شبكة روايتي الثقافية

شبكة روايتي الثقافية (https://www.rewity.com/forum/index.php)
-   روايات عبير المكتوبة (https://www.rewity.com/forum/f202/)
-   -   518-أغنية السعادة _ سارة كريفن _ ق.ع _ مكتوبة * كاملة (https://www.rewity.com/forum/t441127.html)

MooNy87 13-01-19 09:40 AM

518-أغنية السعادة _ سارة كريفن _ ق.ع _ مكتوبة * كاملة
 
https://upload.rewity.com/uploads/154736116703321.gif


أغنية السعادة

سارة كريفن

قلوب عبير دار النحاس

https://dl7.glitter-graphics.net/pub...ex7czns6co.gif


الغلاف الأصلى

https://images-na.ssl-images-amazon....4,203,200_.jpg


https://sl.glitter-graphics.net/pub/...z2rr5ncbz7.gif


الملخص

_ _ _ _ _ _ _

" إنك تخفين شيئا في أعماقك ,يا مارغريت "

لو أن جيروم مونتكورت يدرك مدى خداعها ! فهو لايعلم

شيئا .. حتى الاسم الذى ذكرته له , لم يكن اسمها .

ولكن ميغ وجدت ان ذلك الرجل الفرنسى الجذاب كانت له أسراره

هو أيضا .. ليس أقلها ماهية شعوره الحقيقى نحوها .
يجب ان ترد لمشاهدة المحتوى المخفي



https://upload.rewity.com/uploads/154736116708243.gif

MooNy87 13-01-19 09:58 AM


الفصل الأول

https://upload.rewity.com/uploads/154736267052051.gif

" إنه حل مناسب تماما . يمكنك أن تذهبى لتأخذى مكانى . "


ولكن قول مارغوت ترانت المرح هذا , قوبل بصمت عميق . وتمتمت ميغ لانغترى : " دعينى أستوضح الأمر تماما . إنك تريدين منى أن أسافر إلى جنوب فرنسا , فى الشهر القادم , وأمكث مع خالتك فى قصرها , منتحلى شخصيتك " وسكتت وهي تلقى على أختها غير الشقيقة نظرة طويلة متأملة , لتتابع بعدها قائلة : " هل هذه هى العناصر الأساسية فى التمثيليلة ؟ "

سألتها مارغوت : " وما الخطأ فى هذا ؟ إن تلك العجوز تريد من يمكث معها لمدة أربع أسابيع لكى تتمكن مرافقتها المستعبدة تلك أن تأخذ فرصة ترتاح فيها , فما هى المشكلة فى ما لو ادعت فتاة بأنها مارغوت ترانت ؟ "

فردت عليها ميغ بسخرية بالغة : " ليس ثمة مشكلة طبعا . حتى عدم الشبه بيننا , ليس له أهمية على الإطلاق "

فهزت مارغوت كتفيها قائلة : " إننى شقراء ., وأنت سمراء . " وألقت نظرة استخفاف على شعر ميغ البني المسترسل البسيط الطراز , وهى تتابع : " وهذا يمكن تعديله بسهولة . أما بالنسبة للأشياء الأخرى , فهى عمياء تقريبا وهذا هو السبب فى حاجتها إلى مرافقة دائمة , فهى لن تتمكن من رؤيتك بوضوح ."

تمتمت ميغ : " هذه هى نهاية طموحى "

مالت مارغوت إلى الأمام قائلة بحدة : " هيا يا ميغ , يمكنك القيام بذلك بكل سهولة , ذلك أنه ليس ثمة وظيفة لك تقلقين بشأنها ما دامت المكتبة التى تعملين فيها ستقفل أبوابها فى نهاية الأسبوع . يجب ان تدركى هذا . "

قالت ميغ معترضة : " ولم لا ؟ إن البرلمان يمنح لاعضائه إجازة فى الصيف . من المؤكد أن ستيفن سيعطيك اجازة . "

اجابت مارغوت وقد ظهر على وجهها الجميل انفعال مفاجئ : " ربما سيفعل إذا أنا طلبت منه ذلك , ولكنه على وشك طلب أن يطلب الطلاق من زوجته , وأنا لا أريد أن أتركه فى هذا الوقت بالذات . "

تمتمت ميغ بجفاء : " لقد فهمت " ذلك أنه , مهما كان رأيها فى هذا العمل المقيت , فقد كانت أختها بسبيله منذ وجدت عملا كسكرتيرة عند ستيفن كيرتيس عضو البرلمان الشاب الذى كان مرشحا لرتبة وزارية فى الحكومة المقبلة .

قالت مارغوت باستياء : " ثم أنه ليس لديه الحق فى استدعائي بهذا الشكل المفاجئ , إننى لم أرها منذ كنت فى التاسعة من عمرى . "

قالت : " إننى أعجب لعدم سماعى بها حتى الآن . "

هزت مارغوت كتفيها قائلة : " إنها فى الواقع , عمة أبى , وكانت تحبه كثيرا . وقد أطلق علي اسمها . وهكذا , نحن الثلاثة , بنفس الاسم . أليس هذا شيئا جميلا ؟ "

أجابت ميغ وهى تهز رأسها : " هذا غريب , ولكنه خارج عن موضوعنا الآن , ألا يمكنك أن تكتبى إليها لتخبريها بعدم تمكنك من الذهاب إليها . "

أجابت مارغوت بحدة : " كلا , إن هذا فى منتهى الغباء . ذلك أن ليس لها أولاد ولا أقرباء حسب ما أعرف . وإرث مثل قصر في لانغيدوك هو شئ لا يمكن الاستهانة به . وهكذا ترين أن من الضرورى أن أكون بجانبها " ونظرت إلى ميغ بابتسامة متوسلة وهى تستطرد : " أو تقومين أنت بذلك باسمى . "

عضت ميغ شفتيها قائلة : " لا سبيل إلى ذلك . لأننا لن نستطيع الافلات من سوء النتيجة , هذا عدا عن الاعتبارات الأخلاقية . "

أجابتها مارغوت : " ليس ثمة ضرر فى ذلك . الأمر هو أن مارغوت ترانت قد استدعيت . ومن المفروض أن هذه ستصل فى الوقت المعين . وأنت مناسبة , أكثر منى للعناية بعجوز كئيبة . اجعليها راضية لأجلى , وسأكون شاكرة لك إلى الأبد . "

قالت ميغ وهى تدفع شعرها إلى الخلف : " أهذا إذن , هو الحافز الذى يدفعنى للقبول ؟ إنك حقا , عديمة التفكير يا مارغوت . وعليك أن تقومى بعملك القذر هذا بنفسك ."

قالت مارغوت وهى تنظر إلى أظافرها : " هل أنت ذاهبة ؟ كنت أظن أن المكتبة تقفل أبوابها يوم الأربعاء . "

أجابت ميغ : " هذا صحيح . وأنا أمضى هذا النهار مع مربيتي تيرتر كالعادة ."

قالت مارغوت : " طبعا فى كوخها الجميل , أم على أن أقول كوخنا ؟ "

ضاقت عينا ميغ لتقول بعد برهة : " إن كوخ بريدونس هو لإقامة المربية طوال حياتها . لقد أوضح أبى ذلك بعد موته . "

قالت مارغوت : " نعم , ولكنه لم يقرر ذلك كتابة , يا حبيبتى , وليس هناك وثيقة قانونية بذلك . ومنذ أيام قامت أمى بزيارة خاطفة إليه . ذلك أن أصدقاءها , آل نيستور , يبحثون عن مكان يمضون فيه عطلة نهاية الأسبوع . ويبدو أن هذا المكان ملائم جدا ."

حدقت ميغ فيها قائلة : " إنك , طبعا , غير جادة بذلك . إن المربية مولعة جدا بالكوخ ."

أجابت مارغوت بجفاء : " طبعا لابد أنها كذلك , فهو مكان مرغوب جدا ."

قالت ميغ : " ولكن , ليس ثمة مكان آخر لتذهب إليه ."

فأجابت مارغوت والحقد يكسو ملامحها : " هنالك ملجأ العجزة . إن لأمى أصدقاء في جمعية الخدمات الاجتماعية وأنا واثقة من أنهم سيساعدونها فى ذلك ."

ارتجفت ميغ وهى تتنفس بصعوبة قائلة : " إن هذا سيقتلها , والإقامة فى ملجأ يرعبها . وهى بإمكانها أن تخدم نفسها بنفسها ."

قالت مارغوت ببرود : " إن الأمر , فى هذا , بيدك أنت , ذلك أنه إذا قبلت بالذهاب إلى لانغيدوك فسأقنع أمى بأن طرد المربية من الكوخ سيكون خيانة لذكرى أبيك ."

سألتها ميغ بخيبة أمل : " وهل هذا يغير من الأمر شيئا ؟ "

أجابت مارغوت : " بالطبع , فقد كانت مولعة بأبيك جدا , رغم أنها لم تكن تحب المربية وطريقتها فى السيطرة , هذا إلى جانب أن كلمتى الآن مسموعة عندها , فأنا أوجهها أينما وكيفما شئت , ذلك لأنها مستميتة كي يكون لها صهر فى البرلمان ."

فكرت ميغ عابسة , إن معنى هذا أن تذهب زوجته كيرين وأولاده إلى الجحيم .

تابعت مارغوت بدهاء : " حتى ان فى استطاعتى أن اجعلها تكتب شيئا باسم المربية , هذا إذا ذهبت أنت للمكوث مع خالتى لمدة شهر . إننى بحاجة إلى معونتك , يا ميغ , إذ على أن أبقى هنا لكى استمر بالضغط على ستيفن ."

قالت ميغ ببرود : " إن قمت أنا بهذا الأمر , فلأجل المربية وليس لأساعدك فى الحصول على هذا الرجل المتزوج ."

تمطت مارغوت بسرور وهى تقول : " دعى عنك هذا الغرور . فأنت ستذهبين إلى فرنسا لمدة شهر كامل وكل التكاليف مدفوعة . ماذا تريدين غير ذلك ؟ " وابتسمت راضية وهي تتابع : " كذلك سأعيرك سيارتي لكي تذهبي بها إلى فرنسا . وعليك أن تبدأى بالتمرين على القيادة منذ الآن ."

أطبقت ميغ أسنانها بشدة وهى تقول : " إننى لم أقل بعد إننى سأذهب ."

فارتسمت على شفتى مارغوت ابتسامة الثعلب وهى تقول : " ولكنك ستذهبين , وإلا فإن المربية العجوز المسكينة ستصبح دون مأوى, فالخيار فى ذلك يعود إليك ."

وبعد ذلك بأسبوعين . كانت ميغ فى طريقها مرغمة إلى جنوب فرنسا .

لم تكن تريد أن ترضخ لهذا , ولكن نظرة منها إلى مربيتها وهى تجول فى أنحاء الكوخ سعيدة نشيطة , غافلة عما ينتظرها من أصدقاء السيدة لانغتري , جعلتها تغير رأيها .

والسيدة ايريس لانغتري , نفسها ., لم تكن مسرورة بهذه المساومة , ولكنها قبلت بالأمر مرغمة , هى الأخرى .
وتنهدت وهى تقول : " إن مارغوت تستحق السعادة . كما أن ستيفن هو رجل رائع بينما زوجته امرأة لا تعرف سوى الخدمة في بيتها . انه بحاجة إلى امرأة تقف بجانبه وتدفعه إلى الأمام فى مهنته السياسية هذه ."

وفكرت ميغ متهكمة فى أنه لا عجب إذا كانت البلاد فى مثل هذا التدهور , إذا كانت نظرة ستيفن إلى مارغوت تحوى هذا الرجاء . أما بالنسبة لأعمال البيت , فليس ثمة من يمكنه القول إنها تصلح لشئ ماعدا غلى الماء على الأرجح .

تلقت من ايريس لانغترى بعض الملابس الجديدة التى أصرت هذه على دفع ثمنها قائلة تسكتها عن الاحتجاج :
" من المفروض أنك بمثابة ابنتى ولهذا , فلا يمكنك أن تسافري بمثل هذه الملابس ."

كذلك كان لون شعرها الجديد ناجحا بشكل غير متوقع , فقد أصبح أشقر داكنا . ولم تجد الوقت لكي تبكي على عملها فى المكتبة والذى زاولته طيلة الثمانية عشر شهرا الماضية , بعد تقاعد صاحب المكتبة . أو تقلق , أثناء انتظارها أن تمر هذه المغامرة الفرنسية بسلام , ذلك أن مشكلاتها الحالية تكفيها .

ودهشت وهى ترى مخدومها , السيد أوتواي يؤمي برأسه وهي تخبره بوجهة سفرها , راضيا وهويقول : " آه , لانغيدوك أرض إانى التبروبادو الشاعرية , والكاثار ."

سألته ميغ : " وما الكاثار ؟ "

فأجاب : " إنها طائفة دينية باقية من العصور الوسطي , وهي تعتقد أن الحياة بأجمعها آثمة , ولابد من الاستمرار في البحث عن النور . إن كل مقاطعات اللانغيدوك كانت غنية ومستقلة عن ملك فرنسا الذى كان يكره رايموند أوف تولرز أكبر أسياد الجنوب ويحسده على ثرائه وجمال وحضارة حياته فى الجنوب , فكان أن فكر فى اتخاذ الكاثار ذريعة لغزوه ومحاربته وسلبه أملاكه . ولكنك ستعشقين تلك المنطقة . فهى بلاد شاعرية مليئة بالمتناقضات , فترين فيها الضحكات السعيدة الدافئة إلى جانب الدموع . الحب الصادق إلى جانب الكراهية والحقد الذى لا يعرف التسامح . الشمس اللاهبة والعواصف الثائرة عندما تفلت الطبيعة من عقالها ."

وابتسم بخبث وهو يرى الخوف يكسو ملامح ميغ واستطرد بعنف : " ربما فى إمكان كل هذا أن ينفض عنك قليلا هذا الجمود الذى يحيط حياتك رغم صغر سنك ."

قالت باحتجاج : " ولكننى سعيدة بذلك ."

قال : " كلا , إنك راضية فقط .. وهذا شئ مختلف تماما . ولكننى متأكد , يا طفلتى , من أنك لن تكونى نفس الفتاة عند عودتك من لانغيدوك ." وأطلق ضحكة جافة وهو يتابع : " كلا , ليس نفس الفتاة مطلقا . " وربت على كتفها : " إننى أتنبأ بأنك لن تعودى إلى مجرد قناعتك تلك فى حياتك . وستتمتعين بدفء الجنوب كاملا ."

ولكن ذلك الحر اللاهب , والعرق الذى كان ينضح به جلد ميغ فى زحمة السير خارج قطار تولوز , لم يكن لينطبق عليه كلمة , دفء , التى وصف بها مخدومها ذاك , هذه المنطقة الجنوبية , فقد كانت السيارة التى أستاجرتها , أشبه بالفرن بينما كانت ما تزال فى مستهل رحلتها إلى هاوت أرينياك , فقد وصلت إلى فرنسا مبكرة يومين عن موعدها , وذلك لكى تمضى بعض الوقت فى التفرج قبل أن تستقربين آل دي بريسو كمرافقة للسيدة .

كذلك , كانت هذه الفترة تساعدها على تمرين لغتها الفرنسية . فقد كانت متفوقة فى هذه اللغة بين تلميذات صفها فى المدرسة . كما كانت تحضر دروسا ليلية للتقدم بها .ولكن لم يكن أمامها فرصة لاختبار مهارتها فى تلك اللغة , فى قصر هاوت أرينياك , حيث أن السيدة مارغريت دي بريسو قد أبغت أثناء المراسلة , أن مارغوت لا تتكلم الفرنسية . وعندما احتجت ميغ على هذا القرار التعسفى بالإدعاء بأنها لا تحسن الفرنسية . قالت لها مارغوت ببساطة : " هذا شئ سيفيدك تماما إذ بإمكانك الادعاء بعدم الفهم إزاء أى سؤال لايعجبك ."

فقالت ميغ بمرارة : " لا أريد الإدعاء بأى شئ ." فقد كانت تشعر بالذنب إلى درجة بالغة إزاء هذه اللعبة التي تقوم بها . ذلك أنها فى سبيلها إلى خداع امرأة مسنة شبه عمياء , وذلك لكي تساعد أختها فى العمل على هدم زواج حبيبها , وبالتالى تشريد امرأة غافلة بريئة مع أولادها .

حتى ادراكها بأن هذا العمل سيعود بالفائدة على المربية إذ ستمتلك الكوخ , هذا الادراك لم يبعث العزاء فى نفسها أو يقلل من مبلغ الخسة التى تتنابها في عملها ذاك .

كانت هذه الافكار تراودها وهي تنقر بأصبعها على عجلة القيادة فى انتظار الضوء الأخضر الذى لم يلبث أن ظهر لتتابع سيرها . كانت تتقدم بحذر بالغ أولا , لكى تعود نفسها على قوانين السير فى هذا البلد الغريب . وثانيا لكي تتعود على قيادة هذه السيارة التى وضعت تحت تصرفها .

ولكنها سرعان ما أدركت أنها تسير فى طرقات جيدة اقل ازدحاما مما اعتادته فى انكلترا , ليبعث هذا فى نفسها الشعور بالارتياح .

كانت السماء زرقاء صافية , ولكنها , وهي تسير نحو الشرق , لم تليث أن لمحت فى الأفق البعيد سحبا تتركام بصورة تنذر بالخطر . وفى الوقت الذى توقفت فيه لتبتاع طعاما للغداء , كانت تلك السحب قد حجبت السماء . وألقت نظرة قلقة على الجو المدلهم , وهى تقفل راجعة إلى سيارتها تحمل بعض السندويتشات وزجاجتى مياه معدنية .

كانت قد صممت على أن تقوم بنزهة فى بقعة هادئة , واختارت , لذلك طريقا بعيدا عن الشوارع العامة لتتمكن من قيادة السيارة على مهل ولكى تتعرف إلى فرنسا الحقيقية .

وبدا لها الآن , وكأنها على وشك أن تتعرف إلى جو فرنسا الحقيقى أيضا . إذ أنه , مع أن الحرارة كانت ماتزال مرتفعة , فقد كانت السحب تنذر بجو عاصف , ولكن , ما أن ابتدأت قطرات المطر تصفع زجاج السيارة الأمامى , حتى تخلت , مكرهة , عن قرارها فى تناول طعامها فى الهواء الطلق , لتركز اهتمامها على إيجاد مكان تمضى فيه ليلتها .

وقد التقت فى آخر مدينة مرت بها , بفتاة رقيقة الشعور أرشدتها إلى فندق صغير يدعى الأوبيرج يقوم فى نهاية طريق جورج دي بيرون مشيرة إليه بعلامة على الخارطة التى كانت ميغ تحملها .

وجدت نفسها تسير فى طريق متعرج تحف به صخور شاهقة . وما لبث أن الطريق أن أصبح فى محاذاة نهر غير عميق يتدفق فوق الحصى , لتعرف أنها قد وصلت الآن إلى الطريق المقصود الذى يقع الفندق فى نهايته .

وعندما اشتد هطول المطر . فكرت فزعة بأن خير البر عاجله , فقد ابتدأ الرعد والبرق الآن فى التناوب , وأطلقت ميغ بعض الشتائم وهى تدير المساحة على الزجاج أمامها والتى لم تجد لها فائدة ملموسة أمام تدفق المطر الذى كانت الريح تصفع به الزجاج , مما جعلها لا تجرؤ على متابعة القيادة فى ذلك الطريق غير المستقيم . وهكذا , اتجهت بالسيارة إلى الجانب الصخرى من الطريق حيث أوقفتها هناك محتمية به .

من ذا الذى كان يتوقع مثل هذا التغير السريع فى الجو . مع أن السيد أوتواي كان قد حذرها من تقلبات الجو السريعة هذه , منبها إياها إلى أن أفضل ما فى إمكانها أن تفعله فى هذه الحال , هو البقاء فى السيارة بدلا من تعريض نفسها إلى صاعقة البرق .

وشعرت فجأة بالبرد , فتناولت سترتها من المقعد الخلفى تشدها على كتفيها . وألقت نظرة على النهر شعرت معها بقشعريرة باردة . كانت حرارة الجو فى انخفاض مطرد . وكانت مياه النهر فى ارتفاع حتى أصبحت متدفقة على ضفتيه .

شعرت . بشئ من الفزع , وبأن هذا المكان غير مناسب للوقوف . ولكن , لابد لها من البقاء حيث هى إلى أن يخف هطول الأمطار على الأقل . ذلك أن العاصفة قد أصبحت الآن فوقها تماما . كما كان الرعد والبرق متزامنين معها تقريبا .

وشعرت ميغ وكانها تحدق فى جدار من الماء . ربما كان من الأفضل لها لو أنها وصلت فى نفس يوم الموعد , فتجد من يستقبلها فى المطار كما كانت السيدة دي بريسو قد اقترحت . إذ أن هذا هو الطريق السوي الذى اعتادت هى أن تتبعه أكثر حياتها .


خاطبت نفسها قائلة , لماذا أنت ضجرة إلى هذا الحد , وأين روح المغامرة فيك ؟ وتأرجحت السيارة فجأة أثر زوبعة مفاجئة , وارتجفت ميغ بالرغم عنها , لتصرخ رعبا وهي ترى الباب إلى جانبها يفتح بعنف لتمتلئ السيارة بالهواء البارد الرطب .

وظنت للوهلة الأولى , بأن هذا من فعل العاصفة لترى شبحا قاتما متدثرا بمعطف فضفاض , يقف بالباب يحدق فيها ., فانكمشت فى مقعدها , وهمت بالصراخ مرة أخرى لولا أن الرعب قد أخفى صوتها .

وجاءها صوته يقول بهدوء يخفى انفعالا حادا : " لعلك مجنونة تماما . هل تريدين أن تموتى ؟ هيا ابتعدى بهذه السيارة الآن , فى هذه اللحظة ."

لم يكن هذا الذى يتكلم , شبحا صورته لها العاصفة , ولكنه كان رجلا غاضبا . وقد تكلم بالفرنسية واجأبته هى بنفس اللقة بصورة آلية , وقد أخذ قلبها يخفق بمزيج من الراحة والحذر , وهى تقول : " وما الذى أعطاك الحق فى أن توجه إلى الأوامر ؟ "

فرد عليها بحدة : " إنه حق شخص يعرف هذه البلاد أكثر منك . ذلك أن الوقوف بالسيارة تحت هذه الصخور الشاهقة فى حالة طقس كهذا , ينطوى على خطر شديد أيتها الحمقاء الصغيرة . إذ إنه كثيرا ما تحدث انهيارات أرضية , وفى هذه الحال تدفنين أنت وسيارتك , هيا . تحركى بسرعة ."

ومهما كان مقدار الخشونة فى حديثه ذاك إليها , فانه كان يبدو منطقيا فى حديثه . ويعرف تماما ما يقول . وشعرت ميغ بشئ من الضيق , بأن من الأفضل لها أن تمتثل لنصيحته تلك .

سألته ببرود : " وأين تقترح , إذن , أن أوقف السيارة ؟"

فرد عليها عابسا : " ثمة مكان أكثر أمانا على بعد مئتى متر ., فاتبعينى وسأريك إياه . هيا بسرعة "

واختفى بعد أن صفق الباب وراءه , وبعد لحظة رأت ميغ سيارة قاتمة تتجاوز سيارتها بمسافة قريبة . أدارت مفاتح المحرك , وقد انتابها الفزع , ولكن بدلا من أن يدور المحرك كالمعتاد . ساد صمت عميق ينذر بالسوء .

حاولت ميغ مرة ثانية وثالثة وقد أحست بالذعر ولكن المحرك بقى على عناده .

ومن جانبها جاءها صوت ذلك المتلفح بالمعطف يسألها :" ماذا حدث ؟ "

فقالت بالانكليزية بصوت منخفض تبدو الخشونة فى نبراته : " ما الذى تراه أمامك أيها الثرثار , إن محرك السيارة لا يدور ." واخذت تفتش فى ذاكرتها عن كلمات فرنسية أكثر رقة .

فقال : " إنك إذن انكليزية . كان يجب أن أتكهن بذلك ."

وبدت فى لهجته نبرة ازدراء , وتصلب جسد ميغ غيظا , إنه إذن . يعرف لغتين . وتوردت وجنتيها وهى تتذكر لهجتها الفظة التى تشبه لهجة تلميذات المدارس .

وسألها : " ماهى مشكلة السيارة الآن ؟ هل من عادتها أن تسبب لك مضايقات ؟ "

فأجابت بضجر : " لقد أستاجرتها هذا النهار فقط , ولكن , ها هو ذا المحرك يبدو كالميت . ربما دخلت المياه فى المحرك ."

تمت بكلمات لم تشأ ميغ ان تسمعها , ثم قال بلهجة آمرة : " أتركيها . إذن , هنا , وتعالى معى ."

قالت محتجة : " ولكننى لايمكننى أن أتركها هنا , فهى ليست ملكى , ثم اننى .." وترددت برهة , ثم تابعت تقول :"
إننى لا أعرف أنى نوع من أبناء آدم أنت ! "

قال بلهجة لاذعة : " حسنا , أمكثى هنا يا آنسة , فبقاؤك هنا فيه ما يخيف , أكثر مما لو قبلت ما أقدمه إليك من مساعدة . والآن , أخرجى من السيارة قبل أن يغرقنا المطر نحن الاثنين . "

أطاعته ميغ مكرهة وقد جفلت للمطر الذى بلل حذاءها وجوربها تماما . وكان الوصول إلى سيارته أشبه ما يكون بعبور نهر ضحل . لابد أن يبللها المطر تماما قبل أن تجتاز مسافة مترين فقط . وفكرت باكتئاب فى ما عسى أن تكون ردة الفعل عند السيدة دي بريسو فى ما لو وصلت مرافقتها الجديدة وهي مصابة بالتهاب رئوى .

وسمعت بجانبها آهة تدل على نفاد صبر , لترى نفسها وقد لفها معه بالمعطف الذى يرتديه , ليقودها بعد ذلك , وكأنه يحملها حملا إلى سيارته , وأفعمت أنفها رائحة عطره الأخاذة التى تفوح منه .

وعندما دغعها بخشونة إلى المقعد الأمامى فى سيارته , شهقت وهي تقول ساخرة : " شكرا ."

قال وهو يجلس إلى عجلة القيادة : " لنبتعد من هنا . فهذا المكان معروف بخطورته ."

وما إن أتم كلامه , حتى سمعت صوتا أشبه بأنة عميقة تبعتها ضجة غريبة . ادارت رأسها إلى الخلف تنظر إلى حيث كانت واقفة , لترى , غير مصدقة عينيها وقد تملكها الرعب , شجرة ساقطة من الأعالى وقد اجتثت من جذورها , لتستقر على سيارتها الرينو محدثة ضجة مفزعة سرعان ما تبعها سيل من التراب والحجارة إنهى على السيارة ليرتد بعدها قافزا إلى الطريق ممثلا نموذجا مصغرا لسلسلة من الانفجارات . ووصلت بعض تلك الأحجار إلى السيارة الثانية التى جلسا فيا مصعوقين دون حراك .

تبع ذلك صمت عميق حيث أن المطر قد توقف الآن وكأنه قد اكتفى تماما بما حدث .

MooNy87 13-01-19 10:08 AM

الفصل الثانى

https://upload.rewity.com/uploads/154736267052051.gif


كان مرافق ميغ هو الذى اخترق هذا الصمت قائلا بهدوء وهو يهز كتفيه : " هكذا إذن "


تنفست ميغ وهى تقول : " شكرا .... شكرا لك "

وكان الدمار فى سيارتها ينحصر أكثره فى ناحية السائق . فقد كان السقف المحطم قد التصق بالمقعد كما تهشمت الواجهة الزجاجية بفرع كبير من تلك الشجرة .

وفى ذلك المكان بالذات ، كانت هى منذ لحظة واحدة ، جالسة شاعرة بالأمان التام . ولو لم يأت هو ، فى تلك اللحظة ، ليرغمها على ترك مكانها ذاك ... ولم يستطع عقلها ، الذى أذهلته الصدمة ، متابعة التفكير فى ما كان سيحدث لو تمسكت بعنادها ولم تطعه فى ذلك ، وحاولت أن تتكلم .... أن تشكره بصورة صحيحة هذه المرة ، ولكن ، بدلا من ذلك ، وجدت نفسها تنخرط فى البكاء .

وهمهم هو بشئ ما ، بعدما جلس قربها ، راميا بالمعطف إلى المقعد الخلفى ، وهو يتناول زجاجة تحوى شرابا منعشا ، فتحها ثم قدمها إليها قائلا : " هاك اشربى هذا "
ثم تناول علبة المناديل الورقية يقدمها إليها ، لتتناول منها واحدة تغطى بها عينيها وهى تنشج قائلة : " سيارتى ، سيارتى ..."

حاول أن يهدأ من روعها ، فقال :" عندما أستأجرت السيارة ، أخذت بها بطاقة تأمين مما يخول لك أخذ بديل لها ، الأمر ليس كذلك بالنسبة إلى حياتك "


قالت وهى تقاوم دموعها وقد ابتدأت تتمالك نفسها : " معك حق "

وعندما هدأت تماما ، واستطاعت أن تتكلم قالت : " إن كل أشيائى كانت فى صندوق السيارة . إننى أعرف أن من الحماقة أن أقول هذا ...."

فقال وهو يأخذ مفاتيح سيارتها من يدها المتهالكة :
" سأحضرها إليك "



تعلقت بذراعه قائلة : " كلا ، لا تجازف .... دعها "

قال وقد تحولت لهجته إلى الرقة : " لا بأس ، أنظرى إلى صندوق السيارة فهو سالم تقريبا "

قالت : " ولكن ربما يحدث انهيار آخر للأرض "

ذلك أن البرق والرعد كانا لا يزالان يتناوبان فى السماء فتهتز تلك الأنحاء . وتخيلت ميغ انهيارا صخريا آخر ينهال على هذا الرجل كما حدث بالسيارة .



