آخر 10 مشاركات
طيف الأحلام (18) للكاتبة: Sara Craven *كاملة+روابط* (الكاتـب : nano 2009 - )           »          119 - بدر الأندلس - آن ويل - ع.ق ( كتابة / كاملة )** (الكاتـب : أمل بيضون - )           »          جدران دافئة (2) .. سلسلة مشاعر صادقة (الكاتـب : كلبهار - )           »          رواية ناسينها ... خلينا نساعدكم [ أستفساراتكم وطلباتكم ] (الكاتـب : × غرور × - )           »          أهواكِ يا جرحي *مميزة & مكتمله* (الكاتـب : زهرة نيسان 84 - )           »          [تحميل] ماذا بعد الألم ! ، لـ الحلــوه دومــا ، اماراتية (جميع الصيغ) (الكاتـب : Topaz. - )           »          99 - خطوات على الضباب - ميريام ميكريغر ( النسخة الأصلية ) (الكاتـب : حنا - )           »          لعنتي جنون عشقك *مميزة و مكتملة* (الكاتـب : tamima nabil - )           »          رواية قصاصٌ وخلاص (الكاتـب : اسما زايد - )           »          مشاعر من نار (65) للكاتبة: لين غراهام (الجزء الثانى من سلسلة عرائس متمردات)×كاملة× (الكاتـب : Dalyia - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > مـنـتـدى قـلــوب أحـــلام > منتدى قلوب أحلام شرقية

Like Tree6Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 28-02-19, 01:10 PM   #591

نرمين نحمدالله

كاتبة في منتدى قلوب أحلام وفي قصص من وحي الاعضاء ، ملهمة كلاكيت ثاني مرة


? العضوٌ??? » 365929
?  التسِجيلٌ » Feb 2016
? مشَارَ?اتْي » 2,008
?  نُقآطِيْ » نرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond repute
افتراضي


السلام عليكم
معتذرة عن الفصل النهاردة




نرمين نحمدالله غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-03-19, 01:17 AM   #592

aybetenjan

? العضوٌ??? » 425768
?  التسِجيلٌ » Jun 2018
? مشَارَ?اتْي » 22
?  نُقآطِيْ » aybetenjan is on a distinguished road
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم

aybetenjan غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-03-19, 03:23 AM   #593

ام زياد محمود
عضو ذهبي
 
الصورة الرمزية ام زياد محمود

? العضوٌ??? » 371798
?  التسِجيلٌ » May 2016
? مشَارَ?اتْي » 5,462
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » ام زياد محمود has a reputation beyond reputeام زياد محمود has a reputation beyond reputeام زياد محمود has a reputation beyond reputeام زياد محمود has a reputation beyond reputeام زياد محمود has a reputation beyond reputeام زياد محمود has a reputation beyond reputeام زياد محمود has a reputation beyond reputeام زياد محمود has a reputation beyond reputeام زياد محمود has a reputation beyond reputeام زياد محمود has a reputation beyond reputeام زياد محمود has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   sprite
¬» قناتك nicklodeon
?? ??? ~
اللهم ان كان هذا الوباء والبلاء بذنب ارتكبناه أو إثم اقترفناه أو وزر جنيناه او ظلم ظلمناه أو فرض تركناه او نفل ضيعناه او عصيان فعلناه او نهي أتيناه أو بصر أطلقناه، فإنا تائبون إليك فتب علينا يارب ولا تطل علينا مداه
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نرمين نحمدالله مشاهدة المشاركة
السلام عليكم
معتذرة عن الفصل النهاردة

ولا يهمك ياحبيبتى كان الله فى عونك


ام زياد محمود غير متواجد حالياً  
التوقيع

رد مع اقتباس
قديم 01-03-19, 10:50 AM   #594

hadj rymas

? العضوٌ??? » 356792
?  التسِجيلٌ » Nov 2015
? مشَارَ?اتْي » 726
?  نُقآطِيْ » hadj rymas has a reputation beyond reputehadj rymas has a reputation beyond reputehadj rymas has a reputation beyond reputehadj rymas has a reputation beyond reputehadj rymas has a reputation beyond reputehadj rymas has a reputation beyond reputehadj rymas has a reputation beyond reputehadj rymas has a reputation beyond reputehadj rymas has a reputation beyond reputehadj rymas has a reputation beyond reputehadj rymas has a reputation beyond repute
افتراضي

روعة ماشاء الله

hadj rymas غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-03-19, 09:20 PM   #595

فوفومون
 
الصورة الرمزية فوفومون

? العضوٌ??? » 336859
?  التسِجيلٌ » Feb 2015
? مشَارَ?اتْي » 590
?  نُقآطِيْ » فوفومون has a reputation beyond reputeفوفومون has a reputation beyond reputeفوفومون has a reputation beyond reputeفوفومون has a reputation beyond reputeفوفومون has a reputation beyond reputeفوفومون has a reputation beyond reputeفوفومون has a reputation beyond reputeفوفومون has a reputation beyond reputeفوفومون has a reputation beyond reputeفوفومون has a reputation beyond reputeفوفومون has a reputation beyond repute
افتراضي

فصل رائع جدا باحداثه الشيقه خاصه سيف وياقوت سلمتي غالييتيتي اممممممممممممواه

فوفومون غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-03-19, 03:51 PM   #596

نرمين نحمدالله

كاتبة في منتدى قلوب أحلام وفي قصص من وحي الاعضاء ، ملهمة كلاكيت ثاني مرة


? العضوٌ??? » 365929
?  التسِجيلٌ » Feb 2016
? مشَارَ?اتْي » 2,008
?  نُقآطِيْ » نرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond repute
افتراضي

بعد اذن ادارة المنتدى
نزول استثنائي للفصل اليوم مساء


نرمين نحمدالله غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-03-19, 09:12 PM   #597

جنة محمود
 
الصورة الرمزية جنة محمود

? العضوٌ??? » 291127
?  التسِجيلٌ » Mar 2013
? مشَارَ?اتْي » 624
?  نُقآطِيْ » جنة محمود has a reputation beyond reputeجنة محمود has a reputation beyond reputeجنة محمود has a reputation beyond reputeجنة محمود has a reputation beyond reputeجنة محمود has a reputation beyond reputeجنة محمود has a reputation beyond reputeجنة محمود has a reputation beyond reputeجنة محمود has a reputation beyond reputeجنة محمود has a reputation beyond reputeجنة محمود has a reputation beyond reputeجنة محمود has a reputation beyond repute
افتراضي

تسجيل حضووووووووووووور

جنة محمود غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-03-19, 09:15 PM   #598

ميادة عبدالعزيز

? العضوٌ??? » 378366
?  التسِجيلٌ » Jul 2016
? مشَارَ?اتْي » 377
?  نُقآطِيْ » ميادة عبدالعزيز has a reputation beyond reputeميادة عبدالعزيز has a reputation beyond reputeميادة عبدالعزيز has a reputation beyond reputeميادة عبدالعزيز has a reputation beyond reputeميادة عبدالعزيز has a reputation beyond reputeميادة عبدالعزيز has a reputation beyond reputeميادة عبدالعزيز has a reputation beyond reputeميادة عبدالعزيز has a reputation beyond reputeميادة عبدالعزيز has a reputation beyond reputeميادة عبدالعزيز has a reputation beyond reputeميادة عبدالعزيز has a reputation beyond repute
افتراضي

تسجيل دخووول اينا الفصل
متشوقه لسيف وغااااده


ميادة عبدالعزيز غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-03-19, 10:35 PM   #599

نرمين نحمدالله

كاتبة في منتدى قلوب أحلام وفي قصص من وحي الاعضاء ، ملهمة كلاكيت ثاني مرة


? العضوٌ??? » 365929
?  التسِجيلٌ » Feb 2016
? مشَارَ?اتْي » 2,008
?  نُقآطِيْ » نرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond repute
Flower2

القطعة الحادية عشرة
=========

_معقول؟! ده نفس اسمك يا هيثم !

تناول منها هيثم البطاقة ليتفحصها باستنكار لم يلبث أن تحول لعدم تصديق ...
بينما رمقته لجين بنظرة رعب قبل أن تختطف منه البطاقة لتعدو بخطوات راكضة تهبط الدرج ...
حسين سيقتلها ...
بل سيقتلهن جميعاً!!
أجل ...كان هذا هو الاتفاق القديم بينهن وبينه...
ألا يعرف أحد عنهما شيئاً!!!
"ابنه" سيخبره !
"ابنه" الذي في ظروف غير هذه كانت لتفتخر بكونه أخاها !!
دموعها تنهمر على وجنتيها كالسيل وهي تشعر بالقهر أكثر ...
ألا يكفيها اكتشاف ياقوت لعارها ...
والآن ؟!!

_استني !
هتف بها هيثم وهو يلحق بها عدواً ليقف أمامها في مدخل البيت ورد فعلها يغنيه عن الجواب ...
يتفحص ملامحها بعدم تصديق ...
هي تشبه والده حقاً ...لكن ...معقول؟!

_انتِ مين ؟! وبتجري ليه ؟!!
يسألها بحروف مرتجفة لترفع إليه عينيها الغارقتين بين ذعرها وقهرها قبل أن تهز رأسها نفياً لجريمة لا تعرفها ...
فلم يملك أن هتف فيها بألم يمتزج بذهوله :
_انتِ فعلاً بنته ؟!

الكلمة الأخيرة التي بدت في أذنيها غريبة ...مفزعة...متوعدة بعقاب لا تدري كيف ستواجهه ...
ليلحقها بكلمة أخرى :
_أختي!
وشتان بين كلمة وكلمة !!
الكلمة الأخيرة جعلت نظرتها المرتعبة تتفحصه بعينين متسعتين ...
ترتجف شفتاها وهي تتساءل ...
هل ورث من حسين جبروته ؟!
هل يستنكف أن تكون له أختاً مثلها؟!
هل سيؤذيها رغبة منه في إبعادها ؟!!
والجواب جاءها في حروفه المرتجفة بعدها :
_أرجوكي بطلي عياط وردّي ...أنا عايز أعرف الحقيقة .

لكنها تشهق كاتمة بكاءها لتتجاوزه بخطوات راكضة مكنتها من الهروب من عينيه مختفية في زحام الطريق ...

تلفت حوله أخيراً بتشتت وهو لا يفهم ماذا يحدث ...
كيف ظهرت هذه وكيف اختفت ؟!
والده ؟!
هل يخفي حقاً هذا السر؟!!

يشعر بها خلفه فيلتفت ليجد شوشو ...
عيناها الحزينتان ترمقانه بنظرة آسفة مشفقة فيهتف بها بدهشة مستنكرة :
_بتبصيلي كده ليه ؟! انتِ مصدقة ؟! مصدقة إن بابا اللي شفتي بعينك بيحب ماما أد إيه ممكن يكون متجوز من وراها ؟! ومخلف بنت بالعمر ده ؟!!

لم يستطع تصديق السخرية المريرة التي كست وجه شوشو قبل أن تشيح بوجهها لتقول باقتضاب:
_مش محتاجة حيرة...كل حاجة واضحة بس انت محتاج تفتح عينيك.
_قصدك إيه ؟!
يسألها بارتياب لكنها تعطيه ظهرها لتعود لبيتها تاركة إياه تائهاً وسط الطريق !!
ماذا يفعل الآن ؟!
هل يذهب لوالده ويواجهه ؟!
هل يخبر أمه ؟!!
لا...
لن يستطيع فعلها !!
لن يتمكن من هدم البيت الذي طالما تفاخر بقوة ببنيانه!!
إذن ...ما الحل ؟!!
أجل ...ليس هناك سواه ...
إسلام !!
=========










_غادة.
يهتف بها أحمد وهو يفتح لها ذراعيه لتعدو نحوه بلهفة ...
كم اشتاقت هذا العناق!!
تبكي وتضحك ولا تدري أي شعور يتملكها ...
لكنه يقبل رأسها ليمسد على شعرها قبل أن ينظر لعينيها نظرة طويلة عميقة ...
ثم تناول كفها ليفعل أغرب ما توقعته ...
لقد كان يخلع عنها دبلته !

_أحمد !
تهتف بها بارتياع ...باستنكار ...برجاء ...
تحاول منعه وجذب كفها لكن جسدها كله فقد حركته ...
تناظر دبلته المخلوعة في راحته لكنه يبتسم وهو يلوح لها ليبتعد ...

_أحمد !
تعاود نداءها الراجي وهي تحاول الحركة دون جدوى لتلمح طيفه يبتعد وسط الغيوم البيضاء ...

_افرحي يا غادة ...عيشي حياتك بقا ...سيبي لقلبك باب مفتوح يكمل بيه طريقه ...

صوته يدوي من حولها لكنها لا تراه ...
فتعاود نداءه مرة بعد مرة ...
ها هو ذا يعود من خلف الغيوم البيضاء ...
تبتسم وهي تراه يقترب من جديد ...
مهلاً ...
إنه ليس أحمد !
سيف؟!!
سيف يمسك دبلة أحمد في راحته المفرودة ويتقدم بها نحوها !!
أين أحمد ؟!!
_أحمد !

صوت نداءاتها يتوارى خلف صفير غريب تميزه حولها ...
حلقها جاف بشدة ...
تحاول فتح عينيها لتميز أضواء غريبة ...
الرؤية تؤلمها فتعاود إغماضهما ...

_غادة !

الصوت هذه المرة ليس لأحمد ...
إنه صوت سيف !!
تسمعه جوارها لكنها لا تراه !

_افتحي عينيكي ...فوقي ...أبوس إيدك ماتخلينيش أعيش الكابوس ده تاني!

صوته الملهوف الراجي يختلف كثيراً عن تحفظه المعهود معها ...
أين هي؟!!



_مش قادر أعيش نفس التفاصيل مرتين ...كانت نفس المستشفى ...نفس الليلة الباردة ...نفس صوت الشتا ...نفس الخوف والعجز وأنا متكتف مش قادر أعمل حاجة ...هي مشيت وسابتني ...أرجوكِ انتِ ما تسيبينيش !

لا ...ليس حلماً!!
هي تميز صوته حقيقة وسط كل هذا الضباب ...
رغم "التنميل" الذي تشعر به في جسدها كله لكنها تشعر أن ما تسمعه حقيقي...

_انتِ عارفة إنك شبهها قوي ؟! من أول يوم شفتك فيه وأنا حاسس إن روحها فيكي ...مش عارف ده حقيقي
واللا قلبي اللي كان بيدور على عذر عشان يبرر إنه اتعلق بيكي كده رغم إصراره إنه يقفل بابه بعدها ...يمكن عشان كده هاجمتك قوي أول مرة اتقابلنا هنا ...يمكن عشان كده كنت بهرب من إني أشوفك بعدها ...كنت خايف أعترف لنفسي قبل ما أعترفلك ...إني ...


صوته المتهدج بانفعاله ينقطع في أذنيها المرهفتين لما تسمعه ...
لماذا سكت ؟!!
أين هي؟!
أين علاء وإيناس؟!!
علاء!!
البازار ...الشجار ...الرجل ...المدية المتجهة نحو صدرها !!
وعيها يعود إليها تدريجياً لتشهق شهقة عالية وهي تفتح عينيها فجأة لتلتقي بعينيه الدامعتين المحدقتين فيها ...
قبل أن تراه ينتفض مكانه ليهتف بفرحة أرجفت صوته وأرجفتها هي قبله :
_فاقت ...الحمدلله .

وعبر عينيها نصف المغمضتين تراه يسجد فجأة شكراً في مكانه في تصرف لم تره من قبل ...
لينهض بعدها بسرعة ويفتح باب الغرفة منادياً علاء !
======

يومان مرا بها بعد استردادها لوعيها لتدرك ما حدث في ليلتها ...
إيناس أخبرتها أنهم أنقذوها بمعجزة بعد فقدها الكثير من الدماء ...
لكن سيف تبرع لها بدمه !
الفكرة -على شيوعها - تمنحها شعوراً خاصاً بالحميمية رغم أنها تعلم أنه تصرف منطقي لرجل بشهامته ...
شعوراً تزيده ذكرى ما سمعته منه يومها وهو يظنها لا تزال في غيبوبتها ...
رباه !!
هل من الممكن أنه يح...؟!!
انقطعت أفكارها عندما فتح باب غرفتها في المشفى لتعتدل في جلستها على سريرها وهي تراهم يدخلون جميعاً ...
علاء وإيناس وسيف ...و...إسلام !!!
الأخير الذي بدا شديد الارتباك وكأنما يخجل من وجوده معهم الآن بعدما رفضته ...
كما يخجل من تركهم وحدهم في الظروف ...
لهذا غمغم بنبرة متحشرجة متحاشياً النظر نحوها :
_حمداً لله على سلامتك .
ردت عليه بعفوية مقتضبة وهي تنقل بصرها لإيناس التي لم ترها منذ أفاقت إلا باكية وكأنما ذكرها الحادث بفقدها لابنها ...

_خلاص يا "أنّا" بطلي عياط ...الحمدلله قدر ولطف!
قالتها بصوت لا يزال وهنه يفضحه لكن إيناس لم تجد رداً سوى عناقها الملهوف لها وسط دموعها الجارية ...

_لحد دلوقت مش مصدق إنك عملتيها ...عشاني!

الكلمة الأخيرة تحشرجت في حلق علاء الذي بدت الدموع غريبة على وجهه المرح دوماً ...
لو كان الأمر يحل له لاحتضنها كما تفعل إيناس مستجيباً لفيض شعوره نحوها ...
_أنا بنتك...مش دايماً تقوللي كده ؟!
قالتها غادة ببعض المرح وهي تنظر إليه فوق كتف إيناس التي تضمها ليهز علاء رأسه وهو يمسح طرف عينه بخفة ليجاريها في مرحها بمشاكسته المعهودة :
_كنت هاجيب بنت زي القمر كده منين ؟! ما انتِ شايفة أهه !
قالها مشيراً لإيناس التي جففت دموعها لترد مزاحه بدورها وهي تلتفت نحوه بقولها :
_نعم ! أكونش متجوزة عمر الشريف ومش واخدة بالي؟!
_أهه...أهه...آخر حاجة توعى عليها عمر الشريف !!...ست من العهد البائد تاريخ صلاحيتها خلصان ومجاملين فيه كمان !
_علااااء!
_إيناااااس!!

انطلقت ضحكاتهم جميعاً عالية لتشاركهم فيها غادة ببعض الألم الذي شق صدرها لكنها كتمته وعيناها تنسحبان رغماً عنها للوحيد الصامت هاهنا ...
والذي تنطق عيناه بكل صخب !!
"الحزن الأخرس" في حدقتيه يمتزج الآن بلهفة يراها قلبها وينكرها عقلها ...
متى ولماذا وكيف؟!
تراها كانت تتوهم حديثه الذي سمعته كما كانت تتوهم رؤية أحمد ؟!!
أحمد ؟!
أين دبلته ؟!!
رفعت كفها بسرعة نحو عينيها لترى إصبعها الخالي فترتجف عيناها بنظرة ذعر قرأها الجميع لكن سيف تنحنح بخشونة ليقول دون أن ينظر إليها :
_شالوها قبل العملية ...هاروح أجيبهالك !

قالها وهو يتحرك بخطوات مهرولة مغادراً الغرفة ليعود
علاء وإيناس لمشاكساتهما التي شاركهما فيها إسلام هذه المرة محاولاً تخطي حرج وجوده هنا معها ...
بينما شردت هي ببصرها وهي تستعيد مزيج رؤياها- التي كانت شديدة الشفافية حقاً كأنها عاشتها بروحها - مع حقيقة ما سمعته منه وقتها ...

صوت رنين هاتف إسلام يصدح جوارها فتسمعه يعتذر منهم ليخرج قبل أن تقول إيناس لها بينما تربت على كتفها :
_مش عايزة أسيبك بس هاروح المزرعة أجيب لك شوية حاجات وراجعة.
_هو أنا هاطوّل هنا؟!
تسألها بقلق ليرد علاء بحنانه يطمئنها:
_مش هتخرجي غير لما نطمن عليكي خالص .

ابتسمت له بشرود عبر أفكارها الذي قاطعه دخول ممرضة ما كي تركب لها محلولاً وريدياً قبل أن تطلب من علاء مرافقتها للخارج لبعض إجراءات المشفى فيما بقيت هي وحدها لدقائق التهمها المزيد من شرودها الذي قطعه دخول سيف أخيراً ...
عيناها تتعلقان براحته المفرودة التي تحتضن دبلة أحمد ...
تماماً كما رأته في حلمها!!
لهذا دمعت عيناها رغماً عنها وهي تتناولها منه لتعيدها مكانها في إصبعها قبل أن تغمض عينيها بقوة تناسبت مع خفقان قلبها الجامح ...بينما كان هو غارقاً في تفاصيلها بكليته وهذه الحركة الأخيرة منها تملأه بمزيج من غيرة وإعجاب ...

_انتِ شجاعة قوي.


يقولها أخيراً مطرق الرأس بنبرته المتحفظة كعهده وهو يجلس على الكرسي جوار سريرها لتبتسم هي بينما
تلاحظ احمرار أذنيه وأنفه كعادته وهو يردف:
_وقفتي للبلطجي ده يومها ...وأنقذتي عمو علاء ...
ثم غلبته ابتسامة ليستطرد ولايزال يتحاشى النظر نحوها:
_بصراحة مستغرب إنك شبهتي نفسك مرة بالأرنب الخايف ...انتِ فعلاً قوية .
فاتسعت ابتسامتها وهي ترد بشرود :
_ده فرق التجربة ...انت عارف إن دي تاني مرة يتكتب لي فيها عمر جديد ؟!
هز رأسه وهو يتذكر ما حكاه له رامز عنها لتردف هي ببعض المرح:
_واضح إن مكتوب عليا حد من عيلتكم ينقذني ...المرة اللي فاتت رامز والمرة دي انت ...قالولي إنك اتبرعت لي بالدم .

ورغم امتنانه لأنها لم تشر لماضيها مع رامز إلا بالجزء الحسن كما يفترض ب"بنت أصول"...
لكنه لم يملك غيرة خانقة اشتعلت بداخله رغم كونها غير منطقية ...
لكن منذ متى يرتبط شعوره بها بشيئ منطقي؟!!

هو الذي كان كالمجنون عندما سمع عن إصابتها يكاد يراها بعين خياله تلحق بآنجيل وتتركه ...
ساعتها فقط أن شعور قلبه لا يقبل تأويل ...
أنه ...يحبها!
لكن ...ماذا عساه يجدي الاعتراف الآن وبينهما لا تزال العراقيل ...
ذنب آنجيل ...وفاؤها لأحمد...و...إسلام !!
إسلام الذي لا يزال متخبطاً بشعوره نحوها هو الآخر لا يحجمه سوى رفضها هي !!

_شكراً .
تقولها برقتها ذات الدلال الفطري فتنتزعه من شروده ليجد الجرأة أخيراً فيرفع إليها عينيه بقوله المتحشرج:
_أنا اللي بشكرك...إنك خلتيني أقدر أعمل حاجة المرة دي .


اكتسح التأثر ملامحها مع "الحزن الأخرس" الذي عاد يصرخ في حدقتيه ...
تود لو تستنطقه عن حقيقة ما سمعته منه وقتذاك ...
لكنها تدرك أن طبيعته الكتومة المتحفظة لن تمكنها مما تريد ...

_آسفة لو الموضوع فكرك بالجرح القديم .
_وأنا كنت نسيته ؟!
غمغم بها بألم مذنب لتراودها نفسها بكذبة بيضاء تتيقن بها مما سمعته منه :
_"أنّا" قالتلي إن آنجيل كانت هنا برضه في نفس المستشفى.


أومأ برأسه مجيباً لتتسع عيناها بإدراك ...
هي لم تكن تحلم !!
هو حقاً باح بما سمعته منه !!!

_عمري ما هانسى اليوم ده ...سيناريو بيتكرر قدام عيني كل دقيقة ...وشها الشاحب ...شفايفها الزرقا...نفَسها اللي بتاخده بالعافية ...وآخر كلام قالتهولي ...إنها راضية يكون عمرها التمن اللي تدفعه عشان تكفر عن غلطها ...عشان أصدق إنها فعلاً حبتني .

يقولها بصوته المتهدج الذي فاض بمزيج الألم والذنب وعيناه رغم تسلطهما على ملامحها هي لكنها كانت تشعر بقلبها أنه لا يراها هي الآن ...
بل يرى صورة ماضيه ...
عاصفة هوجاء من مشاعر تجتاحها وهي لا تدري كيف تصفها ...
جزء منها يشعر بالسعادة...هذه السعادة عالية النغمة التي لا تملك فيها نبض قلبك ولا ضحكة تطلقها روحك دون صوت ...
سعادة لا يفسرها سوى سبب واحد ...
أنها تحمل له نفس الشعور الذي يحمله نحوها ...
لكنها سعادة غير نقية تلوثها شوائب مشاعر أخرى ...
الخوف من ماضيه ...
الخوف من غدها ...
والذنب الذي يلطخ وفاءها لأحمد !!
"الحي أبقى م الميت"!
طالما كرهت هذه العبارة!
طالما احتقرتها وهي تشعرها أن الوفاء بضاعة رخيصة في هذا الزمان !
فهل سترضخ لها الآن ؟!!

ربما لهذا اسود وجهها فجأة بظلمة شعورها لكن غادة المستحدثة لم تكن لتدع ضعفها يهزمها لهذا حولت الحديث لقولها:
_ما فكرتش تعمل لها حاجة بعد موتها تنفعها ؟! حجة مثلاً ؟! صدقة ؟! مشروع خيري ؟!
كانت عيناه تتسعان باستغراب مع تساؤلاتها لتقرأ فيهما الجواب بالنفي فتردف:

_زي ما توقعت ...الشيطان شاطر يدخللنا من أضعف أبوابنا ...يشغلك بإحساس الذنب عن إنك تعمللها حاجة حقيقية فعلاً تنفعها .

ابتسم ابتسامة إعجاب فاضت في عينيه واخترقت قلبها كقذيفة ...
لماذا يتحدث رجل كهذا؟!
لماذا يحتاج أن يتحدث ؟!
كل مشاعره تصرخ على ملامحه بمنتهى الوضوح!!
عيناه لا تغازلان جمالها بل تتولهان بروحها ...
ربما لهذا لا تجد نظراته منفرة لامرأة بتاريخها ...
ربما لهذا تشعر أنها ...
أنها ....
صعب!
الاعتراف صعب ولو سراً!

_معاكي حق...انتِ ...انتِ...
ارتبكت كلماته بعدها وكأنه لا يجد تكملة للعبارة ليختار ما تبادر له :
_كويسة .

انفلتت منها ضحكة آلمت جرحها وخطفت قلبه هو!!
جعلته يبتسم بخجل لم تعد تستغربه مع استطراده :
_كويسة جداً...بتعرفي ...ت...

ارتباكه يزداد مع اتساع ابتسامته الخجول التي خطفت قلبها هي الأخرى ...
كلاهما خاطف ومخطوف ...
جاذب ومجذوب ...
فلا بادي ...ولا أظلم !!

_أنا شفتك بتسجد شكر لما فقت .

شعرت بالندم فور ما تفوهت بها وكأنما غافلها قلبها ليجريها على لسانها ...
قلبها الذي كان يتقافز فرحاً وهو يرى أثر كلماتها على
ملامحه التي أذابها ارتباكها :
_آه...طبعاً...أكيد...عشان...عشا� � عمي علاء و"أنّا" كانوا هيموتوا م القلق ...

رنين هاتفه أنقذه من فوضى مشاعره فالتقطه بسرعة ليستمع قليلاً قبل أن يغلق الاتصال ليلتفت نحوها بقولٍ حمل في أذنيها حناناً غريباً على طبيعته المتحفظة :
_فيه مفاجأة حلوة ...

رمقته بنظرة متسائلة ليبتسم ابتسامة نقية وهو يقف مكانه ليتوجه نحو باب الغرفة الذي فتحه كاملاً ليطل من خلفه الوجه الحبيب :

_هانيا؟! معقول جيتي؟!

هتفت بها غادة بفرحة كادت تخلع قلبها وهي تحاول النهوض لكن وجعها منعها فيما اندفعت نحوها هانيا تحتضنها متحاشية مكان إصابتها ...

_وحشتيني قوي ...بحمد ربنا إني فكيت الجبس مخصوص عشان أعرف أحضنك .

تهتف بها هانيا عبر فيض دموعها ليهتف رامز خلفها:
_لاحظي إن كلامك جارح ...معاكي واحد بيغير هنا .

ابتسمت غادة وسط دموعها لترمقه بنظرة مرتبكة مع قولها:
_تعبتوا نفسكم ليه ؟!
_ماقدرتش أمسك نفسي لما سيف قاللنا ...حمداً على
سلامتك يا حبيبتي!
_حمداً لله ع السلامة ياغادة .

يقولها رامز بجدية وعيناه تنتقلان بتفحص بينها وبين شقيقه الذي بدا مأخوذاً بها حقاً ليشعر بصدق حدس هانيا عن عاطفة ما تنسج شباكها بينهما ...
خاصة وهو يلمح لمعة عيني شقيقه مأسوراً بالفرحة الناطقة في عيني غادة التي كانت تهتف بانطلاق:
_شكراً يا هانيا إنك جيتي ...شكراً يا رامز عشان سمحتلها ...
_مفيش شكرا يا سيف عشان هو اللي جابنا على ملا وشنا ؟!

يسألها رامز ببعض المكر وهو يرمق شقيقه بنظرة عابثة لتبتسم غادة بخجل جعل هانيا هي الأخرى تقلب بصرها بينهما برضا خفي ...
رغم الرعب الذي عاشته منذ سمعت الخبر لكن شعورها بقلق سيف المبالغ فيه أنبأها أنه يحمل لصديقتها مكانة خاصة حقاً ...
صديقتها التي كانت ملامحها هي الأخرى ترسم لوحة واضحة لمشاعر تجاهد لإخفائها ...
لوحة لم يتبينها رامز وهانيا فحسب ...
بل إسلام الذي كان واقفاً على مقربة منهم يراقب الموقف كله من بدايته وشعور بالغدر يقصف قلبه ...
سيف فعلها ؟!!
========
_كانت حلوة حركة إنك تجيب أخوك وصاحبتها !
قالها إسلام بنبرة غامضة مخاطباً سيف وهو يقود بهما سيارته ليرد الأخير بتحفظ :
_هانيا مااستحملتش بعد ما سمعت الخبر ...هي اللي ...
_مفهوم ...مفهوم ...انت بريئ ما عملتش حاجة!
هتف بها إسلام ببعض العصبية ليلتفت نحوه صديقه هاتفاً بضيق:
_فيه إيه ياابني انت ؟! بتخانق دبان وشك من ساعة ما خرجنا من المستشفى ...عرفنا إنك بتحبها وقلقان عليها !

هنا أوقف إسلام السيارة فجأة لتصدر صريراً مفزعاً جعل سيف يصدر صيحة استنكار قبل أن يهتف الأول بحدة وهو يلتفت نحوه :
_كويس قوي إنك فاكر إني بحبها ...ياصاحبي!
_قصدك إيه ؟!
غمغم بها سيف بارتباك ليهدر فيه إسلام بعنف :
_أنا مش عبيط ولا لسه هاعرفك النهارده ...إيه اللي بينك وبين غادة ؟!

كز سيف على أسنانه بقوة لتتسع عينا إسلام بصدمة وهو يمسك بتلابيبه هاتفاً بعدم تصديق:
_ما بتردش ليه ؟! قول إني بخرّف...إني فهمت غلط ...إنك صاحبي ومش ممكن تبص لواحدة قلتلك إني عايز أتجوزها ...
ثم صرخ فيه بعدها بحدة :
_قول إنك مش ندل!!
دمعت عينا سيف ووجهه الصارخ بانفعالاته يناقض تيبس جسده بين قبضتي صديقه ...
هل يلومه ؟!
إسلام محق!!
هو خانه بل وخان نفسه عندما ...
عندما ماذا ؟!
هل يجرؤ على الاعتراف الآن ؟!!

_إسلام ...أنا ...أنا لسه بحب آنجي.

لا لم يكن كاذباً في عبارته ...
آنجيل ستبقى ندبة بقلبه لن تمحوها امرأة بعدها ...
لكن ...ماذا عن غادة ...
هل يجرؤ أن يعترف بنفس الأريحية أنه "لا يحبها"!!!




_دي الحدوتة اللي لفيت بها دماغ غادة ؟! واحدة أرملة لسه وفية لجوزها ...مين أنسب لها من واحد زيها بنفس ظروفها ؟!!...هو ده المدخل اللي وصلتلها بيه ؟!!
هتف بها إسلام وجحيم غضبه يعميه عن رؤية الحقائق ...
ليهتف به سيف بحدة :
_اخرس ...انت عارف كويس إني مش بتاع مداخل ولا حركات ...ولا ليّ في فيلم الستات ده أصلاً.

ضحكة عصبية ساخرة كانت جواب إسلام الذي أطلق سراحه من بين قبضتيه ليشيح بوجهه للحظات طالت ...
قبل أن يغمغم بتهكم مرير:
_ما هو ده اللي قاهرني...مالقيتش من ستات الدنيا غير دي يا صاحبي؟!

انفرجت شفتا سيف وكأنه على وشك الصراخ بشيئ ما لكنه لم يستطع ...
بماذا يدافع؟!
هو حتى لا يجرؤ على البوح بمشاعره نحوها !!
هي معضلتها الخاصة بها دوماً ...
دوماً يلقاها وهي تخص رجلاً غيره ...
مرة أحمد ...ومرة إسلام...
لكن من قال إنها تخص إسلام؟!
ألم تعلن رفضها له ؟!!
حسناً...هل يجرؤ على قولها له الآن؟!!

_انزل يا سيف ...أنا خلاص فهمت .

يقولها إسلام دون أن ينظر إليه وقد أدرك من صمت صديقه أن ما يخفيه أعظم من أن يقال ...
أدرك أن سيف بطبيعته الكتومة لن يبوح بالمزيد ...
لكنه لم يخطئ في قراءة ما كان بينه وبين غادة !

_إسلام...ماتفهمش...
_قلت لك إنزل وسيبني دلوقت .
قاطعه بها إسلام بخشونة ليرمقه سيف بنظرة أسف طويلة قبل أن يغادر السيارة ليرحل وعينا صديقه تتابعان ظهره المنصرف بمزيج من غضب وأسى ...
مشاعره كانت تتأرجح بين أقصى اليمين وأقصى اليسار ...
غضب من فقده لغادة...
صدمة من ميل سيف نحوها ...
غيرة من تفضيلها له عليه هو ...
وخوفٌ من أن يخسر صديقه وعائلة علاء التي يعتبرها عائلته الحقيقية هنا ...
الغريب أن الشعور الأول كان أضعفهما ...بينما كان الأخير أكثرهما طغياناً !!
أجل ...خسارته لغادة كان قد بدأ يتقبلها بعد رفضها القاطع له ...
لكن كابوس فقده لصديقه وعائلته هنا بعد انقطاعه عن عائلته بمصر هو ما يروعه حقاً !!
عائلته التي اختار الابتعاد عنها بعد صدمته في أبيه وخوفه من مواجهة أمه ...
إحساسه الممزق بين أن يبوح فيهدم البيت "السعيد"...
أو يصمت فيتواطأ مع أبيه في ما يفعله خلف الستار !!
وكالعادة ...اختار الأسهل ...أن يهرب!!


صوت رنين هاتفه يقاطع أفكاره فيلتفت نحوه لترتسم على شفتيه ابتسامة تهكم :
_مش وقتك خالص يا هيثم .
يقولها متجاهلاً الرد لكن الرنين يعود مرة تلو مرة فينعقد حاجباه بقلق حقيقي وهو يفتح الاتصال قبل أن يستمع من شقيقه لما يريد قوله ...

_أوبا...انت كمان عرفت ؟!
يقولها بذات التهكم المرير ليهتف هيثم من الجانب الآخر
للاتصال:
_وانت عارف من زمان وساكت؟!
_عايزني أعمل إيه يعني؟! أقول لجيلان هانم اللي طايرة بيه في السما عشان تروح فيها ؟!
قالها بمزيج من غضب وحسرة ليردف بشرود :
_أبوك له بنتين مش بنت واحدة ...سمعته بيكلم واحدة فيهم في التليفون في مرة ...
صيحة هيثم المستنكرة اخترقت شروده ليردف بسخرية :
_خد بقا المفاجأة الأكبر ...بنات الخدامة...شفت ذوق أبوك ؟!
صمت هيثم مصدوماً لدقيقة كاملة يحاول استيعاب الأمر قبل أن يصرخ في شقيقه بانفعال:
_هو ده اللي هامك دلوقت ؟! ذوق أبوك ؟! هنعمل إيه في المصيبة دي ؟!

زفر إسلام بقوة وهو يفتح تابلوه سيارته ليستخرج منه سيجارة أشعلها قبل أن يقول ببرود مشتعل:
_وأنا لو عارف ممكن أعمل إيه كنت سبتكم وجيت هنا ليه ؟!
صمت هيثم مصدوماً والحقائق المتوالية تصفعه بقسوتها ...
إسلام سافر هارباً إذاً!!
هارباً من مواجهة حقيقة أبيه ؟!!
فماذا عنه هو ؟!
هل يصمت متجاهلاً أم يهرب هو الآخر!!

عينا لجين الدامعتين بذعر تقتحم مخيلته من جديد فيشعر بوخزة في قلبه ...
يالله !!
أخته كانت أمامه على بعد خطوات ...
لا تعرفه ولا يعرفها ...
ابنة الخادمة ؟!!
أيهنّ؟!
ياللغباء ...هي تكبره بالكثير من الأعوام لهذا لن يتذكر أمها التي تركت عملها قطعاً بعدما كان ...

