظامه في
الأدوية ...
ورغم أنها لاتزال تحذره من التواصل مع ياسمين لكنه يشعر أنه صار أفضل حالاً...
مشاهد الفيديو لم تعد تقتحمه كحمم حارقة بل صارت باهتة منطفئة ...
كل ما يملأه الآن نحوها هو شعوره بأنه يحتاجها ل"يكتمل"!
ليملأ فراغاً لم يكن يشعر بوجوده أصلاً إلا عندما دخلت هي حياته !!
لهذا لم يستطع المقاومة وأنامله تتحرك مدفوعة بقوة اشتياقه ليكتب لها ...
لكن ماذا يكتب؟!

_ولد واللا بنت ؟!

ماذا؟!
لم يستطع أن يختلق حديثاً إلا بهذا!
ولم يعلم أنها -في مكانها - كانت تتأمل سؤاله بنفس العينين "مقيدة الدمع"!
هل تخبره ؟!
تخبره -مبشّرة- أنها فتاة كما كان يحلم ؟!
تخبره -معاتبة- أنها ستمنحها الاسم الذي اختارته لها منذ كانت مراهقة تتخفى بعشقه خلف كتاب ؟!
أم تخبره -قاسية- أنها ستحرمه منها؟!!

_مش هتفرق ! ابني أو بنتي مش هيبقى لك فيهم حاجة !

ورغم قسوة عبارتها المكتوبة لكنه ابتسم فلم يكن يتوقع منها إلا هذا!
هذا "الوجه الأسود" لامرأة الألوان لم يعد يثير دهشته بل ...إشفاقه وندمه!
يالله !!
كم يود الآن لو يراها !!
لو يراها في حركتها العفوية التي كانت في آخر لقاء بينهما ...
تفتح ذراعيها له كي تعانقه !!
أغمض عينيه على هذه الصورة للحظات قبل أن يترك
لأنامله العنان لتكتب:
_أنا...عايز ...أشوفك.

عضت على شفتها بقوة وهي تشعر بصرخة عالية تجتاح روحها!!!
أي عشق هذا تحمله نحوه كي يجعل لعبارة بسيطة هذه مثل هذا الأثر في نفسها!!؟
أي قوة تحملها "ثلاث كلمات " كي تدك حصونها دكاً ؟!
هو لم يقل "أحبك"..."أشتاقك"...هو حتى لم يعتذر !
لكن ...ربما لأنها خير من تفهم ما يختفي خلف ال"ثلاث كلمات" هذه !!
وماذا بعد؟!
الخدر الذي بعثته كلماته في حناياها جعلها تشعر بالوهن !
الوهن الذي لن تسامح نفسها أبداً لو استسلمت له ...

لهذا جاءت إجابتها مخالفة تماماً لما توقعه ...
_انت فاكر لي أي حاجة حلوة ؟!

هل يبتسم ؟!
هل يبكي؟!
هل يخبرها أن ما صار يشقيه الآن أنه يعيش ضبابات فردوسه المفقود معها ؟!
لكن رجلاً مثله كان يفتقد مهارة البوح بالكلمات ...
لهذا لم يستطع إلا أن يكتب ...

_كل حاجة...فاكر ...فاكر كل حاجة.

_لو فاكر لي أي حاجة حلوة سيبني أبعد عنك...سيبني أخلص نفسي وبنتي منك.

_بنت؟!

قفز مكانه عندما قرأها ليتلفت حوله بضحكة مختنقة وكأنه يبحث عنها!!!
وكأنه يستعيد حلاوة المواقف التي رسمها في خياله لها!!
هذه "الحلاوة" التي جعلته يغفل عن "مرارة" كلماتها ليعاود الجلوس وهو يقبض كفه الحر بينما أنامله تتحرك بجنون على الأزرار ....
يكتب ...ويمسح ...
ويكتب ...ويمسح ...

