آخر 10 مشاركات
زوجة لأسباب خاطئة (170) للكاتبة Chantelle Shaw .. كاملة مع الرابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          الزواج الملكي (109) للكاتبة: فيونا هود_ستيوارت.... كاملة (الكاتـب : فراشه وردى - )           »          لاجئ في سمائها... (الكاتـب : ألحان الربيع - )           »          258 - بلا عودة - هيلين بروكس ( إعادة تنزيل ) (الكاتـب : * فوفو * - )           »          بريئة بين يديه (94) للكاتبة: لين غراهام *كاملة* الجزء الثاني من سلسلة العرائس الحوامل (الكاتـب : Gege86 - )           »          كبير العائلة-شرقية-للكاتبة المبدعة:منى لطفي(احكي ياشهرزاد)[زائرة]كاملة&روابط* (الكاتـب : منى لطفي - )           »          سحر جزيرة القمر(96)لـ:مايا بانكس(الجزء الأول من سلسلة الحمل والشغف)كاملة إضافة الرابط (الكاتـب : فراشه وردى - )           »          ليلة مصيرية (59) للكاتبة: ليندسي ارمسترونج... (كاملة) (الكاتـب : monny - )           »          1026 - مؤامرة قاسية - هيلين بروكس - د.ن (الكاتـب : pink moon - )           »          كوابيس قلـب وإرهاب حـب *مميزة و ومكتملة* (الكاتـب : دنيازادة - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى الروايات والقصص المنقولة > روايات اللغة العربية الفصحى المنقولة

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 21-11-19, 03:44 PM   #11

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



اتصل بي بيتر ليطمئنني ويخبرني أن حالة ليلى النفسية قد تحسنت، وعندما استفسرت منه عن فحوصاتها الطبية قال إن الطبيب المختص بالأمراض العصبية قد اكتشف من خلال الصورة وجود خلل في جهازها العصبي وحدّده. سألته إن كان الطبيب قد طلب صورة أخرى فقال لي أنه اكتشف الخطأ على نفس الصورة التي رآها الطبيب في دمشق منذ أكثر من سنة!..
صدمني كلامه؛ فالخلل واضع على الصورة منذ ذاك الحين لم يكتشفه الطبيب؛ بل شخّص حالتها على أنها مرض نفسي وحوّلها إلى طبيب نفساني سرعان ما اكتشف هو الآخر لها مرضاً مناسباً ووصف لها الدواء أيضاً!!
ونحن صدّقنا؛ فلقد كانت لليلى تصرفات تجعلنا نعتقد أن مرضها نفسي فعلاً، وعندما أعيتنا الحيلة معها، رغم المعالجة النفسية، انتقلنا للعيش في دمشق خصيصاً من أجلها، وسجلناها مع بداية العام الدراسي الجديد في مدرسة خاصة هناك اعتقاداً منا أن تغيير البيئة المحيطة بها تغييراً جذرياً قد ينفع؛ فتحصيلها المدرسي كان في تراجع مستمر، وعلاقاتها مع أصدقائها في تدهور أيضاً.
والأيام تمر، ومع مرورها تزداد حالة الابنة سوءاً، لأن مرضها عضوي منذ البداية ونحن لا نعلم..
لم نكن نعلم أن تصرفاتها حيالنا ليست سوى عوارض تقليدية لهذا المرض اللعين الذي يؤثر على الحالة النفسية للمريض أيضاً.
لم تداوم في المدرسة إلا أسبوعين تيقّنا بعدها أنه لابد لها من السفر.
لا أعرف كيف خرجت من المدرسة وأنا أمسك بيدي إضبارة ليلى التي استعدتها من الإدارة، وكلام المديرة مازال يرن في إذني:
ـ لقد عملنا مافي وسعنا لتفهّم وضعها.. آسفة؛ ولكن ابنتك حقاً معاقة.
.. معاقة.. معاقة.. ابنتي الوحيدة معاقة.. يا إلهي ماذا بوسعنا أن نفعل من أجلها؟
كنت فقط أريد أن أطلب لها إجازة طبية لإجراء فحوصات شاملة لها في المشفى؛ لكن المديرة صدمتني بكلامها. لا أعرف كيف اتصلت بأمي بالهاتف، وكيف أخبرتها عن ذلك كله وأنا أبكي.. وهي تبكي.
كرهت مكوثي وحدي في الشقة الخالية منهما في دمشق؛ فسافرت إلى اللاذقية…
ذهبت إلى سوسن وأمها..
سوسن التي آلمها كثيراً التشخيص الخاطئ لمرض ليلى؛ لم تستطع أن تغلق فمها عندما التقت بالصدقة تلك السيدة تمتدح ذاك الطبيب الشهير وكأنه معصوم عن الخطأ.
أنا لست ناقمة عليه أنه أخطأ؛ فللَّه وحده الكمال؛ ولكنني توقعت أن يرى على الأقل الخلل الواضح على الصورة، ويريني إياه، وينصحني بإحالتها إلى طبيب مختص هناك.. في بلدها الثاني.. بلدها الأوروبي الغربي المتقدم عنا تقنياً في الطب، وغير الطب؛ فليس في اعترافه بعجزه عن التشخيص أي انتقاص من قدره كطبيب بارع؛ بل بالعكس..
فكل إنسان مهما بلغ من العلم لابد أن ثمة إنسان آخر أكثر منه علماً.. كنت عندئذ سأحترمه لتواضعه أكثر.. فليرحمه الله.
قالت لي والدة سوسن أنها قلقة جداً، وتود الذهاب إلى صيدنايا وإيقاد الشموع من أجل ليلى وأسعدتني كثيراً مبادرتها الوجدانية..
ذهبنا إلى صيدنايا في يوم مشمس دافئ؛ لكن دفأه لا يذيب صقيعاً من الهم تراكم في القلب حتى أوجعه… أشعلت شموعاً وجثوت على ركبتي في دير العذراء أذرف الدموع من أجل ابنتي وأطلب من الله أن يرفق بها. ثم عادت سوسن وأمها إلى اللاذقية.. أما أنا؛ فبقيت وحدي في دمشق أنتظر، وأنتظر الأيام تمر بي بطيئة مملة. قال لي بيتر: "فحص ليلى سيكون يوم 3/12 وماعليك سوى التحلي بالصبر والانتظار".
أجل.. مزيداً من الصبر والانتظار.
****
ذهبت أزور أختك في منزلها في دمشق، وأقسمت ريما أن أبيت الليلة عندها أسوة بسناء، وإلا فإنها ستغضب مني.. أذعنت للأمر مجاملة لها ورغبة مني في سماع خبر تخبرني به عنك.
قالت لي ريما أنها سألتك إن كنت غاضباً مني؛ فقد لاحظت أننا لم نتبادل سوى التحية، وأنك استغربت سؤالها وأخبرتها أنك لا تغضب أبداً مني وأنك تحبني.. حتى أنك أخبرتها أنك زرتني في بيتي.
(هل أنت تحبني حقاً وتكابر؟).
كم فرحت للخبر..
فرحت.. واكتفيت بابتسامة دون تعليق كي لا تلحظ ريما فرحتي، ونمت سعيدة.
في اليوم التالي.. وأنا منهمكة بإدخال المفتاح في باب الشقة التي استأجرتها في دمشق، تناهى إلى مسمعي صوت جارتي أم ناجي تناديني من الطابق العلوي:
ـ كارمن.. كارمن؟
ـ ما الأمر يا أم ناجي؟‍!…
ـ لقد اتصل زوجك هاتفياً بك وأنت غائبة.
ـ حسناً.. سأتصل به فوراً.. شكراً لك.
وهرعت فوراً إلى الكشك القريب لأتصل به؛ فأخبرني أن علي الحضور بأسرع وقت لأن ليلى ستدخل المشفى الاثنين القادم، ووجودي ضروري بقربها.
أسرعت بعد ذلك فوراً إلى مكتب الطيران لأحجز بطاقة السفر ليوم السبت.. فاليوم هو الخميس وعلي العودة إلى اللاذقية لأحزم حقيبتي وأخبر أحمد ابن الأرملة الفقيرة أم فادي أني سأسافر.
أم فادي أرملة طيبة القلب جداً..
جاء زوجها الشرطي بحكم عمله إلى هذه القرية منذ أكثر من عشرين سنة، وجلبها معه..
امرأة ريفية طيّبة وأميّة…
كان يحب الأولاد ويريدها أن تنجب وتنجب.. لكنه توفي في حادث، وترك لها نصف دزينة منهم.
تركها لتعتني بهم وتعمل من أجلهم عاملة تنظيف في البلدية…
أحمد طالب البكالوريا.. يقطن في غرفتين حقيرتين مع أمه وأخوته الخمس، ويجعله ضيق المكان وانعدام الهدوء غير قادر على الدراسة والتركيز، ولذا فقد اقترحت على والدته عندما سافر زوجي وابنتي أن ينتقل للعيش في منزلي..
شعرت أم فادي بادئ الأمر بالحرج والارتباك من هذا العرض الذي كانت هي وابنها في أشد الحاجة إليه.فشجعتها وأنا ألمح في عينيها السوداوين علائم الفرح والامتنان.
ـ الغرفة جاهزة، وبالمجان أيضاً..
قلت لها مازحة..
ـ جزاك الله خيراً يا أم ليلى.. لقد فكرت حقاً في استئجار غرفة صغيرة له كي لا تضيع عليه السنة رغم ضيق ذات اليد.. أنت أدرى بأحوالنا يا أختي..
خصصت له غرفة مستقلة ليدرس وينام فيها؛ حيث الهدوء المخيّم على المنزل سيعينه على الدرس، وبذات الوقت يروي الحديقة ويطعم العصافير، ولا يبقى المنزل مهجوراً خاصة وأني معظم الوقت في دمشق.