_أمهم اسمها إيه ؟!
يسأل إسلام الذي رد باستخفاف وهو ينفث دخان سيجارته :
_معرفش ...ومش عايز أعرف .
_مش عايز تعرف إخواتك ؟! سبت كل حاجة ورا ظهرك ومشيت ؟! ما سألتش نفسك عايشين فين وإزاي ؟! دول دمك ولحمك ومالهمش ذنب في اللي حصل !
هتف بها هيثم باستنكار ذاهل ليصمت إسلام للحظة مأخوذاً بمنطقه قبل أن يقول بضيق:
_ذنبهم في رقبة أبوهم مش رقبتي أنا ...وبعدين م اللي سمعته شكله بيبعتلهم فلوس ومراعيهم !

_مراعيهم ؟! بقوللك أختك قابلتها عامِلة على أدها في معمل تحاليل بتلف ع البيوت تاخد عينات ؟! تفتكر واحدة زي دي مستوى عيشتها إيه ؟!

هتف بها هيثم بانفعال وخز ضمير شقيقه ...
لكنه كالعادة يفضل الهرب ...
_ماتوجعش دماغي يا هيثم ...أنا مش ناقص ...لو قلبك واجعك روح دور عليهم وشوف ممكن تعمللهم إيه .
_هادور عليهم وهلاقيهم يا باشمهندس ...متأسفين ع
الإزعاج .

هتف بها هيثم بحدة قبل أن يغلق الاتصال ليعاود إسلام نفث دخان سيجارته بغضب وصل حد الاختناق ...
أفكاره تشتعل بعدة زوايا كلها حارقة ...
سيف ...غادة ...هيثم...والده...والدته...وأخي راً ...أختاه هاتان!!
هيثم محق لكن ...
ماله ومال ذنب أبيه ؟!!
هل سيصلح العالم ؟!!
هي حياته سيعيشها كيف شاء طولاً وعرضاً ...
فلتذهب همومه كلها للجحيم !!
وبهذا الخاطر الأخير نفث دخان سيجارته للمرة الأخيرة قبل أن يدهسها تماماً في مطفأة قريبة ليجري اتصاله "المنقذ" برفيقة السلوان والأنس ولم يكد يسمع صوتها المغوي حتى هتف بالتركية بلكنته البطيئة العابثة التي تفضلها :
_في المكان المعتاد ...من يصل أولاً يملي شروط الليلة...
ليشتعل جسده بعدها بضحكتها الرقيعة مدركاً أنها ستتركه عمداً يصل أولاً!
======







ظل يدور بالسيارة لساعات بعد مكالمته لإسلام ولا يدري ماذا يفعل ...
الحقيقة التي قُذفت في وجهه فجأة قلبت عالمه رأساً على عقب ...
حتى إسلام لم يمنحه الحل الذي يريده !!
كيف يهرب من هذه الحقيقة ؟!
كيف يواجه والده الذي يعتبره مثله الأعلى؟!
كيف يكسر قلب أمه بحقيقة كهذه ؟!
هل يستسلم للصمت السلبي كما فعل شقيقه ؟!

لا ...لن يتخاذل مثله ...
على الأقل سيذهب لذاك المعمل الذي تعمل فيه لجين هذه ليسألها عن المزيد ...
يجب أن يعرف الحقيقة كاملة !!

زفرة ساخطة أطلقها وهو يشعر بحاجته لمن يفضي إليه بهمومه ...
ومن سواها ؟!
شوشو!
أدار مقود السيارة ليتحرك نحو بيتها رغم علمه بتأخر الوقت ...
لكنه فقط يريد رؤيتها ولو من النافذة ...
تحدثه عبر الهاتف بينما يراها واقفة بنافذة غرفتها كما طلبت منه فعلها ذات مرة بزعم أن الوقفة هذه تذكرها ب"روميو وجولييت"!
روميو!
العجيب أنها كانت تدعوه روميو تماماً مثل داليا لكنها كانت تداعبه دوماً بقولها إنها هي "جولييت" خاصته !!

وصل قريباً من مكان سكنها فتناول هاتفه ليتصل بها لكنه وجده مغلقاً!
تباً !!!
كيف نسي أنها مؤخراً تغلقه دوماً ؟!
هل جعلته رؤيتها اليوم يغفل عن تباعدها اللا مسبب عنه ؟!

وصلته رسالة عبر هاتفه تخبره أن هاتفها قد فتح -لتوه- فتهللت أساريره ليعاود الاتصال بها لكنه عاد مغلقاً!!

تباً!
فليرحل من هنا إذن وليبتلع خيبته وحده !!
عاد يشغل السيارة ليبتعد لكنه لمحها تخرج من مدخل البيت ...
هي ؟!
هل يتخيل؟!
تتسع عيناه بانبهار مشوب بالاستنكار وهو يراها ترتدي ثوباً في غاية الأناقة ليس أبداً من طراز ملابسها -المتحفظ- الذي يعرفه ...
عاد يستقر بكرسيه الذي انكمش فيه وهو يراقب تقدمها ليجدها تتجه نحو سيارة سوداء قريبة معتمة النوافذ ...
لا ...لن يسيئ فهمها ...
ليست من هذا الطراز أبداً !!

حاول مد رأسه ليتبين السائق لكنه لم يرَ شيئاً عبر الزجاج المعتم ...

كاد يغادر السيارة ليتوجه نحوها ويسألها عماذا تفعله هنا لولا أن لمح رجلاً يخرج من مدخل بيتها حذراً لكنه عاد يختبئ عندما رأى السيارة السوداء لا تزال واقفة !!

ما الذي يحدث هنا ؟!!

تساؤله لم يدم طويلاً عندما تحركت السيارة السوداء لتغادر الحي بها أمام ناظريه ...
ليميز أخيراً أرقامها ...
والده !!!
إنها سيارة والده !!!
ما الذي تفعله شوشو في سيارة والده ؟!!
هل علم عن أمر لجين اليوم ؟! شوشو أخبرته ؟!
ولماذا تغادر معه في سيارته في هذا الوقت من الليل ؟!
وبهذا الثوب؟!!

هز رأسه بصدمة والجواب المنطقي الوحيد يكاد يزلزل روحه ...
شوشو ووالده ؟!
لهذا تغير حالها ورفضت علاقتها به بعد تدريبها معه في شركته ؟!
لهذا هجرته هو؟!!

أفكاره تنقطع عندما يلمح الرجل المريب يغادر مخبئه فور اطمئنانه لمغادرة السيارة ليتحرك قادماً في مواجهته ...
ملامحه تزداد وضوحاً مع اقترابه ...
هو يعرف هذا الرجل ...
أين رآه من قبل ؟!!

نعم ...هو !
زوج شقيقة داليا الذي رآه في حفل زفافه !!!
أشرف ...أجل ...هو يذكر الاسم جيداً!!
ما الذي يفعله هنا في بيت شوشو ؟!!
والأهم...
ما علاقة والده بهذا كله ؟!
========
من بعيد يراقبها رائد تجلس على كرسيها معصوبة العينين ...
لا يكاد يصدق أنه تجرأ أخيراً وفعلها !!!
ها هو ذا معها في بيتهما الذي صممه خصيصاً لأجلها...
مساحة شاسعة في أرض منعزلة لا تخشى فيها عيون لائمين أو شامتين ...
أسواره "تحميها"...لا "تسجنها"...
حديقته مزروعة ب"الفل" الذي تحبه ...
الغرفة أحادية النافذة استبدلها بما يشبه كوخاً كبيراً مستديراً بنوافذ عديدة واسعة ...
وكلها بلا قضبان !
تحيط بها حديقة واسعة أكبر من حديقة بيت "أبيها"...
أجل ...هو بيت "أبيها" وليس بيت "زين"!
يوماً ما سيجعلها تدخله مرفوعة الرأس تطالب بحقها فيه ليس طمعاً منه بل رغبةً في إحياء روحها هي بنيل ما سلبوه منها ...
أما بيتها الحقيقي فهو هنا ...
بناه من طابقين في الجوار كما حلمت هي به معه دوماً ...
صممه بهذا التصميم الذي رسماه معاً يوماً ...
لكن ينقصه فقط أن يجعلها تراه ...
دون أن يكون هو معها !!

شعر بالخادمة خلفه فالتفت نحوها صامتاً لترمقه بنظرة مشفقة طويلة ...
هذا العشق البائس في عينيه هو ما جعلها تحتمل هذه المخاطرة ...
منذ سمعت منه أنها زوجته وقلبها يخزها لأجل هذه المسكينة ولأجله معها ...
لهذا ما كاد يبلغها بخطته في الفرار حتى نفذتها معه مدركة أنه لن يستطيع فعلها وحده ...
همسة لا يجب أن تسمعه أو تراه ...
لكنها يجب أن "تشعر" به...
معضلة حقيقية لم تكن تفهمها في البداية لكنها الآن تدرك أنه هو علاجها !!
لهذا ابتسمت له ابتسامة مطمئنة فأشار لها بعينيه نحو البيت القريب قبل أن يبتعد هو مختفياً خلف إحدى
الأشجار يراقبهما من بعيد !


وفي مكانها كانت همسة تشعر بهالة حضوره ...
عبر عينيها المعصوبتين تشم رائحة عطره ...
تشعر أنها غادرت مكاناً ورحلت لآخر لكنها لا تهتم ...
يكفيها أنه هو معها !!

رائحته تتباعد ...هل سيرحل؟!!
تشعر بالعصابة تُرفع عن عينيها اللتين أغشاهما ضوء الشمس للحظات ...
الشمس !
كم تحبها!!
عيناها تتسعان بمزيج من دهشة وانبهار وهي تميز روعة المكان حولها ...
النوافذ المزينة بالزهور بدلاً من القضبان ...
الستائر المشرقة بألوان الطيف ...
دهان الجدران الأبيض الناصع الذي تعشقه ...
ترفع عينيها لأعلى ...
لا سقف!
بل فتحة عالية جداً مستديرة باتساع عظيم يجعلها ترى السماء بسحبها البيضاء ...
تضحك ضحكة قصيرة وهي ترمق الخادمة بنظرة سعادة حقيقية ...
قبل أن تعدو لتخرج من "الكوخ"...
لا أبواب مغلقة !!
ضحكاتها تعلو أكثر فيخفق قلب هذا "المختبئ" هناك وعيناه تمتلئان بالدموع ...
آه لو كان بإمكانه الآن أن يجعلها تراه ...
أن يحملها ويعدو بها هو على العشب قبل أن يطارحها الغرام فوقه ...
أن يجعلها تسمعه...
يحكي لها كم ليلة سهرها وهو يرسم هذا "الكوخ" في أوراقه ...
لا يدع صغيرة أو كبيرة يعلم أنها تحبها فيه إلا ووضعها !!
لكنه يعلم أن هذا مستحيل ...
الآن على الأقل!

لهذا ابتلع غصة حلقه وهو يراها تتقافز وتضحك ...وتعدو ...
تعدو حتى تعبت فسقطت أرضاً لتمرغ جسدها في العشب كأنها تستمتع برائحته ...
قبل أن تستلقي على ظهرها تماماً فاردة ذراعيها بطولهما جوارها ،رافعة وجهها للسماء ...
منامتها الوردية تلقي ظلالها على وجهها فيزداد بهاؤه...
شعرها الأسود الطويل يفترش الأرض حولها كشمس أخرى صغيرة ...
قدماها الحافيتان بعدما ألقت عنهما خفيهما تحرك أصابعها بتلذذ فلا تدري كم تعبث بروحه هو حركة بسيطة كهذه !
لو أقسم الآن أن عمره كله لا يساوي لحظة سعادة كهذه التي يشعر بها على محياها لما كذب!

_بصي يمين يا همسة...شوفي البيت ...عايزك تجري عليه ...ادخلي ..ادخلي وشوفيه ...افرحي بيه ...
افرحي يا همسة ...افرحي .

يهمس بها بخفوت ودّ لو يصرخ به وكأنها ستسمعه !
لكنها -للعجب- سمعته !
سمعته بقلبها دون أذنيها ليراها مكانه تلتفت نحو البيت القريب ...
يرتجف قلبه بخفقاته وهو يراها تنتفض بفرحة لتعدو نحو مبناه القريب المطلي بمزيج "الأبيض" و "السماويّ" الذي تحبه ...
يرى الخادمة تتبعها فيتحرك مكانه وكأنه ما عاد قادراً على احتمال المزيد من الاختباء ...
لكنه يغرس قدميه في الأرض غرساً ...
لا ...ليس الآن ...
كفاك أذى لها ...كفاك !
لهذا يعاود التخفي خلف شجرته منتظراً عودتها لعله يقرأ في وجهها ما عجز عن رؤيته بعينيه ...

أما هي فلم تكد تدخل البيت حتى تجمدت مكانها ...
إنه هو ...بيتها ...
بل بيتهما!
تماماً كما رسمته في الأوراق معه ...
الطابق الأول ...
مائدة السفرة و"انتريه" بسيط ...
لا لون "ذهبي" على الإطلاق!
تكره الإطلالة الكلاسيكية في الأثاث!!
تتقدم لتتحسس الكراسي الأنيقة بلونها الفضي الفاتح ...المائدة التي حملت طبقاً فضياً للفاكهة ...
مع مزهرية ل"الفل"!
عيناها تدمعان وهي تتذكر كيف رسمتهما له ...
هكذا ...بالضبط !!

تضحك وسط لمعة دموعها وهي تنظر للخادمة نظرة دهشة فرحة لكنها عاجزة ...
فتردها لها بفيض من الدموع أغرق وجهها رغماً عنها وهي عاجزة عن الشرح !
لكنها -همسة- تلتفت نحو المطبخ القريب الذي دخلته بخطوات راكضة لتتوقف وسطه بانبهار ...
لا تكدس ...لا زحام ...
أدوات بسيطة أنيقة ...
مائدة صغيرة مربعة في المنتصف عليها سلة من البيض الملون قد رسمت عليه كله وجوهٌ تضحك ...
ونافذة !
نافذة واسعة كبيرة تحتل نصف جدار وحدها و تدخل منها خيوط الشمس من الخارج ...
رباه !!
كما رسمته ...كما حلمت به ...بالضبط!

عيناها تدمعان من جديد لتخرج منه عدواً تصعد الدرج نحو الطابق العلوي تفتح الغرف واحدة تلو الأخرى بأنامل مرتجفة وعيناها تقرآن تفاصيل حلمها قطعة قطعة...
غرفة الأطفال بلون الفستق المحايد بين الذكورة
والأنوثة ...
غرفة النوم بلونها الوردي ...
غرفة أخرى خالية تماماً تفترشها فقط سجادة صلاة وحامل مصحف!
وأخيراً حمام كبير بلون سماوي له حوض استحمام دائري تحيطه نافذة زجاجية تتيح إغلاقه ...
هذا الذي أغلقته الآن لترمق الخادمة بنظرة مشتتة ...
قبل أن تتلفت حولها كأنها تبحث عنه !

_عايزة حاجة يا حبيبتي؟!
تسألها المرأة بحنان مغالبة دموع تأثرها بهذه الفرحة الصادقة التي تراها في عينيها ...
لتنفرج شفتا همسة ببطء وكأنها ستتكلم ...

_قولي يا حبيبتي ...قولي عايزة إيه !

تهتف بها الخادمة بأمل محاولة استنطاقها لكنها تعاود إطباق شفتيها المرتجفتين وهي تتلفت حولها بحثاً عنه ...
أو -بالأدق- عن طيف عاشق تشعر به لكنها لم تعد تميز له
ملامح ولا صوتاً !
هو هنا ...رائحته تملأ المكان حولها ...تغرقها بهذه السكينة التي تفتقدها ...
لكن ...أين ؟! أين ؟!!

تطرق برأسها يأساً وهي تتحرك لتغادر الطابق نحو الدرج الذي هبطته لتلقي نظرة أخرى على المكان قبل أن تغادره نحو الحديقة ...

قلبه يعاود ارتجافه وهو يراها قد عادت بوجه بائس مطرق...
ماذا ؟!
ألم يعجبها البيت ؟!!
لا!
ليس بعد كل هذا الجهد !!

يشير بيده خفية للخادمة التي فهمت مراده فعادت بها نحو "الكوخ" حيث جلست هي على كرسيها تراقب الحديقة بشرود عبر النافذة ...
قبل أن تشعر بها تخرج لتتركها وحدها ...لكن ليس طويلاً !

فلم يكد هو يسمع بردة فعلها بعد دخول البيت حتى أمر الخادمة أن تعاود عصب عينيها ...
هو يحتاج أن يراها عن قرب !
سيموت قهراً لو لم يفعل!!

يقترب منها بخطوات وجلة ليجلس على ركبتيه أمامها ...
يطبق شفتيه بقوة مذكراً نفسه كي لا يضعف ...
لكنه يتناول كفيها ليرفعهما نحو وجنتيه ...

_أنا هنا يا حبيبتي ...جنبك ...قدامك...حواليكي ...أنا عارف إنك حاسة بيا ...بس لسه مش مسامحة...أعمل إيه بس عشان ترجعيلي؟! خدي عمري كله بس اديني ساعة واحدة نرجع فيها زي زمان ...ساعة واحدة !

تصرخ بها روحه -دون صوت- ليشعر بأناملها تتحسس
ملامحه كأنها تتعرف عليه ...
دموعها تسقط كخيط رفيع خلف العصابة فيمسحها بأنامله صامتاً قبل أن يجدها فجأة تحرر كفيها منه لتحاول رفع العصابة عن عينيها !!!

_لأ...أرجوكِ...لأ.
يهتف بها بصوت مسموع رغماً عنه وهو يقبض على كفيها بكفيه يمنعها ...
قبل أن يضع كفه على شفتيه بندم متوقعاً ردة فعلها برعب...
لكنها لم تفعل شيئاً!
أزاح كفه عن شفتيه اللتين انفرجتا بدهشة وهو يراقب سكون ملامحها ...
لم تتأثر ككل مرة عندما سماع صوته !!
أم تراه هو يتوهم ؟!!

عيناه تدمعان من فرط انفعاله ليجدها تضع كفيها في جيبي منامتها قبل أن تستخرج منهما ما جعله يفهم قليلاً ...
"الدبوسان المعدنيان"!!
رباه !
ياقوت كانت على حق عندما طلبت منه أن يبقيهما معها!!

غص حلقه بهدير انفعاله وهو يراها تمد أناملها تبحث عن كفيه اللذين مدهما هو نحوها ليجدها تغلقهما بقوة على "الدبوسين" قبل أن تحتضنهما بأناملها بقوة ...

_رائد!

هل همست بها حقاً؟!!
هل سمعها تناديه من جديد ؟!!
خيط من الدموع يسيل على وجنته هو هذه المرة وهو يسمعها تهمس باسمه من جديد ليفقد كامل سيطرته وهو يجذبها بين ذراعيه ...
يحتضن رأسها بذراعيه وكأنها أثمن كنوزه !
لا لم يكن عناقاً!
بل كان يرد لروحه "بعض روحه"!
كان يعيد لقلبه "جزءاً من قلبه"...
بل كان يستعيد نفسه ليمنحها لها من جديد في عقد لا تنتهي صلاحيته ...
هي له وهو لها ...حتى آخر رمق!!

يمسد شعرها بأنامله وهو يشعر بأنفاسها اللاهثة تردد اسمه بلا انقطاع ...
كظمآن أفطر بعد طول عطش ...
متى يرتوي؟!!

نداءاتها تعذبه بتضرعها ...وبعجزه !
يريد أن يسكب في أذنيها كل الكلام الذي ادخره لها طوال هذه السنوات ...
لكن ...
ماذا لو ؟!!

_رائد!
نداؤها الأخير حسم الأمر وهي تبسط معه كفها على صدره الذي انتفض خافقه بلمستها ...
لم يعد يستطع ...
يعتصرها بين ضلوعه وهو يهمس باسمها في أذنيها برهبة ...
ولم يكد يطمئن لسكونها حتى انفلتت منه آهة قوية جعلته يشدد ضغط ذراعيه حولها دون وعي ...
قبل أن يهطل سيل البوح فيغرقهما معاً:
_انتِ سامعاني بجد واللا أنا بحلم ؟! سامعاني يا همسة ؟! قابلة صوتي مش كارهاه ؟! قولي أيوة ...قولي ...


تهمس له بما أراد وهي تشعر أن "الطيف العاشق" لا يزال
بلا ملامح لكنها تسمع صوته ...
صوته الذي تميزه ...وتعشقه !

يهز رأسه بعدم تصديق وهو يبتعد بوجهه يتأمل ملامحها عبر العصابة بشغف ...
قبل أن يعاود إخفاء وجهه في عنقها هامساً بألم:
_أقوللك إيه ؟! راح فين الكلام ؟! أقوللك آسف؟! سامحيني؟! أقوللك لسه بحبك ...كل يوم بحبك أكتر ...بتوحشيني أكتر ؟! أقوللك السنين اللي فاتت عدت عليا إزاي ؟! أحكيلك تفاصيل الوجع يوم بيوم ؟! واللا أحكيلك عن فرحتي دلوقت وانتِ في حضني؟! بتكلم وبتسمعيني؟! عن لهفتي أشوف عينيكي وهي بتجري على بيتنا ؟! حلمنا ؟! حققته يا همسة ...زي ما رسمتيه بالضبط ...بس اتحرمت أشوف أول فرحتك بيه زي ما حرمتك زمان فرحتنا ...لسه ما كفرتش عن ذنبي ؟! لسه محتاجة تعذبيني وتلوميني؟! وفيت الدين يا همسة...والله وفيته وزيادة !

تشعر بدمعه يلامس رقبتها وجيدها فتحترق به وله ...
لا تفهم عما يتحدث لكنها تشعر بحرارة مشاعره ...
عمّ يعتذر؟!
هل يخطئ قلب أحب بهذا الصدق؟!!

ودون وعي وجدت نفسها تهمس بها كأنها تنطقها منذ أعوام ...
كأنها ولدت تقولها :
_بحبك!

همسها يقصف قلبه ليشهق بانفعال وهو يبتعد بوجهه لا يكاد يصدق ...
قبل أن تنكب شفتاه على وجهها تغرقانه باعترافه هو
الآخر ...
سيموت ...سيموت الآن من فرط جنون خفقاته !!
لكن ...ليرَ عينيها أولاً...
مادامت تقبلت صوته فلماذا لا ...؟!!


لم يفكر للحظة وهو يمد أنامله يزيح عصابة عينيها ...
عيناه تحطان كطير ملهوف على عينين اشتاقهما كالجنة !!!
لكن الصرخة الهائلة التي أطلقتها عادت تقذفهما معاً في الجحيم !!
=========













_منتظراكم!
قالتها ياقوت بنبرتها المهنية وهي تجلس في غرفتها
بالمركز مخاطبة يامن الذي كان يخبرها عن رغبة ياسمين في الحضور ...
ورغم شعورها بالتحفز من هذه المقابلة بعدما استجد من أمرها مع زين لكن مهنيتها كانت لها الكلمة العليا ...
ولم تكد تغلق الاتصال حتى رن هاتفها برقم غريب لترد...

_ياقوت ...الحقي همسة !
صوت رائد الجزع يصلها فتهتف به بحدة دون وعي:
_هو الجنان في عيلتكم وراثة ؟! إيه اللي انت هببته ده ؟!
صمت لحظة قبل أن يخبرها عما حدث لينهي حديثه بقوله الملهوف:
_أنا اديتها الحقنة اللي طلبتيها مني المرة اللي فاتت ...هديت ونامت .

زفرت بسخط وهي تحاول استعادة صفاء ذهنها لتصمت قليلاً قبل أن تسأله :
_انت خطفتها ليه بالطريقة دي؟!
تنهيدته الحارقة وصلتها عبر الهاتف ليحكي لها ما كان بينه وبين زين بشأنها وشأن همسة ...
وكيف اضطر للكذب لحمايتها هي ...

_كتر خيرك والله ...كويس إنك مش قدامي دلوقت !
هتفت بها موبخة بحدة ليرد بحدة مشابهة :
_انتِ متعرفيش زين زيي ...الحاجة الوحيدة اللي كان ممكن تخلليه يشيلك من دماغه إنه يعرف إنك تخصيني .
_وأهه ما شالنيش!
هتفت بها بانفعال متسرع ليصمت هو قليلاً قبل أن يسألها بحذر:
_هو عمل إيه بالضبط ؟!
صمتت بتردد وهي لا تدري صواب أن تخبره بالحقيقة ليستحثها بقوله :
_زين شاف شعرك واتأكد إني كنت كذاب ...إزاي؟!
_اتجوزنا.
قالتها داحضة أي شبهة في خلقها رغم أنها كرهت نطقها كما لم تكره شيئاً في حياتها ...

صمته الطويل بعدها كان جوابه قبل أن يغمغم بذكاء لا ينقصه :
_ضغط عليكي بحاجة وانتِ اشترطتِ عقد رسمي ...صح؟!
كان دورها لتصمت قليلاً تفكر قبل أن ترد باقتضاب:
_أختي مريضة بداء السرقة ...مرض نفسي ...هو معاه فيديوهات وهددني ببلاغ رسمي .
_ومادام مريضة خايفة من إيه ؟!
سألها باهتمام لتزفر هاتفة بسخط :
_وقتها ما كنتش أعرف لسه الحقيقة...ودلوقت خايفة م الفضايح والشوشرة ...انت أكتر واحد عارف مجتمعنا بيبص للمرض النفسي إزاي .

صمت مشفقاً ليرد بعد فترة :
_أول مااطمن على همسة هنا هاحلهالك ماتقلقيش .
لكنها ردت بعنفوان ردها لحدود مهنيتها:



_ماتشغلش انت بالك ...أنا هاعرف أخلص نفسي ...المهم دلوقت همسة ...الخطوة دي رغم غبائها بس جت في مصلحتها ...فاكر كلامي على إننا نوفق بين العالمين ونقربهم من بعض ؟! احنا بننجح ...همسة بقت هي اللي عايزة تشيل الرباط من على عينيها ...عايزة تتأكد إن انت هو نفس الشخص اللي كانت بتحبه ...لما حطت الدبوسين في إيديك وقفلتهم كانت بتطمن إنك هو نفس الشخص ...يمكن ده اللي حمسها تنطق اسمك خصوصاً بعد ما شافت البيت اللي عملته زي ما حلمتم ...ويمكن كمان ده اللي خلاها تتقبل تسمع صوتك ...بس لسه الشفا مش كامل ...لسه صورتك بتردها للحادثة القديمة ...نصبر شوية ...يمكن في يوم نوصل إنها تتقبل تشوفك زي ما بتسمعك .

تنهد بإرهاق وهو يستمع إليها ليرد برجاء:
_مش هاقدر أعمل حاجة لوحدي ...أرجوكِ تساعديني هنا ...أنا عارف المكان بعيد بس ...

_هاجي طبعاً ...ابعتلي العنوان !
قالتها آمرة ليتنهد بارتياح وهو يمليها ما طلبته قبل أن يقول بتردد :
_هاقوللك حاجة مش عارف هتفرق معاكي واللا لأ...
قطع عبارته بحذر لتهتف هي بانفعال معذورة فيه :
_قول!
_السبب الوحيد اللي يخللي زين يعمل معاكي كده إني حسبتها غلط...انتِ عنده مش مجرد واحدة كان عايز يجيب آخرها ...زين عمره ما كان هيورط نفسه في جواز رسمي عشان نزوة ولا حتى ليلة واحدة ...خصوصاً وهو لسه عنده أمل يرجع لياسمين .

صمتت لحظات تحاول منع عقلها من استيعاب ما يقوله ويصدقه قلبها ...
ليردف هو أخيراً بما أغلق به اتصاله :
_زين بيحبك ...حتى لو هو نفسه مش عارف.

ألقت الهاتف من يدها بعنف لتعود بمقعدها للخلف في حركة عنيفة كادت تسقطها ...
يحبها ؟!!
يحبها؟!!
بئس هذا الحب!!!
صدقت ثمر عندما قالت أن من مثله لا ينظرون لمن مثلهم إلا نظرة واحدة فقط !!
لكن ...لا بأس !

_محدش بيتعلم ببلاش!

قالتها لنفسها معزية قبل أن تتفقد أناملها الموضع الخالي لورقة "العشر جنيهات" !
أخذها !
كما أخذ من "روحها" قطعة لا تظنها ستستردها أبداً بعده !!

دمعت عيناها وهي تستعيد ذكريات تلك الليلة الموحشة لكن طرقات الباب أنقذتها لتتحفز في جلستها وهي تراها تدخل وحدها ...
ياسمين!
==========


وقفت مكانها لتتأمل كلتاهما الأخرى بتفحص ...
ياسمين بزيها الأنيق الذي لم يقلل بروز بطنها من بهائه ...ولا سواد لونه من طغيان فتنتها الرقيقة...
جميلة بما يليق لتخطف قلب رجل مثل يامن ...وعقل رجل مثل زين !

هكذا حدثت ياقوت نفسها بغيرة لم تملكها وحظيت ياسمين -للعجب- بمثلها!!
ياسمين التي تعجبت ذوقها المتدني في ملابسها كما قال يامن ...
لكنها لم تغفل عن فتنة طبيعية تختبئ خلف هذا الإهمال!
فتنة تدعو الله ألا يكون يامن قد انتبه لها مثلها !!
هل هذه هي المرأة التي غيّرته ؟!
فعلت مالم تتمكن هي من فعله !!

_البقاء لله .
قطعت بها ياقوت هذا الصمت المشحون وهي تمد لياسمين يدها مصافحة فابتسمت ياسمين ابتسامة شاحبة وهي تجلس على الكرسي أمام مكتبها لترد بعفوية قبل أن تشبك كفيها لتقول بارتباك:
_أنا طلبت من يامن أقابلك لوحدنا النهارده ...عشان ...

_عشان غيرانة !
قالتها ياقوت مقاطعة لتلتفت نحوها ياسمين بغضب جعل الأولى تبتسم باستطرادها:
_دي أول حاجة جت في بالي لما يامن قاللي إنك عايزة تقابليني ...انتِ مهووسة بيامن من سنين ...أقل شعور ممكن تحسيه بعد اللي حصل هو إنك تغيري من ست دخلت حياته تحت أي مسمى وقدرت تغيّره بالشكل ده ...قلتِ تيجي تشوفيها بنفسك.

التمعت عينا ياسمين وهي تشهد لها في نفسها بالذكاء لكنها قالت ببرود مصطنع:
_هافترض إن معاكي حق ...تفتكري عندي حق في إحساسي واللا لأ؟!

اتسعت ابتسامة ياقوت لتلتمع "العينان الطيبتان" بقوة تأثيرهما مع جوابها:

_احسبيها صح ...يامن مااتغيرش بسببي ...يامن اتغير بسببك انتِ...عشانك انتِ...كل يوم عاشه بعد ما سبتيه كان بيعيشه عشان يرجع لك ...انتِ كنتِ علاج يامن ...أنا بس دوري كان إني عرّفته ده !

تغيرت ملامح ياسمين الباردة لأخرى منفعلة وهي ترمقها بنظرة طويلة قبل أن تتنهد بحرقة لتهتف :
_مش قادرة أصدق ...مش قادرة أرجع معاه زي
الأول ...عارفة إنه اتغير وأشهد بكده بس غصب عني ...مش مسامحة في اللي فات وخايفة...خايفة ما أسامحوش زي بابا الله يرحمه ...الموضوع مش سهل ...أنا فعلاً حاسة إني بحلم ...ماشية بالقصور الذاتي ...لا دي ياسمين اللي أعرفها ولا ده يامن اللي عارفاه ...

هزت ياقوت رأسها بتفهم لتقترب بجذعها من سطح المكتب قائلة :
_شعور طبيعي جداً ...محدش يقدر يلومك عليه ...هتفضلي فترة متحفزة لأي تصرف بيعمله...لأي نظرة ...لأي موقف ممكن يفهمه غلط ...هتفضلي خايفة تآمني تاني فتتجرحي تاني ...بس العلاج هو الوقت ...الأيام هي اللي هترجع تقرب بينكم .

_هو يامن اتعالج فعلاً ؟!
سألتها ياسمين بمزيج من تشكك ورجاء لترد ياقوت بنبرة عملية :
_أنا شايفاه بقى أقرب جداً للطبيعي ...بس الاختبار الحقيقي دايماً بيبقى المواقف .
_يعني لسه ممكن ؟!
_لا ...مااعتقدش إنه هيخاطر إنه يخسرك تاني ...هو حالياً عنده القوة إنه يهزم وساوسه ...بس عايزة الحق؟! أنا خايفة منك انت !
_أنا؟!
قالتها ياسمين بدهشة لترد ياقوت وهي تعود بظهرها للخلف :
_صدمة وفاة والدك هزت معتقداتك شوية ...خلتك تنزلي من برج عالي اسمه ياسمين مابتغلطش وما بتسامحش اللي يغلط ...لكن لسه محتاجة تقفي مع نفسك أكتر ...تعترفي بعيوبها ...غلطها ...وتتقبلي فكرة إن غيرك كمان ممكن يغلط وتسامحيه زي ماانت عايزة تسامحي نفسك ...

عقدت ياسمين حاجبيها بقوة لتطرق ياقوت الحديد ساخناً:
_فكرتي مثلاً وإنتِ بتلومي يامن على إنه اتخلى عنك تلومي نفسك إنك كذبتي ...إنك أصلاً ضعفتِ قدام ...زين ...ده ؟!!

تحشرج صوتها رغماً عنها عندما أتت على ذكر زين لكن ياسمين كانت غافلة عن هذا بشرودها فيما تحكيه لتدفن وجهها بين كفيها مع اعترافها :
_كنت خايفة أقولها ...كنت خايفة أعترف إني في لحظة ضعف نسيت أنا مين ...كنت بصبر نفسي إني فقت في الوقت المناسب وضربته وهربت ...لأن ..لأن ...
عجزت عن إكمال اعترافها لكن ياقوت التقطت منها ماتريد سماعه لتكمله بما يليق:

_لأن ياسمين نفسها ما بتسامحش في الغلط ...يبقى إزاي هي تغلط ؟! هي مثالية بتدي من غير حدود ...نجمة
عالية في السما كل الايدين بتشاور عليها ...ودي كانت المشكلة ...لو كنتِ اعترفتي بالغلط كنتِ سامحتي نفسك وسامحتي غيرك ...بس انتِ قعدتِ طول الوقت تكابري وتقسي ...والصدمة اللي جت بوفاة والدك الله يرحمه هي اللي شالت الغشاوة من على عينيكي .

رفعت إليها ياسمين وجهاً دامعاً لتردف بأسى:
_مات وهو غضبان عليا...مات بعدما أمله خاب فيّ....بعد العمر اللي عشته اثبت له فيه نجاحي...أوريله النجمة اللي بقيتها من غيره ...ينتهي بينا الحال وهو شايفني مكسورة قدامه كده ؟!

لكن ياقوت هزت رأسها لتقول بيقين حقيقي:
_هو مكانش يفرق معاه تبقي نجمة...كان يفرق معاه تبقي بنته وبس ...بنته بكل عيوبها وميزاتها ...بكل مشاعرها الحقيقية اللي مش بتمثلها ...بنته اللي هتكمل حياتها بعده عشان تثبت له إنها نجحت ...مش تحدي واللا عِند ...لا...حب!

لم تملك ياسمين سيل دموعها الذي أغرق وجهها بعدها والذي تفهمته ياقوت للحظات ...
قبل أن تمسح الأولى دموعها لتسألها باهتمام:
_عايزة أكلم زين بس خايفة يامن يفهمني غلط ويرجع لشكوكه...أنهي معاه الموضوع إزاي؟!

تجمدت ملامح ياقوت للحظات أجادت فيها إخفاء شعورها بينما ياسمين تردف شارحة :
_زين مش هيهدا إلا لو عرف اللي حصل ...هيفضل فاكر إني رجعت ليامن غصب وعايز يساعدني أسيبه ...هو معذور ... ميعرفش عن يامن غير اللي أنا قلتهوله عنه .

_كلميني عن زين ...بصراحة...متخافيش الكلام مش هيوصل ليامن .
قالتها ياقوت متعللة بمهنيتها لكنها حقيقة كانت تريد أن تعرف الوجه الآخر لذاك الرجل الذي يختفي خلف عوالم غموضه :

_زين شخص كويس جداً ...ذكي ...مثقف ...قوي ...حمائي قوي للناس اللي يخصوه ...مش هانكر إنه ساعدني في أصعب أوقات حياتي سواء في علاقتي مع رامي أو بعد طلاقي من يامن ...حتى الليلة إياها اللي اتصور فيها الفيديو أنا اللي رحتله برجلي ...ومع ذلك هو اعترف ليامن بالحقيقة اللي تبرأني ...جابلي حقي من رامي ...مش عارفة أقوللك إيه عنه بس هو فعلاً ...

_طيب؟!
قاطعت بها ياقوت عبارتها باستهزاء ساخر لم تملكه ...لتهز ياسمين رأسها نفياً بقولها :
_لا!..ماقدرش أوصفه إنه طيب ...يامن طيب ...لكن زين ....زين حنين بس مش طيب...مش عارفة أشرح لك إزاي ....دايماً كنت بحس إن فيه نقطة سودة جواه مش قادر يتخطاها أو يسيطر عليها ...
ثم ارتبكت لهجتها أكثر لتردف:
_تعرفي مثلاً ...رغم كل المرات اللي اعترفلي فيها إنه بيحبني بس عمري ما حسيت إنه يقصدها ...مش قصدي إنه بيخدعني أو بيكذب عليا ...بس هو نفسه مايعرفش يعني إيه حب ...حب زي اللي بيني وبين يامن مثلاً ...