ولأول مرة ، وجدت نفسها تحدق فيه للمرة الأولى ، فى الضوء المنبعث من السيارة . كانت تدرك أنه طويل وقد سبق وأخذت فكرة عن مبلغ قوته أثناء اندفاعها السريع ذاك من سيارتها. ولكنها ترى الآن أنه كان شابا فتيا فى بداية الثلاثينات من عمره ، رغم أنها لم تكن خبيرة بمثل هذا التقدير .

ورأت شعرا كثيفا أسود منظما ، ووجها نحيلا ذا خطوط حول الفم والأنف والذقن توحى بالقوة والكبرياء . هذا إلى عينين قاتمتين عميقتين تحت جفنين ثقيلين .

هز كتفيه مرة أخرى وهو يقول : " أظن أن الأسوء فى ما يمكن أن يحدث قد مر وانتهى "

وارتسمت على شفتيه ابتسامة جانبية وهو يتابع : " هذا إلى أننى أحمل طلاسم سحرية "

ربما كان هذا صحيحا . وجلست لا تجرؤ على النظر خلفها ، متوقعة بين لحظة وأخرى ، أن تسمع صرخة ألم .ولكن ، لم يكن هناك سوى اندفاع الماء إلى النهر المتدفق المتعاظم شيئا فشيئا . وفى ناحية قريبة ، تعالت زقزقة طير تعلن انتهاء العاصفة .

وتخيلت أنه غاب أكثر مما ينبغى ، فأدارت رأسها لتراه واقفا عند مؤخرة سيارتها الرينو وقد تصلب جسده وكأنه استحال إلى صخرة هو الآخر. وفكرت فى أنه ربما كان صندوق السيارة من التهشم بحيث لم يستطع فتحه ، ولكنها كانت مخطئة ، إذ أنه توجه إلى سيارته الستروان ، وقد حمل حقيبتى سفر فى كلتا يديه . لتسمع بعد ذلك صوت ارتطامهما وهو يضعهما فى صندوق سيارته .

وعندما عاد إليها ، بدا مقطبا حاجبيه مستغرقا فى التفكير . وانتابها شعور بأنه ربما كان غاضبا من شئ ما يحاول إخفاءه .

ربما أدرك الآن أن شهامته هذه شكلت عليه عبئا مؤقتا بالنسبة إلى مسافر غير مرغوب فيه ، على الأقل .

وانتابها الأسف ، فهى لم تكن تلومه لامتعاضه الذى أصبح من واجبها ، الآن ، التسرية عنه .

قالت بحذر : " لقد كنت معى فى منتهى الشهامة ، وأنا أكره أن أثقل عليك أكثر من هذا . ولكننى فى حاجة إلى أن أصل إلى فندق الأوبرج دى سورس دى بيرون بامكانى الحصول على غرفة هناك ، وسوف أتدبر أمر السيارة "


كان يبدو مستغرقا فى التفكير ، ولكنه ، عندما سمع كلامها هذا ، أدار رأسه إليها ليقول بشئ من الدهشة : " هل سبق وحجزت غرفة فى الأوبرج ؟ "

فقالت : " حسنا ، فى الحقيقة كلا ، ولكن إنه المكان الذى كنت ذاهبة إليه قبل حدوث العاصفة تلك . فقد أرشدونى إليه "

قال : " إنه مكان محبوب عند السواح . وكان من الأفضل لو كنت حجزت غرفة مقدما " وازداد تقطيب جبينه وهو يستطرد : " أليس عندك خطة بديلة لهذه ؟ "

أجابت : " ليس ثمة ما هو مؤكد ." وسكتت . فلم يكن فى استطاعتها أن تطلب منه أن يأخذها كل ذلك الطريق إلى هاوت أرينياك . لقد كان هذا الذى حدث لها , نكسة قوية أفشلت مخططها , ولكنها كانت تشعر بالخوف من أن تصل إلى القصر مبكرة عن الموعد دقيقة واحدة . واستطردت وقد بدت على شفتيها شبح ابتسامة : " على أن أجازف لاحتمال أن أجد غرفة خالية ."

ألقى عليها نظرة أخرى طويلة , ثم قال بلطف : " ليس من الحكمة دوما , يا آنسة , أن تجازفى , خاصة حين تكونين بعيدة عن موطنك ."

كان فى صوته نبرة غريبة تتضمن نوعا من التحذير الذى يقرب من الوعيد , كما تراءى لها , جعل رعشة تشمل جسدها بأكمله , أم لعلها مجرد تصورات نتيجة للصدمة التى أصابتها ؟

لا بد أن الأمر كان كذلك , لأنه ابتسم لها فجأة , وكانت ابتسامة فاتنة خففت من صلابة فمه المتكبر ذاك .

لم يكن وسيما بكل معنى الكلمة , كما بدا لميغ , ولكنه كان ذا جاذبية مخيفة . كان نوعا من الرجال لم تحلم بمقابلته من قبل . انها تتمنى لو وصلت بسرعة إلى الفندق كى لاتراه بعد ذلك أبدا , ذلك لأنها , بالرغم من روح المغامرة التى تشعربها , شعرت أن هذا الرجل يمثل خطرا أكبر من أى خطر يمثله أى انهيار أرضى أو صخرى .

التوت ابتسامته قليلا, وكأنما شعربما يدور فى خلدها , مما أشعره بالسخرية , ليقول بعد ذلك وهو يدير المحرك : " هيا بنا نذهب ."

ولم تكن الرحلة سارة مع أن المطر قد توقف , وابتعدت العاصفة إلى حيث كانت تدمدم من بعيد , لتسمح للشمس الباهتة أن تتقدم , بظهورها , بالاعتذار لما حدث .

كان مرافقها هادئا قليل الكلام , ولكن ربما كان ذلك كما تصورت ميغ , لتركيزه على القيادة فى هذا الطريق الصعب الذى كان ممتلئا بالحطام , فقد كان يضطران إلى التوقف مرارا لكى يزيحا من الطريق ما يكون هناك من أحجار وأغصان أشجار تعترضهما .

قالت له أثناء عودته إلى السيارة , وهو يمسح يديه ببنطاله الجينز : " هل الطريق بهذا السوء على الدوام ؟ "

فأجابها وهويلقى إليها بنظرة جانبية , بينما كان يدير محرك السيارة :" لقد شاهدت طرقا أسوأ من هذه . لقد كان هذا ترحيبا بأولى زياراتك إلى فرنسا ."

قالت عابسة : " وكيف علمت بأنها أولى زياراتى لفرنسا ؟ أذلك من رداءة لغتى الفرنسية ؟"

أجاب وهو يهز كتفيه : " ليس لدي أية فكرة وانما خمنت ذلك . كما أن لغتك الفرنسية ممتازة . وهذا غريب ." ونطق الجملة الأخيرة بجفاء .


سألته : " لماذا تقول ذلك ؟ "

أجاب بعد صمت قصير : " لأن الكثير من رجال بلدك لا يهتمون بتعلم لغتنا . أنهم يظنون أنهم إذا هم رفعوا صوتهم قليلا , وأبطأوا بالكلام فسنفهم ما يقولون ."

أومأت ميغ برأسها أسفة , إذ سبق وسمعت نفس القول من المعلمة التى كانت تدرسهم اللغة الفرنسية فى المعهد الليلى . وهى سيدة فرنسية متزوجة من انكليزى .

وقالت : " أظن أن السبب فى ذلك يعود لشعورهم بأنهم سكان جزر , فهم لا يشعرون بأنفسهم جزءا من القارة الأوروبية . وقد تتغير نظرتهم هذه إذا ما تم إنشاء نفق القنال فى بحر المانش ."

أجاب : " ربما ."

تبع ذلك صمت آخر . كان يقود السيارة بمهارة فائقة , كما لاحظت ميغ , وكانت يداه الرشيقتان تديران عجلة القيادة دون أى مجهود .

كانت ملابسه بسيطة , وبنطاله الجينز ذات قصة جيدة , وكانت أكمام قميصه الأبيض مثنية تبرز عضلات ساعديه . والشئ الوحيد الذى كان يتزين به هو ساعة ذهبية .

لم تستطع ميغ , وهى تتأمله من تحت أهدابها , أن تخمن الفئة التى ينتمى اليها , مهنية كانت أم اجتماعية , ولكنها ما لبثت أن تذكرت قلة خبرتها فى ذلك وأنها , فى ما يختص بالرجال , كانت عديمة الخبرة تماما , ما عدا السيد أوتواي صاحب المكتبة , وتيم هانزبي الذى كان يجمع كتب التاريخ العسكري , والذى دعاها , ذات مرة , للذهاب معه إلى لندن فى زيارة إلى المتحف العسكري الأمبراطوري .

وقد استمتعت ميغ بزيارة ذلك المتحف أكثر مما توقعت . ولكن تيم , حيث أنه كان وحيد والدته الأرملة المتعلقة به , لم يكن ليصلح أكثر من مجرد صديق عادى . فقد كان ما يزال يعيش مع والدته . وقد شعرت ميغ , حينذاك , بالشفقة على الفتاة التى تقع في حبه , ذلك أن والدته كانت مصممة على أن تحتفظ بحياتها تلك معه كما هى دون تغيير . ومع ان مرافقها الآن لم يكن يبدو عليه أنه مرتبط بأية امرأة , الا أن ميغ اعتبرت أن المظاهر قد تكون خداعة , فقد يكون مرتبطا بامرأة سليطة اللسان وفوج من الأطفال , وسيخبرهم هذه الليلة , بعد العشاء , كيف انقذ سائحة انكليزية وحيدة من العاصفة , جاعلا مما حدث مجرد قصة مسلية .

وعندما تنفرد به زوجته , فى ما بعد , ستسأله , كيف تراها تبدو تلك الفتاة الانكليزية ؟ وسيبتسم وهو يقول : انها مجرد فتاة عادية , فأنا لم أكد ألحظها ..

عندما نظر إليها , أدركت ميغ ان آهة خفيفة كانت قد أفلتت منها , فأسرعت تقول : " هل مازالت الطريق أمامنا طويلة إلى الأوبرج ."

أجاب : " حوالى الكيلو متر الواحد . هل تجدين الرحلة مملة ؟ "

أسرعت تقول : "آه . كلا ,. ولكننى أخشى ان يكون لديك عمل تود القيام به . اننى اشعر بنفسى مزعجة ."

أجاب :" انت مخطئة , فأنا مسرور بتقديم هذه الخدمة لك . لأن هذا هو طريقي , فأنا سأمر بالاوبرج على كل حال , وهكذا , الفائدة تعود علينا نحن الاثنين . ان اسمى هو جيروم مونتكورت . هل يمكننى أن أعرف اسمك أنت أيضا ؟"

فتحت فاها لتقول ميغ لانغتري , ولكنها عادت فترددت , ولم تقل شيئا . فقد جاءت إلى هنا لتكون مارغوت . وساورها الشعور بالذنب اذ وجدت نفسها تكاد تنسى ذلك . ولكن , بما أن الخداع لابد أن يبدأ على كل حال , فماذا لا تبدأ به مع هذا الغريب ما دامت لن تراه مرة أخرى ؟ ولكنها , فى نفس الوقت , ادركها الرعب من أن تدلى بتلك الكذبة المحضة . وفكرت , وهى تطلق آهة , انها ليست من النوع الذى يجيد حبك المؤامرات .

واخيرا , قالت بابتسامة مصطنعة : " دعنا نقل مارغريت فقط ." وفكرت فى أن هذه نصف الحقيقة على كل حال , وقد لاتحتاج علاقتها معه إلى أكثر من هذا .

قال بلطف : " إنه إسم زهرة , وهو أيضا اسم ملكة فرنسية مشهورة . ربما قد سمعت باسم الملكة مارغوت واسمها الحقيقى مارغريت دي فالوا والتى تزوجت من هنرى أوف نافار ؟ وكانت من أجمل نساء عصرها . ويسمونها السيدة المغامرة ."

تحركت ميغ بقلق وهى تسمع الاسم , ثم سألته : " مامعنى هذا اللقب ؟"

هز كتفيه قائلا : " معناه أنها كانت تحب المغامرات العاطفية , خصوصا مع رجال غير زوجها . لقد اكتسبت سمعة سيئة جدا ."

قالت : " لا أظنها كانت سعيدة مع زوجها هنري اوف نافار إذن ؟ "

فضحك وهو يجيب : " آه , ولكنه هو أيضا لم يكن خاليا من العيوب . وربما كان هذا هو السبب فى أن فرنسا ما زالت تذكره باعجاب وتسميه الرجل الشجاع ."

قالت ميغ متسائلة : " وطبعا . كان الزواج فى تلك الأيام , يقوم على المصلحة فقط . ولهذا . أظن أن الأزواج كانت لهم عذرهم فى ذلك ما داموا قد ارتبطوا بغير حب ."

قال بسخرية : " وما رأيك بالنسبة للزوج إذا كان مرتبطا بهذا الذى نسميه حبا ؟ "

قالت بحزم : " إذن فلا عذر أبدا للأزواج فى الخروج على الرابطة الزوجية ."

قال : " إن كلامك هذا يدهشنى ."

أجفلت قليلا وسألته : " لماذا ؟ "

فتردد جيروم لحظة , ثم قال وهو يرفع كتفه : " لأن هذا قد أصبح رأيا قديما ضد المفهوم الحديث . أما مفهوم العصر فو , زواج سهل يتبعه طلاق سهل ."

هزت ميغ رأسها قائلة : " لا أصدق هذا , فالطلاق ليس سهلا أبدا . ذلك أن أحد الزوجين سيصيبه الضرر البالغ , وخصوصا إذا كان هناك أولاد ."

ألقى عليها نظرة سريعة وقال : " لم أتوقع أن التقى بفتاة مثالية . "

قالت برزانة : " إنك , إذن , لم تتوقع التعرف إلى أبدا . "

ابتسم مرة أخرى , فشعرت بجاذبيته تتغلغل فى نفسها برقة فائفة مع ابتسامته تلك . وقال : " ألا تظنين أن القدر , وليس العاصفة , هو ما جمع بيننا ؟"

أطلقت ميغ ضحكة قصيرة , شاعرة برجفة خفيفة فى صدرها , وهى تقول : " إننا فى انكلترا , يا سيدى , اعتدنا على توجيه اللوم إلى الأحوال الجوية فى كل شئ . "


ضحك هو أيضا , وقال : " وفى فرنسا , يا آنستى , زهرة المارغريت تميل دوما نحو الشمس . تذكرى هذا ." وسكت لحظة ثم عاد يقول :" هو ذاك فندق الأوبرج أصبح امامنا ."

وفجأة , شعرت بشئ من الخيبة تكتنفها . ماذا جرى لعقلها لتدع رجلا غريبا يؤثر عليها بهذا الشكل ؟ حقا أنه انقذها وأنها ستبقى مدينة له بهذا الجميل على الدوام , ولكنها لم تكن متأكدة من أنه أعجبها . فقد كان شخصا لا يمكن التنبؤ بسلوكه . ألا يكفيها ماهى فيه من مشكلات , حتى تضيف إليها هذا أيضا ؟

ربما كان من طبعه العبث ومغازلة أى فتاة يصادفها فى طريقه . وهى غير معتادة على هذا النوع من الرجال .

كان فندق الأوبرج دي سورس دي بيرون مبني مريحا متشعب البناء . وربما كان سابقا منزلا فى مزرعة وقد قام فى خلفية باحة محاطة بسور .

دخل جيروم فى ممر مسقوف إلى حيث الباحة تلك ثم توقف . واستقامت ميغ فى جلستها , ثم مدت اليه يدها باسمة وهى تقول : " حسنا , وداعا , مع شكري الجزيل ."
قال وقد بانت السخرية على شفتيه : " أراك متلهفة إلى التخلص منى ."

أسرعت تقول : " آه , كلا , ليس الأمر هكذا . ولكننى أخذت من وقتك الكثير . "

قال وهو يترك السيارة : " يجب أن تسمحى لى بتقدير ذلك بنفسى ." ودار حول السيارة يفتح لها الباب يساعدها على النزول , وهو يتابع : " اذهبى وأسأليهم إذا كان ثمة غرفة خالية , وسأحضر لك أمتعتك ."

ومن خلال باب زجاجى , دخلت إلى قاعة الاستقبال مسقوفة بالقرميد , لتستقبلها الموظفة المسؤولة بغاية الترحيب , قائلة إن ثمة غرفة فعلا , وسيكون من دواعى سرورها أن تريها للآنسة , ولكن ثمة أمر مزعج جدا وهو أن العاصفة قد تسببت فى قطع التيار الكهربائي , وإلى أن يصلح هذا الخلل , فان هنالك الشموع والقناديل . أما بالنسبة إلى غرفة الطعام ..
وأشارت الموظفة المسؤولة بيدها بيأس .

وقال جيروم مونتكورت من فوق كتف ميغ : " هذا لايهم . ان الآنسة ستتناول العشاء معي . "

وشعرت ميغ بوجنتيها تتوهجان وهى ترى المرأة ترفع حاجبيها وهى تظهر موافقة ماكرة على هذا الحل , بوجه عام , وعلى شخصية جيروم بوجه خاص . ثم تطلب راجية من السيد أن يتكرم بنقل أمتعة الآنسة إلى الغرفة حيث أن المكلف بذلك مشغول تماما بنقل القناديل , وهى لن تنسى هذا الجميل منه إلى الأبد .

ابتسم لها جيروم قائلا : " بكل سرور . ولكننى أحب أن أعرف أولا ما إذا كانت العاصفة لم تضر بالأسلاك الهاتفية , إذ يجب أن نبلغ عن الحادث ."

ولما أجابت بأن الهاتف غير معطل , رفع جيروم حاجبه مخاطبا ميغ : " اترضين بأن اتصل بالمسؤولين لابلاغهم عن الحادث وأنهى الاجراءات الرسمية بالنسبة للسيارة ؟ إن هذا سيسهل الأمور بالنسبة اليك مهما كانت لغتك الفرنسية جيدة و .. "


شكرته ميغ بخجل , ثم صعدت مع الموظفة عبر سلم خشبي عريض يقود إلى خلف المبنى حيث غرفتها .

كان السقف منخفضا والأرض غير مستوية ولكن الأثاث كان ملمعا بالدهان . والسرير الواسع مفروشا بملاءات ناصعة البياض .

وفى زاوية الغرفة ,يقوم باب يقود إلى حمام لا يكبر كثيرا عن خزانة الثياب . وكانت النافذة المربعة الصغيرة تبدو عميقة فى الجدار الحجرى السميك , وكانت مفتوحة لتسمح للشمس بالدخول . وكان الهواء ما يزال باردا مشبعا برائحة زهور الخزامي . وبينما أخذت ميغ تتنفس بعمق , أومأت الموظفة برأسها راضية وهى تتلفت حولها , ثم خرجت عائدة إلى عملها بعد ما أغلقت الباب خلفها .

وقفت ميغ أمام النافذة . لقد كان يوما حافلا وإن يكن لم ينته بعد .. إلا إذا شاءت هي , طبعا ذلك . ولكنها لم تكن متأكدة من مشاعرها بالنسبة لهذا الأمر .

وفكرت فى شئ من الارتباك , بأن أشياء كهذه لا تحدث , فى العادة , لها , وأن طبيعة شعورها قد تغيرت . إن من المفروض انها مارغوت فهل ترها أخذت حياتها كما أخذت اسمها ؟ وتساءلت , هل بمقدروها ان تسلبها ذلك ؟

وسمعت صوت الباب يفتح , وجيروم يدخل بأمتعتها . وابتدأ قلبها يخفق , وجف فمها.

قال وهو يرفع الحقيبتين ليضعهما فوق الحامل الخشبي المخصص لذلك :" سترسل الشركة إليك سيارة ثانية صباح الغد . انما سيكون عليك أن تضعى تقريرا بالحادث , وأنا سأكون شاهدا على الحادث , وبهذا تنتفى أية صعوبة ."

وبقيت مولية ظهرها اليه ثم قالت : " اننى .. اننى شاكرة جدا . "

فقال : " هل أنت شاكرة إلى درجة تقبلين معها دعوتى إلى العشاء هذه الليلة ؟ " كان واقفا خلفها مباشرة .

كانت تحدق فى المنظر الخارجي وكأنما كانت تريد ان تحفره فى ذاكرتها . كانت الأرض خلف سور حديقة الفندق الصغيرة . تعلو بصخورها مما يشكل منظرا بريا مثيرا , تنتشر فى أنحائه مجموعات من الأشجار . وكان ثمة جدول ينساب بين مجموعتين من الصخور لكي ينحدر , بعد ذلك , بشكل شلال صغير , وكانت على جانبيه تقوم نباتات داكنة الخضرة .

قال جيروم من فوق كتفيها : " انه نبع بيرون " أومأت برأسها وهى ترتجف . وعاد يقول بعد فترة صمت : " أنك بالطبع , غير مجبرة على أن تقبلى دعوتى للعشاء ."

وكانت هى تعرف ذلك . تعرف أيضا أن رفض هذه الدعوة بادب وابتهاج ظاهرين , انما هو أفضل واكثر امانا .

ولكن , بينما كانت تستدير لكى تجيبه , لمحت انعكاس صورته فى زجاج مصراع النافذة , كان وجهه قاتما حذرا وفمه مطبقا بحزم , شهقت وأدرات رأسها بحدة . ولكن , لابد أن ما بدا على وجهه كان من تأثير الأضواء , لأنه كان ينظر إليها ببساطة وابتسامة شبه ساخرة .
قال بلطف : " امنحينى هذا السرور , يا مارغريت . هل يمكننى أن أعود اليك حوالى الساعة الثامنة ؟ "

أجابت : " نعم , إننى أود ذلك ."

وعندما أصبحت وحدها فى الغرفة , أخذت تتساءل عما إذا كان ما قالته صحيحا حقا .

MooNy87 13-01-19 10:11 AM

الفصل الثالث

https://upload.rewity.com/uploads/154736267052051.gif


استمتعت ميغ بدوش طويل دافئ , لتمضى بعد ذلك وقتا لا بأس به فى اختيار ثوب تلبسه لهذا المساء , وفى النهاية , استقر رأيها على ثوب بسيط عسلى اللون ذو تنورة واسعة . ووضعت فى أذنيها قرطين ذهبيين , ثم نثرت على جسدها عطرها المفضل من روائح نينا ريتشي .


وقفت تتأمل مظهرها فى المرآة . مقطبة الجبين , ابتداء من شعرها المنسدل على كتفيها وعينيها العسليتين الواسعتين , إلى قدميها الرشيقتين فى النعل الخفيف ذى الأربطة , والبرونزى اللون , ثم هزت رأسها وهى تفكر فى أنها تبدو غريبة عن ذاتها .. وأنها أشبه ما تكون بالمرأة العجوز المذكورة فى أغانى الأطفال .

شعرت بالإحباط وهى تفكر فى أن جيروم مونتكورت لو كان قد جاء إلى المكتبة حيث كانت تعمل طوال ثمانية عشر شهرا الماضية , ربما ما كان ليوليها أى اهتمام , إنها ما زالت لا تعرف لماذا قبلت دعوته هذه إلى العشاء , فهذه لا تبدو لها خطوة حكيمة مطلقا . ذلك أنها لا تعلم عنه شيئا ما عدا اسمه الذى قد يكون مزيفا , على كل حال .

انتابها الضجر , أخيرا , من كل هذه الوساوس , ألا يمكن أن تكون مخاوفها , تلك من أن يكون مخادعا , ناشئة عن أنها هى نفسها تقوم بدور مخادع ؟ إنها لاتنكر حماسه الفائق فى تقديم المساعدة لها , ولكن ألا يمكن أن تكون هذه ناحية من شخصيته ؟ وتذكرت ذلك التعبير الجامد المخيف الذى سبق ولمحته على وجهه المنعكس فى زجاج النافذة , وقبل ذلك فى السيارة حين شعرت للحظة وكأن غضبه يمتد إليها كشئ حقيقى تماما .

ربما كان من أولئك الأشخاص الذين يتبدل مزاجهم بسرعة .. وربما , وهذا أكثر احتمالا , كان هذا كله مجرد تخيلات منها , وفكرت وهى تتحول عن المرآة , فى انها لم تعد تعرف شيئا , ولكن هذه الدعوة قد حصلت بحضور الموظفة المسؤولة , وهذا يجعلها فوق مستوى أية شبهة , وبعد , أنها على الأقل , لن تتعشى وحدها فى أول ليلة لها هنا فى اللانغيدوك . وتملكها , لذلك شعور بالبهجة .

حملت حقيبتها اليدوية وكتابا عن الكاثار كان السيد اوتواي قد قدمه إليها عندما ودعته , ثم نزلت إلى الطابق الأسفل لتنتظره . وفى قاعة الاستقبال , كانت الموظفة مستغرقة فى جدل حام فى الهاتف مع واحد سيئ الحظ من ممثلى شركة الكهرباء . ولكنها ابتسمت لميغ مشيرة إليها بأن تذهب إلى باحة الفندق .

كانت الشمس قد عادت , بكل قوتها وتألقها , لتغرق الكائنات بفيض أشعتها الذهبية . وجلست ميغ إلى أحدى تلك الطاولات الحديدية المزخرفة المنتشرة فى الباحة ترشف كوبا من العصير وتقرأ فى الكتاب .

لم يكن من السهل , فى هذه الأمسية الرائعة , أن تركز ذهنها فى ما تقرأه , كما انه مما يدعو للاكتئاب أيضا , أن الكاثار كانوا يعتقدون أن الجنس البشرى وكل شئ أخر هو مكون فى جوهره , من الإثم . ولكى يتجبنوا اللعنة اتبعوا نظاما صارما من الصلاة والصوم والامتناع عن الكحول بما فى ذلك الامتناع عن أكل اللحوم . كما كان يدعون أيضا إلى العزوبية دون الزواج .

وفكرت ميغ فى أنه لابد أن الغالبية من أتباع هذا الدين لا يتبعون أوامر دينهم تماما , وإلا لانقطع نسلهم منذ أجيال , ومن وجهة نظر العصر , يبدو دينهم غريبا أكثر منه خطرا , وبعد فإن الجيوش قد أرسلت لتمحوهم عن وجه الأرض , تماما كما تضرب الذباب بمطرقة ثقيلة .

أدركت أن جيروم قد وصل حتى قبل أن يسقط ظله على صفحة الكتاب التى كانت تقرأها . فقد انتبهت إلى حركة حول الطاولات المجاورة , ورفع النساء لحواجبهن وتمتماتهن وهن يدرن رؤوسهن لكي ينظرن إليه أثناء عبوره الباحة .

قال لها بالفرنسية :" مساء الخير " وكان يرتدي بنطالا عاجى اللون وقميصا كستنائيا مفتوحا عند العنق . وكانت غرته السوداء الكثيفة العاصية فوق جبينه قد نظمت نوعا ما .

وعندما ردت عليه التحية , خطر لها ان غرته المتمردة تلك قد تكون هي مفتاح اللغز فى شخصيته . وأن تحت هذه الملابس الغالية , والسلوك المتمدن , تكمن نزعة إلى العنف تنتظر لحظة الانفجار . وتساءلت عما إذا كان فنانا , فلابد أنه ناجح جدا . إذ أن ساعته وسيارته , وكل شئ يتعلق به يدل على الثراء .

ولم يبد عليه أنه لاحظ شيئا من الاهتمام الذى أثاره قدومه , وهو يجذب كرسيا ليجلس عليه , مشيرا إلى النادل لكى يحضر له الشراب واعجبها منه عدم انتباهه إلى مقدار جاذبيته , فقد اعترفت ميغ . بينها وبين نفسها , أنها لأول مرة فى حياتها , تواجه رجلا تطغى الجاذبية المتدفقة منه على أية وسامة أو جمال مظهر . ولم تعرف كيف تتعامل مع ذلك .

قال : "إنك تبدين فى منتهى الجد , أرجو أن لا تكون ثمة صدمة ما زالت فى نفسك مما سبق وحدث . "

فهزت رأسها نفيا وهى تقول باشمئزاز : " كلا , وإنما أفكر فى ظلم الإنسان للإنسان ."
فألقى نظرة على الكتاب الذى فى يدها وهو يقول : " انها أفكار حزينة بالنسبة لأمسية مثل هذه . " ورفع حاجبيه وهو يقرأ عنوان الكتاب : " بلاد الكاثار . هل تهتمين بقراءة مثل هذه المواضيع ؟ "

فقالت وهى ترفع ذقنها متحدية : " ولم لا ؟ " وتساءلت باستياء , أتراه يظنها غبية لمجرد تركها لقضية سيارتها تحت سلطته ؟

وأخذ يتأملها فترة طويلة وعلى وجهه تعبير غامض . ومالبث أن هز كتفيه قائلا : " حسب قولك . لم لا ؟ إنك مخلوقة مليئة بالمفاجآت , يا مارغريت ."

فقالت : " ليس أنا فقط . إن كلانا منا لا يعرف شيئا عن الآخر ."

قال برقة : " هذه الليلة , إذن , ستكون رحلة استكشافية ."

ربما كان يسيطر على السيد مونتكورت فكرة تأثيره على النساء , فأصبح مطمئنا إلى قدرته على إغرائها بسهولة ؟ وربما يعتبر ذلك ثمنا لمساعدته تلك لها . حسنا , ليس عليه ان يتوقع شيئا .. كانت عابسة وهى تفكر فى ذلك بصمت .