****************



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 21-11-19, 03:45 PM   #12

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


الشتاء الأول
شوق آخر وانتظار




أقلعت بي الطائرة في ذاك اليوم الشتائي، , وأطلقت مع انطلاقها من مدرج المطار لدموعي العنان.. تسيل على وجنتي بلا حرج.
أسافر إلى هناك مرغمة؛ فابنتي بحاجة إلى وجودي بقربها أكثر من أي وقت مضى، وأنا بحاجة لأن أضمها إلى صدري وأبكي ألماً من أجلها.
كان بيتر ينتظرني في المطار، وأحسست بالبرد ينفذ حتى عظامي وأنا أدخل السيارة في مرآب المطار الكبير. أمطرت بيتر طوال الطريق بوابل من الأسئلة عن ليلى…
لقد استدعى جليسة أطفال لترعى ليلى أثناء غيابه ليجلبني من المطار؛ فوالديه يقضيان أياماً في اجازة.
استقبلتني جليسة الأطفال العجوز بلطف وأخبرتنا أن ليلى أوت إلى الفراش، ثم استأذنت بالانصراف، وذهب بيتر معها ليوصلها إلى بيتها بالسيارة .
لم تكن قد غفت بعد، وما إن سمعت أصواتنا حتى هرعت إلينا، وارتمت بين ذراعيّ تعانقني وتحاول أن تتكلم؛ ولكن الكلمات لاتخرج أبداً بوضوح من بين شفتيها..
يداها متشنجتان وأصابعها مضمومة، وجهها متوتر وذراعاها تتحركان بطريقة عشوائية كلما حاولت أن تشرح لي أمراً ما استعصى علي فهمه من المرة الأولى.
جلست وحدي مع ليلى أتأمل وجهها الشاحب وجسمها النحيل.. كنت أحاول قدر الإمكان أن أخفي انفعالي وأبدو طبيعية ولا أجعلها تشعر كم تؤلمني رؤيتها هكذا.
عاد بيتر ونحن مازلنا نتحدث، ثم كان لابد من النوم..
ذهب بيتر إلى الغرفة الأخرى، وضممت ليلى إلى صدري ونمنا..
اليوم الاثنين..
المسافة مابين المنزل والمشفى، حيث ستجري فحوصات ليلى، لا تتعدى الربع ساعة بالسيارة، لكنني شعرت أنها تمتد ساعات..
أصبح الرعب يتملك ليلى كلما اضطرت لركوب السيارة فتبدأ بالصراخ الهستيري وتهتاج.
قال لي بيتر، وقد قرأ المعاناة في وجهي:
ـ أرجوك لا تنفعلي.. حاولي أن تتجاهلي تصرفاتها.
ووصلنا المشفى وأعصابي علىوشك الانهيار؛ فأنا لم أرها من قبل في حال كهذه.. أما بيتر فلم يعد ذاك المشهد بجديد عليه..
ما إن توقفت السيارة حتى هدأت المسكينة، وقد تبلّل وجهها الأحمر وشعرها بالعرق الغزير من شدة الانفعال. في المشفى أخذوا خزعة من نخاعها الشوكي، وجسّوا أعضاءها عضواً عضواً بأجهزتهم المتطورة، وأجروا لها صوراً شعاعية وغير شعاعية…
لم تمر الفحوصات بسلام؛ فقد كان لابد لليلى من الاعتراضات المصحوبة بالصراخ.
اليوم الأربعاء..
كان لابد في الصباح من أخذ خزعة أخرى من النخاع الشوكي، من منطقة الحوض هذه المرة، وفي المساء استقبلنا الدكتور شميد الطويل القامة جداً في مكتبه بالمشفى…
شرع الدكتور شميد، بعد الاستئذان منا، بتصوير ليلى بالفيديو معللاً ذلك بأن حالة ليلى حالة خاصة لم يسبق له أن عرفها من قبل، وأن عليه تصويرها ليسهل عليه دراسة حالتها بشكل أفضل.
كان يركز التصوير على حركات يديها وأصابعها المتشنجة.
جلسنا معه بعد ذلك بدون ليلى حول المنضدة الصغيرة المستديرة، وبدأ يشخص لنا مبدئياً، ولحين الحصول على النتائج النهائية للتحاليل، حالة ليلى المرضية:
ـ أشك بنسبة 95% أن يكون مرضها عصبياً نادر الوجود، وهذا المرض ـ في حال ثبوت إصابتها به ـ مرض ينتهي بها إلى….
ـ أينتهي بها إلى الموت؟!..
سألته بعد أن استجمعت شجاعتي.
قال لي وهو يناولني بطريقة روتينية جداً علبة المناديل الورقية:
ـ أجل.. للأسف.. تسوء حالتها تدريجياً ثم…
أجهشت بالبكاء وارتفع نحيبي، وبيتر ينحني فوقي ويضغط على يدي.
عدنا إلى البيت وأنا أسيطر على أعصابي.. أحاول كبت مشاعري فلا يبدو منها ماقد يحرّك الشك في نفس ليلى. إنها ذكية وتدرك فوراً من تعبير وجهي أن ثمة أمراً ما..
لكني في المساء، وأنا أحتضنها في الفراش، وأحكي لها حكاية قبل أن تنام ترقرقت الدموع في عينيّ.. حدّقت ليلى فجأة في وجهي وسألتني:
ـ ماما.. ما الأمر؟!
ـ لاشيء يا حبيبتي.. يبدو أنني أصبت بالزكام؛ ولذا تدمع عيناي قليلاً.. تصبحين على خير.
ـ تصبحين على خير.
قبّلتها على الوجنتين وخرجت مسرعة من الغرفة وأنا أحس بالاختناق.
أسرعت إلى الشرفة لأبكي بصوت عالي حيث لا يسمعني أحد؛ فالظلمة أطبقت على الدنيا من حولي؛والوقت شتاء، والجميع ينعم بالدفء، وراء الأبواب المغلقة..
بكائي أشعرني ببعض من راحة؛ فمسحت دموعي ودخلت..
كان بيتر يحتسي القهوة مع والديه ويحدثهما عن تشخيص الطبيب المبدئي لمرض ليلى.
قال والده ببرودة وهو ينفث دخان سيجاره:
ـ إن كان الأمر كذلك؛فمن الضروري فك التقويم الموضوع عن أسنانها كي لا يضايقها حتى النهاية!
نظرت إليه بقرف وكأنني على وشك أن أتقيأ وقلت له:
ـ يا لأهمية هذا الأمر الذي تلفت انتباهنا إليه الآن!.. فعلاً لم يتبق لدينا سوى مسألة التقويم لنفكر فيها!… لقد سلّمت حقاً بنهايتها المحتومة مع أن تشخيص الطبيب مازال مبدئياً؛ ومازال لدينا نسبة 5% من الأمل على الأقل.
تمنيت من شدة الانفعال لو أصفعه.. لكنني عوضاً عن ذلك أجهشت مجدداً بالبكاء.
لم يعرف عمي النبيه بما يجيب؛ فقد أخرسه كلامي وأدرك أنه تفوّه بما لم يكن ينبغي له أن يتفوّه به؛ فالتزم الصمت كزوجته وابنه.
في تلك الليلة أصابني الأرق وأنا أفكر بابنتي الغارقة في النوم بجانبي.. أتأملها وأمسح برفق وجهها الشاحب كي لا أوقظها، وأقبّل يدها الصغيرة التي لا تسترخي إلا أثناء النوم فقط.
أفكر في كلام الطبيب وأتساءل:
ماذا لو كان تشخيصه صحيحاً؟
هل أصبحت أيامها حقاً معدودة، وسأفقدها بعدئذ إلى الأبد؟!
يا إلهي.. لا تجعل تلك إرادتك.. أرجوك..
قبل بزوغ الفجر بقليل، استسلمت للنوم وحلمت بليلى تذهب إلى المدرسة، ثم لا تلبث أن تعود منها لأنها مريضة.
****
أتأمل من النافذة الثلج يتساقط خفيفاً في هذا اليوم الرابع من كانون الأول، ويغطي تدريجياً أسطح البيوت القرميدية وأغصان الأشجار الصنوبرية الباسقة، وقد استحال لون البحيرة رمادياً كالسماء
الملبّدة بالغيوم.
ليلى مازالت على حالها لا تعرف كيف تستلقي ولا كيف تستريح ولا كيف تأكل..
أصابعها مازالت مضمومة ويداها مازالتا متشنجتين والدكتور شميد لم يتصل بعد؛ إذ يبدو أن نتيجة الفحص الأخير لم تظهر بعد.
بعد يومين اتصلت بي ريما من اللاذقية لتسأل عن ليلى وعني وتستفسر عن موعد عودتي إلى سورية.
لا أدري متى سأعود ولا أدري أيضاً ماذا يمكنني أن أفعل هنا، والانتظار مقيت.
أتذكرك رغم الهموم الكثيرة التي تقض مضجعي و… أشتاق إليك.
وبيتر؟!.. لطيف وحنون! لكني يئست حقاً من إذابة جليده.
أغيب عنه ويغيب عني ولا يكون للقائنا أبداً، ومهما طال الفراق تلك الحرارة التي أفتقدها.
لقد اقتصر تواصلنا الجسدي بعد غياب على مجرد قبلة عابرة استقبلني بها في المطار!
وقبل هذا الغياب؟!
منذ متى لم تجمعنا لحظات حميمة؟!.. ربما منذ سنة، أو أكثر؟!.. لا أدري حقاً!..
"لحظات"؟!.. بل دقائق.. دقائق!!.. (فالدقائق أطول من اللحظات، والكذب حرام!)..
نتلامس لدقائق قبل أن يأتي الملل وينتهي الأمر، فنبقى صامتين، أو نتحدث.. ربما في السياسة!!
نتلامس، فلا تسري في جسدينا تلك الكهرباء التي ينبغي أن تسري فيهما..
نوهم أنفسنا أننا نمارس الحب؛ لكننا لا نعرق أبداً!!..