أما هي فقد كانت تراقب الشاشة بجمود ...
من يراها من بعيد يظنها ميتة المشاعر غير مدرك لهذه النيران التي تستعر بداخلها ...
من كان يخبرها وهي ترسم آلاف السيناريوهات في رأسها يوم علمت بحملها منه أنه سيعرف بهذه الطريقة ؟!
من كان يخبرها أن حلمها بطفلة منه سيكون مجرد خبر تكتبه أناملها له على شاشة باردة ؟!
من كان يخبرها وهي الساذجة التي حلمت أن تزف له بشرى كهذه بين قبلة وعناق وهي أقرب ما تكون منه فتكون الآن بينهما كل هذه الأميال ؟!

_انتِ فاكرة لي حاجة حلوة ؟!

سؤاله المباغت أربكها ليهز جمودها فترتجف جفونها للحظات ...قبل أن تكتب:

_لا!

لم تكن كاذبة في إجابتها!
لو فتحت سدود الذكرى فسيغرق الفيضان كل شيئ!!
دعيها مغلقة !! دعيها!!

لهذا انسابت أناملها تكمل ما بدأته ...

_فاكرة صورتي وأنا خارجة من بيتك بلف في الشوارع
بالبجامة...فاكرة ورقة وصلتني فجأة بتقوللي خلاص يامغفلة عمرك اللي فات كله ماطلعش يستاهل حتى إنه يستنى يفهم...فاكرة كل نظرة رمتني في شرفي بعدها ...كل كلمة شفقة أو شماتة ...فاكرة أول مقابلة ليا مع بابا بعدها وأنا شايفة التمثال اللي قعدت أبنيه عمر بيقع قدام عنيا ...وفاكرة كل دمعة عشتها لوحدي لغاية ما خلاص كل دموعي نشفت...كل حضن حضنته لنفسي ...كل كلمة قلتها قدام مرايتي عشان أقوي روحي بيها ...بتسألني فاكرة ؟! تحب أقوللك كمان ؟!

أغمض عينيه بألم وكل كلمة تخرج منها تصيب سهماً بقلبه !
لا يعرف كم مرة قرأ كلماتها يجلد نفسه بها ...
لكن ما يعرفه أنه لا يتمنى شيئاً الآن إلا أن يجد الطريقة كي يمحو عنها كل هذا !
بماذا يرد ؟!
وأي كلمات قد تسعفه هاهنا!!!
أنامله تترنح من جديد فيكتب ...ويمسح ...

لكنها لم تنتظر هذه المرة وكبرياؤها الغاشم يرسل له
ب-طعنة غادرة- لا تظنه بقادر على مواجهتها !!!
وصدق ظنها فقد اتسعت عيناه لوهلة بعدما رأى -ما أرسلته- أخيراً ...
قبل أن يكز على أسنانه بغضب ليغلق الحاسوب بحدة كادت تكسره !!
======









_جلسة استثنائية !
قالتها ياقوت وهي تستقبله في غرفتها بالمركز ملاحظة توتره ليرد وهو يجلس متهالكاً على الكرسي أمامها :
_من امبارح مش عارف أنام .
_ليه؟!
_أنا كلمتها!
ورغم شعورها بالاستياء منه إذ لم يستجب لنصيحتها لكنها تمالكت ذلك لتسأله باهتمام :
_إيه اللي حصل؟!
صمت قليلاً يتمالك غضبته قبل أن يريها على هاتفه ما أرسلته وأثار جنونه هكذا ...
"سكرين شوت" من محادثة على تطبيق "الواتس آب" بينها وبين ...زين!!!
_نمتِ؟!
_لا.
_بتفكري في إيه ؟!
_فيك طبعاً؟!
_هاشوفك امتى؟!
_وقت ما تحب.
_مش قادر أصبر إني أشوفك تاني.
_وأنا كمان ...وحشني قوي ..."حضنك".

اتسعت عينا ياقوت لوهلة وهي تتابع المحادثة غافلة عن اسم "زين"...
فقد كان تركيزها كله منصباً على تحليل ما تعنيه محادثة كهذه !!!
والأهم ...تأثيرها على يامن في هذه المرحلة من العلاج !
لهذا عادت تنظر إليه بتفحص متسائلة :
_ممكن تقوللي تفاصيل كلامكم ؟!