وفكرت ميغ فى أن مارغوت كانت , بلا شك , ستستمتع بهذه اللعبة جدا لو كانت مكانها , فتتقدم وتتأخر , وتقدم وعودا كاذبة وفى النهاية , إما أن تبتعد نهائيا وإما أن تبقى .. حسبما تشاء .

وربما لايتنج أى ضرر فى ما لو زاولت هى هذه اللعبة لهذه الليلة فقط , أوربما تتعلم بعض قواعدها . وفكرت فى أنه ربما هذه هى فرصتها لكى تتعلم كيف تعيش ضمن الخطر !

وفرغ جيروم مونتكورت من احتساء شرابه ., ثم نظر إلى كأسها الفارغ وسألها : " هل نذهب , أرجو أن تكون مغامراتك هذه النهار قد منحتك شيئا من الشهية ."

أشرق وجهها بالابتسام وقالت وهى تدفع كرسيها إلى الخلف ثم تقف منتصبة :" إنها أولى تجاربي مع الطعام الفرنسي , ولا يمكننى الانتظار أكثر من ذلك ."

كانت الشمس قد مالت إلى المغيب , بلونها القرمزى الأخاذ , عندما قاد السيارة خارجين من الوادي .

ومالت ميغ برأسها نحو الشمس وهى تهتف : " ما أروع هذا ., سيكون نهار غد رائعا . "

ابتسم وقال يغيظها :" هل ستحدث عواصف أخرى ؟"

هزت كتفيها قائلة : " أرجو أن لا يحدث ذلك ."

قال : " لقد كان حظك سيئا . ذلك أن العواصف ,. عادة تحدث فى الليالى , وأحيانا أثناء قيادتك للسيارة , ترين البرق بتلاعب حول التلال مشبها أضواء مسرح صامت . وفجأة تقتلع شجرة من جذورها ليجن بعد ذلك الكون كما سبق ورأيت بنفسك ."

قالت بأسى : " لقد رأيت . أليس عندك شئ أفضل من ذلك يمكن للسائح أن يراه ؟"

أجاب : " ربما سيناسبك الفجر أكثر , حيث ذلك الخط من الضوء النقى فى السماء الذى يفرق النجوم , قبل أن ترتفع الشمس فوق الأفق . "

فألقت عليه نظرة جانبية وهى تقول : " إنك تتكلم كشاعر . هل أنت كذلك ؟ "

فضحك قائلا : " كلا مع الأسف , إن عملى بعيد عن الشاعرية , مع ان والدى كان يهتم كثيرا بأشعار هذه المنطقة .. أغانى التروبادور وما يليها ."

سألته : " هل كان يكتبها بنفسه ؟ "

فهز رأسه نفيا وهى يقول : " كان أبى يعيش فى أرض تعود إلى عائلته , يغرس كرومه بنفسه . كان يعشق الحياة البسيطة ."

قالت : " هذه الحياة تتراءي لى جميلة حقا "

قال : " أظنها كانت قاسية , فى إحدى الفترات , ذلك أن الحياة البسيطة تصبح معقدة أحيانا , وفى النهاية , عاد أبى إلى باريس ."

سألته : " وهل تعيش أنت أيضا تلك الحياة البسيطة ؟"

أجاب باسما : " حسب استطاعتى , ولكننى مهندس فى أغلب الأحيان . وقد اعتدت العمل فى باريس , ولكن أعمالنا تمتد وتتشعب فى أنحاء البلاد , وأنا حاليا مستقر فى تولوز ."

قالت : " أى أنك عدت إلى جذورك ؟"

أجاب : " تماما . وأنا أعمل بصورة رئيسية , مستشارا فى حفظ وترميم المبانى القديمة . أى البيوت التى كانت قد أهملت فى غمرة الانجراف الكاسح من الأرياف إلى المدن . والتى عادت الآن مطلوبة ."

قالت مفكرة : " أظن أن إصلاح نسج التاريخ هذا فيه من الشاعرية والخيال بقدر ما فى الشعر نفسه "

فازدادت ابتسامته اتساعا وهو يقول : "إننى فى الواقع . أتفق معك فى هذا , ولكننى لا أقول ذلك لعملائى وإلا فهم يتوقعون منى أن أعمل لأجل الحب وليس لأجل النقود ."

سألته : " هل تعمل حاليا , فى مشروع ما .؟ "

أجاب : " تقريبا , وأنا الأن فى إجازة رسمية " ولما لم يبد عليه رغبة فى التحدث فى هذا الموضوع . سكتت .

وسألته بعد برهة : " هل تفتقد الحياة فى باريس ؟ "

هزرأسه نفيا وهويقول : " إننى لا أفتقد أية مدينة . لقد اختارت أسرتي الحياة هناك ما عداي ."

فعادت تسأله : " هل أسرتك أصلا , من المنطقة من البلاد ؟"

أجاب : " نعم . إن جذورنا دوما كانت هنا , وفى الواقع , كان جدي هو أول من انتقل من هنا كليا ."

سألته : " ألم تخطرله العودة قط ؟"

هز كتفيه قائلا : "لقد كانت جدتى باريسية لا تحب الحياة فى الريف ."

قالت : " ولكنك أنت عدت "

اجاب :" نعم , عدت إلى حيث أنتمى ويسعد قلبى ."

فكرت ميغ بشئ من الكآبة فى أنه لم يحدث قط أن كانت هى متأكدة ,. يوما مما تريد , كما يبدو عليه هو . فهى ما زالت تعيش فى آخر منزل لأبيها ولكنه قد تحول كليا حسب ذوقة زوجة أبيها ايريس مما جعل ميغ تشعر , فى أغلب الأحيان وكأنها غريبة , وهى قد أصبحت الآن دون عمل تعول به نفسها , وهكذا شعرت بنفسها هائمة فى العالم ,. وربما حان الوقت لكي تجد لنفسها مستقرا تمد فيه جذورها .

وابتدأت الان تتساءل عن المكان الذى كانا ذاهبين إليه . فقد كانت تظن أنه سيأخذها إلى مطعم محلى لاتكون فيه الكهرباء مقطوعة . ولكن سيارته الستروان كانت تسير فى سرعة فائقة , وتمنت لو كانت لاحظت إشارات السير , لترى على الخارطة التى تحملها معها فى حقيبتها , وجهة سيرهما هذه .

وكأنما لاحظ شرودها . فسألها : " أتحبين أن تسمعى شيئا من الموسيقى ؟ "

أجابته بسرعة : " كلا . إننى أفضل متابعة المناظر والحديث , ولكن إذا رأيتنى أكثر عليك بالأسئلة . نبهنى إلى ذلك ."

فرمقها بنظرة سريعة , ثم عاد ينظر إلى الطريق وهويقول : " لا أظنك توجهين إلى اسئلة لا أحب الإجابة عنها . هل الأمر كذلك بالنسبة إلى يا مارغريت ؟ "

أجابت : " طبعا . فليس لدي ما أخفيه ."

قال هازلا : " امرأة دون أسرار ؟ ذلك شئ غير معقول . "

فضحكت وهى تقول : " كلا , إن حياتى غير معقدة , بل ومملة أيضا . " وفكرت فى أن حياتها كانت كذلك فى الحقيقة .


قال : " ومع ذلك , أراك تسافرين بمفردك , وتهتمين بهذه المنطقة أكثر مما يفعل السياح عادة , وهذا لايدل على انعدام فى النشاط . أظنك تخفين شيئا فى أعماقك , يا مارغريت ."

كان فى صوته نبرة جعلت قلبها يقفز من موضعه وأجابت بشئ من الإنفعال : " إن ذلك يقال عن كل شخص يولي إجازته اهتماما غير عادي ."

سألها بعد صمت قصير : " أخبريني . لماذا تلكأت بالجواب حين سألتك أن تتعشى معى ؟ هل هنالك صديق فى انكلترا , قد يعقد الأمور ؟ "

وفكرت ميغ ساخرة فى تيم هانزبي , ثم قالت :" لا يوجد أحد ."

فقال بلهجة يبدو فيها الشك : "لا أصدق أنه لا يوجد ثمة شخص تهتمين به ."

هزت كتفيها وقد منعها الكبرياء من الاعتراف بأنها حتى الآن , ما زالت تحتل مكانا غير ملحوظ على الرف . وان هنالك شخصين فقط يهمانها حقا , هما صاحب المكتبة الذى تقاعد الآن , وامرأة مسنة كانت لها بمثابة الأم ومنحتها من الحنان والعزاء ما عجز أبوها إزاء حيرته وألمه لفقد زوجته الشابة , عن تقديمه إليها , وأنها هنا الآن , بسبب هذين الشخصين .

وازدرت ريقها . ليس لديها الكثير لتتحدث عنه , فى سنيها العشرين هذه , ثم ان هذا ليس الوقت المناسب للشعور بالحزن لأجل نفسها , ولكن . ما شأنه هو بذلك فى ما لو لم تشأ هى أن تكون صريحة ؟ ثم لماذا هي تسعى لأن تبدو مثيرة للاهتمام فى الوقت الذى عندها فيه ما تخفيه ؟

قالت متحدية : " وهل هذا يغير من الأمر شيئا ؟ إن دعوة إلى العشاء لا تستلزم موعظة فى الوفاء . " والتقطت أنفاسها وهى تتابع : " ثم انك أيضا قد تكون متزوجا."

فرد عليها قائلا : " وهل لكونى متزوجا أية أهمية ؟ "

شعرت بانه يراوغ فى كلامه , مما جعل قلبها ينتفض هلعا بشكل غير معقول .

أجابته : " اظن الأمر مهما جدا بالنسبة إلى زوجتك ."

قال : " من حسن الحظ إذن , ان لا زوجة لي بعد . " كانت لهجته , وهويقول ذلك , مزيجا من السخرية وشيئا غامضا لم تدرك كنهه .

فغمغمت تقول : " هذا من حسن حظها هي , على كل حال ."
وشعرت , وهى تقول ذلك , بالاشمئزاز من نفسها لهذا الشعور بالارتياح الذى اكتنفها والذى جعلها سيئة الخلق لتقول شيئا كهذا .

فقال بلهجة تحوى شيئا من اللوم : " ليس هذا من اللطف فى شئ , ألا تظنين أننى ساكون زوجا جيدا ؟ "

فأجابت باقتضاب : "لايمكننى إعطاء رأى صحيح فى هذه المدة القصيرة من تعارفنا . " كانت تعلم أنه يضحك منها رغم الجد الذى يبدو على ملامحه والذى يقرب من العبوس .

فقال : " ولكن لا شك أن عندك مثلا أعلى فى خيالك , ماهى الصفات التى تريدينها فيه ؟ هل تتطلبين فيه الأمانة الزوجية ؟"

أجابت ميغ وهى تعبث بشريط حقيبة يدها : " أريده أن يحبنى , ويحبنى أنا فقط , كما أحبه , وأظن هذا يسهل أمورا كثيرة . "

سادت فترة صمت قال بعدها : " هذا يكتسح كل شئ بالتأكيد . ولكن إذا حدث , بالرغم من هذا الحب , وتدخلت امرأة أخرى تريد أن تسلبك مثلك الأعلى هذا , ما الذى ستفعلينه , عند ذاك ؟ هل تضحين بنفسك ؟ هل تطلقين سبيله ليذهب إليها ؟ "

فأجابت بعنف : " كلا . سأكافح للاحتفاظ به بكل ما أملك . "

فقال بصوت منخفض : " هل ستكونين عديمة الرحمة ؟ هل ستستعملين السلاح ؟ "

فأجابت مترددة : " طبعا , ولكن لماذا توجه إلى كل هذه الأسئلة ؟"

فقال بلطف : " لأننى أريد أن أعرف يا صغيرتي , فهذه المعرفة هى جزء من رحلة الاكتشاف التى تحدثت عنها , وقد وجدت أنك ستدافعين عن حبك كالنمرة ."

ومرة أخرى , ظهرت تلك النبرة الغامضة فى صوته . ووجدت ميغ نفسها ترتجف . فلاحظ هو ذلك وسألها : " هل تشعرين بالبرد ؟"

فقالت وهى تتصنع ابتسامة :" أوه , كلا . ربما أنا جائعة ."
وذهب بها التفكير , وهى تقول هذا إلى الغداء الذى سبق واشترته للنزهة تلك , وسحق مع السيارة .

فقال : " لقد صبرت وقتا كافيا وآن لك أن تأكلى ."

واستدار بالسيارة فجأة خارجا من الطريق العام ليدخل فى طريق يقود إلى أسفل التل . واستندت ميغ بيديها عندما تأرجحت السيارة ثم قفزت فوق الأحجار والأخاديد العميقة.

وشهقت قائلة : " هل يوجد ثمة مطعم فى هذا المكان ؟ أرجو أن يكن هناك طريق آخر نخرج منه ؟"

فأجاب : " انه ليس مطعما . " كان أمامهما مجموعة من مبان سابحة فى الشفق الوردى للشمس الغاربة . وكان ثمة دخان ينبعث من مدخنى من إحدى تلك المبانى , ليعلو متلويا بكسل فى الهواء الساكن .

قالت : " أين نحن إذن ؟ " لقد بدا وكأنهما فى متاهة . وشعرت بالعزلة تكتنفهما إذ لم تر أية سيارات هناك . لا شك ان هذا المكان غير مأهول .

قال وقد عادت السخرية إلى صوته : " هذا هو منزلى . منزل العائلة الذى حدثتك عنه . "

سكت برهة ثم عاد يقول : " لقد صممت يا جميلتى , على تناول الطعام فى منزلى هذه الليلة , مستمتعين باستكشافنا المتبادل وحدنا , وآمل أن يوافقك هذا . "

MooNy87 13-01-19 10:14 AM

الفصل الرابع

https://upload.rewity.com/uploads/154736267052051.gif

ساد صمت مزعج فى السيارة , وتصلب جسد ميغ وجف فمها .


تساءلت غير مصدقة . عما جعلها تتصرف بكل تلك الحماقة . وعذبها هذا الخاطر . لماذا لم تستمع إلى ما داخلها من ريبة ؟ ولماذا وثقت به إلى هذا الحد ؟ هل لأنه أول رجل جذاب يهتم بها ؟ ولامت نفسها بشدة , ولكن ما فائدة ذلك وقد أصبحت هنا الآن فى شرك مخيف ؟

لقد قال لها أن هذا هو بيته الذى يبعد أميالا من أى مكان آخر .. بينما هى لاتعرف حتى هذا المكان الآخر أين يكون .

لقد قالت العنكبوت للذبابة ( هل لك أن تتفضلى إلى غرفة جلوسى ؟ ) ولقد فعلت هى ذلك بالضبط فتحقق الكابوس .
وتقبضت يديها فى حجرها .

قالت بصوت حاولت أن تحتفظ به هادئا متزنا : " يبدو أننى فقدت شهيتى . هل لك أن تعيدنى إلى الفندق من فضلك ؟ "

وساد صمت قصير هز جيروم مونتكورت بعده كتفيه وقد لمعت عيناه القاتمتان بالدعابة وكأنه قد علم بالضبط ما يخفى هدوءها هذا من أفكار ومخاوف .

وقال برصانة : " طبعا إذا كان هذا ما تفضلين . ولكن بيرث ستشعر بالمهانة وخيبة الأمل إذا أنت لم تتذوقى طعامها . "

فقالت تسأله : " بيرث ؟ من هى هذه ؟ "

فأجاب : " إنها مدبرة المنزل , وهى تعيش هنا مع زوجها أوكتافيان وكانا يعتنيان بالمنزل والكروم منذ رحيل أبى . أما الآن . فهما يعتنيان بى ." وأشار إلى المنزل قائلا : "أنظري ."

كان ثمة رجل قد خرج من الباب الأمامى ووقف يراقبهما بفضول وقد وضع يديه على خاصرتيه . كان معتدل الطول ممتلىء الجسم . وكان وجهه أسمر مغضن كقشرة جوزة , وقد وضع على شعره الأشيب قلنسوة . وكان له ساقان مقوستان وشاربان متهدلان . وشعرت ميغ فى الحال , بالإطمئنان يعود إليها بعد ما رأت أنه لايشبه بحال , أولئك الأشرار الذين يشتركون فى أعمال الخطف والاعتداء .

قال جيروم بدقة : " هل ستجازفين بتناول الطعام على مائدتى الآن . أم أنك تفضلين أن نأكل هنا فى السيارة ؟ "

اعترفت بينها وبين نفسها , بسخافة هذا الوضع , بينما كانت تنزل من السيارة لتسير بجانبه نحو المنزل وهى تقول بكبرياء : " كله سواء , إنما كان يجب عليك أن تخبرني مسبقا أننا قادمان إلى هنا . "

فأجاب : " ربما كانت تعوزنى الجرأة خوفا من أن ترفضي . " وازداد صوته رقة وهو يستطرد قائلا :" إننى فى غاية الشوق إلى رؤيتك هذه الليلة ."

وبدا لها هذا الجواب معقولا , وحدثتها نفسها أنه معقول إلى درجة ربما كان اتخذه عادة فى تجارب سابقة , وابتدأ قلبها يخفق بعنف , ولكنها تذكرت أنه من المؤكد أنها ليست أول مرة تشعربنضبها يتسارع , وبحرارتها ترتفع لدي رؤيتها الابتسامة فى عينيه .

لقد كانت فعلا , حمقاء إذ ظنت أنه بحاجة للجوء إلى العنف أو استعمال أى شكل من الاكراه . ذلك أن تصرفاته أكثر حذقا ولباقة من كل هذا وإن كانت خطورتها واحدة . فهو مازال العنكبوت ومازالت هى الذبابة , وعليها ألا تنسى ذلك .

ولكن نسيجه العنكبوتى هذا كان ممتعا .

كان المنزل مؤلفا من طابقين , والسطح مغطى بالقرميد الأحمر . وكانت الجدران من الحجارة المصبوغة باللون الأصفر الفاتح . بينما النوافذ زيتية اللون . وكانت ثمة شبكة فوق الممر المؤدي إلى الباب قد عرشت فوقها الورود.

دخلا من الباب مباشرة إلى الغرفة الرئيسية فى المنزل , وكان السقف منخفضا ذات دعائم قاتمة , والأرض مرصوفة . وفى أحد الجوانب , كان ثمة مدفأة كبيرة خالية , وعلى جانبى الغرفة قامت أريكتان متقابلتان من الجلد . ومقابل المدخل كان ثمة باب زجاجى يقود إلى باحة تتألق باحواض الزهور , بينما فى الزاوية قام سلم حلزونى يقود إلى الطابق الأعلى .

أما فى الطرف الآخر من الغرفة , فقد وضعت مائدة رائعة معدة لشخصين , وحولها ستة مقاعد عالية الظهر منجدة بالجلد . عدا عن خزانة كتب مملوءة , ومكتب مكدسة عليه الأوراق , لم يكن فى القاعة أثاث أخر , وكان الانطباع العام . كما بدا لميغ وهى تنظر حولها , يوحى بجو من الرجولة الأخاذة إلى لمسات قليلة رقيقة .

وقالت تسأله وهى ترى مواد بناء وألواحا خشبية مكدسة فى زاوية من الباحة : " هل هذا هو المشروع الذى تحدثت عنه ؟ "

فأوما برأسه مجيبا : " إنه واحد منها . لقد فكرت فى تمديد جانب الباحة خلف المنزل , مستغلا لذلك أحد مخازن الغلال محولا إياه إلى مكان أعمل فيه , وأيضا إلى غرف للضيوف . ولكننى غيرت رأيى الآن , إذ أن اقتطاعى المساحة تلك التى أن بحاجة إليها ستفسد منظر البناء ."

قالت بلهجة حاولت أن تجعلها عفوية : " هل تستقبل ضيوفا بكثرة ؟ "

أجاب : " ليس حاليا , لأننى كنت مشغولا جدا . " وسكت لحظة . ثم تابع يقول : " كان أول ما قمت به بعد عودتى إلى هنا , هو تغيير طراز الطابق الأعلى , لقد أردت أن أبدأ من المطبخ .. " وأشار إلى قنطرة حيث لمحت ميغ منضدة وموقدا قديم الطراز , وتابع : " ولكن بيرث لم تسمح بذلك ."

وعبقت فى أنف ميغ رائحة شهية لطعام بالثوم تنبعث من المطبخ . وقالت : " أظن أن أكثر الطباخين يفضلون المواقد المألوفة ."

كان أوكتافيان قد سبقهما فى الدخول إلى المنزل . ليظهر الآن فى باب المطبخ عابسا بوقار , بنيما زوجته خلفه تحدق من فوق كتفيه . وكانت بيرث أطول من زوجها , وكانت ترتدى ثوبا قطنيا منقوشا بالزهور . أما شعرها الذى خطه الشيب فقد كان معقودا فوق رأسها . وكانت تنظر إلى ميغ وقد بان الشك فى عينيها .

سمعت ميغ أوكتافيان يتمتم بشئ مثل ( امرأة انكليزية أخرى ) ولكن , ربما كانت مخطئة فى فهم لهجته الخشنة تلك . وعلى كل حال , لم يكن من شأنها الاهتمام بجنسيات النساء اللواتي يحضرهن جيروم إلى منزله , لم تكن تشك فى إحضاره نساء إلى هنا مهما كان مقدار ازدحام وقته بالعمل .وربما كان , بالعكس من مستخدميه , يميل إلى الأجنبيات

قال لها جيروم : " سيكون الطعام جاهزا بعد لحظات , أتريدين أن تشاهدي باقى غرف البيت ؟ "

أجابت وهى تبتسم فى ذينك الوجهين الجافين عند باب المطبخ : " نعم , سيكون هذا رائعا . " وأضافت بالفرنسية : "إن رائحة الطعام شهية جدا . "

ولكن الملامح الجامدة لم تتغير . واستدارا , هما الاثنين داخلين إلى مكان عملهما . ولم يكن ينبئ عن وجودهما , أثناء صعود ميغ السلم خلف جيروم , سوى قرقعة الأواني . وكانت بسطة الدرج ضيقة محاطة بخزانات خشبية رائعة الجمال مبنية فى الجدار .

قال جيروم : " كانت هذه , من قبل , غرفا صغيرة مفتوحة الواحدة على الأخرى , وهى الآن مخزن وبجانبه حمام جديد ." وفتح بابا فى الجهة الأخرى من بسطة الدرج وهو يتابع :" أما البقية فهى خاصتى ."

انتبهت ميغ وهى تدخل الغرفة التى تحتل ثلثى الطابق الأعلى تقريبا . إلى أن ليس ثمة إضافات غير ضرورية هنا أيضا . وكان يبدو أن الجدار الخلفى بأكلمه , من الزجاج بحيث يظهر منظر الوادى المشجر والمنحدرات الشاهقة خلفه .

وفى الطرف الأقصى من الغرفة , كانت هناك الكوات فى السقف تضاعف من الإضاءة , وكان هناك ثمة منضدة يعمل عليها جيروم قد غطى سطحها الفسيح بالتخطيطات والرسوم . وعدا عن خزانة مكتبية مستطيلة تحوى أدراجا عديدة , كان السرير ذو الاتساع غير العادي هو القطعة الوحيدة من الأثاث مصنوعة من الخشب المحفور المزخرف عند الرأس ومغطى بغطاء مزخرف من اللونين الأسود والذهبى .

وتراءى لميغ أن ثمة شيئا من البربرية فى هذه الغرفة يتعمد جعل السرير هذا هو النقطة المركزية فيها , مما يوحى بنوع من التصريح الشخصى برسالة فضلت هى أن تتجاهلها .

وبدلا من ذلك , نقلت ناظريها إلى ذلك المنظر الخارجى ذى الجمال الصاعق وأخذت تتأمله قائلة : " يا للروعة ! إننى أدرك الأن السبب فى أنك جعلت الجدار كله نافذة واحدة ."

وتقدم جيروم يقف بجانبها وهو يشير إلى الصخور الشاهقة التى تكاد تلامس السماء , قائلا : " هنالك فائدة أخرى لذلك , فهى فى اتجاه الشرق تقريبا . ولهذا بإمكانى أن استمتع بمنظر الفجر وأنا فى سريرى ." وسكت قليلا ثم تابع : " وإذا كان معى من أحب , فهذا منبع جيد للإلهام ."

وغضبت ميغ من نفسها وهى تشعر بالصورة التى أثارتها كلماته هذه فى نفسها تبعث التوهج إلى وجهها .

رفع جيروم يده ليلامس وجنتها برقة وهو يتمتم بالفرنسية شيئا .

فقالت ميغ متلعثمة : " إننى .. إننى لا أفهم ما تقول ."
وكانت أنفاسها تتلاحق ويده تلامس شحمة أذنها بخفة منحدرة إلى عنقها , لتتحول إلى رقبتها تحت شعرها الكث . وشعرت بأن عليها أن توقف كل هذه الحركات حالا . ولكن شيئا ما سمرها فى مكانها دون حراك .

قال : " إنه بيت من شعر التروبادور الغنائى , يا جميلتى , وهى أغنية تدعى أغنية الفجر , وفيها يرثي الشاعر ليلته مع حبيته التى مرت سريعا " ومال نحوها وهو يهمس بكلمات الأغنية تلك مترجمة ( آه , يا ربي , آه , ياربي , لقد أقبل الفجر سريعا ).


واشتد توهج وجه ميغ . وحاولت أن تتحرك , أن تبتعد .. ولكنها وجدت نفسها , دون أن تشعر , بين ذراعيه .

وانحدر بنظراته يحدق في أعماق عينيها فبادلته النظرات بعينين رائعتين , وهى تفكر فى أن عليها أن تقاوم الآن , فى هذه اللحظة , مهما كانت درجة تأثيره عليها .

وعند ذلك , سمع صوت بيرث من أسفل السلم ينادي :" العشاء جاهز يا سيد جيروم ." وبهذا توارى التجاذب الذى لفهما .

وبدت على شفتى جيروم ابتسامة ملتوية وهويقول :" ثمة شهية واحدة فى نفس الوقت ." وتناول يدها يطبع على راحتها قبلة سريعة بعثت الرجفة فى جسدها , شاعرة بالخجل فى الوقت نفسه .

كانت ترتجف فى أعماقها , شاعرة بما يشبه الدوار وكانت ساقاها ضعيفتين وهى تنزل السلم الملتوى وعندما تعثرت قدماها مد يده يسندها قائلا وفى صوته رنة ضاحكة : " حاذرى ." فقد كان يعلم تماما ما الذى أحدثه فى نفسها من اضطراب . لقد كان رجلا فاتنا ذا خبرة هائلة بينما كانت هى عديمة الخبرة كليا .

حدثتها نفسها بأنه لابد شعر بعدم خبرتها هذه , فظنها قطعة من الكعك سرعان ما يلتهمها .. وأسندت قبضتها على حاجز السلم , عليها أن تتوقف عن الاستسلام إلى مشاعرها نحوه . فهى لن تتحمل المزيد من الانحدار وازدردت ريقها . وشعرت أنها بحاجة حقا إلى الطعام إذ أنها لم تتناول شيئا منذ وقت طويل جدا .. منذ وجبة الفطور.

إن تناول وجبة طعام حسنة , ستجدد قواها وتمنحها القدرة على التفكير فى كيفية التعامل مع هذا الوضع المزرى .

وعلى المائدة . كانت بيرث تضع وعاء الحساء يتصاعد منه البخار , وبجانبه طبق الخبز . وأشارت إلى ميغ وجيروم للجلوس إلى المائدة , ثم ابتدأت تغرف من الحساء الدسم لتضعه فى طبقيهما , مع الاكثار منه فى طبق ميغ .

حدثت ميغ نفسها , متهكمة , بأن عطف هذه المرأة لم يظهر إلا فى سكب الطعام . لتشهد , بعد أول ملعقة من هذا الحساء وضعتها فى فمها ,. بأن هذا الطعام لا عيب فيه , لقد كان الحساء لذيذا حقا وذا نكهة غير عادية لم تستطع ميغ معرفة كنهها .

وعندما سألت جيروم عن ذلك , أجاب : " إنه حساء الثوم . هل أعجبك ؟ "

أجابت بصدق : " إنه رائع . أخبر بيرث بهذا من فضلك , لأننى لا أظنها تفهم كلامى إن أنا تحدثت إليها ."

فقال بشئ من الاشمئزاز : " بل هى تفهم حديثك , إن بيرث وأوكتافيان قد أمضيا سنين طويلة فى خدمة أسرتنا مما منحهما وضعا ذا امتياز خاص فيهما . وأحيانا , هى وزوجها يستغلان هذا , فاعذريهما . "

وخطر فى بال ميغ انها ,. هى أيضا , يمكنها أن تستغل هذا الوضع . محتجة بعدم موافقة بيرث على وجودها هنا , لكى تنسحب بانتظام فى الوقت المناسب .


ورفعت أطباق الحساء لتوضع مكانها أطباق لحوم دسمة مع سلطة الخضار بزيت الزيتون .

قالت له ميغ متسائلة : " ظننتك تحدثت عن نوع من الطعام يسمى كاسوليه ؟ "

فابتسم لها قائلا : " هذا سيأتى حالا . "

وكانت ميغ قد ابتدأت تشعر بأنها لن تستطيع أن تضع لقمة أخرى فى فمها , عندما وصلت الكاسوليه موضوعة فى طبق واسع . التى هى عبارة عن خليط من الفاصوليا واللحم والسجق والثوم .

وهكذا , أتت على ملء طبق كامل من هذا الطعام . ومع الخبز أيضا , رافضة طبقا أخر بأسف . وبعد ذلك . جئ بالحلوى التى كانت عبارة عن شرائح التفاح المطهوة على نار خفيفة .