"العرق دموع الجسد، ونحن في ممارسة الحب كما في ممارسة الرسم، لا نبكي جسدنا من أجل أية امرأة، ولا من أجل أية لوحة.. الجسد يختار لمن يعرق".
هكذا خاطب العاشق حبيبته في الكتاب؛ وأنا لم أكن بحاجة لممارسة الحب معك كي أعرق!..
كانت تكفي يدك تمسك بيدي في تلك الأمسية لتصيبني الحمّى، وأعرق.
تلك الأمسية أصبحت بعيدة.. بعيدة جداً.. كالحلم.
الآن .. ربما أكثر من أي وقت مضى أردت أن أضمه ويضمني..
أردت أن ألتمس من جسده ويلتمس من جسدي دفئا…
أردت أن أمنحه ويمنحني من تعانقنا قوة…
قوة تجعلنا على الأقل قادرين على مواجهة محنتنا..
قوة تجعلني أطرد من رأسي أفكاراً مجنونة محورها أنت.
أردت أن أجرّب للمرة الـ…؟
ولكن.. عبثاً.
فلا اللمسات ولا المداعبات ولا حتى التلميحات تؤثر فيه….
في ذاك المساء، وليلى نائمة، ووالديه مازالا مسافرين، قلت له وهو مستغرق بمشاهدة برنامج ما على التلفاز:
"أنا ذاهبة لآخذ حمّاماً سريعاً، ثم أذهب إلى الفراش، فهل توافيني… إلى هناك.. بعد ربع ساعة؟!"..
أجابني بلا مبالاة ودون أن يرفع عينيه عن التلفاز: "نعم.. نعم"..
لم تكن ردة فعله أو جوابه مشجعاً؛ لكنني رغم ذلك اندسست في الفراش، في الغرفة الأخرى أنتظره… وانقضت ربع ساعة، ونصف ساعة، ثم ساعة كاملة، ورغبتي فيه تتلاشى ويحل بدلها غيظاً بدأ يغلي في داخلي.. كما في كل مرة، وصوت التلفاز مازال يلعلع من الطابق السفلي!
بدأ النوم يداعب أجفاني عندما شعرت بيده تلامس كتفي، وهو يهمس:
ـ كارمن… هل نمتِ؟!
ـ أجل!
ـ تصبحين على خير إذن..
كان هذا كل شيء… لم يعترض على جوابي؛ بل بدا لي أن جوابي أراحه!..
لم يحاول أي شيء؛ بل ذهب تلقائياً إلى الغرفة الأخرى، حيث تنام ليلى، لينام!
وأنا لا أريد أن أفتعل معه شجاراً؛ فظروفنا الحالية تجعلني أخجل أن أكون أنانية وأطالب بحقي كزوجة.. كامرأة..
أريده أن يدرك ذلك بنفسه بطريقة غير مباشرة.. ولكن هيهات!
كانت هذه أول محاولة طوال فترة تواجدي هناك، وآخر محاولة إلى أجل غير مسمى!!
******