زفر زفرة مشتعلة وهو يروي لها ما حدث ليصمت بعدها مطرقاً برأسه فعادت تسأله بترقب:
_انت مصدق إن المحادثة بينهم دي حقيقية ؟!
_طبعاً لا.
الثقة التي نطق بها عبارته جعلتها تطلق زفرة ارتياح حتى عندما استطرد بعدها بحدة مشتعلة :
_أنا اللي هيقتلني إنها بتعمل كده عشان تبعدني عنها ...مش متخيل إن واحدة توصل إنها تتهم نفسها تهمة زي دي بس عشان تخلص مني ...ومش أي واحدة ...دي ...دي ياسمين !

مسدت جبينها بإرهاق وهي تشعر بعظم ما يعانيه !!
ربما يمكنها النظر للنصف الممتلئ من الكوب أن وساوسه لم يعد لها نفس السلطان القديم ...
وأن ثقته فيها غلبت الشك هذه المرة ...
لكن تصرف ياسمين "الأحمق" هذا هو ما يثير ضيقها !!
إنها حقاً تستغل معرفتها به كي توجعه بأقسى طريقة !!!
لكنها وارت مشاعرها السلبية هذه لتتخفى خلف درع مهنيتها كالعادة :
_مش هاضغط كتير على نقطة إن المحادثة سهل تتفبرك مادام انت مصدق إنها فعلا كده ...نقفل بقا الباب ده ...ونتكلم عن سبب تصرفها ...
ثم صمتت لحظة لتردف :
_ياسمين خايفة يا دكتور.

رفع إليها عينين محمرتين تعباً وغضباً لتردف :
_خايفة تضعف قدامك تاني فبتسد على نفسها الطريق ...عايزة تخرج بأقل خساير ...خصوصاً إن انت لحد دلوقت ما بينتلهاش أي فرق عن يامن القديم ..
_أعمل إيه ؟!
غمغم بها بصوت مرهق زاد من إشفاقها نحوه لتعطيه هاتفه قائلة :
_لازم الأول...

قطعت عبارتها وهي تنتبه أخيراً للاسم المرفق
بالمحادثة ...
"زين"؟!
هل من المعقول أن يكون مجرد تشابه أسماء؟!

_ماكانتش سفرية موفقة قوي للأسف...رغم إني كنت ابتديت أحب ماليزيا.


_لو طلبوا منك شهادة بخصوص مريض عندك ...مراته عايزة تسيبه بس خايفة ياخد منها ابنها ...توافقي تشهدي بمرضه ؟!


ازدردت ريقها بتوتر وهي تجمع الخيوط بذكاء لا تفتقده !!
لتجد نفسها تنجرف بالقول دون أن تشعر:
_معاك الفيديو القديم ده دلوقت ؟!
عقد حاجبيه بشدة جعلتها تفيق لما كادت تقع فيه !!
أن تستغل أسرار مريض لمصلحة شخصية !!
لكن...
ألم يقحموها هم في هذه الحرب رغماً عنها !!
زين فعلها !!
فلتتأكد قبلها !!

نظرة يامن المتشككة جعلتها تسترد بعضاً من تماسكها لتبتسم متصنعة الهدوء:
_كنت عايزة أتأكد إنك مسحته ؟!
_مسحته.
_هو كان اسمه زين شوقي تقريباً ؟!
_لا...زين الفايد...بتسألي عن اسمه ليه ؟!
قرع قلبها في صدرها بعنف وهي تتأكد من صحة استنتاجها !!!
زين هو من يحب ياسمين !
لايزال يسعى خلفها ...ويتخذها هي وسيلة لإثبات عدم أهلية يامن للرعاية بالطفل ...
كل هذا الاهتمام نحوها هي الذي كان يتنامى طوال الأيام السابقة...
كل نظرات إعجابه ...
كل تلميحاته التي تزداد وضوحاً يوماً بعد يوم ...
كل هذا كان مجرد طُعم يلقيه للطبيبة الساذجة تمهيداً
لانتزاع امرأة من زوجها !
الحلم الذي عاشته رغم قصر أيامه بطول حرمانها ...
الآن ...مجرد وهم !!!
بل ...خطة حقيرة !!!