وأخيرا . قالت ميغ وهى تضع الشوكة من يدها : " لا أظننى . بعد الذى أكلته . أستطيع الحراك . "

ضحك قائلا : " ولكنك ستتحركين , كل ما فى الأمر أنك غير متمرنة على أكل كميات كبيرة ."

قالت : " عند انتهاء إقامتى فى فرنسا سأكون كالبرميل ."

فقال : " هذا يعتمد على مدة اقامتك ."

إنه بالطبع , يظنها تقوم بإجازة تقليدية هنا . وتساءلت عما سيقوله لو أنها أطلعته على أنها ستبقى هنا شهرا كاملا . ولكنها لم تكن تريد أن تخبره بذلك .

جاءت بيرث بالقهوة لتضعها على المائدة , ثم تنسحب من المكان , ونظرت إليها ميغ وقد اختلطت فى نفسها المشاعر .

قال جيروم الذى أدرك من ملامحها . مايدور فى ذهنها . بدقة أثارت غيظها : " إنها , وزوجها يسكنان فى مسكن يقوم فى الناحية الأخرى من المطبخ ولن يسمعاك إلا إذا صرخت بصوت عال . "

قالت باقتضاب : " أشكرك . إن هذا يبعث على الاطمئنان . "

فقال : " ولكن ربما أنت لاتريدين أن تصرخي . " وتضرج وجه ميغ لسماعها هذه الكلمات بما تتضمنه من معنى .

وخطرببالها أنه لو كانت مارغوت هى الموجودة هنا بدلا منها . لما تضرج وجهها كالحمقى . بل كانت ستسارع بجواب فكه . مثير , إذ أنها تكون قد خططت مسبقا , لنهاية هذا المساء .

ولكنها ليس نفس الخطة التى توصلت إليها ميغ ..

ونهض عن كرسيه واستدار حول المائدة متوجها نحوها وفى حركة رشيقة , وجدت ميغ نفسها ترفع عن الكرسي بين ذراعيه , ثم تنقل عبر القاعة , إلى إحدى الأريكتين .

وأخذت ميغ تجاهد للافلات منه وهى تضربه على صدره . بقبضتيها وتقول لاهثة : " دعنى .. أتركني ."

فقال وهو يجلس بجانبها ثم يأخذها بين ذراعيه يحتضنها بشدة مانعا إياها من الحركة : " حالا , عندما أنهى الاختبار . "

كانت قد جرحت كبرياءه بازدرائها ذلك , وهو الآن يريد معاقبتها برد الاعتبار لنفسه.

حسنا , يمكنها أن تبطل اعتقاده بأنها فريسة سهلة , ثمرة ناضجة على وشك أن تسقط فى يده الممدودة .

وفى النهاية , قال متأوها : " مارغريت .. تبا , ليست هذه هى الطريقة المناسبة . "

ونظر فى عينيها ثم إلى تقاطيع وجهها وهو يتمتم : " إنك جميلة .. كل شئ فيك جميل."


وتصاعد رنين الهاتف فجأة يخترق هذا السكون الحافل بالاحاسيس . المحيط بهما . وكأنما قد دخل الغرفة شخص ما . وشدت ميغ نفسها من بين ذراعيه لتهب واقفة على قدميها وقد عاد إليها وعيها بأكمله .

وعاد يمد ذراعيه نحوها , ولكنها دفعته بيديها قائلة : " كلا .. كلا . إذهب لترد على الهاتف , وإلا سمعت بيرث رنينه وجاءت لتجيب بنفسها . أليس كذلك ؟ "

أومأ وهو يسير متباطئا نحو المكتب حيث الهاتف ليأخذ السماعة قائلا باختصار : " مونتكورت " ثم استمع برهة وقد تجلى الجمود على وجهه . وما لبث أن رق صوته بشكل ملحوظ وهو يقول : " أهذا أنت ؟ نعم , لقد عدت هذا المساء . " واستمع لحظة , ثم استطرد بصوت منخفض : " لا أستطيع الكلام الآن . ياعزيزتى , هذا مستحيل . سنتحدث غدا . نعم , هذا وعد منى ."

وشعرت ميغ بأن تلك الرقة فى صوته , تلسعها كالسياط . لقد كانت منذ لحظة بين ذراعيه . وشعرت باشمئزاز من نفسها وهى ترى أنها كانت على وشك أن تفقد كل احترام لنفسها مع فقدانها ضبط النفس ذاك . وها هى تسمعه يتحدث إلى امرأة أخرى , إلى امرأة يبدو واضحا أنه على علاقة حميمة بها .. امرأة كانت على وشط خيانتها , معها .

لقد تأكدت الآن بوضوح تام . من قلة ما تعرفه عنه , كما اتضح لها ضعف مركزها فى حياته والذى كان كسحابة عابرة . إنه درس مؤلم حقا , ولكنه كان ضروريا لكى تتعلم .

كان جيروم يقول : " نعم . قريبا جدا ,. لقد أعطيتك كلمتى . إلى اللقاء . "

وعندما سمعته يضع السماعة مكانها . استدارت إليه تقول بصوت حاولت جهدها أن يبدو هادئا : " يمكن ان تعود فتطليها حالا , لأننى خارجة الآن هل هنالك سيارات أجرة يمكننى طلبها هاتفيا ؟"

فتقدم يقف خلفها آخذا إياها بين ذراعيه بشدة , وهو يقول بهدوء : " إننى آسف . لم أكن متوقعا أى اتصال هاتفى هذا المساء , إذ لم يكن ثمة من يعلم بعودتى ."

وفكرت بمرارة , وهى تتملص من بين ذراعيه , فى ظنه بأن هذا العذر يغير من الأمر شيئا ربما كانت تلك الفتاة لا تستطيع الانتظار .

وقالت له برقة : " من الواضح أن جاذبيتك لا تقاوم . سأتركك تتابع حياتك المليئة , بينما استمتع أنا ببقية إجازتى ."

وأمسك جيروم ذراعها يديرها نحوه وهويقول : " إنها ليست كما تظنين . إنها مجرد صديقة , هذا كل شئ ."

هزت ميغ رأسها قائلة وهى تتجنب نظراته العنيفة : " ليس هذا فى الحقيقة موضع اهتمام منى . لقد أمضيت أمسية بهيجة , ولكنها انتهت الآن , وعلى أن أعود إلى الفندق , إذ على أن أباشر نشاطى مبكرة ."

قال بصوت أجش : " لا تذهبى إذن . إبقى هنا معى يا مارغريت , وراقبى بزوغ الفجر معى . "

وخلصت نفسها من قبضته وهى تقول بحزم : " كلا . لا .. لا استطيع . "

فألح عليها بقوله : " لم لا . ما دمنا نحن الاثنين نريد ذلك ؟ "


فأجابت ببطء وهى تختار كلماتها بعناية : " لأنك ستكون عقدة بالنسبة إلى . أنا لست بحاجة إليها . " وحاولت أن تبتسم وهى تتابع قائلة : " الحياة البسيطة , تذكر ما سبق وتحدثنا به ."

فهز رأسه لاويا شفتيه وهويقول : " أوه , كلا يا مارغريت . ليس ثمة شئ بسيط معك يا جميلتى . "

واشتد صوته وهو يتابع : " لماذا وافقت على تناول العشاء معى هذا المساء , إذن ؟ "

نظرت إلى الأرض وهى تقول : " كان ذلك خطأ منى .. لم أكن أريد أن أبقى بمفردى هذا المساء , لقد كان يوما شاقا اخرجنى عن توازنى نوعا ما مما جعلنى أتصرف بطريقة منافية لطبيعتى . "

واطلق ضحكة مفاجئة كان لها صدى بشع فى هذه الغرفة التى تسودها الظلام , ثم قال : " على العكس أظننى عرفتك تماما . إذ لولا تلك المقاطعة الهاتفية التى جاءت فى وقت غيرملائم , لكنت الآن معى يا جميلتى , وأنت تعرفين هذا . كما أعرفه أنا أيضا , ولكن إذهبى إذا كنت تودين ذلك . وأرجو المعذرة إذا كنت لن أرافقك شخصيا . " ومشى نحو المطبخ وهو ينادي بصوت عال : " اوكتافيان . "

وبعد برهة ظهر الرجل وهو يمسح فمه بظاهر يده . وألقى على ميق نظرة عدائية من تحت حاجبيه الكثين , ثم أدار نظرة استفهام نحو مخدومه . وأخرج هذا مفاتيح السيارة من جيبه , ثم ألقاها إليه قائلا باقتضاب : " إن الآنسة سترحل . خذها إلى فندق الأوبرج دي سورس دي بيرون من فضلك . "

وأومأ أوكتافيان برأسه بهدوء , ثم أحضر قلنسوته ووضعها على رأسه , وخرج إلى حيث السيارة .

وتناولت ميغ حقيبتها . ثم نظرت إلى جيروم قائلة وقد أحدث الألم غصة فى حلقها : " هل يمكن أن نقول .. وداعا ؟ "

كان وجهه القاتم جامد الملامح وهويجيب بهدوء : " بل سنقول , إلى اللقاء . لأن هذه هى البداية فقط . " واطلق قهقهة وهو يتابع : " لأننى لم أنته معك بعد ."

واعتصر قلبها وهى تفكر فى أن هذا ما يظنه هو . ومشت نحو الباب رافعة الرأس محاولة ألا تسرع فى مشيتها يتبعها صوته الساخر يقول : " نامى جيدا ياعزيزتى , هذا إذا استطعت . "

ولم ينظر إليها أوكتافيان وهى تصعد إلى السيارة . بل أدار المحرك صاعدا بالستروان إلى الطريق . وتقبضت يدا ميغ فى حجرها , فقد كانت ما تزال غير مصدقة ما حدث ... أو ما كانت ستسمح هى بحدوثه . وشعرت بالارتباك والتعاسة . لابد أنها تصرفت بحماقة , ولكنها عرفت الآن ما هى أحاسيسها .

ولكن كل هذا قد ذهب الآن وتلاشى كما تتلاشى الأحلام بمجئ الصباح . ولكن , عليها أن تكون الآن مسرورة لخلاصها من هذا . ولكن الألم فى أعماقها كان له رأى آخر .

وساورها شعور عميق بالوحشة , أوشكت معه على البكاء وهى تهتف فى سرها ( ياحظي الحسن , دع الفجر يبزغ فى حياتى بسرعة . )

MooNy87 13-01-19 10:17 AM

الفصل الخامس

https://upload.rewity.com/uploads/154736267052051.gif

أنهت ميغ آخر لقمة من فطورها , ثم عادت تملأ فنجانها قهوة من جديد . لقد حاسبت الفندق وأحضر لها الخادم حقيبتها إلى غرفة الاستقبال . ولم يبق سوى وصول سيارتها المستأجرة لكي تتابع طريقها .


كانت أثناء تلك الليلة الطويلة القلقة , قد عزمت أمرها على إلغاء قرارها السابق بالتفرج على أنحاء المنطقة , والذهاب بدلا من ذلك , إلى هاوت أرينياك رأسا , حيث ستمضى فى تلك العزلة , شهرا كما وعدت , لتعود بعد ذلك إلى انكلترا بالسلامة , كما كانت ترجو .

وهى . بعد ذلك لن تعود أبدا إلى انتحال شخصية مارغوت وهويتها , مرة أخرى .. أبدا . وعضت شفتيها وهى تفكر فى ذلك . لقد قادها هذا العمل إلى طريق التعاسة , وعليها الآن ان تحاول نسيان ما جرى لها فى الأربع والعشرين ساعة الأخيرة بقدر ما تستطيع , وهى تعرف مسبقا أن هذا لن يكون سهلا .

لقد انتهت إلى الأبد , تلك الفتاة عديمة الخبرة التى خرجت من تولوز , لتحتل مكانها امرأة قد استيقظت رغباتها لأول مرة فى حياتها , ولكنها رغبات لن يرضيها رجل مثل جيروم مونتكورت .. لقد جمعها القدر بغريب بالغ المهارة فى طرق الإغواء , رجل يتنقل من امرأة إلى أخرى . إنها تستحق أفضل من ذلك , فهى لا تريد أن تسلب امرأة أخرى رجلها . إنها ليست مارغوت .

ولكن . رغم كل هذه الأفكار الايجابية المهدئة وجدت نفسها عاجزة عن نسيان تلك الفتاة التى اتصلت هاتفيا الليلة الماضية . إنها منقذتها المجهولة .. وارتسمت على فمها ابتسامة ساخرة .. أتراه هذا هو السبب فى أنها لا تستطيع نفيها من ذهنها ؟

أما بالنسبة إلى جيروم مونتكورت .. حسنا , لقد خرجت من حياتها الآن دون أى ضرر حقيقى ما عدا , بالطبع , الضرر الذى أصاب كبرياء الرجولة فيه .لقد تضايقت من تصرفه نحوها عندما تركته والذى وصل إلى ما يشكل تهديدا غامضا , ولكن ربما كان الأمر كله هو أنه لم يتعود الرفض من امرأة . وتنهدت وهى تفكر فى انها على كل حال , ليست من نوع النساء ذوات العلاقات العابرة فهى تبحث عن الالتزام عند الطرفين . ولكن جيروم مونتكورت ليس من هذا النوع . مع انه ليس بإمكانها أبدا أن تتأكد من شعوره نحوها مهما حاولت . وذلك بالعكس من أوكتافيان الذى لم ينطق بكلمة طيلة الطريق إلى الفندق , مما يدل على شعوره العدائى نحوها , وذلك إلى أن وصلا ونزلت هى من السيارة , عند ذلك قال لها بلهجة مهينة : " انكليزية ؟ عودى إلى بلادك واتركينا بسلام . "

ولم يكن أحب إليها فى الحقيقة . من العودة إلى بلادها , ولكنها سبق وتعهدت بهذا الأمر ولا يمكنها التراجع .

واقترب النادل منها يقول : " لقد وصلت سيارتك , يا آنسة . "

وابتسمت شاكرة , ورشفت بقية قهوتها ثم نهضت متوجهة الى غرفة الاستقبال , لتتسمر فى مكانها وهى تحدق ذاهلة فى ذلك الذى كان واقفا بانتظارها .

وبادرها قائلا : " صباح الخير يا آنسة " وكانت عيناه تتأملانها باعجاب فى تنورتها الضيقة العاجية اللون والتى تتماشى مع قميصها القصير الكمين . وتابع قائلا : " أراك ارتديت ملابس ملائمة للجو الدافئ هذا النهار . "

فقالت تسأله بخشونة : " ما الذى تفعله هنا ؟ "

فأجاب وهو ينظر فى ساعته : " أريد أن آخذك إلى هاوت أرينياك فقد قلت إنك ستزاولين نشاطك مبكرة ."

فأجابت وهى تحاول ان تتمالك رباطة جأشها : " هذا صحيح . ولكن ليس معك ."

فقال يذكرها : " ولكننى حذرتك الليلة الماضية من أن علاقتنا لم تنته بعد ."

قالت باقتضاب : " نعم , أذكرذلك " وخطر لها خاطر مفاجئ فتابعت تسأله : " وكيف علمت أننى ذاهية إلى هاوت أرينياك ؟ "

فأجاب : " لأن هذا كان العنوان الموضوع على أمتعتك ."

وبهتت وهى تفكر فى ان هذا صحيح , وقالت له : " إنك ذكى , ولكن هذا لايعنى أننى سأقبل توصيلك لى أو حتى قضاء دقيقة واحدة فى صحبتك . أننى أريد أن أذهب إلى هاوت أرينياك بنفسى ."

قال مداعبا : " إن المسافة طويلة إلى هناك , حتى ولو ذهبت بخط مستقيم كما يطير الغراب . "

فأجابت : " ولكننى لن أذهب كالغراب , إن سيارتى المستأجرة ستصل فى أية لحظة "

فهز جيروم رأسه قائلا : " كلا , مع الأسف , فقد ألغيت أنا إرسال السيارة تلك إليك "

وصرخت ميغ : " فعلت ماذا ؟ " وانتبهت إلى الرؤوس تلتفت ناحيتهما من أنحاء المكان , بينما لمعت عينا موظفة الاستقبال من وراء مكتبها .

فأجاب : " لقد أخبرتهم أنه لم يعد ثمة حاجة اليها . وسيكون عليك أن تملأى التقرير الخاص بذلك الحادث , ولكن هذا يمكنك تأديته فى أى وقت يناسبك . وثمة فرع لهم فى ألبي ."



فقالت بانفعال : " لايهمنى حتى ولو كان لهم فرع فى القمر . ليس لك الحق .. ليس لك الحق مطلقا فى .. "

فقاطعها : " هل لنا أن نتحدث فى هذا الشأن فى الطريق ؟ " وأمسك بذراعها يقودها خارجا بها من المبنى عابرا الباحة وهويتابع : " إن خالتك تنتظرنا للغداء . "

فسألته : " خالتى ؟ " وكانت على وشك ان تقول , أية خالة تلك لولا أنها أمسكت نفسها وهى تشهق بعد إذ كادت تنسى نفسها . وسألته : " كيف عرفت بذلك ؟ "

فاجاب : " لأن السيدة دي بريسو هي من عملائي . وأنا أضع التخطيطات الإصلاحية فى قصرها . وهو المشروع الذى سبق وحدثتك عنه . " وسكت برهة مانحا إياها الفرصة لاستيعاب ذلك . ثم استطرد : " لقد حدثتنى عنك بكثرة , وفى الواقع كانت قد طلبت منى إحضارك من المطار غدا . ولكنها سرت حين علمت أنك ستصلين إليها سالمة قبل الموعد بيوم . " وسكت لحظة مرة أخرى ثم عاد يقول : " وبجانب هذا , فإنه من غير المعقول أن يكون ثمة اثتنان باسم مارغوت ترانت ."

وفكرت ميغ فى نفسها ساخرة . إن هذا ما يظنه هو ..

وقالت ببطء : " إذن , لابد أنك قد علمت .. ليلة أمس .. " وسكتت .

وأومأ برأسه قائلا : " عرفت من أنت والجهة التى تقصدينها . وكل ذلك من تلك البطاقات الملصقة على أمتعتك ."

فقالت : " ومع هذا . لم تقل شيئا " وعادت إلى مخيلتها صورته تلك واقفا دون حراك بجانب الطريق . يبدو أنه لم يكن مسرورا لذلك .

وهز جيروم كتفيه دون اكتراث قائلا : " فضلت . من باب الفكاهة ألا أفعل ذلك لأستمتع برؤية ما قد يحدث . " وسكت تاركا إياها لتفكر فى ما قال , ثم عاد يتابع : " وأنت أيضالم تكونى صريحة تماما ., يا مارغريت . "

فاحمر وجهها وهى تقول : " ليس على ان اعرض تاريخ حياتى أمام غريب . " وسكتت لحظة . ثم عادت تقول بنوع من المعاكسة : " هذا إلى اننى ظننت , وليت ظنى كان صحيحا , أننى لن أراك مرة أخرى أبدا . "

قال بلطف : " ها قد وصلنا " وفتح لها باب السيارة بأدب مبالغ فيها وهويقول : " كان يجب أن تستمعى إلى الليلة الماضية . "

قالت : " لقد جاء دورك الآن لتستمع إلى .. قبل أن أصعد إلى السيارة . " وألقت عليه نظرة باردة صريحة وهى تلحظ ملابسه الأنيقة , بنطاله الجينز الجيد التفصيل وقميصه الأزرق القطنى المفتوح عن الصدر . وشعرت بغصة فى حلقها وقد خنقتها المشاعر .

قالت وهى تزدرد ريقها : "إن الأمس قد انتهى , بالنسبة إلى , وبكلمة أخرى أننى أعتبره وكأنه لم يكن . فأنا هنا للعمل فقط . لأكون مرافقة للسيدة دي بريسو وأنا لا اريد .." وسكتت مترددة .

فقال يكمل لها كلامها : " لا تريدين تعقيدات ؟ "

أجابت بحزم : " بالضبط . إننى سأقوم بعملى بينما تقوم أنت بعملك , ولا شئ غير ذلك . "
فقال وهو يشملها بنظره : "ربما ليس هذا ما أريده أنا ."

كانت نظراته تطوف بين وجهها وذراعيها وكأنه يذكرها بالوقت الذى كانت فيه بين ذراعيه فى الليلة الماضية .. وأحست لهذه الذكرى بشعلة حارقة فى أعماقها . وادركت , فزاغة ما يقصد . فأخمدت شعورها هذا بسرعة وهى تقول : " إذن . فهذا أمر صعب ياسيدى . لأننى متأكدة من ان خالتى لا تريد منى الإكثار من المقابلات بأى شكل , فى الحقيقة , لو أننى أعلمتها بما كان منك . ربما أخذت تفكر فى استخدام مهندس سواك ."

ضحك وهو يقول :" أتهددينى يا جميلتى ؟ إنتى لا أنصحك بذلك . فأنا لست فى هاوت أرينياك بصفتى المهنية . فأنا كما سبق وأخبرتك . فى إجازة حاليا , وخالتك هى صديقة قديمة عزيزة على . وعملى عندها هو مسألة صداقة ومحبة . إذن , فعليك ان تتقبلى حضورى . يا مارغريت , سواء شئت أم أبيت . "

سألته وهى تتحرك بقلق : " إلى متى ؟ "

فنظر إليها متأملا ثم قال : " حسب ما يستلزمه الوقت . "

سألته بخشونة : " ماذا تقصد ؟ "

بدا الغموض فى عينيه وهو يجيب : " إنها بحاجة إلينا , نحن الاثنين يا مارغريت , وهذا هو المهم . والآن هل لك ان تصعدى إلى السيارة ؟ أم أنك تفضلين أن نبقى واقفين هكذا إلى أن تصيبنا ضربة شمس ؟ "

صعدت إلى السيارة متمهلة وهى تفكر ساخرة , بينما السيارة تتحرك , فى ان شرك العنكبوت الذى ينشره جيروم مونتكورت قد انتشر بشكل واسع كما يبدو .

وهذا سيجعل هذا الشهر , أطول شهر فى حياتها .

وصلا إلى هاوت أرينياك قبل الظهر مباشرة , وكانت الرحلة مليئة بالتوتر . لم يدر بينهما الكثير من الأحاديث . لقد كان جيروم يوجه انتباهها بأدب , إلى المناظر التى يمران بها , مشيرا إلى الاماكن الهامة التى يجتازانها . وكانت إجابات ميغ مختصرة , غالبا , ولم تسمح لنفسها باظهار إى اهتمام حقيقى إلا عند وصولهما إلى قرية أرينياك وهى التى يطلق اسمها على القصر .

كانت عبارة عن مجموعة صغيرة من المنازل قائمة على منعطف النهر . وكانت المنازل مبنية من حجارة مرشوشة باللون الوردى , ومعبد ضخم من القرون الوسطى , تحيط به أشجار الدلب .

أشار إليها جيروم قائلا : " لقد بنى هذا المعبد أحدهم تخليدا لذكرى نصرهم على الكاثار . "

فقالت وهى ترتجف : " لقد قرأت فى ذلك الكتاب أنه قد دارت ثمة معارك مخيفة فى جميع الأنحاء . "

خلف القرية , كانت تقوم لوحة حائلة اللون شبه مدفونة فى الأعشاب المرتفعة على جانب الطريق , تشير إلى جسر أثرى . وكان ثمة دوما شئ ما بالنسبة إلى عبور جسر كما تراءى لميغ . بحيث لايتمكن السخص العابر من العودة , كما تقول بعض الأساطير .

وهذا كان بالضبط , وضعها الحالى . فهى عندما تصل إلى القصر . سيكون عليها طبعا , ان تقوم بالدور الذى سبق ووافقت على القيام به , مهما كان رأيها فى حقارة هذا الدور . فهى الآن مارغوت .

ولكنها صممت بينها وبين نفسها . أن لا تدع السيدة دي بريسو تعلم بذلك أو تتألم من هذه الخديعة .

وهذا الرجل الذى يجلس بجانبها لن يعلم هو أيضا .

وخلف الجسر , كانت الأشجار متشابكة على بعضها البعض مشكلة نفقا رقطته الشمس . وكان الطريق يصعد بصورة ملحوظة . وأمامها كانت تبدو بوابات حديدية مفتوحة بين أعمدة حجرية ضخمة متوجة بتماثيل نسور .

دخل جيروم بالسيارة من خلال البوابات فى طريق واسع إنما مهمل وقد نمت فى وسطه الأعشاء . وكانت الأشجار على جانبيه فى حاجة إلى قطع وتشذيب . والشجيرات تنمو بفوضوية تامة .

وعندما استدار فى منعطف طويل . أبطأ جيروم بالسيارة برفق وهويقول : " إن أجمل منظر يبدأ من هنا . "

ولم يكن مبالغا كما أدركت ميغ وهى تنحنى إلى الأمام تشهق مسرورة . كان قصر هاوت أرينياك منزلا ريفيا رائعا قائما على مرتفع وسط حديقة كبيرة مشبها بجزيرة من الحجر وسط بحر من الأعشاب . كان منزلا مستطيلا الشكل , ذات ثلاثة طوابق يقوم برج فى كل ركن منه , وعند الشرفات الواسعة المحيطة به . وكان لون القرميد السطح الحائل , يتناقض مع لون الجدران الحجرية المغبرة , وكانت النوافذ المستطيلة ذات مصاريع بيضاء أشبه بأجفان العيون وكأنما أصاب النعاس هذا المنزل من جراء أشعة الشمس .

أوقف جيروم السيارة على الحصى تحت الشرفة . مشيرا إلى ميغ أن تسبقه صاعدة الدرج العريض الذى يقود إلى المدخل الرئيسى .

كان الهواء حارا خانقا , وارتفع صدى وطء حذائها ذى الكعب العالى على الباحة المرصوفة . وعندما اقتربت رأت ان ما قاله جيروم عن أحسن منظر , كان فيه بعض التهكم . فقد كان القصر بمجموعه يبدو أجمل شكلا من بعيد . أما عن قرب , فقد كان واضحا أن الجدران بحاجة إلى إعادة طلاء , كما أن العديد من مصاريع النافذة والأبواب فى الطابق الأرضى كانت متدلية وبحاجة إلى إصلاح .

فى الواقع . كان كل شئ متهالكا وكاد يأتى عليه الزمن . وفكرت ميغ بازدراء فى هذا الإرث الذى تنتظره مارغوت والذى لايبدو عليه أنه ثروة مضمونة تستحق الذكر .

وعندما وصلت إلى الباب الضخم . فتح أمامها لتجد نفسها أمام امرأة صغيرة الحجم فى ثوب قاتم وعيناها تشعان مرحبة بها .

قالت المرأة : " تفضلى بالدخول يا آنسة . إن السيدة طلبت منى انتظارك " وتجاوزتها بنظرها لتتسع ابتسامتها قائلة : " السيد جيروم ؟ "

فقال : " كيف حالك يا فيليبين ؟ " ونظر إلى ميغ مستطردا : " هذه هى السيدة لانجيا مارغوت التى تدير المنزل هنا . "

فكرت ميغ , ورائحة رطوبة خفيفة تنتشر فى المكان , فى ما يمكن لهذه المرأة عمله ازاء هذا السقف البالغ الارتفاع والذى كانت تغطيه رسوم مختلفة باهتة . وكانت الجدران مغطاة بألواح خشبية قذرة , ومغطاة بصور يبدو أنها لوحات تمثل أسلاف السيدة دي بريسو دون شك . وكانت هذه الأفكار تجول فى ذهن ميغ وهى تسير معهما نحو باب بمصراعين . فتحتهما فيليبين وهى تعلن : " لقد وصلت , أخيرا الآنسة مارغوت , يا سيدتى . "

دخلت ميغ الغرفة , وهى تجاهد للتغلب على ذعرها . لتجد نفسها فى غرفة استقبال واسعة تشرف على الحدائق الخلفية . وكانت الأبواب الفرنسية الطراز التى تقود إلى الشرفة نصف مفتوحة لكى تمنع دخول أشعة الشمس الحادة . وكان على ميغ ان تحد النظر لكي يمكنها رؤية مضيفتها .

كانت مارغريت دي بريسو جالسة على مقعد منجد بالساتان المخطط , قرب المدفأة الرخامية الخالية . وكانت ذات جسد منتصب نوعا ما , مرتدية ثوبا كحليا من الحرير وصففت شعرها الأبيض كالثلج عاليا فوق رأسها . وكانت تضع على عينيها نظارة داكنة اللون , كما كان ثمة عصا من الخيزران ذات مقبض فضي مسندة إلى كرسيها .

وبسطت لها يدها مرحبة وهى تقول : " أهلا بك فى هاوت أرينياك يا ابنتى العزيزة . " كان صوتها واضحا حازما بعكس مظهرها . وتابعت تخاطب مدبرة المنزل : " دعى شيئا من النور يدخل يا فيليبين , من فضلك . "

فتحت المرأة الأبواب ليتدفق نور الشمس إلى الداخل ليظهر الفخامة الخابية للغرفة . وكانت السيدة ما زالت قابضة بشدة على يد ميغ , لتجذبها , بعد ذلك إليها تحتضنها بسرعة واضعة الخد على الخد .

قالت وهى تتنهد بضعف : " مضى وقت طويل منذ رأيتك لآخر مرة يا عزيزتى ... طويل جدا وأنا ألوم نفسى لذلك . لأننى وأمك . لم نكن قط صديقتين , وبعد وفاة أبيك العزيز , لم أحافظ أنا على مداومة الإتصال بيننا وهذا ما آسف له الآن بعد هذا الزمن الطويل , وها ان غياب مرافقتي سيلفى قد منحنى فرصة لسد هذه الفجوة التى حدثت بيننا ."