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 21-11-19, 03:45 PM   #13

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


سافرت في كانون الأول، لأنتظر من جديد.
أنتظر نتائج الفحوصات…
أنتظر وأفكر..
أفكر بأمر لم أفكر أبداً به من قبل بجدية مطلقة.
كنت في الواقع أهرب من التفكير فيه وأشغل نفسي دائماً عنه بأمور أخرى محاولة بطريقة ما إقناع نفسي إنه ليس "كل مايتمنى المرء يدركه"..
يشركني بيتر في كل أمور حياته صغيرة كانت أم كبيرة..
لم يكن له رفيق، فكنت رفيقته..
معه سافرت إلى أصقاع الدنيا، ومعه غامرت وبنيت حياة مشتركة مغايرة.. ولكن ثمة حاجز غير مرئي كان يفصل دائماً، ومنذ البداية، بيننا.
حاجز غير مرئي، حاولت دائماً تجاهل وجوده والقفز من فوقه؛ لكنه موجود رغماً عني ويفرض وجوده علي في الفترة الأخيرة بكل قسوة..
كان بيتر ـ ومازال ـ طيباً، وربما مغفلاً..
لم يقرأ أبداً مابين السطور في كل تلك المواقف الحرجة التي كنت أحياناً أجد نفسي فيها طوال سني حياتنا المشتركة..
لم يقرأ مغزى أحد "الأصدقاء" وهو يقترح علي أمامه الترفيه عني، عندما يمارس هو..(أي زوجي) رياضة التزلج.. ولا قصد ذلك السفير العربي الذي يريدني سكرتيرة "خاصة"..
لم ير النظرات الجائعة لنادل الفندق، يدعه يدخل ليضع صينية الشاي على الطاولة في الغرفة، وقد خرجت تواً من الحمام بقميص النوم الشفاف لأتفاجأ به يقف هناك يتأملني؛ فأصرخ به أن ينصرف فوراً ثم أصب جام غضبي على زوجي الذي أدرك أخيراً سخافة الموقف الذي وضعنا فيه!!..
إن غيرة الرجل الشرقي قد تعميه أحياناً، وتلغي عقله، وتدفعه لارتكاب الحماقات، وأنا لم أرغب قط في رجل يفقد بسرعة أعصابه، وبلا مبرر… لكنني كنت أرغب دائماً في أعماقي ببعض غيرة أشعر بها منه تجاهي.. غيرة لا تسيطر على تصرفاته معي وتحاصرني وتحد من حريتي بلا مبرر؛ ولكنها غيرة لذيذة غير مباشرة تشعرني أني من حقه، وأنه لن يتنازل عني أبداً لرجل آخر.
الرجولة موقف…
وكثيرة هي المواقف التي بحثت فيها عن رجولة بيتر؛ فلم أجدها.. ليس في السرير وحسب؛ فهذه يمكن تعويضها بقبلة أو ضمّة.
(ولكن أين قبلته من قبلتك، وذراعيه من ذراعيك القويتين؟!).
الرجولة موقف..
إنها تلك اللحظات التي تشعر فيها المرأة بحاجتها إلى رجل قوي يحميها..
رجل يغار عليها..
ذاك الشعور اللذيذ بضعفها يحتويه رجل بقوته..
أما المساواة؛ فهي موضوع آخر!


***



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 21-11-19, 03:46 PM   #14

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


كنت أتمنى أحياناً لو كنت قاسية القلب، فأحزم حقائبي وأتركه وأرحل..
ولكنني لستُ كذلك.. لذا كان إحباطي يتحول غضباً يفجّر الكلمات في حلقي، وتمتد يدي لتكسر صحناً أو كوباً، علّ حنقي يتكسّر معه!..
أما هو.. بيتر.. فكان يقف أمامي جامداً كالتمثال لا ينبس بكلمة؛ أو يتوارى عن أنظاري ينتظر أن تهدأ ثورتي، وعندئذٍ فقط يقبل نحوي..
يناولني كأس شراب، أو يمد لي يده بلفافة ويشعلها لي..
يجلس قبالتي وينظر في عيني،ويعاتبني..
أنظر إلى عينيه وهو يتكلم بهدوء؛ فألمح فيهما عجزاً وضياعاً؛ فأحزن من أجله، وأشفق عليه..
أخجل من ثورتي، وأبكي بصمت.. ثم.. أعتذر..
***
اتصل بنا الدكتور شميد ليخبرنا عن نتائج الفحص الأخير:
"لقد اكتشفنا وجود نقص في إفراز مادتين في السائل الموجود في المخيخ هما…. و….
ومن الأرجح أنهما المسؤولتين عن التشنجات في يدي ليلى، وربما يوجد بعض الأمل بإجراء معالجة ذات شقين: فيزيائية ودوائية.. هذه تكهنات أولية، سأتصل بكم بعد يومين أو ثلاثة لنرى ماينبغي عمله؛ فمازلت أنتظر نتائج تحليل آخر"..
كنت أحاول التركيز على كلامه؛ لكن آلاف المطارق كانت تطرق في رأسي…
تكهنات.. وانتظار.. مازلنا حتى الآن في طور التكهنات؛ وفي مرحلة الانتظار لنرى ماينبغي عمله.
اتصلت بأمي لأخبرها عن آخر التفاصيل، وكانت متوترة وبكت….
***
أشرقت الشمس أخيراً.. أشعتها تغمرني دون دفء.. وأنا تعيسة..
الجو بارد تلسع نسماته وجهي، وقد خرجت مع بيتر.. أردته أن يرافقني لأشتري هدية لليلى بمناسبة عيد ميلادها..
