آخر 10 مشاركات
في قلب الشاعر (5) *مميزة و مكتملة* .. سلسلة للعشق فصول !! (الكاتـب : blue me - )           »          436 - سراب - كارول مارينيللي ( عدد جديد ) (الكاتـب : ^RAYAHEEN^ - )           »          1-لمن يسهر القمر؟-آن هامبسون -كنوز أحلام قديمة (الكاتـب : Just Faith - )           »          لآلىء الغيرة " قصة قصيرة " للقاصة أروع إحساس.. كاملة** (الكاتـب : ميرا جابر - )           »          93- الشمس والظلال - آن هامبسون - ع.ق ( نسخه أصلية بتصوير جديد ) (الكاتـب : angel08 - )           »          بعينيكِ وعد*مميزة و مكتملة* (الكاتـب : tamima nabil - )           »          رحلة امل *مميزة*,*مكتملة* (الكاتـب : maroska - )           »          موريس لبلان ، آرسين لوبين..المفتش تيك (الكاتـب : بلا عنوان - )           »          203 - حب من اول نظرة - سالي وينت ورث - ع.ق (مكتبة مدبولي) (الكاتـب : Gege86 - )           »          لاجئ في سمائها... (الكاتـب : ألحان الربيع - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > مـنـتـدى قـلــوب أحـــلام > منتدى قلوب أحلام شرقية

Like Tree6Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 01-08-19, 11:59 PM   #831

حالمة
 
الصورة الرمزية حالمة

? العضوٌ??? » 444533
?  التسِجيلٌ » Apr 2019
? مشَارَ?اتْي » 318
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي tunis
?  نُقآطِيْ » حالمة has a reputation beyond reputeحالمة has a reputation beyond reputeحالمة has a reputation beyond reputeحالمة has a reputation beyond reputeحالمة has a reputation beyond reputeحالمة has a reputation beyond reputeحالمة has a reputation beyond reputeحالمة has a reputation beyond reputeحالمة has a reputation beyond reputeحالمة has a reputation beyond reputeحالمة has a reputation beyond repute
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي


تسجيل حضور
متشووووووقة




حالمة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-08-19, 12:06 AM   #832

نرمين نحمدالله

كاتبة في منتدى قلوب أحلام وفي قصص من وحي الاعضاء ، ملهمة كلاكيت ثاني مرة


? العضوٌ??? » 365929
?  التسِجيلٌ » Feb 2016
? مشَارَ?اتْي » 2,008
?  نُقآطِيْ » نرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond reputeنرمين نحمدالله has a reputation beyond repute
افتراضي

القطعة التاسعة عشرة
=========
_لا ..لا ...!!

يصرخ بها رائد بغضب وهو يدرك أخيراً ما حدث ..
همسة اختطفت !!
هنا ؟!
من بيتها ..من بيته ..
بيته الذي بناه ليكون قلعة تحميها ؟!!

صراخه الغاضب يعلو وهو يستقل سيارته أول الأمر يدور بها كالمجنون عشوائياً حول البيت كأنه يبحث عن أي خيط قد يقوده إليها ..
لكنه يعود خاوي الكفين ليفرغ ثورته في طاقم حرسه ..
تساؤلاته الحانقة لا تجد جواباً يرضيها ..
والقبضة الباردة تعتصر قلبه أكثر وأكثر ..
همسة اختطفت وهو نائم !!
كيف لم يشعر؟!
كيف لم ينبئه قلبه الذي يبدو وكأنما ضبطت دقاته على نغم دقاتها هي؟!
كيف؟!!

خطواته تنتهي به عند فراشها في الكوخ ..
هذا الذي انهار أمامه جسده أخيراً بعد طول صراخه الانفعالي ..
يتخيلها مكانها هاهنا كالعادة ..
ثم يتخيل رعبها وهم يأخذونها قسراً ..
بل يتخيل الأسوأ ..
ما الذي سيفعلونه بها ؟!
سيحبسونها على أقل تقدير دون مراعاة لحالتها !!

يقبض يده على صدره بقوة شاعراً بتلاحق أنفاسه المختنقة ..
الدم يضرب رأسه بقوة فيرفع أنامله نحو أنفه لتروعه هذه القطرات النازفة من دمه ..
يشعر بالعالم حوله يدور به فيكاد يستسلم لهذا الدوار ..

لا!!
يهتف بها عالية كأنما يحارب نفسه بنفسه !!
انهياره الآن أنانية !!
ترف لن يسمح به حتى يستعيدها !!
هي الأولى الآن بكل لحظة تركيز !!
فقط عندما يستعيدها سيسمح لنفسه وقتها أن ينهار بكل خلاياه لكن ..بين ذراعيها ..
ستلملمه ..كما بعثرته !!

لهذا تحامل على نفسه ليقف مترنحاً أخيراً وهو يتحاشى النظر من جديد نحو فراشها ..
يخرج من الكوخ بسرعة بعدما مشطته عيناه لعله يعثر على أي أثر يقوده لمعلومة ..
لكنه يصطدم بوجه زين المرتاع أمامه :

_يعني بجد ؟!
يهدر بها زين بعنف وعيناه تشتعلان بغضب ملتاع بينما تدوران حوله كأنما تكذبان ما لا يريد تصديقه ..
قبل أن يجذب رائد بقبضتيه نحوه ليصرخ بجنون عاصف :
_كانت هنا في حمايتك ..إيه اللي حصل ؟!

لكن رائد استعاد "قناعه المعدني" الذي يدرك الآن أنه يحتاجه أكثر من أي وقت مضى ..
زين بطبيعته المهيمنة الانفعالية قد يفسد الأمور ..
وهو يحتاج لكل ذرة تركيز كي يصل إليها !!
لهذا احتمل ثورة زين العاصفة وهو يرجه بين ذراعيه مكرراً تهديدات عديدة يفرغ بها لعنات غضبه ..

لكن رنين هاتف الأخير يوقفه ليدفع رائد عنه بعنف قبل أن يفتح الاتصال ..
عيناه تتسعان بجنون جعل رائد ينتزعه منه ليضغط زر تكبير الصوت وقد أخبره حدسه أن الأمر يخص همسة ..

فتشتعل أنفاس كليهما أخيراً بالمزيد من الغضب وكلمات الاتصال تسكب المزيد من الوقود فوق حطب القلق ..

=======
_كنت حاسة ..كنت حاسة ..سيلين ..والدم ..قلتلكم ..قلتلكم ..ماصدقتونيش !!

صرخت بها ياسمين بانهيار عقب إفاقتها في المشفى ليحاول يامن تهدئتها دون جدوى :
_سيلين في لندن ومالهاش علاقة باللي بيحصل أنا متأكد ..اللي عمل كده حد تاني ..هنعرفه ونرجعها .

كان يهتف بها وهو يحاول احتواء ضمة جسدها المتشنج على الفراش ...
منذ سمع الخبر وهو يشعر أن جسده كله أصيب بالشلل ..
هل هو عقاب السماء له على تفريطه في ابنه من سيلين ؟!
لن يحتمل فقداً جديداً هذه المرة !

ليقول مدير المشفى بحرج بينما يختلس النظر للضابط الذي يتولى التحقيق جوارهم :
_أنا آسف جداً ..دي أول مرة تحصل حاجة زي دي عندنا ..أوعدكم اننا هنتعاون بكل صورة مع البوليس عشان نوصل للمجرم اللي عمل كده !
_الممرضة اللي خدرتهم دي تبقى مين ؟!
يسأله يامن معقود الحاجبين بجسد متشنج يحاول التحكم في انفعالاته .. ليرد الرجل بحرج أكبر :
_لسة مستلمة شغلها هنا من كام يوم ..واختفت بعد الموضوع ده !
_أنا هاوديكم في داهية كلكم لو بنتي ما رجعتش !

صرخ بها يامن أخيراً بلوعة عجز عن كتمانها بعد أن حاول التجلد طوال هذه الساعات الماضية لأجل ألا تنهار ياسمين ..
ياسمين التي عادت لنحيبها المرتفع وهي تخفي وجهها في كتفه هاتفة بين دموعها :
_رجعلي بنتنا يا يامن ..أنا لسه ما شبعتش من حضنها !

_نعرف بس مين عملها ..التحريات شغالة ع الممرضة دي وهتجيب اللي وراها ..
يهتف بها الضابط بنبرة حازمة ليفاجأوا بالصوت الرصين للرجل الذي وقف على باب الغرفة :
_أنا عارف مين وراها !
=======
_زين!

هتفت بها ياسمين بلوعة وهي ترقب زين الواقف عند الباب بنظرات ملهوفة ..
زين الذي بدا شاحب الملامح حد الموت بينما حافظ رائد جواره على قناعه المعدني بقوة أكبر مدركاً حاجته المتزايدة إليه الآن بالذات ..

ليس لأجله ..بل لأجل همسة التي سيفتديها بروحه لو اقتضى الأمر ..
حتى ولو كانت روحه تتفتت قطعة قطعة كما الآن وهو يتصورها سجينة وحدها ..
حتى وهو يتنشق أنفاساً كاللهيب فيجبر نفسه أن يزفرها صقيعية كي لا يضعف في هذه اللحظات التي تحتاج هي فيها لكل ذرة من قوته ..


_يامن!!
صرخت بها ياسمين وهي تراقب الأخير الذي اندفع نحو زين كالقذيفة رافعاً قبضته في وضع الضرب :
_انت اللي عملتها يا ...

السبة البذيئة التي أطلقها تتوقف مع قبضته بفعل قبضة رائد الذي كز على أسنانه بقوة ليقول ببرود مشتعل:
_همسة كمان اتخطفت ..هو واحد اللي ورا خطفهم الاتنين ..

_مين؟!
يهتف بها الضابط باهتمام ليتبادل زين مع رائد نظرة خاصة قبل أن يتحرك الأخير لينتحي بالضابط جانباً خارج الغرفة ..

فيما تقدم زين ليهمس جوار أذن يامن باقتضاب :
_المعلومات اللي رائد بيقولهاله مش صحيحة ..بس انا مش هخاطر بتدخل البوليس في الموضوع ..هاعمللهم اللي هم عايزينه !

اتسعت عينا يامن بارتياع لتصرخ ياسمين وهي تغادر الفراش نحوهما مقاومة آلام جسدها الذي لم يسترد عافيته بعد :
_بتقولله إيه ؟! بنتي جرالها حاجة ؟!

_اهدي ..يمنى كويسة ..وهمسة كمان ..
تحشرج صوت زين في عبارته الأخيرة ليرمقه يامن بنظرة متشككة للحظة قبل أن ينسف شحوب وجه زين كل هواجسه ..
هذا رجل مطعون بكل قسوة !!
طعنة مشتركة لهما هذه المرة !!