_ممكن توضحي أكتر؟!
قالتها ياقوت باهتمام لترد ياسمين موضحة :
_زين كان ممشيها معايا بالمسطرة ...تصرفات جنتلمان حقيقي بس من غير روح ...قطر ماشي على قضبان ماتحودش ...أفتكر واحد زي زين يوم ما يحب بجد هيتجنن...هيخرج بره قفص التخطيط وحسابات العقل والمنطق ...
_وحسيتي بده إزاي؟!
_ماكانش بيغير عليّ...مثلاً اليوم اللي يامن جالي فيه ماليزيا واتخانقوا هناك في بيت بابا الله يرحمه ...يومها عيون يامن كانت كلها غيرة ...كنت حاسة إنه عايز ياخدني في حضنه ويخبيني من الدنيا كلها واللي يحصل يحصل ...لكن عيون زين كانت بتفكر وبتحسبها بالعقل زي كل مرة ...ماانكرش إنه وقتها عمل اللي كنت محتاجاه منه بالضبط لما بعد وسابنا لوحدنا ...بس الحب الحقيقي مابيعترفش بحسابات ...حتى لما طلبت منه ماعدناش نتكلم عشان يامن ردني ما ناقشنيش ...زين بيحترمني ...بيحترم تفكيري ...ويمكن شايفني زوجة كويسة ...لكن فيه حاجة جواه مانعاه يحب بجد !

_حاجة زي إيه ؟!
سألتها ياقوت التي استحوذ الحديث على عقلها لترد ياسمين بحيرة :
_يمكن حاجة تخص والدته الله يرحمها ...حاجة تخص همسة ...يمكن شايف إن القلب حساباته دايماً خسرانة فبيحكم عقله ...
ثم ابتسمت ابتسامة واهنة لتردف:
_يعني ...يشبه يامن القديم شوية في الحتة دي ...بس الفرق إن مفتاح قلب زين ماكانش معايا أنا .

شردت ياقوت ببصرها وكلام ياسمين يفتح لها نافذة عريضة من أمل ...
مفتاح قلب زين !!
تراه يكون معها هي؟!!
لكن ذكرى تلك الليلة تعاود صفعها بقسوة !!

_لما أحب أتجوز أتجوز واحدة زي ياسمين ...اللي زيك أصطادها وبس!

يرتعش جسدها فجأة وأحداث الليلة إياها تتوالى تباعاً في رأسها ...
مالك ومفتاح قلبه يا غافلة ؟!!
ستعودين لضلالك القديم ؟!!

_ماقلتليش أعمل إيه ؟!
انتزعتها بها ياسمين من شرودها لتتنحنح ياقوت بقولها الذي عاد إليه قناع مهنيتها :
_زين ذكي ...ومادام بيحترمك زي ما بتقولي مش هيحاول يخرب حياتك إلا بإذن منك...أعتقد هو هيكتفي إنه يراقبك من بعيد ...لو حس إنك فعلاً سعيدة ممكن يتقبل الخسارة...أما بقى لو ماتقبلهاش وحاول يتدخل ...نصيحتي ماتخسريش ثقة يامن تاني ...خلليه دايماً في الصورة بمنتهى الصراحة ...
ظهر التشكك على وجه ياسمين لكن ابتسامة ياقوت الطيبة حسمت الأمر بقولها:
_ماتخافيش...يامن دلوقت بيثق فيكي أكتر من نفسه...والدليل إنه ماصدقش السكرين المتصور اللي بعتيه !

فابتسمت ياسمين بارتياح أخيراً قائلة :
_يامن كان معاه حق ...انتِ فعلاً شخصية مميزة ...شكراً !
قالتها لتقوم واقفة وتبدأها هي بالمصافحة هذه المرة لتبتسم ياقوت وهي تقف بدورها قبل أن تصحبها نحو الباب الذي كان يامن يقف أمامه ليشرق وجهه عندما رأى ابتسامة ياسمين التي بادرها باحتضان ذراعه لكتفيها في حركة حمائية جعلت ياقوت تبتسم بقولها :
_عندي اقتراح كويس هيساعدكم انتو الاتنين ...
التفت كلاهما نحوها لتعدل وضع نظارتها باستطرادها:
_مشوار للنادي القديم !

ابتسم يامن باستحسان فيما ارتجفت شفتا ياسمين ببعض التردد لكنها حسمته وهي تهز رأسها موافقة قبل أن تغادر معه نحو المركز تلاحقهما نظرات ياقوت الشاردة ...

_كان مالك ومال ده كله ؟! لو الحكاية مشت مظبوط كان زمانك دلوقت بتحتفلي بنجاح علاج حالة تانية عندك ...إيه اللي شبكك وسط الخيوط دي كلها ؟!

تتنهد بحرارة عند الخاطر الأخير لتعود لغرفتها مغلقة بابها خلفها ...
قبل أن تسمع صوت رنين هاتفها ...

_لجين؟! بتعيطي ليه ؟!
هتفت بها بارتياع وهي تسمع صوت بكاء شقيقتها التي حكت لها عما كان بينها وبين هيثم ...
شحبت ملامح ياقوت للحظات وهي تشعر بالرعب مثل شقيقتها لكنها عادت تتماسك لترد بلا مبالاة مصطنعة :
_واحنا مالنا؟! احنا لا جرينا ورا حد ولا كشفنا حقيقة بنستعر منها أصلاً...يتصرف هو وابنه ...مالناش فيه !
_خايفة يبهدلنا ويفضحنا !
هتفت بها لجين وسط بكائها لترد ياقوت بحنان حازم:
_بطلي خيابة ...وماعدتيش تعيطي ...اتغديتي؟!
أجابتها لجين بالنفي لتقول لها بنفس النبرة :
_طب اجهزي عشان هافكّ الكيس وأعزمك ع الغدا النهارده ...كباب وكفتة ماشي؟!
_كباب وكفتة ؟! انتِ في وعيك يا ياقوت؟!
هتفت بها لجين باستنكار قلق لتغتصب ياقوت ضحكة قصيرة وسط كل هذا البؤس قائلة ببساطة :
_بس ما تطمعيش قوي ...هو ربع واحد لنا احنا الاتنين !
_كده اطمنت عليكي .

قالتها لجين وهي تمسح دموعها وقد نجحت ياقوت في تبديد بعض كآبة الأحداث السابقة ...
ياقوت التي صمتت للحظة قبل أن تقول لها بجدية هذه المرة :
_هنروح سوا مشوار بعد الغدا ...الدكتورة زميلتي اللي قلتلك عليها .

كانت قد أخبرتها برغبتها في أن يتولى علاجها شخص آخر سواها فالقاعدة الذهبية التي تعلمتها في عملها أننا أكثر جرأة في الاعتراف بخبايانا أمام الغرباء ...
هذا الذي تقبلته لجين ببعض التجهم الذي امتزج بامتنانها لتعاود سؤالها بقلق:
_والبلاغات اللي قلتي عليها؟!
ردها سؤالها لما ينتظرها من معارك مع زين هذا لتصمت للحظات قبل أن ترد باقتضاب:
_ماتشيليش هم ...ربك يدبرها!
========


_هذا هو عابد الذي حدثتك عنه يا شيخنا !
يقولها الصالح وهو يحيط كتفي صديقه باحتواء بينما يدفعه بين يدي الشيخ في حلقته بالمسجد ...
ليرد الشيخ بوجه بشوش :
_أهلاً بك...نعم الاسم والمسمى به!
ابتسم عابد ببعض الخجل وهو يرى تطلع الوجوه نحوه ...
منذ عودته لماليزيا وهو يشعر برهاب التجمع ...
يظن الناس كلهم يلاحقونه بنظرات إما متهمة وإما ساخرة ...
ربما لهذا أصر الصالح أن يخرجه من عزلته إلى حلقة الشيخ الجليل هذا ...

_اجلس يا عابد ...واسأل ما بدا لك .
يقولها الشيخ وهو يفسح له مكاناً جواره ليجلس هو والصالح الذي ابتدر الشيخ بسؤاله :
_ما الفارق بين الجهاد والإرهاب يا شيخنا ؟!
_الفارق كبير ...الإرهاب جرم يتقصد الأبرياء لكن الجهاد فريضة ضد أعداء الله .
_ولمن نستمع في التفريق بينهما ؟!
يسأله عابد بضيق وذكريات الأيام السابقة تعاود قصف رأسه ليرد الشيخ بتفهم :
_لن أشرح المزيد ...اقرأ يا بني في فقه الجهاد ...اطلب العلم واستفتِ قلبك...لا تجعل مرجعك شيخاً ولا معلماً فكلٌ يؤخذ منه ويرد إلا رسول الله ...نحن فقط نشرح ما التبس من المسائل ...ندلكم على الطريق ...نوضح الخلاف في بعض الأمور ...وقد نتجرأ يوماً للفتوى ما دمنا نملك العلم في المسألة ...لكن العالم حين يتلبسه غروره فيقول كما قال فرعون "ما أريكم إلا ما أرى" فقد ضل وأضل!

ابتسم الصالح برضا وهو يراقب وجه عابد الذي ارتخت قسماته ليقول بأسف:
_كنت أتمنى لو أحضر معكم دروس الحلقة لكنني مسافر إلى مصر .
فاتسعت ابتسامة الشيخ وهو يقول ببشاشة :
_طلب العلم فريضة في كل مكان ...ومصر تشتهر بكبار شيوخها ...مادمت عرفت الطريق فاختر الصحبة يا بني .
هز عابد رأسه موافقاً ليتنحنح الشيخ ويسمي الله ليبدأ في إلقاء درسه الذي دمعت له العيون خشية ...
هذا هو المجلس حيث تحفهم الملائكة وتغشاهم السكينة ويذكرهم الله في من عنده ...
لهذا شعر عابد أنه يرتد لبعض روحه وحديث الشيخ يطبب أسقام ما عاشه من أيام مهلكة ...
حتى إذا ما انتهى الدرس وانفض الجمع أسره الشيخ بوصية أدرك بفطنته أنه يحتاجها قبل سفره :
_يابني ...قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لن يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه" وفي موضع آخر "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق"...ولست بحاجة لتذكيرك بالثلاثة الذين ذهبوا يتفقدون عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا عنها كأنهم تقالّوها ...استصغروها ...فقالوا وأين نحن من رسول الله وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! ...فقال الأول أما أنا أصوم الدهر ولا أفطر ...وقال الثاني وأنا أقوم الليل ولا أنام ...وقال الثالث وأنا سأعتزل النساء فلما سمعهم النبي صلى الله عليه وسلم قال "أما أنا فأصوم وأفطر...وأقوم وأرقد...وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني"...

ثم التقط أنفاسه ليردف:


_التطرف يا بني آفة الدين في كل زمان ومكان...وأظنك من الفطنة أن وعيت الدرس ...
ابتسم عابد لقوله وهو يهز رأسه موافقاً ليربت الصالح على كتفه بعبارته هو الآخر:
_عرفت فالزم!
========














_عم رفعت !
تهتف بها ياسمين بود لحارس النادي القديم الذي التفت نحوها وقد تهللت أساريره قبل أن يلحظ سواد ثيابها ليسألها بقلق:
_خير يا أستاذة !
أخبرته بمصابها ليعزيها قبل أن يلتفت نحو يامن بحنان أبوي ليصافحه بقوة ...
ابتسمت ياسمين بوهن وهي تتأبط ذراع يامن كي يدخلا لكنه سحب ذراعه منها ليحيط كتفيها بذراعه هامساً :
_كده أحسن...وأقرب!

رمقته بنظرة مشتتة وهي تتذكر زيارتهما السابقة هنا كزوجين ...
وزياراتهما الأخرى منذ سنوات بعيدة لم تعد تذكر عددها ...
ورغم أن زيارتهما السابقة تركت أثرها في نفسها حقاً لكنها تشعر أن هذه المرة مختلفة ...
خاصة وهو يضمها سائراً بهذه الطريقة ...
يتمشى معها في الممر الطويل المؤدي للملاعب ...
يجلسان معاً تحت شجرة السنديانة التي كان يحبها ...
ويذكّرها- هو -بكل ما كانت ترويه له عن ماضيهما !!
كأنما يسير هو على خطاها بالضبط كي يعيد برمجة قلب لم يعرف سواه عشقاً !!

_سرحتي في إيه ؟!
يسألها وهو يطارد نظراتها الحائرة لتجيبه بشرود :
_حاسة إني كبرت قوي ...مش مصدقة إن كل السنين دي عدت ورجعنا أنا وانت تاني هنا بعد كل اللي حصل .
لكنه ربت على كفها ليقول بحنان :
_أنا بقا ماكنتش هاصدق نهاية تانية غير دي ...
ثم أدخل خصلة نافرة من شعرها تحت حجابها ليردف :
_كل مرة كنتِ بتوحشيني فيها وانتِ بعيد كنت بصبر نفسي بكده...إننا مهما بعدنا هنرجع نقرب .
دمعت عيناها بتأثر لكنها أخفت هذا بإشاحتها لوجهها الذي أعاد هو تقريبه نحوه ليسألها برفق:
_لسه مش عايزة نرجع بيتنا ؟!
_مش مش عايزة...مش قادرة !
هتفت بها بمزيج من حيرة وعجز ليضم كفها بين راحتيه قائلاً بمرح تجاوز به الموقف:
_عجبتك القعدة مع حماتك ؟!
ابتسمت رغماً عنها وهي تطرق برأسها لترد بانفعال:
_أصلاً كل المصطلحات دي مش لايقة على بيللا ...مرة حماتي ومرة الحاجة أم يامن ...كل ده ضمن مسلسل الطرائف والعجائب اللي عايشة فيه من يوم ما رجعت مصر .
ضحك ضحكة عالية أرجفت قلبها ليرد بغمزة عابثة:
_ولسة ياما هتشوف انبهارات !
اتسعت ابتسامتها لتجد نفسها دون وعي تسند رأسها على كتفه لتغيب في شرود طويل قبل أن تهمس فجأة:
_لسه بتحب كريم العراقي؟!
_مممممم ...تعرفي إن السؤال في وقته !
ثم رفع ذقنها نحوه ليحتل نظراتها بعينين عاشقتين تليقان بهمسه :
_دلوعتي خاصمتها...صالحتها ...لما بكت وتوسدت أحضاني ...ألقت عليّ القبض مشتاقاً لها فتحولت عصبيتي لحناني...

هنا ابتعدت هي بوجهها قليلاً لتكمل له هي:
_إن الرجال فوارسٌ لكنما ...لا سلطة تعلو على النسوان !

عاد يضحك ضحكة عالية وقد أعجبته دلالة فعلتها قبل أن يهمس لها مكرراً بدفء حان :
_لا سلطة تعلو على النسوان ...
ثم غمزها ليردف بمكر:
_يعني حافظاها اهه؟! ده أنا قلت كرهتيني وكرهتي كل اللي يفكرك بيا.

ابتسمت وهي تشعر بشيئ غريب في ضحكته وكلامه ...
لم تكن تشعر به سابقاً صادقاً هكذا ...
ضحكته نقية خالصة دون شوائب من هواجس تؤرقه !
ربما لهذا شعرت بنفسها تهدأ قليلاً وهي ترفع عينيها للسماء التي مالت شمسها للغروب ...
السكينة تنتقل منه إليها قبل أن تسمع صوت رنين هاتفه الذي أجابه بقوله :
_جايين ...حاضر ...عاملة إيه ع الغدا؟!
صمت قليلاً ينتظر الرد لتدرك أنه يكلم نبيلة ثم ابتسمت وهي تراه يهتف بجزع وقد امتقع وجهه :
_مسقعة ؟!

كتمت ضحكتها بكفها وهي تربت على كتفه بإشفاق مصطنع قبل أن تراه يغلق الاتصال ليهز رأسه بقوله الآسف:
_كنت عارف إن لازم حاجة وحشة تحصل تبوظ اليوم الجميل ده ...أمي عاملة مسقعة !
عادت تربت على كتفه ضاحكة لترد :
_من "محشي يامن" ل"مسقعة بيللا" ياقلبي لا تحزن !

_نعم؟! بتقارني باكورة إنتاجي م المحشي بمسقعة بيللا؟!
هتف بها باستنكار ضاحك وهو ينهض ليجذبها من كفها فتأوهت ببعض الألم الذي جعله يهتف بقلق حقيقي:
_انتِ كويسة؟! أنا آسف احنا فعلاً مشينا كتير .

قالها ليعاود ضم كتفيها بذراعه بحنان ليغادرا معاً النادي نحو بيت بيللا ...
ولم يكادا يدخلان حتى استقبلتهما رانيا بترحاب ليستأذن منهما يامن للصلاة بينما تهالكت ياسمين جالسة على إحدى الأرائك لتجلس جوارها رانيا متسائلة بإشفاق:
_تعبانة ؟!

رمقتها ياسمين بنظرة متعاطفة وهي تدرك أنها ترى فيها مصيبة فقدها القديمة لجنينها ...
رانيا بالذات تثير فيها مشاعر تعاطفها لأنها تراها أضعف شقيقاتها شأناً ...
أو هكذا كانت تظن حتى سمعت عن جديد أخبارها ومساعدتها لنشوة في المصنع ...

_مفيش أخبار عن أشرف؟!
سألت رانيا باهتمام لتجيبها الأخيرة بعينين دامعتين :
_نشوة بتقوللي إنه بيتصل يكلمها يطمنها عليه بس مش من تليفونه .
_غريبة قوي!
قالتها ياسمين بدهشة لترد رانيا بشرود :


_لا مش غريبة ولا حاجة...أشرف طول عمره اتعود يدي من غير ما ياخد ...لما حس إنه خلاص بقت إيده فاضية مش قادر يدي اضطر يبعد عشان ما يحملناش همه .
_طب عايش فين وإزاي ؟!
سألتها ياسمين لكنها لم تكن تملك إجابة سوى ما تحاول إقناع نفسها به :
_بيقولوا له واحد صاحبه خرج معاه من المستشفى ...ممكن يكون هو اللي قاعد عنده ...بس ...

انقطعت كلماتها عندما سمعتا صوت جرس الباب الذي اندفعت رانيا لتفتحه قبل أن تفاجأ برجل غريب لم تره من قبل ...
_مين حضرتك؟!
لكن الإجابة وصلتها من صرخة ياسمين الفرحة خلفها :
_عابد...حمداً لله ع السلامة !
=======



ضغطت زر الجرس لشقته التي صارت تمثل لها أكبر جحيم تحياه ...
مرة تلو مرة دون رد ...
ترددت قليلاً في الانصراف لكن شيئاً ما بداخلها جعلها تفتح حقيبتها لتستخرج المفتاح الذي كان قد أعطاه لها قبل أن تحسم أمرها لتدخل الشقة وتغلق الباب خلفها ...
شقة أنيقة حقاً لولا ذكرياتها السوداء هنا لاعتبرتها أفضل مكان رأته عيناها ...
لكن شعورها المقيت جعل الاشمئزاز يغطي على كل ما تطاله عيناها ..
الأثاث الفخم بألوانه الفاتحة ...
الستائر والسجاد بالغي الترف ...
وحتى الرائحة العطرية التي تنبعث من مكان ما لكنها تزكم أنفها بعطن ذكرى لن تمحو ذلها الأيام !!
والآن ماذا تفعل ؟!
تنهدت بعمق وهي تحاول استعادة ما روته لها ياسمين اليوم عنه ...
ياسمين التي تبدو وكأنها رأت أفضل وجوهه فيما كان نصيبها هي في الأسوأ...
ترى كم وجهاً يحمل هذا الرجل؟!!

الخاطر الأخير يملؤها قهراً ...غضباً...خزياً...و...غيرة!
غيرة لم تشأ الاعتراف بها وهي تذكر نفسها بعهدها الذي أخذته ...
هي لن تكون "أشواق" أخرى!!

انقطعت أفكارها عندما سمعت صوت مفتاحه يلج في الباب فانتفضت رغماً عنها لكنها التفتت لتواجهه بملامح متنمرة قوية لانت قليلاً عندما رأت وجهه الغارق بإرهاقه رغم الابتسامة المتحدية الشاحبة التي تعمد هو الآخر صبغ شفتيه بها ...

هو الذي ظل واقفاً مكانه يرقبها لدقيقة كاملة بصمت تناطحت فيها العيون بما يليق بهما من تحدٍّ وعناد وغضب...
قبل أن تنتبه هي لما يحمله في كفه ...
كتاب؟!!
هل لهذا علاقة بهمسة ؟!!

_لقيت همسة ؟!
سألته دون مقدمات بنبرة محايدة فسار بضع خطوات ليتهالك جالساً على أحد المقاعد الوثيرة مسنداً رأسه إلى ظهره قبل أن يخاطبها بعينين نصف مغمضتين :
_أول مرة أروح الشركة ما ألاقيش رائد ...الدنيا ملخبطة وهتاخد وقت على ما ألاقي بديل ...أول مرة أروح البيت ما ألاقيش همسة...حضنها الدافي أول ما تشوفني ...ابتسامتها الحزينة...كلامي معاها اللي ماببقاش مستنيله رد ...بس عارف إنه مهم عندها زي ما هو مهم عندي .

عباراته كانت تحمل جواباً غير مباشر لسؤالها بالنفي ...
ورغم شعورها ب-كراهيته- لكنها لم تملك شيئاً من التعاطف نما بداخلها نحوه ...
هو رجلٌ اهتزت أركان عالمه فجأة ليفقد كل من يهمونه !!

_شعور قاسي فعلاً ...شغلك اتلخبط...همسة اختفت...وكمان ياسمين رجعت ليامن ...كل رهاناتك فجأة بقت خسرانة .

ورغم أنها تعمدت أن تكسو نبرتها بالشماتة لكن شعوره هو ب-طيبة خفية- تداريها خلف هذا جعله يغمض عينيه تماماً في محاولة بائسة للاسترخاء قبل أن يردف ببطء :
_الشغل أمره سهل يتظبط...همسة هلاقيها ...أما ياسمين ...
صمت قليلاً بعدها ليخفق قلبها بجنون ترقبه منتظراً ما سيقوله ...

_فعلاً رهان خسران...شفتها النهارده مع جوزها ...كانت بتبتسم ابتسامة ماشفتهاش على وشها قبل كده ...هي فعلاً مبسوطة معاه .
_شفتها فين ؟!
تسأله بترقب لكنه لا يرد مكتفياً بنفس الابتسامة الجانبية التي تمزج المكر بالألم ...
مزيج غريب ...صحيح؟!!
ربما لهذا قررت طرق باب -إنسانيته- التي لا تزال تراها رغم كل شيئ ...
فاقتربت منه وهي تشعر أن جلسته هكذا بائساً مغمض العينين أشد وطأة على قلبها من حضوره المهيب الطاغي ...
هي تكرهه...وتريد أن تكرهه ...
لكن لعله يرضى أن يمنحها حريتها على أي حال بعد مستجدات الأمور ...

_طيب ...دلوقت ياسمين رجعت ليامن برضاها وفقدت أملك فيها ...وهمسة مختفية مع رائد ...وأختي سهل قوي أثبت إنها مريضة وإن اللي بيحصل غصب عنها ...يعني ببساطة مفيش أي سبب يخلليك مورطني معاك كده ...أنا لولا خوفي من الفضايح والشوشرة كنت ...
هنا فتح عينيه فجأة بنظرة مشتعلة أجبرتها أن تبتلع باقي عبارتها ...
ولو نظرت بقلبه لأدركت أي -رهبة- كانت تجتاحه وقتها !!!
ربما لأنه أدرك أنها على حق !
لو كان يستبقيها لأجل ياسمين أو همسة فلم يعد له بها حاجة ...
ولو كان يريدها كطريدة فهي لم تعد تناسب هذا الدور ...
لماذا لا يطلق سراحها فحسب؟!
لماذا يشعر وكأنه صار مقيداً بها دون مسمى؟!
لماذا لا يستطيع تصنيف مشاعره هذه المرة بل -والأسوأ- الاعتراف بها ؟!!
ربما لهذا خرجت كلماته هادرة متخبطة :
_انتِ السبب في إنه قدر يخطف همسة من ورايا ...لو كنتِ عرفتيني حكاية الجواز دي كنت عملت احتياطاتي من بدري ...ودلوقت خلاص سلمتي إنها مش هترجعلي وهتفضل معاه ؟! همسة هترجع وهتفضلي معايا لحد ما تعالجيها !

احمر وجهها بانفعاله لتقترب منه خطوة أخرى هاتفة بحدة مماثلة :
_انت بتلومني على إيه ؟! واجبي كدكتورة أحافظ على أسرار شغلي ...أعمل اللي فيه مصلحة الحالة وبس ...انت مجبتنيش جاسوسة تحطني في بيتك عشان أنقللك اللي بيحصل من وراك ...بس اللي زيك فاكر الدنيا كلها زيه ماشيين بالمؤامرات والخطط !

نظرته الطويلة لها بعدها أربكتها وهي تشعر أن بداخله كلاماً أكبر من أن يقال ...
التعب الذي كانت تصرخ به كل خلية من جسده...
الألم الذي كانت تنبض به ملامحه ..
والحيرة الغريبة على "العينين الماكرتين"...
كل هذا جعلها تشيح بوجهها عنه لتصمت بدورها قبل أن تسمعه يقول فجأة :
_قريتي الكتاب ده قبل كده ؟!

التفتت نحو الكتاب الذي يمسكه منذ دخل لينعقد حاجباها أكثر ...
"ترنيمة سلام"...
سمعت عنه الكثير من المديح لكنها لم تقرؤه قبلاً !

_لا.
_كويس ...تعالي اقريهولي.
بنبرته المهيمنة يقولها مدركاً ما سيثيره فيها من سخط لتشتعل عيناها بنظرة كادت تحرقه مكانه !!!
هذا الرجل مريض!!
عن أي شيئ يتحدث ؟!!
تترك عملها ومذاكرتها لأجل أن تكون تسليته ؟!

لكن ...
ماذا لو تعاملت معه حقاً على أنه مريض؟!
ماذا لو تخطت حاجز كراهيته هذا لتصلح هذا العطب في تفكيره ؟!!
ذكاؤها لم يخذلها في التعامل مع أي حالة من قبل ...
فلماذا لا تستخدمه الآن ؟!!

أخذت نفساً عميقاً وهي تحاول تحليل شخصيته في ضوء الأحداث السابقة معه محاولة التخفي خلف درع مهنيتها وتنحية شعورها الخاص ب"كراهيته"...
هذا رجل يجيد نصب الشباك ...لكنه يتقبل الهزيمة...
والدليل "ياسمين"!
عظيم!
هذا رجل لا يريدها هي -كامرأة- غصباً ...
وإلا كان قد نالها وهي فاقدة الوعي بين ذراعيه هنا ...
ربما هو فقط يريد "إغواءها"’ كي يسيطر عليها طوعاٌ ولا يدري مع من يتعامل هاهنا ...
جيد !
هذا رجل لم يحب في حياته كلها كما يبدو إلا أمه وهمسة ...
شخصية كهذه تحمل عاطفة كبيرة بداخلها ربما لو أمكنها استغلالها لجعلته يطلق سراحها بصمت دون فضائح قد تمسها هي أو شقيقتها ...
رائع!!

لكنه كذلك رجل عنيد وهزيمة هؤلاء لا تكون إلا بمزيج "محترف" من الطاعة والتمرد ...
مزيج تجيد هي كثيراً طبخه !!!

لهذا تقدمت خطوة أخرى لتلتمع عيناها بنظرة لم يفهمها مع كلمتها الوحيدة :
_حاضر.

الشك يملأ عينيه من موافقتها السريعة غير المتوقعة ...
لكنه كان أكثر إنهاكاً من أن يسأل عن المزيد ...
لهذا ما كادت تتحرك لتتناول منه الكتاب كي تجلس جواره حتى فاجأها بأن جذبها ليجلسها قسراً بين ساقيه محيطاً إياها بذراعيه وظهرها يقابل وجهه ...
قبل أن يميل ليسند ذقنه على كتفها هامساً:
_نستفيد بقى من صلاحيات الوضع الجديد ك"مراتي"...من يوم ما سمعت صوتك وانت بتقري لهمسة وأنا في بالي صورتك وانتِ بتقريلي لوحدي كده ...بالضبط !

التفتت نحوه بوجهها بعينين مشتعلتين وارتجاف خفقاتها يفضح تأثرها بمفاجأته ...
لكنه مد أنامله ينزع عنها نظارتها مع استطراده :
_قلت تتقلع أول ما نتقابل...ياريت تكوني بتعرفي تقري من غير النظارة.

احمر وجهها بانفعاله ليتحول "القمران السجينان" لشعلتين من نار!!!
تكز على أسنانها بقوة تكاد تحطمهم وهي تحاول تذكير نفسها بأفكارها السابقة ...
مريض آخر أمام ذكاء طبيبة !!
عنادها لن يزيده إلا عناداً ...
الصبر ...
مزيج محترف من الطاعة والتمرد !!

لهذا هدأ جسدها -نوعاً- وهي تعاود النظر للكتاب بين كفيها قبل أن تأخذ عدة أنفاس متلاحقة لتفتحه ...
تبدأ القراءة بصوت تعمدت أن يكون هادئاً واثقاً لا يشي بهذه الانفعالات التي تعصف بها ...
هذا هو العناق "الثاني" لهما...
لكنها تشعر به أشد وطأة على نفسها من الأول...
ربما لأنه يغمرها بجسده أكثر ...
ربما لأنها تشعر أن "الصدر الصلب" هذه المرة يواجه ظهرها هي الذي طالما ظنته بلا سند !!
وربما لأنها تستشعر أن خلف هالة التجبر والعناد خاصته هذه يختفي الكثير من الألم ...
هو لا يعانقها إذلالاً ولا غريزة...
هو يعانقها احتياجاً !!

بينما كان شعوره هو يختلف كثيراً عن شعورها ...
صوتها الذي يحمل في أذنيه وقعاً خاصاً كان يخترقه كثيراً هذه المرة ...
هذه المرأة لن تكف عن إدهاشه !!
تصرفاتها كلها استثنائية !!!
ربما لو كانت امرأة أخرى في مكانها لثارت وصرخت ...أو ربما حاولت إغواءه ...
لكنها لا تفعل هذا ولا ذاك ...
بل تبدو وكأنها تحرك قطعها على- رقعة الشطرنج -بينهما كي تحقق هدفاً لا يعلمه ...
طاعتها هذه مربكة ...
مستفزة ...
فليحرك قطعة أخرى من قطعه هو الآخر لعله يفهم ...

_لحد دلوقت ما اتأسفتلكيش ع اللي حصل ...عارف إن واحدة زيك مش هتسامح فيه بسهولة.
يقولها بنبرته الرخيمة وهو يمد أنامله ليزيح حجابها عن شعرها فامتد كفها بسرعة يقبض على كفه من الخلف بحزم تمنعه المزيد ...
لتقطع قراءتها وتقول صارمة دون أن تلتفت :
_خالص ! مش هتسامح فيه خالص!
فالتوت شفتاه بابتسامة إعجاب لم ترها ليردف بعدها بنفس النبرة وهو يسند ذقنه على كتفها :
_برغم إني احترت في قرايتك كتير ...بس فيه حاجة واحدة مطمناني ...حاجة ماافتكرش حد عرفك واختلف عليها ...عارفة إيه ؟!
تيبست مكانها وهي تخشى أن تلتفت فتواجهه بهذا القرب ...

لكنه هو من جذب ذقنها نحوه ليتشح بدفء "القمرين السجينين" من هذا القرب الخطير مجيباً تساؤله بنفسه :
_طيبتك !

لحظة واحدة التقت فيها عيناها ب"سراجين " في عينيه !!
لحظة واحدة لم تره فيها صياداً اقتنص بهجة أول حب ...أول عناق ...أول لمسة لرجل !!
لحظة واحدة أخرجته بها بعيداً عن إطار الزمان والمكان ...
لحظة واحدة ضبطت فيها نفسها متلبسة تطارد سراب حلمها البعيد من جديد ...وكأنها لم تتعلم!!
لم تتعلم !!

الخاطر الأخير يصفعها ليعيدها لذروة تنمرها وهي تشيح بوجهها عنه بعيداً ...
ستخرج من هذه الورطة !!

لن تسمح له أن ينتصر عليها !!!
ستعيد له شباكه خاوية ...
وربما تكون "هدية الطيّبة" له قبل أن تغادر حياته هي أن تشفي سقم روحه هذا أولاً ...
ستعامله ك"مريض" يحتاج العلاج....ك"وغد" يستوجب الحذر ...
لكنه لن يكون أبداً ك"حلم" ترجوه التحقق!!

لهذا دمعت عيناها بلا سبب -رأته - وهي تعاود القراءة بصوت عالٍ لعلها تشتت انتباهه ...
وقد أفلحت !
أو هكذا -هيئ إليها- وهي تشعر بتراخي أنفاسه جوارها لدقائق طالت ...

دقائق أغمض فيها هو عينيه يستلذ بهذا الصوت الآسر ...
لا ...لم يكن أرق صوت أنثوي سمعه ...
ولا أدفأهن رنة...
ولا أشدهن إغواء!!
لكنه كان يشبه ...ماذا؟!
هو -للعجب- لا يشبه أي شيئ!!
هو مزيجٌ من حنان أمه...ورقّة همسة...وقوة...من؟!
هو لا يذكر أنه قابل امرأة في حياته بهذه القوة تصلح أن تكون نداً له ...
حتى ياسمين!!

هذه المرأة حقاً خارقة...
كيف تكون هنا ..في بيته.. يكاد يعتقلها بين ذراعيه ...ومع هذا يشعر أنه هو "المأسور" لا هي!!
هو"السجين" بمشاعر لا يمكنه توصيفها وهي "الحرة" المحلقة في سماء كبرياء لا تعرف حدوداً ولا قيوداً...

متعَبٌ هو لأقصى حد...
ومريحة هي لأقوى درجة ...
فمن يلومه لو ...؟!!

من جديد يحاول تحريك "قطع الشطرنج" بحركة مباغتة لعله يفقده اتزانها ...ولم يحسب أن يفقد هو اتزانه...

شفتاه تترنحان بتمهل على جانب وجنتها وذقنها فتعاود التيبس بين ذراعيه لتقطع قراءتها دون أن تلتفت ...
قلبها يعاود جنون قفزاته بغضب يتملك منها ...

اهدئي يا ياقوت ...
هو لايريدك غصباً ...لو أرادها لفعلها من زمن !
هو يريد إغواءك ...يظنك سترضخين !!

_لو مش هتسمع أبطل قراية .
بأقصى ما لديها من برود تقولها وجسدها المتخشب يؤازرها في دعواها ...
لكنه لا يزال يحرك القطع كما يرتضيه عقله :
_بسمع بوداني مش بشفايفي!

همساته تزيد غضبها أكثر لتعاود القراءة بصوت أعلى وكأنها لا تهتم ...
هو صراع قوة ...فلينهزم الأضعف!!
لكنه كذلك لم يكن خصماً هيناً وخبرته الهائلة تواجه ضعف أنوثتها لعاطفة كهذه ...
صوتها يرتعش رويداً ورويداً والحروف تتلاشى من أمام عينيها ...
من اليسار يأتيها صوت مداعب...
ماذا لو كان هذا زواجاً حقيقياً؟! ماذا لو استجاب القدر ليمنحكِ الرجل الذي تمناه قلبك ؟! ماذا لو تستسلمين؟! لو تذوبين في عاطفة كهذه تمنيتها بكل جوارحك ؟!
الخواطر هذه تسلمها لخدر لذيذ فتنكمش رغماً عنها بين ذراعيه أكثر ...
لكن صوتاً آخر من اليمين يأتيها مؤنباً...
هل فكرت "أشواق" مثلك هكذا عندما زلت قدمها ؟! هل قاومت حقاً بما يكفي؟! هل ورثتِ عنها ضعفها كما ورثتِ إثمها ؟! فلترثي مصيرها إذن!!
والخواطر هذه تجعلها تسقط الكتاب من يدها ...تضم قبضتها التي وجهتها بعنف نحو ساقه لكنه لم يبدُ وكأنه شعر بها ...
وبين الجانبين ممزقةٌ هي لم تملك سوى فيض من دموع أغرق وجنتيها لتنبعث منها أنةٌ قوية جعلته يتجمد فجأة ...
قبل أن يديرها بين ذراعيه ليتملك وجهها بكفيه وعيناه لا تقلان شتاتاً عن عينيها ...
نظرته تحمل غضباً ...ألماً ...اعتذاراً ...ورجاء ...
معانٍ وصلتها كلها صادقة لتقصف قلبها قصفاً لكن ماذا يكون "قلبها" هذا أمام سلطان كبريائها ؟!!

_بتعيطي ليه ؟!
يهمس بها متحشرجة خافتة لتجيبه بكل عنفوانها :
_عشان بكرهك !

الصمت الثقيل يجثم عليهما بعدها وهو يمسح دموعها بإبهاميه للحظات طالت قبل أن يهمس لها أخيراً بيقين ثابت:
_لا...عشان بتحبيني !

عيناها تتسعان بارتياع مع كلماته فتحاول الابتعاد بوجهها لكنه يتمسك به برقة أكبر ليقترب هو منها غارساً نظراته في عينيها :
_فاكرة إنك لوحدك اللي بتعرفي تقري الناس ؟! أنا فاهم كويس أنا إيه بالنسبة لك ...أنا الحلم اللي اتمنيتيه بالضبط ...مش م النهاردة ولا امبارح ...من أول مرة شفتيني فيها .

_كنت!
تقولها كأنها تبصقها في وجهه قبل أن تدفعه فجأة لتهب واقفة بينما تردف بمزيج دموعها وقوتها الآسر:
_مش هانكر إنك فعلاً كنت الحلم اللي شفته فجأة بيناديني ...الراجل اللي يرفع راسي وراس ثمر ...اللي يخللي حسين يندم وهو شايف بنت الخدامة بتاخد واحد راسه براسه ...لكن الحلم بقى كابوس ...انت ...انت...

سبابتها ترتعش بشدة وهي تشير نحوه بينما تشرف عليه من علوّ يناسب مكانتها الآن :
_انت دوقتني الذل اللي عمري في حياتي ما دقته ...كل اللي الدنيا عملته فيّ ما كسرش فيّ حاجة زي اللي انت كسرتها ...