كنا نسير في الشارع جنباً إلى جنب صامتين، متباعدين، وقد وضع كل منهما يديه في جيوب سترته واستغرق في أفكاره..
عندما عدنا، انضم هو إلى والده ليشاهد برنامج الرياضة في التلفاز.. أما والدته فكانت منهمكة في ترتيب المنزل، وليلى مستلقية في السرير لا تريد الاستحمام..
فالحمام أصبح هو الآخر مصدر رعب لها.. تخاف من الدخول إليه، ومن الماء يبلل جسمها النحيل.
علينا في كل مرة أن نحملها إليه حملاً، ونجبرها على الاستحمام وهي تبكي وتصيح.. وقد كانت تهوى الماء وتجيد السباحة.
تركتها في السرير بعد أن عجزت عن إقناعها بدخول الحمام؛ فلم تكن لدي رغبة في سماع صراخها؛ فأعصابي منهارة وأرغب في تدخين سيجارة.
***
اليوم الأربعاء….
عيد ميلاد ليلى..
أحضرت لها كعكة البرتقال، وأوقدت لها اثنتي عشرة شمعة، لكنها أبت أن نفرح بها؛ وبدأت تبكي وترجونا أن نؤجل الحفل إلى الغد..
جدها وجدتها أصرّا على الاحتفال رغم احتجاج ليلى واقتطع كل منهما من الكعكة قطعة التهمها بعد إطفاء الشموع.
كان عيد ميلادها هو أتعس عيد ميلاد..
أما أنا؛ فكنت عاجزة حتى عن البكاء..
***
في الصباح الباكر أتت ليلى إلي.. كنت وحدي في البيت شاردة الذهن أنظر عبر النافذة، ولا أرى شيئاً.جاءت إلي لتعتذر عما بدر منها البارحة..عيناها حزينتان ترمقاني بنظراتهما وتستعطفاني:
ـ آسفة يا ماما.. كنت متعبة جداً البارحة وأرغب بالنوم؛ وكنت أود أن نؤجل أكل الكعكة حتى اليوم.. لكن جدتي وجدي رفضا ذلك"..
ـ لا بأس يا حبيبتي.. أنا لم آكل من الكعكة إكراماً لك.. تعالي نحتفل سوياً لوحدنا بعيد ميلادك"..
ـ أخرجت باقي الكعكة من الثلاجة، وأعدت وضع الشموع عليها.. ومالبث بيتر أن عاد؛ فأشعلنا الشموع ونفخنا عليها معاً وضحكنا.. ضحكنا كثيراً ونحن نأكل باقي الكعكة ونلتقط الصور..
****
ـ آلو.. مرحباً فيرونيكا.. كيف حالك؟
ـ أهلاً.. أهلاً كارمن.. ياللمفاجأة.. أنت هنا؟‍
ـ أجل.. أنت تعلمين أن ليلى مريضة، وقد جئت من دمشق خصيصاً من أجلها؛ فقد جاء دورها أخيراً لإجراء الفحوصات.
اتفقنا أنا وفيرونيكا أن أزورها اليوم بعد الظهيرة.. فيرونيكا، هي صديقتي الإيطالية التي أعرفها منذ خمسة عشر سنة.
فيرونيكا ترعرعت هنا؛ لكن طبيعتها "المتوسطية" طغت على تربيتها الأوروبية الغربية؛ والإيطاليون (خاصة الجنوبيين منهم)، كم يشبهوننا بطبعهم الناري ومآكلهم وكرمهم وعلاقاتهم الاجتماعية.
فيرونيكا كانت جارتي، وكانت شقتها مقابلة لشقتي في الطابق الثالث.
وكان من عادتنا نحن سكان البناية رقم (2) أن نجتمع على اتفاق عفوي بيننا في الصيف فنتقاسم إعداد المأكولات لعشاء مشترك نشوي فيه اللحم في الهواء الطلق في حديقتنا المشتركة.. نستمتع منها بمنظر الشمس تغرب متأخرة على البحيرة، والظلام يحل متكاسلاً، ولا يغمر المكان تماماً إلا بعد العاشرة مساءً في عز الصيف…
أما في الشتاء؛ فكنا نلتقي في بيت أحدنا، أوفي قبو البناية؛ فنجلب إليه المناضد والكراسي؛ ونأكل فيه مرة طعاماً إيطالياً أعدته فيرونيكا، أو طعاماً سورياً أعددته أنا؛ أو أي طعام آخر من باقي النسوة، أو الرجال من الجيران الذين يجيدون الطهي أيضاً‍!..
نزّين القبو في عيد الميلاد ونستقبل فيه "بابا نويل" ليوزع هداياه على الأطفال.. أما في الأيام العادية؛ فننشر فيه الغسيل… في الأيام المطيرة.
كان لي مع فيرونيكا ذكريات جميلة كثيرة..
جاءتني مرة وهي حامل لتخبرني عن موعد ولادتها المرتقب؛ فرجوتها أن تتريث وتضع مولودتها في يوم ميلادي؛ لكنها لم تستطع الوفاء بوعدها، وولدت قبل ذلك بيوم واحد!
ذهبت إليها أهنئها وأعاتبها مازحة على عدم وفائها، وأنا أذكرها بوعدي الذي وفيت لها به قبل سنتين!!
كانت فيرونيكا قد دعتنا ـ نحن وباقي الجيران ـ لتناول "اللزانيا" في القبو، وأنا حامل في اليوم قبل الأخير.
قالت لي فيرونيكا وهي تتأمل بطني:
ـ أرجو أن تتمكني من الحضور غداً للعشاء؛ ولا تخيبي أملي وتذهبي إلى المشفى.
ـ طبعاً.. يا عزيزتي.. سوف أؤجل الولادة يوماً واحداً من أجلك فقط!!
وهذا ماحصل فعلاً.. التقيت مع بيتر بالجيران في القبو وشاركناهم بالتهام صحون اللزانيا، وضحكت فيرونيكا وأنا أغمزها قائلة:
ـ .. أرأيت؟.. إني أفي دائماً بوعدي!
****