واستعاد ذهن ميغ صدى كلمات زوجة أبيها ايريس الحاقدة وهى تقول ( إنها لم تحبنى قط . كانت تعتقد على الدوام بأننى لم أكن أهلا لابن أختها المحبوب . )

وقالت ميغ برقة : " إننى أقدر شعورك هذا . "

واشتدت أصابع السيدة دي بريسو على أصابع ميغ وهى تقول : " هل لنا أن نتخلى , إذن عن ادعائنا الأحمق بأننا نتذكر بعضنا البعض , ونبدأ تعارفنا من جديد منذ هذه اللحظة ؟ "

فأومأت ميغ برأسها قائلة : " إننى .. إننى أحب ذلك , يا سيدتى ."

وأشرق الوجه النحيل بالابتسام هى تقول : " إذن , ربما من الأفضل . إكراما لأبيك أن تدعينى عمتك كما كان يفعل هو . "

وغمرت ميغ الكآبة وعاودها الشعور بالذنب هى تجيب متكلفة الابتسام : " سأحب هذا طبعا ."

ونظرت السيدة إلى جيروم قائلة : "إنها فاتنة , أليس كذلك ياعزيزى ؟ إننى شاكرة لك كرم أخلاقك فى إحضارها إلى ."

فأخذ يدها يقبلها قائلا : " صدقينى ان هذا كان مبعث سرور لى . " وارتفعت عيناه إلى عينى ميغ بنظرة لاتعبر عن شئ بينما تورد وجهها خجلا .

فقالت السيدة بصوت خفيض ذى معنى : " أرجو ذلك . واننى أعتمد عليك يا جيروم . فى ألا تدع مارغوت تشعر بالملل أثناء مكوثها هنا . " واستدارت نحو ميغ متابعة : " لقد كان ضد فكرتى فى دعوتك يا عزيزتى وطبعا , كانت له وجهة نظر فى ذلك . وهو ان من الصعب ان ننتظر من فتاة شابة مفعمة بالحيوية ,. أن تترك حياتها المليئة . لتمضى شهرا هادئا فى الريف . "

فرفعت ميغ وجهها قائلة : " أحقا كان هذا رأى السيد مونتكورت ؟ ولكنه ليس رأيي أنا . فأنا سعيدة بأن أكون معك يا .. عمتى ."

فأخذت السيدة يد ميغ تربت عليها قائلة : " هل سمعت , يا جيروم ؟ علينا ان نجعلها تمضى وقتا طبيا . "

فعضت ميغ شفتيها قائلة :" إننى لست بحاجة إلى كل هذه العناية . " وبان فى صوتها اليأس وهى تستطرد : " كونى عضوا فى الأسرة , يكفينى تماما . وأنا بالطبع , لا أريد ان أزعج السيد مونتكورت أكثر من ذلك , فأنا أعلم ان وقته ملئ بالعمل . " وضمنت جملتها الاخيرة معنى معا , لتجعله يفهم من ورائها ما يشاء . وهى تنظر إلى فمه الحازم وهو يلتوى بشكل يظهر به ادراكه ما لمحت به .
قالت السيدة : " ولكن سيكون لديك الكثير من الفراغ لكى تملئيه . ذلك ان طبيبى قد أصر على , بكل حماقة بالراحة صباحا وبعد الظهر . "

فأجابت ميغ بلهجة حاسمة : " سأكون على ما يرام . أعدك بذلك ." ابتسمت للمرأة العجوز وهى تستطرد قائلة : " كل شئ هنا جديد بالنسبة إلى , وأنا متأكدة من اننى سأجد الكثير مما يشغل وقتى ."

قال جيروم بلطف : " وذلك بتتع آثار الكاثار على الأغلب . " وانتقلت نظراته إلى السيدة قائلا : " إن مرافقتك الجديدة , أيتها العزيزة , تدرس تاريخ غزو الكاثار ."

رفعت السيدة حاجبيها وهى تقول : " إنها فترة من التاريخ كانت محزنة ودموية , وهذا اهتمام غريب أيضا , بالنسبة لفتاة صغيرة حلوة . " وأردفت مداعبة : " إن ما أفهمه هو ان اهتمامها يبنغى ان ينصب على أغانى التروبادور الغرامية ."

قال جيروم برقة بالغة : " من الواضح ان الآنسة مارغوت تخفى , فى الاعماق شيئا غير متوقع . واننى لأتساءل عما تختزنه لنا من الغرائب . " وسكت برهة , ثم عاد يقول : " عدا , طبعا لغتها الفرنسية الممتازة ."

وهتفت السيدة مذهولة : " أحقا ؟ ولكن رسالة أمك أوضحت تماما ان ليس فى إمكانك النطق بكلمة فرنسية واحدة ."

وغصت ميغ بريقها وهى تقول متصنعة العفوية فى لهجتها : " إنها لم تسألنى , فى الواقع . إذ ان علاماتى المدرسة ما كانت يوما جيدة بالنسبة إلى كل تلك الأفعال الشاذة . " وهزت كتفيها لاوية وجهها بشكل مضحك وهى تتابع : " وقد تكون ظنت ان الامر لم يتغير بالنسبة إلى لغتى الفرنسية ."

فقال جيروم : " إنها غلطة شنيعة كما أرى بالنسبة إليك يا جميلتى , إذ لايمكن لشئ أبدا أن يؤخذ بالظن . " وظهر التهكم على وجهه وهو يتابع : " أظن أن الشهر الذى نستقبله سيكون مليئا بالمرح والفائدة . "

فهتفت السيدة بانتصار : " أرأيت ؟ لقد قمت أنا فعلا بالعمل الصواب . " واستدارت نحو ميغ متابعة : " والآن ستدلك فيليبين على غرفتك , يا عزيزتى وعندما ترتاحين قليلا سنتناول الغداء . "

وتنفست ميغ الصعداء وهى تنجو بنفسها من غرفة الجلوس قبل ان تتهاوى ساقاها فتسقط على السجادة الحائلة اللون .

حسنا , لقد طهرتها تلك النار الحارقة التى عانتها . لتنتعش من جديد , وكانت هذه الأفكار تراودها وهى تتبع خطوات فيليبين النشيطة صاعدة السلم , ولكن كراهيتها لنفسها , لشعورها بانها دخيلة فى هذا المنزل . لم تخف مثقال ذرة وهى ترى نفسها تقابل هذه الضيافة والعواطف بالخديعة ودون استحقاق لها .

وكأنما لم يكف هذا , ليأتى جيروم مونتكورت فيجعل الأمور أسوأ مئة مرة . إنه كابوس لايقظة منه , وشعرت بغصة فى حلقها . إن كل تصرفاته نحوها كانت مزعجة ... غامضة تماما .

إن عليها أن تبقى بعيدة عنه قدر امكانها , هذا إذا كانت حريصة على راحتها النفسية . وقد لايكون هذا سهلا , ولكنها , على الأقل ستبقى فى الأمسيات بمفردها عندما يذهب هو إلى مسكنه وحياته الخاصة . وعندما اطمأنت إلى هذه الفكرة , وجدت خيالها يعود بها إلى تلك المناظر الخلابة . والتلال الشرقية من خلال الجدار الزجاجى ... وأخذت تتساءل كم عدد النساء اللاتى أخذن يراقبن الفجر معه .. وهتفت من الأعماق , آه ..... آه .

كان الألم الذى شعرت به أشبه باغماد سكين فى قلبها , لا يماثل أى ألم شعرت به من قبل بعنفه المفاجئ .

وفكرت فى ان هذا الشعور لابد ان يكون الغيرة .. هل هى تغار ؟. ولكن هذا يعنى أنها ...

وفى هذه المرة , لم تكن الرجفة , التى انتابتها ,. بتأثير الحب , بل كانت بتأثير الخوف

MooNy87 13-01-19 10:20 AM

الفصل السادس

https://upload.rewity.com/uploads/154736267052051.gif

" هذه هى غرفتك , يا آنسة " وأخرجت كلمات فيليبين هذه , ميغ من خواطرها المفزعة .


شكرتها وقلبها ما زال يخفق بعنف , متمردا على ما اكتشفته فى اعماقها منذ برهة . ودخلت غرفتها من الباب الذى ما زالت فيليبين ممسكة به مفتوحا لها .

ووجدت نفسها فى غرفة فسيحة مربعة , حملت الكآبة إلى جوها مجموعة من الأثاث المنحوت القديم الطراز وسرير كبير ذى سقف . ولكن فراش السرير كان وثيرا مريحا رغم مظهر السرير الكئيب . كما كانت الملاءات ناعمة معطرة ببعض الأعشاب العطرية الجافة كما أدركت ميغ , وقد ساورها السرور .

دخلت فيليبين تحمل بعض المناشف وهى تقول : " أرجو أن تجدي الراحة التامة هنا . إن الحمام عبر الممر بجانب الباب . وهو الوحيد فى هذه الناحية من المنزل . وهكذا ستشاركين به مع السيد جيروم مونتكورت . "

دارت ميغ على عقبيها وهى تقول مصعوقة : " ولكنه لا يسكن هنا . " وسكتت لتخفف قليلا من الحدة التى بدت فى لهجتها ثم تابعت تقول : " أعنى أن له بيته الخاص به وهو ليس بعيدا من هنا , أليس كذلك ؟ "

فهزت فيليبين كتفيها وهى تقول : " آه . نعم , ولكنه يأتى إلينا أحيانا لقضاء الليل . " وألقت حولها نظرة وهى تتابع قائلة : " لكى ينتهى من معاينة هذا المنزل فى وقت قصير , ويجهز قائمة العمل , يستلزم هذا مجهودا كبيرا . وأحيانا يبدأ السيد عمله فى الصباح الباكر , لينتهى متأخرا فى الليل , وهكذا يجد من الأفضل أن يبقى هنا . "

وابتسمت لميغ بجرأة وهى تستطرد : " هذا إلى أن السيدة تريد منه أن يبقى . فهى تحب أن ترى رجلا فى منزلها . وهى تقول إنها تعتبر إبنا لها حيث لم ترزق المسكينة بأولاد . "

قالت ميغ دون أن يبدو عليها أى تعبير , بينما كان قلبها يغوص بين ضلوعها : " أحقا ؟ "

قالت فيليبين وهى تشير إلى حبل معلق بجانب السرير : " إذا أردت أى شئ يا آنسة . فيمكنك أن تشدى هذا الجرس , إذ على أن أذهب الآن لتحضير الغداء . "

تصنعت ميغ ابتسامة وهى تقول : " إننى متأكدة من أن كل شئ على مايرام . " وكانت قد لاحظت لتوها , القفل المزخرف المزود به الباب , ومفتاحه فيه . ربما كان صدئا , ولكنه صالح دون شك .. إذ ربما فكر السيد مونتكورت فى أن يشترك معها بأكثر من الحمام .

وعندما تركتها فيليبين , خرجت هى لتلقى نظرة على الحمام , وسرها أن تجد قفلا على الباب أيضا .

كان حوض الاستحمام قائما فى وسط الحمام . ومدت ميغ يدها تختبرالصنبور النحاسى الثقيل ليتدفق الماء الساخن منه . وأخذت تربت على الجوانب المقواة بالحديد وهى تخاطبه : " أظننا سنكون اصدقاء . " وتمنت لو كان بإمكانها الغوص فيه حالا , لتتخلص من هذا الشعور بالضيق والحيرة اللذين يكتنفانها , ولكن اقتراب موعد الغداء جعلها تكتفى بغسل وجهها ويديها فقط .

وعادت تجتاز الممر لاحضار منشفة , لتقف مصعوقة أمام الباب وهى ترى جيروم مونتكورت يستدير إليها من أمام النافذة ويديه على خاصرتيه .

واستبد بها الغضب وهى تراه وكأنه يشعر بنفسه فى بيته . وسألته من بين أسنانها : " ما الذى تفعله هنا ؟ إن أعصابك فى منتهى البرود حقا . "

فرد عليها بسرعة وحدة وهو يشير إلى زاوية الغرفة : " لاتكونى حمقاء ,. فقد أحضرت لك أمتعتك . لقد أصبحت هذه عادة ."

قال بجفاء : " أشكرك . ولكننى ما زلت لا أريدك هنا . "

وسارت نحو السرير تمسك بحبل الجرس وهى تتابع قائلة : " أم لعلك تريدنى أن أستدعى فيليبين ؟ "

قال بسرور :" يمكنك استدعاء من تشائين . ولكن لاتشدى الحبل بقوة وإلا سقط الحبل والجرس فى يدك جارا معه السقف كذلك . كان على فيليبين أن تنبهك إلى هذا . "

قالت : " لا أصدقك ."

ضحك وهو يجيبها : " هذا ممكن . إنها كلمة المهندس ."

فتركت الحبل متمهلة وهى تقول بمرارة واضحة :" لا أظن أنه ينبغى على أن اصدقك بشىء . "

قال بجفاء : " هذا كلام خشن ." وشملها بنظراته وهويتابع : " أظن أننا , نحن الاثنين يجب أن نعلن هدنة بيننا . "

قالت : " وعلى أى أساس ؟ " وواجهته برأس مرفوع وعينين متألقتين . رافضة الاعتراف لنفسها بتأثير جاذبيته القوية وهى تتابع : " وإلى متى ؟ آه , لا تقل كما سبق وقلت من قبل ( حسب ما يستلزمه الوقت ) . وأطلقت ضحكة قصيرة جافة .

فقال : " بالضبط . إن أن ثمة أشياء كثيرة يمكن أن نحققها بنجاح , كما سبق ولاحظت . " ونظر حوله وهو يتابع : " أرجو ألا تكون قد انتابتك خيبة الأمل لما يحيط بك . إذ لابد أنك سبق وتصورت أشياء أكثر حداثة وبريقا .. وثراء طبعا . "

وهز رأسه وهويستطرد قائلا : " من دون نقود يوقف التدهور . يصبح بيت كهذا عبئا أكثر منه ميزة ."

قالت بجفاء : " هذا لايهمنى بشئ , ولا أظن أن السيدة دي بريسو تحب مناقشة شؤونها الخاصة من وراء ظهرها مهما كانت صداقتك لها . "

قال وابتسامة خفيفة تلوح على زاويتى فمه : " إننى أتقبل الانتقاد . إذن فإنك لم تفكرى قط فى المستقبل يا مارغريت .. ولم تتساءلي عما يمكن أن تفكر فيه خالتك المسنة بالنسبة إلى ميراقها المتهالك هذا . ولماذا اختارت أن تستدعيك إلى هنا فى هذا الوقت بالذات ؟ "

أجابت بصراحة جافة : " كلا . لم أفكر فى هذا . " ذلك أن هذا السبب لم يكن هو سبب حضورها إلى هنا .. ولكن ألم يكن ذلك للمحافظة على مصالح مارغوت المالية ؟ مع أنه يبدو أن هذه المصالح قد ابتدأت تتلاشى بسرعة وأحست بوخز فى ضميرها لشعور خفى بالرضى لهذا الأمر .

وضحك جيروم قائلا : " إنك تقريبا , طيبة إلى حد لا يصدق . يا جميلتى . "

كان فى صوته رنة ساخرة , وهو يتابع : " إننى أتطلع إلى ما ستؤول إليه علاقتنا فى الأربعة أسابيع القادمة ."

رفعت وجهها متحدية وهى تقول : " حسنا , إننى لا أشاركك توقعاتك هذه , كما أنه ليست بيننا أية علاقات حسب ما اعتقد . "

رفع حاجبيه وهو ينظر إليها بامعان قائلا : " مطلقا ؟ إن ما أذكره يختلف عن هذا تماما . "

أجابت ببرود : " ربما , إننى أذكر .. لحظة أوشكت فيها أن أحيد عن الطريق القويم . ولا شئ غير ذلك . " وتنفست بعمق وهى تتابع : " فى الحقيقة , أيها السيد إن عندى شعورا غريزيا بأنك لا تشعر نحوى ولو بمجرد المودة الخالصة . "

قال بازدراء : " مودة ؟ وماذا تفعل هذه الكلمة البسيطة إزاء المشاعر الجياشة بين رجل وامرأة ؟ لقد كنت منجذبا إليك ليلة أمس يا مارغريت , فلا الانكار ولا الندم ولا شئ مطلقا يمكن أن يغير من الحقيقة شيئا . "

وفى خطوتين . كان بجانبها , وقبل أن تستوعب تماما ما يمكن أن يحدث . فتأخذ حذرها . وجدت نفسها بين ذراعيه .

وهتفت فى اعماقها , وهى تشعر بخفقان قلبها يعلو يا لحظى الحسن ! وفجأة . إذ به يطلقها من بين ذراعيه . مبعدا إياها عنه بشئ يقرب من الغلظة . وعيناه تتألقان وهو يقول : " دعينا إذن . من الحديث عن الطريق القويم يا صغيرتى الجميلة المنافقة , إذ أننا قد اتفقنا الآن معا . "
وتأمل فى وجهها المتضرج وهو يقول : " أليس كذلك يا عصفورتى الحلوة ؟ "

مشى نحو الباب . وراقبته هى بذهول وهو يأخذ المفتاح من القفل . ناظرا إليها من فوق كتفيه . قائلا وكأنه يخاطب نفسه : "من الأفضل أن يبقى معى . " ثم خرج من الغرفة تاركا إياها فى ذهولها ذاك . لاتدرى ماذا تفعل أو تقول .

واستعانت ميغ بكل ما تملك من شجاعة , لكى تنزل إلى قاعة الطعام . مستميتة فى سبيل أن تجد طريقة للاعتذار عن تناول الغداء . محتجة لذلك بصداع أو ما أشبه . ولكن هذا سيعنى اعترافا منها بانتصاره عليها مما تفضل الموت عليه .

وهكذا دخلت الحمام تغسل وجهها بالماء البارد , ثم عادت إلى غرفتها لتضع على وجهها قليلا من مواد التجميل بشكل محتشم تخفى بذلك تضرج خديها . واحتقان عيينها الناتج عن حدة المشاعر التى تعانيها , ولكنها لم تستطع أن تفعل شيئا لنبضها المتسارع , ولالتوقد العواطف ذاك الذى بعثه فى أحاسيسها .

فكرت . وقد ساروها الشعوربالعار , فى أن يقظة مشاعرها هذه لم تكن من فعله وحده ... والآن عليها أن تواجهه .. أن تتظاهر بانه لم يحدث لها شئ . وأن كل ما فى الامر أنه قد احتضنها بين ذراعيه ولا شئ سوى ذلك . وهذا فقط لكى يثأرلكرامة رجولته التى سبق وجرحتها . وفكرت فى أنها لن تكرر هذه الغلطة مرةأخرى , لقد جاءت إلى هذا المكان لكى تكون مرافقة للسيدة دى بريسو ولا شئ غير ذلك . ومن الآن فصاعدا . ستبقى معها كظلها ولن تتزحزح من قربها .

كانت تفكر فى كل ذلك وقد ساد ملامحها العبوس .
هولن يتمكن من أن يفعل شيئا تجاه هذا مهما بلغت جاذبيته . وعاجلا أم أجلا . لابد سيلمس عقم محاولاته مطاردتها .فيعود إلى تلك المرأة التى كلمته فى الهاتف . ليكرس نفسه لها .. او إلى أية امراة اخرى على قائمته , تاركا إياها حرة فى العودة آخر الشهر . إلى بلدها لكى تنساه تماما .

هذا إذا استطاعت ذلك .

ونظرت إلى وجهها فى المرآة , متأملة عينيها المتسعتين المضطربتين , والتوتر فى خديها , وارتجاف شفتيها . وشعرت بلهفة الشوق إليه ومرارة الهجران .

رفعت عينيها تدعو وقد انتابها كرب مبرح , وهى تتمنى ألا تقع فى حبه .

وبرأس عال نزلت السلم وتوقفت قليلا تتمالك نفسها بعد ما سمعت أصواتا تنبعث من غرفة الجلوس , وبهدوء . دفعت الباب .ثم دخلت , كانت السيدة تحتل مقعدها المعتاد وقد رفعت يدها تضغط جبينها بضعف . بينما كان جيروم واقفا عند النافذة حاملا بيده رزمة من الورق .

وعندما دخلت ميغ . كانت السيدة تقول : " إذا كنت تظن أن هذا العمل ضرورى , فلابد إذن من اجرائه . "

فأومأ برأسه وهو يضع الأوراق فى محفظته . قائلا : " سأقوم بعض التخطيطات . ثم أضمها إلى التقرير . " وقطب جبينه قليلا وهو يتابع قائلا : " ولكن على انتظار عودة مارى كلود من اجازتها لكى تطبعها . وتأخير ذلك هو مزعج فى الواقع . "

قالت السيدة فجأة : " ربما فى هذه الحال , تستطيع مارغوت مساعدتك فى ذلك , فهى تعمل سكرتيرة لسياسى انكليزى كما علمت . " واستدارت نحو ميغ قائلة : " إننى متأكدة ياعزيزتى من أنك ستكونين مسرورة إذ تنوبين عن مارى كلود . "

شعرت ميغ وكانها استحالت إلى تمثال من الحجر . إن هذه عقبة لم تكن قد تنبأت بها , سواء هى أم مارغوت . وانتابها انفعال شديد فى أعماقها .

وأخيرا . قالت ببرود : " إننى اشك فى قدرتى على المساعدة . فأنا لست طابعة فى الحقيقة . وإنما مساعدة شخصية وربما مهارتى العملية لاترتفع إلى مستوى عمل السيد مونتكورت . "

بدا وكأنها ستواجه مرة أخرى غضب جيروم البارد ذلك , ولكن ذلك لم يدم سوى لحظة قال بعدها بإبتسامة ملتوية وهو يهز كتفيه : " سيكون من دواعى سرورى أن استفيد من مهارتك مهما كان مستواها . "

قالت السيدة دي بريسو : " إذن . فقد استقر بنا الأمر على هذا . والآن فلنذهب لتناول الغداء . "

مشت أمامهما إلى غرفة الطعام متكئة على عصاها . وتبعتها ميغ وقد فارقتها شهيتها للطعام . ذلك أن الدروس المختصة بالتجارة والتى تلقتها فى السنة النهائية من دراستها . لاتؤهلها لأية أعمال سكرتارية , بل لا تكاد تكون لها أية أهمية مقابل العمل المعقد الذى عليها أن تقوم به الآن .

وعندما جلست إلى المائدة . رمقت جيروم بنظرة مشتعلة من الغضب . إزاء نظرة السخرية الممزوجة بالانتصار وشئ آخر بدا فى عينيه لم تستطع فهمه .

وبدا لها وكأن السيدة دي بريسو تحاول أن تدفع الواحد منهما نحو الآخر , ولم تشعر ميغ بالسرور لهذا الخاطر الذى ساورها وهى تحتسى الحساء ., وقالت : " متى تريدان منى أن أبدا العمل ؟ بعد ظهر اليوم ؟ "

أجاب هو بنفس الابتسامة الملتوية : " إننى لا أحب الاستعباد لكى أدفعك للعمل بهذه السرعة . إن الغد هو مناسب تماما . "

وفكرت ميغ باكتئاب فى أن الأمر بأجمعه قد تم بشكل أسرع مما يجب . وكانت فيليبين ترفع الأطباق . لتحضر طبقا يحوى سمكا مشويا مع البازلا والبطاطا وقد رش فوقه البقدونس .

وقال لها جيروم بينما انهمكوا جميعا فى تناول الطعام : " والآن . أخبرينا ما هو بالضبط . عمل المساعدة الشخصية الذى تزاولينه ؟ "

فأجابت ميغ وهى تركز اهتمامها على نزع حسكة من قطعة السمك التى أمامها : " إنه متنوع . "

فعاد يقول بلطف : " إننى متأكد من ذلك . ولكن لابد أن ذى إمكانك إن تذكرى واحدا منها على الأقل ."

قالت : " حسنا . هنالك الأبحاث ." كانت قد سبق وسمعت مرة . مارغوت تذكرهذا . وشعرت بالارتياح إذ تذكرت ذلك وهى تتابع : " كما أننى أساعد فى حل المشكلات التى تحدث فى الدوائر الانتخابية . "

رفع حاجبيه يسألها : " وكيف استطعت التخلى عن مثل هذه المسؤولية لتقضى هنا أربعة أسابيع ؟ لو كنت أنا رئيسك فى العمل لما قبلت ذلك . "
حدقت ميغ فى صحنها وهى تقول : " إن عطلتى السنوية هى ستة أسابيع ,. اما موعد العطلة وكيفيتها . فهذا راجع إلى ,. وعلى كل حال فإن العطلة البرلمانية قد أصبحت قريب . " وتمنت وهى تقول هذا . أن يكون كلامها صحيحا .

قالت السيدة دي بريسو وقد بدا عليها الانزعاج : " ومع هذا , فإن من كرم أخلاقه ان سمح لك بالقدوم إلى . إننى لم أدرك المشكلة التى قد تسببها دعوتى لك حين أرسلتها ."

ابتسم لها جيروم قائلا : " ليس لك أن تقلقى . فأنا متأكد من أن فتاتنا الجميلة مارغوت هى اجمل السكرتيرات . فهى أغلى من أن يفرطوا بها . "

وتشابكت نظراته مع نظرات ميغ كما يتشابك السلاحان قبل المبارزة ما جعلها تجفل بينما تابع هو قائلا :" أليس كذلك يا جميلتى ؟ "

فاجأبت بجمود : " لست أنا من يقرر مثل هذا . "

فضحك بهدوء وهويقول : " إنك متواضعة أكثر من اللزوم . " وانحنى فجأةإلى الامام وهو يتابع : "أخبرينا إذن عن مخدومك ذاك الذى يشبه الامير بين الرؤساء . كيف يبدو ؟ "

قالت السيدة مدابعة : " لا أظن ثمة أى رئيس يبدو أميرا فى عين سكرتيرته ياعزيزى , فهى عادة تعرفه كما تعرفه زوجته . "

قال جيروم وعيناه مثبتتان على وجه ميغ المتفرج وقد بدا الغموض على ملامحه : " هذا أفضل , إن مثل هذه المعلومات الشخصية تنورنا أكثر ."

عضت ميغ شفتها قائلة : "إن أخلاقى تمنعنى من أن اتحدث عن خصوصياته ."

قال ساخرا : " أوه . هيا إنك بين أصدقاء ولا شئ مما تقولينه يمكن أن يسرب خارج هذه الجدران . فأين الضرر فى هذا ؟ إننى متأكد من أنه لن ينتج عن هذا أى ضرر . "

شعرت هى باستياء داخلى , إنهما لن يطلقا سبيلها . فقد كان الاثنان ينظران إليها بتوقع خاصة جيروم .

وبللت شفتيها الجافتين وهى تفكر بسرعة . فى ستيفن كيرتيس . وقالت : " حسنا . إنه طموح وملئ بالحيوية وشديد التحمل . " لم يكن من السهل عليها أن تصف شخصا لم تره إلا على شاشة التليفزيون . وكل ما تعرفه عنه هو بالسماع .

سألها جيروم : " هل هو شاب ؟ "

أجابت : " أظن فى الثلاثينات من عمره . "

نظر إليها بحدة قائلا : " ألست متأكدة من ذلك ؟ كيف تدعين إذن . أن علاقتك به حميمة ؟ "

رفعت وجهها لدى ما ظنته سخرية فى لهجته وهى تقول : " إننى لم أدع شيئا من هذا النوع , فهذه فكرتك أنت وليس لى بها علاقة . "

ورأت عينا جيروم تضيقان , وسكت لحظة ثم قال : "حتى ولو لم تكونى تعرفين عمره . فلابد أنك تعرفين إن كان متزوجا أم عازبا . "

قالت :" بل هو متزوج " وتساءلت بينها وبين نفسها عما إذا كان ما يزال متزوجا حقيقة , أم أن مارغوت قد نجحت فى دسائسها .

سألتها السيدة : " هل هو وسيم ؟ "

هزت ميغ كتفيها قائلة : "أظن ذلك . نعم ." قالت هذا رغم أن نوع وسامة ستيفن كيرتيس لم يجذبها قط , فربتت السيدة على يدها مداعبة : " يبدو لى ياعزيزتى , وكأن هذه الإلفة قد ولدت نوعا من الإزدراء . حسنا . ربما ليس هذا بالأمر السيئ . هل هو الشخص الوحيد الذى اشتغلت معه ؟ "

أجابت ميغ : "نعم . " وفكرت فى أن مارغوت قد خرجت من معهد السكرتارية العالى مباشرة للعمل مع ستيفن كيرتيس فى دائرة رسمية خاصة فى مدينة لندن قبل أن يصمم على ترشيح نفسه للنيابة .

قال جيروم متأملا : " ولهذا كنت قليلة التجارب . ولابد إن يشعر مخدومك بالشكر لي لتوسيعى آفاقك . "

أجابت ميغ وهى تدعو أن يتغير موضوع الحديث : " ربما "

قالت السيدة وهى تشير إلى فيليبين باحضار الحلوى : " آمل أن يستطيع تدبير أموره فى غيابك . "

أجابت ميغ متجاهلة ابتسامة جيروم الهازئة : " ليس ثمة من لايمكن الاستغناء عنه . "

سألها بلطف : " ألا تخافين من أن يوظف أخرى بدلا منك , وذلك أثناء غيابك ؟ "

هزت كتفيها قائلة :" هذه مغامرة كان لابد لى من القيام بها . "

رفع حاجبيه يسالها : "مغامرة أخرى ؟ يبدو أنك تحبين اقتحام الأخطار . "

بقيت الابتسامة التهكمية على شفتيها . ولكن خفقات قلبها تسارعت عندما فكرت فى أن هذا لم يحدث قبل الآن .

ذلك أنه من الممكن جدا أن ينكشف تنكرها هذا . لتطرد من هاوت أرينياك بما تستحقه من الخزى . إذ أنه ليس ثمة شخص عاقل يصدق أن انسانا مليئة بالحيوية . كما وصفت ذلك النائب يمكن أن يتحمل عدم كفائتها هذه لحظة واحدة .