_مين ؟!
يغمغم بها يامن وهو يختلس النظر نحو رائد الذي ابتعد مع الضابط وهو يشير لزين إشارة ذات مغزى ..
لترتجف شفتا الأخير وهو يتذكر الاتصال المجهول الذي تلقاه منذ ساعات ..
بصوت رامي أولاً ...

_إزيك يا زين بيه ؟! فاكر التعبان اللطيف اللي حطيته جنبي وأنا متكتف ؟! أحب أطمنك إن فيه واحد زيه تمام دلوقت بيلف حوالين أختك الغالية وبنت ياسمين هانم ...

ضحكته الوحشية المستمتعة تنهي عبارته وتقبض قلب زين بهذا الرعب الذي لم يعرفه من قبل ..
بهذا الغضب الذي يود معه لو يحطم رأسه بيديه العاريتين ..
وبهذا العجز وهو يخشى أن يصيب همسة أي خدش بسببه هو ...
كيف جرؤ رامي على فعلها؟!
هذا ليس تخطيطه ..بل وليست قدراته !!
من الذي خلفه ويحالفه ضده هو ؟!!
والجواب يأتيه لاحقاً ..
وبصوت امرأة يذكره لكنه لا يمكنه تمييزه ..

_إزيك يا "صياد"؟! عرفت آخر أخبار أسهم شركتك في البورصة ؟! خسارة كبيييرة ..بس مش أكبر من خسارة همسة ..و..النونو بنت آخر عشيقة ليك ..عارفاك عاقل مش هتتهور ..في المعاد اللي أحدده هتيجي لحد عندي ..لوحدك ..ولما أقول لوحدك يبقى مفيناش من غدر ..أوعدك لو سمعت الكلام أسيبهم عايشين لحد ما نصفي اللي بيننا .

_مين يا زين؟!

تعاود ياسمين الصراخ بها هذه المرة ليجذبها يامن لصدره مهدئاً وهو يحاول كتمان انفعاله بدوره ..
فيرفع زين بصره إليها بنظرة زائغة غريبة عن سيطرته المعهودة ..
نظرة زادت رعبها لتنتفض مكانها وهي تسمع صوت وصول رسالة على هاتفها الذي هرعت إليه لعلها تتلقى منه خبراً ..

صرخة قصيرة أطلقتها وهي تميز صورة للرضيعة نائمة من رقم مجهول تلته رسالة ..

_ابقي خللي زين واللا يامن دول ينفعوكي ..يا "..."!

_رامي!
تمتمت بها برعب وهي تميز انتهاء العبارة بلفظة أجنبية"مهينة" كان يخصها بها أثناء زواجه منها ..
ليختطف منها يامن الهاتف قبل أن يلقيه جانباً ليعدو باتجاه باب الغرفة متأهباً للخروج ..
لا يفهم السر الذي يربط اختطاف يمنى بهمسة هذه ..
لكن يبدو أنه الحقير رامي خطط لهذا كي ينتقم منهم جميعاً ..
الدافع يبدو له واهياً ..لكنه سيصل إليه ويعتصر عنقه بين أصابعه ليزهق أنفاسه واحداً واحداً نكالاً بما فعله بياسمين بالأمس ..ويمنى اليوم !!

لكن زين وقف في طريقه ليقول بنبرة حازمة رغم تحشرج صوته :
_ماتضيعش وقتك ..الجبان مستخبي وقلبت الدنيا عليه مش لاقيه..بس أنا عارف مين اللي وراه وهارجعهم الاتنين ..ماتقلقش .
_وانا هاقف مستنيك تتحرك ..اوعى !
يهدر بها يامن بعنف وهو يحاول إزاحته من طريقه لكن زين بقي راسخاً في مكانه يناظره بعينين صارمتين ..
وملامح ارتسم عليها الصراع جلياً بين غضب وخوف يمزقانه ..
وأخيراً ..
نبرة صوته التي مزجت صرامتها بشقائها بينما قبضتاه تحاوطان كتفي يامن بقوة :
_مش هاسمح بأي غلطة انفعالية تتسبب في أذاهم ..اللي خطفتهم عايزاني أنا ..وأنا هانفذ لها كل اللي هي عايزاه .

_مش فاهمة حاجة ..هو مش رامي؟!
تهتف بها ياسمين بانهيار باكٍ ليرد زين بعينين مشتعلتين غضباً:
_رامي ده كلب سهل يتشد بأي عضمة ..ده مش تخطيطه ولا إمكانياته ..هي استغلته عشان توصل لنقط ضعفي أنا .

_هي مين؟!
هدر بها يامن بعنف وهو ينزع قبضتيه عن كتفيه بخشونة لتعود نبرة زين للتحشرج:
_لسه ماعرفتهاش .
همهمة يامن العصبية المتهكمة حملت الكثير من المرارة وهو الآخر يشعر بالعجز ..
لكن زين تمالك نفسه بقوة يحسد عليها ليقلب بصره بينهما قائلاً :
_قسماً برب العزة لادفعهم هم الاتنين تمن اللي عملوه ..بس الأول أطمن على همسة ويمنى .

عادت ياسمين تنخرط في بكائها الهستيري وهي تتهاوى جالسة على طرف الفراش فتوجه يامن نحوها ليحتويها بين ذراعيه وكل ذرة من جسده تنضح بهذا المزيج الرهيب بين الغضب والعجز ..

_كل اللي بطلبه منكم دلوقت تثقوا فيا ..كلنا في مركب واحد ..رامي مكنش عايز غير إنه يتشفى في ياسمين وحقق غرضه ..لكن اللي باقي يخصني أنا مع الست دي ..

يقولها زين بعينين غائمتين وهو يشعر بتفتت جبال قوته داخل روحه ذرة ذرة ..
فيرمقه يامن بنظرة طويلة ضائقة وهو لا يدري بماذا يرد ..
الأمر شديد الحساسية ولن يقبل بذرة خطأ ..
لكن هل يمكنه حقاً الثقة بزين هذا ؟!
وما البديل ؟!!

خاطر أهوج ينتابه بإبلاغ الشرطة وترك الأمر لها خيراً من الاستسلام للمتعجرف هذا أمامه ..
لكنه يعود للتراجع عنه بسرعة ..
خاصة و"مظهر زين" الواقف أمامه الآن يختلف كثيراً عن الصورة القديمة التي كان يراه فيها ...
هذا رجل سيفعل أي شيء كي يسترد أخته ..ومعها ابنته هو مادامتا سوياً !

لهذا زفر أخيراً زفرة مشتعلة ووجهه المحمر بانفعاله ينافس حرارة كلماته :
_لو عايزني أثق فيك يبقى ما تتحركش خطوة من غير ما أعرفها ..
منحه زين وعده بإيماءة رأس قبل أن يردف أخيراً بحسم :
_أوعدكم هارجعهم هم الاتنين مهما كان التمن .
=======
تفتح همسة عينيها لتتلفت حولها برعب ..
مكان غريب ..رائحة غريبة ..نافذة بعيدة ذات قضبان ..
هل عادت القضبان ؟!!
الخاطر الأخير يملأها رعباً وهي تتلفت حولها بصرخات فزع متقطعة ..
هي تذكر مكاناً يشبه هذا ..
ماذا كان ؟!!

صرخة أخرى تطلقها وومضات خاطفة من الماضي تعود لتقتحم ذهنها بقسوة ..
هروبها مع رائد ..
عقد قرانهما ..
غضب والدها الذي وجدها ..
عقابه القاسي لها بعدها بحبسها ..
أجل ..أجل ..حبسها في مكان يشبه هذا !!

عدة صرخات متقطعة بعدها تغادر حلقها فتمزق روحها أكثر ..
والذكرى تحملها لماضٍ أبعد ..
أكثر عمقاً ..وألماً ..

مكان يشبه هذا لكنه أكثر ضيقاً ..
أكثر بكثير ..
محبوسة فيه ..لكن ليست وحدها ..
هناك جسد هامد جوارها كان ينبض لها يوماً بكل الحياة ..
جسد أمها !!

دموعها تنهمر أكثر وأنفاسها المتلاحقة تقطعها صرخاتها القصيرة لتجد نفسها تعدو نحو النافذة القريبة ..
تتنشق الهواء القادم من الخارج بلهفة جائعة وقبضتاها الرقيقتان تحاولان هز القضبان دون جدوى ..

_ماما ..بابا ..زين ..رائد ..

صرخاتها تتحول لتمتمات استغاثة خافتة والصور تتداخل من جديد بذهنها ..
"نداهة عالمها" القاهرة تحاول جذبها من جديد لدوامتها اللامتناهية حيث أمانها المزعوم ..
حيث لا ذكرى ولا ماضٍ ..
فتستجيب لها باستسلام وألم ذراعيها المتشنجان حول القضبان يتشارك مع ألم حنجرتها التي بحت من الصراخ ليجعلها تتهاوى جالسة مكانها بانهيار ..
لن تتذكر ..
لن تعود لعالمهم البغيض ..
ستبقى بأمان مالم تسترجع المزيد ..
ستستسلم للنسيان من جديد ..
دورة خلف دورة في متاهات عالمها المتشابك تسحبها للهاوية أكثر ..
فتنجرف لها طواعية بكل طاقتها لولا ..!!

صوت بكاء رضيع يقطع هذا الصمت حولها!!
تظنه وهماً في البداية قبل أن تستجيب له جوارحها دونما إرادة ..
تقف بعينين متسعتين انفعالاً وهي تتحرك نحوه كالمسحورة ..
إنه رضيع حقاً ..
بل رضيعة !
قميصها وردي ناعم بهذا اللون الذي تحبه ..
ابتسامتها تتحول لضحكة بريئة عالية تمتزج بدموعها وهي تمد ذراعيها لتحملها ..
تهدهدها برفق وعيناها المتسعتان تتفحصان ملامح الصغيرة بانبهار ..
منذ متى لم ترَ طفلاً ؟!
منذ متى لم ترَ أحداً خارج عالمها المحدود ؟!

بكاء الصغيرة يزداد وهي تمص إصبعها ..
فتتلفت هي حولها بعجز ..
"نداهة" عالمها القاهرة تجذبها للابتعاد عن كل هذا ..
للهرب بعيداً بعيداً نحو عالم بلا ظلم ..بلا قهر ..بلا قضبان ..
لكن شعورها باحتياج الصغيرة لها يزكي بداخلها رغبة مغايرة ب"المقاومة"..
بالصمود لأجل هذه الروح البريئة الواهنة التي تشبهها ..

_خايفة ؟!
تحدث بها الصغيرة وهي تهزها برفق بين ذراعيها أكثر لعلها تهدأ ..قبل أن تردف بنبرتها البريئة الشاردة :
_كنت زيك في يوم ..برضه خايفة ..بس ..

تقطع عبارتها وومضات أخرى من ذاكرتها تعاود القصف لكن بسند داعم هذه المرة ..