عيناه ترتجفان بنظرة وجع حقيقية لكنه يسارع بإغماضهما ليخفي مشاعره خلف جمود وجهه بينما هي تردف بنفس العزة :
_بس اللي زيي ما بيقعش...يمكن الضربة تدوخه بس ما بتموتوش ...لكن أنا هاطلع أحسن منك...وعد مني قبل ما أخرج من حياتك أرجع لك أختك ...ويمكن أرجعلك نفسك كمان ...بس ما تطمعش في أكتر من كده !

يفتح عينيه ببطء وهو يشعر أن هذا الحوار استنزف قوته تماماً ...
استهلكه كما لم تفعل به أحداث الساعات السابقة كلها ...
لكن ...منذ متى يظهر هو ضعفه ؟!!
لهذا قام واقفاً بدوره يواجهها بعينين لا تقلان عنها تحدياً :
_موضوع خروجك من حياتي ده قراري مش قرارك .

ورغم أن عبارته أحنقتها لكنها عقدت ساعديها أمام صدرها لتهتف بنفس العزة :
_لو كنت عايزني غصب كنت خدت اللي انت عايزه من زمان ...انفض إيدك مني يا "بيه"...الرهان المرة دي مش لايق عليك...لا هو قيمتك...ولا انت قيمته !

قالت عبارتها الأخيرة بنوع من الاحتقار وهي تعدل وضع حجابها لتغطي كامل شعرها ثم انحنت تلتقط نظارتها لترتديها قبل أن تتحرك نحو الباب لكنه لحق بها ليمسك ذراعها بقوة فعاد لقاء العيون لكن أكثر وهناً هذه المرة بعدما استنزف كلاهما هذا المشهد الكارثي ...
ألمه أمام ألمها ...
ضعفه أمام ضعفها ...
حيرته أمام حيرتها ...
صورة في مرآة "الماضي"...كم تشبه الأصل وكم تناقضه !!

لهذا ارتجفت شفتاه رغماً عنه وعيناه تحطان رحالها على عينيها في صمت مشحون ...
قبل أن يقول بصوت متحشرج:
_رائد هيكلمك ...أنا واثق من كده ...ده لو مكنش كلمك فعلاً .
أشاحت بوجهها دون رد لم يكن هو ينتظره مع استطراده :
_مش هاقوللك تعملي إيه ...اعمللي اللي يرضي ضميرك ...همسة أمانتك وأنا عارف إنك مش هتضيعيها .

امتلأت عيناها بالدموع رغماً عنها لكنها أزاحته عن طريقها ببعض العنف قبل أن تخرج صافقة الباب خلفها ...
الباب الذي ظل هو يرمقه بنظرة طويلة قبل أن يعود ليلتقط الكتاب الذي كانت تمسكه ليقلبه بين يديه للحظات سبقت تهالكه على الأريكة بعدها ليسلمه الإرهاق لنوم طويل ...
نوم كانت هي بطلة أحلامه بلا منازع ...
ياقوت ...!
طريدة اقتنصت صيادها !
=========






وقفت نبيلة جوار فراشها تراقب وجهها النائم بعينين دامعتين ...
اليوم عقد قرانها على مروان !!
العفريتة الصغيرة ستتزوج أخيراً !!
آخر بنات شقيقتها الراحلة ...
حان الوقت أن تطمئن عليها!!

ازدادت كثافة الدموع في عينيها وهي تذكر وقفة كهذه ليلة كادت تتعرض لانتهاك بسبب ذاك المخرج الوغد ورفيقه ...
ليلة تركت ندبتها في قلبها وقتها ولا تزال ...
ربما هي ما فتح لها طريق الرجوع ل"عائلة" تتقبلها ك"أم"
لا ك"نجمة"!
الطريق الذي تسيره الآن عدواً وكأنما تفرغ فيه اشتياق الماضي كله ...
بل وكأنما تخشى أن يقف عداد العمر فجأة دون أن تروي نهَم هذا الشعور!!

_اصحي يا داليا .
تهتف بها بحنان وهي تجلس جوارها على طرف الفراش لتصدر داليا همهمة اعتراض جعلت نبيلة تهتف باستنكار:
_يابنتي قومي ...النهارده كتب كتابك...أنا مش عارفة
جالك نوم إزاي أساساً؟!

انتفضت داليا فجأة لتمسح وجهها وهي تدور بعينيها في الغرفة قبل أن تقفز فجأة لتغادر الفراش هاتفة بصوت لم يغادره نعاسه :
_سبتيني نايمة لحد دلوقت ليه ؟! لسه قدامي بلاوي .
ضحكت نبيلة وهي تقف بدورها لتحتضنها قائلة :
_صباح الخير يا شعنونة ...ربنا يعينك يا مروان على ما بلاك ....
ثم قرصت وجنتها لتسألها بعتاب:
_برضه لسه ما بترديش على تليفوناته ؟!
_تؤ.
قالتها داليا بحركة كتفيها وعيناها تلتمعان بدلال جعل نبيلة تقول لها محذرة :
_خدي بالك ...الرجالة خلقها ضيق ...هيزهق .
لكن داليا تنهدت بحرارة لتقول بشرود :
_مش مروان...لو كان ممكن يزهق كان زهق من زمان .
_لو كان حبيبك عسل !
عادت تقولها خالتها محذرة لتضحك داليا ضحكة عالية وهي تلم خصلات شعرها المشعث هاتفة بميوعة :
_اللي يلاقي دلع ومايتدلعش يروح النار .
ابتسمت نبيلة بحنان وهي تحتضن وجهها بكفيها قائلة بحنان :
_لولا ظروف ياسمين كنت مليت البيت زغاريد ...ماتعرفيش أد إيه فرحانة...طايرة م الفرح !
_كل ده عشاني؟!
قالتها داليا بغرور مصطنع لترد لها نبيلة بضاعتها بقولها الذي عاد إليه كبرياء النجمة :
_لا ...عشان الفستان الأسود اللي ماكانش راضي يدخل فيّ ...قسته امبارح وطلع مظبوط !
_أوووووه ...الأسود بتاع ...؟!
هتفت بها داليا بانبهار لترد نبيلة باعتزاز :
_هو!

ضحكت داليا بمرح وهي تعطيها ظهرها لتغادر الغرفة بثرثرتها المعهودة :
_مش عارفة خسيتي إزاي مع جهودك المطبخية رفيعة المستوى اليومين دول ...بس يستحسن تشوفي شال للفستان عشان يامن ما يطربقش الليلة على دماغنا ...عايزة أتجوز ماتضيعوش مستقبلي .

كان صوتها يتباعد مع مغادرتها لكن ابتسامة نبيلة كانت تتسع مع كلماتها ...
لم تكن في حاجة لنصيحة داليا فمنذ تقاربت علاقتها مع يامن وهي تحرص أن تكون ثيابها أكثر انضباطاً كي لا تثير حفيظته ...
تعلم أنه لن يحدثها في أمر كهذا صراحة لكنها صارت تريد رؤيته راضياً وهو الذي عليه حاله منذ عادت إليه ياسمين ...

_صباح الخير يا بيللا .

انقطعت أفكارها بتحية هانيا التي تبيت ليلتها هنا منذ
الأمس بعد عودتها من تركيا لتلتفت نحوها نبيلة هاتفة بلهفة :
_صباح النور ...ياللا عشان ورانا حاجات كتير ...هانزل أخلص شوية مشاوير وانتِ خلليكي مع داليا ...
قالتها وهي تتحرك لتجذب حقيبتها فهتفت هانيا خلفها :
_داليا صحيت ؟!
والإجابة جاءتها في المنشفة التي قذفتها داليا لتصطدم بوجهها مع هتاف الأخيرة الضاحك :
_النهارده فرحي يا جدعان ...لازم كله يبقى تمام ...

قالتها وهي تحرك جسدها بحركات راقصة جعلت نبيلة تطلق ضحكة عالية بينما هتفت هانيا باستنكار:
_ما تقفي على بعضك يا بنت....إيه ده ؟!

لكن نبيلة احتضنت داليا لتقبل جبينها قائلة باعتزاز :
_تربيتي!
قبلتها داليا بعمق قبل أن تخرج لسانها لشقيقتها مغيظة فعادت نبيلة تضحك قبل أن تغادر البيت لقضاء شأنها ...
وما كادت تفعل حتى توجهت هانيا نحو المطبخ لتعد لنفسها القهوة...
سمعت داليا تتنحنح من خلفها فالتفتت نحوها لتشد شعرها بحركة خفيفة جعلت الأخيرة تتأوه دلالاً لتبتسم هانيا قائلة بحنان :
_مبروك يا داليا ...يارب تعقلي بقى .
_لو عقلت أموت حضرتك !
قالتها داليا بشقاوتها المعهودة قبل أن تحك رأسها لتسألها ببعض الحرج:
_كنت عايزة أسألك على حاجة بحكم كونك أختي الكبيرة المتجوزة -حالياً- يعني ...بس مكسوفة ...
_مكسوفة؟! وال"أبديت" ده عملتيه امتى؟!
قالتها هانيا باستنكار وهي تعطيها ظهرها لتصب القهوة فتحركت داليا لتسألها بخجل تمكن منها رغماً عنها :
_أصلها حاجة تكسف ...
_مممممم؟!
سألتها هانيا وهي ترتشف رشفة من قهوتها لتتنحنح داليا وتسألها باهتمام لم يخلُ من خجل:
_بتتدلعي على أبيه رامز إزاي عشان يعمللك اللي انتِ عايزاه ؟!
_يااااا زين ما اخترتِ!
هتف بها رامز الذي كان واقفاً على باب المطبخ لتشهق
داليا بخجل قبل أن تخرج من المطبخ عدواً وهي تغطي وجهها ...
فيما سعلت هانيا برشفة القهوة التي توقفت في حلقها لينفجر رامز ضاحكاً وهو يقترب منها ليربت على ظهرها مردفاً بمرح:
_اجمد يا وحش.

ظلت هانيا تسعل للحظات وهي تدفعه بكفها فناولها كوب ماء شربت منه لتهدأ قليلاً وسط ضحكاته العالية التي سبقت قوله :
_ياربي ! مش هنساها أبداً ...داليا بتاخد خبرتها من "بسطويسي"...
ثم كوّر كفيه حول شفتيه في وضع النداء ليردف بتحذير مصطنع:
_إلى مروان القاطن بدير النحاس ...لا تقرب هذه العائلة...الزواج فيه "دبشٌ" قاتل!!



كتمت هانيا ضحكاتها بكفها بينما وضعت الآخر على شفتيه لتهتف باستنكار:
_هتفضحنا ...اسكت ...اسكت !
لكنه قبل أناملها أمام شفتيه ليجذبها بين ذراعيه هامساً بنبرة عابثة :
_لسانك اتلسع؟!
_رامز!
هتفت بها باستنكار وهي تدفعه لتنظر نحو الخارج مردفة بعتاب:
_احنا مش في بيتنا ...لم الدور شوية .
مط شفتيه باستياء ليقول وهو يغلق باب المطبخ :
_طب اعمليلي شاي .
رمقته بنظرة متشككة لتقول ملوحة بسبابتها:
_افتح الباب!
_لا.
قالها وحاجباه يتراقصان بمشاكسة فزفرت بسخط مصطنع وهي تعطيه ظهرها لتعد له الشاي شاعرة به يقترب من ظهرها ...
_إيدي سقعانة !
يقولها بمسكنة مصطنعة لترد ببرود دون أن تنظر إليه :
_كوباية الشاي هتدفيها ..آه...
انقطعت عبارتها بشهقتها وهي تجده يضع كفيه قسراً في جيبي بلوزتها هي الأماميين ليلصق ظهرها به هامساً :
_بجامتي مالهاش جيوب .
_رامز!
تهمس بها باستنكار وهي تحاول إخراج كفيه العابثين من جيبيها لكنه يرد هامساً في أذنيها ببراءة مصطنعة :
_إيه ؟! مارضيتش أحطهم في جيوب البنطلون !

احترقت وجنتاها خجلاً وهي عاجزة عن الاستدارة نحوه بهذا الوضع فاكتفت بنظرتها الموبخة :
_انت مالكش فرامل ؟!...ده أنا قلت هتتغير واحنا مش في بيتنا .
_عذراً يا أخ بسطويسي ...شاب أرعن طائش تحركه غرائزه !
قالها مازحاً وهو يرفع أحد حاجبيه فابتسمت رغماً عنها وهي تدير رأسها لتصب له الشاي هاتفة :
_اتفضل شيل إيدك وخد الشاي!
_أمري لله !
قالها وهو يخرج كفيه من جيبيها ليتناول منها كوب الشاي الذي ارتشف منه رشفة قائلاً:
_تسلم الأيادي .
بينما سارعت هي تفتح الباب لتجد يامن في وجهها يقول ببشاشة :
_صباح الخير .
فازداد احمرار وجنتيها وهي ترد تحيته بارتباك بينما تلفت هو حوله ليسألها باهتمام :
_رانيا فين مش في أوضتها؟!
_صحيت من بدري راحت المصنع لنشوة ...هترجع ع المعاد ...أعمللك قهوة ؟!
_أنا هاعملله !
قالتها ياسمين التي ظهرت من خلفه ليلتفت نحوها بابتسامة حانية رغم مزاحه الساخر:
_يعني أخيراً هتحني عليّ وتدخلي المطبخ؟!

غمزت هانيا رامز لينسحبا تاركين لهما المزيد من الخصوصية بينما دخلت ياسمين المطبخ في جواب غير منطوق لسؤاله ليلحق هو بها مستمتعاً بذكرى الأيام الخوالي التي كانت تعد له فيها إفطاره ...

_وحشتني قهوتك .
قالها وهو يجلس على المائدة جوارها لكنها لم تلتفت نحوه وقد غابت في شرودها بعدما بدأت في إعداد القهوة ليسألها باهتمام:
_بتفكري في عابد ؟!
التفتت نحوه لتومئ برأسها إيجاباً قبل أن تقول بتأثر:
_لما شفته كإني قدام واحد مختلف ...شفت إزاي ماكانش عايز يسيبني من حضنه أول ما شافني؟!
_بلاش السيرة اللي تنرفز دي؟! أنا عارف إنه أخوكِ بس دمي فار لما شفتكم !
هتف بها بضيق حقيقي جعلها تبتسم وهي تقترب منه لتشير حولها قائلة :
_بتغير من أخ واحد وانت عندك مستعمرة ستات بحالها هنا؟!
_مابحضنش حد فيهم !
بعناد يقولها لتقترب منه أكثر قبل أن تنحني لتواجه وجهه بوجهها هامسة أمام عينيه :
_هو الحضن بالإيدين وبس؟! كل نظرة حنينة حضن...كل موقف احتواء حضن ...كل كلمة بتزعق فيها من خوفك عليهم حضن.
فابتسم بتأثر وهو يجذبها ليجلسها على ساقيه متخللاً شعرها بأنامله هامساً:
_أول مرة أحس إنك ممكن تغيري منهم !
لكنها أسندت رأسها على صدره لتهمس مغمضة العينين:
_فيه فرق بين اللي تحسه واللي تقدر تعبر عنه ...زمان مكنتش أقدر أقوللك لأني كنت حاسة إنه مش من حقي أغير عليك ...حاجة وسط حاجات كتير اتعودت أدفن إحساسي بيها ...
فرفع ذقنها نحوه لتفتح عينيها مع سؤاله :
_ودلوقت؟!
_دلوقت حاسة إنك بتحبني ...خلاص بقا من حقي أصرخ وأقول غيرانة ...من حقي أغلط وأقوللك سامحني وأنا عارفة إنك هتسامحني ...من حقي أخاصمك وأبعد وأنا عارفة إنك هتصالحني ...من حقي آخد زي ما بدي ...من حقي أحبك حب صح مش زي بتاع زمان .

ضمها بين ذراعيه أكثر ليهمس بدفء:
_كل حاجة فيّ من حقك...من قبل ما تطلبيها .
أغمضت عينيها على صورته ليصلها صوته بعدها يتنحنح مردفاً باهتمام :
_أنا فكرت أكلم عمي يستضيف عابد شوية في البلد ...
فتحت عينيها فجأة مصدومة بالاقتراح ليستطرد هو بحماس:
_فكري فيها كده هتلاقيها مفيدة من كل الزوايا ...أولاً هيريح أعصابه بعد اللي شافه ...ثانياً لو فيه فعلاً خطر عليه فهو متداري هناك ...ثالثاً هو قال إنه عايز يكمل دراسة علوم شرعية وانتِ عارفة إن بيت عمي لازق في بيت الشيخ "......" اللي الناس بتجيله من آخر الدنيا تتعلم ...وأفتكر إن عمي هيرحب بالفكرة جداً .

لكنها هزت رأسها لتقول بعدم اقتناع:
_بس انت عارف المستوى اللي كان عابد عايش فيه في ماليزيا ...تفتكر هيبقى مرتاح وهو عايش في قرية صغيرة من غير أي رفاهيات ؟!

فقرص أنفها مداعباً ليقول بثقة:

_هو محتاج الجو ده صدقيني ...محتاج يفصل ويرجع للطبيعة شوية ...وعموماً لو ماعجبوش الوضع يرجع ...أنا هاعرض عليه الموضوع لما أشوفه في كتب الكتاب !
ابتسمت وهي تومئ برأسها موافقة لتنساب على شفتيها رغماً عنها :
_شكراً يا طيب !
جلجلت ضحكته عالية بعدها بما أطرب قلبها وهو يضمها بشدة نحو صدره قائلاً باشتياق مسها بصدقه:
_والله زمااااان !
ثم مال على بطنها يقبله ليبسط كفه عليه هامساً كأنه يحدث ابنته :
_سامعة يا يمنى؟! أول مرة تسمعيها انتِ دي ...بس زمان ماكانتش بتبطل تقولها !
فاتسعت ابتسامتها وهي تريح كفها على كفه المبسوط على بطنها شاعرة براحة غامرة في هذا الوضع ...
راحة قطعها فوران القهوة التي سالت على الموقد لتشهق بارتياع وهي تحاول النهوض هاتفة :
_القهوة فارت!


لكنه يتشبث بها ليمنعها القيام هامساً أمام شفتيها بلهفة عاشقة :
_بلاها قهوة ...خللينا في النوتيللا!
=======














_بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير .

قالها المأذون وهو ينهي إجراءات عقد القران في بيت نبيلة ليصافح يامن مروان بحرارة قبل أن يقف ليجذبه في عناق طويل سبق قوله له بمزيج من حزم ورجاء:
_خللي بالك منها .

لكن مروان لم يكن يستمع وهو يشعر بالدنيا تدور من حوله ...
هل هكذا ببساطة تحقق الحلم ؟!
هل صارت حليلته حقاً؟!!
طنينٌ غريب يدوي في أذنيه فلا يمكنه سماع ولا رؤية غيرها ...
هي التي بدت له في هذه الليلة أجمل كثيراً مما حلم بها ...
ترتدي ثوباً عسلياً بلون عينيها ينساب برقة محتضناً تفاصيلها الشهية ،ووشاحاً بدرجة أغمق قليلاً وقد اكتفت من زينتها بطلاء شفاه ذهبي عذب جوارحه المشتاقة لكل ما فيها ...
الحمقاء لم تحدثه بكلمة منذ وصل !
إنها حتى لم تنظر إليه مطرقة برأسها كأنما هي مغصوبة على هذه الزيجة !

الخاطر الأخير أشعره بالضيق ليعقد حاجبيه بقوة وهو لا يفهم حقاً ماذا تخفيه عنه !
لأول مرة يشعر بغرابة تصرفاتها !
لو لم يسمع بأذنيه اعترافها بحبه ل"العاشق المجهول" لما صدق..
والخاطر الأخير يجعله يبتسم بسعادة بعد انعقاد حاجبيه السابق ليتفحص يامن ملامحه قائلاً بمشاكسة وهو يميل على أذنه :
_بتكشر وتضحك في نفس الوقت ؟! لا مش هاستغرب
خلاص بقا...دي أعراض القرب من داليا !

_وهو فين القرب ده ؟! مش شايفها قاعدة بعيد إزاي ؟! دي حتى ما سلمتش عليّ؟!
همس بها مروان في أذنه بسخط ليضحك يامن شامتاً قبل أن ينادي داليا ليهتف بها مشاكساً:

_ياللا يا عروسة عشان تلبسوا الدبل .

احمر وجه داليا وهي تقف لتتقدم نحوهم مطرقة الرأس فاضطرب مروان وهو يجد يامن يقف ليخلي لها مكانه ...
لكن داليا انتزعت الدبلة من مكانها لتلبسها بنفسها مانعة مروان من فعل ذلك !

_ماشاء الله ...العروسة شكلها خجولة قوي!

قالها المأذون ضاحكاً ليميل يامن على أذن مروان هامساً بشماتة ضاحكة :
_قابل يا عم قابل !

بينما كان مروان يغلي غيظاً وهو يراها لا تزال لا تنظر إليه حتى وقد عادت لجلستها البعيدة هناك حيث تجمعت حولها عائلتها تهنئها ...
فيما بقي هو واقفاً جوار يامن وحده فلم يستطع والداه الحضور خاصة مع الخبر المفاجئ !!

_معلش يا مروان ...دلوقت المولد يتفض ويسيبوك معاها لوحدكم ...وساعتها بقى يا حلو ...!!!

أفكاره العابثة تسليه لكنه ينتفض على تربيت يامن على كتفه مع قوله الضاحك :
_هتعرف تلبس الدبلة لوحدك واللا ألبسهالك ؟!
_لا ما انا هالبس ...هالبس يعني!
قالها مغتاظاً بنبرة ذات مغزى ليضحك يامن ضحكة عالية سبقت قوله :
_من ناحية لبست ...فانت لبست فعلاً!

_السلام عليكم .
قالها المأذون وهو يجمع أوراقه ليغادر فتأهب مروان منتظراً أن يتركوها معه وحدهما ...
لكن داليا وقفت فجأة لتمسك رأسها قائلة بوجع مصطنع:
_معلش مصدعة ...هادخل أنام !

_تنام ؟!
هتف بها سراً في استنكار وهو ينظر ليامن نظرة راجية لكن الأخير بسط كفيه باستسلام وهو يراقب عودة داليا لغرفتها التي أغلقت بابها خلفها ليعود ببصره نحو مروان قائلاً :
_نورتنا يا كبير ...والله يا واد وعرفت تنقي!

قالها وهو يخبط على عضده مازحاً لتقول نبيلة بارتباك :
_معلش يا دكتور ...هي فعلاً بقالها كام يوم ما بتنامش .
_أيوة وطلبت مني أقراص للصداع قبل ما تيجي .

قالتها رانيا كاذبة لتدافع عن شقيقتها فالتقطت منها الخيط هانيا لتهتف بسرعة :
_شكلها خدت برد عشان كانت مخففة امبارح .

لكن يامن رمقهن بنظرة تسلية قبل أن يقول لمروان بابتسامة عريضة :
_شكلها بتستهبل!

_يامن!
هتفن بها جميعاٌ باستنكار ليردف يامن وهو غير قادر على منع ضحكاته :
_ياجماعة هو مروان غريب؟! هو عارف إنها طاقّة ...
ثم التفت نحو صديقه الذي أخرسته الصدمة ليردف:
_هه ...تحب تروّح واللا تيجي أعزمك على سينابون
بالمناسبة اللطيفة دي؟!
الشماتة العابثة في نبرته جعلت مروان يلكمه في كتفه بغيظ قبل أن يعتذر منهم بنبرة مهذبة ليغادر تلاحقه ضحكات يامن الشامتة والذي لكزته ياسمين ليتوقف !!!

وفي غرفتها كانت داليا تستمع للحوار خلف الباب المغلق كاتمة ضحكتها بكفها ...
تعلم أنها تثير جنونه لكنها لم تسامحه بعد على كلماته التي قذفها في وجهها تلك الليلة ...
ولا على تخفيه طوال هذا الوقت خلف واجهة مجهولة !!

لكنها شعرت بخيبة حقيقية عندما غادر هكذا بسرعة وكأنما توقعت أن يتوسلها الحضور !!

لهذا زفرت بسخط من نفسها قبله ثم تحركت لتبدل
ملابسها وتستلقي شاردة على فراشها ...
هل غضب منها ؟!
هل سيخاصمها ؟!

_برضه مش هتردي ع التليفون ؟!
رسالته النصية وصلتها لتبتسم كالبلهاء وهي ترد برسالة مكتوبة :
_لا...تعبانة.
_كنتِ زي القمر النهاردة .
_عارفة.
لا تزال ردودها المقتضبة تثير غيظه فاستغل خبرته بها ليكتب :
_بس الفستان كان...وكمان لفة الطرحة...بصراحة...بلاش ...عشان متزعليش.
_كانوا إيه ؟!
كان يستطيع شم رائحة لهفتها المغتاظة في حروفها فضحك ضحكة عالية وهو يعاود الكتابة لها :
_مش وقته انت تعبانة...الف الف سلامة ...بالمناسبة أنا هاروح بكرة الصبح أنقي سيراميك العيادة ...لو هتبقي جاهزة الساعة عشرة هاعدي آخدك...سلام بقا الموبايل بيفصل شحن .
ولم يكد يرسلها حتى أغلق هاتفه ليضحك ضحكة عالية وهو يتصور ردة فعلها على ما كتبه !!
========
_صباح الخير.
قالتها داليا بعبوس وهي تستقل السيارة جواره في الموعد تماماً ليكتم ابتسامته وهو يرد باقتضاب مشابه :
_صباح النور .
لم يتبادل معها كلمة واحدة طوال الطريق مكتفياً باختلاس النظر نحوها ...
وجهها الخالي تماماً من الأصباغ...
وشاحها وردي الألوان..
معطفها الطويل الأرجواني على سروالها من الجينز ...
وأخيراً حذاؤها الرياضي بلونه الوردي الفاقع الذي تتحرك فوقه ساقها بعصبية ...
يعلم أنها قضت ليلتها تفكر في آخر رسالة أرسلها ...
عقاب مناسب لحماقاتها !
ربما لا يكون من الجيد دوماً أن ترتبط بشخص يفهم مفاتيح روحك كاملة !

انقطعت أفكاره عندما وصل بسيارته نحو المحل المنشود فترجلا منها ليتوجها نحوه ...
راودته نفسه أن يمسك كفها لكنه كان يعلم أنها في أعلى مستويات اشتعالها وقد تنفجر في أي لحظة ...
لهذا آثر السلم تاركاً لها حرية اختيار ما جاءا لأجله ...
ولم يكادا ينتهيان ليستقلا سيارته من جديد حتى بادرها بسؤاله بنبرة محايدة :
_تحبي تتفرجي ع العيادة كمان ؟!
_طيب!

قالتها بفظاظة ذكرته بصديقه ابن خالتها فكتم ابتسامته وهو يتحرك بالسيارة نحو مكان عيادته ...
ظهر الاهتمام على ملامحها العابسة وهي تميز المكان ...
بقعة شعبية الطراز لكنها نظيفة ...

البناية التي تحوي عيادته كانت حديثة الطراز نوعاً مما حمسها أكثر لأن تغادر السيارة وتتوجه نحوها سابقة إياه بخطواتها لتتوقف عيناها أمام يافتة بمدخل العمارة تحمل اسمه ...
وقفت أمامها وعيناها تلتمعان بفخر ...
هذا ...زوجها !
غداً سيكون أمهر طبيب في مصر بل في العالم !
هذا هو رجاؤها الذي لن ترضى له بأقل منه !!

_عاجباكي؟!
سألها ملاحظاً برضا خفي لمعة عينيها لترد باقتضاب دون أن تنظر إليه :
_كويسة .
ابتسم رغماً عنه وهو يستقل معها المصعد نحو العيادة التي فتح بابها قائلاً:
_اتفرجي عليها براحتك ...أنا هاستنى العمال اللي جايبين السيراميك هنا .


لم ترد عليه وهي تستكشف المكان بفضولها المعهود الذي خالطه الآن فرح غامر ...
تحمد الله أن المكان لا يزال في طور التشطيب ...
هنا يمكنها وضع لمساتها كاملة ...
سيبدأ هذه المرحلة وهي معه ...
تشاركه كل خطوة فيها !

الخاطر الأخير ملأها حماسة وهي تجوب المكان تتخيل لون الطلاء ...نوع الديكورات ...تصميم صالة
الانتظار ...وغرفة الكشف التي دخلتها لتتسع عيناها بقوة مع مرأى المشهد الذي تطل عليه ...
برج حمام كبير يعلو سطح المنزل المجاور !
هذا المشهد الذي خطف قلبها وهو يعيد إليها ذكريات قديمة ...
يالله!!
هل مضت حقاً كل هذه السنوات ؟!!

غابت في شرود طويل فلم تنتبه للوقت بينما وقف هو على باب الغرفة بعد انصراف العمال يراقبها في وقفتها بعينين دافئتين ...
شرودها الطويل أثار فضوله فاقترب منها بقلبه قبل قدميه ...
أنامله تتجرأ أخيراً لتحط على ظهرها برقة أجفلتها لترفع وجهها نحوه هامسة بانبهارها الطفولي :
_شفت المنظر جميل إزاي؟!

لكنه في هذه اللحظة كان يراها هي و قد احتكرت جمال العالم كله !
وجهها الذي طالما عشق تفاصيله الآن يراه أقرب ما يكون ...
أشهى ما يكون ...
عيناها اللتان تمزجان براءتها بشقاوتها تلتمعان الآن بلونهما العسلي في ضوء الشمس ...
أنفها المنمنم ...
وشفتاها المنفرجتان بانبهارها بما تراه !

_فعلاً...جميل.

همس بها بصوت مبحوح من فرط عاطفته بمراد غير مرادها تماماً ...
لتردف غافلة عما يعنيه :
_كان عندنا في بيتنا القديم واحد زيه ...كنت بطلع له مع ماما زمان .
_عارف.
يهمس بها وهو يقترب منها أكثر لكنها ابتعدت عن النافذة لتشيح بوجهها قائلة بنبرة عاد إليها عبوسها:
_لو خلصت ياللا نمشي .
_لسة زعلانة مني ؟!

يهمس بها ولازال كفه على ظهرها لتطرق بوجهها دون رد ...
فامتد كفه الآخر يحتضن وجنتها ليرفع وجهها نحوه مع استطراده :
_طب اديني فرصة أصالحك .

عيناها تشرقان بشمس عاطفتها ...
وعيناه تومضان ببرق عاطفته ...
شفتاه ترتجفان مع هدير قلبه الذي وجد صداه في قلبها هي الأخرى ...

_أنا عارف إن كلامي كان صعب يومها ...بس أنا وقتها كنت ...

قاطعت كلماته عندما بسطت أناملها على شفتيه قبل أن تحسم قرارها لتنزع عنها وشاحها بحركة مفاجئة تاركة لشعرها حرية الانسدال على ظهرها ...لتهمس بعدها بخفوت :
_ما أصدق قيلاً من شعر امرأة يروي تاريخ عاشقها ؟!

اتسعت عيناه بصدمة مأخوذاً من تصرفها قبل أن ينتبه لكلماتها ...
لا ...إنها ليست كلماتها هي إنها كلماته...
مهلاً...
كلمات العاشق المجهول لا مروان !!!


_انتِ عرفتي؟!
يهمس بها بصوت متحشرج وهو يقترب منها خطوة أخرى لتدمع عيناها وهي تجيبه بصوت متهدج:
_الصورة اللي بعتهالي كان فيها انعكاس للوحة في صالة بيتك شفتها يوم ما جيتلك عشان تساعد يامن ...يوم ما جيتلك الجمعية كان اليوم اللي عرفت فيه الحقيقة...كنت متلخبطة ...كل حاجة متلخبطة...كنت جاية عشان أواجهك وأزعقلك...لا...كنت ناوية كمان أضربك ...بس أول ما شفتك ...أول ما شفتك...

ارتجف صوتها أكثر ليرتعد جسدها معه فربت على كتفها مهدئاً لتردف مسبلة جفنيها :
_افتكرت كل اللي عملته عشاني ...غصب عني لقيتني بحضنك...ماتلومنيش ...جربت تلاقي حلم في خيالك فجأة بقى قدامك لحم ودم ؟!
_جربت.
يهمس بها بنبرة ذائبة وهو يقترب منها حد امتزاج أنفاسهما وقلبه يهدر في صدره حد الجنون ليردف :
_بس برضه مش هسامحك إنك ضيعتي جمال أول حضن بيننا .
ورغم أن حمرة وجنتيها المحترقتين كانتا تفضحان خجلها لكنها لم تستطع مقاومة شقاوة ردودها العفوية :
_ممكن تعوضه .

وكأنه ينتظر إذنها !!!
كفه المستريح على ظهرها يجذبها لصدره ليدفن وجهه بين خصلات شعرها فلا يدري أيهم يشتعل بها أكثر ...
أنفه الذي يتلمس عطرها ؟!
أنامله التي تغوص في شعرها؟!
أم شفتاه اللتان تتراقصان بجنون فوضوي فوق رأسها ووجنتيها لتفقدان رشدهما تماماً أمام شفتيها !!!

هل هكذا يكون مذاق الري بعد الظمأ؟!
شعور الدفء بعد طول برد ؟!
صوت الهديل بعد طول صمم ؟!!
بل هل هكذا تكون الحياة بعد طول عدم ؟!!

_مروان...انت بتعيط ؟!
تهمس بها أخيراً بارتياع بعدما أفاقت من سكرتها وهي تشعر ببلل دموعه على وجنتها لتمسحها بأناملها المرتجفة فيأخذ نفساً عميقاً ليعاود ضمها لصدره بقوة هامساً بصوت مرتجف:
_كنت عارف إن اللحظة دي هتيجي ...بس ماكنتش متخيل إنها هتبقى بالجمال ده .

ارتجف جسدها بتأثره وهي ترفع إليه عينيها التي لم تملك دموعها هي الأخرى:
_كنت واثق قوي كده ؟!
قالتها بمشاكسة حاولت بها مداراة خجلها ليضغطها بين ذراعيه أكثر هامساً :
_مهما عملتِ عمري ما كنت هاسيبك تبقي لغيري.

همساته تهدر كالرعد في أذنيها فتزلزلها بصدقها وحرارتها ...
تود لو تقول أنها تحبه فتخرج منها رغماً عنها بدلاً منها ...

_آسفة...أنا ...آسفة ...

تخرج ممتزجة بدمعها الذي تتلقفه شفتاه بنهَم قبل أن يحيط وجهها بكفيه ليهمس بين أنفاسه اللاهثة :
_مش دي يا داليا ...مش دي ...
تعض على شفتها وهي تدرك مراده لتبتلع غصة في حلقها لتخرجها أخيراً حارة ملتهبة ...
_بحبك .
لم ينتظرها لتكملها وكأنما أبى إلا أن تولد أول وآخر حروفها بين شفتيه هو...
يسمعها منها بطريقته وتعيدها هي بطريقتها ...
فنعم المتحدث والمستمع!!

يبتعدان أخيراً لكن روحاهما تمتزجان ...
تشعر به يرفع كفها الذي يحمل دبلته لينتزعها منه برفق قبل أن يلبسها إياها من جديد بنفسه مع وعود شفتيه التي انسابت دافئة على كفها كله ...ظاهره وباطنه ...
عشرات الوعود التي يتلقاها قلبها قبل بشرتها ...فتلهبه قبل أن تشعلها ...

جسدها يرتعد بانفعاله وهي تراه أكثر مشهد عاطفي تمنته لرجل يلبس امرأة خاتمه ...

_كده ...الدبلة بتتلبس كده .
يهمس بها بصوت لا تدري كيف يمزج قوته بارتعاشه ...
مزيج يبدو أنه لايتقنه إلا عاشق مثله !

لهذا ضمت كفه نحو صدرها لتهمس له هي الأخرى بمزيج دلالها وعشقها:
_أنا كنت فاكرة إني اتغيرت عشان كنت جنبي سواء كنت عارفاك واللا لأ ...بس إحساسي دلوقت بدبلتك في إيدي ...بإني بقيت شايلة اسمك ...ده أكبر سبب مخليني دلوقت عايزة أليق بيك ...عايزة أستاهل كل الحب ده .

ابتسامته تتوج شفتيه وهو يرفع كفها نحو صدره هو هذه المرة ليهمس لها :
_الحب ده تستاهليه من زمان ...مش محتاجة غير إنك تبقي انتِ وبس.

_ممكن أطلب منك طلب ؟!
تسأله بين رجاء وغنج لتمنحها عيناه وعده فتردف :
_ماتحرمنيش منه ...أنا حبيته زي ما حبيتك !

ينعقد حاجباه بدهشة للحظة قبل أن يفهم ما تعنيه ...
لتستطرد هي بنبرتها التي عادت إليها طفوليتها :
_خلليه دايماً يكلمني من نفس الحساب بالفصحى من وقت للتاني ...يسأل عليّ ...أجري عليه أحكيله يومي كله ...وأشتكيله حتى منك لو زعلتني !

أغمض عينيه بقوة لتسيئ فهم ردة فعله فتهتف بانفعال :
_أنا مش مجنونة أنا بس ...
_أنا اللي مجنون يا داليا ...
يقاطع بها كلماتها لتنتهي حروفه بين شفتيها :
_مجنون بيكي .
==========


على اليخت الخاص به وقف حسين يراقب عبر منظاره ...
عملية "الوداع" كما أسماها !!
ابتسامة ظافرة ترتسم على شفتيه وهو يتذكر كيف تمكن من إخراس كل صوت هدد بسقوطه ...
البقاء للأقوى ...
وهو دوماً كان الأقوى!!

لكنه تخير الاكتفاء بهذا الحد من أعماله خلف الستار ...
لن تسلم الكرة كل مرة كما يقولون !

ابتسامته الظافرة تتسع وهو يرى السفينتين هناك تقتربان بحمولتهما ...
بقيت الخطوة الأخيرة ويشرب نخب النصر!

_انت جايبنا هنا ليه النهارده ؟!
تسأله شوشو خلفه بابتسامة رقيقة زادت فتنة ملامحها ليلتفت نحوها قائلاً بلهجة عابثة :
_مش قلتيلي إنك بتحبي البحر ؟!
_جداً .
قالتها بعينين تلتمعان غموضاً لم يفهمه فاقترب منها أكثر ليمسك كتفيها لكنها ابتعدت تمنعه بقولها المتدلل:
_مش قلنا مفيش حاجة قبل الجواز ...هانت كلها يومين ونكتب الكتاب زي ما وعدتني .

ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة من سذاجتها وهو يقارن صورتها هذه بصورتها في أول مرة استقبلها في مكتبه عندما تعمد سكب المشروب فوق ثيابها ...
كيف لحق بها في حمام مكتبه الذي أغلقه خلفه ليبدأ في مغازلتها بما كان واثقاً أنه أطار صوابها ...
يومها تعمد أن يجتذبها بالطريقة الأحب لقلبه ...
ببطء لكن بثبات كما يقولون ...
لهذا اكتفى وقتها بإلقاء الشباك ليتركها تغادر مكتبه محتفظاً بذكرى بسيطة منها ...
وشاحها الذي نسيته خلفها واحتفظ به في درج مكتبه !!

الحمقاء تظنه يحبها ويريد الزواج منها ...
ولا تعلم أنه يعد لها مفاجأة في شقته الخاصة بعد يومين فقد بدأ يشعر بالملل خاصة واشتهاؤه لها يزداد يوماً بعد يوم ...

_أكيد يا حبيبتي ...مش قادر أصبر لحد ما تبقي ...

صوت إطلاق نار قريب يقاطع عبارته لينتفض مكانه قبل أن يرى عدداً من المراكب يقترب منه مع الصوت الذي صدح حوله :
_سلم نفسك يا حسين ....رجالتك وبضاعتك معانا.

عيناه تتسعان بصدمة مع وجهه الممتقع وهو يسمع تبادل إطلاق النار بين الجانبين ...
قدماه تتجمدان وخوفه يمنعه حتى محاولة الهرب ...
وفي ثوانٍ كان محتجزاً بين أيديهم يطالعهم بنظرات مصعوقة لتقترب منه شوشو قائلة بظفر:
_معلش يا حسين بيه...مايقع إلا الشاطر ...



التفت نحوها بنظرة حادة لتردف بابتسامة بائسة :
_كل حاجة كانت محسوبة...من أول تقربي لهيثم عشان يبقى سلمتي ليك ...وبعدين زيارتي ليك في المكتب عشان أزرع جهاز التصنت ...وبعدها انت سهلت بقية
الأمور بطبعك ال(...)!

أطلق سبة بذيئة وهو يحاول التحرر من محتجزيه مهدداً بعبارات صارمة :
_اللي زيي ما بيقعش ...هتدفعوا كلكم تمن اللي عملتوه .
لكنها أعطته ظهرها لتغادر المكان كله بخطوات قتلها حزنها !!
لقد كسبت الصراع ونجحت المهمة ...
لكنها يقيناً خسرت قلبها ...
قلبها الذي تورط رغماً عنها في حب ابن ذاك الرجل ...
"هيثم"!
===========
انتهى الفصل الحادي عشر






القطعة الحادية عشرة
=========

_معقول؟! ده نفس اسمك يا هيثم !

تناول منها هيثم البطاقة ليتفحصها باستنكار لم يلبث أن تحول لعدم تصديق ...
بينما رمقته لجين بنظرة رعب قبل أن تختطف منه البطاقة لتعدو بخطوات راكضة تهبط الدرج ...
حسين سيقتلها ...
بل سيقتلهن جميعاً!!
أجل ...كان هذا هو الاتفاق القديم بينهن وبينه...
ألا يعرف أحد عنهما شيئاً!!!
"ابنه" سيخبره !
"ابنه" الذي في ظروف غير هذه كانت لتفتخر بكونه أخاها !!
دموعها تنهمر على وجنتيها كالسيل وهي تشعر بالقهر أكثر ...
ألا يكفيها اكتشاف ياقوت لعارها ...
والآن ؟!!

_استني !
هتف بها هيثم وهو يلحق بها عدواً ليقف أمامها في مدخل البيت ورد فعلها يغنيه عن الجواب ...
يتفحص ملامحها بعدم تصديق ...
هي تشبه والده حقاً ...لكن ...معقول؟!

_انتِ مين ؟! وبتجري ليه ؟!!
يسألها بحروف مرتجفة لترفع إليه عينيها الغارقتين بين ذعرها وقهرها قبل أن تهز رأسها نفياً لجريمة لا تعرفها ...
فلم يملك أن هتف فيها بألم يمتزج بذهوله :
_انتِ فعلاً بنته ؟!

الكلمة الأخيرة التي بدت في أذنيها غريبة ...مفزعة...متوعدة بعقاب لا تدري كيف ستواجهه ...
ليلحقها بكلمة أخرى :
_أختي!
وشتان بين كلمة وكلمة !!
الكلمة الأخيرة جعلت نظرتها المرتعبة تتفحصه بعينين متسعتين ...
ترتجف شفتاها وهي تتساءل ...
هل ورث من حسين جبروته ؟!
هل يستنكف أن تكون له أختاً مثلها؟!
هل سيؤذيها رغبة منه في إبعادها ؟!!
والجواب جاءها في حروفه المرتجفة بعدها :
_أرجوكي بطلي عياط وردّي ...أنا عايز أعرف الحقيقة .

لكنها تشهق كاتمة بكاءها لتتجاوزه بخطوات راكضة مكنتها من الهروب من عينيه مختفية في زحام الطريق ...

تلفت حوله أخيراً بتشتت وهو لا يفهم ماذا يحدث ...
كيف ظهرت هذه وكيف اختفت ؟!
والده ؟!
هل يخفي حقاً هذا السر؟!!

يشعر بها خلفه فيلتفت ليجد شوشو ...
عيناها الحزينتان ترمقانه بنظرة آسفة مشفقة فيهتف بها بدهشة مستنكرة :
_بتبصيلي كده ليه ؟! انتِ مصدقة ؟! مصدقة إن بابا اللي شفتي بعينك بيحب ماما أد إيه ممكن يكون متجوز من وراها ؟! ومخلف بنت بالعمر ده ؟!!

لم يستطع تصديق السخرية المريرة التي كست وجه شوشو قبل أن تشيح بوجهها لتقول باقتضاب:
_مش محتاجة حيرة...كل حاجة واضحة بس انت محتاج تفتح عينيك.
_قصدك إيه ؟!
يسألها بارتياب لكنها تعطيه ظهرها لتعود لبيتها تاركة إياه تائهاً وسط الطريق !!
ماذا يفعل الآن ؟!
هل يذهب لوالده ويواجهه ؟!
هل يخبر أمه ؟!!
لا...
لن يستطيع فعلها !!
لن يتمكن من هدم البيت الذي طالما تفاخر بقوة ببنيانه!!
إذن ...ما الحل ؟!!
أجل ...ليس هناك سواه ...
إسلام !!
=========










_غادة.
يهتف بها أحمد وهو يفتح لها ذراعيه لتعدو نحوه بلهفة ...
كم اشتاقت هذا العناق!!
تبكي وتضحك ولا تدري أي شعور يتملكها ...
لكنه يقبل رأسها ليمسد على شعرها قبل أن ينظر لعينيها نظرة طويلة عميقة ...
ثم تناول كفها ليفعل أغرب ما توقعته ...
لقد كان يخلع عنها دبلته !

_أحمد !
تهتف بها بارتياع ...باستنكار ...برجاء ...
تحاول منعه وجذب كفها لكن جسدها كله فقد حركته ...
تناظر دبلته المخلوعة في راحته لكنه يبتسم وهو يلوح لها ليبتعد ...

_أحمد !
تعاود نداءها الراجي وهي تحاول الحركة دون جدوى لتلمح طيفه يبتعد وسط الغيوم البيضاء ...

_افرحي يا غادة ...عيشي حياتك بقا ...سيبي لقلبك باب مفتوح يكمل بيه طريقه ...

صوته يدوي من حولها لكنها لا تراه ...
فتعاود نداءه مرة بعد مرة ...
ها هو ذا يعود من خلف الغيوم البيضاء ...
تبتسم وهي تراه يقترب من جديد ...
مهلاً ...
إنه ليس أحمد !
سيف؟!!
سيف يمسك دبلة أحمد في راحته المفرودة ويتقدم بها نحوها !!
أين أحمد ؟!!
_أحمد !

صوت نداءاتها يتوارى خلف صفير غريب تميزه حولها ...
حلقها جاف بشدة ...
تحاول فتح عينيها لتميز أضواء غريبة ...
الرؤية تؤلمها فتعاود إغماضهما ...

_غادة !

الصوت هذه المرة ليس لأحمد ...
إنه صوت سيف !!
تسمعه جوارها لكنها لا تراه !

_افتحي عينيكي ...فوقي ...أبوس إيدك ماتخلينيش أعيش الكابوس ده تاني!

صوته الملهوف الراجي يختلف كثيراً عن تحفظه المعهود معها ...
أين هي؟!!



_مش قادر أعيش نفس التفاصيل مرتين ...كانت نفس المستشفى ...نفس الليلة الباردة ...نفس صوت الشتا ...نفس الخوف والعجز وأنا متكتف مش قادر أعمل حاجة ...هي مشيت وسابتني ...أرجوكِ انتِ ما تسيبينيش !

لا ...ليس حلماً!!
هي تميز صوته حقيقة وسط كل هذا الضباب ...
رغم "التنميل" الذي تشعر به في جسدها كله لكنها تشعر أن ما تسمعه حقيقي...

_انتِ عارفة إنك شبهها قوي ؟! من أول يوم شفتك فيه وأنا حاسس إن روحها فيكي ...مش عارف ده حقيقي
واللا قلبي اللي كان بيدور على عذر عشان يبرر إنه اتعلق بيكي كده رغم إصراره إنه يقفل بابه بعدها ...يمكن عشان كده هاجمتك قوي أول مرة اتقابلنا هنا ...يمكن عشان كده كنت بهرب من إني أشوفك بعدها ...كنت خايف أعترف لنفسي قبل ما أعترفلك ...إني ...


صوته المتهدج بانفعاله ينقطع في أذنيها المرهفتين لما تسمعه ...
لماذا سكت ؟!!
أين هي؟!
أين علاء وإيناس؟!!
علاء!!
البازار ...الشجار ...الرجل ...المدية المتجهة نحو صدرها !!
وعيها يعود إليها تدريجياً لتشهق شهقة عالية وهي تفتح عينيها فجأة لتلتقي بعينيه الدامعتين المحدقتين فيها ...
قبل أن تراه ينتفض مكانه ليهتف بفرحة أرجفت صوته وأرجفتها هي قبله :
_فاقت ...الحمدلله .

وعبر عينيها نصف المغمضتين تراه يسجد فجأة شكراً في مكانه في تصرف لم تره من قبل ...
لينهض بعدها بسرعة ويفتح باب الغرفة منادياً علاء !
======

يومان مرا بها بعد استردادها لوعيها لتدرك ما حدث في ليلتها ...
إيناس أخبرتها أنهم أنقذوها بمعجزة بعد فقدها الكثير من الدماء ...
لكن سيف تبرع لها بدمه !
الفكرة -على شيوعها - تمنحها شعوراً خاصاً بالحميمية رغم أنها تعلم أنه تصرف منطقي لرجل بشهامته ...
شعوراً تزيده ذكرى ما سمعته منه يومها وهو يظنها لا تزال في غيبوبتها ...
رباه !!
هل من الممكن أنه يح...؟!!
انقطعت أفكارها عندما فتح باب غرفتها في المشفى لتعتدل في جلستها على سريرها وهي تراهم يدخلون جميعاً ...
علاء وإيناس وسيف ...و...إسلام !!!
الأخير الذي بدا شديد الارتباك وكأنما يخجل من وجوده معهم الآن بعدما رفضته ...
كما يخجل من تركهم وحدهم في الظروف ...
لهذا غمغم بنبرة متحشرجة متحاشياً النظر نحوها :
_حمداً لله على سلامتك .
ردت عليه بعفوية مقتضبة وهي تنقل بصرها لإيناس التي لم ترها منذ أفاقت إلا باكية وكأنما ذكرها الحادث بفقدها لابنها ...

_خلاص يا "أنّا" بطلي عياط ...الحمدلله قدر ولطف!
قالتها بصوت لا يزال وهنه يفضحه لكن إيناس لم تجد رداً سوى عناقها الملهوف لها وسط دموعها الجارية ...

_لحد دلوقت مش مصدق إنك عملتيها ...عشاني!

الكلمة الأخيرة تحشرجت في حلق علاء الذي بدت الدموع غريبة على وجهه المرح دوماً ...
لو كان الأمر يحل له لاحتضنها كما تفعل إيناس مستجيباً لفيض شعوره نحوها ...
_أنا بنتك...مش دايماً تقوللي كده ؟!
قالتها غادة ببعض المرح وهي تنظر إليه فوق كتف إيناس التي تضمها ليهز علاء رأسه وهو يمسح طرف عينه بخفة ليجاريها في مرحها بمشاكسته المعهودة :
_كنت هاجيب بنت زي القمر كده منين ؟! ما انتِ شايفة أهه !
قالها مشيراً لإيناس التي جففت دموعها لترد مزاحه بدورها وهي تلتفت نحوه بقولها :
_نعم ! أكونش متجوزة عمر الشريف ومش واخدة بالي؟!
_أهه...أهه...آخر حاجة توعى عليها عمر الشريف !!...ست من العهد البائد تاريخ صلاحيتها خلصان ومجاملين فيه كمان !
_علااااء!
_إيناااااس!!

انطلقت ضحكاتهم جميعاً عالية لتشاركهم فيها غادة ببعض الألم الذي شق صدرها لكنها كتمته وعيناها تنسحبان رغماً عنها للوحيد الصامت هاهنا ...
والذي تنطق عيناه بكل صخب !!
"الحزن الأخرس" في حدقتيه يمتزج الآن بلهفة يراها قلبها وينكرها عقلها ...
متى ولماذا وكيف؟!
تراها كانت تتوهم حديثه الذي سمعته كما كانت تتوهم رؤية أحمد ؟!!
أحمد ؟!
أين دبلته ؟!!
رفعت كفها بسرعة نحو عينيها لترى إصبعها الخالي فترتجف عيناها بنظرة ذعر قرأها الجميع لكن سيف تنحنح بخشونة ليقول دون أن ينظر إليها :
_شالوها قبل العملية ...هاروح أجيبهالك !

قالها وهو يتحرك بخطوات مهرولة مغادراً الغرفة ليعود
علاء وإيناس لمشاكساتهما التي شاركهما فيها إسلام هذه المرة محاولاً تخطي حرج وجوده هنا معها ...
بينما شردت هي ببصرها وهي تستعيد مزيج رؤياها- التي كانت شديدة الشفافية حقاً كأنها عاشتها بروحها - مع حقيقة ما سمعته منه وقتها ...

صوت رنين هاتف إسلام يصدح جوارها فتسمعه يعتذر منهم ليخرج قبل أن تقول إيناس لها بينما تربت على كتفها :
_مش عايزة أسيبك بس هاروح المزرعة أجيب لك شوية حاجات وراجعة.
_هو أنا هاطوّل هنا؟!
تسألها بقلق ليرد علاء بحنانه يطمئنها:
_مش هتخرجي غير لما نطمن عليكي خالص .

ابتسمت له بشرود عبر أفكارها الذي قاطعه دخول ممرضة ما كي تركب لها محلولاً وريدياً قبل أن تطلب من علاء مرافقتها للخارج لبعض إجراءات المشفى فيما بقيت هي وحدها لدقائق التهمها المزيد من شرودها الذي قطعه دخول سيف أخيراً ...
عيناها تتعلقان براحته المفرودة التي تحتضن دبلة أحمد ...
تماماً كما رأته في حلمها!!
لهذا دمعت عيناها رغماً عنها وهي تتناولها منه لتعيدها مكانها في إصبعها قبل أن تغمض عينيها بقوة تناسبت مع خفقان قلبها الجامح ...بينما كان هو غارقاً في تفاصيلها بكليته وهذه الحركة الأخيرة منها تملأه بمزيج من غيرة وإعجاب ...

_انتِ شجاعة قوي.


يقولها أخيراً مطرق الرأس بنبرته المتحفظة كعهده وهو يجلس على الكرسي جوار سريرها لتبتسم هي بينما
تلاحظ احمرار أذنيه وأنفه كعادته وهو يردف:
_وقفتي للبلطجي ده يومها ...وأنقذتي عمو علاء ...
ثم غلبته ابتسامة ليستطرد ولايزال يتحاشى النظر نحوها:
_بصراحة مستغرب إنك شبهتي نفسك مرة بالأرنب الخايف ...انتِ فعلاً قوية .
فاتسعت ابتسامتها وهي ترد بشرود :
_ده فرق التجربة ...انت عارف إن دي تاني مرة يتكتب لي فيها عمر جديد ؟!
هز رأسه وهو يتذكر ما حكاه له رامز عنها لتردف هي ببعض المرح:
_واضح إن مكتوب عليا حد من عيلتكم ينقذني ...المرة اللي فاتت رامز والمرة دي انت ...قالولي إنك اتبرعت لي بالدم .

ورغم امتنانه لأنها لم تشر لماضيها مع رامز إلا بالجزء الحسن كما يفترض ب"بنت أصول"...
لكنه لم يملك غيرة خانقة اشتعلت بداخله رغم كونها غير منطقية ...
لكن منذ متى يرتبط شعوره بها بشيئ منطقي؟!!

هو الذي كان كالمجنون عندما سمع عن إصابتها يكاد يراها بعين خياله تلحق بآنجيل وتتركه ...
ساعتها فقط أن شعور قلبه لا يقبل تأويل ...
أنه ...يحبها!
لكن ...ماذا عساه يجدي الاعتراف الآن وبينهما لا تزال العراقيل ...
ذنب آنجيل ...وفاؤها لأحمد...و...إسلام !!
إسلام الذي لا يزال متخبطاً بشعوره نحوها هو الآخر لا يحجمه سوى رفضها هي !!

_شكراً .
تقولها برقتها ذات الدلال الفطري فتنتزعه من شروده ليجد الجرأة أخيراً فيرفع إليها عينيه بقوله المتحشرج:
_أنا اللي بشكرك...إنك خلتيني أقدر أعمل حاجة المرة دي .


اكتسح التأثر ملامحها مع "الحزن الأخرس" الذي عاد يصرخ في حدقتيه ...
تود لو تستنطقه عن حقيقة ما سمعته منه وقتذاك ...
لكنها تدرك أن طبيعته الكتومة المتحفظة لن تمكنها مما تريد ...

_آسفة لو الموضوع فكرك بالجرح القديم .
_وأنا كنت نسيته ؟!
غمغم بها بألم مذنب لتراودها نفسها بكذبة بيضاء تتيقن بها مما سمعته منه :
_"أنّا" قالتلي إن آنجيل كانت هنا برضه في نفس المستشفى.


أومأ برأسه مجيباً لتتسع عيناها بإدراك ...
هي لم تكن تحلم !!
هو حقاً باح بما سمعته منه !!!

_عمري ما هانسى اليوم ده ...سيناريو بيتكرر قدام عيني كل دقيقة ...وشها الشاحب ...شفايفها الزرقا...نفَسها اللي بتاخده بالعافية ...وآخر كلام قالتهولي ...إنها راضية يكون عمرها التمن اللي تدفعه عشان تكفر عن غلطها ...عشان أصدق إنها فعلاً حبتني .

يقولها بصوته المتهدج الذي فاض بمزيج الألم والذنب وعيناه رغم تسلطهما على ملامحها هي لكنها كانت تشعر بقلبها أنه لا يراها هي الآن ...
بل يرى صورة ماضيه ...
عاصفة هوجاء من مشاعر تجتاحها وهي لا تدري كيف تصفها ...
جزء منها يشعر بالسعادة...هذه السعادة عالية النغمة التي لا تملك فيها نبض قلبك ولا ضحكة تطلقها روحك دون صوت ...
سعادة لا يفسرها سوى سبب واحد ...
أنها تحمل له نفس الشعور الذي يحمله نحوها ...
لكنها سعادة غير نقية تلوثها شوائب مشاعر أخرى ...
الخوف من ماضيه ...
الخوف من غدها ...
والذنب الذي يلطخ وفاءها لأحمد !!
"الحي أبقى م الميت"!
طالما كرهت هذه العبارة!
طالما احتقرتها وهي تشعرها أن الوفاء بضاعة رخيصة في هذا الزمان !
فهل سترضخ لها الآن ؟!!

ربما لهذا اسود وجهها فجأة بظلمة شعورها لكن غادة المستحدثة لم تكن لتدع ضعفها يهزمها لهذا حولت الحديث لقولها:
_ما فكرتش تعمل لها حاجة بعد موتها تنفعها ؟! حجة مثلاً ؟! صدقة ؟! مشروع خيري ؟!
كانت عيناه تتسعان باستغراب مع تساؤلاتها لتقرأ فيهما الجواب بالنفي فتردف:

_زي ما توقعت ...الشيطان شاطر يدخللنا من أضعف أبوابنا ...يشغلك بإحساس الذنب عن إنك تعمللها حاجة حقيقية فعلاً تنفعها .

ابتسم ابتسامة إعجاب فاضت في عينيه واخترقت قلبها كقذيفة ...
لماذا يتحدث رجل كهذا؟!
لماذا يحتاج أن يتحدث ؟!
كل مشاعره تصرخ على ملامحه بمنتهى الوضوح!!
عيناه لا تغازلان جمالها بل تتولهان بروحها ...
ربما لهذا لا تجد نظراته منفرة لامرأة بتاريخها ...
ربما لهذا تشعر أنها ...
أنها ....
صعب!
الاعتراف صعب ولو سراً!

_معاكي حق...انتِ ...انتِ...
ارتبكت كلماته بعدها وكأنه لا يجد تكملة للعبارة ليختار ما تبادر له :
_كويسة .

انفلتت منها ضحكة آلمت جرحها وخطفت قلبه هو!!
جعلته يبتسم بخجل لم تعد تستغربه مع استطراده :
_كويسة جداً...بتعرفي ...ت...

ارتباكه يزداد مع اتساع ابتسامته الخجول التي خطفت قلبها هي الأخرى ...
كلاهما خاطف ومخطوف ...
جاذب ومجذوب ...
فلا بادي ...ولا أظلم !!

_أنا شفتك بتسجد شكر لما فقت .

شعرت بالندم فور ما تفوهت بها وكأنما غافلها قلبها ليجريها على لسانها ...
قلبها الذي كان يتقافز فرحاً وهو يرى أثر كلماتها على
ملامحه التي أذابها ارتباكها :
_آه...طبعاً...أكيد...عشان...عشا� � عمي علاء و"أنّا" كانوا هيموتوا م القلق ...

رنين هاتفه أنقذه من فوضى مشاعره فالتقطه بسرعة ليستمع قليلاً قبل أن يغلق الاتصال ليلتفت نحوها بقولٍ حمل في أذنيها حناناً غريباً على طبيعته المتحفظة :
_فيه مفاجأة حلوة ...

رمقته بنظرة متسائلة ليبتسم ابتسامة نقية وهو يقف مكانه ليتوجه نحو باب الغرفة الذي فتحه كاملاً ليطل من خلفه الوجه الحبيب :

_هانيا؟! معقول جيتي؟!

هتفت بها غادة بفرحة كادت تخلع قلبها وهي تحاول النهوض لكن وجعها منعها فيما اندفعت نحوها هانيا تحتضنها متحاشية مكان إصابتها ...

_وحشتيني قوي ...بحمد ربنا إني فكيت الجبس مخصوص عشان أعرف أحضنك .

تهتف بها هانيا عبر فيض دموعها ليهتف رامز خلفها:
_لاحظي إن كلامك جارح ...معاكي واحد بيغير هنا .

ابتسمت غادة وسط دموعها لترمقه بنظرة مرتبكة مع قولها:
_تعبتوا نفسكم ليه ؟!
_ماقدرتش أمسك نفسي لما سيف قاللنا ...حمداً على
سلامتك يا حبيبتي!
_حمداً لله ع السلامة ياغادة .

يقولها رامز بجدية وعيناه تنتقلان بتفحص بينها وبين شقيقه الذي بدا مأخوذاً بها حقاً ليشعر بصدق حدس هانيا عن عاطفة ما تنسج شباكها بينهما ...
خاصة وهو يلمح لمعة عيني شقيقه مأسوراً بالفرحة الناطقة في عيني غادة التي كانت تهتف بانطلاق:
_شكراً يا هانيا إنك جيتي ...شكراً يا رامز عشان سمحتلها ...
_مفيش شكرا يا سيف عشان هو اللي جابنا على ملا وشنا ؟!

يسألها رامز ببعض المكر وهو يرمق شقيقه بنظرة عابثة لتبتسم غادة بخجل جعل هانيا هي الأخرى تقلب بصرها بينهما برضا خفي ...
رغم الرعب الذي عاشته منذ سمعت الخبر لكن شعورها بقلق سيف المبالغ فيه أنبأها أنه يحمل لصديقتها مكانة خاصة حقاً ...
صديقتها التي كانت ملامحها هي الأخرى ترسم لوحة واضحة لمشاعر تجاهد لإخفائها ...
لوحة لم يتبينها رامز وهانيا فحسب ...
بل إسلام الذي كان واقفاً على مقربة منهم يراقب الموقف كله من بدايته وشعور بالغدر يقصف قلبه ...
سيف فعلها ؟!!
========
_كانت حلوة حركة إنك تجيب أخوك وصاحبتها !
قالها إسلام بنبرة غامضة مخاطباً سيف وهو يقود بهما سيارته ليرد الأخير بتحفظ :
_هانيا مااستحملتش بعد ما سمعت الخبر ...هي اللي ...
_مفهوم ...مفهوم ...انت بريئ ما عملتش حاجة!
هتف بها إسلام ببعض العصبية ليلتفت نحوه صديقه هاتفاً بضيق:
_فيه إيه ياابني انت ؟! بتخانق دبان وشك من ساعة ما خرجنا من المستشفى ...عرفنا إنك بتحبها وقلقان عليها !

هنا أوقف إسلام السيارة فجأة لتصدر صريراً مفزعاً جعل سيف يصدر صيحة استنكار قبل أن يهتف الأول بحدة وهو يلتفت نحوه :
_كويس قوي إنك فاكر إني بحبها ...ياصاحبي!
_قصدك إيه ؟!
غمغم بها سيف بارتباك ليهدر فيه إسلام بعنف :
_أنا مش عبيط ولا لسه هاعرفك النهارده ...إيه اللي بينك وبين غادة ؟!

كز سيف على أسنانه بقوة لتتسع عينا إسلام بصدمة وهو يمسك بتلابيبه هاتفاً بعدم تصديق:
_ما بتردش ليه ؟! قول إني بخرّف...إني فهمت غلط ...إنك صاحبي ومش ممكن تبص لواحدة قلتلك إني عايز أتجوزها ...
ثم صرخ فيه بعدها بحدة :
_قول إنك مش ندل!!
دمعت عينا سيف ووجهه الصارخ بانفعالاته يناقض تيبس جسده بين قبضتي صديقه ...
هل يلومه ؟!
إسلام محق!!
هو خانه بل وخان نفسه عندما ...
عندما ماذا ؟!
هل يجرؤ على الاعتراف الآن ؟!!

_إسلام ...أنا ...أنا لسه بحب آنجي.

لا لم يكن كاذباً في عبارته ...
آنجيل ستبقى ندبة بقلبه لن تمحوها امرأة بعدها ...
لكن ...ماذا عن غادة ...
هل يجرؤ أن يعترف بنفس الأريحية أنه "لا يحبها"!!!




_دي الحدوتة اللي لفيت بها دماغ غادة ؟! واحدة أرملة لسه وفية لجوزها ...مين أنسب لها من واحد زيها بنفس ظروفها ؟!!...هو ده المدخل اللي وصلتلها بيه ؟!!
هتف بها إسلام وجحيم غضبه يعميه عن رؤية الحقائق ...
ليهتف به سيف بحدة :
_اخرس ...انت عارف كويس إني مش بتاع مداخل ولا حركات ...ولا ليّ في فيلم الستات ده أصلاً.

ضحكة عصبية ساخرة كانت جواب إسلام الذي أطلق سراحه من بين قبضتيه ليشيح بوجهه للحظات طالت ...
قبل أن يغمغم بتهكم مرير:
_ما هو ده اللي قاهرني...مالقيتش من ستات الدنيا غير دي يا صاحبي؟!

انفرجت شفتا سيف وكأنه على وشك الصراخ بشيئ ما لكنه لم يستطع ...
بماذا يدافع؟!
هو حتى لا يجرؤ على البوح بمشاعره نحوها !!
هي معضلتها الخاصة بها دوماً ...
دوماً يلقاها وهي تخص رجلاً غيره ...
مرة أحمد ...ومرة إسلام...
لكن من قال إنها تخص إسلام؟!
ألم تعلن رفضها له ؟!!
حسناً...هل يجرؤ على قولها له الآن؟!!

_انزل يا سيف ...أنا خلاص فهمت .

يقولها إسلام دون أن ينظر إليه وقد أدرك من صمت صديقه أن ما يخفيه أعظم من أن يقال ...
أدرك أن سيف بطبيعته الكتومة لن يبوح بالمزيد ...
لكنه لم يخطئ في قراءة ما كان بينه وبين غادة !

_إسلام...ماتفهمش...
_قلت لك إنزل وسيبني دلوقت .
قاطعه بها إسلام بخشونة ليرمقه سيف بنظرة أسف طويلة قبل أن يغادر السيارة ليرحل وعينا صديقه تتابعان ظهره المنصرف بمزيج من غضب وأسى ...
مشاعره كانت تتأرجح بين أقصى اليمين وأقصى اليسار ...
غضب من فقده لغادة...
صدمة من ميل سيف نحوها ...
غيرة من تفضيلها له عليه هو ...
وخوفٌ من أن يخسر صديقه وعائلة علاء التي يعتبرها عائلته الحقيقية هنا ...
الغريب أن الشعور الأول كان أضعفهما ...بينما كان الأخير أكثرهما طغياناً !!
أجل ...خسارته لغادة كان قد بدأ يتقبلها بعد رفضها القاطع له ...
لكن كابوس فقده لصديقه وعائلته هنا بعد انقطاعه عن عائلته بمصر هو ما يروعه حقاً !!
عائلته التي اختار الابتعاد عنها بعد صدمته في أبيه وخوفه من مواجهة أمه ...
إحساسه الممزق بين أن يبوح فيهدم البيت "السعيد"...
أو يصمت فيتواطأ مع أبيه في ما يفعله خلف الستار !!
وكالعادة ...اختار الأسهل ...أن يهرب!!


صوت رنين هاتفه يقاطع أفكاره فيلتفت نحوه لترتسم على شفتيه ابتسامة تهكم :
_مش وقتك خالص يا هيثم .
يقولها متجاهلاً الرد لكن الرنين يعود مرة تلو مرة فينعقد حاجباه بقلق حقيقي وهو يفتح الاتصال قبل أن يستمع من شقيقه لما يريد قوله ...

_أوبا...انت كمان عرفت ؟!
يقولها بذات التهكم المرير ليهتف هيثم من الجانب الآخر
للاتصال:
_وانت عارف من زمان وساكت؟!
_عايزني أعمل إيه يعني؟! أقول لجيلان هانم اللي طايرة بيه في السما عشان تروح فيها ؟!
قالها بمزيج من غضب وحسرة ليردف بشرود :
_أبوك له بنتين مش بنت واحدة ...سمعته بيكلم واحدة فيهم في التليفون في مرة ...
صيحة هيثم المستنكرة اخترقت شروده ليردف بسخرية :
_خد بقا المفاجأة الأكبر ...بنات الخدامة...شفت ذوق أبوك ؟!
صمت هيثم مصدوماً لدقيقة كاملة يحاول استيعاب الأمر قبل أن يصرخ في شقيقه بانفعال:
_هو ده اللي هامك دلوقت ؟! ذوق أبوك ؟! هنعمل إيه في المصيبة دي ؟!

زفر إسلام بقوة وهو يفتح تابلوه سيارته ليستخرج منه سيجارة أشعلها قبل أن يقول ببرود مشتعل:
_وأنا لو عارف ممكن أعمل إيه كنت سبتكم وجيت هنا ليه ؟!
صمت هيثم مصدوماً والحقائق المتوالية تصفعه بقسوتها ...
إسلام سافر هارباً إذاً!!
هارباً من مواجهة حقيقة أبيه ؟!!
فماذا عنه هو ؟!
هل يصمت متجاهلاً أم يهرب هو الآخر!!

عينا لجين الدامعتين بذعر تقتحم مخيلته من جديد فيشعر بوخزة في قلبه ...
يالله !!
أخته كانت أمامه على بعد خطوات ...
لا تعرفه ولا يعرفها ...
ابنة الخادمة ؟!!
أيهنّ؟!
ياللغباء ...هي تكبره بالكثير من الأعوام لهذا لن يتذكر أمها التي تركت عملها قطعاً بعدما كان ...

_أمهم اسمها إيه ؟!
يسأل إسلام الذي رد باستخفاف وهو ينفث دخان سيجارته :
_معرفش ...ومش عايز أعرف .
_مش عايز تعرف إخواتك ؟! سبت كل حاجة ورا ظهرك ومشيت ؟! ما سألتش نفسك عايشين فين وإزاي ؟! دول دمك ولحمك ومالهمش ذنب في اللي حصل !
هتف بها هيثم باستنكار ذاهل ليصمت إسلام للحظة مأخوذاً بمنطقه قبل أن يقول بضيق:
_ذنبهم في رقبة أبوهم مش رقبتي أنا ...وبعدين م اللي سمعته شكله بيبعتلهم فلوس ومراعيهم !

_مراعيهم ؟! بقوللك أختك قابلتها عامِلة على أدها في معمل تحاليل بتلف ع البيوت تاخد عينات ؟! تفتكر واحدة زي دي مستوى عيشتها إيه ؟!

هتف بها هيثم بانفعال وخز ضمير شقيقه ...
لكنه كالعادة يفضل الهرب ...
_ماتوجعش دماغي يا هيثم ...أنا مش ناقص ...لو قلبك واجعك روح دور عليهم وشوف ممكن تعمللهم إيه .
_هادور عليهم وهلاقيهم يا باشمهندس ...متأسفين ع
الإزعاج .

هتف بها هيثم بحدة قبل أن يغلق الاتصال ليعاود إسلام نفث دخان سيجارته بغضب وصل حد الاختناق ...
أفكاره تشتعل بعدة زوايا كلها حارقة ...
سيف ...غادة ...هيثم...والده...والدته...وأخي راً ...أختاه هاتان!!
هيثم محق لكن ...
ماله ومال ذنب أبيه ؟!!
هل سيصلح العالم ؟!!
هي حياته سيعيشها كيف شاء طولاً وعرضاً ...
فلتذهب همومه كلها للجحيم !!
وبهذا الخاطر الأخير نفث دخان سيجارته للمرة الأخيرة قبل أن يدهسها تماماً في مطفأة قريبة ليجري اتصاله "المنقذ" برفيقة السلوان والأنس ولم يكد يسمع صوتها المغوي حتى هتف بالتركية بلكنته البطيئة العابثة التي تفضلها :
_في المكان المعتاد ...من يصل أولاً يملي شروط الليلة...
ليشتعل جسده بعدها بضحكتها الرقيعة مدركاً أنها ستتركه عمداً يصل أولاً!
======







ظل يدور بالسيارة لساعات بعد مكالمته لإسلام ولا يدري ماذا يفعل ...
الحقيقة التي قُذفت في وجهه فجأة قلبت عالمه رأساً على عقب ...
حتى إسلام لم يمنحه الحل الذي يريده !!
كيف يهرب من هذه الحقيقة ؟!
كيف يواجه والده الذي يعتبره مثله الأعلى؟!
كيف يكسر قلب أمه بحقيقة كهذه ؟!
هل يستسلم للصمت السلبي كما فعل شقيقه ؟!

لا ...لن يتخاذل مثله ...
على الأقل سيذهب لذاك المعمل الذي تعمل فيه لجين هذه ليسألها عن المزيد ...
يجب أن يعرف الحقيقة كاملة !!

زفرة ساخطة أطلقها وهو يشعر بحاجته لمن يفضي إليه بهمومه ...
ومن سواها ؟!
شوشو!
أدار مقود السيارة ليتحرك نحو بيتها رغم علمه بتأخر الوقت ...
لكنه فقط يريد رؤيتها ولو من النافذة ...
تحدثه عبر الهاتف بينما يراها واقفة بنافذة غرفتها كما طلبت منه فعلها ذات مرة بزعم أن الوقفة هذه تذكرها ب"روميو وجولييت"!
روميو!
العجيب أنها كانت تدعوه روميو تماماً مثل داليا لكنها كانت تداعبه دوماً بقولها إنها هي "جولييت" خاصته !!

وصل قريباً من مكان سكنها فتناول هاتفه ليتصل بها لكنه وجده مغلقاً!
تباً !!!
كيف نسي أنها مؤخراً تغلقه دوماً ؟!
هل جعلته رؤيتها اليوم يغفل عن تباعدها اللا مسبب عنه ؟!

وصلته رسالة عبر هاتفه تخبره أن هاتفها قد فتح -لتوه- فتهللت أساريره ليعاود الاتصال بها لكنه عاد مغلقاً!!

تباً!
فليرحل من هنا إذن وليبتلع خيبته وحده !!
عاد يشغل السيارة ليبتعد لكنه لمحها تخرج من مدخل البيت ...
هي ؟!
هل يتخيل؟!
تتسع عيناه بانبهار مشوب بالاستنكار وهو يراها ترتدي ثوباً في غاية الأناقة ليس أبداً من طراز ملابسها -المتحفظ- الذي يعرفه ...
عاد يستقر بكرسيه الذي انكمش فيه وهو يراقب تقدمها ليجدها تتجه نحو سيارة سوداء قريبة معتمة النوافذ ...
لا ...لن يسيئ فهمها ...
ليست من هذا الطراز أبداً !!