وفكرت فى أن يمكنها أن تخادع . ولكن إلى متى ؟ ربما من الأفضل أن تطرد من المكان ولو أن فشلها سيخلق المشكلات فى منزلها . ولكنها على الأقل . ستنجو من الاغراء حيث يوجد جيروم . وإذا كانت ستتألم لأجله . فمن الأفضل أن يكون هذا بعيدا عنه .

قالت لها السيدة : " إنك تبدين هادئة جدا ياعزيزتى وحزينة أيضا , أليس كذلك يا جيروم ؟ "

فأجاب وهويقشر تفاحة : " ربما كانت تحن إلى وطنها , مشتاقة إلى من تركتهم خلفها . "

قالت السيدة :" هذا طبيعى .يجب أن تتصلى بمنزلك يا مارغوت , لتطمئنى أمك أنك هنا وفى أمان . يمكن ان تستعملى الهاتف الذى فى غرفة المكتبة فى أى وقت . وجيروم سيدلك على مكانه . "

تناولت السيدة عصاها وهى تقف قائلة : " سأصعد الآن إلى غرفتى للراحة . "

قالت ميغ وهى لا تعرف معنى العمل المفروض عليها القيام به : " هل آتى معك ؟ "

اجابت السيدة : "كلا . واستمتعى بحريتك كما تريدين . موعد تناول الشاى هو الرابعة بعد الظهر . وفى نفس الوقت تصل الصحف الانكليزية , وأريدك أن تقرئيها لى . " وتابعت طريقها وهى تمنحمها ابتسامة هما الاثنين .

فتح جيروم لها الباب لتتابع هى طريقها صاعدة إلى الطابق الأعلى تساعدها فيليبين . ثم استدار عائدا إلى ميغ قائلا : "و الآن .هيا إلى الهاتف . "

أجابته بحدة : " ليس ثمة ضرورة للسرعة . "

قال : " هنالك شئ واحد يجب أن تعرفيه حالا . وهو أن ما تريده خالتك هو القانون فى هذا المنزل . إنها تشعر أن أمك لابد قلقة عليك . ومن حقها أن تطمئن وهذا هو المهم . "

قالت بهدوء : " نعم , لم أكن أفكر فى هذا . "

قال : "يجب أن تحاولى ذلك . إن السيدة حسنة الظن بك . وانا لا اريدها أن تشعر بخيبة الأمل بأى شكل كان . "

رفعت رأسها قائلة : " وأنا أيضا .. صدقنى . "فقال وقد استحالت ابتسامته إلى عبوس : " إذن . فقد تفاهمنا تعالى معى إذن . ياجميلتى ."

وخطرلها . وهى تتبعه . إن بإمكانها أن تسير خلفه إلى آخر الدنيا . لو أراد هو , ولو أنها عند ذاك , ستكون أكبر حمقاء فى العالم . وشعرت برغبة فى البكاء لحماقتها هذه.

MooNy87 13-01-19 10:25 AM

الفصل السابع

https://upload.rewity.com/uploads/154736267052051.gif


أعادت ميغ السماعة إلى مكانها وهى تتنهد . لقد حاولت الاتصال بزوجة أبيها ثلاث مرات . وفى كل مرة كان الهاتف يبدو مشغولا . وعليها أن تعاود الاتصال فيما بعد .


وفكرت وهى تجيل نظرها حولها فى رفوف الكتب المكتظة بها المكتبة , فى أن مكتبة آل بريسو هذه تستحق هذا الاسم فعلا . لقد كانت الجدران مرصوصة بالكتب حتى السقف . هذا إذا استثنيا الجدار الذى تقوم فيه الأبواب الفرنسية التى تفتح على الشرفة , وكذلك كانت صناديق الكتب موزعة على أرضية الغرفة . وكانت معظم الكتب مجلدة ومؤرخة بتواريخ القصر المختلفة .

مشت نحو أقرب رف , حيث أخذت تتفحص عناوين الكتب . وتملكتها الإثارة وهى ترى محتوياتها عن قرب . وركعت على ركبتيها تخرج المجلدات وتقلب صفحاتها بكل احترام وعناية .

رأت على الرف , كتابا قد توارى وراءه غيره من الكتب . ولما تناولته وجدت أنه مجموعة أشعار فرنسية قديمة , ولكن الطبعة كانت أكثر حداثة من غيرها من هذا النوع من الكتب .

ابتدأت تتصفحه تفتش فيه عن شعر الأوباد الذى سبق وقرأ لها جيروم شيئا منه . ولكن أملها خاب إذ لم تجده فى هذا الكتاب , مع أن أغلب الاشعار الموجودة كانت تتحدث عن الحب . ورغم أن أغلب الكلمات كانت قديمة مهجورة , إلا أن تعابيرها كانت مألوفة , البحث عن حب . الاشباع العاطفى , فقدان الحب , الذى كان أقوي وأعنف تأثيرا من غيره . كان كل هذا موجودا , كانت مشاعر العذاب والشوق التى تتفجربها أبيات الشعر تلك , من الجدة وكأنها حدثت أمس فقط , وليس فى تلك الايام البعيدة من العصور الوسطى .

جاء صوت جيروم من خلفها يقول : " تبدين مستغرقةجدا . "

جفلت ميغ وسقط الكتاب من يدها وهى تستدير إليه . كان واقفا عند الباب يراقبها وقد وضع يديه فى جيبه .

قالت بخشونة : " إنك .. لقد أفزعتنى . "

فبدا على شفتيه التهكم وهويقول : " هذا واضح . هل أنت عصبية دوما هكذا . "

قالت : " ليس هذا من عادتى . "

قال بلطف : " إننى السبب إذن , إنك تحيريننى فقد كنت أظنك أقوي من ذلك يا جميلتى . "

قالت : " إنك , إذن لاتعرفنى . " وعندما رأت ابتسامته تتسع , تتضرج وجهها وتابعت تقول : "أعنى .. على كل حال , لاشئ مهم . "

قال : " ربما كنا نختلف فى بعض الأمور المهمة . "

أجابت :" أظننا نختلف بالنسبة لكل شئ " واستعادت كتابها من حيث سقط . بيد ترتجف قليلا , ثم نهضت واقفة على قدميها وهى تتابع : " حيث أننى أحب الانفراد بنفسى , فإننى أرجو أن تعيد إلى المفتاح الذى سبق وأخذته من باب غرفتى من فضلك . "

قال : " يؤسفنى أن أرفض طلبك هذا . إذ أننى أظن أن من الأفضل الاحتفاظ به معى , وهذا أكثر أمانا إذ أنك بالنسبة إلى طبيعتك المتوجسة أكثر من اللازم , قد يخطر لك أن تقفلى عليك باب غرفتك ,. وهذا شئ بعيد عن الحكمة لأن الأسلاك الكهربائية فى هذا المنزل هى أكثر اهتراء وقدما من كل ما فى البيت , فإذا حدث وشبت النار, فإنك ستموتين حرقا بينما نحن نحاول أن نكسر باب غرفتك ذاك . "

قابلت ميغ تلك السخرية فى صوته بوجه متحجر وهى تقول : "يوجد طريقة للموت أبشع من هذه ."

قال : " لا أظن ذلك . أم أن فكرتك هذه استوحيتها من قراءتك عن مذابح الكاثار ؟ "

ارتعشت بالرغم منها وهى تقول : "آه , لقد قفزت عدة صفحات مخيفة بعد محاصرة مونت زيغر ."

قال : " لايلومك أحد على ذلك ." وسكت لحظة .

ثم سألها : " ماهى الصفحات التى تقفزينها الآن فى هذا الكتاب ؟ "

أجابت : " إنها قليلة جدا . " لم تكن بالطبع تريد أن تخبره بأنها تبحث عن أشعار الأوباد التى سبق وقرأ لها بعضها . وأشارت إلى ما حولها وهى تقول : "إنه الفردوس هنا . وأنا أتساءل عما إذا كانت السيدة تعرف كم تساوي بعض هذه الكتب ."

رفع حاجبيه متهمكا وهويقول : " هل تحسبين الأشياء الثمينة التى يمكن بيعها لتسديد الديون ؟ "

شعرت وكأنه قد صفعها على وجهها . فقالت : " أؤكد لك أن اهتمامى مهنيا أكثر منه شخصيا . "

قال ببطء : " إنك تذهليننى على الدوام يا عزيزتى مارغوت إذ أرى اهتماماتك تنتقل من الكاثار إلى السياسة والآن إلى الكتب النادرة .. أليس ثمة حدود لخبراتك ؟ "

تمتمت وقد احمر وجهها وبدا عليها الشعوربالذنب بعد إذ أدركت أنها كانت على وشك أن تفضح نفسها , وذلك بفضح مهنتها الاًصلية , قالت متمتمة : " إننى لست خبيرة . إن عندى صديق خبير بالكتب القديمة وكنت أساعده أحيانا ."

فقال بهدوء : " يالها من حياة خلابة , حياتك . ما الذى بإمكانى أن أقدمه إليك لتعويضك عن خسارتك تلك , المؤقتة طبعا . "

كان ما يزال يبتسم . ولكن كان ثمة خطوط حول فمه , بينما ملامحه خالية من التعبير . شعرت بالضيق , وأرادت أن تخرج من هذه الغرفة لتنجو بنفسها من قربه الخطر . ولكنه كان يسد الباب بجسمه ومتعمدا أيضا . كما شعرت .

قالت بهدوء : " ليس عليك أن تقدم شيئا . فأنا راضية تماما بوضعى هذا , وبجانب ذلك . فهذا الشهر مخصص للسيدة .. لعمتى ."

قال بصوت اجش : " ما أجمل تفانيك فى واجبك . وآمل أن تكونى ممثلة جيدة يا عزيزتى , لأنك بحاجة لكى تكونى ذلك . "

هتفت والشعور بالذنب يبدو على ملامحها : " ممثلة ؟ ما الذى تقصده ؟ "

وفكرت يائسة فى ما إذا كانت زلة لسانها الحمقاء تلك عن الكتب قد غيرت فكرته عنها , وجعلته يعرف بأنها مخادعة ؟ وإذا كان الأمر كذلك , فما الذى سيقوم به بهذا الخصوص ؟

ومد يده يمسك بذقنها بغلظة , يدير وجهها إليه , وهو يقول مستهزئا : " يا للبراءة التى يبديها تضرج وجهك هذا , بينما نحن الاثننين , نعلم أن براءتك هذه مجرد رياء , أليس كذلك يا عزيزتى ؟ " وانخفض صوته إلى درجة الهمس وهو يتابع قائلا : " ما الذى تفعلينه هنا يا مارغوت ؟ ما الذى أغراك بالابتعاد عن عملك . عن مهنتك العالية وحياتك اللاهية واصدقائك الكثر , وذلك لكي تأتى لتمضى أربعة أسابيع طويلة فى هذه العزلة الريفية هنا ؟ "

أجابت : " لقد أرسلت السيدة تطلبنى . "

ضحك بخفة وهو يقول : " وهكذا تخليت عن كل شئ وكل شخص على الفور . إن الشخص يكاد يظن أنك هاربة من شئ ما . من وضع لم تعودى تستطيعين التحكم فيه . مثلا . "

تراجعت خطوة إلى الخلف وهى تقول : "إن هربى ذاك إنما مجرد تصورات منك أيها السيد , ولا أدرى ما الذى يجعلنى أخضع لكل هذه الأسئلة الدقيقة منك . " وارتفع صوتها قائلة : " إن هذا ليس من شأنك أبدا . "

قال : " إنك مخطئة . ذلك أن كل شئ يؤثر على السيدة مارغريت يهمنى ., فكونى حذرة . "

أطلقت ضحكة سريعة وهى تقول : " تبا , لقد سبقك أوكتافيان إلى تحذيرى , والآن أنت أيضا تحذرنى ., لقد ابتدأت أشعر بالأسف لحضورى , والآن أرجو المعذرة فأنا بحاجة إلى بعض الهواء النقى . "

وتوجهت نحو الباب المؤدى إلى الشرفة راجية ألا يكون مقفلا , ولكن مقبض الباب استدار فى يدها بسهولة , وتبعها صوت جيروم قائلا بخشونة : " وأنا أيضا أشعر بالأسف لذلك , إننى أتمنى من كل قلبى يا جميلتى , لو لم أكن قد قابلتك قط . ولكن الأوان قد فات الآن . "

لم تنظر إلى الخلف . ولكن صدى كلماته ما زالت تلاحقها وهى تخرج إلى الشمس . لقد قال إن الأوان قد فات .. نعم , لقد فات الأوان حقا بالنسبة إليها , وذلك عندما أصبح قلبها أسيرا . بصورة دائمة , لجيروم مونتكورت الذى لم يكن ليضمر لها سوى الإزدراء .

كان الجو حارا والنسيم ساكنا عندما نزلت ميغ من الشرفة إلى الحديقة . ولم يكن هذا المكان ذو الجو الخانق بالذى يصلح لجلوسها , رغم رغبتها فى الانفراد بنفسها , كانت تفكر فى ذلك , وهى تسير مفتشة عن مكان ظليل تجلس فيه .

وبعث فى نفسها الحزن أن ترى الوهن يدب فى هذه الحديقة بنفس النسبة التى يدب فيها في المنزل , وذلك أثناء سيرها بين الأجمات والأعشاب البرية المتطاولة والتى تحتاج كما أخذت تحدث نفسها , إلى جيش لتشذيبها وتنظيمها . واستدارت حول زاوية ثم توقفت شاعرة بالسرور وهى ترى المكان الذى قادتها إليه خطواتها . ذلك أن شخصا ما قد غرس هنا . منذ وقت بعيد ورودا من أنواع ممتازة ما زالت تتذكرها منذ الطفولة , كانت ورودا غرسها أبوها بنفسه فى حديقته وغمرها بحبه , وهويغذيها ويعتنى بها كأحد أولاده .

رفعت ميغ وجهها تنتشق عبير هذه الورود وقد غمرها الحنين . لقد اجتثت ايريس زوجة أبيها كل هذه الورود , بعد وفاته لتغرس مكانها ورودا مهجنة عديمة الرائحة مقاومة لأمراض النباتات , وهى ترد على احتجاج إبنة زوجها باقتضاب : " إن هذه أقل إزعاجا . "

جلست ميغ على المقعد الحجرى وقد عادت بها الذكريات إلى زواج أبيها من ايريس بعد سنوات من ترمله , لقد تزوجها فى خلال أسابيع قليلة من تعارفهما , غامرا إياها بعواطفه المحمومة التى لم تسمح له برؤية عيوبها . وفكرت ميغ بحزن , فى أن شعوره بالوحدة هو الذىجعله يغرق فى حبها بهذه السرعة والعنف , وكان فى هذا درس لها هى أيضا , يجب ألا تنساه مهما كان وضعها .

وحدثت نفسها بأنها هى أيضا , تشعر بالوحدة وجيروم مونتكورت الرجل الوحيد الذى أظهر اهتماما بها . ولكنه إنما كان يسلى نفسه لا غير وعليها ألا تنسى ذلك . فهى ترى بنفسها النهاية التعسة لمثل هذا الحب .

واعترفت بأن ايريس قد أسعدت أباها فى السنوات الأخيرة من حياته , وهذا فقط ما يجعلها شاكرة لها , إذ أن هذه ما ان صارت ارملته ووضعت يدها على أملاكه , حتى تغيرت كليا وقضية المربية والكوخ الذى تريد الآن اخراجها منه متجاهلة وصية زوجها لها , هذه القضية هى مثال لتصرفاتها تلك .

قالت تناجى أباها وقد برح بها الحزن : " آه , يا أبى . لماذا لم تترك هذه الوصية كتابة بدلا من أن تثق بزوجتك إلى هذا الحد ؟ فلو كنت فعلت لما كنت أنا هنا الآن , على وشك أن أصبح محطمة القلب ..."

وغامت أمام عينيها تفاصيل الورود وهى تغطى وجهها بيديها . تنشج بالبكاء كما لم تبك منذ سنوات , ذلك أن الضياع امتزج بإثارة عواطفها من ناحية جيروم .

" مارغريت "

ولأن التفكير فى جيروم كان مستحوذا على كيانها , فقد خالت هذا الصوت من تصوراتها . ولكن اللمسة الخفيفة على كتفها جعلت الأمر حقيقة , ورفعت ناظريها إليه وهى تشهق لتراه , واقفا كتمثال قاتم فى وهج الشمس .

قالت : " ماذا تريد ؟ "

تأملها عابسا وهويقول : " لقد طلبت منى السيدة أن أبحث عنك , ما الذى حدث ؟ هل أتتك أخبار سيئة من بيتكم ؟ "

كانت قد نسيت المخابرة الهاتفية التى فشلت فى إجرائها , فتحركت وهى تزيح يده عن كتفها قائلة : " كلا , لا شئ هناك ."

قال : " ليس ثمة من يبكى بهذا الشكل للاشئ . " وأخرج من جيبه منديلا نظيفا ناولها إياه , ناظرا إليها وهى تمسح الدموع عن وجهها . واشتمت فى المنديل رائحة الكولونيا التى يضعها بعد الحلاقة , وكبحت آهة كادت تفلت منها إذ كانت تدرك أنه يحدق النظربها .

قال بلطف : " لا أظن أنك كنت صادقة تماما معى يا جميلتى . "

وكاد يتوقف قلبها عن الخفقان وهى تقول : " ماذا تعنى ؟ "

فأجاب : " لأنك سبق وقلت ان ليس ثمة رجل فى حياتك فى بلادك . " واشتدت لهجته وهو يتابع : "ولكن هذا كان كذبا , لأن مثل هذه الدموع هى لأجل رجل , أليس كذلك ؟ أجيبينى يا مارغوت , أخبرينى بالحقيقة هذه المرة . "

صعدت إلى شفتيها كلمات تحوى إنكار غاضبا ولكنها سرعان ما ردتها وهى تفكر فى أنه , إذا هو ظن أنها تحب شخصا آخر فإن هذا يمنحها ستارا تتوارى خلفه .. عذرا هى فى حاجة ماسة إليه لكى تبقيه بعيدا عنها .

أبعدت شعرها عن وجهها وهى تنظر إليه قائلة بلهجة واضحة : "نعم . إننى ابكى لأجل رجل أحبه , إننى أعترف بذلك . " ولقد كانت هذه هى الحقيقة على كل حال , وعلى جيروم أن يفسر كلامها هذا كما يشاء فهذا شأنه هو . وتابعت تقول متحدية : " هل أنت راض الآن ؟ "

قال لاويا شفتيه : " طبعا , ما دمت جعلتك تؤكدين لى ما سبق وعرفته . "

قالت : " هل لك أن تتركنى وحدى الآن ؟ "

هزرأسه قائلا : " هذا مستحيل . ونحن الاثنين نعرف هذا . " والتقط كتاب الشعر الذى كان قد سقط منها على العشب بجانبها , وناولها إياها وهو يتابع قائلا : " إن السيدة تريد منا أن نذهب غدا إلى مدينة ألبى , لنسوى مسألة السيارة . "

قالت بحدة : " شكرا , ولكن فى استطاعتى أن أقوم بهذا العمل بنفسى . إننى لا اريد حارسا بجانبى . "

رفع حاجبيه قائلا : " وكيف ستذهبين إلى هناك ؟ "

أجابت : " أظن هنالك مواصلات عامة . "

أجاب : " نعم , هناك باص , ولكن ليس غدا . " فعضت شفتها قائلة : " سأستعمل إذن سيارة السيدة . فإن أحد الأسباب لقدومى هنا هو قيادة سيارتها . "

قال : " نعم هذا صحيح , ولكنى أريد أن أطمئن شخصيا ألى أهليتك فى قيادة سيارتها ."

قالت وهى تهب واقفة : " كيف تجرؤعلى هذا القول ؟ إنك تعلم أن بإمكانى قيادة السيارة , وقد كنت أقود سيارة عندما تقابلنا . "

قال : " كلا , بل كنت واقفة فى الطريق فى انتظار شجرة تسقط عليك يا جميلتى . وهذا لايدل على شئ . إن خالتك إذن تريدنى أن أصحبك غدا لنتأكد من أن كل شئ على ما يرام . والآن إذا كنت لا تريدين مواصلة هذه المجادلة العقيمة . فأنت حرة فى الذهاب إليها . "

وعندما استدارت ميغ مبتعدة عنه . سمعت صوته وهو يضيف قائلا بهدوء : " هذه المرة . "

وفى غرفة السيدة دي بريسو . كانت مصاريع النوافذ مغلقة وسرت ميغ للعتمة الخفيفة التى تسود المكان والتى تستر آثار الدموع على وجهها , وكانت السيدة مستلقية على السرير , مستندة إلى الوسائد خلفها , وقد غطت ساقيها بشال من الحرير . وكانت قد وضعت نظارتها القاتمة جانبا بينما بدا الارهاق على وجهها .

حيت ميغ بابتسامة باهتة وهى تقول : " تعالى واجلسى بجانبى يا عزيزتى . " ومدت يدها تقبض على يد ميغ بشدة هى تستطرد : " إن وجودك هنا حسن جدا إذ منحنا الفرصة لنكون أصدقاء , أليس كذلك ؟ "

قالت ميغ بسرعة : " نعم .. نعم , طبعا . " ولكن شعورها بخداعها اشتد وقعه على نفسها .

عادت السيدة تقول : " إن هذا يجعلنى سعيدة . " وسكتت برهة ثم استطرد قائلة : " إن جيروم كان متشككا بالطبع , بالنسبة لطريقة حياتك فى انكلترا , والفرق بين عمرينا وقد شعر أنه كان على أن استشيره قبل أن أرسل بدعوتك . "

قالت ميغ : " يبدو أن السيد جيروم مونتكورت يريد أن تكون كل الأمور . هنا حسب مشيئته . "

قالت السيدة بعد فترة صمت : " لقد كانت أسرتنا وأسرته دوما جارتين وقد كنت .. سعيدة جدا حين عاد ليقيم فى منزله , فقد بقى المنزل سنوات طويلة دون رجل . وكانت عودته نعمة على , لأننى صرت استطيع ان استعين بخبرته فى خطتى لاصلاح ما أفسده الاهمال الطويل فى هذا المنزل . " ابتسمت وهى تتابع : " وهو قد جدد حيويتى أيضا . "

وحدقت فى ميغ بعينيها الكليلتين وهى تستطرد :" ربما تتساءلين عما جعل الأمور تتأخر طيلة ذلك الزمن . ولماذا لم تكن الاصلاحات الضرورية تجرى فى المنزل كما يجب . "

قالت ميغ : " قد خطر لي هذا فعلا . "

قالت السيدة ببطء : " لم تكن تلك رغبتى . ولكن زوجى لم يكن ليسخو بالمال فى سبيل اصلاح المنزل , ذلك أنه عندما أدرك أننا لن نرزق أولادا , وأنه سيكون آخر فرد من سلالته , بدا وكأنه قد فقد كل اهتمام بالمنزل , وكأنما كان يريده أن ينمحى من الوجود . ولم يكن بإمكانى اقناعه بغير ذلك , بأية وسيلة . "

قالت ميغ : " إن هذا أمر معيب حقا , كيف أمكنه التصرف بهذا الشكل ؟ "

فهزت العمة كتفيها وهى تقول : "اظن ان المسألة كانت بالنسبة إليه , كما قالت السيدة دي بومبادور ( من بعدنا الطوفان ) . لقد كانت اهتمامات هنرى منصرفة إلى أمور أخرى . "

قالت ميغ : " ولكن من الممكن أن يصبح مثل هذا المكان رائع الجمال . "

فقالت العمة بقوة : " سيصبح كذلك . إن جيروم هو خبير فى الاصلاح والترميم . وسيعود قصر هاوت أرينياك متألقا كما كان . وسترين ."

قالت ميغ بحذر : " أرجو ذلك . "

فقالت العمة وهى تلوى شفتيها : " لايبدو عليك الاقتناع بهذا الكلام يا عزيزتى . ولكن عليك أن تثقى به , إننى أريدكما أن تكونا صديقين , وهذا شئ يهمني جدا . "
ونطقت جملتها الأخيرة بإلحاح مفاجئ .

فقالت ميغ بهدوء : " إننى لا أعرف فى الحقيقة , ما إذا كان هذا ممكنا . "

اشتدت أصابع العمة على يدها وهى تقول : "هل الأمر سيئ إلى هذا الحد ؟ لقد كان صوت وقع خطواتك وأنت قادمة إلى غرفتى مضطربا , كما تراءى لى . وكذلك يدك كانت ترتجف قليلا . هل كان جيروم يضايقك ؟ "

عضت ميغ شفتيها وهى تقول : " يمكنك أن تقولى هذا . "
ومع أنها مسحت عينيها من الدموع جيدا , فإنها سرت لعدم استطاعة السيدة أن ترى وجهها .

ضحكت السيدة دي بريسو وقالت بعطف بالغ : " إن ذلك الفتى لايمكن تقويمه , فهو مولع بالاغاظة , إنه يشبه جده فى صفات كثيرة , كما يحمل اسمه أيضا . " وتنهدت وهى تتابع : " ولكنه طبعا , لا يضمر لك أى ضرر ,. ويجب أن تثقى بكلامى . كما أن لقاءكما الغريب ذاك أثناء تلك العاصفة . كان شاعريا تماما . ألا تظنين ذلك ؟ "

حنت ميغ رأسها تجيبها : " لقد كنت فى حالة من الرعب بحيث لم ألحظ ذلك . "

تركت السيدة يد ميغ برقة وهى تقول : " ولكن شكرا على سلامتك فى ذلك الحين . وطبعا الشكر لجيروم . إن الصينين يعتقدون أنك إذا أنت انقذت حياة أحد فإنك ستبقى مسؤولا عن تلك الحياة إلى الأبد . "

أرغمت ميغ نفسها على الابتسام قائلة : " حسنا . إن فى إمكانى العناية بنفسى . وهذا ما كان عليك أن تهتمى به , إذ أن هذا الوقت هو وقت راحتك كما أظن . "

تجهمت ملامح السيدة وقالت : " لم يكن من السهل على هذا النهار . أن أنام , وذلك لشدة سعادتى بوجودكما . أنت وجيروم معا تحت هذا السقف . " وتنهدت وهى تتابع قائلة : " إن عقلى مشتت . "

سألتها ميغ برقة : " هل تريدينى أن أقرأ لك ؟ إن الصحف لم تصل بعد , ولكننى وجدت كتاب شعر رائعا فى المكتبة . "

بدا وكأن السيدة جفلت قليلا وهى تقول :" أحقا ؟ أيمكن أن تعطينى إياه ؟ "

ووضعت ميغ الكتاب بين يديها , فأخذت هذه تقلبه وتتحسسه برقة بالغة . ثم قالت : " ثمة قطعة من الشعر تبتدئ بكلمات هى ( حبى الوحيد , حبيبتى التى تسعدنى ) هل يمكنك أن تجديها , يا عزيزتى ؟ "

واستلقت إلى الخلف مغمضة عينيها , عندما ابتدأت ميغ تقرأ بشئ من الصعوبة فى البداية , وتعثر لسانها ببعض الكلمات والجمل الصعبة المهجورة . وعندما أنهت أول قطعة أتبعتها أخرى . وهى تخفض من صوتها شيئا فشيئا , إلى أن أنتظم تنفس السيدة دي بريسو معلنا استغراقها فى النوم .

وتركت ميغ الكتاب يسقط فى حجرها , ومضت تتأمل ذلك الوجه النبيل أثناء سكنه , ورأت أن هيكل السيدة قد تحدى الأيام . ولم يكن هنالك شك فى أنها كانت رائعة الجمال فى زمن مضى . ورأت كذلك , أثار دموع الوحدة والعزلة على خديها .

ألقت نظرة على الكتاب , وهى تتساءل عما إذا كان فيه ما يذكرها بزوجها الراحل , لما أحدثه من ردة فعل عندها حينما أبتدأت هى تقرأ لها فيه , ربما كان هذا الكتاب له , أو ربما كان يشير إلى علاقة غرامية غامضة .. وفتحت الكتاب على الصفحة الداخلية البيضاء لتجد كتابة , بخط اليد بهت لونها بمرور الزمن ولكنها ما زالت مقرءوة . وكانت تقول ,. ببساطة : ( إلى مارغريت . من كل قلبى .. ج )

وحدقت ميغ فى هذا الحرف ( ج ) الموقعة به هذه الكتابة . ولكن السيد دي بريسو زوجها كان اسمه هنرى . وأغلقت الكتاب وقد ساورها شعور بالضيق فى أنها أقحمت نفسها فى مسألة خاصة جدا . ذلك أن هذا الكتاب كان يعنى شيئا خاصا للعمة , ولكن ليس كما تصورت هى . وبدا عليها خيبة الأمل إذ بدا لها , تبعا لما سبق وأخبرتها هذه المرأة المسنة . أنها قد تركت وشأنها فترة طويلة . هل معنى أن السيد دي بريسو قد أهمل زوجته الانكليزية بنفس الطريقة التى أهمل بها منزله ...؟

وعاودها صوت أوكتافيان الخشن يقول بنفور وكراهية ( انكليزية ) أوكتافيان الذى خدم جيروم الأول ... جيروم مونتكورت الآخر إلى أن ترك هذا , المنزل دون عودة .

ازدردت ريقها وهى تتذكر بعض الكلمات الغرامية الملتهبة , والتى تشكو الحرمان وفقد الحبيب التى قرأتها منذ فترة بصوت عال . هل كان هذا ما حدث ؟ كانت تتساءل بذهول , عما إذا كان جد جيروم قد وقع فى غرام جارته الجميلة الوحيدة , ليتخلى عنها بعد ذلك , متملصا من كل ارتباطاته . لم تكن تعرف ما الذى حدث بالضبط بالنسبة لهذه الورطة , فى ذلك الحين . ولكنها تعرف أن الطلاق فى ذلك الحين لم يكن سهلا أبدا .