لم تشعر بخيط من الدموع سال على جانب عينها خلف نظارتها ووجهها المحمر يفضح انفعالها ويجعله يسألها بقلق خلف فظاظته المعهودة :
_بتعيطي ليه انتِ كمان ؟!

هزت رأسها بلا معنى وهي تخلع نظارتها لتمسح وجهها فازداد انعقاد حاجبيه وهو يشعر بالغرابة قبل أن تجيبه بصوت عاد إليه تماسكه :
_معلش أعصابي بايظة شوية ...جدتي كانت تعبانة وكنت قلقانة عليها .

_الحاجة ثمر؟!

ابتسمت بسخرية وهي تذكر واحداً غيره نطق اسم جدتها التي يبدو أنها أصبحت فجأة شهيرة هكذا !!
لكن شتان بينهما ...شتان !!!
أن تخرج من يامن بهذه اللهفة الصادقة...بهذه الحمية ل"ابن فلاح" يدرك قيمة الاسم والعِرض ...تختلف تماماً عن أن تخرج من "ابن الأكابر" الذي يظن الدنيا خلقت لأجله يخطط فيها كيف يشاء!!

لكنها تمالكت صدمتها سريعاً لتعاود ارتداء نظارتها وتعاود معها التخفي خلف درع مهنيتها:
_ماتقلقش ...بقت بخير ...بس انت عارف قلقنا عليهم بيخللينا مشتتين ...المهم خللينا في ياسمين ...أنا عايزاك تقابلها ...مادام وصلت انت للمرحلة دي خلاص مابقتش خايفة ...الدور عليك انت تاخد بإيدها المرة دي .

هل تخبره عن زين ؟!
عما يمكن أن ينتوي فعله ؟!
لا!
زين لن يستطيع فعل شيئ مالم تمكنه ياسمين من هذا في لحظة ضعف تظنها الحمقاء لحظة قوة !
فليركز يامن مع ياسمين ليستعيد قلبها ...
وليقبض كف زين هذا على التراب ...كما يستحق!!

بينما هز يامن رأسه بارتياح حقيقي وهو يسمع منها هذا الذي يريده حقاً الآن وبشدة ...
لكن هل ستمكنه ياسمين من هذا ؟!
ومن سيسمح لها بالرفض؟!
لقد كان يبعدها عنه خوفاً عليها من شطحات وساوسه ...
لكن الآن وقد نجح في أول اختباراته فلن يرضى بالمزيد من التقهقر ...
حتى ولو اقتضى الأمر أن يختطفها في غرفة مغلقة فيعيشا معاً أو يموتا معاً !!

وبهذه الحماسة الفائرة التي أشعلت وجهه هب من مقعده ليلتفت فجأة نحو ياقوت التي بدت على عكسه مكفهرة الملامح ...
فسألها باهتمام لا يدعيه :
_متأكدة إن الحاجة بقت كويسة ؟! مش محتاجة أي حاجة ؟!

ابتسامتها "الطيبة" تظلل شفتيها لكن النظرة الحزينة تتسرب رغماً عنها في العينين الخائبتين ليردف بحميته المعهودة :
_دي مش عزومة مراكبية ...أنا عارف إنك ست ب"ميت راجل"...بس الأمر مايسلمش.

_شكراً يا دكتور ...ماتقلقش لو احتجت حاجة هاكلمك...مش ناسية إننا بلديات .

اعتدادها المعهود يخالطه الامتنان الآن وهي تراه يكرر عرضه قبل أن يغادرها بابتسامة مشجعة ردتها له بمثلها ...
ثم تجمدت ملامحها للحظات تراقب الباب المغلق قبل أن تدفن وجهها بعدها بين ذراعيها على المكتب لتنخرط في بكاء فجائي!
=======









استيقظت من نوم قصير احتلها فيه كابوس واحد !
ترى صورتها في مرآة والدم ينزف من قلبها بغزارة ...
"أحدهم" ملقى هناك ينزف هو الآخر وهي تحاول إسعافه !!