حاول مد رأسه ليتبين السائق لكنه لم يرَ شيئاً عبر الزجاج المعتم ...

كاد يغادر السيارة ليتوجه نحوها ويسألها عماذا تفعله هنا لولا أن لمح رجلاً يخرج من مدخل بيتها حذراً لكنه عاد يختبئ عندما رأى السيارة السوداء لا تزال واقفة !!

ما الذي يحدث هنا ؟!!

تساؤله لم يدم طويلاً عندما تحركت السيارة السوداء لتغادر الحي بها أمام ناظريه ...
ليميز أخيراً أرقامها ...
والده !!!
إنها سيارة والده !!!
ما الذي تفعله شوشو في سيارة والده ؟!!
هل علم عن أمر لجين اليوم ؟! شوشو أخبرته ؟!
ولماذا تغادر معه في سيارته في هذا الوقت من الليل ؟!
وبهذا الثوب؟!!

هز رأسه بصدمة والجواب المنطقي الوحيد يكاد يزلزل روحه ...
شوشو ووالده ؟!
لهذا تغير حالها ورفضت علاقتها به بعد تدريبها معه في شركته ؟!
لهذا هجرته هو؟!!

أفكاره تنقطع عندما يلمح الرجل المريب يغادر مخبئه فور اطمئنانه لمغادرة السيارة ليتحرك قادماً في مواجهته ...
ملامحه تزداد وضوحاً مع اقترابه ...
هو يعرف هذا الرجل ...
أين رآه من قبل ؟!!

نعم ...هو !
زوج شقيقة داليا الذي رآه في حفل زفافه !!!
أشرف ...أجل ...هو يذكر الاسم جيداً!!
ما الذي يفعله هنا في بيت شوشو ؟!!
والأهم...
ما علاقة والده بهذا كله ؟!
========
من بعيد يراقبها رائد تجلس على كرسيها معصوبة العينين ...
لا يكاد يصدق أنه تجرأ أخيراً وفعلها !!!
ها هو ذا معها في بيتهما الذي صممه خصيصاً لأجلها...
مساحة شاسعة في أرض منعزلة لا تخشى فيها عيون لائمين أو شامتين ...
أسواره "تحميها"...لا "تسجنها"...
حديقته مزروعة ب"الفل" الذي تحبه ...
الغرفة أحادية النافذة استبدلها بما يشبه كوخاً كبيراً مستديراً بنوافذ عديدة واسعة ...
وكلها بلا قضبان !
تحيط بها حديقة واسعة أكبر من حديقة بيت "أبيها"...
أجل ...هو بيت "أبيها" وليس بيت "زين"!
يوماً ما سيجعلها تدخله مرفوعة الرأس تطالب بحقها فيه ليس طمعاً منه بل رغبةً في إحياء روحها هي بنيل ما سلبوه منها ...
أما بيتها الحقيقي فهو هنا ...
بناه من طابقين في الجوار كما حلمت هي به معه دوماً ...
صممه بهذا التصميم الذي رسماه معاً يوماً ...
لكن ينقصه فقط أن يجعلها تراه ...
دون أن يكون هو معها !!

شعر بالخادمة خلفه فالتفت نحوها صامتاً لترمقه بنظرة مشفقة طويلة ...
هذا العشق البائس في عينيه هو ما جعلها تحتمل هذه المخاطرة ...
منذ سمعت منه أنها زوجته وقلبها يخزها لأجل هذه المسكينة ولأجله معها ...
لهذا ما كاد يبلغها بخطته في الفرار حتى نفذتها معه مدركة أنه لن يستطيع فعلها وحده ...
همسة لا يجب أن تسمعه أو تراه ...
لكنها يجب أن "تشعر" به...
معضلة حقيقية لم تكن تفهمها في البداية لكنها الآن تدرك أنه هو علاجها !!
لهذا ابتسمت له ابتسامة مطمئنة فأشار لها بعينيه نحو البيت القريب قبل أن يبتعد هو مختفياً خلف إحدى
الأشجار يراقبهما من بعيد !


وفي مكانها كانت همسة تشعر بهالة حضوره ...
عبر عينيها المعصوبتين تشم رائحة عطره ...
تشعر أنها غادرت مكاناً ورحلت لآخر لكنها لا تهتم ...
يكفيها أنه هو معها !!

رائحته تتباعد ...هل سيرحل؟!!
تشعر بالعصابة تُرفع عن عينيها اللتين أغشاهما ضوء الشمس للحظات ...
الشمس !
كم تحبها!!
عيناها تتسعان بمزيج من دهشة وانبهار وهي تميز روعة المكان حولها ...
النوافذ المزينة بالزهور بدلاً من القضبان ...
الستائر المشرقة بألوان الطيف ...
دهان الجدران الأبيض الناصع الذي تعشقه ...
ترفع عينيها لأعلى ...
لا سقف!
بل فتحة عالية جداً مستديرة باتساع عظيم يجعلها ترى السماء بسحبها البيضاء ...
تضحك ضحكة قصيرة وهي ترمق الخادمة بنظرة سعادة حقيقية ...
قبل أن تعدو لتخرج من "الكوخ"...
لا أبواب مغلقة !!
ضحكاتها تعلو أكثر فيخفق قلب هذا "المختبئ" هناك وعيناه تمتلئان بالدموع ...
آه لو كان بإمكانه الآن أن يجعلها تراه ...
أن يحملها ويعدو بها هو على العشب قبل أن يطارحها الغرام فوقه ...
أن يجعلها تسمعه...
يحكي لها كم ليلة سهرها وهو يرسم هذا "الكوخ" في أوراقه ...
لا يدع صغيرة أو كبيرة يعلم أنها تحبها فيه إلا ووضعها !!
لكنه يعلم أن هذا مستحيل ...
الآن على الأقل!

لهذا ابتلع غصة حلقه وهو يراها تتقافز وتضحك ...وتعدو ...
تعدو حتى تعبت فسقطت أرضاً لتمرغ جسدها في العشب كأنها تستمتع برائحته ...
قبل أن تستلقي على ظهرها تماماً فاردة ذراعيها بطولهما جوارها ،رافعة وجهها للسماء ...
منامتها الوردية تلقي ظلالها على وجهها فيزداد بهاؤه...
شعرها الأسود الطويل يفترش الأرض حولها كشمس أخرى صغيرة ...
قدماها الحافيتان بعدما ألقت عنهما خفيهما تحرك أصابعها بتلذذ فلا تدري كم تعبث بروحه هو حركة بسيطة كهذه !
لو أقسم الآن أن عمره كله لا يساوي لحظة سعادة كهذه التي يشعر بها على محياها لما كذب!

_بصي يمين يا همسة...شوفي البيت ...عايزك تجري عليه ...ادخلي ..ادخلي وشوفيه ...افرحي بيه ...
افرحي يا همسة ...افرحي .

يهمس بها بخفوت ودّ لو يصرخ به وكأنها ستسمعه !
لكنها -للعجب- سمعته !
سمعته بقلبها دون أذنيها ليراها مكانه تلتفت نحو البيت القريب ...
يرتجف قلبه بخفقاته وهو يراها تنتفض بفرحة لتعدو نحو مبناه القريب المطلي بمزيج "الأبيض" و "السماويّ" الذي تحبه ...
يرى الخادمة تتبعها فيتحرك مكانه وكأنه ما عاد قادراً على احتمال المزيد من الاختباء ...
لكنه يغرس قدميه في الأرض غرساً ...
لا ...ليس الآن ...
كفاك أذى لها ...كفاك !
لهذا يعاود التخفي خلف شجرته منتظراً عودتها لعله يقرأ في وجهها ما عجز عن رؤيته بعينيه ...

أما هي فلم تكد تدخل البيت حتى تجمدت مكانها ...
إنه هو ...بيتها ...
بل بيتهما!
تماماً كما رسمته في الأوراق معه ...
الطابق الأول ...
مائدة السفرة و"انتريه" بسيط ...
لا لون "ذهبي" على الإطلاق!
تكره الإطلالة الكلاسيكية في الأثاث!!
تتقدم لتتحسس الكراسي الأنيقة بلونها الفضي الفاتح ...المائدة التي حملت طبقاً فضياً للفاكهة ...
مع مزهرية ل"الفل"!
عيناها تدمعان وهي تتذكر كيف رسمتهما له ...
هكذا ...بالضبط !!

تضحك وسط لمعة دموعها وهي تنظر للخادمة نظرة دهشة فرحة لكنها عاجزة ...
فتردها لها بفيض من الدموع أغرق وجهها رغماً عنها وهي عاجزة عن الشرح !
لكنها -همسة- تلتفت نحو المطبخ القريب الذي دخلته بخطوات راكضة لتتوقف وسطه بانبهار ...
لا تكدس ...لا زحام ...
أدوات بسيطة أنيقة ...
مائدة صغيرة مربعة في المنتصف عليها سلة من البيض الملون قد رسمت عليه كله وجوهٌ تضحك ...
ونافذة !
نافذة واسعة كبيرة تحتل نصف جدار وحدها و تدخل منها خيوط الشمس من الخارج ...
رباه !!
كما رسمته ...كما حلمت به ...بالضبط!

عيناها تدمعان من جديد لتخرج منه عدواً تصعد الدرج نحو الطابق العلوي تفتح الغرف واحدة تلو الأخرى بأنامل مرتجفة وعيناها تقرآن تفاصيل حلمها قطعة قطعة...
غرفة الأطفال بلون الفستق المحايد بين الذكورة
والأنوثة ...
غرفة النوم بلونها الوردي ...
غرفة أخرى خالية تماماً تفترشها فقط سجادة صلاة وحامل مصحف!
وأخيراً حمام كبير بلون سماوي له حوض استحمام دائري تحيطه نافذة زجاجية تتيح إغلاقه ...
هذا الذي أغلقته الآن لترمق الخادمة بنظرة مشتتة ...
قبل أن تتلفت حولها كأنها تبحث عنه !

_عايزة حاجة يا حبيبتي؟!
تسألها المرأة بحنان مغالبة دموع تأثرها بهذه الفرحة الصادقة التي تراها في عينيها ...
لتنفرج شفتا همسة ببطء وكأنها ستتكلم ...

_قولي يا حبيبتي ...قولي عايزة إيه !

تهتف بها الخادمة بأمل محاولة استنطاقها لكنها تعاود إطباق شفتيها المرتجفتين وهي تتلفت حولها بحثاً عنه ...
أو -بالأدق- عن طيف عاشق تشعر به لكنها لم تعد تميز له
ملامح ولا صوتاً !
هو هنا ...رائحته تملأ المكان حولها ...تغرقها بهذه السكينة التي تفتقدها ...
لكن ...أين ؟! أين ؟!!

تطرق برأسها يأساً وهي تتحرك لتغادر الطابق نحو الدرج الذي هبطته لتلقي نظرة أخرى على المكان قبل أن تغادره نحو الحديقة ...

قلبه يعاود ارتجافه وهو يراها قد عادت بوجه بائس مطرق...
ماذا ؟!
ألم يعجبها البيت ؟!!
لا!
ليس بعد كل هذا الجهد !!

يشير بيده خفية للخادمة التي فهمت مراده فعادت بها نحو "الكوخ" حيث جلست هي على كرسيها تراقب الحديقة بشرود عبر النافذة ...
قبل أن تشعر بها تخرج لتتركها وحدها ...لكن ليس طويلاً !

فلم يكد هو يسمع بردة فعلها بعد دخول البيت حتى أمر الخادمة أن تعاود عصب عينيها ...
هو يحتاج أن يراها عن قرب !
سيموت قهراً لو لم يفعل!!

يقترب منها بخطوات وجلة ليجلس على ركبتيه أمامها ...
يطبق شفتيه بقوة مذكراً نفسه كي لا يضعف ...
لكنه يتناول كفيها ليرفعهما نحو وجنتيه ...

_أنا هنا يا حبيبتي ...جنبك ...قدامك...حواليكي ...أنا عارف إنك حاسة بيا ...بس لسه مش مسامحة...أعمل إيه بس عشان ترجعيلي؟! خدي عمري كله بس اديني ساعة واحدة نرجع فيها زي زمان ...ساعة واحدة !

تصرخ بها روحه -دون صوت- ليشعر بأناملها تتحسس
ملامحه كأنها تتعرف عليه ...
دموعها تسقط كخيط رفيع خلف العصابة فيمسحها بأنامله صامتاً قبل أن يجدها فجأة تحرر كفيها منه لتحاول رفع العصابة عن عينيها !!!

_لأ...أرجوكِ...لأ.
يهتف بها بصوت مسموع رغماً عنه وهو يقبض على كفيها بكفيه يمنعها ...
قبل أن يضع كفه على شفتيه بندم متوقعاً ردة فعلها برعب...
لكنها لم تفعل شيئاً!
أزاح كفه عن شفتيه اللتين انفرجتا بدهشة وهو يراقب سكون ملامحها ...
لم تتأثر ككل مرة عندما سماع صوته !!
أم تراه هو يتوهم ؟!!

عيناه تدمعان من فرط انفعاله ليجدها تضع كفيها في جيبي منامتها قبل أن تستخرج منهما ما جعله يفهم قليلاً ...
"الدبوسان المعدنيان"!!
رباه !
ياقوت كانت على حق عندما طلبت منه أن يبقيهما معها!!

غص حلقه بهدير انفعاله وهو يراها تمد أناملها تبحث عن كفيه اللذين مدهما هو نحوها ليجدها تغلقهما بقوة على "الدبوسين" قبل أن تحتضنهما بأناملها بقوة ...

_رائد!

هل همست بها حقاً؟!!
هل سمعها تناديه من جديد ؟!!
خيط من الدموع يسيل على وجنته هو هذه المرة وهو يسمعها تهمس باسمه من جديد ليفقد كامل سيطرته وهو يجذبها بين ذراعيه ...
يحتضن رأسها بذراعيه وكأنها أثمن كنوزه !
لا لم يكن عناقاً!
بل كان يرد لروحه "بعض روحه"!
كان يعيد لقلبه "جزءاً من قلبه"...
بل كان يستعيد نفسه ليمنحها لها من جديد في عقد لا تنتهي صلاحيته ...
هي له وهو لها ...حتى آخر رمق!!

يمسد شعرها بأنامله وهو يشعر بأنفاسها اللاهثة تردد اسمه بلا انقطاع ...
كظمآن أفطر بعد طول عطش ...
متى يرتوي؟!!

نداءاتها تعذبه بتضرعها ...وبعجزه !
يريد أن يسكب في أذنيها كل الكلام الذي ادخره لها طوال هذه السنوات ...
لكن ...
ماذا لو ؟!!

_رائد!
نداؤها الأخير حسم الأمر وهي تبسط معه كفها على صدره الذي انتفض خافقه بلمستها ...
لم يعد يستطع ...
يعتصرها بين ضلوعه وهو يهمس باسمها في أذنيها برهبة ...
ولم يكد يطمئن لسكونها حتى انفلتت منه آهة قوية جعلته يشدد ضغط ذراعيه حولها دون وعي ...
قبل أن يهطل سيل البوح فيغرقهما معاً:
_انتِ سامعاني بجد واللا أنا بحلم ؟! سامعاني يا همسة ؟! قابلة صوتي مش كارهاه ؟! قولي أيوة ...قولي ...


تهمس له بما أراد وهي تشعر أن "الطيف العاشق" لا يزال
بلا ملامح لكنها تسمع صوته ...
صوته الذي تميزه ...وتعشقه !

يهز رأسه بعدم تصديق وهو يبتعد بوجهه يتأمل ملامحها عبر العصابة بشغف ...
قبل أن يعاود إخفاء وجهه في عنقها هامساً بألم:
_أقوللك إيه ؟! راح فين الكلام ؟! أقوللك آسف؟! سامحيني؟! أقوللك لسه بحبك ...كل يوم بحبك أكتر ...بتوحشيني أكتر ؟! أقوللك السنين اللي فاتت عدت عليا إزاي ؟! أحكيلك تفاصيل الوجع يوم بيوم ؟! واللا أحكيلك عن فرحتي دلوقت وانتِ في حضني؟! بتكلم وبتسمعيني؟! عن لهفتي أشوف عينيكي وهي بتجري على بيتنا ؟! حلمنا ؟! حققته يا همسة ...زي ما رسمتيه بالضبط ...بس اتحرمت أشوف أول فرحتك بيه زي ما حرمتك زمان فرحتنا ...لسه ما كفرتش عن ذنبي ؟! لسه محتاجة تعذبيني وتلوميني؟! وفيت الدين يا همسة...والله وفيته وزيادة !

تشعر بدمعه يلامس رقبتها وجيدها فتحترق به وله ...
لا تفهم عما يتحدث لكنها تشعر بحرارة مشاعره ...
عمّ يعتذر؟!
هل يخطئ قلب أحب بهذا الصدق؟!!

ودون وعي وجدت نفسها تهمس بها كأنها تنطقها منذ أعوام ...
كأنها ولدت تقولها :
_بحبك!

همسها يقصف قلبه ليشهق بانفعال وهو يبتعد بوجهه لا يكاد يصدق ...
قبل أن تنكب شفتاه على وجهها تغرقانه باعترافه هو
الآخر ...
سيموت ...سيموت الآن من فرط جنون خفقاته !!
لكن ...ليرَ عينيها أولاً...
مادامت تقبلت صوته فلماذا لا ...؟!!


لم يفكر للحظة وهو يمد أنامله يزيح عصابة عينيها ...
عيناه تحطان كطير ملهوف على عينين اشتاقهما كالجنة !!!
لكن الصرخة الهائلة التي أطلقتها عادت تقذفهما معاً في الجحيم !!
=========













_منتظراكم!
قالتها ياقوت بنبرتها المهنية وهي تجلس في غرفتها
بالمركز مخاطبة يامن الذي كان يخبرها عن رغبة ياسمين في الحضور ...
ورغم شعورها بالتحفز من هذه المقابلة بعدما استجد من أمرها مع زين لكن مهنيتها كانت لها الكلمة العليا ...
ولم تكد تغلق الاتصال حتى رن هاتفها برقم غريب لترد...

_ياقوت ...الحقي همسة !
صوت رائد الجزع يصلها فتهتف به بحدة دون وعي:
_هو الجنان في عيلتكم وراثة ؟! إيه اللي انت هببته ده ؟!
صمت لحظة قبل أن يخبرها عما حدث لينهي حديثه بقوله الملهوف:
_أنا اديتها الحقنة اللي طلبتيها مني المرة اللي فاتت ...هديت ونامت .

زفرت بسخط وهي تحاول استعادة صفاء ذهنها لتصمت قليلاً قبل أن تسأله :
_انت خطفتها ليه بالطريقة دي؟!
تنهيدته الحارقة وصلتها عبر الهاتف ليحكي لها ما كان بينه وبين زين بشأنها وشأن همسة ...
وكيف اضطر للكذب لحمايتها هي ...

_كتر خيرك والله ...كويس إنك مش قدامي دلوقت !
هتفت بها موبخة بحدة ليرد بحدة مشابهة :
_انتِ متعرفيش زين زيي ...الحاجة الوحيدة اللي كان ممكن تخلليه يشيلك من دماغه إنه يعرف إنك تخصيني .
_وأهه ما شالنيش!
هتفت بها بانفعال متسرع ليصمت هو قليلاً قبل أن يسألها بحذر:
_هو عمل إيه بالضبط ؟!
صمتت بتردد وهي لا تدري صواب أن تخبره بالحقيقة ليستحثها بقوله :
_زين شاف شعرك واتأكد إني كنت كذاب ...إزاي؟!
_اتجوزنا.
قالتها داحضة أي شبهة في خلقها رغم أنها كرهت نطقها كما لم تكره شيئاً في حياتها ...

صمته الطويل بعدها كان جوابه قبل أن يغمغم بذكاء لا ينقصه :
_ضغط عليكي بحاجة وانتِ اشترطتِ عقد رسمي ...صح؟!
كان دورها لتصمت قليلاً تفكر قبل أن ترد باقتضاب:
_أختي مريضة بداء السرقة ...مرض نفسي ...هو معاه فيديوهات وهددني ببلاغ رسمي .
_ومادام مريضة خايفة من إيه ؟!
سألها باهتمام لتزفر هاتفة بسخط :
_وقتها ما كنتش أعرف لسه الحقيقة...ودلوقت خايفة م الفضايح والشوشرة ...انت أكتر واحد عارف مجتمعنا بيبص للمرض النفسي إزاي .

صمت مشفقاً ليرد بعد فترة :
_أول مااطمن على همسة هنا هاحلهالك ماتقلقيش .
لكنها ردت بعنفوان ردها لحدود مهنيتها:



_ماتشغلش انت بالك ...أنا هاعرف أخلص نفسي ...المهم دلوقت همسة ...الخطوة دي رغم غبائها بس جت في مصلحتها ...فاكر كلامي على إننا نوفق بين العالمين ونقربهم من بعض ؟! احنا بننجح ...همسة بقت هي اللي عايزة تشيل الرباط من على عينيها ...عايزة تتأكد إن انت هو نفس الشخص اللي كانت بتحبه ...لما حطت الدبوسين في إيديك وقفلتهم كانت بتطمن إنك هو نفس الشخص ...يمكن ده اللي حمسها تنطق اسمك خصوصاً بعد ما شافت البيت اللي عملته زي ما حلمتم ...ويمكن كمان ده اللي خلاها تتقبل تسمع صوتك ...بس لسه الشفا مش كامل ...لسه صورتك بتردها للحادثة القديمة ...نصبر شوية ...يمكن في يوم نوصل إنها تتقبل تشوفك زي ما بتسمعك .

تنهد بإرهاق وهو يستمع إليها ليرد برجاء:
_مش هاقدر أعمل حاجة لوحدي ...أرجوكِ تساعديني هنا ...أنا عارف المكان بعيد بس ...

_هاجي طبعاً ...ابعتلي العنوان !
قالتها آمرة ليتنهد بارتياح وهو يمليها ما طلبته قبل أن يقول بتردد :
_هاقوللك حاجة مش عارف هتفرق معاكي واللا لأ...
قطع عبارته بحذر لتهتف هي بانفعال معذورة فيه :
_قول!
_السبب الوحيد اللي يخللي زين يعمل معاكي كده إني حسبتها غلط...انتِ عنده مش مجرد واحدة كان عايز يجيب آخرها ...زين عمره ما كان هيورط نفسه في جواز رسمي عشان نزوة ولا حتى ليلة واحدة ...خصوصاً وهو لسه عنده أمل يرجع لياسمين .

صمتت لحظات تحاول منع عقلها من استيعاب ما يقوله ويصدقه قلبها ...
ليردف هو أخيراً بما أغلق به اتصاله :
_زين بيحبك ...حتى لو هو نفسه مش عارف.

ألقت الهاتف من يدها بعنف لتعود بمقعدها للخلف في حركة عنيفة كادت تسقطها ...
يحبها ؟!!
يحبها؟!!
بئس هذا الحب!!!
صدقت ثمر عندما قالت أن من مثله لا ينظرون لمن مثلهم إلا نظرة واحدة فقط !!
لكن ...لا بأس !

_محدش بيتعلم ببلاش!

قالتها لنفسها معزية قبل أن تتفقد أناملها الموضع الخالي لورقة "العشر جنيهات" !
أخذها !
كما أخذ من "روحها" قطعة لا تظنها ستستردها أبداً بعده !!

دمعت عيناها وهي تستعيد ذكريات تلك الليلة الموحشة لكن طرقات الباب أنقذتها لتتحفز في جلستها وهي تراها تدخل وحدها ...
ياسمين!
==========


وقفت مكانها لتتأمل كلتاهما الأخرى بتفحص ...
ياسمين بزيها الأنيق الذي لم يقلل بروز بطنها من بهائه ...ولا سواد لونه من طغيان فتنتها الرقيقة...
جميلة بما يليق لتخطف قلب رجل مثل يامن ...وعقل رجل مثل زين !

هكذا حدثت ياقوت نفسها بغيرة لم تملكها وحظيت ياسمين -للعجب- بمثلها!!
ياسمين التي تعجبت ذوقها المتدني في ملابسها كما قال يامن ...
لكنها لم تغفل عن فتنة طبيعية تختبئ خلف هذا الإهمال!
فتنة تدعو الله ألا يكون يامن قد انتبه لها مثلها !!
هل هذه هي المرأة التي غيّرته ؟!
فعلت مالم تتمكن هي من فعله !!

_البقاء لله .
قطعت بها ياقوت هذا الصمت المشحون وهي تمد لياسمين يدها مصافحة فابتسمت ياسمين ابتسامة شاحبة وهي تجلس على الكرسي أمام مكتبها لترد بعفوية قبل أن تشبك كفيها لتقول بارتباك:
_أنا طلبت من يامن أقابلك لوحدنا النهارده ...عشان ...

_عشان غيرانة !
قالتها ياقوت مقاطعة لتلتفت نحوها ياسمين بغضب جعل الأولى تبتسم باستطرادها:
_دي أول حاجة جت في بالي لما يامن قاللي إنك عايزة تقابليني ...انتِ مهووسة بيامن من سنين ...أقل شعور ممكن تحسيه بعد اللي حصل هو إنك تغيري من ست دخلت حياته تحت أي مسمى وقدرت تغيّره بالشكل ده ...قلتِ تيجي تشوفيها بنفسك.

التمعت عينا ياسمين وهي تشهد لها في نفسها بالذكاء لكنها قالت ببرود مصطنع:
_هافترض إن معاكي حق ...تفتكري عندي حق في إحساسي واللا لأ؟!

اتسعت ابتسامة ياقوت لتلتمع "العينان الطيبتان" بقوة تأثيرهما مع جوابها:

_احسبيها صح ...يامن مااتغيرش بسببي ...يامن اتغير بسببك انتِ...عشانك انتِ...كل يوم عاشه بعد ما سبتيه كان بيعيشه عشان يرجع لك ...انتِ كنتِ علاج يامن ...أنا بس دوري كان إني عرّفته ده !

تغيرت ملامح ياسمين الباردة لأخرى منفعلة وهي ترمقها بنظرة طويلة قبل أن تتنهد بحرقة لتهتف :
_مش قادرة أصدق ...مش قادرة أرجع معاه زي
الأول ...عارفة إنه اتغير وأشهد بكده بس غصب عني ...مش مسامحة في اللي فات وخايفة...خايفة ما أسامحوش زي بابا الله يرحمه ...الموضوع مش سهل ...أنا فعلاً حاسة إني بحلم ...ماشية بالقصور الذاتي ...لا دي ياسمين اللي أعرفها ولا ده يامن اللي عارفاه ...

هزت ياقوت رأسها بتفهم لتقترب بجذعها من سطح المكتب قائلة :
_شعور طبيعي جداً ...محدش يقدر يلومك عليه ...هتفضلي فترة متحفزة لأي تصرف بيعمله...لأي نظرة ...لأي موقف ممكن يفهمه غلط ...هتفضلي خايفة تآمني تاني فتتجرحي تاني ...بس العلاج هو الوقت ...الأيام هي اللي هترجع تقرب بينكم .

_هو يامن اتعالج فعلاً ؟!
سألتها ياسمين بمزيج من تشكك ورجاء لترد ياقوت بنبرة عملية :
_أنا شايفاه بقى أقرب جداً للطبيعي ...بس الاختبار الحقيقي دايماً بيبقى المواقف .
_يعني لسه ممكن ؟!
_لا ...مااعتقدش إنه هيخاطر إنه يخسرك تاني ...هو حالياً عنده القوة إنه يهزم وساوسه ...بس عايزة الحق؟! أنا خايفة منك انت !
_أنا؟!
قالتها ياسمين بدهشة لترد ياقوت وهي تعود بظهرها للخلف :
_صدمة وفاة والدك هزت معتقداتك شوية ...خلتك تنزلي من برج عالي اسمه ياسمين مابتغلطش وما بتسامحش اللي يغلط ...لكن لسه محتاجة تقفي مع نفسك أكتر ...تعترفي بعيوبها ...غلطها ...وتتقبلي فكرة إن غيرك كمان ممكن يغلط وتسامحيه زي ماانت عايزة تسامحي نفسك ...

عقدت ياسمين حاجبيها بقوة لتطرق ياقوت الحديد ساخناً:
_فكرتي مثلاً وإنتِ بتلومي يامن على إنه اتخلى عنك تلومي نفسك إنك كذبتي ...إنك أصلاً ضعفتِ قدام ...زين ...ده ؟!!

تحشرج صوتها رغماً عنها عندما أتت على ذكر زين لكن ياسمين كانت غافلة عن هذا بشرودها فيما تحكيه لتدفن وجهها بين كفيها مع اعترافها :
_كنت خايفة أقولها ...كنت خايفة أعترف إني في لحظة ضعف نسيت أنا مين ...كنت بصبر نفسي إني فقت في الوقت المناسب وضربته وهربت ...لأن ..لأن ...
عجزت عن إكمال اعترافها لكن ياقوت التقطت منها ماتريد سماعه لتكمله بما يليق:

_لأن ياسمين نفسها ما بتسامحش في الغلط ...يبقى إزاي هي تغلط ؟! هي مثالية بتدي من غير حدود ...نجمة
عالية في السما كل الايدين بتشاور عليها ...ودي كانت المشكلة ...لو كنتِ اعترفتي بالغلط كنتِ سامحتي نفسك وسامحتي غيرك ...بس انتِ قعدتِ طول الوقت تكابري وتقسي ...والصدمة اللي جت بوفاة والدك الله يرحمه هي اللي شالت الغشاوة من على عينيكي .

رفعت إليها ياسمين وجهاً دامعاً لتردف بأسى:
_مات وهو غضبان عليا...مات بعدما أمله خاب فيّ....بعد العمر اللي عشته اثبت له فيه نجاحي...أوريله النجمة اللي بقيتها من غيره ...ينتهي بينا الحال وهو شايفني مكسورة قدامه كده ؟!

لكن ياقوت هزت رأسها لتقول بيقين حقيقي:
_هو مكانش يفرق معاه تبقي نجمة...كان يفرق معاه تبقي بنته وبس ...بنته بكل عيوبها وميزاتها ...بكل مشاعرها الحقيقية اللي مش بتمثلها ...بنته اللي هتكمل حياتها بعده عشان تثبت له إنها نجحت ...مش تحدي واللا عِند ...لا...حب!

لم تملك ياسمين سيل دموعها الذي أغرق وجهها بعدها والذي تفهمته ياقوت للحظات ...
قبل أن تمسح الأولى دموعها لتسألها باهتمام:
_عايزة أكلم زين بس خايفة يامن يفهمني غلط ويرجع لشكوكه...أنهي معاه الموضوع إزاي؟!

تجمدت ملامح ياقوت للحظات أجادت فيها إخفاء شعورها بينما ياسمين تردف شارحة :
_زين مش هيهدا إلا لو عرف اللي حصل ...هيفضل فاكر إني رجعت ليامن غصب وعايز يساعدني أسيبه ...هو معذور ... ميعرفش عن يامن غير اللي أنا قلتهوله عنه .

_كلميني عن زين ...بصراحة...متخافيش الكلام مش هيوصل ليامن .
قالتها ياقوت متعللة بمهنيتها لكنها حقيقة كانت تريد أن تعرف الوجه الآخر لذاك الرجل الذي يختفي خلف عوالم غموضه :

_زين شخص كويس جداً ...ذكي ...مثقف ...قوي ...حمائي قوي للناس اللي يخصوه ...مش هانكر إنه ساعدني في أصعب أوقات حياتي سواء في علاقتي مع رامي أو بعد طلاقي من يامن ...حتى الليلة إياها اللي اتصور فيها الفيديو أنا اللي رحتله برجلي ...ومع ذلك هو اعترف ليامن بالحقيقة اللي تبرأني ...جابلي حقي من رامي ...مش عارفة أقوللك إيه عنه بس هو فعلاً ...

_طيب؟!
قاطعت بها ياقوت عبارتها باستهزاء ساخر لم تملكه ...لتهز ياسمين رأسها نفياً بقولها :
_لا!..ماقدرش أوصفه إنه طيب ...يامن طيب ...لكن زين ....زين حنين بس مش طيب...مش عارفة أشرح لك إزاي ....دايماً كنت بحس إن فيه نقطة سودة جواه مش قادر يتخطاها أو يسيطر عليها ...
ثم ارتبكت لهجتها أكثر لتردف:
_تعرفي مثلاً ...رغم كل المرات اللي اعترفلي فيها إنه بيحبني بس عمري ما حسيت إنه يقصدها ...مش قصدي إنه بيخدعني أو بيكذب عليا ...بس هو نفسه مايعرفش يعني إيه حب ...حب زي اللي بيني وبين يامن مثلاً ...

_ممكن توضحي أكتر؟!
قالتها ياقوت باهتمام لترد ياسمين موضحة :
_زين كان ممشيها معايا بالمسطرة ...تصرفات جنتلمان حقيقي بس من غير روح ...قطر ماشي على قضبان ماتحودش ...أفتكر واحد زي زين يوم ما يحب بجد هيتجنن...هيخرج بره قفص التخطيط وحسابات العقل والمنطق ...
_وحسيتي بده إزاي؟!
_ماكانش بيغير عليّ...مثلاً اليوم اللي يامن جالي فيه ماليزيا واتخانقوا هناك في بيت بابا الله يرحمه ...يومها عيون يامن كانت كلها غيرة ...كنت حاسة إنه عايز ياخدني في حضنه ويخبيني من الدنيا كلها واللي يحصل يحصل ...لكن عيون زين كانت بتفكر وبتحسبها بالعقل زي كل مرة ...ماانكرش إنه وقتها عمل اللي كنت محتاجاه منه بالضبط لما بعد وسابنا لوحدنا ...بس الحب الحقيقي مابيعترفش بحسابات ...حتى لما طلبت منه ماعدناش نتكلم عشان يامن ردني ما ناقشنيش ...زين بيحترمني ...بيحترم تفكيري ...ويمكن شايفني زوجة كويسة ...لكن فيه حاجة جواه مانعاه يحب بجد !

_حاجة زي إيه ؟!
سألتها ياقوت التي استحوذ الحديث على عقلها لترد ياسمين بحيرة :
_يمكن حاجة تخص والدته الله يرحمها ...حاجة تخص همسة ...يمكن شايف إن القلب حساباته دايماً خسرانة فبيحكم عقله ...
ثم ابتسمت ابتسامة واهنة لتردف:
_يعني ...يشبه يامن القديم شوية في الحتة دي ...بس الفرق إن مفتاح قلب زين ماكانش معايا أنا .

شردت ياقوت ببصرها وكلام ياسمين يفتح لها نافذة عريضة من أمل ...
مفتاح قلب زين !!
تراه يكون معها هي؟!!
لكن ذكرى تلك الليلة تعاود صفعها بقسوة !!

_لما أحب أتجوز أتجوز واحدة زي ياسمين ...اللي زيك أصطادها وبس!

يرتعش جسدها فجأة وأحداث الليلة إياها تتوالى تباعاً في رأسها ...
مالك ومفتاح قلبه يا غافلة ؟!!
ستعودين لضلالك القديم ؟!!

_ماقلتليش أعمل إيه ؟!
انتزعتها بها ياسمين من شرودها لتتنحنح ياقوت بقولها الذي عاد إليه قناع مهنيتها :
_زين ذكي ...ومادام بيحترمك زي ما بتقولي مش هيحاول يخرب حياتك إلا بإذن منك...أعتقد هو هيكتفي إنه يراقبك من بعيد ...لو حس إنك فعلاً سعيدة ممكن يتقبل الخسارة...أما بقى لو ماتقبلهاش وحاول يتدخل ...نصيحتي ماتخسريش ثقة يامن تاني ...خلليه دايماً في الصورة بمنتهى الصراحة ...
ظهر التشكك على وجه ياسمين لكن ابتسامة ياقوت الطيبة حسمت الأمر بقولها:
_ماتخافيش...يامن دلوقت بيثق فيكي أكتر من نفسه...والدليل إنه ماصدقش السكرين المتصور اللي بعتيه !

فابتسمت ياسمين بارتياح أخيراً قائلة :
_يامن كان معاه حق ...انتِ فعلاً شخصية مميزة ...شكراً !
قالتها لتقوم واقفة وتبدأها هي بالمصافحة هذه المرة لتبتسم ياقوت وهي تقف بدورها قبل أن تصحبها نحو الباب الذي كان يامن يقف أمامه ليشرق وجهه عندما رأى ابتسامة ياسمين التي بادرها باحتضان ذراعه لكتفيها في حركة حمائية جعلت ياقوت تبتسم بقولها :
_عندي اقتراح كويس هيساعدكم انتو الاتنين ...
التفت كلاهما نحوها لتعدل وضع نظارتها باستطرادها:
_مشوار للنادي القديم !

ابتسم يامن باستحسان فيما ارتجفت شفتا ياسمين ببعض التردد لكنها حسمته وهي تهز رأسها موافقة قبل أن تغادر معه نحو المركز تلاحقهما نظرات ياقوت الشاردة ...

_كان مالك ومال ده كله ؟! لو الحكاية مشت مظبوط كان زمانك دلوقت بتحتفلي بنجاح علاج حالة تانية عندك ...إيه اللي شبكك وسط الخيوط دي كلها ؟!

تتنهد بحرارة عند الخاطر الأخير لتعود لغرفتها مغلقة بابها خلفها ...
قبل أن تسمع صوت رنين هاتفها ...

_لجين؟! بتعيطي ليه ؟!
هتفت بها بارتياع وهي تسمع صوت بكاء شقيقتها التي حكت لها عما كان بينها وبين هيثم ...
شحبت ملامح ياقوت للحظات وهي تشعر بالرعب مثل شقيقتها لكنها عادت تتماسك لترد بلا مبالاة مصطنعة :
_واحنا مالنا؟! احنا لا جرينا ورا حد ولا كشفنا حقيقة بنستعر منها أصلاً...يتصرف هو وابنه ...مالناش فيه !
_خايفة يبهدلنا ويفضحنا !
هتفت بها لجين وسط بكائها لترد ياقوت بحنان حازم:
_بطلي خيابة ...وماعدتيش تعيطي ...اتغديتي؟!
أجابتها لجين بالنفي لتقول لها بنفس النبرة :
_طب اجهزي عشان هافكّ الكيس وأعزمك ع الغدا النهارده ...كباب وكفتة ماشي؟!
_كباب وكفتة ؟! انتِ في وعيك يا ياقوت؟!
هتفت بها لجين باستنكار قلق لتغتصب ياقوت ضحكة قصيرة وسط كل هذا البؤس قائلة ببساطة :
_بس ما تطمعيش قوي ...هو ربع واحد لنا احنا الاتنين !
_كده اطمنت عليكي .