هل كان هذا هو فى ان يرغم جيروم الجد على أن يهجر منزله ليعيش فى المدينة ؟ وهل هذا هو سبب كراهية أوكتافيان المرة لكل ماهو انكليزى ؟ وهو أن سيده المحبوب أرغم على الرحيل بسبب تورطه مع انكليزية ؟

كان كل هذا معقولا إلى درجة مروعة , وهى تفسر عاطفة السيدة دي بريسو وثقتها فى جيروم الحالى .

عادت إلى ذاكرتها كلمات فيليبين ( إنه كالإبن الذى لم تحصل عليه قط ) وتوقف قلبها عن الخفقان وهى تفكر فى أنها هى طبعا , كانت ابنتها الروحية المسنة , أو كما تفترض السيدة بها على الأقل . فتاة استدعيت إلى هذا المكان بالذات وفى هذا الوقت بالذات ولكن لأى سبب ؟

ازدرت ريقها وهى تفكر فى كلمات السيدة , ( أريدكما أن تصبحا صديقين . وهذا شئ يهمنى جدا ) .

وفكرت ميغ فى أنها ربما كانت مبالغة فى تصوراتها , ولكن هل من الممكن أن يكون وراء دعوة السيدة لمارغوت غرضا أعمق مما تصورته هذه ؟

الابن الذى لم تنجبه قط والفتاة التى فقدت الاتصال بها , جمعتهما معا تحت سقف واحد . كما أعلنت العمة منذ برهة , وهى فى غاية الابتهاج لتلقى بالواحد منهما بين ذراعى الآخر مدة أربعة أسابيع كاملة تحت شمس لانغيدوك الملتهبة . هل كانت هذه خطة السيدة السرية ؟ الحلم الشاعرى بإعادة خلق الماضى ؟ وللاطمئنان إلى أن ميراث هاوت أرينياك سيستمر إلى الجيل القادم ؟

إذا كان الأمر كذلك , فهو جنون محض محكوم عليه بالفشل لعدة أسباب . السبب الأول هو بالطبع الوضع المخادع لميغ والذى يسبب لها ندما هائلا , أما السبب الثانى فهو الصديقة القديمة التى اتصلت به عند وجودها فى مسكنه . ذلك أن الدفء الذى كان فى لهجته وهو يتحدث إليها . لاتخطئه . اذن كان واضحا من أن ثمة علاقة عاطفية متينة تربط بينه وبين امرأة أخرى .

ولكن , إلى أى حد يعرف جيروم خطة العمة إذا كانت موجودة فعلا خارج تصوراتها ؟ وإذا كان يعرف فهل هو يقبل مثل هذا الزواج المدبر , من غريبة ؟ وذلك فى سبيل أن يصبح سيد قصر هاوت ارينياك ؟ وذكرت نفسها , وهى ترتجف . كيف ابتدأ محاولاته لإيقاعها فى حبه .

وبعد . ما الذى تعرفه هى عنه ؟ فى الحقيقة . لقد كان غامضا منذ البداية . كان جسما قاتما إنبثق عن العاصفة بنفس الخصائص التدميرية .

لقد كانت دوما فى انتظار ذلك الحب الذى سيطرق قلبها بكل رقة وعذوبة , متطورا من صداقة تغذية ميول مشتركة .

وليس مثل هذا الشعور الكاسح المعذب المحطم للقلب والحافل بالرغبة والذى هو لا يشاركها به , وليساعدها الحظ . كانت تلك هى الحقيقة المرة التى عليها أن تتمسك بها مهما كلفها ذلك دون النظر إلى أى اعتبارات أخرى .

شوقه . ولهفته . كل هذا لم يكن لها قط . بل كانت لمارغوت ترانت وعندما تتذكر هى هذا . يمكنها عند ذاك , أن تحفظ نفسها بأمان .

وبهدوء . وضعت الكتاب على المنضدة بجانب السرير . لتخرج بعد ذلك . من الغرفة على رؤوس أصابعها .

MooNy87 13-01-19 10:29 AM

الفصل الثامن

https://upload.rewity.com/uploads/154736267052051.gif

أنهت ميغ قهوتها , وكذلك آخر فتات قطعة البسكوت التى قدمت معها , فقد كانت مسرورة بجلوسها هناك تحت المظلة فى ذلك المقهى على الشارع لتراقب المارة . ولكن الوقت قد حان الآن لكى تذهب لملاقاة جيروم , كما كان مقررا , خارج الباب الجنوبى للمعبد .


وتنهدت وهى تشعر بالانفعال يجتاحها . لم يكن بإمكانها تجنب مرافقته هذا النهار , فقد أدلت برأيها فى إمكان استقلالها . وذلك على مائدة العشاء فى الليلة السابقة , ولكن السيدة كانت شديدة العناد فى أن يرافقها إلى مدينة آلبي قائلة لها : " فقط ., بالنسبة لأول مرة يا عزيزتى ."

وقد استمتع جيروم بخيبتها هذه . ثم تمنى لهما ليلة طيبة بعد العشاء مباشرة . ليخرج بعد ذلك , ولم تسمح ميغ لنفسها بالتكهن بالمكان الذى قد يكون قد ذهب إليه , أو من عسى أن يكون مرافقا , فى هذه الليلة الهادئة .

وكان الاضطراب لايزال يتملكها وهى تنطلق من أرينياك فى الصباح الباكر , تقود سيارة الستروان التى مازالت . لشدة العناية بحالة رائعة رغم قدمها .

لقد قال جيروم , أخيرا بأدب : " إذا شئت أن تصلى إلى آلبي هذا النهار يا جميلتى . فعليك أن تتابعى القيادة دون أن تستمرى فى اعتبارى مراقبا عليك . "

وانتهت الاجراءات المعتادة بالنسبة للسيارة المستأجرة بسرعة دون أن يغفلوا عن تقديم التهانى لها بنجاتها من هذا الحادث .

وفكرت عابسة فى نجاتها هذه التى كانت أشبه من الذى ينجو من المقلاة . ليقع فى النار .

وأثناء ليلة انتابها فيها الأرق . أخذت تقلب فى ذهنها ما إذا كان من الأفضل أن تكشف اللعبة التى تقوم بها , قبل أن يزداد الضرر .

ولكن تفكيرها فى الواقع الذى سيكون لهذا , والذى لا يمكن تجنبه . منعها من ذلك . كان عليها ان تبقى على صمتها لأجل مصلحة مربيتها .. وكذلك لأجل السيدة دي بريسو . إذ أن العمة ستكون فى غاية الاستياء عندما تعلم ان ابنتها الروحية قد استعملت الابتزاز لكى تجعل فتاة أخرى تحل مكانها فى مرافقتها , وستتألم أيضا . ويكفى مقدار الحزن المرتسم على وجهها الآن .

ربما لا تريد أن تعلم ان مارغوت الحقيقية فتاة أنانية تبحث عن المال , وتحب رجلا متزوجا , وأن هذا هو السبب فى هذه التمثيلية الخادعة . وان من الأفضل ان تبقى العمة على هذا الوهم أطول وقت مستطاع . باستثناء الوقت الذى ستتورط فيه مع جيروم فى المستقبل . عليها ان تذكر دوما هذه المقررات . إلا إذا كان الأمر كله مجرد تخيلات منها ...

خاطبت نفسها بعناد , إنها لاتظن أن الأمر إنما هو تخيلات منها . ونظرت فى ساعتها , ثم أشارت إلى النادل ليحضر لها قائمة الحساب . وقبل أن تنصرف إلى موعدها بجانب المعبد . كان عليها أن تتصل هاتفيا من المقهى

وكانت العمة قد سألتها ليلة أمس عما إذا كانت قد أجرت الاتصال الهاتفى مع منزلها فى لندن , وقد دلتها على الهاتف الذى فى الصالة . وكانت تخشى من أن تسمع العمة حديثها باجمعه بما قد يتضمنه أشياء محرجة , ولكنها شعرت بالارتياح إذ وجدت الخط مشغولا مرة أخرى .

ولما حاولت مرة أخرى . هذا الصباح من المقهى , استغربت لأن تجد نفس النتيجة . ولما حاولت أن تتصل بمربيتها قابلها الخط هنا أيضا . بعدم الجواب .

حدثت نفسها وهى تضع السماعة , بأنها قد حاولت على كل حال , ولكن كان عليها أن تكرر ذلك من القصر أثناء راحة العمة فى غرفتها . إذا أمكنها ذلك .

كان جيروم فى انتظارها عند المدخل الجنوبي لذلك المعبد .

سألته : " هل ترانى تأخرت ؟ "

فاجاب : " إن مواعيدك دقيقة بشكل رائع . "

سألها وهو ينظر إلى المعبد ببنائه الضخم ذى القرميد الأحمر : " هل تريدين أن ترى متحف رسومات لوتريك ؟ "

دهشت ميغ وقالت : " ظننت أننا راجعان إلى المنزل مباشرة ؟ "

رفع حاجبيه قائلا : " لماذا ؟ إنها مدينة رائعة الجمال . "

فأجابت : " إننى متأكدة من ذلك , ولكن هذا لايعنى أننا نحن الاثنين , بامكاننا أن نمضى النهار هنا ."

فسكت لحظة ثم قال : " هل نعلن بيننا هدنة يا مارغريت . لكى أريك المدينة ؟ "

وفكرت فى أن لم يحاول استنكار قولها ذاك . ونظرت إلى ابتسامته الهازلة وعينيه المتألقتين , شاعرة بقلبها يتوثب بين أضلعها .

قالت : "حسنا . فليكن ذلك ."

كان متحف الرسام لوتريك قائما فى باليه دى لابيربي وهو قصر قديم .

قالت ميغ وهى تنظر إلى رسوم المولان روج الصاخبة : "إننى أشعر تقريبا وكأننى اجتمع بأصدقاء قدماء . "

سألها : " أتعجبك ؟ "

فأومات برأسها قائلة : " نعم ., ربما لأنها مألوفة لدى . ولكننى فى الحقيقة . أفضل تلك الرسوم التى سبق ورأيناها قبل هذه والتى تمثل أفراد أسرته وأصدقائه . إنها أكثر هدوءا وتأثيرا فى النفس . " وتنهدت وهى تتابع : " إننى أتساءل عما كانت ستؤول عليه حياته , لو لم يكن معاقا ."

فقال : "ربما . عند ذاك . كان سيعيش حياة تقليدية فيتزوج وينشئ أسرة . فتصهر بعض عواطفه المحمومة التى وضعها فى فنه هذا , لتتلاشى فى نشاط حياته الاعتيادية تلك . "

قالت ميغ بشئ من الاكتئاب : " ربما الأفضل لو كان أمضى حياة سعيدة ."

فقال : " ولكن النهايات السعيدة ليست ممكنة , على الدوام ألم تتعلمى ذلك بعد ؟"

فكرت , وهما يخرجان إلى اشعة الشمس مرة أخرى , فى أنها لم تتعلم ذلك رغم أنها سائرة فعلا إلى تلك النهاية غير السعيدة .

أخذها إلى القسم القديم من المدينة , حيث جالت فيها تكتشف أنحاءها بسرور بالغ , خاصة وهما يجتازان الأزقة الضيقة ببيوتها الخشبية , وكانت البيوت الجاثمة على حافة النهر مبنية كلها من الحجارة الحمراء الوردية .

قال جيروم : " إن مدينة آلبي أعطت اسمها طبعا ,. للذين غزوا المدينة وهكذا صاروا يدعون البيجنزيان . وقد بقى بعض الكاثار وآثارهم فى هذه المدينة بالرغم من المذبحة الكبرى المدعوة مونت زيغر . "

قالت متأملة : " ومع ذلك , لايبدو أثر للحزن هنا , يبدو أن مدينة آلبي قد تصالحت مع ماضيها . "

فقال : " كل شئ يمحوه الزمن ."

هزت رأسها ساهمة .. نعم , وكذلك يمحو الزمن آلام الحب . وتعاسيته , وحماقاته ...

قال بنشاط : " والآن , إلى الغداء . "

فعضت شفتها قائلة : " وهل لدينا الوقت لذلك ؟ أليس علينا أن نعود إلى البيت ؟"

قال متصنعا الفزع : " فى مثل هذا الوقت من النهار ؟ عليك ان تتعلمى التفكير كامرأة فرنسية يا عزيزتى ."

أمسك بذراعها يقودها بين جموع السائحين المتسكعين على الأرصفة .

اجابته بجمود : " لا أظن ما قلته ضروريا . فأنا سأعود إلى ديارى بعد فترة قصيرة . "

أجاب : " ربما استطعنا اقناعك بالبقاء مدة أطول . "

هزت رأسها قائلة دون ان تنظر إليه : " لا أظن ذلك ."

قال : " إنك تقولين ذلك الآن . ولكن من يعلم ما يخبئ القدر لنا نحن الاثنين ؟ "

تجاهلت كلامه , وبقيت على اصرارها قائلة : " على كل حال . أنا لست جائعة . "

قال باختصار : "حسنا . أنا جائع , ويمكنك أن تجلسى وتتفرجى على . " ومد يده يجذبها بثبات انما برقة فى الوقت نفسه ., مما لم يدع لها خيارا إلا بالسير معه .

أخذها إلى مطعم صغير فى شارع جانبى ضيق مزدحما بالزبائن . ووجدت نفسها تجلس على مقعد مستطيل بجانب جيروم حيث أخذا يتسطلعان أنواع الطعام المخطوطة باليد على القائمة .

كانت ميغ قد قررت أن تبقى بمعزل عن كل هذا . لكن رائحة الطعام الآتية من المطبخ حرك شهيتها , وبارشاد جيروم وجدت نفسها أمام طبق من الرافيولي , تبعه طبق من لحم الخروف مطبوخا بالثوم والتوابل .

وعندما انتهت من الطعام , قالت : " يبدو أننى لا اقوم بشئ سوى الاكل . "

قال وعيناه تبتسما لها من تحت أهدابهما الكثيفة : " إن زيادة قليلة فى الوزن يناسبك , وإنما ليس كثيرا طبعا . "

شعرت بالدم يتصاعد إلى وجهها , ورفعت كأس العصير إلى فمها تدارى بذلك اضطرابها .

قال لها : " ما أسرع ما يتضرج وجهك . ما كنت متوقعا ذلك . "

قالت : " وما الذى كنت تتوقعه ؟ "

بقى صامتا لحظة , ثم قال : " كيف يمكننى أن أشرح الأمر ؟ صحيح ان ما كانت تتذكره السيدة دي بريسو عن طفولتك جعلنى .. أهتم بالأمر , ولم أشأ لها أن تأمل خيرا من إعادة الصلات . "

سألته : " هل ظننت بأن أملها سيخيب ؟ "
هز كتفيه قائلا :" كان هذا ممكنا . ذلك أنها لم ترك مذ كنت طفلة . وكان انطباعها عنك غير حسن . "

قالت : "تبا .. هل كانت تصرفاتى مخيفة ؟ "

قال : "إنها تتذكر أنك كنت مدللة . أكثر نضجا من سنك . تتطلبين الصدارة فى كل شئ وتركيز الأخرين اهتمامهم فى شخصك وتفرضين أراءك وحدها فى كل أمر ."

قالت باشمئزاز : " وبكلمة مختصرة , طفلة مفسودة , ولكننى أظن أن تلك مرحلة من العمر يمر بها كل شخص . "

وفى نفسها . فكرت فى ان البعض لايتغير تماما مثل مارغوت الأنانية عديمة الرحمة , ورفعت إليه نظرها وهى تقول : " لا أظنك تحاسبنى على هذا , أم ان هنالك شيئا آخر ؟ "

وبقيت ملامح وجهه خالية من التعبير وهويقول : " وماذا يمكن ان يكون هناك ؟ إن كل ما يهمنى هو حماية السيدة مارغريت . فقد لاقت من الشقاء فى حياتها ما يكفى ."

وحدقت لحظة فى غطاء المائدة الأبيض النقى . ثم قالت : " هل تعرف زوجها ؟ "

هز رأسه بالنفى قائلا : "أعرفه بالسماع فقط . فقد توفى منذ سنين كثيرة . " ودلت لهجته على أنه يعتبر وفاة هنرى دي بريسو ليس أمرا ذا شأن .

قالت ميغ بعناية : " فهمت أن زواجهما لم يكن ناجحا . "

أجاب عابسا : " لقد كان كارثة , لقد كان حبهما عبارة عن افتنان عابر اشتعل ثم خمد فى خلال سنة واحدة , تاركا إياهما مقيدين الواحد بالآخر . لقد كان هنرى يكره الحياة فى الأرياف , وهكذا ترك مارغريت وحدها فى القصرلتعتنى بأرثه , بينما أمضى هو حياته بين ميادين السباق والنوادى . وكان يعود إلى البيت عندما يحتاج إلى نقود فقط . وكانا . أحيانا يصلان إلى تسوية سرعان ما يتمكله الضجر , فيرحل ."

سألته بشئ من الدهشة : " هل اخبرتك هى بكل هذا ؟ "

تردد قليلا , ثم قال : " كلا .. أخبرتنى ببعضها فقط ."

ورشفت ميغ بعض القهوة وهى تفكر فى ان استنتاجاتها بهذا الشأن لم تكن بعيدة عن الحقيقة . وإذا لم يكن جيروم قد استقى معلوماته الحزينة هذه عن زواج العمة مارغريت من جده . فمن اين سيستقيها إذن ؟

قالت : "لقد أوضحت لى العمة السبب فى تعرض القصر للاهمال . بهذا الشكل وهو .. حسنا , إن تصميمها على ان تقوم الآن باصلاحه . هى فكرة حسنة . "

قال بلهجة جافة : " إنها ممتازة ."

قالت : "إننى أتساءل عن السبب الذى جعلها تنتظر حتى الآن . "

هز كتفيه قائلا : " الأفضل أن تسأليها هى عن ذلك . " ولم تكن لهجته مشجعة . اخذت تتابع بأصبعها الصور التى تزين صحن فنجانها , لحظة , ثم عادت تقول : " أظن .. أظن أن العمة تحاول أن تعيد الماضى إلى الحاضر نوعا ما ."

وازدردت ريقها وهى تتابع : " هل تعرف أنت هذا ؟ هل يمكنك ان تفهم قصدى ؟ "

قال دون ان يظهر على وجهه أى تعبير : " أظن ذلك . "

تابعت تقول : " شعرت بأنك تعلم . " وجف فمها فجأة وهى تتابع : " يجب أن أخبرك بان ما تريده العمة هو مستحيل . ولا يمكن أن يحدث . " وازدردت ريقها مستطردة :" أظن هذا واضح . "
قال جيروم وهو يشير إلى النادل طالبا قائمة الحساب : " ليس بك حاجة لهذا . "

قالت : " بل ثمة حاجة , ذلك أن الأمر سخيف لا يقبله عقل . "

قال بابتسامة صغيرة : " سخيف جدا يا جميلتى . فلا تزعجى نفسك بالنسبة إلى ذلك بعد الآن . "

قالت : " ولكن كان على أن آتى على ذكر ذلك لأنه إذا كان على أن اشتغل معك بطباعة تلك الأوراق , فسنكون مرغمين على قضاء وقت طويل معا . "

قال جيروم وهو يعد الأوراق المالية : " كما تشائين , وسنبدأ العمل اليوم بعد الظهر . "

وغاص قلب ميغ ولكنها تمالكت نفسها لتقول : " أردت بهذا أن يكون ثمة أساس مهنى لعلاقتنا من الآن فصاعدا . "

قال : " كعلاقتك مع مخدومك ؟ "

عضت شفتها قائلة : " طبعا . "

قال : " أتريدين أن تخبرينى أنك اشتغلت مع هذا الرجل كل ذلك الوقت وهو الشاب الوسيم ذوالنفوذ , دون ان تسألى نفسك عما تراه يكون كحبيب ؟ أم أنه لم يلحظ جمالك وجاذبيتك , أو انه لم يحاول ايقاظ مشاعرك الراقدة ؟ "

قالت وهى ترتعش : "صدق ما تشاء , إن ما أريد أن اقوله , هو اننى لا أريد أن اشعر بأى ضيق اثناء عملى معك , وإذا لم توافق على هذا , فإن أى تعامل بيننا فى حكم المنتهى , وسأخبر العمة بالسبب . "

فالتوى فمه وقال : "عجبا , أتظنينها ستستاء ؟ ربما بالنسبة إلى احلامها الحمقاء عنا , سيسرها ان تعلم اننى اريدك . " والتقت عيناه بعينيها وهو يتابع : " إعادة الماضى إلى الحاضر , أليس هذا كلامك ؟ "

أجابت بصوت متهدج : " ولكن , ربما لن تعجبها حقيقة أنك إنما تريد أن تسلى نفسك فقط , خصوصا إذا أنا أخبرتها ان عندنا نحن الاثنين ارتباطات أخرى ."

ساد الصمت فترة وقد توترت شفتاه , ولكنه لم ينكر ما قالت . وأخيرا قال : " هل أنت متأكدة يا جميلتى . ان بامكانك المحافظة على هذا الوضع .. المهنى , فنبقى بعيدين عن بعضنا البعض أثناء الساعات التى سنمضيها معا ؟ "

قالت : " نعم " وارتفعت دقات قلبها , وهى تفكر بمرارة , فى انه ليس أمامها خيار آخر .

ضحك قائلا :" ما أشد ما أنت متأكدة من ذلك . " وشملها بنظراته ساخرا وهو يتابع :" إننى أراهن يا عزيزتى انك أول من سيخرق هذا القرار الذى تفرضينه . " وانخفض صوته إلى درجة الهمس وهو يتابع : "إنك أنت ستأتين إلى , يا مارغوت , لأنك لن تستطيعى مقاومة نفسك . ونحن الاثنان نعرف هذا . "

ووقف , فوقفت هى الأخرى تواجهه قائلة بصوت أجش : " إننى أقبل تحديك هذا . أيها السيد . وأنا أنذرك بأننى سأقاومك بكل جهدى . "

قال بلطف : " إذن , فقد انتهت الهدنة . " وأخذ يدها يرفعها إلى شفتيه يقبل أطراف أصابعها . ثم قال : " والآن , فلنعد إلى هاوت أرينياك ولنجرب قرارك هذا . "

ثم قفل راجعا أمامها إلى سيارته .

جلست هى إلى جابنه فريسة للاضطراب وتعدد المشاعر , بعيدة عن الشئ الوحيد الصحيح , وهو ان علاقتها مع جيروم لم تكن فقط مسألة ضبط النفس , وإنما حماية النفس .

ومن شدة استغراقها فى ورطتها هذه , لم تلحظ أنهما قد استدارا متجاوزين طريق أرينياك . ولم تدرك الأمر إلا بعد ان وصلا إلى الطريق المؤدية إلى منزله , عند ذلك استقامت فى جلستها قائلة بحدة : " إلى أين نحن ذاهبان ؟. "

أجابت : " لأحضر آلتى الطابعة إذ ليس هنالك واحدة فى القصر . ذلك ان السيدة مارغريت تفضل الكتابة اليدوية . "

كان هذا تعليلا معقولا . ولكن ميغ تصلبت فى جلستها وهى تقول : " هل علينا أن نبدأ العمل اليوم ؟ ألا يمكنك إحضارها غدا صباحا ؟ "

ابتسم لها ساخرا وهو يقول : " سأمضى هذه الليلة فى القصر . فإن عندى غرفة هناك . إننى متأكد من ان فيليبين أخبرتك بذلك . ثم انه كلما استعجلنا بعلاقتنا المهنية . كان ذلك أفضل . وأنا أعلم انك توافقين على ذلك يا جميلتى ."

أوقف السيارة قرب المنزل , وفتح بابها وهويقول هازلا : " هل تفضلين انتظارى هنا ؟ "

أجابت باقتضاب : " هذا حسن . "

وعندما توجه نحو الباب , برزأوكتافيان , ومن ثم وقف الاثنان يتحدثان . لابد ان الموضوع كان متسعجلا لأن اوكتافيان كان يتكلم بقوة مشيرا بيديه وقد بان الاهتمام على وجهه.

وبعد لحظة , رأت جيروم يستدير ليلقى نظرة على السيارة , عابس الوجه . وحدثت نفسها بأنهما يتحدثان عنها , وتملكتها موجه من الامتعاض , ففتحت باب السيارة , ثم ترجلت منها . مبتعدة عنهما فى حركة التفاف واسعة حول زاوية المنزل حيث داوالى العنب تغطى جانب الوادى . ووقفت تحدق فى تلك الصفوف المنتظمة للدوالى . مصغية إلى طنين صرصار العشب .

سمعت صوت خطوات على الحصى خلفها , فالتفتت لترى أوكتافيان قادما نحوها وهو يحمل مجرفة على كتفه . كان وجهه عابسا , وعيناه القاتمتين يتجلى فيهما الشك والعداء تحت حاجبيه الكثين . وعندما ألقتعليه التحية . أجابها بإيماءة بسيطة من رأسه .

قالت : " أوكتافيان . إن سيدك هو الذى أراد احضارى إلى هنا , وليس لك ان تقلق . إننى اعرف سبب خوفك واريد أن اخبرك بأن الأمر لن يكون كالسابق . ليس كما كان مع السيد جيروم الجد . "

وسكتت . ولكنه لم يقل شيئا , ولم يبد على وجهه ما يشجع . وتابعت كلامها بشئ من اليأس : " إننى لن أعود إلى هنا .. إلى المسكن هذا مرة أخرى , وفى آخر الشهر سأعود إلى انكلترا نهائيا . " وحاولت أن تبتسم وهى تتابع : " أما السيد جيروم فلن يرحل عن هذا المكان . وإذا حدث هذا فلن أكون أنا السبب ."

ولكن ملامحه لم تتغير . بل قال بصوت خشن : " سواء ذهب هو أم بقى فإنك , أيتها الانكليزية , تجلبين التعاسة معك . أننى أعلم هذا , فأنا أرى وأسمع . " وأومأ برأسه متابعا : " ليس لك عمل هنا . وعلى السيد جيروم ان لا يهتم بك أو بالألم الذى تسببينه له . " وتقبضت يداه وأخذ يلكم الهواء وهو يقول متمتما : " إنها التعاسة على الدوام . " وألقى عليها نظرة استياء أخيرة . ثم تابع طريقه إلى الكروم .

أخذت ميغ تعزى نفسها وهى تستدير مبتعدة . بأنها حاولت جهدها معه , وارتفع نظرها إلى الطابق الأعلى من المسكن حيث النافذة الواسعة والتى لن يكتب لها أبدا أن تراقب الفجر منها , ثم وقفت مصعوقة . ذلك أنها لمحت شخصا واقفا وراء الزجاج .. شخصا كان يتطلع إلى أسفل , ليبتعد بعد ذلك بسرعة وكأنه لا يريد ان يظهر لأحد . كانت لمحة واحدة أدركت فيها أن ذلك الشخص كان امرأة , وأنها لم تكن بيرث مدبرة المنزل .

وارتفعت خفقات قلبها , حسنا , ما الذى كانت تتوقعه على كل حال ؟ فقد قالت بنفسها انهما هما الاثنين , لهما ارتباطاتهما .. ولكن القول شئ والحقيقة شئ أخر تماما .

وعندما وصلت الى السيارة كان جيروم يغلق صندوق السيارة وقد بدا على وجهه الاستغراق فى التفكير . وتساءلت ميغ بمرارة . عما اذا كان ثمة عجب فى ذلك . كانت تريد أن تسأله أما كنت تتوقع قدوم صديقتك ؟ وهل تراها غضبت منك عندما رأتنى برفقتك ؟ ولكن كرامتها منعتها من ذلك . ان من الأفضل لها ألا يعرف أنها رأت ضيفته أبدا . فكيف تحدثه عن اهتمامها بها ؟ ذلك كله سيفضح مشاعرها نحوه بالتأكيد .

ولا عجب أن لا يرحب بها أوكتافيان . وشعرت بغصة فى حلقها , إذ أنه من المفروض أنه يتقبل وجود تلك السيدة فى غرفة النوم , ولايريد أن يعكر عليها أحد وجودها ذاك , خاصة هى بالذات .

حسنا . ليس له ان يقلق , لأننى أعلم الآن دون أدنى شك , أن لا أمل لى بجيروم ولم يكن ذلك من قبل قط .

خاطبت نفسها بهذه الكلمات وقد اكتنفت نفسها وحشة لم تشعر بمثلها فى حياتها من قبل

MooNy87 13-01-19 10:33 AM

الفصل التاسع

https://upload.rewity.com/uploads/154736267052051.gif

كان الجو فى السيارة مشحونا بالتوتر . فقد كان جيروم تائها مع أفكاره دون أن يحاول البدء بأى حديث مباشر .
وكانت ميغ بدورها شاكرة هذا , فقد منحها الفرصة لتتمالك أجزاء نفسها المشتتة .


ما أسرع ما تتغير الأشياء . فكرت فى ذلك وقد ساورتها الرعشة . لقد كان صديقين قريبا . منذ أقل من ساعة فقط , والآن ها هى الهدنة تنتهى لتشرع الأسلحة من جديد .

رمقته خلسة . كانت ملامحه متوترة . فاذا كان يفكر فى تلك المرأة الموجودة فى منزله , فان افكاره لم تكن تجلب إلى ملامحه أى قدر من السرور . فهى كانت تحس بذلك الغضب الكامن فيه , مشبها بركانا منتظرا انفجاره فى أية لحظة .