الدبوسان المعدنيان ..
قرط راقصة الباليه ..
فقاعاتها الوردية ..
ملمس موج ناعم لبحر بلا شاطئ ..
بيتها الذي رسمته قديماً قطعة قطعة ..
وأخيراً ..حبيب يظل ب"لا صورة" لكن حضوره الطاغي يجتاح ذاكرتها ليشعرها بالاحتواء ..
بالأمان رغم البعد !!

_رائد!
تهمس بها باستغاثة من جديد وهي تتلفت حولها ..
هل تعيده عصابة عينيها هذه المرة ؟!
من أين لها بواحدة ؟!!

أفكارها المشتتة تنقطع عندما يفتح الباب لتشهق بذعر وهي تضم الرضيعة لصدرها أكثر ..
مشهد رجلين ضخمين يدخلان يجعلها تتسمر مكانها بذعر ..
صرخاتها تنحبس بحلقها وهي تضم الصغيرة نحوها أكثر وأكثر ..
_ماتخافيش ..ماتخافيش !!

لا تدري هل تقولها لنفسها أم لها هي ..
تتحرك بها للخلف ورغبتها في مقاومة خوفها تزداد ..
ستحميها ..
ستحميها ..
ستمنحها ما لم يمنحه لها هي أحد !!

_هاتيها!
يهتف بها أحد الرجلين بغلظة وهو يتقدم منها لكنها تهز رأسها رفضاً بقوة تناقض مظهر دموعها الواهنة..
فيطلق الرجل ضحكة متهكمة قصيرة وهو يرفع قبضته في وجهها هاتفاً :
_خسارة الطعامة دي في الجنان ..الواحد من زمان ماشافش ستات نضيفة كده .

الرعب يجمد جسدها لكنها تتشبث بالصغيرة أكثر ..
نظرات الرجل نحوها تزداد حقارة وهي تتجول على طول جسدها ..
لكن رفيقه يصيح به بخشونة :
_حط لهم الأكل واخلص ..التعليمات ما نلمسهمش لحد ما تيجي لنا الإشارة .

يعض الأول شفته السفلى بحركة موحية ونظراته القذرة تصيب منها لكنه يضطر لامتثال الأمر وهو يغيب لبضع دقائق ليعود بما يحمله ويضعه فوق منضدة قريبة ..

_خدي واخرسي البنت اللي بتعيط دي قلبت دماغنا .

يقولها ليختفي أخيراً عن ناظريها مغلقاً الباب خلفهما فتتنهد بارتياح وهي تتحرك نحو "الببرونة" التي وضعوها هناك جوار بعض الطعام ..
تبتسم رغماً عنها ببراءة وهي تزيح غطاءها متمتمة :
_باربي ! هاسميكي ..باربي ..

تقولها وهي تجلس على الفراش القريب لتضعها في فم الصغيرة التي رفضتها لأول وهلة قبل أن يجبرها الجوع على التقامها ..
وأخيراً يهدأ بكاؤها نوعاً فتتفحص همسة ملامحها بغرابة قبل أن تعاود التلفت حولها ..

_مين دول؟! احنا هنا ..ليه ؟!
تهمس بها بقلق اجتاح نبرتها لكنها عاودت النظر للصغيرة التي استكانت في حضنها فتبدلت ملامحها لأخرى حانية وهي تهمس لها ببراءة :
_أنا معاكي ..هاحميكي..مش هنام ..ماتخافيش .

والغريب أن الصغيرة بدت وكأنها وجدت في هذا العناق ما منحها بعض الأمان لتعود للنوم بعد دقائق ..
فاتسعت ابتسامة همسة وهي تضعها جانباً برفق ..
قبل أن تتحرك لتضع "الببرونة" فوق المائدة فتصطدم عيناها بمرأى الطعام الذي جلبوه ..

"بيض مسلوق" !
ضحكة قصيرة تطلقها وهي تتناول إحداها متذكرة هواية رسمها ..
قبل أن تعود ملامحها للابتئاس وهي تتلفت حولها ..

_رائد ..انت هنا؟!
تهتف بها منادية وهي تغطي عينيها بكفيها كأنها تستدعيه ..
مرة تلو مرة لكن ..لا مجيب !!

الإحباط يكاد يسلمها لنداهة عالمها من جديد ..
لكنها تقاومه بكل ما أوتيت من قوة ..
وأخيراً ترفع كفيها عن عينيها لتعاود التلفت حولها ..
وحدسٌ بداخلها يخبرها أنها عندما تراه من جديد فلن تكون معصوبة العينين هذه المرة !
=====
_لو زين عرف إني ساعدتك هيقتلني !
تهتف بها سكرتيرته لتلك المرأة التي نفثت دخان سيجارتها بعمق لترد :
_ماتخافيش ..مش هايعيش لحد مايلحق يعمل حاجة !

انقبض قلب سكرتيرته بإشفاق أظهر بعض التردد على ملامحها لتبتسم المرأة بسخرية هاتفة :
_إيه ؟! صعبان عليكِ دلوقت؟! ومكنش صعبان عليكي وانت بتقبضي مني قصاد المعلومات اللي بتجيبيها؟!

_شغله حاجة وحياته حاجة تانية !
تغمغم بها السكرتيرة بضيق وهي تشيح بوجهها لتطلق المرأة ضحكة أخرى ساخرة سبقت تساؤلها:
_اوعي تكوني حبيتيه ؟!
ثم غامت عيناها بمرارة داكنة مع استطرادها :
_ماهو ده اللي بيعرف يعمله دايماً ..صياد زي ما بيحب يسمي نفسه ..فاكر قلوب الناس لعبة في إيده ..عمرهم ..حياتهم ..كل ده مش مهم مادام خد غرضه وخلاص ..

صوتها يتحشرج في آخر كلماتها لتعاود السكرتيرة النظر إليها بإشفاق لم يلبث أن تحول لخوف حقيقي مع الشراسة التي تلبستها هي أمامها :
_بس وديني وما أعبد لأخلليه يدوق الذل اللي ماشافوش ..قبل ما أطلع روحه بإيدي .

شحب وجه سكرتيرته وهي تشعر أن الأمر خرج عن إطار توقعاتها ليخرج صوتها مرتجفاً :
_احنا ما اتفقناش على قتل ..أنا ساعدتك بس عشان قلتي خسارة في شغله ..كنت محروقة منه لأنه طالع فيها ومش شايفني ..لكن ..

نظرة المرأة القاسية كانت رادعة بما يكفي لتبتلع السكرتيرة بقية عبارتها ..
خاصة عندما مالت المرأة نحوها قائلة بنبرة مهددة :
_الحاجات دي مفيهاش وسط ..يا معايا يا عليا ..لو انتِ مش معايا قولي عشان أتصرف ..بس ..هتزعلي !

فارتجف جسدها لترد بسرعة والخوف يلون كلماتها :
_معاكي طبعاً .
ترمقها المرأة بنظرة مزدرية كادت تحرقها مكانها لتلحقها بقولها:
_كده اتفاقنا تم ..فلوسك معاكي يا شاطرة ..سكة السلامة..

قالتها ثم أشارت لها بعينيها لتنصرف فتنفست الصعداء لكنها ما كادت تعطيها ظهرها حتى سمعت استطرادها خلفها :
_آه ..بمناسبة قلبك الرهيف اللي حن فجأة ده ..خللي لسانك جوه بقك عشان ما يتقطعش .

فعادت ببصرها نحوها لترمقها بنظرة خائفة قبل أن تومئ برأسها مطيعة لتهرول بعدها شبه راكضة مغادرة الغرفة ..

هنا بدأت ملامح المرأة تلين رويداً رويداً لتتحول شراستها لألم خالص وهي تفتح حقيبتها لتستخرج منها صورة !

صورة لفتاة جامعية ترتدي زي تخرجها مبتسمة وتواجه الكاميرا بفخر ..
صورة حقيقية امتزجت بصورة أخرى نسجها خيالها لعجوز يمسك صدره بألم والخزي يغزو تجاعيد وجهه قبل أن يسقط صريعاً !!
وبين الصورتين حياة كاملة عاشتها بقلب "طاهر" قبل أن تقرر أخيراً أن تدنسه !!
هذا العالم ليس للأنقياء !!
هي غابة تحتلها الضواري وإن لم تكن صائداً فستكون الفريسة !!

ومع الخاطر الأخير اتقدت عيناها بالمزيد من الشراسة وهي تأخذ نفساً من سيجارتها لتنفثه ببطء هامسة :
_ماعدتش صابرة على إني أشوف وشك دلوقت يا زين ..
ثم رفعت هاتفها أمام وجهها مردفة بمرارة خالطت شراستها بمزيج مدهش :
_خللينا نخلص!
======
تقف خلفه في حديقة بيت رائد بعدما علمت الخبر الصاعق الذي اعتصر قلبها ..
رائد اتصل بها ليطمئن على حالة همسة كيف ستكون بعد كارثة الخطف هذه..
والحقيقة أنها لا تعلم الجواب ..
الوضع الغريب قد يسبب لها انتكاسة قوية ..
وقد يأتي بصدمة عكسية تساعد في استردادها لبعض ذاكرتها ..
ولا يمكنها الجزم بأيهما أقرب ..

تماما كما لا يمكنها الجزم الآن أيهما أكثر قلقاً ...
رائد خلف قناعه المعدني الصارم ..
أم هذا الذي أمامها والذي يختلط قلقه بشعوره الرهيب بالذنب ..
تراقب هامته التي طالما اعتدتها مرفوعة وقد انحنت الآن في وقفته أمام كوخ همسة الخالي منها ..
تشعر بهذه اللوعة التي تكاد تذيب أوصاله وتشاركه مثلها ..
همسة لم تكن لديها مجرد حالة ..
همسة صورة تشبهها في مرآة الظلم !
روح تطابقها في رفض الواقع ..
وإن كانت همسة اختارت الهروب فيما اختارت هي الصمود والمواجهة !!

_هتروح لها ؟!
تسأله أخيراً وقد استجمعت شجاعتها لتقترب منه أكثر فيلتفت نحوها بحدة لحظة ..
يفتح ذراعيه فجأة بنظرة احتياج صارخة في عينيه وهو يتقدم منها خطوة كأنما يهم باحتضانها ..
قبل أن يتوقف في آخر لحظة ليغمض عينيه بقوة كأنما يقاوم شعوراً جارفاً بداخله فيما بقي ذراعاه كأنما يحلقان حولها قبل أن يتراخيا جانباً ببطء ..