قالتها لجين وهي تمسح دموعها وقد نجحت ياقوت في تبديد بعض كآبة الأحداث السابقة ...
ياقوت التي صمتت للحظة قبل أن تقول لها بجدية هذه المرة :
_هنروح سوا مشوار بعد الغدا ...الدكتورة زميلتي اللي قلتلك عليها .

كانت قد أخبرتها برغبتها في أن يتولى علاجها شخص آخر سواها فالقاعدة الذهبية التي تعلمتها في عملها أننا أكثر جرأة في الاعتراف بخبايانا أمام الغرباء ...
هذا الذي تقبلته لجين ببعض التجهم الذي امتزج بامتنانها لتعاود سؤالها بقلق:
_والبلاغات اللي قلتي عليها؟!
ردها سؤالها لما ينتظرها من معارك مع زين هذا لتصمت للحظات قبل أن ترد باقتضاب:
_ماتشيليش هم ...ربك يدبرها!
========


_هذا هو عابد الذي حدثتك عنه يا شيخنا !
يقولها الصالح وهو يحيط كتفي صديقه باحتواء بينما يدفعه بين يدي الشيخ في حلقته بالمسجد ...
ليرد الشيخ بوجه بشوش :
_أهلاً بك...نعم الاسم والمسمى به!
ابتسم عابد ببعض الخجل وهو يرى تطلع الوجوه نحوه ...
منذ عودته لماليزيا وهو يشعر برهاب التجمع ...
يظن الناس كلهم يلاحقونه بنظرات إما متهمة وإما ساخرة ...
ربما لهذا أصر الصالح أن يخرجه من عزلته إلى حلقة الشيخ الجليل هذا ...

_اجلس يا عابد ...واسأل ما بدا لك .
يقولها الشيخ وهو يفسح له مكاناً جواره ليجلس هو والصالح الذي ابتدر الشيخ بسؤاله :
_ما الفارق بين الجهاد والإرهاب يا شيخنا ؟!
_الفارق كبير ...الإرهاب جرم يتقصد الأبرياء لكن الجهاد فريضة ضد أعداء الله .
_ولمن نستمع في التفريق بينهما ؟!
يسأله عابد بضيق وذكريات الأيام السابقة تعاود قصف رأسه ليرد الشيخ بتفهم :
_لن أشرح المزيد ...اقرأ يا بني في فقه الجهاد ...اطلب العلم واستفتِ قلبك...لا تجعل مرجعك شيخاً ولا معلماً فكلٌ يؤخذ منه ويرد إلا رسول الله ...نحن فقط نشرح ما التبس من المسائل ...ندلكم على الطريق ...نوضح الخلاف في بعض الأمور ...وقد نتجرأ يوماً للفتوى ما دمنا نملك العلم في المسألة ...لكن العالم حين يتلبسه غروره فيقول كما قال فرعون "ما أريكم إلا ما أرى" فقد ضل وأضل!

ابتسم الصالح برضا وهو يراقب وجه عابد الذي ارتخت قسماته ليقول بأسف:
_كنت أتمنى لو أحضر معكم دروس الحلقة لكنني مسافر إلى مصر .
فاتسعت ابتسامة الشيخ وهو يقول ببشاشة :
_طلب العلم فريضة في كل مكان ...ومصر تشتهر بكبار شيوخها ...مادمت عرفت الطريق فاختر الصحبة يا بني .
هز عابد رأسه موافقاً ليتنحنح الشيخ ويسمي الله ليبدأ في إلقاء درسه الذي دمعت له العيون خشية ...
هذا هو المجلس حيث تحفهم الملائكة وتغشاهم السكينة ويذكرهم الله في من عنده ...
لهذا شعر عابد أنه يرتد لبعض روحه وحديث الشيخ يطبب أسقام ما عاشه من أيام مهلكة ...
حتى إذا ما انتهى الدرس وانفض الجمع أسره الشيخ بوصية أدرك بفطنته أنه يحتاجها قبل سفره :
_يابني ...قال رسول الله صلى الله عليه وسلم "لن يشاد الدين أحدٌ إلا غلبه" وفي موضع آخر "إن هذا الدين متين فأوغلوا فيه برفق"...ولست بحاجة لتذكيرك بالثلاثة الذين ذهبوا يتفقدون عبادة النبي صلى الله عليه وسلم فلما أخبروا عنها كأنهم تقالّوها ...استصغروها ...فقالوا وأين نحن من رسول الله وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر؟! ...فقال الأول أما أنا أصوم الدهر ولا أفطر ...وقال الثاني وأنا أقوم الليل ولا أنام ...وقال الثالث وأنا سأعتزل النساء فلما سمعهم النبي صلى الله عليه وسلم قال "أما أنا فأصوم وأفطر...وأقوم وأرقد...وأتزوج النساء فمن رغب عن سنتي فليس مني"...

ثم التقط أنفاسه ليردف:


_التطرف يا بني آفة الدين في كل زمان ومكان...وأظنك من الفطنة أن وعيت الدرس ...
ابتسم عابد لقوله وهو يهز رأسه موافقاً ليربت الصالح على كتفه بعبارته هو الآخر:
_عرفت فالزم!
========














_عم رفعت !
تهتف بها ياسمين بود لحارس النادي القديم الذي التفت نحوها وقد تهللت أساريره قبل أن يلحظ سواد ثيابها ليسألها بقلق:
_خير يا أستاذة !
أخبرته بمصابها ليعزيها قبل أن يلتفت نحو يامن بحنان أبوي ليصافحه بقوة ...
ابتسمت ياسمين بوهن وهي تتأبط ذراع يامن كي يدخلا لكنه سحب ذراعه منها ليحيط كتفيها بذراعه هامساً :
_كده أحسن...وأقرب!

رمقته بنظرة مشتتة وهي تتذكر زيارتهما السابقة هنا كزوجين ...
وزياراتهما الأخرى منذ سنوات بعيدة لم تعد تذكر عددها ...
ورغم أن زيارتهما السابقة تركت أثرها في نفسها حقاً لكنها تشعر أن هذه المرة مختلفة ...
خاصة وهو يضمها سائراً بهذه الطريقة ...
يتمشى معها في الممر الطويل المؤدي للملاعب ...
يجلسان معاً تحت شجرة السنديانة التي كان يحبها ...
ويذكّرها- هو -بكل ما كانت ترويه له عن ماضيهما !!
كأنما يسير هو على خطاها بالضبط كي يعيد برمجة قلب لم يعرف سواه عشقاً !!

_سرحتي في إيه ؟!
يسألها وهو يطارد نظراتها الحائرة لتجيبه بشرود :
_حاسة إني كبرت قوي ...مش مصدقة إن كل السنين دي عدت ورجعنا أنا وانت تاني هنا بعد كل اللي حصل .
لكنه ربت على كفها ليقول بحنان :
_أنا بقا ماكنتش هاصدق نهاية تانية غير دي ...
ثم أدخل خصلة نافرة من شعرها تحت حجابها ليردف :
_كل مرة كنتِ بتوحشيني فيها وانتِ بعيد كنت بصبر نفسي بكده...إننا مهما بعدنا هنرجع نقرب .
دمعت عيناها بتأثر لكنها أخفت هذا بإشاحتها لوجهها الذي أعاد هو تقريبه نحوه ليسألها برفق:
_لسه مش عايزة نرجع بيتنا ؟!
_مش مش عايزة...مش قادرة !
هتفت بها بمزيج من حيرة وعجز ليضم كفها بين راحتيه قائلاً بمرح تجاوز به الموقف:
_عجبتك القعدة مع حماتك ؟!
ابتسمت رغماً عنها وهي تطرق برأسها لترد بانفعال:
_أصلاً كل المصطلحات دي مش لايقة على بيللا ...مرة حماتي ومرة الحاجة أم يامن ...كل ده ضمن مسلسل الطرائف والعجائب اللي عايشة فيه من يوم ما رجعت مصر .
ضحك ضحكة عالية أرجفت قلبها ليرد بغمزة عابثة:
_ولسة ياما هتشوف انبهارات !
اتسعت ابتسامتها لتجد نفسها دون وعي تسند رأسها على كتفه لتغيب في شرود طويل قبل أن تهمس فجأة:
_لسه بتحب كريم العراقي؟!
_مممممم ...تعرفي إن السؤال في وقته !
ثم رفع ذقنها نحوه ليحتل نظراتها بعينين عاشقتين تليقان بهمسه :
_دلوعتي خاصمتها...صالحتها ...لما بكت وتوسدت أحضاني ...ألقت عليّ القبض مشتاقاً لها فتحولت عصبيتي لحناني...

هنا ابتعدت هي بوجهها قليلاً لتكمل له هي:
_إن الرجال فوارسٌ لكنما ...لا سلطة تعلو على النسوان !

عاد يضحك ضحكة عالية وقد أعجبته دلالة فعلتها قبل أن يهمس لها مكرراً بدفء حان :
_لا سلطة تعلو على النسوان ...
ثم غمزها ليردف بمكر:
_يعني حافظاها اهه؟! ده أنا قلت كرهتيني وكرهتي كل اللي يفكرك بيا.

ابتسمت وهي تشعر بشيئ غريب في ضحكته وكلامه ...
لم تكن تشعر به سابقاً صادقاً هكذا ...
ضحكته نقية خالصة دون شوائب من هواجس تؤرقه !
ربما لهذا شعرت بنفسها تهدأ قليلاً وهي ترفع عينيها للسماء التي مالت شمسها للغروب ...
السكينة تنتقل منه إليها قبل أن تسمع صوت رنين هاتفه الذي أجابه بقوله :
_جايين ...حاضر ...عاملة إيه ع الغدا؟!
صمت قليلاً ينتظر الرد لتدرك أنه يكلم نبيلة ثم ابتسمت وهي تراه يهتف بجزع وقد امتقع وجهه :
_مسقعة ؟!

كتمت ضحكتها بكفها وهي تربت على كتفه بإشفاق مصطنع قبل أن تراه يغلق الاتصال ليهز رأسه بقوله الآسف:
_كنت عارف إن لازم حاجة وحشة تحصل تبوظ اليوم الجميل ده ...أمي عاملة مسقعة !
عادت تربت على كتفه ضاحكة لترد :
_من "محشي يامن" ل"مسقعة بيللا" ياقلبي لا تحزن !

_نعم؟! بتقارني باكورة إنتاجي م المحشي بمسقعة بيللا؟!
هتف بها باستنكار ضاحك وهو ينهض ليجذبها من كفها فتأوهت ببعض الألم الذي جعله يهتف بقلق حقيقي:
_انتِ كويسة؟! أنا آسف احنا فعلاً مشينا كتير .

قالها ليعاود ضم كتفيها بذراعه بحنان ليغادرا معاً النادي نحو بيت بيللا ...
ولم يكادا يدخلان حتى استقبلتهما رانيا بترحاب ليستأذن منهما يامن للصلاة بينما تهالكت ياسمين جالسة على إحدى الأرائك لتجلس جوارها رانيا متسائلة بإشفاق:
_تعبانة ؟!

رمقتها ياسمين بنظرة متعاطفة وهي تدرك أنها ترى فيها مصيبة فقدها القديمة لجنينها ...
رانيا بالذات تثير فيها مشاعر تعاطفها لأنها تراها أضعف شقيقاتها شأناً ...
أو هكذا كانت تظن حتى سمعت عن جديد أخبارها ومساعدتها لنشوة في المصنع ...

_مفيش أخبار عن أشرف؟!
سألت رانيا باهتمام لتجيبها الأخيرة بعينين دامعتين :
_نشوة بتقوللي إنه بيتصل يكلمها يطمنها عليه بس مش من تليفونه .
_غريبة قوي!
قالتها ياسمين بدهشة لترد رانيا بشرود :


_لا مش غريبة ولا حاجة...أشرف طول عمره اتعود يدي من غير ما ياخد ...لما حس إنه خلاص بقت إيده فاضية مش قادر يدي اضطر يبعد عشان ما يحملناش همه .
_طب عايش فين وإزاي ؟!
سألتها ياسمين لكنها لم تكن تملك إجابة سوى ما تحاول إقناع نفسها به :
_بيقولوا له واحد صاحبه خرج معاه من المستشفى ...ممكن يكون هو اللي قاعد عنده ...بس ...

انقطعت كلماتها عندما سمعتا صوت جرس الباب الذي اندفعت رانيا لتفتحه قبل أن تفاجأ برجل غريب لم تره من قبل ...
_مين حضرتك؟!
لكن الإجابة وصلتها من صرخة ياسمين الفرحة خلفها :
_عابد...حمداً لله ع السلامة !
=======



ضغطت زر الجرس لشقته التي صارت تمثل لها أكبر جحيم تحياه ...
مرة تلو مرة دون رد ...
ترددت قليلاً في الانصراف لكن شيئاً ما بداخلها جعلها تفتح حقيبتها لتستخرج المفتاح الذي كان قد أعطاه لها قبل أن تحسم أمرها لتدخل الشقة وتغلق الباب خلفها ...
شقة أنيقة حقاً لولا ذكرياتها السوداء هنا لاعتبرتها أفضل مكان رأته عيناها ...
لكن شعورها المقيت جعل الاشمئزاز يغطي على كل ما تطاله عيناها ..
الأثاث الفخم بألوانه الفاتحة ...
الستائر والسجاد بالغي الترف ...
وحتى الرائحة العطرية التي تنبعث من مكان ما لكنها تزكم أنفها بعطن ذكرى لن تمحو ذلها الأيام !!
والآن ماذا تفعل ؟!
تنهدت بعمق وهي تحاول استعادة ما روته لها ياسمين اليوم عنه ...
ياسمين التي تبدو وكأنها رأت أفضل وجوهه فيما كان نصيبها هي في الأسوأ...
ترى كم وجهاً يحمل هذا الرجل؟!!

الخاطر الأخير يملؤها قهراً ...غضباً...خزياً...و...غيرة!
غيرة لم تشأ الاعتراف بها وهي تذكر نفسها بعهدها الذي أخذته ...
هي لن تكون "أشواق" أخرى!!

انقطعت أفكارها عندما سمعت صوت مفتاحه يلج في الباب فانتفضت رغماً عنها لكنها التفتت لتواجهه بملامح متنمرة قوية لانت قليلاً عندما رأت وجهه الغارق بإرهاقه رغم الابتسامة المتحدية الشاحبة التي تعمد هو الآخر صبغ شفتيه بها ...

هو الذي ظل واقفاً مكانه يرقبها لدقيقة كاملة بصمت تناطحت فيها العيون بما يليق بهما من تحدٍّ وعناد وغضب...
قبل أن تنتبه هي لما يحمله في كفه ...
كتاب؟!!
هل لهذا علاقة بهمسة ؟!!

_لقيت همسة ؟!
سألته دون مقدمات بنبرة محايدة فسار بضع خطوات ليتهالك جالساً على أحد المقاعد الوثيرة مسنداً رأسه إلى ظهره قبل أن يخاطبها بعينين نصف مغمضتين :
_أول مرة أروح الشركة ما ألاقيش رائد ...الدنيا ملخبطة وهتاخد وقت على ما ألاقي بديل ...أول مرة أروح البيت ما ألاقيش همسة...حضنها الدافي أول ما تشوفني ...ابتسامتها الحزينة...كلامي معاها اللي ماببقاش مستنيله رد ...بس عارف إنه مهم عندها زي ما هو مهم عندي .

عباراته كانت تحمل جواباً غير مباشر لسؤالها بالنفي ...
ورغم شعورها ب-كراهيته- لكنها لم تملك شيئاً من التعاطف نما بداخلها نحوه ...
هو رجلٌ اهتزت أركان عالمه فجأة ليفقد كل من يهمونه !!

_شعور قاسي فعلاً ...شغلك اتلخبط...همسة اختفت...وكمان ياسمين رجعت ليامن ...كل رهاناتك فجأة بقت خسرانة .

ورغم أنها تعمدت أن تكسو نبرتها بالشماتة لكن شعوره هو ب-طيبة خفية- تداريها خلف هذا جعله يغمض عينيه تماماً في محاولة بائسة للاسترخاء قبل أن يردف ببطء :
_الشغل أمره سهل يتظبط...همسة هلاقيها ...أما ياسمين ...
صمت قليلاً بعدها ليخفق قلبها بجنون ترقبه منتظراً ما سيقوله ...

_فعلاً رهان خسران...شفتها النهارده مع جوزها ...كانت بتبتسم ابتسامة ماشفتهاش على وشها قبل كده ...هي فعلاً مبسوطة معاه .
_شفتها فين ؟!
تسأله بترقب لكنه لا يرد مكتفياً بنفس الابتسامة الجانبية التي تمزج المكر بالألم ...
مزيج غريب ...صحيح؟!!
ربما لهذا قررت طرق باب -إنسانيته- التي لا تزال تراها رغم كل شيئ ...
فاقتربت منه وهي تشعر أن جلسته هكذا بائساً مغمض العينين أشد وطأة على قلبها من حضوره المهيب الطاغي ...
هي تكرهه...وتريد أن تكرهه ...
لكن لعله يرضى أن يمنحها حريتها على أي حال بعد مستجدات الأمور ...

_طيب ...دلوقت ياسمين رجعت ليامن برضاها وفقدت أملك فيها ...وهمسة مختفية مع رائد ...وأختي سهل قوي أثبت إنها مريضة وإن اللي بيحصل غصب عنها ...يعني ببساطة مفيش أي سبب يخلليك مورطني معاك كده ...أنا لولا خوفي من الفضايح والشوشرة كنت ...
هنا فتح عينيه فجأة بنظرة مشتعلة أجبرتها أن تبتلع باقي عبارتها ...
ولو نظرت بقلبه لأدركت أي -رهبة- كانت تجتاحه وقتها !!!
ربما لأنه أدرك أنها على حق !
لو كان يستبقيها لأجل ياسمين أو همسة فلم يعد له بها حاجة ...
ولو كان يريدها كطريدة فهي لم تعد تناسب هذا الدور ...
لماذا لا يطلق سراحها فحسب؟!
لماذا يشعر وكأنه صار مقيداً بها دون مسمى؟!
لماذا لا يستطيع تصنيف مشاعره هذه المرة بل -والأسوأ- الاعتراف بها ؟!!
ربما لهذا خرجت كلماته هادرة متخبطة :
_انتِ السبب في إنه قدر يخطف همسة من ورايا ...لو كنتِ عرفتيني حكاية الجواز دي كنت عملت احتياطاتي من بدري ...ودلوقت خلاص سلمتي إنها مش هترجعلي وهتفضل معاه ؟! همسة هترجع وهتفضلي معايا لحد ما تعالجيها !

احمر وجهها بانفعاله لتقترب منه خطوة أخرى هاتفة بحدة مماثلة :
_انت بتلومني على إيه ؟! واجبي كدكتورة أحافظ على أسرار شغلي ...أعمل اللي فيه مصلحة الحالة وبس ...انت مجبتنيش جاسوسة تحطني في بيتك عشان أنقللك اللي بيحصل من وراك ...بس اللي زيك فاكر الدنيا كلها زيه ماشيين بالمؤامرات والخطط !

نظرته الطويلة لها بعدها أربكتها وهي تشعر أن بداخله كلاماً أكبر من أن يقال ...
التعب الذي كانت تصرخ به كل خلية من جسده...
الألم الذي كانت تنبض به ملامحه ..
والحيرة الغريبة على "العينين الماكرتين"...
كل هذا جعلها تشيح بوجهها عنه لتصمت بدورها قبل أن تسمعه يقول فجأة :
_قريتي الكتاب ده قبل كده ؟!

التفتت نحو الكتاب الذي يمسكه منذ دخل لينعقد حاجباها أكثر ...
"ترنيمة سلام"...
سمعت عنه الكثير من المديح لكنها لم تقرؤه قبلاً !

_لا.
_كويس ...تعالي اقريهولي.
بنبرته المهيمنة يقولها مدركاً ما سيثيره فيها من سخط لتشتعل عيناها بنظرة كادت تحرقه مكانه !!!
هذا الرجل مريض!!
عن أي شيئ يتحدث ؟!!
تترك عملها ومذاكرتها لأجل أن تكون تسليته ؟!

لكن ...
ماذا لو تعاملت معه حقاً على أنه مريض؟!
ماذا لو تخطت حاجز كراهيته هذا لتصلح هذا العطب في تفكيره ؟!!
ذكاؤها لم يخذلها في التعامل مع أي حالة من قبل ...
فلماذا لا تستخدمه الآن ؟!!

أخذت نفساً عميقاً وهي تحاول تحليل شخصيته في ضوء الأحداث السابقة معه محاولة التخفي خلف درع مهنيتها وتنحية شعورها الخاص ب"كراهيته"...
هذا رجل يجيد نصب الشباك ...لكنه يتقبل الهزيمة...
والدليل "ياسمين"!
عظيم!
هذا رجل لا يريدها هي -كامرأة- غصباً ...
وإلا كان قد نالها وهي فاقدة الوعي بين ذراعيه هنا ...
ربما هو فقط يريد "إغواءها"’ كي يسيطر عليها طوعاٌ ولا يدري مع من يتعامل هاهنا ...
جيد !
هذا رجل لم يحب في حياته كلها كما يبدو إلا أمه وهمسة ...
شخصية كهذه تحمل عاطفة كبيرة بداخلها ربما لو أمكنها استغلالها لجعلته يطلق سراحها بصمت دون فضائح قد تمسها هي أو شقيقتها ...
رائع!!

لكنه كذلك رجل عنيد وهزيمة هؤلاء لا تكون إلا بمزيج "محترف" من الطاعة والتمرد ...
مزيج تجيد هي كثيراً طبخه !!!

لهذا تقدمت خطوة أخرى لتلتمع عيناها بنظرة لم يفهمها مع كلمتها الوحيدة :
_حاضر.

الشك يملأ عينيه من موافقتها السريعة غير المتوقعة ...
لكنه كان أكثر إنهاكاً من أن يسأل عن المزيد ...
لهذا ما كادت تتحرك لتتناول منه الكتاب كي تجلس جواره حتى فاجأها بأن جذبها ليجلسها قسراً بين ساقيه محيطاً إياها بذراعيه وظهرها يقابل وجهه ...
قبل أن يميل ليسند ذقنه على كتفها هامساً:
_نستفيد بقى من صلاحيات الوضع الجديد ك"مراتي"...من يوم ما سمعت صوتك وانت بتقري لهمسة وأنا في بالي صورتك وانتِ بتقريلي لوحدي كده ...بالضبط !

التفتت نحوه بوجهها بعينين مشتعلتين وارتجاف خفقاتها يفضح تأثرها بمفاجأته ...
لكنه مد أنامله ينزع عنها نظارتها مع استطراده :
_قلت تتقلع أول ما نتقابل...ياريت تكوني بتعرفي تقري من غير النظارة.

احمر وجهها بانفعاله ليتحول "القمران السجينان" لشعلتين من نار!!!
تكز على أسنانها بقوة تكاد تحطمهم وهي تحاول تذكير نفسها بأفكارها السابقة ...
مريض آخر أمام ذكاء طبيبة !!
عنادها لن يزيده إلا عناداً ...
الصبر ...
مزيج محترف من الطاعة والتمرد !!

لهذا هدأ جسدها -نوعاً- وهي تعاود النظر للكتاب بين كفيها قبل أن تأخذ عدة أنفاس متلاحقة لتفتحه ...
تبدأ القراءة بصوت تعمدت أن يكون هادئاً واثقاً لا يشي بهذه الانفعالات التي تعصف بها ...
هذا هو العناق "الثاني" لهما...
لكنها تشعر به أشد وطأة على نفسها من الأول...
ربما لأنه يغمرها بجسده أكثر ...
ربما لأنها تشعر أن "الصدر الصلب" هذه المرة يواجه ظهرها هي الذي طالما ظنته بلا سند !!
وربما لأنها تستشعر أن خلف هالة التجبر والعناد خاصته هذه يختفي الكثير من الألم ...
هو لا يعانقها إذلالاً ولا غريزة...
هو يعانقها احتياجاً !!

بينما كان شعوره هو يختلف كثيراً عن شعورها ...
صوتها الذي يحمل في أذنيه وقعاً خاصاً كان يخترقه كثيراً هذه المرة ...
هذه المرأة لن تكف عن إدهاشه !!
تصرفاتها كلها استثنائية !!!
ربما لو كانت امرأة أخرى في مكانها لثارت وصرخت ...أو ربما حاولت إغواءه ...
لكنها لا تفعل هذا ولا ذاك ...
بل تبدو وكأنها تحرك قطعها على- رقعة الشطرنج -بينهما كي تحقق هدفاً لا يعلمه ...
طاعتها هذه مربكة ...
مستفزة ...
فليحرك قطعة أخرى من قطعه هو الآخر لعله يفهم ...

_لحد دلوقت ما اتأسفتلكيش ع اللي حصل ...عارف إن واحدة زيك مش هتسامح فيه بسهولة.
يقولها بنبرته الرخيمة وهو يمد أنامله ليزيح حجابها عن شعرها فامتد كفها بسرعة يقبض على كفه من الخلف بحزم تمنعه المزيد ...
لتقطع قراءتها وتقول صارمة دون أن تلتفت :
_خالص ! مش هتسامح فيه خالص!
فالتوت شفتاه بابتسامة إعجاب لم ترها ليردف بعدها بنفس النبرة وهو يسند ذقنه على كتفها :
_برغم إني احترت في قرايتك كتير ...بس فيه حاجة واحدة مطمناني ...حاجة ماافتكرش حد عرفك واختلف عليها ...عارفة إيه ؟!
تيبست مكانها وهي تخشى أن تلتفت فتواجهه بهذا القرب ...

لكنه هو من جذب ذقنها نحوه ليتشح بدفء "القمرين السجينين" من هذا القرب الخطير مجيباً تساؤله بنفسه :
_طيبتك !

لحظة واحدة التقت فيها عيناها ب"سراجين " في عينيه !!
لحظة واحدة لم تره فيها صياداً اقتنص بهجة أول حب ...أول عناق ...أول لمسة لرجل !!
لحظة واحدة أخرجته بها بعيداً عن إطار الزمان والمكان ...
لحظة واحدة ضبطت فيها نفسها متلبسة تطارد سراب حلمها البعيد من جديد ...وكأنها لم تتعلم!!
لم تتعلم !!

الخاطر الأخير يصفعها ليعيدها لذروة تنمرها وهي تشيح بوجهها عنه بعيداً ...
ستخرج من هذه الورطة !!

لن تسمح له أن ينتصر عليها !!!
ستعيد له شباكه خاوية ...
وربما تكون "هدية الطيّبة" له قبل أن تغادر حياته هي أن تشفي سقم روحه هذا أولاً ...
ستعامله ك"مريض" يحتاج العلاج....ك"وغد" يستوجب الحذر ...
لكنه لن يكون أبداً ك"حلم" ترجوه التحقق!!

لهذا دمعت عيناها بلا سبب -رأته - وهي تعاود القراءة بصوت عالٍ لعلها تشتت انتباهه ...
وقد أفلحت !
أو هكذا -هيئ إليها- وهي تشعر بتراخي أنفاسه جوارها لدقائق طالت ...

دقائق أغمض فيها هو عينيه يستلذ بهذا الصوت الآسر ...
لا ...لم يكن أرق صوت أنثوي سمعه ...
ولا أدفأهن رنة...
ولا أشدهن إغواء!!
لكنه كان يشبه ...ماذا؟!
هو -للعجب- لا يشبه أي شيئ!!
هو مزيجٌ من حنان أمه...ورقّة همسة...وقوة...من؟!
هو لا يذكر أنه قابل امرأة في حياته بهذه القوة تصلح أن تكون نداً له ...
حتى ياسمين!!

هذه المرأة حقاً خارقة...
كيف تكون هنا ..في بيته.. يكاد يعتقلها بين ذراعيه ...ومع هذا يشعر أنه هو "المأسور" لا هي!!
هو"السجين" بمشاعر لا يمكنه توصيفها وهي "الحرة" المحلقة في سماء كبرياء لا تعرف حدوداً ولا قيوداً...

متعَبٌ هو لأقصى حد...
ومريحة هي لأقوى درجة ...
فمن يلومه لو ...؟!!

من جديد يحاول تحريك "قطع الشطرنج" بحركة مباغتة لعله يفقده اتزانها ...ولم يحسب أن يفقد هو اتزانه...

شفتاه تترنحان بتمهل على جانب وجنتها وذقنها فتعاود التيبس بين ذراعيه لتقطع قراءتها دون أن تلتفت ...
قلبها يعاود جنون قفزاته بغضب يتملك منها ...

اهدئي يا ياقوت ...
هو لايريدك غصباً ...لو أرادها لفعلها من زمن !
هو يريد إغواءك ...يظنك سترضخين !!

_لو مش هتسمع أبطل قراية .
بأقصى ما لديها من برود تقولها وجسدها المتخشب يؤازرها في دعواها ...
لكنه لا يزال يحرك القطع كما يرتضيه عقله :
_بسمع بوداني مش بشفايفي!

همساته تزيد غضبها أكثر لتعاود القراءة بصوت أعلى وكأنها لا تهتم ...
هو صراع قوة ...فلينهزم الأضعف!!
لكنه كذلك لم يكن خصماً هيناً وخبرته الهائلة تواجه ضعف أنوثتها لعاطفة كهذه ...
صوتها يرتعش رويداً ورويداً والحروف تتلاشى من أمام عينيها ...
من اليسار يأتيها صوت مداعب...
ماذا لو كان هذا زواجاً حقيقياً؟! ماذا لو استجاب القدر ليمنحكِ الرجل الذي تمناه قلبك ؟! ماذا لو تستسلمين؟! لو تذوبين في عاطفة كهذه تمنيتها بكل جوارحك ؟!
الخواطر هذه تسلمها لخدر لذيذ فتنكمش رغماً عنها بين ذراعيه أكثر ...
لكن صوتاً آخر من اليمين يأتيها مؤنباً...
هل فكرت "أشواق" مثلك هكذا عندما زلت قدمها ؟! هل قاومت حقاً بما يكفي؟! هل ورثتِ عنها ضعفها كما ورثتِ إثمها ؟! فلترثي مصيرها إذن!!
والخواطر هذه تجعلها تسقط الكتاب من يدها ...تضم قبضتها التي وجهتها بعنف نحو ساقه لكنه لم يبدُ وكأنه شعر بها ...
وبين الجانبين ممزقةٌ هي لم تملك سوى فيض من دموع أغرق وجنتيها لتنبعث منها أنةٌ قوية جعلته يتجمد فجأة ...
قبل أن يديرها بين ذراعيه ليتملك وجهها بكفيه وعيناه لا تقلان شتاتاً عن عينيها ...
نظرته تحمل غضباً ...ألماً ...اعتذاراً ...ورجاء ...
معانٍ وصلتها كلها صادقة لتقصف قلبها قصفاً لكن ماذا يكون "قلبها" هذا أمام سلطان كبريائها ؟!!

_بتعيطي ليه ؟!
يهمس بها متحشرجة خافتة لتجيبه بكل عنفوانها :
_عشان بكرهك !

الصمت الثقيل يجثم عليهما بعدها وهو يمسح دموعها بإبهاميه للحظات طالت قبل أن يهمس لها أخيراً بيقين ثابت:
_لا...عشان بتحبيني !

عيناها تتسعان بارتياع مع كلماته فتحاول الابتعاد بوجهها لكنه يتمسك به برقة أكبر ليقترب هو منها غارساً نظراته في عينيها :
_فاكرة إنك لوحدك اللي بتعرفي تقري الناس ؟! أنا فاهم كويس أنا إيه بالنسبة لك ...أنا الحلم اللي اتمنيتيه بالضبط ...مش م النهاردة ولا امبارح ...من أول مرة شفتيني فيها .

_كنت!
تقولها كأنها تبصقها في وجهه قبل أن تدفعه فجأة لتهب واقفة بينما تردف بمزيج دموعها وقوتها الآسر:
_مش هانكر إنك فعلاً كنت الحلم اللي شفته فجأة بيناديني ...الراجل اللي يرفع راسي وراس ثمر ...اللي يخللي حسين يندم وهو شايف بنت الخدامة بتاخد واحد راسه براسه ...لكن الحلم بقى كابوس ...انت ...انت...

سبابتها ترتعش بشدة وهي تشير نحوه بينما تشرف عليه من علوّ يناسب مكانتها الآن :
_انت دوقتني الذل اللي عمري في حياتي ما دقته ...كل اللي الدنيا عملته فيّ ما كسرش فيّ حاجة زي اللي انت كسرتها ...

عيناه ترتجفان بنظرة وجع حقيقية لكنه يسارع بإغماضهما ليخفي مشاعره خلف جمود وجهه بينما هي تردف بنفس العزة :
_بس اللي زيي ما بيقعش...يمكن الضربة تدوخه بس ما بتموتوش ...لكن أنا هاطلع أحسن منك...وعد مني قبل ما أخرج من حياتك أرجع لك أختك ...ويمكن أرجعلك نفسك كمان ...بس ما تطمعش في أكتر من كده !

يفتح عينيه ببطء وهو يشعر أن هذا الحوار استنزف قوته تماماً ...
استهلكه كما لم تفعل به أحداث الساعات السابقة كلها ...
لكن ...منذ متى يظهر هو ضعفه ؟!!
لهذا قام واقفاً بدوره يواجهها بعينين لا تقلان عنها تحدياً :
_موضوع خروجك من حياتي ده قراري مش قرارك .

ورغم أن عبارته أحنقتها لكنها عقدت ساعديها أمام صدرها لتهتف بنفس العزة :
_لو كنت عايزني غصب كنت خدت اللي انت عايزه من زمان ...انفض إيدك مني يا "بيه"...الرهان المرة دي مش لايق عليك...لا هو قيمتك...ولا انت قيمته !

قالت عبارتها الأخيرة بنوع من الاحتقار وهي تعدل وضع حجابها لتغطي كامل شعرها ثم انحنت تلتقط نظارتها لترتديها قبل أن تتحرك نحو الباب لكنه لحق بها ليمسك ذراعها بقوة فعاد لقاء العيون لكن أكثر وهناً هذه المرة بعدما استنزف كلاهما هذا المشهد الكارثي ...
ألمه أمام ألمها ...
ضعفه أمام ضعفها ...
حيرته أمام حيرتها ...
صورة في مرآة "الماضي"...كم تشبه الأصل وكم تناقضه !!

لهذا ارتجفت شفتاه رغماً عنه وعيناه تحطان رحالها على عينيها في صمت مشحون ...
قبل أن يقول بصوت متحشرج:
_رائد هيكلمك ...أنا واثق من كده ...ده لو مكنش كلمك فعلاً .
أشاحت بوجهها دون رد لم يكن هو ينتظره مع استطراده :
_مش هاقوللك تعملي إيه ...اعمللي اللي يرضي ضميرك ...همسة أمانتك وأنا عارف إنك مش هتضيعيها .

امتلأت عيناها بالدموع رغماً عنها لكنها أزاحته عن طريقها ببعض العنف قبل أن تخرج صافقة الباب خلفها ...
الباب الذي ظل هو يرمقه بنظرة طويلة قبل أن يعود ليلتقط الكتاب الذي كانت تمسكه ليقلبه بين يديه للحظات سبقت تهالكه على الأريكة بعدها ليسلمه الإرهاق لنوم طويل ...
نوم كانت هي بطلة أحلامه بلا منازع ...
ياقوت ...!
طريدة اقتنصت صيادها !
=========






وقفت نبيلة جوار فراشها تراقب وجهها النائم بعينين دامعتين ...
اليوم عقد قرانها على مروان !!
العفريتة الصغيرة ستتزوج أخيراً !!
آخر بنات شقيقتها الراحلة ...
حان الوقت أن تطمئن عليها!!

ازدادت كثافة الدموع في عينيها وهي تذكر وقفة كهذه ليلة كادت تتعرض لانتهاك بسبب ذاك المخرج الوغد ورفيقه ...
ليلة تركت ندبتها في قلبها وقتها ولا تزال ...
ربما هي ما فتح لها طريق الرجوع ل"عائلة" تتقبلها ك"أم"
لا ك"نجمة"!
الطريق الذي تسيره الآن عدواً وكأنما تفرغ فيه اشتياق الماضي كله ...
بل وكأنما تخشى أن يقف عداد العمر فجأة دون أن تروي نهَم هذا الشعور!!

_اصحي يا داليا .
تهتف بها بحنان وهي تجلس جوارها على طرف الفراش لتصدر داليا همهمة اعتراض جعلت نبيلة تهتف باستنكار:
_يابنتي قومي ...النهارده كتب كتابك...أنا مش عارفة
جالك نوم إزاي أساساً؟!