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 21-11-19, 03:47 PM   #15

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


في اليوم التالي أحست بحركة غريبة في بطني؛ فأسرعت فوراً إلى الطبيب الذي فحصني سريعاً وطلب مني أن أذهب فوراً إلى المشفى.
قلت فجأة لبيتر وهو يقود السيارة بعصبية إلى المنزل أولاً لجلب حقيبتي التي أعددتها لآخذها معي إلى المشفى:
ـ يا إلهي يابيتر.. علي أن أعد بطاقة لجارتنا ماريانا.. لقد نسيتها.
حدّق بي بيتر:
ـ ماذا؟!… عليك فقط جلب الحقيبة؛ ثم التوجه فوراً إلى المشفى.
ـ لا عليك.. لماذا أنت متوتر هكذا؟! .. أستطيع بسرعة أن أنجز البطاقة!
كانت العادة المتعارف عليها في هذا البلد أن ترسل الأسرة التي تتوقع مولوداً بطاقات لطيفة للأهل والأصدقاء تعلن عن ولادته، ويدوّن عليها اسمه وساعة ولادته، وغير ذلك..
وقد أحببت هذه العادة؛ فصممت البطاقات وصنعتها بنفسي.
***
جلست بهدوء أرسم على القماش وأقص وألصق، ثم وضعت البطاقة في المغلف وكتبت اسم ماريانا عليه وقلت لبيتر الذي كان يذرع الغرفة جيئة وذهاباً:
ـ هاهي البطاقات جاهزة.. وماعليك سوى كتابة الاسم وساعة الولادة وإرسالها فوراً بالبريد..
ـ حسناً… حسناً.. أسرعي أرجوك.. يالبرودة أعصابك… وكأنك لست على وشك الولادة!..
ضحكت وقبّلته على وجنته وأنا أقول له:
ـ أنت متوتر أكثر مني.. لا تقلق؛ ستسير الأمور كما يرام.
وسارت الأمور كما يرام، واحتضنت طفلتي بعد مخاض ثلاث ساعات فقط؛ لكنها كانت ساعات ألم متواصل دون توقف.
ألم سرعان مانسيته، وأنا أتأمل وجه صغيرتي المنتفخ وأضحك من الفرح والدهشة.
رأت ابنتي النور يوم الثلاثاء في الساعة السادسة إلا ربعاً من ذاك المساء الشتائي…
وقفت الممرضة أمام سريري وبيدها ورقة وقلما تنقل نظراتها بين بيتر وبيني وتنتظر حتى نقرر أخيراً ماذا نسميها كي تسجل الاسم..
لم يكن السبب في حيرتنا أننا لم نتوقع ولادة أنثى؛ فقد كان بيتر يتمنى ابنة، وكنت أنا أشعر بغريزتي أني أحمل في أحشائي طفلة.
ولكننا احترنا فقط، وحتى اللحظة الأخيرة، في الاختيار بين اسمين كان اسم ليلى أحدهما.
استعدت في ذاكرتي تلك الأيام البعيدة وبيتر يقود السيارة، وأنا جالسة في المقعد الخلفي مع ليلى التي وضعت رأسها على ركبتي ومدت لي يديها لاحتضنهما.. أخفف من تشنجاتهما وتوترها.
لفيرونيكا ابنتان رائعتان اندفعتا فوراً إلى ليلى بعفوية، ولم يبدو عليهما البتة أي استغراب لحالها رغم أنه تغير كثيراً في عيونهما عما عهدتاه.
جلستا بقربها على الأريكة تحدثانها وترويان لها الحكايات من كتاب مزين بالصور، بينما انغمس بيتر في الحديث مع روجيه، زوج فيرونيكا.
دخلت أنا وفيرونيكا المطبخ نحمل ما تبقى من صحون بعد العشاء، وأخبرها بصوت هامس متهدج عن ليلى ونسبة الـ 95% المخيفة لاحتمال إصابتها بذاك المرض القاتل، وفجأة وجدنا نفسينا تحتضن كلاً منا الأخرى وتجهش بالبكاء.. بكيت كما لم أبك من زمن…
أخرجت كل ما تراكم في صدري من هموم كبتها طويلاً… لأني انتظرت طويلاً لحظة عفوية كهذه أبكي فيها تلقائياً مع شخص كفيرونيكا يحبني حقاً، ويشعر بما أشعر به..
***
عادت ليلى إلى المشفى لإجراء المزيد من الفحوصات..
أعطتنا النتائج المبدئية الجديدة بعض الأمل أن يزول شبح مرض الأعصاب ذاك عنها.
تم أخذ خزعة من كبد ليلى دون حدوث مضاعفات، كما أجري لها فحص للقلب، وبقيت في المشفى أربعة أيام تناوبنا خلالها أنا ووالدها النوم عندها.
بعد أسبوع اتصل بنا الدكتور شميد ليخبرنا أن مرض ليلى قد تم تشخيصه أخيراً، وهو بالتأكيد ليس مرض الأعصاب القاتل، ثم حدد لنا موعداً في مكتبه بالمشفى لنتناقش معه حول كيفية العلاج.
تنفسنا أنا وبيتر الصعداء، وحمدنا الله أن ثمة أمل في شفائها كنا على وشك أن نفقده..
***
عيد الميلاد..
سافر الجدان لقضاء العطلة مع أصدقاء لهما…
الشمس مشرقة على ثلج تساقط البارحة… أمسكت بيد ليلى وخرجنا إلى الحديقة.. احتضنتها ونظرنا باسمتين إلى بيتر ليلتقط لنا صورة.
عاد إلى نفسي بعض من السكينة.. إن مرض ليلى مرض عضال وعلاجه طويل الأمد… علاج لمدى العمر؛ لكنها ستبقى على قيد الحياة ولن يخطفها الموت مني، وهذا هو المهم..
مضت الأيام بطيئة هادئة ونحن الثلاثة لوحدنا في البيت الكبير..
كنا نمضي الأمسيات أنا وبيتر، وبعد أن تأوي ليلى إلى فراشها، نفكر بحذر في المستقبل… لم يعد بإمكاننا التفكير بذلك على المدى البعيد؛ بل خطوة خطوة.. فمرض ابنتنا مرض نادر، وخاصة في عمرها، ونحن قلقين مما تخبئه لها الأيام.
علينا أن ننسى أمر المدرسة.. فلا أهمية لها الآن.. كل مايهم هو أن تتماثل ليلى للشفاء.
وأنا؟!
وأنا سأعود إلى سورية بعد أيام..
لقد تم تشخيص مرض ليلى، وبيتر هنا من أجلها، ومن أجل عمله.. وبقائي هنا لا جدوى منه حالياً؛ فأنا لا أشعر براحة نفسية لوجودي في منزل ليس منزلي… في منزل رجل وامرأة لا يريا فيّ سوى امرأة غريبة؛ وليس زوجة لابنهما البكر، شاركته الحياة تسعة عشرة سنة بحلوها ومرها.
كنت قبل الزواج أعيش مع أسرتي مرفهة وسعيدة، وأنعم بقدر كبير من الحرية والاستقلالية في جو عائلي يسوده التفاهم والصراحة.. كان عملي عملاً ممتعاً كله سفر وتجديد تحسدني عليه الكثير من الفتيات..
تركت هذا كله وتزوجت بيتر، واشتغلت في البداية في معامل بلاده لتأمين مصروف الدراسة والحياة الزوجية.. ساعدته بمدخراتي، ورفضت منذ البداية مساعدة والديه المادية لتبديد مخاوفهما تجاهي.. تلك المخاوف السخيفة التي لم يتحررا منها طوال تسعة عشر سنة كاملة… تسعة عشر سنة من حرب باردة مستمرة رغم كل نواياي الطيبة.. رغم كل الود والمساعدة التي لم أبخل بها عليهما حتى وأنا حامل في الشهر الأخير… كنت لا أجد ضيراً في الصعود على السلالم وبطني أمامي لأدق المسامير في السقف الخشبي لمنزلهما الصيفي الذي كان بحاجة لترميم..
ولا أجد ضيراً في أن نضحي بيوم عطلة نهاية الأسبوع المشمس الذي خططنا له مسبقاً؛ فأبقى عن طيب خاطر وحدي في البيت كي يساعد والديه في نقل بعض قطع الأثاث.
كنت أنا من يقنع بيتر كل مرة بتلبية الطلب والمساعدة عندما أراه متأففاً، رغم أني أعلم علم اليقين أن أعذار أخويه المتقاعسين دائماً واهية، وأنهما ـ رغم ذلك ـ أول من يأتي كل مرة ليطالب بحصته من الكعكة! وكنت أنا مَنْ أقنع بيتر بالعمل مع والديه، رغم عدم ارتياحه للفكرة، وتخليت من أجل ذلك عن عمل كنت أحبه، وكانت كل الفرص الذهبية فيه متاحة أمامي.
من المضحك المبكي أن والدي بيتر يعرفان ذلك ويعترفان به… لكنهما غير قادرين على الحب.. ياللمسكينين!.. أخبرني بيتر أن حماتي ذرفت مرة دموعاً أمامه فاستغرب ذلك جداً منها وسألها بسخرية:
ـ أماه.. أنا لا أصدق… أنت تذكرين كارمن فتذرفين الدموع؟!
ـ أجل… لقد عرفت قيمتها بعد أن سافرتما للاستقرار في سورية.
ـ عرفت قيمتها بعد أن سافرت؟!…
ـ أجل.. وبعد أن تزوج أخواك، وأدركت الفرق بين تصرفات زوجتيهما معنا وتصرفات كارمن
- أدركت ذلك عندما أصبح لديك كنتان من هنا، فهل كانتا منك قريبتان أكثر؟! ليتك أدركت أصالة كارمن منذ زمن، وليس الآن… بعد فوات الأوان..
أجل فات الأوان… ودموعها التي سالت مرة سرعان ما جفت ونسيتها..
ألم أقل لك أنها مسكينة… مسكينة لأنها غير قادرة على الحب؟!
سأعود إلى سورية بعد أيام، وأفكر جدياً بعمل دائم في دمشق أو ربما في بيروت..
أخاف من الفراغ الذي ينتظرني في البيت، وأخاف من الوحدة التي تنتظرني معه.
ليلى.. الله وحده يعلم كم سيطول غيابها، ومدرستها أغلقت أبوابها دونها..
لم يعد بوسعي تحضير الدروس معها، أو الانشغال بالرسم والأشغال اليدوية نزّين بها سوية غرفتها.
لم يعد بوسعي أن أصنع لها بنفسي قالباً من الكاتو في عيد ميلادها ليكون في كل مرة مبتكراً لذيذاً يدهش صديقاتها؛ فترجوني ليلى أن ألتقط له صورة قبل أن تقطعه السكين.
لم يعد بوسعي حتى أن أقبّلها قبلة المساء، وأحكي لها حكاية قبل أن تنام في كل تلك الأيام القاسية من البعاد التي مازالت بانتظارنا.
أشهر ثلاثة انقضت بالكثير من الدموع والأرق والقلق.
عدت ثانية إلى الوطن.. حائرة لا أدري ماذا أفعل..
أحاول أن أشغل نفسي؛ لكن الهواجس أكبر من كل ماأحاول إلهاء نفسي به.
لقد جعلني مرض ليلى تعيسة، ولا مبالاة بيتر محبطة..أما أنت؛ فقد جعلني جفاءك حزينة..
***********