_زين !
كانت المرة الثانية التي يسمع فيها اسمه من بين شفتيها ..
وإن كانت المرة الأولى صادمة بتبعاتها ..
فهذه لا تقل عنها وطأة !!
نفس الإحساس الكاسح الذي يشعله ويطفئه في اللحظة آلاف المرات !!
لكن ردة فعله جاءت صادمة لكليهما وهو يعتصر كتفيها بقبضتيه هاتفاً بثورة :
_جيتي ليه ؟! امشي من هنا حالاً ..واوعي تيجي لحد ما أنا اللي أطلب منك !

نظراتها الحائرة تعلن رفضها بتحدٍّ ليعاود صراخه فيها:
_مش عايز حد يشوفك معايا ..أنا بقيت لعنة لكل اللي حواليا .

ورغم الألم الذي تبثه فيها قبضتاه وهما تعتصران كتفيها ..
رغم صراخه الهادر وملامحه التي بدت مخيفة صارمة ..
لكنها قرأت بشعورها "الأمومي" به هذه النظرة النابضة في عينيه ..
نظرة احتياج تتشبث ..تتضرع ..تناديها أن تبقى ..
ومن هي كي لا تمتثل؟!

_مش هامشي .
تهمس بها بحسم عبر غلالة من الدموع ليعاود صراخه الهادر بنداء أحد الحراس...
لكنها قطعت نداءه :
_مش هامشي حتى لو طردتني بالعافية .

نبرتها الصارمة كانت تناقض خيطين من الدموع سالا على وجنتيها وجعلا قبضتيه تتراخيان عن كتفيها ليطرق برأسه صامتاً بعجز زلزلها ..
كانت المرة الأولى التي تراه فيها بعيداً عن سطوة هيمنته المعهودة ..
تعلم أنه خسر كثيراً في عمله ..
تعلم أنه يحمل نفسه ذنب اختطاف همسة ويمنى ..
وتعلم -دون غرور- أن خسارته لها هي لا تقل عنهما فداحة !!
تعلم وتشفق عليه من هذا الزلزال الذي نسف جباله كلها فجأة ..

لهذا خرج صوتها بمزيج من عقلها وعاطفتها :
_ماتروحلهاش ..سيب البوليس يشوف شغله ..واحدة بالغل ده أكيد مش هتبقى ناوية لك على خير .

لكنه يزفر بقوة وهو يعطيها ظهره ليعاود التطلع لكوخ همسة الخالي :
_ماينفعش أخاطر المرة دي ولو بنسبة واحد في المية ..مفيش قدامي غير إني أعمللها اللي هي عايزاه .

تحاول ابتلاع غصة حلقها المريرة وهي تشعر بخوفها عليه يكاد يشل أطرافها ..
لكنها تحاول السيطرة على أفكارها بهتافها:
_طب اهدا وحاول تفتكر ..ممكن تبقى مين ..أكيد واحدة أذيتها قوي لدرجة إنها عايزة تنتقم ..مين ؟!
_كتير.

قالها باقتضاب وبكلمة واحدة لكنها بدت وكأنها حملت ندم العالم كله !!
شريط ماضيه يمر الآن أمامه فيجد العديدات من "طرائد الصياد"..
واحدٌ آخر من جبال غروره تنسفه الذكرى تلو الذكرى ..
الذنب تلو الذنب !!

فيما كانت هي عالقة بين غضبها منه ..وعليه !!
أي سواد حمله ماضيه كي ينبت غابة من الأشواك كهذه ؟!!
والجواب يأتيها في ذكرى ليلتها الأولى معه ..
تلك المرأة التي جهزتها بخبرة من لم تكن تلك مرتها الأولى!!
صوت رنين هاتفه يقاطع أفكارها ليجفلهما معاً قبل أن تراه يفتح الاتصال ليستمع قليلاً قبل أن يغلقه بحسم ..

وأخيراً يلتفت نحوها لتدرك من نظرته أنه ذاهبٌ الآن ..لمصيره !!
المسافة بينهما تتناقص وسراجا الذهب في عينيه يتوهجان بلمعة متراقصة بين بريق وخفوت ..

_قولي إنك مسامحاني ..على كل حاجة عملتها .

تكاد تقسم أنها لم تسمع صوته من قبل بهذه النبرة الصافية ..
كأنما روحه هي التي تحكي لا لسانه ..
ربما لهذا لم تشعر بفيض دموعها الذي أغرق وجنتيها وخفقات قلبها تتقافز بجنون ..
لتنطق هي الأخرى بروحها قبل لسانها :
_مسامحاك ..بس مش هسامحك لو مارجعتش .

فيسبل جفنيه وعضلة فكه ترتعش لتخطف من دقاتها دقة !
الرعب الذي يملأها الآن يجعلها تهتف بقوة بين دموعها :
_أنا واثقة فيك ..واثقة إنك هترجع ..هترجع معاهم هم الاتنين .

لكنه عاد يرفع عينيه إليها بنظرة طويلة بدت وكأنها تعانقها ..
تغمرها بهذا الفيض الآسر الذي لم تعرفه إلا معه ..
لم تشعر بأنامله التي امتدت بخفة تمسح دموعها للمرة التي لا تعرف عددها ..
لم تشعر بكفه الذي احتضن كفه ثم ألصقه بصدره ..
لم تشعر حتى بشفتيه اللتين انحنى بهما رأسه ليقبل ظاهر كفها فوق موضع قلبه ..
كل حواسها تعطلت إلا من سماع همسه الآسر وقتها :
_اتنين بس يستاهلوا أضحي بحياتي عشانهم ..همسة ..وأنتِ!

كان وسيظل أجمل وأقوى اعتراف بالحب سمعته ..
لقد تساءلت طويلاً كيف سيعبر رجل مثله عن الحب..
كيف سيختار كلماته ..
وهاهو ذا لم يخذلها !!

وأخيراً عاد إليها إدراكها لتسحب كفها منه بسرعة وهي تستعيد شعورها بالزمان والمكان ..
قبل أن تراه يبتعد بخطوات شبه راكضة لتهم باللحاق به لولا أن أوقفها رائد ب"قناعه المعدني" الذي لايزال يحافظ عليه باستماتة :
_ما تقلقيش ..كله تحت السيطرة .

ترفع عينيها إليها بشك والقلق يحفر أخاديده فوق ملامحها ..
لكنه يتلقى اتصالاً يجعله يبتعد قليلاً ليستمع قبل أن تلتمع عيناه بترقب ..
قبل أن يغادرها هو الآخر بخطوات شبه راكضة نحو سيارة قريبة مع بضعة حراس ..

تهز رأسها بعجز محاولة مقاومة هذه الوخزة في صدرها ..
ثم ترفع رأسها للسماء بدعاء خاشع ..
هنا تتذكر ثمر فتتناول هاتفها لتتمالك نفسها متحكمة في نبرة صوتها ولم يكد يصلها صوت ثمر الحاني بعد تحية تقليدية حتى بادرتها بقولها الراجي :
_ادعيلي يا ستي ..ادعيلي ربنا يطمن قلبي .
صمت ثمر بعدها يفضح قلقها الذي عبرت عنه بسؤال صريح ..لتتردد ياقوت قليلاً قبل أن تخبرها بما حدث باقتضاب فتصمت ثمر بعدها للحظات سبقت سؤالها:
_غريبة ..مش دي أخته اللي كان حابسها في أوضة بره بيته ومستعر منها ..دلوقت رايح يفديها بروحه ؟!
_هو مش وحش يا ستي ..والله قلبه طيب ..ادعيله يرجع بيهم سالمين ..
صوتها يتهدج بعدها ببكاء عجزت عن كتمه لتصلها تنهيدة ثمر قبل صوتها القلق المختلط بحزمه :
_ربنا يرد كل حي ل"أهله" بالسلامة .

ضغطت حروف "أهله" هذه بحركة ذات مغزى كأنما تنبه ياقوت من جديد لحقيقة وضعها منه ..
فعضت ياقوت شفتها بقوة وهي تتحسس موضع قرطه خلف حجابها ..
ترفع أناملها التي لا تزال تحمل مذاق شفتيه نحو عينيها بشعور رهيب بالانتماء ..
لو لم تكن هي "أهله"..فمن ؟!

لكن إحساسها بالذنب يطغى أخيراً على كل هذا وهي تعود لتخفي عن ثمر من جديد متاهة شعورها به ..
صوت دعاء ثمر الخاشع يصلها أخيراً ليهدهد مخاوفها وهي ترفع رأسها معه للسماء من جديد ..
وقلبها يخفق بدعوة دعوة واحدة ..
أن يعود سالماً ..ومعه الرهينتان !
========
_إزاي طاوعتك ورجعنا البيت من غيرها ؟!
تهتف بها ياسمين وسط دموع انهيارها بينما يامن يسند جسدها إلى كتفه حتى أجلسها فوق الأريكة في صالة بيتهما ..
هناك حيث جمعهم المصاب جميعاً ليتبادلوا نظرات مشفقة قلقة بينما يامن يطمئنها بقوله :
_رائد معايا خطوة بخطوة ع التليفون ..ماتخافيش ..هو مطمن جداً إنهم كويسين وهيرجعوا .

_ما بتعرفش تكدب يا طيب .
ينهمر معها المزيد من دموعها فيضمها لصدره مبتلعاً غصة حلقه مع جوابه :
_هترجع يا ياسمين ..مش معقول بعد كل ده نتحرم منها كده .

ربت مروان على كتفه بمؤازرة وهو أكثر من يشعر بما يعانيه يامن ..
ليس فقط فقدانه الصغيرة لكنه إحساسه أنه انتقام الله منه على تفريطه في ابنه الراحل من سيلين ...

بينما عاد البقية يتبادلون نظرات بائسة ليكون عابد أول من يقطع الصمت بقوله :
_هيا نصلي معاً ونكثف الدعاء ..توضأوا وأنا سأؤمكم .

اصطفوا خلفه بعد دقائق عدا ياسمين التي جلست مكانها تراقبهم بنظرات زائغة ثم ترفع رأسها للسماء بالدعاء ..
ليؤمهم بصوته الخاشع وكل منهم يغيب في عالمه الخاص مع ربه يناجيه ..

يامن الذي عاد سلطان وساوسه يحاول بسط نفوذه على روحه ..
يوسوس له بعدم القبول ..بغلبة سوء الظن بنفسه على حسن ظنه بربه ..
فيستسلم له للحظات بقنوط قبل أن يعود لمقاومته بكل ما أوتي من قوة ..
لن يعود لهذا الطريق ..لن يعود !!

_اللهم عاملني بما أنت أهله ..وليس بما أنا أهله ..

يكررها في دعائه دون ملل حتى يشعر بغلبة حسن ظنه بالله على ما سواه !!

نبيلة التي أجهشت بالبكاء كما لم تفعل من قبل ..لاتزال رائحة الصغيرة عالقة بأنفها ..لاتزال فرحتها الطاغية بها تظلل روحها بعد مصابها في حفيدها السابق ..