لهذا كان أول ما فعلته أن مسدت بطنها بأناملها بسرعة محاولة تفقد حركة الصغيرة التي بدت وكأنها تفهم احتياجها ...
فتنهدت بارتياح وهي تشعر بحركتها قبل أن تزفر زفرة قصيرة وهي تحاول أن تتجاهل قلقها على من يمكن أن يسبب لها مثل هذا الفزع لو أصابه مكروه !
يامن ...
للأسف!!
لهذا مدت أناملها ولاتزال تحت تأثير النوم لتتناول هاتفها تتفقد حسابه الاليكتروني ...
قبل أن تتنهد ببعض الارتياح وهي ترى منشوره الصباحي كالعادة بأذكار الصباح !
هو بخير!

تأوهت بخفوت وهي تضع هاتفها جانباً لتغمض عينيها بألم !
هذه الحرب بداخلها تستنزفها لآخر قطرة !
تعلم أنها قد تجاوزت كثيراً بفعلتها معه لكنه حذرته !
لن تستسلم له من جديد لتضيع نفسها وابنتها في مجرد وهم !!

سمعت صوت طرقات على بابها فقامت من رقدتها لتجد وجدي مبتسماً يحمل لها صينية الإفطار ليضعها أمام على الفراش قائلاً:
_صباح الخير ع الحلوين ...
ثم ربت بكفه بخفة على بطنها ليردف :
_صباح الفل يا يمنى ...قلت أفطر معاكي النهارده.

ابتسمت ياسمين وقد نجحت حركته الدافئة في منحها بعض السكينة لترد له تحيته وتسأله باهتمام :
_البيت فاضي ليه ؟!
_لسه واخدة بالك ؟!

قالها ببعض التحسر ليجيبها بتنهيدة قصيرة :
_عابد كالعادة معتكف في مكان مااعرفوش ...ووالدته آخر مازهقت من تصرفاته سافرت شوية تغير جو بدل ما تتجنن.

أطرقت برأسها في أسف لكنه غير الموضوع بقوله الممازح:
_إيه رأيك نغير احنا كمان جو؟! ننزل نتفسح بعد الفطار؟! فاكرة الدبدوب الكبير اللي اشتريتهولك زمان وكنا حاطينه في الصالون ؟!
_مشمش!
هتفت بها بشرود وهي تستعيد الذكرى الغائبة ليجيبها بضحكة قصيرة :
_أيوة...اللي كان معقدك عشان كان أطول منك ده...عايز أجيب واحد أكبر منه ليمنى ...عشان لما توصل بالسلامة يكون أول لعبة ليها من جدو .

ابتسمت وهي تعيد رأسها للخلف مستندة على وسادتها :
_شكراً يا بابا .

ورغم ظاهر الامتنان الذي حملته عبارتها لكنه كان ملطخاً بعتاب صامت ...
هل يدري أين ذهب "مشمش" هذا ؟!
لقد رمته بيديها من نافذة غرفتها لتراه يسقط في الشارع!!
أجل فعلتها !!
بعدما ملت انتظار عناقه ليلة بعد ليلة !
بعدما تيقنت أنه هجرها وأمها ولن يعود !!
بعدما تعلمت في هذه السن الصغيرة معنى الحرمان !!

بعدما رمته ظلت تبكي كثيراً حتى انتبهت والدتها لما فعلته فعاجلت بعناقها وهي تبكي معها !!
كانت المرة الأولى في حياتها التي تفهم فيها معنى أن تدوس على قلبها كي تنسى!
و...نَست!
أو هكذا هيئ إليها طوال هذه السنوات لتكتشف أنها حقاً لا تنسى ...
لا تنسى ولا تسامح !!

هذا الذي قرأه هو يائساً في ملامحها الشاردة لكنه حاول التغلب عليه بمرح وهو يشاركها الإفطار ...

نزهة قصيرة أخذها فيها يجوب معها أماكن لم تزرها من قبل هنا في كوالالامبور ...
تحاشى فيها التطرق للحديث عن عابد وأمه وقد أدرك بحدسه تحفزها منهما ...
حاول استدراجها للحديث عن يامن لكنها كانت متحفظة كثيراً في الخوض في هذا البحر الذي لن تجيد السباحة فيه ...
لهذا اكتفى بمرحها الظاهر وهو يشعر بحاجتها الحقيقية
للانطلاق بعيداً عما يؤرقها ...