ربما كان ظهورها فى المنزل قد احدث بينهما صدعا لا يمكن إصلاحه . ولكن هذا لم يكن ذنبها هى .

واخترق صوته افكارها المضطربة , يقول : " ماالذى كنت تقولينه لأوكتافيان ؟ "

أجابت : " كنت أحاول طمأنته , ولكننى لم أفلح . " وسكتت لحظة ثم أردفت : " إن أوكتافيان لا يريد إعادة الماضى كذلك . "

صمت جيروم لحظة ثم قال : " يجب ان تغفرى له ذلك . لقد كرس نفسه لجدى كليا منذ الوقت الذى كانا يجوبان فيه التلال وهما صبيان . وكان لا يرى المستقبل واعادة المنزل الى الحياة إلا من خلال هذه المصاحبة والعمل الشاق , وتوسيع الكروم ورؤية أولادهما ينمون معا حين يأتون . " وتنفس بحدة وهو يتابع : " ولكن خيبة الأمل ملأت نفسه مراراة . "

قالت ببطء : " ولكنه يلوم العمة على كل شئ . وهذا ليس عدلا . "

قال : " لماذا تقولين هذا ؟ "

اجابت :" لقد كانت متزوجة . وجدك كان عازبا , ربما كان عليها ان يتمالك نفسه ويفكر مرتين قبل أن يتورط معها . فان خسارته اقل من خسارتها هى . "

قال بهدوء : "هذه وجهة نظر هامة . ولكن الزواج , ولم يحطم الزواج . كان قد انتهى قبل أن يتدخل هو . فهو لم يحطم أى علاقة , وهذا فقط ما لايمكن اغتفاره يا جميلتى . ألا تظنين ذلك ؟ "

قالت : " ربما ليس لنا نحن الاثنين . أن نصدر حكما بهذه القضية .. من هذه المسافة البعيدة . "

أجاب : " حسنا إن أوكتافيان يظن العكس . انه يشعر بأن خالتك كان يجب أن تتذكر اليمين الذى أقسمته يوم زواجها , حتى ولو لم يفعل زوجها ذلك . " وهز رأسه متابعا : " ربما كان ثمة شئ من أخلاق الكاثار ما زال معششا فى تراب وحجارة لانغيدوك ."

بقيت ميغ صامتة لحظة , ثم قالت : " ولكن . عندما حنثت بيمينها . لماذا لم ترحل ؟ فتهجربيت الزوجية إلى الأبد ؟ كان فى استطاعتها أن تؤسس حياة جديدة مع جدك .. لم يكن ثمة حاجة إلى أن يكونا هما الاثنين تعيسين . "

قال بصوت ثقيل : " لم يكن الأمر بهذه البساطة . وقد لا يكون أبدا , لقد أوضح هنرى دى بريسو انه لن يدعها تذهب . وأن ذلك الطلاق كان خارجا عن البحث , فقد كان يتنافى مع تقاليد الأسرة . وكان عازما على إرغام مارغريت على البقاء فى رباط الزوجية . " وسكت برهة , ثم تابع : " وقد اكشف أنها كانت حاملا . وقرر هنرى أن الطفل طفله . "

جمدت نظراتها سائلة : " أكان ذلك ... ممكنا ؟ "

هز كتفيه قائلا : " كان ما يزال مصرا على استعمال حقوقه الزوجية ."

سألت : " وكيف امكنها تحمل ذلك ؟ "

أجاب : " لم يكن لها خيار فى هذا الأمر . وفى كل مرة كان هنرى يعود فيها إلى منزله , كان يظهرالندم البالغ عازما على وضع علاقتهما على أساس جديد فعال . وهذا جعلها تشعر أن من واجبها البقاء معه ... واعادة المحاولة . ولم يستطع جدى ان يقنعها بتغيير رأيها . وكان على استعداد للمغامرة بكل شئ وتحمل اية فضيحة فى سبيل أن ياخذها اليه . ولكن اهتمامها الأول كان بالطفل القادم . "

قالت ميغ : " ذلك لأن هنرى ربما كان على حق ,. وهذا ما كانت تخشاه , وماذا حدث فى النهاية ؟ " وبللت شفتيها بلسانها وهى تتابع : " ولكن . ظهر انه لم يكن هناك طفل . "

قال : " كلا . ليس هذا , وانما لسخرية الأقدار حدث لها حادث . لقد تزحلقت على السلالم ذات يوم وكانت وحدها فى المنزل . لقد كاد هذا الحادث أن يكلفها حياتها كما كلف الجنين حياته . " وسكت لحظة , ثم عاد يتابع : " ولم يغفر هنرى لها ذلك قط . طبعا , وكانت نهاية ذلك الزواج وهكذا . ضحت بنفسها وبسعادتها عبثا . "

سألته : " وماذا جرى لجدك ؟ "

أجاب : " لقد كان قد اقسم أنه إذا هو رحل فلن يعود أبدا . وكان صادقا فى قسمه مع أنه لم يلم مارغريت لاختيارها ذاك ."

وسكت لحظة ثم استطرد : " وهكذا ذهب إلى باريس أولا . ثم إلى الخارج لإدارة املاك فى جزرالمارتينيك آلت اليه من ناحية أمه فى الأسرة . وعندما كان فى اجازة قابل جدتى . ومن ثم وضع اساسا لحياة جديدة لنفسه . "

سألته : " وهل كانا سعيدين ؟ "

أجاب : " كانا قانعين تماما . وربما هذا الأساس لحياة زوجية تدوم طوال الحياة , هو اكثر امانا من غيره . "

شعرت ميغ بغصة فى حلقها وهى تفكر . ربما ... وبدا لها وكأن هذا هو الاختيار الثانى لها بعد الحب .. وبقيت هذه الفكرة تتملكها بصمت , إلى أن وصلا إلى هاوت أرينياك .

علمت أن جيروم سيجعل مكتبه المؤقت فى غرفة المكتبة .

نظرت حولها وفجأة . بدا لها أن الجدران المغطاة بالكتب تظهر عداء نحوها , وكأنها تكاد تطبق عليها لكي تأخذها سجينة .ونظرت بقتزز إلى الآلة الكاتبة الكهربائية المصقولة التى احضرها من السيارة ووضعها وسط طاولة فسيحة .

خطرلها أن هذه هى آلة التعذيب فى سجنها هذا .

قالت له : " إننى لم استعمل مطلقا هذا النوع من الآلات الكاتبة من قبل . " وكانت الآلة الكاتبة التى كانت تستعملها للمراسلات . فى المكتبة العامة حيث كانت تعمل , مختلفة تماما عن هذه . فقد كانت من النوع الذى يحمل باليد . ولكن . كان فى إمكانها على الأقل التعامل معها .

قال وهو ينفض يديه , بعد أن أوصل الآلة بالطاقة الكهربائية : " ليس ثمة مشكلة . فأساس المواصفات واحد . "

ثم فتح محفظته يخرج منها ملفا كان فيه صفحات سجلت عليها ملاحظات بخط يده الحاد الواضح . كانت رزمة تحوى مئات من الصفحات كما لاحظت ميغ وقد سادها الاكتئاب .

نظر فى ساعته قائلا :" سأعود بعد ساعة لأرى كيف يسير العمل معك ."

وفكرت ميغ وهى تراه يغلق الباب خلفه , أن هذا أفضل من أن يقف مشرفا عليها يراقبها وهى تتحس طريقها مرتبكة وقد غمرتها التعاسة . وتذكرت إحدى قصص الأطفال عن فتاة صغيرة سجنت فى برج , حيث أمرت بأن تغزل القش محلية اياه إلى خيوط ذهبية .

وحدثت نفسها بأنها تعرف الآن ماذا كان عليه شعور تلك الفتاة الصغيرة , فى ذلك الحين . وتناولت الورق والكوربون . ولكن لم يكن ثمة معجزة تنقذها , كما أنقذت تلك الفتاة .. لقد أدركت ذلك حالما عاد جيروم , كانت ما زالت محاطة بالقش دون اثر للخيوط الذهبية .

كانت تصرف بأسنانها وهى تحاول السيطرة على مفاتيح الآلة الكاتبة التى كانت تقفز فى كل الاتجاهات ., وهى معها تلاحقها . وذلك لأخف لمسة منها . لها .

كانت مجموعة الصفحات التى انهتها , صغيرة بشكل محزن عندما سمعت الباب خلفها , يفتح وتظاهرت هى فى التركيز على العمل الذى بين يديها . ولم يكن بينهما أى احتكاك ولكنها شعرت بحرارة جسمه تلفحها وبأنفاسه تحرك شعرها .

ازدردت ريقها وهى تشعر بجفاف فى حلقها , ثم جازفت برفع ناظريها إليه , لترى حاجبيه يرتفعان وهو يقول بصوت جامد : " هل هذا كل ما أنجزته ؟ "

منحته ابتسامة أكثر تألقا من المعتاد وهى تجيب : " أخشى أن يكون الأمر كذلك . لقد سبق وأخبرتك بأننى غير معتادة على هذا النوع من الآلات الكاتبة ."

قال بصوت ذى معنى : " ولا أى نوع آخر . كما يبدو . "

قالت : " كما أننى لم اجد ممحاة ولا أى سائل للتصحيح . "

أجاب : " لأن هذا ليس ضروريا عند الطبع على هذا النوع من الآلات الكاتبة . لأن فيها زرا تضغطين عليه هكذا , فيصحح الكلمة بنفسه . " وضغطه أمامها يريها كيف .

قالت ميغ بصوت أجوف : " فهمت . "

قال : " آمل ذلك . " وسكت ليقرأ فى احدى الصفحات , ليقول بعد ذلك عابسا :" يبدو أنه من السهل إرضاء مخدومك ."

عضت على شفتها قائلة : " انه لايشكو . كما اننى سبق وحذرتك من أننى لست طابعة جيدة . "

قال بابتسامة متهكمة : " من الواضح ان مواهبك الأخرى تفوق مهارتك العملية ." ووضع الورقة التى كان يعانيها . من يده , وهو ينظر فى عينيها قائلا : " يوما ما , يا عزيزتى . يجب ان تخبرينى بما تقومين به من عمل مقابل استحقاقك لراتبك ."


قالت بخشونة : " أظن أن هذا ليس من شأنك ."

قال بعنف مفاجئ فى صوته : " ما الذى تقومين به , يا مارغريت , إذ تضيعين حياتك بهذه الطريقة ؟ إننى لا أفهمك . إننى أقسم بأنك أهل لأشياء كثيرة . "

دفعت ميغ كرسيها إلى الخلف , مما جعلها تشعر بقربه منها , وهى تقف على قدميها . وقالت : " أننى آسفة اذ لم أعش تبعا لتوقعاتك . "

قال جيروم برقة وهو يمد يده يزيح بها خصلات شعرها عن جبينها المندى : " آه , ولكن هذه هى بداية فقط . " وابتسم لها متابعا : " ربما غدا يكون عملك أفضل . " وبدا أن الكلمات تتلكأ فى الجو بينهما , غامضة , واعدة , مقدمة كل الاحتمالات , تماما كما كان يقصد بقوله ذاك .

شعرت بقلبها يشتد خفقاته لشدة الاثارة وداخلها نوع من الرجاء الأحمق .. لتدرك ببساطة , أنها انما بذلك تغذى نفسها بالآمال الحمقاء .
وتراجعت إلى الخلف وقد رأت نفسها على حافة الهاوية . ثم قالت بهدوء : " أرجو المعذرة , فإن العمة قد تكون بحاجة إلى . "

قال بجفاء : " انك على الأقل تلبين احتياجاتها بما يفى بالغرض . "

قالت وهى ترفع رأسها : " إن هذا هو الغرض من وجودى هنا . "

قال وهو ينظر إليها بعينين بدت فيهما لمعة خاطفة : " أحقأ ؟ أرجو ذلك يا مارغريت . صدقينى أننى أرجو ذلك حقا . "

سألته : " ماذا تقصد بكلامك هذا بالضبط ؟ "

هز كتفيه قائلا : " إننى لا اريد أن تتألم السيدة من أى شئ قد يبدو لها فى ما بعد ...."

قالت : "أرى انها .. تعنى لك شيئا كثيرا , أليس كذلك ؟ "

أجاب : " نعم , ولكن ليس هذا بسبب الماضى فقط . فأنا على استعداد للقيام بأى شئ لكى أجنبها التعاسة من أى نوع كانت . " وسكت برهة . ثم قال : " إذن فكونى على حذر يا مارغريت ."

هزت رأسها قائلة : " إننى لا أريد أن أسبب لها أى أذى . "

واطلقت ضحكة صغيرة مقتضبة وهى تتابع : " من الغريب انه يبدو أننى .. أننى أنا أيضا يهمنى امرها . " وفكرت وهى تتجاوزه خارجة من الغرفة . بانها تحسد العمة هذه تحسدها من كل قلبها , ذلك انها على الأقل . عندما أحبت قد بادلها حبيبها الحب .

وأمضت بقية الوقت . إلى أن حان وقت العشاء تقرأ مراسلات العمة لها , وكتابة مسودات الأجوبة , لتكتب بعد ذلك الاجوبة كاملة جاهزة لامضاء السيدة دي بريسو . وشعرت بشئ من الغرابة وهى ترى نفسها فى خضم الشؤون الخاصة للسيدة بهذا الشكل .

ولكن السيدة المسنة طمأنتها إلى أن كل هذا كان من الأعمال العادية التى على مرافقتها الغائبة السيدة ألجو أن تقوم بها .

ولكن ميغ شعرت وهى تبدل ملابسها لتناول العشاء بتعاسة بالغة من جراء الشعور بالذنب . ذلك ان ابنة شقيقتها الحقيقية هى من لها الحق فى ان تتدخل بشؤونها الخاصة . ولكنها هى مجرد فتاة غريبة , وهذا يجعل الفرق هائلا .

ولكنها متأكدة الآن من أن أيا من توقعات مارغريت المتفائلة عن امكان وراثتها لها , ليس فيه مجال من الحقيقة , ذلك ان دخل السيدة لا يكاد يفى بنفقاتها , وأن الشئ الوحيد الذى له قيمة هو هذا القصر . أما من أين تأتى نفقات كل هذه الاصلاحات , فلا أحد يعلم . ذلك ان جيروم قد يخدمها محبة منه لها ومن دون مقابل , ولكن ماذا عن النجار والكهربائى ومتعهد التمديدات الصحية والبنائين .؟ انهم يريدون نقودا .

ولكنها ذكرت نفسها , وهى ترتدى ما اختارته من ملابس ., بأن هذا ليس من شأنها ولا دخل لها فيه . وعندما يبتدىء العمل فى القصر . هذا إذا ابتدأ فانها ستكون قد رحلت منذ مدة طويلة وابتعدت كليا عن هذا المكان .

واختارت ثيابها للعشاء بعناية متعمدة عدم ارتداء ذلك الثوب العسلى بذكرياته المؤلمة . لتلبس تنورة سوداء بسيطة مع قميص حريرى أبيض بياقة عالية وكمين طويلين .

كانت تتوقع أن تكون السيدة قد سبقتها إلى غرفة الجلوس . ولكن عندما وجدت الغرفة خالية , رأت أن هذه فرصة مناسبة لتكلم زوجة أبيها فى لندن هاتفيا . ورفعت السماعة تدير الرقم , وتنفست الصعداء حين وجدت تجاوبا هذه المرة .

وجاءها صوت زوجة أبيها واضحا إنما يشوبه التذمر : " نعم . من المتكلم ؟ ماذا تريد ؟ "

أجابت ميغ وهى تطلق بالاسم مترددة : " هذه أنا .. مارغوت ."

هتفت المرأة بحدة : " مارغريت .. أوه , تبا لك . لقد اوشكت على حقا على الجنون . أين أنت ياعزيزتى ؟ "

اجابت ميغ بحذر بالغ : " لماذا , فى فرنسا طبعا . أرادت السيدة دي بريسو منى أن أتصل بك لأطمئنك إلى وصولى بخير وأمان ."

قالت ايريس وقد بدا عليها الارتباك . للحظة : " السيدة دي .. اتعنين أن هذه انت يا ميغ ؟ لماذا لما تقولى ذلك بدلا من الادعاء بأنك مارغوت ."

أجابت ميغ : " لأن هذا صعب بالنسبة للظروف . ماذا حدث ؟ هل هنالك شئ ؟ "

أجابت : " أتسألين ؟ انها تلك المرأة اللعينة زوجة ستيفن كيرتيس . لقد هجرته تاركة له الأولاد مثيرة أمامه كل أنواع الفضائح فى الصحف . لقد توافدت على كل أنواع الاتصالات الهاتفية من مختلف الصحف , وكلها تريد أن تتحدث إلى مارغوت . حتى اننى رفعت السماعة لكى احظى ببعض الامان . لقد نشرت صور , وتحدثت العناوين عن ذلك الحب .. صدقينى , ان الأمر كان كابوسا رهيبا . وكان على طفلتى المسكينة مارغوت ان تختفى عن الأعين . أما ستيفن كيرتيس نفسه فيبدو ان القضية قد عصفت بعقله ففقد توازنه كليا . " وضحكت المرأة غاضبة وهى تتابع : " أتصدقين أنه جاءنى بكل شجاعة إلى بيتى محضرا , إلى أولاده مصرا على ان تعتنى بهم مارغوت إذ ليس لديه مكان آخر يضعهم فيه ؟ وأولئك الصحافيين الفضوليين امضوا كل نهار يبحثون فى ذلك . وقد قلت له ان مارغوت ليست هنا ولكن هذا لم يمنعه من أن يتركهم لدى قائلا ان عليه ان يذهب للبحث عن زوجته . " وعلا صوت ايريس ثائرا وهى تتابع : " أما الأولاد . فلم يكفوا عن الصراخ الى ان فقدت عقلى . عند ذلك خطرت المربية ترومان فى بالى , فاتصلت بها قائلة ان ثمة حالة مستعجلة , فأقبلت بسرعة ."

جلست ميغ على ذراع الأريكة وهى ترتجف , ثم سألتها : " اتعنين ان الاولاد ما زالوا عندك ؟ "

أجابت : " كلا , كلا . لقد اخذتهم المربية إلى الكوخ , ولكن عليه أن يتدبر أمرهم بشكل آخر , إذ ليس من المفروض بى أن .. أن الأمر ليس كما لو كانت مارغوت هنا أو حتى اننى اعرف متى ستعود . خصوصا بعد الأشياء الفظيعة التى قالتها زوجته كيرين عنها فى الصحف مما يجعلها عرضة للذم والتشهير . "

قالت ميغ : " أشك فى ذلك . "
أجابت :" هذا ما قاله لى المحامى عندما كلمته فى ذلك . "
وتنهدت وهى تتابع : "لن يكون بإمكانى أبدا أن ارفع رأسى بين الناس بعد هذا , وأنا هنا وحيدة تماما , وعلى أن أفكر بكل ذلك . لقد كان من الأنانية ان تختفى مارغوت هكذا . خصوصا وقد كان عليها أن تعرف ماذا كان سيحدث . " وسكتت لحظة ثم تابعت : " عليك ان تعودى حالا إلى البيت . يا ميغ , أننى بحاجة اليك . على الأقل لتردى على المخابرات الهاتفية وتفتحى الباب . "

قالت ميغ : "إننى آسفة . لأن هذا مستحيل . فهم بحاجة إلى هنا كذلك . حيث أقيم فهذه المشكلات التى عندك لم يكن لى فيها يد . ولا أريد أن اتورط فيها . "

شهقت ايريس قائلة : " كيف يمكنك أن تكونى بهذا القلب القاسي ؟ ان اعصابى بحالة فظيعة . اننى اريدك ان تعودى فى هذه اللحظة . أليس فى قلبك رحمة ؟ "

وفكرت ميغ وهى تضع السماعة من يدها , أن فى قلبها رحمة حقا ,ولكن لأجل كيرين زوجة ستيفن كيرتيس , ولو انه لايبدو انها بحاجة إلى ذلك , وارتسمت ابتسامة فكاهية على شفتى ميغ وهى تفكر فى ذلك . صحيح ان السيدة كيرتيس مجروحة من خيانة زوجاه لها , دون شكل ولكن هروبها ذاك وفضحها للأمر , استباقا لما سيحدث , وترك مسؤولية الأولاد على عاتق زوجها وحبيبته , كل هذا كان خطوة مدروسة أكثر منه انجرافا عاطفيا .

لوت شفتيها وهى تفكر فى اختفاء مارغوت ساعة ادلهمت الأمور مما يدل على شخصيتها الحقيقية , وكذلك فكرت فى مربيتها الرقيقة الهادئة المتفهمة والتى تعانى الآن فى هذه المحنة , مما ليست هى مسؤولة عنه .

" مساء الخير "

التفتت لترى جيروم واقفا فى الباب المؤدى إلى الشرفة وفى يده كأس عصير .

انتاب ميغ الذعر . إذن فقد كان جالسا فى الشرفة طوال وقت المخابرة الهاتفية . ما الذى تراه سمع ؟ وما الذى قالته هى مما قد يفضحها ؟ وتصنعت ابتسامة وهى تقف قائلة : " لم أكن أعلم انك هنا . "

أجاب باقتضاب وهو يدخل الغرفة وعلى فمه ابتسامة ساخرة من لباسها المحتشم : " هذا واضح . كم تبدين متواضعة ومحتشمة . هل يمكننى تقديم كأس عصير لك ؟ "

أومأت برأسها مجيبة : " نعم . شكرا . "

ونظر اليها متفحصا وهو يقول : " أرجو أن لاتكونى قد سمعت أخبارا سيئة ؟ "

اجابت : " آه ,.بالعكس فالأخبار حسنة جدا . " وبينما كان يملأ لها الكاس , أخذت تفكر فى أن الأمور حسنة فعلا , إذ ربما سيعود ستيفن كيرتيس إلى عقله , فى النهاية بالنسبة إلى زواجه , كما أن مارغوت ستتعلم درسا قاسيا هى بحاجة اليه حتما , وستعود الحياة قريبا الى طبيعتها .

كما أنها كانت تشك فى أن ايريس قد تغفر لها عدم استجابتهالها . وهزت كتفيها فقد حان الوقت , على كل حال لكى تنتقل من ذلك المنزل . ومن الآن فصاعدا ستمضى كل دقيقة فراغ من وقتها فى غرفة المكتبة تتمرن على الآلة الكاتبة إلى أن تتمكن من هذه المهنة , ليكون فى استطاعتها عند عودتها إلى لندن , أن تتقدم بطلب عمل مكتبى تعيش منه , إذ ليس أمامها سوى هذه الطريقة . ونظرت إلى جيروم الى كان يتقدم منها وفى يده كأس العصير , وقد تجلى فى عينيها شوق دون امل .

أشاحت بوجهها تحدق إلى خارج الشرفة , وقد انتابها الفزع من ان يقرأ فى عينيها ما يدور فى نفسها . وعندما اقتربمنها ., تناولت الكأس من يده وهى تتمتم شاكرة . بينما استند هو متراخيا . إلى حافة النافذة . وتضرج وجهها وهى ترى نظراته الفاحصة , وانفجر ضاحكا وهويقول : " مرة أخرى , هذا التضرج غير المعقول فى وجهك . "

ولم تستطع أن تفكر فى جواب لهذا . واستمرت تنظر امامها بجمود . كانت تعلم انه من القرب منها بحيث انها لو استدارت ستلامس كتفها بكتفه .

قال يغيظها : " لم أكن اعلم أن نقوش السجادة جذابة إلى هذا الحد.. "

قالت وهى تعض شفتها : " كنت أفكر . "

قال : " لا أظنها أفكارا سارة . "

وفكرت هى بمرارة , فى أنه يفهم عنها أشياء كثيرة .
وهزت كتفيها قائلة : " إن المكان هادئ جدا هنا , بينما أنا قد اعتدت على حياة المدينة حيث دوما هنالك شئ جديد . "

قال متأملا : " آه , نعم علينا إذن أن نحضر لك بعض الأشياء المثيرة هنا . "

حاولت أن تتجاهل ما يتوارى وراء كلماته هذه من إغاظة ضاحكة , واحتست شيئا من العصير وهى ترد بحدة : " وذلك دون شك . بطبع التخمينات عن تكلفة بناء سقف جديد . "

ضحك قائلا : " حتى هذه الأشياء قد تكون ممتعة . وذلك حين تستعملين مخيلتك فتتصورى الجمال الذى سيكون عليه المنزل عندما ينتهى اصلاحه . "

فقالت ببطء وهى تفكر فى الرسائل التى سبق وكتبتها قبل فترة : " آه . نعم , أظن ذلك . "

نظر اليها متسائلا بقوله : " هل هنالك ما يضايقك ؟ "

أجابت : " كلا . ولكننى لا أستطيع أن أفهم لماذا , بعد هذا الزمن الطويل , يصرف على تصليح منزل كبير مثل هذا , المبالغ الضخمة لأى سبب ؟ بينما من الواضح ان ليس ثمة ولد أو أى شخص آخر ليرثه . "

سألها : "اتظنين أن على هذا القصر أن يترك لحاله إلى أن يندثر بسلام . "

قالت مترددة : " كلا , حسنا . ربما ... إذ من هو الذى يستطع أن يتحمل مصروف منزل ضخم كهذا , بعد الآن ؟ إلى جانب ذلك , لا أظن أن العمة تملك تلك المبالغ من الأموال . "

قال بشئ من السخرية : " وهل هنالك ما يمكنها عمله أفضل من هذا ؟ "

وقابلت نظراته بثبات قائلة : " نعم , ربما فهذا المكان منعزل جدا , كما أنه يحتوى على كثير من الذكريات المحزنة يمكنها أن تبتعد .. أن تسافر .. "

قال : " وتنسى ؟ "

فحركت يدها تظهر العجز وهى تجيب : " ولم لا ؟ "

قال : "لا أظن الأمر بهذه البساطة ., فالحب لايزول دوما , أو ينسى بسهولة . "

قالت : " بعد كل تلك السنين ؟ "

فرد عليها بهدوء : " إذا كان الحب حقيقيا فالوقت لا يعود له حساب , وساعة واحدة أو الحياة كلها تصبح شيئا واحدا . "

اشتدت يدا ميغ على كأسها وهى تقول متوترة : " ولكن إذا اتضح أن ذلك الحب هو لشخص غير مناسب , وفى وقت غير مناسب . وفى مكان غير مناسب ؟ "

قال بخشونة : " إنه يكون عندئذ , مأساة . ولكنه لا يغير من الأمر شيئا يا جميلتى . صدقينى . فالجرح العميق هو نفسه , وآثاره تبقى خالدة . " وفكر لحظة . ثم تابع : " كما أنه ليس فى استطاعتك أن تبعدى السيدة مارغريت عن هذا المكان . فقد امضت اكثر حياتها هنا . وفى الحقيقة لقد أصبح هذا القصريمثل حياتها وحبها , والآن هى تريد أن تفرغ فيه كل عواطفها المحمومة التى تجمعت طوال تلك السنوات الفارغة . فهل تنكرين عليها هذا ؟ "

اجابت ميغ وهى تتنهد : " كلا . كلا أبدا , ما دمت عرضت الأمور بهذا الشكل . "

قال : " أو ربما كنت تضعين فى اعتبارك مصلحتك الخاصة ؟ " وخدعت فى البداية , بلهجته المهذبة , ولكنها ما ان استوعبت المعنى الذى تضمنته كلماته حتى استدارت إليه بحدة , قائلة : " ماذا تقصد ؟ "

قال وهو يهز كتفيه : " ان السيدة وحيدة وضعيفة البنية . وسيلفي ألجو مرافقتها المعتادة هى امرأة طيبة . ولكنها لاتستحق شيئا على مودتها وعطفها . ثم أن السيدة مولعة بك . "

توترت ملامح ميغ وهى تقول : " لقد سبق وأخبرتك بأننى لاأريد شيئا منها . "

قال بصوت عنيف ساخر : " إننى أعرف ماذا سبق وقلت . ولكن كل شخص بامكانه أن يغير رأيه . وفى مدى شهر يمكنك ان تحققى الشئ الكثير . حتى انه يمكنك ان تقنعى السيدة بأن تحول اليك كل ما تملكه , إذ تجد أمامها القصر القديم المتهالك , أو المرأة الشابة الجميلة .. ولاشك أن كفة الميزان تميل فى مصلحتك , ياعزيزتى مارغريت . "

انتابتها ثورة عمياء ورفعت يدها تهوي بها على وجهه , ولكن يد جيروم كانت أسرع بامساك معصمها بقبضة من حديد .

قال بلطف وبرود : " آه . كلا , إياك . "

وسرعان ما كان يأخذها بين ذراعيه يشل بذلك . حركتها .
كان غاضبا بشكل لم تره من قبل . وهو يحتضنها بمشاعر محمومة لم تكن مشاعرها هى بأقل منها .

وفجأة , وبنفس العنف الذى بدأ به احتضانه لها , تركها من بين ذراعيه رافعا إياها عنه وكأنه يطردها عنه طردا .

وهويقول بصوت خشن متهدج : " آه . تبا لك , يا مارغريت . ما الذى تفعلينه بى ؟ "

وسار نحو الباب , قاذفا بقدمه كأس العصير الذى كان قد سقط على السجادة . ثم خرج غالقا الباب خلفه بعنف .

كانت هناك كأس مهشمة على السجادة وعليها ان ترفعها بسرعة . وركعت على السجادة بحذر , ورأسها يدور , تلتقط القطع الزجاجية بمنديلها . واجفلت عندما جرحت احداها . طرف أصبعها .

نظرت إلى خط الدم الاحمر السائل . كان الجرح عميقا , والأثر سيبقى خالدا . وأحست بطعم دموعها المالحة وهى تنحدر إلى شفتيها .


الساعة الآن 01:53 PM

Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.