_يارب ..اقبلني على ذنوبي ..سامحني لو مش حافظة حاجة أدعي بيها ..بس انت أعلم بقلبي ..تبت يارب ..عهد عليّ ما أرجعش لأي حاجة تغضبك ..بس رجع ليامن بنته ..رجع لنا روحنا يارب ..انت عالم روحنا فيها ..

كلماتها على بساطتها كانت تقرع صدرها بعنف في سجودها ..لتستشعر "لذة التائب العائد" التي يحكون عنها ..
ظلمة إغلاق عينيها في السجود يتخللها نور لا تدري مبعثه ..إنما تدرك أثره في قبول ترتجيه..

عابد الذي كثف دعاءه بأفضل ما رأى :
_اللهم إني أسألك بحق أتقى عمل في صحيفتي ألهمتني فيه الإخلاص حتى تقبلته مني أن ترد لنا ضالتنا...يا جامع الناس ليوم لا ريب فيه اجمع عليّ ضالتي ..

مروان ورامز وأشرف كانوا كذلك يلهجون بالدعاء وخلفهن نساؤهن وقد وحدت الأزمة صفهم كعائلة ..
يسلم عابد من صلاته فيسلمون خلفه قبل أن يعاود كل منهم تضرعه الصامت ..

صوت رنين هاتف يامن يصدح أخيراً ليتلقفه بلهفة وقد تعرف رقم رائد ثم يفتح الاتصال ..
=====
_مش قلنا مش هنبلغ البوليس؟!
يهمس بها يامن في أذن رائد وهو يلتقي به أمام شقة رامي ملاحظاً الرجلين معه ليرد رائد همساً كذلك :
_أنا قلت كده لزين عشان انفعالاته تبقى طبيعية قدام الست اللي رايح يقابلها وماتشكش في حاجة ..لكن احنا معانا مساعدة من جهة أمنية عليا..رامي دلوقت تحت عينيهم خطوة بخطوة ..مستنيين بس غلطة منه تحطنا على أول الطريق ...زين كمان والست دي تحت عينينا بس مش عايزين نتهور عشان مانسمحش بأي غلطة .


رمقه يامن بنظرة داهشة لم تخلُ من تقدير وهو يشعر نحوه بإعجاب خفي ..
رباطة جأشه رغم مصابه تبهره خاصة وهو يبدو وكأنما يتحرك كآلة لا هدف لها سوى إنقاذ همسة وابنته هو ..

تماماً كما فعل الآن وهو يتحرك نحو صالة الشقة التي اقتحموها بهدوء ليتفحص هو محتوياتها باهتمام لعله يصل لأي أثر ..

حاسوبه المحمول هناك يقترب منه يحاول فتحه ..

_ليه كلمة سر ..اتصرفوا .
يقولها لأحد مرافقيه الذي جلس أمام الحاسوب،يحاول اختراقه حتى نجح أخيراً ..
فحرّكه رائد نحوه ليتفحص محتوياته باهتمام ..
حتى توقف بصره أمام أحد الملفات المرسلة حديثاً ..
فتحه بسرعة لتضيق عيناه بتركيز وهو يتبين تفاصيله ..
هذا إذن ما يفسر خسارات شركتهم المتوالية حديثاً !!

_فيه وسطنا خاين في الشركة بيبعتله التفاصيل دي .

يهتف بها أخيراً وهو يرفع رأسه قبل أن يعمل عقله بسرعة محاولاً حصر شكوكه في بضعة أفراد ..
لكن المعلومات المرسلة ببياناتها لم تبقِ في خانة شكوكه إلا اسم واحد ..
"السكرتيرة"!
========
_رائد بيه .
تهتف بها بدهشة وهي تستقبله في منزلها -الذي تقيم فيه وحدها- لأول مرة ..
ليرد بابتسامة باردة عبر قناعه المعدني :
_ممكن أدخل؟!
_طبعاً ..طبعاً ..اتفضل !
تقولها وهي تفسح له الطريق لتغلق الباب خلفه ولم تكد تفعل حتى فوجئت بقبضته تعتصر عنقها لتلصق ظهرها بالحائط خلفها فشهقت برعب صارخة :
_فيه إيه ؟!

_وطي صوتك ومن غير كلام كتير ..همسة فين ؟!
يقولها بهذه النبرة الباردة التي اشتركت مع نظرته القاسية لتصنع مزيجاً مرعباً في عينيها ..

_مااعرفش حاجة والله ..إزاي تشك إني ..آه !
عبارتها تختنق كأنفاسها وهو يشدد ضغط قبضته على رقبتها أكثر ..

_مابكرهش أد الغباء ..طالما وصلتلك يبقى متأكد إنك وراها ..ماتضيعيش وقتي ..مع همسة بالذات ماليش خطوط حمرا لأي حد .

دموعها تنهمر غزيرة مع ألم ضغطه المتزايد على عنقها وأنفاسها تصل حد الحشرجة لتهتف أخيراً:
_هاقول بس توعدني تحميني .

ضاقت عيناه بقسوة أكثر للحظات قبل أن يحرر رقبتها لتلهث هي بعنف محاولة تلقف أنفاسها قبل أن تنهمر كلماتها ملطخة بدموعها :
_مكنتش أعرف إن الموضوع هيوصل لكده ..هي فهمتني إنها عايزة تنتقم منه وتخسره شغله وبس ..
_هي مين؟!
_مااعرفش اسمها ..بس هي واحدة كان يعرفها زين بيه وواضح إنها بتحبه وهو غدر بيها ..
تقولها لاهثة الأنفاس عبر نظراتها المرتاعة ليعاود سؤالها بسرعة:
_وفين همسة والبنت الصغيرة ؟!
ترددت قليلاً وهي تتذكر تهديدات تلك المرأة لها لكنه عاد يعتصر رقبتها بعنف مفاجئ لتلهث هاتفة بانهيار:
_مااعرفش المكان بالضبط ..بس سمعت حد من رجالتهم بيتكلم على مخزن على طريق (....) الصحراوي ..بس فين بالضبط مااعرفش ..والله العظيم ده كل اللي اعرفه .

رمقها بنظرة متفحصة أخيرة ليدرك بخبرته أن هذه حقاً آخر حدود معلوماتها ..
فأطلقها من يده ليعاود فتح باب الباب الذي دخل منه رجاله ومرافقوه ليتحفظوا عليها..

_وصلت لإيه ؟!
يهتف بها يامن بلهفة جزعة ليخبره بالتطورات قبل أن يغادرا معاً نحو السيارة بالأسفل ..
ولم يكادا يفعلان حتى وصلت رائد مكالمة منتظرة تلقاها بعينين قلقتين ليلتفت نحو يامن قائلاً عبر قناعه المعدني:
_رامي راح دلوقت مخزن ع الطريق الصحراوي زي ما هي قالت ..زي ما توقعت ..الغبي اول مااطمن إن زين راح لها لوحده ابتدى يغلط ويتخلى عن حذره ..

قالها ليشغل مفتاح السيارة مشيراً إشارة خاصة للسيارتين خلفه كي تتبعانه ..
فانعقد حاجبا يامن بقوة ليقول عبر صوته المتحشرج:
_أدينا عرفنا المكان ..بس المهم نوصل في الوقت المناسب .

فحدجه رائد بنظرة جانبية ملتاعة ونفس الخاطر يراوده ..
التوقيت المناسب !
=====
_يعني إيه مش هتدخلني؟!

يهتف بها رامي بغطرسة أمام أحد الحراس الواقفين أمام الغرفة الجانبية المحتجزة فيها الرهينتين في المخزن ..
ليجيبه الحارس ببرود :
_دي أوامر الهانم ..محدش ييجي ناحيتهم .

_بس أنا ..
يهتف بها رامي بانفعال ليقاطعه الرجل بنفس البرود :
_ولا حتى سيادتك .
يرمقه رامي بنظرة ضائقة وهو يشعر بالغيظ ..
يود لو يرضي مزاجه السادي برؤية هاتين الضعيفتين في يده ..
يسترجع ما فعله زين به يوماً ويريد لو يرده له أضعافاً ..
خاصة مع الجميلة أخته هذه والتي تبدو كقطعة بسكويت هشة ناعمة سيسعده كثيراً أن يحطمها !
لكن هاهي ذي المرأة الغريبة قد أصدرت أوامرها ألا يقترب منهما كأنها كانت تعلم نواياه ..
من يراها وهي تستجيب لطقوسه الشاذة في الفراش لا يصدق هذا الوجه الآخر المسيطر لها ..
ترى ما الذي تفعله بزين وهو وحده معها الآن ؟!
ابتسامة متشفية ترتسم على شفتيه وتمنحه الجواب ..
لن يخرج من لقائها حياً !!

خواطره تنقطع وقد بدا وكأن المكان قد تحول لقطعة من الجحيم فجأة بهذا الوابل من الرصاص خلفه فيندفع جانباً بسرعة ليختبئ خلف أحد الصناديق الضخمة لتميز عيناه برعب هذا الجمع من الرجال الذين اقتحموا المخزن بسرعة احترافية ..

عيناه تشتعلان بغضب وهو يشعر بقرب سقوطه لكن تحرك الحارس للغرفة أرضاه بهتافه لرفقائه:
_الأوامر نقتلهم سوا لو حد اتدخل !

يبتسم بتشفٍّ وهو يراه يتجاهل إطلاق النار المتبادل بين رفقائه والمقتحمين ليفتح الغرفة موقناً مما سيحدث ..
لو سقط فلن يسقط وحده ..
زين وياسمين سيذوقان مرارة الخسران معه ..
بل بأفدح منه !!

لهذا انكمش أكثر في مكانه لتبدو له نافذة جانبية منزوية يدرك أين ستوصله ..
هذه التي تحرك نحوها بخفة خلف الصناديق مستتراً عن الجحيم الدائر حوله ..
قبل أن ينجح بخفة في القفز عبرها نحو الخارج !

يطلق زفرة ارتياح امتزجت بالكثير من الترقب وهو يتحرك بخفة لينحني ويتحرك زاحفاً على ركبتيه محاولاً الابتعاد عن المكان ..ليفاجأ بقدمي رجل تواجهانه !

_اقف!
يهتف بها أحد الرجال من فريق رائد لكنه يتناول عصا قريبة بسرعة ليعرقل بها قدميه فيسقط جواره قبل أن يهب هو واقفاً ليركض هارباّ..
صوت الرصاص خلفه يلاحقه لكنه يتخذ مساراً منحنياً كي يصعب التصويب عليه قبل أن يلمح سيارته التي فتحها بسرعة ليقفز فيها وينطلق بها بسرعة هارباً ..

زفرة مشتعلة تغادر صدره وهو يشعر بالغضب ..
هذه اللعينة لم تكن بارعة تماماً كما أوهمته ..
هاهو ذا الداهية رائد يصل لمكان همسة ..
لكن لا بأس ..
لن يجدها حية ..هذا هو عزاؤه على أي حال!!