كانا قد وصلا لسيارته التي رصفها بالقرب من أحد
المولات الضخمة عندما شعرت هي بتعب في قدميها المتورمتين بأثر الحمل لتقول بنبرة منهكة :
_كفاية كده...ياللا نروح أنا تعبت.
_أبداً...نجيب "مشمش" ل"يمنى" الأول .

قالها بعناد وهو يفتح لها باب السيارة ليجلسها برفق قبل أن يغلق لها الباب متابعاً ملامحها بإشفاق ناسب قوله :
_شكلك تعبانة فعلاً...هاجيبه بسرعة وآجي .

تابعته ببصرها يتجه نحو ذاك المركز التجاري البعيد هناك ...
لتشرد ببصرها وهي تتناول هاتفها تراقب حساب يامن ...
ترى كيف هي ردة فعله على ما أرسلته ؟!!
لو صدق ظنها فيامن الذي تعرفه سيطلقها الطلقة الثانية دون أي تفكير !!
ليته يفعلها!
ليته يريحها من التأرجح هكذا بعذاب في عالم لم تنل منه سوى الاختناق بدخانه !!
ليته يمنحها الفرصة كي تربي ابنتها بعيداً عن وساوسه وظنونه...
ليته...



صوت انفجار ضخم يقاطع أفكارها لتنتفض مكانها والشارع كله يرتج حولها !!
رأسها يصطدم بزجاج السيارة لتفقد وعيها جزئياً وهي تشعر بنزفه...
وعبر تشوش رؤيتها ترى النيران من بعيد يشق دخانها
الأسود عنان السماء مع صراخ المارة حولها ...
لا!
إنه المركز التجاري الذي قصده والدها !!

_بابا!
تصرخ بها بلا صوت ووعيها يتسرب منها تدريجياً بينما جفناها يغلقان على صورة النار والدخان الأسود ...
و"مشمش" آخر لم تلقه بيديها بل حرمها منه القدر هذه المرة !
========
انتهى الفصل الثامن



التعديل الأخير تم بواسطة Just Faith ; 08-02-19 الساعة 12:21 AM
نرمين نحمدالله غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 08-02-19, 12:17 AM   #533

ميادة عبدالعزيز

? العضوٌ??? » 378366
?  التسِجيلٌ » Jul 2016
? مشَارَ?اتْي » 377
?  نُقآطِيْ » ميادة عبدالعزيز has a reputation beyond reputeميادة عبدالعزيز has a reputation beyond reputeميادة عبدالعزيز has a reputation beyond reputeميادة عبدالعزيز has a reputation beyond reputeميادة عبدالعزيز has a reputation beyond reputeميادة عبدالعزيز has a reputation beyond reputeميادة عبدالعزيز has a reputation beyond reputeميادة عبدالعزيز has a reputation beyond reputeميادة عبدالعزيز has a reputation beyond reputeميادة عبدالعزيز has a reputation beyond reputeميادة عبدالعزيز has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل جميل جدا تسلم ايدك

ميادة عبدالعزيز غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 08-02-19, 01:17 AM   #534

Miush

? العضوٌ??? » 404902
?  التسِجيلٌ » Jul 2017
? مشَارَ?اتْي » 228
?  نُقآطِيْ » Miush is on a distinguished road
افتراضي

وربنا ما اعرفه اكتب موتيه يا نيمو 😱
وشوشو يا نهار الوان 😣
أبدعتي أبدعتي لكن حرام عليكِ عيالك يا نيمو 😥


Miush غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 08-02-19, 02:02 AM   #535

حناان محمد

? العضوٌ??? » 373975
?  التسِجيلٌ » May 2016
? مشَارَ?اتْي » 516
?  نُقآطِيْ » حناان محمد is on a distinguished road
افتراضي