انتفضت داليا فجأة لتمسح وجهها وهي تدور بعينيها في الغرفة قبل أن تقفز فجأة لتغادر الفراش هاتفة بصوت لم يغادره نعاسه :
_سبتيني نايمة لحد دلوقت ليه ؟! لسه قدامي بلاوي .
ضحكت نبيلة وهي تقف بدورها لتحتضنها قائلة :
_صباح الخير يا شعنونة ...ربنا يعينك يا مروان على ما بلاك ....
ثم قرصت وجنتها لتسألها بعتاب:
_برضه لسه ما بترديش على تليفوناته ؟!
_تؤ.
قالتها داليا بحركة كتفيها وعيناها تلتمعان بدلال جعل نبيلة تقول لها محذرة :
_خدي بالك ...الرجالة خلقها ضيق ...هيزهق .
لكن داليا تنهدت بحرارة لتقول بشرود :
_مش مروان...لو كان ممكن يزهق كان زهق من زمان .
_لو كان حبيبك عسل !
عادت تقولها خالتها محذرة لتضحك داليا ضحكة عالية وهي تلم خصلات شعرها المشعث هاتفة بميوعة :
_اللي يلاقي دلع ومايتدلعش يروح النار .
ابتسمت نبيلة بحنان وهي تحتضن وجهها بكفيها قائلة بحنان :
_لولا ظروف ياسمين كنت مليت البيت زغاريد ...ماتعرفيش أد إيه فرحانة...طايرة م الفرح !
_كل ده عشاني؟!
قالتها داليا بغرور مصطنع لترد لها نبيلة بضاعتها بقولها الذي عاد إليه كبرياء النجمة :
_لا ...عشان الفستان الأسود اللي ماكانش راضي يدخل فيّ ...قسته امبارح وطلع مظبوط !
_أوووووه ...الأسود بتاع ...؟!
هتفت بها داليا بانبهار لترد نبيلة باعتزاز :
_هو!

ضحكت داليا بمرح وهي تعطيها ظهرها لتغادر الغرفة بثرثرتها المعهودة :
_مش عارفة خسيتي إزاي مع جهودك المطبخية رفيعة المستوى اليومين دول ...بس يستحسن تشوفي شال للفستان عشان يامن ما يطربقش الليلة على دماغنا ...عايزة أتجوز ماتضيعوش مستقبلي .

كان صوتها يتباعد مع مغادرتها لكن ابتسامة نبيلة كانت تتسع مع كلماتها ...
لم تكن في حاجة لنصيحة داليا فمنذ تقاربت علاقتها مع يامن وهي تحرص أن تكون ثيابها أكثر انضباطاً كي لا تثير حفيظته ...
تعلم أنه لن يحدثها في أمر كهذا صراحة لكنها صارت تريد رؤيته راضياً وهو الذي عليه حاله منذ عادت إليه ياسمين ...

_صباح الخير يا بيللا .

انقطعت أفكارها بتحية هانيا التي تبيت ليلتها هنا منذ
الأمس بعد عودتها من تركيا لتلتفت نحوها نبيلة هاتفة بلهفة :
_صباح النور ...ياللا عشان ورانا حاجات كتير ...هانزل أخلص شوية مشاوير وانتِ خلليكي مع داليا ...
قالتها وهي تتحرك لتجذب حقيبتها فهتفت هانيا خلفها :
_داليا صحيت ؟!
والإجابة جاءتها في المنشفة التي قذفتها داليا لتصطدم بوجهها مع هتاف الأخيرة الضاحك :
_النهارده فرحي يا جدعان ...لازم كله يبقى تمام ...

قالتها وهي تحرك جسدها بحركات راقصة جعلت نبيلة تطلق ضحكة عالية بينما هتفت هانيا باستنكار:
_ما تقفي على بعضك يا بنت....إيه ده ؟!

لكن نبيلة احتضنت داليا لتقبل جبينها قائلة باعتزاز :
_تربيتي!
قبلتها داليا بعمق قبل أن تخرج لسانها لشقيقتها مغيظة فعادت نبيلة تضحك قبل أن تغادر البيت لقضاء شأنها ...
وما كادت تفعل حتى توجهت هانيا نحو المطبخ لتعد لنفسها القهوة...
سمعت داليا تتنحنح من خلفها فالتفتت نحوها لتشد شعرها بحركة خفيفة جعلت الأخيرة تتأوه دلالاً لتبتسم هانيا قائلة بحنان :
_مبروك يا داليا ...يارب تعقلي بقى .
_لو عقلت أموت حضرتك !
قالتها داليا بشقاوتها المعهودة قبل أن تحك رأسها لتسألها ببعض الحرج:
_كنت عايزة أسألك على حاجة بحكم كونك أختي الكبيرة المتجوزة -حالياً- يعني ...بس مكسوفة ...
_مكسوفة؟! وال"أبديت" ده عملتيه امتى؟!
قالتها هانيا باستنكار وهي تعطيها ظهرها لتصب القهوة فتحركت داليا لتسألها بخجل تمكن منها رغماً عنها :
_أصلها حاجة تكسف ...
_مممممم؟!
سألتها هانيا وهي ترتشف رشفة من قهوتها لتتنحنح داليا وتسألها باهتمام لم يخلُ من خجل:
_بتتدلعي على أبيه رامز إزاي عشان يعمللك اللي انتِ عايزاه ؟!
_يااااا زين ما اخترتِ!
هتف بها رامز الذي كان واقفاً على باب المطبخ لتشهق
داليا بخجل قبل أن تخرج من المطبخ عدواً وهي تغطي وجهها ...
فيما سعلت هانيا برشفة القهوة التي توقفت في حلقها لينفجر رامز ضاحكاً وهو يقترب منها ليربت على ظهرها مردفاً بمرح:
_اجمد يا وحش.

ظلت هانيا تسعل للحظات وهي تدفعه بكفها فناولها كوب ماء شربت منه لتهدأ قليلاً وسط ضحكاته العالية التي سبقت قوله :
_ياربي ! مش هنساها أبداً ...داليا بتاخد خبرتها من "بسطويسي"...
ثم كوّر كفيه حول شفتيه في وضع النداء ليردف بتحذير مصطنع:
_إلى مروان القاطن بدير النحاس ...لا تقرب هذه العائلة...الزواج فيه "دبشٌ" قاتل!!



كتمت هانيا ضحكاتها بكفها بينما وضعت الآخر على شفتيه لتهتف باستنكار:
_هتفضحنا ...اسكت ...اسكت !
لكنه قبل أناملها أمام شفتيه ليجذبها بين ذراعيه هامساً بنبرة عابثة :
_لسانك اتلسع؟!
_رامز!
هتفت بها باستنكار وهي تدفعه لتنظر نحو الخارج مردفة بعتاب:
_احنا مش في بيتنا ...لم الدور شوية .
مط شفتيه باستياء ليقول وهو يغلق باب المطبخ :
_طب اعمليلي شاي .
رمقته بنظرة متشككة لتقول ملوحة بسبابتها:
_افتح الباب!
_لا.
قالها وحاجباه يتراقصان بمشاكسة فزفرت بسخط مصطنع وهي تعطيه ظهرها لتعد له الشاي شاعرة به يقترب من ظهرها ...
_إيدي سقعانة !
يقولها بمسكنة مصطنعة لترد ببرود دون أن تنظر إليه :
_كوباية الشاي هتدفيها ..آه...
انقطعت عبارتها بشهقتها وهي تجده يضع كفيه قسراً في جيبي بلوزتها هي الأماميين ليلصق ظهرها به هامساً :
_بجامتي مالهاش جيوب .
_رامز!
تهمس بها باستنكار وهي تحاول إخراج كفيه العابثين من جيبيها لكنه يرد هامساً في أذنيها ببراءة مصطنعة :
_إيه ؟! مارضيتش أحطهم في جيوب البنطلون !

احترقت وجنتاها خجلاً وهي عاجزة عن الاستدارة نحوه بهذا الوضع فاكتفت بنظرتها الموبخة :
_انت مالكش فرامل ؟!...ده أنا قلت هتتغير واحنا مش في بيتنا .
_عذراً يا أخ بسطويسي ...شاب أرعن طائش تحركه غرائزه !
قالها مازحاً وهو يرفع أحد حاجبيه فابتسمت رغماً عنها وهي تدير رأسها لتصب له الشاي هاتفة :
_اتفضل شيل إيدك وخد الشاي!
_أمري لله !
قالها وهو يخرج كفيه من جيبيها ليتناول منها كوب الشاي الذي ارتشف منه رشفة قائلاً:
_تسلم الأيادي .
بينما سارعت هي تفتح الباب لتجد يامن في وجهها يقول ببشاشة :
_صباح الخير .
فازداد احمرار وجنتيها وهي ترد تحيته بارتباك بينما تلفت هو حوله ليسألها باهتمام :
_رانيا فين مش في أوضتها؟!
_صحيت من بدري راحت المصنع لنشوة ...هترجع ع المعاد ...أعمللك قهوة ؟!
_أنا هاعملله !
قالتها ياسمين التي ظهرت من خلفه ليلتفت نحوها بابتسامة حانية رغم مزاحه الساخر:
_يعني أخيراً هتحني عليّ وتدخلي المطبخ؟!

غمزت هانيا رامز لينسحبا تاركين لهما المزيد من الخصوصية بينما دخلت ياسمين المطبخ في جواب غير منطوق لسؤاله ليلحق هو بها مستمتعاً بذكرى الأيام الخوالي التي كانت تعد له فيها إفطاره ...

_وحشتني قهوتك .
قالها وهو يجلس على المائدة جوارها لكنها لم تلتفت نحوه وقد غابت في شرودها بعدما بدأت في إعداد القهوة ليسألها باهتمام:
_بتفكري في عابد ؟!
التفتت نحوه لتومئ برأسها إيجاباً قبل أن تقول بتأثر:
_لما شفته كإني قدام واحد مختلف ...شفت إزاي ماكانش عايز يسيبني من حضنه أول ما شافني؟!
_بلاش السيرة اللي تنرفز دي؟! أنا عارف إنه أخوكِ بس دمي فار لما شفتكم !
هتف بها بضيق حقيقي جعلها تبتسم وهي تقترب منه لتشير حولها قائلة :
_بتغير من أخ واحد وانت عندك مستعمرة ستات بحالها هنا؟!
_مابحضنش حد فيهم !
بعناد يقولها لتقترب منه أكثر قبل أن تنحني لتواجه وجهه بوجهها هامسة أمام عينيه :
_هو الحضن بالإيدين وبس؟! كل نظرة حنينة حضن...كل موقف احتواء حضن ...كل كلمة بتزعق فيها من خوفك عليهم حضن.
فابتسم بتأثر وهو يجذبها ليجلسها على ساقيه متخللاً شعرها بأنامله هامساً:
_أول مرة أحس إنك ممكن تغيري منهم !
لكنها أسندت رأسها على صدره لتهمس مغمضة العينين:
_فيه فرق بين اللي تحسه واللي تقدر تعبر عنه ...زمان مكنتش أقدر أقوللك لأني كنت حاسة إنه مش من حقي أغير عليك ...حاجة وسط حاجات كتير اتعودت أدفن إحساسي بيها ...
فرفع ذقنها نحوه لتفتح عينيها مع سؤاله :
_ودلوقت؟!
_دلوقت حاسة إنك بتحبني ...خلاص بقا من حقي أصرخ وأقول غيرانة ...من حقي أغلط وأقوللك سامحني وأنا عارفة إنك هتسامحني ...من حقي أخاصمك وأبعد وأنا عارفة إنك هتصالحني ...من حقي آخد زي ما بدي ...من حقي أحبك حب صح مش زي بتاع زمان .

ضمها بين ذراعيه أكثر ليهمس بدفء:
_كل حاجة فيّ من حقك...من قبل ما تطلبيها .
أغمضت عينيها على صورته ليصلها صوته بعدها يتنحنح مردفاً باهتمام :
_أنا فكرت أكلم عمي يستضيف عابد شوية في البلد ...
فتحت عينيها فجأة مصدومة بالاقتراح ليستطرد هو بحماس:
_فكري فيها كده هتلاقيها مفيدة من كل الزوايا ...أولاً هيريح أعصابه بعد اللي شافه ...ثانياً لو فيه فعلاً خطر عليه فهو متداري هناك ...ثالثاً هو قال إنه عايز يكمل دراسة علوم شرعية وانتِ عارفة إن بيت عمي لازق في بيت الشيخ "......" اللي الناس بتجيله من آخر الدنيا تتعلم ...وأفتكر إن عمي هيرحب بالفكرة جداً .

لكنها هزت رأسها لتقول بعدم اقتناع:
_بس انت عارف المستوى اللي كان عابد عايش فيه في ماليزيا ...تفتكر هيبقى مرتاح وهو عايش في قرية صغيرة من غير أي رفاهيات ؟!

فقرص أنفها مداعباً ليقول بثقة:

_هو محتاج الجو ده صدقيني ...محتاج يفصل ويرجع للطبيعة شوية ...وعموماً لو ماعجبوش الوضع يرجع ...أنا هاعرض عليه الموضوع لما أشوفه في كتب الكتاب !
ابتسمت وهي تومئ برأسها موافقة لتنساب على شفتيها رغماً عنها :
_شكراً يا طيب !
جلجلت ضحكته عالية بعدها بما أطرب قلبها وهو يضمها بشدة نحو صدره قائلاً باشتياق مسها بصدقه:
_والله زمااااان !
ثم مال على بطنها يقبله ليبسط كفه عليه هامساً كأنه يحدث ابنته :
_سامعة يا يمنى؟! أول مرة تسمعيها انتِ دي ...بس زمان ماكانتش بتبطل تقولها !
فاتسعت ابتسامتها وهي تريح كفها على كفه المبسوط على بطنها شاعرة براحة غامرة في هذا الوضع ...
راحة قطعها فوران القهوة التي سالت على الموقد لتشهق بارتياع وهي تحاول النهوض هاتفة :
_القهوة فارت!


لكنه يتشبث بها ليمنعها القيام هامساً أمام شفتيها بلهفة عاشقة :
_بلاها قهوة ...خللينا في النوتيللا!
=======














_بارك الله لكما وبارك عليكما وجمع بينكما في خير .

قالها المأذون وهو ينهي إجراءات عقد القران في بيت نبيلة ليصافح يامن مروان بحرارة قبل أن يقف ليجذبه في عناق طويل سبق قوله له بمزيج من حزم ورجاء:
_خللي بالك منها .

لكن مروان لم يكن يستمع وهو يشعر بالدنيا تدور من حوله ...
هل هكذا ببساطة تحقق الحلم ؟!
هل صارت حليلته حقاً؟!!
طنينٌ غريب يدوي في أذنيه فلا يمكنه سماع ولا رؤية غيرها ...
هي التي بدت له في هذه الليلة أجمل كثيراً مما حلم بها ...
ترتدي ثوباً عسلياً بلون عينيها ينساب برقة محتضناً تفاصيلها الشهية ،ووشاحاً بدرجة أغمق قليلاً وقد اكتفت من زينتها بطلاء شفاه ذهبي عذب جوارحه المشتاقة لكل ما فيها ...
الحمقاء لم تحدثه بكلمة منذ وصل !
إنها حتى لم تنظر إليه مطرقة برأسها كأنما هي مغصوبة على هذه الزيجة !

الخاطر الأخير أشعره بالضيق ليعقد حاجبيه بقوة وهو لا يفهم حقاً ماذا تخفيه عنه !
لأول مرة يشعر بغرابة تصرفاتها !
لو لم يسمع بأذنيه اعترافها بحبه ل"العاشق المجهول" لما صدق..
والخاطر الأخير يجعله يبتسم بسعادة بعد انعقاد حاجبيه السابق ليتفحص يامن ملامحه قائلاً بمشاكسة وهو يميل على أذنه :
_بتكشر وتضحك في نفس الوقت ؟! لا مش هاستغرب
خلاص بقا...دي أعراض القرب من داليا !

_وهو فين القرب ده ؟! مش شايفها قاعدة بعيد إزاي ؟! دي حتى ما سلمتش عليّ؟!
همس بها مروان في أذنه بسخط ليضحك يامن شامتاً قبل أن ينادي داليا ليهتف بها مشاكساً:

_ياللا يا عروسة عشان تلبسوا الدبل .

احمر وجه داليا وهي تقف لتتقدم نحوهم مطرقة الرأس فاضطرب مروان وهو يجد يامن يقف ليخلي لها مكانه ...
لكن داليا انتزعت الدبلة من مكانها لتلبسها بنفسها مانعة مروان من فعل ذلك !

_ماشاء الله ...العروسة شكلها خجولة قوي!

قالها المأذون ضاحكاً ليميل يامن على أذن مروان هامساً بشماتة ضاحكة :
_قابل يا عم قابل !

بينما كان مروان يغلي غيظاً وهو يراها لا تزال لا تنظر إليه حتى وقد عادت لجلستها البعيدة هناك حيث تجمعت حولها عائلتها تهنئها ...
فيما بقي هو واقفاً جوار يامن وحده فلم يستطع والداه الحضور خاصة مع الخبر المفاجئ !!

_معلش يا مروان ...دلوقت المولد يتفض ويسيبوك معاها لوحدكم ...وساعتها بقى يا حلو ...!!!

أفكاره العابثة تسليه لكنه ينتفض على تربيت يامن على كتفه مع قوله الضاحك :
_هتعرف تلبس الدبلة لوحدك واللا ألبسهالك ؟!
_لا ما انا هالبس ...هالبس يعني!
قالها مغتاظاً بنبرة ذات مغزى ليضحك يامن ضحكة عالية سبقت قوله :
_من ناحية لبست ...فانت لبست فعلاً!

_السلام عليكم .
قالها المأذون وهو يجمع أوراقه ليغادر فتأهب مروان منتظراً أن يتركوها معه وحدهما ...
لكن داليا وقفت فجأة لتمسك رأسها قائلة بوجع مصطنع:
_معلش مصدعة ...هادخل أنام !

_تنام ؟!
هتف بها سراً في استنكار وهو ينظر ليامن نظرة راجية لكن الأخير بسط كفيه باستسلام وهو يراقب عودة داليا لغرفتها التي أغلقت بابها خلفها ليعود ببصره نحو مروان قائلاً :
_نورتنا يا كبير ...والله يا واد وعرفت تنقي!

قالها وهو يخبط على عضده مازحاً لتقول نبيلة بارتباك :
_معلش يا دكتور ...هي فعلاً بقالها كام يوم ما بتنامش .
_أيوة وطلبت مني أقراص للصداع قبل ما تيجي .

قالتها رانيا كاذبة لتدافع عن شقيقتها فالتقطت منها الخيط هانيا لتهتف بسرعة :
_شكلها خدت برد عشان كانت مخففة امبارح .

لكن يامن رمقهن بنظرة تسلية قبل أن يقول لمروان بابتسامة عريضة :
_شكلها بتستهبل!

_يامن!
هتفن بها جميعاٌ باستنكار ليردف يامن وهو غير قادر على منع ضحكاته :
_ياجماعة هو مروان غريب؟! هو عارف إنها طاقّة ...
ثم التفت نحو صديقه الذي أخرسته الصدمة ليردف:
_هه ...تحب تروّح واللا تيجي أعزمك على سينابون
بالمناسبة اللطيفة دي؟!
الشماتة العابثة في نبرته جعلت مروان يلكمه في كتفه بغيظ قبل أن يعتذر منهم بنبرة مهذبة ليغادر تلاحقه ضحكات يامن الشامتة والذي لكزته ياسمين ليتوقف !!!

وفي غرفتها كانت داليا تستمع للحوار خلف الباب المغلق كاتمة ضحكتها بكفها ...
تعلم أنها تثير جنونه لكنها لم تسامحه بعد على كلماته التي قذفها في وجهها تلك الليلة ...
ولا على تخفيه طوال هذا الوقت خلف واجهة مجهولة !!

لكنها شعرت بخيبة حقيقية عندما غادر هكذا بسرعة وكأنما توقعت أن يتوسلها الحضور !!

لهذا زفرت بسخط من نفسها قبله ثم تحركت لتبدل
ملابسها وتستلقي شاردة على فراشها ...
هل غضب منها ؟!
هل سيخاصمها ؟!

_برضه مش هتردي ع التليفون ؟!
رسالته النصية وصلتها لتبتسم كالبلهاء وهي ترد برسالة مكتوبة :
_لا...تعبانة.
_كنتِ زي القمر النهاردة .
_عارفة.
لا تزال ردودها المقتضبة تثير غيظه فاستغل خبرته بها ليكتب :
_بس الفستان كان...وكمان لفة الطرحة...بصراحة...بلاش ...عشان متزعليش.
_كانوا إيه ؟!
كان يستطيع شم رائحة لهفتها المغتاظة في حروفها فضحك ضحكة عالية وهو يعاود الكتابة لها :
_مش وقته انت تعبانة...الف الف سلامة ...بالمناسبة أنا هاروح بكرة الصبح أنقي سيراميك العيادة ...لو هتبقي جاهزة الساعة عشرة هاعدي آخدك...سلام بقا الموبايل بيفصل شحن .
ولم يكد يرسلها حتى أغلق هاتفه ليضحك ضحكة عالية وهو يتصور ردة فعلها على ما كتبه !!
========
_صباح الخير.
قالتها داليا بعبوس وهي تستقل السيارة جواره في الموعد تماماً ليكتم ابتسامته وهو يرد باقتضاب مشابه :
_صباح النور .
لم يتبادل معها كلمة واحدة طوال الطريق مكتفياً باختلاس النظر نحوها ...
وجهها الخالي تماماً من الأصباغ...
وشاحها وردي الألوان..
معطفها الطويل الأرجواني على سروالها من الجينز ...
وأخيراً حذاؤها الرياضي بلونه الوردي الفاقع الذي تتحرك فوقه ساقها بعصبية ...
يعلم أنها قضت ليلتها تفكر في آخر رسالة أرسلها ...
عقاب مناسب لحماقاتها !
ربما لا يكون من الجيد دوماً أن ترتبط بشخص يفهم مفاتيح روحك كاملة !

انقطعت أفكاره عندما وصل بسيارته نحو المحل المنشود فترجلا منها ليتوجها نحوه ...
راودته نفسه أن يمسك كفها لكنه كان يعلم أنها في أعلى مستويات اشتعالها وقد تنفجر في أي لحظة ...
لهذا آثر السلم تاركاً لها حرية اختيار ما جاءا لأجله ...
ولم يكادا ينتهيان ليستقلا سيارته من جديد حتى بادرها بسؤاله بنبرة محايدة :
_تحبي تتفرجي ع العيادة كمان ؟!
_طيب!

قالتها بفظاظة ذكرته بصديقه ابن خالتها فكتم ابتسامته وهو يتحرك بالسيارة نحو مكان عيادته ...
ظهر الاهتمام على ملامحها العابسة وهي تميز المكان ...
بقعة شعبية الطراز لكنها نظيفة ...

البناية التي تحوي عيادته كانت حديثة الطراز نوعاً مما حمسها أكثر لأن تغادر السيارة وتتوجه نحوها سابقة إياه بخطواتها لتتوقف عيناها أمام يافتة بمدخل العمارة تحمل اسمه ...
وقفت أمامها وعيناها تلتمعان بفخر ...
هذا ...زوجها !
غداً سيكون أمهر طبيب في مصر بل في العالم !
هذا هو رجاؤها الذي لن ترضى له بأقل منه !!

_عاجباكي؟!
سألها ملاحظاً برضا خفي لمعة عينيها لترد باقتضاب دون أن تنظر إليه :
_كويسة .
ابتسم رغماً عنه وهو يستقل معها المصعد نحو العيادة التي فتح بابها قائلاً:
_اتفرجي عليها براحتك ...أنا هاستنى العمال اللي جايبين السيراميك هنا .


لم ترد عليه وهي تستكشف المكان بفضولها المعهود الذي خالطه الآن فرح غامر ...
تحمد الله أن المكان لا يزال في طور التشطيب ...
هنا يمكنها وضع لمساتها كاملة ...
سيبدأ هذه المرحلة وهي معه ...
تشاركه كل خطوة فيها !

الخاطر الأخير ملأها حماسة وهي تجوب المكان تتخيل لون الطلاء ...نوع الديكورات ...تصميم صالة
الانتظار ...وغرفة الكشف التي دخلتها لتتسع عيناها بقوة مع مرأى المشهد الذي تطل عليه ...
برج حمام كبير يعلو سطح المنزل المجاور !
هذا المشهد الذي خطف قلبها وهو يعيد إليها ذكريات قديمة ...
يالله!!
هل مضت حقاً كل هذه السنوات ؟!!

غابت في شرود طويل فلم تنتبه للوقت بينما وقف هو على باب الغرفة بعد انصراف العمال يراقبها في وقفتها بعينين دافئتين ...
شرودها الطويل أثار فضوله فاقترب منها بقلبه قبل قدميه ...
أنامله تتجرأ أخيراً لتحط على ظهرها برقة أجفلتها لترفع وجهها نحوه هامسة بانبهارها الطفولي :
_شفت المنظر جميل إزاي؟!

لكنه في هذه اللحظة كان يراها هي و قد احتكرت جمال العالم كله !
وجهها الذي طالما عشق تفاصيله الآن يراه أقرب ما يكون ...
أشهى ما يكون ...
عيناها اللتان تمزجان براءتها بشقاوتها تلتمعان الآن بلونهما العسلي في ضوء الشمس ...
أنفها المنمنم ...
وشفتاها المنفرجتان بانبهارها بما تراه !

_فعلاً...جميل.

همس بها بصوت مبحوح من فرط عاطفته بمراد غير مرادها تماماً ...
لتردف غافلة عما يعنيه :
_كان عندنا في بيتنا القديم واحد زيه ...كنت بطلع له مع ماما زمان .
_عارف.
يهمس بها وهو يقترب منها أكثر لكنها ابتعدت عن النافذة لتشيح بوجهها قائلة بنبرة عاد إليها عبوسها:
_لو خلصت ياللا نمشي .
_لسة زعلانة مني ؟!

يهمس بها ولازال كفه على ظهرها لتطرق بوجهها دون رد ...
فامتد كفه الآخر يحتضن وجنتها ليرفع وجهها نحوه مع استطراده :
_طب اديني فرصة أصالحك .

عيناها تشرقان بشمس عاطفتها ...
وعيناه تومضان ببرق عاطفته ...
شفتاه ترتجفان مع هدير قلبه الذي وجد صداه في قلبها هي الأخرى ...

_أنا عارف إن كلامي كان صعب يومها ...بس أنا وقتها كنت ...

قاطعت كلماته عندما بسطت أناملها على شفتيه قبل أن تحسم قرارها لتنزع عنها وشاحها بحركة مفاجئة تاركة لشعرها حرية الانسدال على ظهرها ...لتهمس بعدها بخفوت :
_ما أصدق قيلاً من شعر امرأة يروي تاريخ عاشقها ؟!

اتسعت عيناه بصدمة مأخوذاً من تصرفها قبل أن ينتبه لكلماتها ...
لا ...إنها ليست كلماتها هي إنها كلماته...
مهلاً...
كلمات العاشق المجهول لا مروان !!!


_انتِ عرفتي؟!
يهمس بها بصوت متحشرج وهو يقترب منها خطوة أخرى لتدمع عيناها وهي تجيبه بصوت متهدج:
_الصورة اللي بعتهالي كان فيها انعكاس للوحة في صالة بيتك شفتها يوم ما جيتلك عشان تساعد يامن ...يوم ما جيتلك الجمعية كان اليوم اللي عرفت فيه الحقيقة...كنت متلخبطة ...كل حاجة متلخبطة...كنت جاية عشان أواجهك وأزعقلك...لا...كنت ناوية كمان أضربك ...بس أول ما شفتك ...أول ما شفتك...

ارتجف صوتها أكثر ليرتعد جسدها معه فربت على كتفها مهدئاً لتردف مسبلة جفنيها :
_افتكرت كل اللي عملته عشاني ...غصب عني لقيتني بحضنك...ماتلومنيش ...جربت تلاقي حلم في خيالك فجأة بقى قدامك لحم ودم ؟!
_جربت.
يهمس بها بنبرة ذائبة وهو يقترب منها حد امتزاج أنفاسهما وقلبه يهدر في صدره حد الجنون ليردف :
_بس برضه مش هسامحك إنك ضيعتي جمال أول حضن بيننا .
ورغم أن حمرة وجنتيها المحترقتين كانتا تفضحان خجلها لكنها لم تستطع مقاومة شقاوة ردودها العفوية :
_ممكن تعوضه .

وكأنه ينتظر إذنها !!!
كفه المستريح على ظهرها يجذبها لصدره ليدفن وجهه بين خصلات شعرها فلا يدري أيهم يشتعل بها أكثر ...
أنفه الذي يتلمس عطرها ؟!
أنامله التي تغوص في شعرها؟!
أم شفتاه اللتان تتراقصان بجنون فوضوي فوق رأسها ووجنتيها لتفقدان رشدهما تماماً أمام شفتيها !!!

هل هكذا يكون مذاق الري بعد الظمأ؟!
شعور الدفء بعد طول برد ؟!
صوت الهديل بعد طول صمم ؟!!
بل هل هكذا تكون الحياة بعد طول عدم ؟!!

_مروان...انت بتعيط ؟!
تهمس بها أخيراً بارتياع بعدما أفاقت من سكرتها وهي تشعر ببلل دموعه على وجنتها لتمسحها بأناملها المرتجفة فيأخذ نفساً عميقاً ليعاود ضمها لصدره بقوة هامساً بصوت مرتجف:
_كنت عارف إن اللحظة دي هتيجي ...بس ماكنتش متخيل إنها هتبقى بالجمال ده .

ارتجف جسدها بتأثره وهي ترفع إليه عينيها التي لم تملك دموعها هي الأخرى:
_كنت واثق قوي كده ؟!
قالتها بمشاكسة حاولت بها مداراة خجلها ليضغطها بين ذراعيه أكثر هامساً :
_مهما عملتِ عمري ما كنت هاسيبك تبقي لغيري.

همساته تهدر كالرعد في أذنيها فتزلزلها بصدقها وحرارتها ...
تود لو تقول أنها تحبه فتخرج منها رغماً عنها بدلاً منها ...

_آسفة...أنا ...آسفة ...

تخرج ممتزجة بدمعها الذي تتلقفه شفتاه بنهَم قبل أن يحيط وجهها بكفيه ليهمس بين أنفاسه اللاهثة :
_مش دي يا داليا ...مش دي ...
تعض على شفتها وهي تدرك مراده لتبتلع غصة في حلقها لتخرجها أخيراً حارة ملتهبة ...
_بحبك .
لم ينتظرها لتكملها وكأنما أبى إلا أن تولد أول وآخر حروفها بين شفتيه هو...
يسمعها منها بطريقته وتعيدها هي بطريقتها ...
فنعم المتحدث والمستمع!!

يبتعدان أخيراً لكن روحاهما تمتزجان ...
تشعر به يرفع كفها الذي يحمل دبلته لينتزعها منه برفق قبل أن يلبسها إياها من جديد بنفسه مع وعود شفتيه التي انسابت دافئة على كفها كله ...ظاهره وباطنه ...
عشرات الوعود التي يتلقاها قلبها قبل بشرتها ...فتلهبه قبل أن تشعلها ...

جسدها يرتعد بانفعاله وهي تراه أكثر مشهد عاطفي تمنته لرجل يلبس امرأة خاتمه ...

_كده ...الدبلة بتتلبس كده .
يهمس بها بصوت لا تدري كيف يمزج قوته بارتعاشه ...
مزيج يبدو أنه لايتقنه إلا عاشق مثله !

لهذا ضمت كفه نحو صدرها لتهمس له هي الأخرى بمزيج دلالها وعشقها:
_أنا كنت فاكرة إني اتغيرت عشان كنت جنبي سواء كنت عارفاك واللا لأ ...بس إحساسي دلوقت بدبلتك في إيدي ...بإني بقيت شايلة اسمك ...ده أكبر سبب مخليني دلوقت عايزة أليق بيك ...عايزة أستاهل كل الحب ده .

ابتسامته تتوج شفتيه وهو يرفع كفها نحو صدره هو هذه المرة ليهمس لها :
_الحب ده تستاهليه من زمان ...مش محتاجة غير إنك تبقي انتِ وبس.

_ممكن أطلب منك طلب ؟!
تسأله بين رجاء وغنج لتمنحها عيناه وعده فتردف :
_ماتحرمنيش منه ...أنا حبيته زي ما حبيتك !

ينعقد حاجباه بدهشة للحظة قبل أن يفهم ما تعنيه ...
لتستطرد هي بنبرتها التي عادت إليها طفوليتها :
_خلليه دايماً يكلمني من نفس الحساب بالفصحى من وقت للتاني ...يسأل عليّ ...أجري عليه أحكيله يومي كله ...وأشتكيله حتى منك لو زعلتني !

أغمض عينيه بقوة لتسيئ فهم ردة فعله فتهتف بانفعال :
_أنا مش مجنونة أنا بس ...
_أنا اللي مجنون يا داليا ...
يقاطع بها كلماتها لتنتهي حروفه بين شفتيها :
_مجنون بيكي .
==========


على اليخت الخاص به وقف حسين يراقب عبر منظاره ...
عملية "الوداع" كما أسماها !!
ابتسامة ظافرة ترتسم على شفتيه وهو يتذكر كيف تمكن من إخراس كل صوت هدد بسقوطه ...
البقاء للأقوى ...
وهو دوماً كان الأقوى!!

لكنه تخير الاكتفاء بهذا الحد من أعماله خلف الستار ...
لن تسلم الكرة كل مرة كما يقولون !

ابتسامته الظافرة تتسع وهو يرى السفينتين هناك تقتربان بحمولتهما ...
بقيت الخطوة الأخيرة ويشرب نخب النصر!

_انت جايبنا هنا ليه النهارده ؟!
تسأله شوشو خلفه بابتسامة رقيقة زادت فتنة ملامحها ليلتفت نحوها قائلاً بلهجة عابثة :
_مش قلتيلي إنك بتحبي البحر ؟!
_جداً .
قالتها بعينين تلتمعان غموضاً لم يفهمه فاقترب منها أكثر ليمسك كتفيها لكنها ابتعدت تمنعه بقولها المتدلل:
_مش قلنا مفيش حاجة قبل الجواز ...هانت كلها يومين ونكتب الكتاب زي ما وعدتني .

ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة من سذاجتها وهو يقارن صورتها هذه بصورتها في أول مرة استقبلها في مكتبه عندما تعمد سكب المشروب فوق ثيابها ...
كيف لحق بها في حمام مكتبه الذي أغلقه خلفه ليبدأ في مغازلتها بما كان واثقاً أنه أطار صوابها ...
يومها تعمد أن يجتذبها بالطريقة الأحب لقلبه ...
ببطء لكن بثبات كما يقولون ...
لهذا اكتفى وقتها بإلقاء الشباك ليتركها تغادر مكتبه محتفظاً بذكرى بسيطة منها ...
وشاحها الذي نسيته خلفها واحتفظ به في درج مكتبه !!

الحمقاء تظنه يحبها ويريد الزواج منها ...
ولا تعلم أنه يعد لها مفاجأة في شقته الخاصة بعد يومين فقد بدأ يشعر بالملل خاصة واشتهاؤه لها يزداد يوماً بعد يوم ...

_أكيد يا حبيبتي ...مش قادر أصبر لحد ما تبقي ...

صوت إطلاق نار قريب يقاطع عبارته لينتفض مكانه قبل أن يرى عدداً من المراكب يقترب منه مع الصوت الذي صدح حوله :
_سلم نفسك يا حسين ....رجالتك وبضاعتك معانا.

عيناه تتسعان بصدمة مع وجهه الممتقع وهو يسمع تبادل إطلاق النار بين الجانبين ...
قدماه تتجمدان وخوفه يمنعه حتى محاولة الهرب ...
وفي ثوانٍ كان محتجزاً بين أيديهم يطالعهم بنظرات مصعوقة لتقترب منه شوشو قائلة بظفر:
_معلش يا حسين بيه...مايقع إلا الشاطر ...



التفت نحوها بنظرة حادة لتردف بابتسامة بائسة :
_كل حاجة كانت محسوبة...من أول تقربي لهيثم عشان يبقى سلمتي ليك ...وبعدين زيارتي ليك في المكتب عشان أزرع جهاز التصنت ...وبعدها انت سهلت بقية
الأمور بطبعك ال(...)!

أطلق سبة بذيئة وهو يحاول التحرر من محتجزيه مهدداً بعبارات صارمة :
_اللي زيي ما بيقعش ...هتدفعوا كلكم تمن اللي عملتوه .
لكنها أعطته ظهرها لتغادر المكان كله بخطوات قتلها حزنها !!
لقد كسبت الصراع ونجحت المهمة ...
لكنها يقيناً خسرت قلبها ...
قلبها الذي تورط رغماً عنها في حب ابن ذاك الرجل ...
"هيثم"!
===========
انتهى الفصل الحادي عشر


نرمين نحمدالله غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 03-03-19, 01:31 AM   #600

ام زياد محمود
عضو ذهبي
 
الصورة الرمزية ام زياد محمود

? العضوٌ??? » 371798
?  التسِجيلٌ » May 2016
? مشَارَ?اتْي » 5,462
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » ام زياد محمود has a reputation beyond reputeام زياد محمود has a reputation beyond reputeام زياد محمود has a reputation beyond reputeام زياد محمود has a reputation beyond reputeام زياد محمود has a reputation beyond reputeام زياد محمود has a reputation beyond reputeام زياد محمود has a reputation beyond reputeام زياد محمود has a reputation beyond reputeام زياد محمود has a reputation beyond reputeام زياد محمود has a reputation beyond reputeام زياد محمود has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   sprite
¬» قناتك nicklodeon
?? ??? ~
اللهم ان كان هذا الوباء والبلاء بذنب ارتكبناه أو إثم اقترفناه أو وزر جنيناه او ظلم ظلمناه أو فرض تركناه او نفل ضيعناه او عصيان فعلناه او نهي أتيناه أو بصر أطلقناه، فإنا تائبون إليك فتب علينا يارب ولا تطل علينا مداه
افتراضي

الحمد لله يانيمو انك اشفقتى علينا ونزلتى الفصل
محتاجين الجرعه دى منك جدا
تسجيل حضور بقى



الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 28 ( الأعضاء 8 والزوار 20)

ام زياد محمود, ‏جنة محمود, ‏Safaa Hosny, ‏k_meri, ‏نرمين نحمدالله+, ‏Dodo Diab, ‏Yassm1n, ‏mayada tarek


ام زياد محمود غير متواجد حالياً  
التوقيع

رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 09:01 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.