أما هو فسيهرب ..
سيترك هذا البلد بأسره ..
لقد كان يعد العدة لهذا منذ وقت قريب وقد آن أوان التنفيذ !!

يفتح تابلوه السيارة المجاور يطمئن لوجود جواز سفره قبل أن يتلفت خلفه مطمئناً أن لم يتبعه أحد ..

ابتسامة ارتياح ترتسم على شفتيه الخبيثتين للحظة قبل أن تتحول لنظرة رعب وهو يعود ببصره نحو الأمام ليصطدم بالسيارة التي تواجهه في الجانب المقابل بحمولتها من أسياخ الحديد ..

يحاول ضغط مكابح سيارته بسرعة لكن ..
فات الأوان !!

صوت الاصطدام الضخم يدوي في أذنيه قبل أن تخفت أنفاسه للأبد ..
بمشهد يقسم من يراه أن لم يرَ أبشع منه ..
أسياخ الحديد اخترقت جسده بقوة الاصطدام لتعبر من الجانب الآخر ..
الشهود يتجمعون حول مشهد الجثة المهيب وهم يخبطون أكفهم ببعضها ..
بينما السؤال يحلق حول الرؤوس ..
ماذا فعل هذا الرجل كي يستحق ميتة بشعة كهذه ؟!!
======
_ما تخافيش ..ما تخافيش !

تهتف بها همسة وهي تحتضن يمنى بين ذراعيها تحت الفراش الذي اضطرت للاختباء تحته عندما سمعت صوت إطلاق النار بالخارج ..
تحمد الله أنه مفتوح الجانبين من الأسفل وإلا لما سمحت لها عقدتها بالمكوث هناك ..

تكتم أنين خوفها وهي تضم الصغيرة الساكنة تهدهدها لتشهق برعب عندما سمعت صوت الباب يفتح ..

ترى عبر مكانها قدمي الرجل تقتربان من الفراش فتكتم صرختها بقوة لكن الصغيرة بدأت في البكاء لتنخرط هي الأخرى فيه ..
لكنها بقيت تهدهد الصغيرة وقد شعرت أن هذا الكيان الضئيل يحتاجها هي ..
وأنها وحدها من بقيت لتحميها ..
هذا الذي وجد أثره فيها لتعاود الهمس للصغيرة :
_ما تخافيش ..ما تخافيش ..

ترى قدمين آخرين يقفزان عبر الغرفة لتشعر بالحارس يتقهقهر للخلف بينما يصرخ بألم ..
هل جاءت نجدة ؟!
هنا تجد الجرأة لتمد رأسها قليلاً وما كادت تتبين ملامح رائد حتى أفلتت منها صرخة عالية لم تملكها ..
نداهة عالمها القاهرة تعاود سحبها لهذا العالم من جديد ..
لكن بكاء الصغيرة بين ذراعيها كان يدعوها للتشبث أكثر بهذا العالم ..
لن تتركها وحدها مثلما تركوها هي صغيرة !!

صرخاتها العالية تتباعد وهي تخوض صراعاً عظيماً بين عالمين يتنازعانها الآن بضراوة ..
لكنها عبر كل هذا تفتح عينيها لترى رائد من جديد ..
بنظرة أخرى هذه المرة ..
نظرتها لبطل ينقذها !!
تراه وهو يصارع الحارس ليخبطه بمسدسه على جانب فكه فيسقطه قبل أن يجثم فوقه بثقل جسده ليكيل له اللكمات قبل أن ينتزعه يامن من مكانه صارخاً :
_كفاية كده هيموت في إيدك .
يقولها وقد أدهشه انفعال رائد المفاجئ هذا بعد طول تشبثه بقناعه المعدني ..
لا يعرف أن رائد فقد كل صوابه عندما سمع صوت صراخ همسة منذ لحظات مدركاً السبب ..
إنها رأته هو!!
هو أدرك منذ اللحظة الأولى أنها مختبئة تحت الفراش ..
تماماً كما يدرك على أي حال سيجدها بعد أن رأت ملامحه !!
جسده كله يفور بتلك الرغبة البدائية في القتل وهو يفرغ ثورته كاملة في جسد الرجل تحته لكن يامن ينجح في إيقافه بعدما فقد الحارس وعيه ليقفز يامن بخفة بعدها فينحني على ركبتيه تحت الفراش وصوت بكاء الصغيرة يكاد يوقف قلبه ..

ترفع همسة عينيها إليه بخوف لكنه يتفهمه مع حالتها ليقول عبر أنفاسه اللاهثة :
_ماتخافيش ..هاتيها ..أنا باباها .

ترمقه همسة بنظرة أخرى خائفة قبل أن تناوله الصغيرة لتغادر مكانها تحت الفراش ..

ولم يكد يامن يتناولها منها حتى تفحصها ببصره بسرعة كي يطمئن على سلامتها ثم ضمها لصدره بقوة مغمضاً عينيه ..
قبل أن يرفع عينيه نحو الأعلى بوضع الدعاء :

_كنت عارف يارب انك كريم قوي .

يهمس بها سراً داحضاً بها كل أثر لوساوسه القديمة التي طالما نالت منه ..
الآن يغلب "حسن ظنه" بربه كل شيء!
قبل أن يتناول هاتفه بسرعة كي يطمئن ياسمين :
_رجعت ..معايا ..في حضني ..والله في حضني .

يصرخ بها بفرحة طاغية وهو يسمع بكاءها من الجانب الآخر للاتصال ليعلو بكاء الصغيرة من جديد جواره فيهتف لياسمين عبر الهاتف :
_سامعة ..أهه ..كويسة ..كويسة جداً .

يقولها ليخرج أخيراً بسرعة مختلساً نظرة جانبية نحو رائد وقد آثر ترك مساحة من الخصوصية له ..

فيما وقفت همسة مكانها بصرخاتها القصيرة التي عجزت عن التحكم فيها وهي تقبض كفيها حول شفتيها ..
ليهرع نحوها رائد يعتصرها بين ذراعيه بقوة انفعال الساعات الماضية ..
القناع المتماسك يتشقق عنه فينهار على ركبتيه أخيراً وهو يسقط معها لكنه يتشبث بها بكل قوته سامحاً لكل انفعالاته بالتحرر ..
تشعر بدمعه يكوي وجنتها الملتصقة بوجنته مع همسه المتهدج عبر أنفاسه المتلاحقة :
_ما تصرخيش ..مش هاخلليكي تشوفيني تاني ..بس ماتصرخيش .

تحاول رفع رأسها نحوه لكنه يثبته بقوة على صدره هامساً بذات النبرة المختنقة :
_شوية بس يا حبيبتي ..آخد نفسي ..
يقولها عبر أنفاسها التي تلاحقت حد الألم لينتبه وقتها فقط أنها لم تتشنج فاقدة وعيها كعهدها كلما تراه ..
صرخاتها قصيرة متقطعة لا طويلة متتابعة كالسابق ..
فهل يعني هذا شيئاّ؟!

يمد أنامله المرتجفة نحو جيبه محضراً عصابة عينيها التي جهزها قبل مجيئه ..

_غمضي عينك ..
يهمس بها عبر أنفاسه اللاهثة وهو يخفف ضغط كفه فوق رأسها على صدره ..
يبتعد قليلاً بوجهه والرعب الممتزج بالترقب يجعل شعيرات جسده تنتصب انفعالاً ليبصرها أخيراً مغمضة العينين وقد هدأت صرخاتها ..

فيطلق زفرة ارتياح وهو يرفع العصابة نحو عينيها لكنها تفتحهما فجأة لتلتقي نظراتهما عبر هذا القرب !!

جسده ينتفض بلوعة متهيئاّ للمزيد من الصرخات ..
لكن شفتيها بقيتا منطبقتين ..
نظراتها نحوه بدت وكأنها تمر بمحطات عمريهما واحدة واحدة ..
بداية بالانبهار الطفولي ..
الارتياح..الأنس ..الإعجاب ..الحب ..الاحتياج ..
الاستغاثة ..الخذلان ..العتاب ..
ثم العتاب ..ثم العتاب ..
وآه من هذه الأخيرة التي ذبحته بقسوتها !!

_انتِ ..شايفاني؟!
يهمس بها عبر صوته المبحوح وهو لا يصدق أنه يعانق نظراتها أخيراً دون حواجز ..
دون صراخ ..
حدقتاها الحبيبتان تتمايلان يمنة ويسرة ..تحتلان العالم كله حوله فلا يرى سواهما ..

_شايفاني؟!
يكررها بنفس البحة التي تبدو وكأنه سيلفظ روحه خلفها ..
فتومئ برأسها ولاتزال نظراتها عالقة به ..

_عارفاني ؟! أنا ..
_رائد !
تكملها له هي وهي تعاود دفن رأسها في صدره فيتأوه بقوة وهو ينحني برأسه فوقها يدفن وجهه في عنقها ..
ذراعاه يتحركان على طول ظهرها يلصقها به أكثر كأنما يود لو يخفيها بين ضلوعه ..

يحاول النطق بأي شيء لكنه يعجز إلا عن تأوهاته المختنقة وهو غارق في هذا العناق حتى النخاع ..
لقد عادت ..
ملاك عالمه رجع ..
ليس معصوب العينين هذه المرة ..
إنما تراه ويراها ..

الخاطرالأخير يبدو له كالهذيان فيعاود رفع ذقنها نحوه لتلتقي عيناهما من جديد ..
فيبتسم وهو يميل على عينيها يقبلهما بعمق قبل أن يأخذ نفساً عميقاً يتمالك به نفسه ليهمس لها أخيراً :
_أنا رائد اللي عمره ما حب ولا هيحب غيرك ..اللي كان مستعد يدفع حياته كلها عشان ترجعي تشوفيه ويشوفك ..بصيلي يا همسة ..بصيلي قوي ..وحشني قوي أشوف عينيكي قريبين كده ..

لكنها تغمض عينيها بقوة لتنهمر دموعها بعدها وقد عادت إليها ذكرياتها كاملة ..
بتلك الليلة التي خذلها فيها ليرتبط بغيرها ..
بوصفه لها بالجنون ..
وبصراخه أنه لا يريدها ..

لكنه يدرك بحدسه ما يدور بذهنها فيتمالك نفسه ليقف أخيراً ويوقفها معه ..
_هنتكلم ونتعاتب وهاقبل منك أي عقاب ..المهم نبقى سوا ..

يهمس بها وهو ممزق بين فرحته بعودتها وبين خوفه من العتاب الصارخ في عينيها ..