يا نهار ابيض
شريرة انتى يا نرمين
ذى ما ضحكتينا مع ياقوت وعفريتة ياقوت ابكيتينا مع ياقوت ودموع ياقوت
قلبى وجعتى اوى الفصل ده
ونتمنى الفصل بكارثة وطبعا المتسبب فى الانفجار الابن المضحوك عليه عابد
وجع وجع وجع
فصل الاوجاع حقا
يا ترى ايه هيحصل
متشوقة جدا الفصل القادم
تحياتى
سلمت أناملك


حناان محمد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 08-02-19, 02:24 AM   #536

عبدالحمن

? العضوٌ??? » 422839
?  التسِجيلٌ » Apr 2018
? مشَارَ?اتْي » 60
?  نُقآطِيْ » عبدالحمن is on a distinguished road
افتراضي عبد الرحمن

فصل روعه كالعاده وشكرا علي المجهود المبذول وعلي ما اغتقد ان عايد هيكون من اسباب انفجار المول .

عبدالحمن غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 08-02-19, 05:01 AM   #537

Sofa magdy

? العضوٌ??? » 424724
?  التسِجيلٌ » May 2018
? مشَارَ?اتْي » 31
?  نُقآطِيْ » Sofa magdy is on a distinguished road
افتراضي

رواية رائعة موفقة دايما ان شاء الله

Sofa magdy غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 08-02-19, 07:46 AM   #538

DelicaTe BuTTerfLy

مصممة منتدى قلوب احلام وقصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية DelicaTe BuTTerfLy

? العضوٌ??? » 378544
?  التسِجيلٌ » Jul 2016
? مشَارَ?اتْي » 742
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » DelicaTe BuTTerfLy has a reputation beyond reputeDelicaTe BuTTerfLy has a reputation beyond reputeDelicaTe BuTTerfLy has a reputation beyond reputeDelicaTe BuTTerfLy has a reputation beyond reputeDelicaTe BuTTerfLy has a reputation beyond reputeDelicaTe BuTTerfLy has a reputation beyond reputeDelicaTe BuTTerfLy has a reputation beyond reputeDelicaTe BuTTerfLy has a reputation beyond reputeDelicaTe BuTTerfLy has a reputation beyond reputeDelicaTe BuTTerfLy has a reputation beyond reputeDelicaTe BuTTerfLy has a reputation beyond repute
?? ??? ~
I was on a ship thinking of you.when i looked down i droped a tear in the ocean.Then i promised myself that until someone finds it.I wont forget you…
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

ياااربى اية الفصل ال قلب نكد دة

وجدى هيمووت!!!

عابد قتل ابووه !!

شوشو راااحت وضااعت !!!

ياقوتة قلبها تكسر !!! ث

مر تعبااانة

اروح منك فين يا قوية يا مفترية

مفش غير مروان وداليا وفادة وسيف ال طروها علينا شوي تسلم ايديك يا ملكة المفاجات



DelicaTe BuTTerfLy غير متواجد حالياً  
التوقيع
قد يمرُّ العمرُ والأحلامُ من حولي ضَبابْ
تخنُقُ الأنفاسَ في جوفي بسُؤلٍ لا يُجابْ

أيُّ سَعْدٍ؟ وجهُ أمّي غَائِبٌ
تَحْتَ التُّرابْ ..

رد مع اقتباس
قديم 08-02-19, 12:56 PM   #539

نرمين نحمدالله

كاتبة في منتدى قلوب أحلام وفي قصص من وحي الاعضاء ، ملهمة كلاكيت ثاني مرة


? العضوٌ??? » 365929
?  التسِجيلٌ » Feb 2016
? مشَارَ?اتْي » 2,008
?  نُقآطِيْ » نرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond repute
افتراضي

واضح ان الفصل صدمكم
وواضح ان فيه اجماع على كده


نرمين نحمدالله غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 08-02-19, 01:41 PM   #540

7noooon

? العضوٌ??? » 403577
?  التسِجيلٌ » Jul 2017
? مشَارَ?اتْي » 268
?  نُقآطِيْ » 7noooon is on a distinguished road
افتراضي

مشااااعر مختلطة جميلة جدا نعيشها بكل فصل معاااكي...ابدعتي كالعادة

7noooon غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:17 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.