لكنه يتلفت حوله ليجد أحد الضباط يشير له إشارة خاصة بضرورة خروجهما ..
فيسير بها يضمها لكتفه بكلي ذراعيه وهو يشعر أن وزراً ثقيلاً قد سقط عن كاهله ..
همسة عادت ..
وبقي فقط أن يعود قلبها ليثق به بعد زلته !
=====
يصعد زين الدرج نحو الشقة التي وصفتها له بهذه البناية المنعزلة والتي بدت له كمنفى ..
عيناه تضيقان كثيراً وهو يميز باب الشقة لكنه لم يحمل له أي ذكريات ..
مَن هذه التي ظهرت فجأة من الماضي بسيفها الغادر ؟!
أي طريدة كانت من ضحاياه ؟!

موج هادر من ندم يجتاحه وهو يود في هذه اللحظة لو لم يملك ماضياً كهذا ..
لو لم تتحكم فيه عقدته القديمة إلى هذا الحد ..
تتردد أنامله قليلاً قبل أن يطرق الباب ..
ترى كيف حال همسة والرضيعة الآن ؟!
وإلى ماذا وصل رائد ؟!
لا هاتف معه ..
هكذا كانت أوامرها له في الاتصال الأخير !!

يُفتح الباب أخيراً ليرفع عينيه بترقب نحوها ..
فيصطدم أول ما يصطدم بابتسامتها القاسية شديدة الشراسة وهي تفتح له ذراعها على طوله ..

_أهلاً بالصياد !

يغرس نظراته الحانقة في عينيها وهو يدلف إلى الداخل لتتسع ابتسامتها الشرسة وهي تغلق الباب خلفه بالمفتاح قبل أن تتحرك لتقذفه من النافذة ..

ينعقد حاجباه بقوة من مغزى حركتها لكنها تضحك ضحكة عالية غير متزنة وهي تلوح بذراعيها هاتفة :
_محدش فينا هيخرج من هنا ..
ثم غمزته بحركة كانت لتبدو شديدة العبث لولا هذا الموقف الغريب الذي هما فيه :
_أنا وانت ..وبس ..إلى مالا نهاية !

ينعقد حاجباه أكثر وهو يحاول تذكر هذه الملامح ..
شعرها الغجري الثائر بلونه المصبوغ ..
عيناها المكحلتان بإفراط ..
شفتاها المزينتان بطلاء ذهبي لامع يمنح طلتها المزيد من الشراسة خاصة مع هذه الظلال الدخانية السوداء حول عينيها ..
وأخيراً ..ثوبها شديد القصر الذي بالكاد يغطي مفاتنها ولا ترتدي سواه !!

_شكلك مش فاكرني ..وهتحتاج أفكرك !

تقولها بهذه النبرة الشرسة التي خالطها الآن طيف من المرارة ..
لكنه يتمالك نفسه ليقول بنبرته المهيمنة :
_قبل أي حاجة ..همسة ويمنى يرجعوا ..وبعدها هاعمللك اللي انتِ عايزاه ..

ضحكتها العصبية العالية تقاطع عبارته وتستمر للحظات كاد يفقد فيها أعصابه ..
لكنه حافظ على برود ملامحه بينما تقدمت هي منه بخطوات بطيئة :
_مش تقعد الأول؟!

قالتها وهي تجذب له كرسياً خاصاً ذا ظهر طويل فعاد ليرمقها بنظرة طويلة متفحصة قبل أن يجلس ..
هنا تحركت هي بخفة تدور حوله لتتناول ما رفعته أمام عينيه ..
وارتجفت له روحه بقسوة ..
"أساور معدنية"!!

_تسمح لي؟!
تهمس بها بإغواء وهي تنحني بجذعها مقتربة منه ليشيح بوجهه عنها باشمئزاز أثارها لتعاود الاستقامة بجسدها قائلة بصرامة شرسة مفاجئة :
_اقلع قميصك !

احمر وجهه بغضب وهو يقبض كفيه جواره ..
يكاد يقسم أن هذه المرأة أمامه ليست متزنة ..
لكن ..ما حيلته ؟!
حياة همسة والرضيعة على المحك !!

_انت أذكى من إنك تعترض ..راجل سوق زيك عارف أكيد امتى يقبل الخسارة .

كز على أسنانه بغضب وكل كلمة قالتها تبدو وكأنها تجلده به ..
الخسارة !!
هذا العلقم الذي ملأ كأسه أخيراً ليتجرعه قطرة قطرة !!

لهذا لم يفكر كثيراً وهو يحل أزرار قميصه محاولاً فهم ما ترمي إليه بما تفعله ..
هل تنتوي تعذيبه ؟!!
ماذا لو باغتها الآن ليغلبها بقوة جسده مجبراً إياها على البوح بما تعلمه ؟!!

لكن يبدو أنها قرأت أفكاره عندما تحركت لتتناول جهازاً لاسلكياً ما رفعته أمام وجهه :
_بياخدوا مني إشارة بكلمة سر كل ساعة ..لو ما وصلتلهمش في معادها ..هيقتلوهم الاتنين ..نصيحة بلاش تغامر !

عاد يكز على أسنانه بغضب وهو يلقي قميصه جانباً لتقترب هي منه بخطوات بطيئة قاتلة قبل أن تقيد معصميه خلف ظهره لتهمس جوار أذنه :
_كده بقا ممكن نتعرف ..عارفة إنك عايز تفتكرني ..

أدار وجهه نحوها بسرعة لتلتقي عيناهما على هذا القرب ..
فيلمح عبر شراسة نظراتها هذه المرارة الممتزجة بالألم ..
هل آذاها إلى هذا الحد ؟!
ولا يذكر أيضاً ؟!
إلى هذا الحد كان بشعاً ؟!!

لكنها الآن كانت أكثر بشاعة وهي تفاجئه بتقييد قدميه كذلك إلى الكرسي قبل أن تستقيم بجسدها لاهثة الأنفاس :
_عظيم ..كده نبدأ الحفلة !

قطرات من عرق خفيف تتجمع على جبينه وهو يشعر بالإهانة التي لم يذقها رجل مثله من قبل ..
لكن هذا لم يكن أسوأ عذاباته ..
بل مزيج شعوره بالقلق والذنب!!

لهذا راقبها بتوجس وهو يراها تتحرك نحو المطبخ المقابل قبل أن يدرك مرادها وهو يراها تفتح مكابس الغاز!!

وجهه الشاحب لم يكن يخشى النهاية فقد كان يتوقع شيئاً كهذا منذ وافق على القدوم هنا ..
لكن قلبه سقط بين قدميه رعباً عندما وجدها تقترب أخيراً لترفع الجهاز اللاسلكي الذي لوحت به بإشارة ذات مغزى قبل أن تلقيه من النافذة التي أغلقتها بإحكام خلفها هاتفة :

_هنموت سوا ..بس الأقسى من إنك تموت إنك هتعيش الدقايق اللي فاضلة وانت مش عارف مصير أختك .

صرخة هائلة يطلقها وهو يحاول تخليص نفسه من قيوده ..
صرخة قابلتها هي بضحكة عالية مختلة جعلته يطلق عدة سبابات متوالية وتهديدات بدت هزلية في موقفه هذا ..

_كده بقا ممكن نتعرف ..فاكر دي ؟!

تقولها وهي تستخرج من جيب قميصها صورتها الأثيرة لتضعها أمام عينيه ..
بزي تخرجها اللامع ..ابتسامتها البريئة ..حجابها المتحفظ ..عيناها المشعتان بالأمل وحب الحياة ..
هو الآن يذكرها ..
لكن أين تلك من هذه ؟!!
هذه التي تقف الآن أمامه كنار تحرق من حولها وتحترق قبلهم !!

هذه التي تشير الآن لجسدها شبه العاري لتقول بنبرة ميتة ..ميتة تماماً :
_فرق كبير ..صحيح ؟!!

يشيح بوجهه عنها وهو يشعر بدقات قلبه تتقافز حد الألم ..
حد الجنون ..
هل هناك أقسى من أن يواجه المرء مسخ ذنوبه وجهاً لوجه ؟!!

لكنها تحكم قبضتها على فكه لتدير وجهه نحوها هاتفة بشراسة عادت تجتاح كلماتها :
_ما تشوف يا صياد ..الفرق بين صورتين ممكن يعمل إيه !!

تقولها ثم تشير لجسدها الذي تغير لونه في بضع مواضع وحمل بعض الندوب في أخرى لتردف بنبرة شاردة غارقة في المزيد من الألم :
_بنت حلوة مؤدبة على أد حالها وقعت في طريقها ..شافت فيك الأمير اللي هيخطفها على حصانه ..صدقت كلامك وقالت تقرب ..تجرب ..تخطف الحلم اللي مد لها دراعاته ..لكن الصياد مالوش عزيز ..والصيد عنه كيف ومزاج ..وساعة الجد فص ملح وداب ..ولما جت ساعة العتاب قلتلي طمعانة فيك ..وإن اللي زيي مقامها ليلة وورقة عرفي ..

يغمض عينيه بألم والتفاصيل الدقيقة التي لم تذكرها تتوالى على ذهنه تباعاً ..
تجلده بسياط الندم ..
هل كان حقاً بهذه البشاعة ؟!!

مهلاً ..مهلاً ..
لايزال السيل يعلو أكثر وأكثر ..

_مشيت وسبتني وراك ..عيطت ليلة اتنين تلاتة ..وقلت هانسى وهابدأ من جديد ..قلت باب القلب ده نقفله وأفوق لأبويا اللي مالوش غيري ..أفرحه الفرحة اللي عمري ما هاعرفها ..ماعملتش حسابي إن السكينة اللي غرستها انت في قلبي لسه مااتشالتش ..لسه بذرتها كانت موجودة ..يوم عادي رحت فيه مشوار ..دخت ووقعت في الشارع ..أبويا جري ع المستشفى اللي نقلوني فيها ..وهناك سمع الخبر ..بنتك حامل يا حاج ..بس ..ماسمعش حاجة تانية بعدها ..قلبه وقف زي دنيتي بعدما خاب أمله فيا ..

حلقه يجف أكثر وهو يكاد يرجوها التوقف ..
أي وزر هذا الذي عاش يحمله طوال هذه السنوات دون أن يدري؟!
أي عقيدة غاشمة اعتنقها وهو يحترف صيد مالا يحل له ؟!!
وأي عقاب ينتظره بعد كل هذا ؟!!

رائحة الغاز تصله الآن بوضوح ليدرك قرب النهاية بينما تعاود هي الالتفات نحوه لتقول بنبرة عادت إليها شراستها :
_قتلت ابني بإيدي قبل ما يشوف الدنيا ..كان لازم أوصل وأبقى راسي براسك عشان أعرف أنتقم ..عملت كل حاجة ممكن تتعمل ..بعت اللي ماكانش حيلتي غيره ..انت حطيتني على أول طريق وأنا كملته للآخر ..وبقيت فيه أستاذة !

كلمتها الأخيرة تختلط بسعالها ورائحة الغاز تنال منها هي الأخرى ..
لكنها تشير أخيراً لندوب جسدها قائلة :
_كنت بصبر نفسي إن كل ضربة هاخدها بعدك هردهالك في يوم م الأيام ..كنت براقبك من بعيد لحد ما عرفت رامي ..سافل بس غبي ..هو اللي عرفني مداخلك وقاللي على أختك ..قاللي كمان على طليقته اللي كنت عايز تتجوزها ..اتفقنا سوا ..بس قبل ما أنفذ انتقامي كان لازم أدوقك الخوف ..أخنقك بيه ..عرفت مين كان بيضرب عليك نار بس من غير ما يقتلك ؟! مين دوقك طعم الموت قبل ما تشوفه بعينك ؟!

سعالها يزداد مع اشتداد رائحة الغاز فتضحك ضحكة مختلة سبقت قولها:
_متعة! إحساسي بخوفك كان متعة ..بس خلاص تعبت ..تعبت وعايزة أرتاح يا صياد !

_آسف!
يقولها صادقاً عبر غلالة من ندم حقيقي لتضحك ضحكة ساخرة سبقت فيضاً من دموع رافق صراخها بعدها:
_آسف؟! آسف دي هترجع لي أبويا؟! شرفي؟! عمري؟! هترجعلي نفسي؟!

يغمض عينيه بوجع كان يمزق الآن كل خلية من جسده خاصة وضحكاتها المختلة تعاود شق سمعه :
_مابقيتش فقيرة وطمعانة ..عارف بقى عندي أد إيه ؟! عارف تليفون مني ممكن يوصلني لفين ؟! الروس اتساوت يا صياد ..والطريق كان صعب قوي بس ..سهل قوي!!

يحاول فتح عينيه لكنه يعجز عن فعلها ..
ما عاد قادراً على مجابهة هذا المسخ الذي صنعته يداه ..
الوحش الذي أطلقه هو من عقاله ..
طيف شاحب لياقوت يداعب خياله فيحمد لنفسه أنه لم يؤذها كما فعل بمن سبقنها ..
على الأقل خرجت هي من عالمه ناجية !!
صرخة عنيفة يطلقها وهو يشعر بلسعة سوط مفاجئة على صدره !!
هذه التي أجبرته أن يفتح عينيه ليجدها أمامه تمسك السوط بقبضتها المرتجفة وصوتها يتقطع بسعاله :
_عايزة آخر حاجة أسمعها ..قبل ما نموت ..صوتك وانت بتصرخ ..صرخ قوي ..علي صوتك ..يمكن النار اللي في قلبي تبرد !

كلماتها تنتهي بضربة أخرى ..ثم أخرى ..
لكنه تحكم في صرخاته لتنفجر شظاياها بداخله ..
تنسف جبال غروره واحداً تلو الآخر ..
أنفاسه تختنق بهذه الرائحة التي تحمل نكهة الموت فيسعل بدوره مدركاً قرب النهاية ..

ليشعر بها أخيراً تترنح فيرفع وجهه نحوها ليتهاوى جسدها أمام عينيه ..
يراها من علوّ ترفع عينيها الشاحبتين وقد ظللتهما غمامة الموت ..
تبتسم وكأنها ترى أحدهم وتحادثه بما بدا كالهذيان :
_خدت تارنا ياابا ..راضي عني ؟! مش عايزة أقابلك وانت زعلان !!

ابتسامتها تذبل كعينيها اللتين أغمضتهما أخيراٌ بينما تقبض بكفها على السوط كأنما تعلن اختيارها النهائي الذي دفعت ثمنه ..الانتقام !!

يشعر بقبضة باردة تعتصر قلبه وأنفاسه هو الآخر تتلاحق بجنون ..
كان يتوقع أنه لن يخرج من هنا حياٌ لكنها قتلته حقاً قبل أن يموت!!
قتلته بهذه الصورة التي منحتها له في مرآة ضميره ..
وليتها لم يفعل !!

رأسه يتثاقل وهو يشعر أنه يجاهد لالتقاط أنفاسه ..
لكن عذابه الحقيقي هاهنا كان في تمزقه بين صورة هذه التي لفظت أنفاسها أمامه ..
وبين قلقه على همسة ويمنى أن يحملهما ذنبه لنفس المصير !!

المرئيات تتشوش في عينيه ليوقن أكثر من قرب النهاية ..
ياقوت ..
يهمس باسمها متذكراً آخر قبلة طبعها على أناملها ..
أسطورته التي ود لو يعيش حتى يكتب لها المزيد من الحكايات ..

صوت طرقات عنيفة على الباب يجتاح سمعه لكنه لا يجد القوة ليصرخ ..
يشعر بمن يقتحم المكان لكنه يغرق في نوبة أخرى من السعال قبل أن يميز عبر غيابات ذهنه وجه رائد ينحني فوقه بجزع ..

تساؤله القلق يقفز عبر مقلتيه ولا يملك النطق به لكن رائد يمنحه نظرة مطمئنة وهو يفك قيد معصميه ..
ليتهاوى رأسه فوق صدره مستسلماً لغيبوبة إجبارية يدرك أنه -لو أفاق- منها فلن يعود أبداً كما كان ..
الصياد كفر بعقيدته ويطلب اعتناق أخرى بعد تطهير ..
الآن فقط نسفت جباله حوله كاملة لتذروها الرياح هباء منثوراً ..
========
انتهى الفصل التاسع عشر ..



التعديل الأخير تم بواسطة Just Faith ; 02-08-19 الساعة 07:22 AM
نرمين نحمدالله غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-08-19, 12:53 AM   #833

حالمة
 
الصورة الرمزية حالمة

? العضوٌ??? » 444533
?  التسِجيلٌ » Apr 2019
? مشَارَ?اتْي » 318
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي tunis
?  نُقآطِيْ » حالمة has a reputation beyond reputeحالمة has a reputation beyond reputeحالمة has a reputation beyond reputeحالمة has a reputation beyond reputeحالمة has a reputation beyond reputeحالمة has a reputation beyond reputeحالمة has a reputation beyond reputeحالمة has a reputation beyond reputeحالمة has a reputation beyond reputeحالمة has a reputation beyond reputeحالمة has a reputation beyond repute
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

فصل تحفة
برافو يا نيمو
هذا ما كان يحتاج زين ليتغير تغيير جدري اتوقع ياقوت راح تساعده في المرحلة القادمة
يامن اثبت مرة اخرى تخطيه مرضه
همسة ورائد في خطوة جديدة للامام لكن أمامهم طريق طويل


حالمة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-08-19, 12:55 AM   #834

Msamo
 
الصورة الرمزية Msamo

? العضوٌ??? » 366128
?  التسِجيلٌ » Mar 2016
? مشَارَ?اتْي » 1,823
?  نُقآطِيْ » Msamo has a reputation beyond reputeMsamo has a reputation beyond reputeMsamo has a reputation beyond reputeMsamo has a reputation beyond reputeMsamo has a reputation beyond reputeMsamo has a reputation beyond reputeMsamo has a reputation beyond reputeMsamo has a reputation beyond reputeMsamo has a reputation beyond reputeMsamo has a reputation beyond reputeMsamo has a reputation beyond repute
افتراضي

😢😢😢😢😢😢😢😢😢😢😢😢😢😢😢😢😢
نيمو ايه كل ده 😭😭😭😭😭😭😭😭😭


Msamo متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-08-19, 01:03 AM   #835

د. شيمو2

? العضوٌ??? » 420113
?  التسِجيلٌ » Mar 2018
? مشَارَ?اتْي » 142
?  نُقآطِيْ » د. شيمو2 is on a distinguished road
افتراضي

ابدعتي واحسنتي👏👏👏👏👏👏

د. شيمو2 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-08-19, 01:27 AM   #836

Malak assl

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء وقاصة وقلم مشارك في منتدى قلوب أحلام وحارسة وكنز سراديب الحكايات ونجمة كلاكيت ثاني مرة و راوي القلوب وقاصة هالوين

 
الصورة الرمزية Malak assl

? العضوٌ??? » 387951
?  التسِجيلٌ » Dec 2016
? مشَارَ?اتْي » 1,870
?  نُقآطِيْ » Malak assl has a reputation beyond reputeMalak assl has a reputation beyond reputeMalak assl has a reputation beyond reputeMalak assl has a reputation beyond reputeMalak assl has a reputation beyond reputeMalak assl has a reputation beyond reputeMalak assl has a reputation beyond reputeMalak assl has a reputation beyond reputeMalak assl has a reputation beyond reputeMalak assl has a reputation beyond reputeMalak assl has a reputation beyond repute
افتراضي

اسمحيلي اقولك انا كرهت زين

Malak assl غير متواجد حالياً  
التوقيع
ملاك عسل
رد مع اقتباس
قديم 02-08-19, 01:56 AM   #837

مها العالي

? العضوٌ??? » 372455
?  التسِجيلٌ » May 2016
? مشَارَ?اتْي » 132
?  نُقآطِيْ » مها العالي is on a distinguished road
افتراضي

فصل جبار ي جميل

مها العالي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-08-19, 02:25 AM   #838

jadbalilo

? العضوٌ??? » 394100
?  التسِجيلٌ » Feb 2017
? مشَارَ?اتْي » 533
?  نُقآطِيْ » jadbalilo has a reputation beyond reputejadbalilo has a reputation beyond reputejadbalilo has a reputation beyond reputejadbalilo has a reputation beyond reputejadbalilo has a reputation beyond reputejadbalilo has a reputation beyond reputejadbalilo has a reputation beyond reputejadbalilo has a reputation beyond reputejadbalilo has a reputation beyond reputejadbalilo has a reputation beyond reputejadbalilo has a reputation beyond repute
افتراضي

فصل روعة شكراااااااااا

jadbalilo غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-08-19, 03:35 PM   #839

apple pie

? العضوٌ??? » 374632
?  التسِجيلٌ » Jun 2016
? مشَارَ?اتْي » 267
?  نُقآطِيْ » apple pie is on a distinguished road
افتراضي

فصل رائع بس بيوجع اوي

البنت علي قد ما المفروض انها تصعب علينا بس هي كانت اختياراتها للاسف

الانسان مش معصوم من الخطأ لكن الاستبياع و تكمله الطريق و عدم الرجوع لله هو طريق الشيطان
سواء هي او حتي زين

الفصل جميل جدا و الفكر فيه عالي
سلمت يداكي


apple pie غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-08-19, 04:52 PM   #840

Dina abd elhalim

? العضوٌ??? » 434126
?  التسِجيلٌ » Oct 2018
? مشَارَ?اتْي » 242
?  نُقآطِيْ » Dina abd elhalim is on a distinguished road
افتراضي

فصل رائع فوق الوصف
بالتوفيق دوما


Dina abd elhalim غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 04:58 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.