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 21-11-19, 03:48 PM   #16

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

الربيع الثاني
يوم دست على البنفسج



كم انتظرتك أن ترفع سماعة الهاتف، وتتصل بي دون جدوى؛ وكم مضت أيام كثيرة كنت فيها قريباً جداً مني… بضع كيلو مترات فقط..
بضع كيلومترات فقط تبعد عيادتك عن بيتي، وكيلو مترات أقل منها يبعد بيتك عن بيتي..
علمت أنت من أختك أن ليلى مريضة فعلاً، وتيقنت أني لم آت إليك في بيتك بحجة كاذبة… وعلمت أنا من أختك أنك تفاجأت بمرض ليلى وحزنت من أجلها، ولكن الهاتف بقي أخرساً لايرن..
ورغم الجفاء لم أشعر أبداً أني ناقمة عليك… بل مجرد حزينة.. حزينة من أجلي، ومن أجلك.. أريد أن أراك؛ وأريدك أن تصالحني.
أريد أن أعرف إن كنت تكن لي بعضاً من الود.. بعضاً من مشاعر.
كيف قرأت رسالتي؟
هل احتفظت بها، أم جن جنونك ومزقتها.؟!..
هل كنت أنت حقاً من اتصل بي في دمشق… في بيت أبو ناجي؟
هل تعرف أنك آلمتني حقاً وتريد أن تصالحني ولكن غرورك يمنعك؟.. أم أن أمري لديك سيان؟… ليتني أعرف!..
وسواء كان أمري سيان لديك أم لم يكن؛ فإن أمرك يهمني… لماذا؟‍
أيها الفوضوي المغرور..
كان شوقي إليك أكبر من أي اعتبار آخر..
أردت أن أزورك…
****
أبرقت السماء، وأرعدت، ثم فتحت أبوابها بأمطار غزيرة..
كانت قطرات المطر المتسارعة تمتد خيوطاً تصل السماء بالأرض.
كم أحب زمجرة السماء هذه‍!…
البرق والرعد والمطر، ورائحة الأرض بعد انقطاعه كانت تأسرني مذ كنت طفلة، وتوّلد فيَّ توتراً لذيذاً وشعوراً بالنشوة حتى الآن.
كنت أجلس وراء النافذة؛ عندما تكفهر السماء وتتلبد بالغيوم.. أتأملها بلهفة، وأعد ومضات البرق وقرقعات الرعد.
كانت سماء دمشق تبرق وترعد وتنهمر أمطارها غزيرة عندما كنت صغيرة..
فلماذا تغيّرت ياسماء دمشق واختفت بروقك ورعودك، وأصبح مطرك رذاذاً خفيفاً خجولاً جداً؟!
اندسست في الفراش وأصوات السماء تهدهدني..
غفوت وأنا أفكر بك..
أفكر في يوم السفر غداً إلى دمشق.. إليك..
عند الثالثة صباحاً أيقظني حدسي لأتفقد نوافذ حجرة المعيشة خوفاً من المطر، الذي لم يتعب من الهطول؛ أن يتسرب عبر الواجهة الخشبية..
وطئت الغرفة في العتمة، وأصابعي تتحسس زر الضوء الكهربائي على الحائط؛ لكن قدمي كانت أسرع في تحسس السجادة!..
كانت السجادة غارقة في الماء الذي تناثر فور ملامسة قدمي لها.
أضاء النور الغرفة واتسعت حدقتا عيني وأنا أحملق في كل تلك المفروشات المبللة بالماء.. ياللكارثة!
لا يمكنني التخلص من كل هذا الماء بالمماسح.. لابد من كسر العتبة لتسرب المياه عبر الدرج، ومنه إلى الحديقة..
وأسرعت أحضر المطرقة في سباق مع الوقت أهوي بها على العتبة حتى كسرتها وطارت منها شظية صغيرة لتترك علامة زرقاء صغيرة قرب عيني.
أسرعت أخرج المفروشات قطعة قطعة، وألفّ السجادة التي جعلها الماء ثقيلة جداً، ثم أسحبها بجهد عظيم حتى الدرج، وأضعها عليه مائلة كي تتسرب منها المياه، وأنا أشتم وألعن كل هذه المصائب التي تحل علي عندما أكون وحيدة.
تذكرت عندما أصيبت ليلى فجأة بانحلال الدم قبل سنتين، ولم أستطع إعطاءها من دمي؛ لأن دمها من زمرة دم أبيها، وأبوها مسافر، ولا أحد ممن أعرفهم يمكنه التبرع لها، ولا يوجد نفس الدم في بنك اللاذقية ولا في بنك طرطوس ورغم أنه ليس نادراً "O إيجابي "!!
أسرعت بسيارة الأجرة إلى حمص بعدّ أن أخبروني على الهاتف أن لديهم كيسين؛ ولكنني لم أجد إلا واحداً عندما وصلت أحمله إلى ليلى وهي في الرمق الأخير..
كنت على وشك أن أفقدها… وعرفت فيما بعد أن انحلال الدم لم يكن إلا عارضاً من عوارض مرضها اللعين.
كانت الساعة قد تجاوزت الخامسة صباحاً عندما عدت إلى الفراش..
كنت منهكة أرتجف من البرد، وقد تجمدت قدماي لا يجد الدفء إليهما سبيلاً رغم الجوارب السميكة..
***
لم تأخذ السماء قسطاً من الراحة في الصباح، فالمطر مازال منهمراً، وأنا مازلت عازمة على السفر رغم الجو المطير.
رفعت سماعة الهاتف لأتصل بسوسن التي كانت تنوي السفر معي.. كان الهاتف معطلاً!..
طبعاً.. إن تعطل الهاتف عندنا مرادف لهطول المطر!!
ارتديت قميصاً حريرياً بنفسجي اللون، وذهبت إلى مصففة الشعر.. أردت أن أبدو جميلة.
انقطع المطر، ومالبثت الغيوم أن انقشعت..
أشرقت الشمس، والحافلة تتحرك استعداداً للانطلاق إلى دمشق في هذا اليوم من أيام شهر شباط… أما سوسن؛ فقد رافقتني إلى الموقف فقط، وأجلت سفرها إلى يوم آخر لأنها ليست مجنونة مثلي!…
***
دخلت غرفة مكتبك وقد ارتسمت على وجهي ابتسامة تلقائية لم أنجح في السيطرة عليها… كنت قد انتهيت للتو من قراءة البطاقة التي جعلتها مقدمة لدخولي عليك ودفعت بها إلى علي ليناولها إليك…كتبت لك:
"… أليس بإمكاننا أن نبقى أصدقاء، إن لم يكن بإمكاننا أن نصبح أحباباً؟!"..
كنت مشغولاً بفرز أوراقك القديمة.. تحتفظ بهذه وترمي تلك، وتستمع إلى إذاعة لندن.. كان صوت المذياع عالياً.
تشاغلت بأوراقك فور انتهائك من قراءة البطاقة متجنباً النظر في عيني.. كعادتك.
لا أظنك كنت أقل اضطراباً مني وأنت تحاول إظهار عدم المبالاة… كعادتك.
وأنا لم أعد أعرف أن أقول لك كل ما كنت أود قوله لك.. كعادتي!..
حقاً… لم آمل كثيراً من زيارتي لك، وكان يكفيني ألا تكون غاضباً مني رغم أنك أنت من أغضبني.
مددت لي يدك مصافحاً وبادرتني بالسؤال:
ـ كيف حالك إذن؟
ـ لابأس.. وأنت؟
ـ لا بأس.. لا بأس..
(ليتك تخفض صوت المذياع).. فكرت، ثم قلت لك مازحة:
ـ يا إلهي.. ما أكثر أوراقك، لو أنك تتاجر برزم الأوراق القديمة لأصبحت بذلك غنياً… لم لا تكون لديك سكرتيرة تساعدك؟..
ـ السكرتيرة لا تنفع معي!..
ـ فليكن سكرتيراً إذن.
ـ لا ينفع؛ لأنه أبلد منها!… أخبريني .. كيف حال ابنتك؟
زفرت زفرة عميقة، وقلت:
ـ الحمد لله.. إنها أحسن حالاً الآن.. لاأدري حقاً ما أفعل.. إن قدومنا للعيش هنا كان نحساً، وربما علي أن أعود إلى هناك من غير رجعة.
ـ هذه مشيئة الله؛ فليكن إيماننا قوياً..
ارتحت لجوابك، رغم فتوره؛ وبقيت صامتة ثم عاتبتك بحذر:
وأنت… لم تسأل أبداً عني… ربما انتحرت!!..
نظرت إلي نظرة تأنيب على كلامي المجنون:
ـ لو أنك انتحرت لما حزنت من أجلك..
ـ أعرف… أعرف أنك قاسي القلب.
نظرت إلي تتأملني:
ـ ماهذه البقعة الزرقاء الصغيرة على وجهك؟..
ضحكت:
ـ أكلت "قتلة"‍!..
أخبرتك عن طوفان نوح في بيتي، ثم دخل علي يحمل إليك كوباً من الماء..
(لم تسألني إن كنتُ أريد أن أشرب شيئاً).
سألتك:
ـ هل أنت مدعو هذا المساء؟
ـ أجل… وأنت.. ماذا ستفعلين؟
ـ .. سأذهب إلى شقتي وأقرأ شيئاً ما.
ـ…
ـ استأذن إذن.. علي الذهاب..
ـ سنلتقي Soon..
(هذه هي عادتك في الحديث.. تطعّم كلامك العربي ببعضاً من لغة أجنبية)..
ـ أما زلت تحتفظ برقم الهاتف؟
ـ طبعاً..
وفجأة خرجت من وراء طاولة المكتب.. وقفت قبالتي وقلت لي:
ـ نحن لسنا مجرد أصدقاء… نحن أحباباً!..
ـ …
كلامك .. لم أكن أتوقعه؛ فبقيت صامتة.
مددت يدك إلى ياقة قميصي تصلح من شأنها وأنت تقول:
ـ تبدين شاحبة..
ـ وماذا تظنني إذن؟.. أجل شاحبة ومتعبة ومهمومة.. وأنت أيضاً همي.
ـ…
قبّلتني بسرعة على شفتي:
ـ إلى اللقاء..
ـ إلى اللقاء..
غريب أمرك.. تستقبلني وتحدثني بادئ الأمر بفتور ثم تختم اللقاء بقبلة، وأنت تؤكد لي أننا سنلتقي قريباً، وأننا أحباباً!…
خرجت من عندك فرحة جداً، ولم أرغب في الذهاب فوراً إلى البيت… فكرت بريما وقررت أن أزورها رغم أن لاشيء… هاماً أستطيع أن أتحدث فيه معها؛ بل مجرد ثرثرة.. كالعادة..
هي مملة؛ لكنها لطيفة؛ وأنا أزورها فقط لأنها… قريبتك!
فتحت لي ريما الباب، وكانت لوحدها.. قالت لي:
ـ تبدين فرحة، ووجهك مشرق… ما الأمر؟!
ـ لاشيء… لقد مشيت طويلاً؛ فتحرك الدم في عروقي، ولذا أبدو مشرقة الوجه.
"من يبحث عن الحب يطرق الباب؛ أما المحب فعلاً فيجد الباب مفتوحاً".**
***
حقاً.. إن الحب ليس شيئاً نبحث عنه، بل شيئاً يباغتنا بحضوره المفاجئ… يغرينا لندخل من الباب دون أن نطرقه.. دون أن نستأذن المنطق أو الإرادة.
أنا وجدت الباب دائماً مفتوحاً إليك، وأنت أردت دائماً إغلاقه.
هذه الـsoon التي قلتها ما زلت أسمع صداها منذ شهر تلح علي كل يوم، ويزيد إلحاحها كلما عرفت أنك موجود بالقرب مني… على بعد كيلو مترات قليلة فقط.
أهرع إلى الهاتف كلما سمعت رنينه وأرفع السماعة ليكون على الطرف الآخر أحد آخر غيرك.
ماذا إذن؟!
هل كان كلامك مجرد عبث بعواطفي؟
هل أنت مشغول لدرجة أنك لاتستطيع أن تهاتفني لدقائق معدودات تسأل فيها عن أحوالي؟.. وهل أطمع بأكثر من ذلك؟
هل أنا غبية حقاً لأتعلق حتى الآن بوهم كاذب هو أنت؛ وأصدق مزاعمك أننا أحباباً؟!
إن كنا حقاً أحباباً، فلم لا تشتاق إلي وقد مضى شهر على لقائنا؟
رفعت السماعة.. كان لابد لي من حجة أتذرع بها لأتصل بك، وقد وجدتها…
كان بيتر قد اتصل بي ليطلب مني الاستفسار عن مدرسة للمعاقين في دمشق من أجل ليلى إن كانت حالتها تسمح مستقبلاً بمتابعة معالجتها في سورية.
جاءني صوتك حنوناً (نوعاً ما):
ـ أهلاً.. كيف حالك؟
ـ أنا بخير، وأنت؟
ـ بخير.. طمئنيني عن ليلى.
ـ إنها أفضل من قبل.. أريد أن أستفسر إن كان يوجد في دمشق مدرسة للمعاقين من أجل ليلى مستقبلاً.
ـ لا… لا يوجد..
(كان جوابك محبطاً)..
ـ .. لا أدري حقاً ماذا أفعل.. ماذا عن مدرستها… مستقبلها؟!
ـ…
ازداد شعوري بالإحباط، وقد بقيت صامتاً لا تجيب على مخاوفي البادية في تساؤلاتي.
(أحباب؟!… يالنا من أحباب.. إن ذلك واضح تماماً في ردة فعلك التي فترت بسرعة!!).
فكرت بسرعة ، ثم استجمعت شجاعتي بسرعة لأسألك:
ـ على فكرة.. متى ستأتي هذه الـSOON؟
ـ ماذا؟.. لم أفهم قصدك!
ـ ألم تقل لي أننا سنلتقي "قريباً".. قل بربك كم هي المدة الزمنية التي يستغرقها ذلك حتى أعرف.. فقط!
(حاولت أن أقول ذلك بنبرة مازحة كي لا أستفزك؛ ولكني فشلت!).. أتعرف؟!.. لقد جئت إليك بدون آمال كبيرة… ووددت على الأقل أن نفترق بطريقة ودية..
ـ كما تشائين!
قلتها بصوت جاف جداً… تجاهلت قصدك وتابعت كلامي:
ـ … أو أن أكون متفائلة قليلاً فأطمع بصداقتك؛ لكنك أكدت لي أننا أحباباً؛ والحب إلتزام.. أليس كذلك؟… على الأقل مكالمة هاتفية واحدة تسأل فيها عني.. متى أراك؟
ـ تعالي إلى العيادة.
وانتهت المكالمة.
رفعت السماعة من جديد.. أردت أن أطلبك ثانية وأتشاجر معك، لكنني أعدتها إلى مكانها أفكر:
هذا المغرور.. الـ… الـ… "تعالي إلى العيادة"… ألا يخطر بباله أن يدعوني ولو إلى فنجان قهوة "خارج العيادة"؟
لو أنه قال لي تعالي إلى العيادة هناك في دمشق؛ لكان بإمكاني أن أحلم بإمكانية أن نلتقي خارجها لنتحدث..
كم أود أن نتحدث.. نتحدث في أي موضوع قد يخطر بالبال.
ولكنه يريدني أن آتيه مرة أخرى إلى عيادته هنا.. عيادته المزدحمة دائماً..
يريد أن يستقبلني لدقائق كأي مريض يزوره، ويحدثني حديثاً لا يتجاوز السؤال عن الحال و الإجابة عليه!..
.. لن أذهب إليه في العيادة؛ بل سأكتب له رسالة… كالعادة!…
في اليوم التالي تجمّلت من أجلك ولبست فستاناً؛ فقد ألمحك بالصدفة على الدرج أو عند مدخل البناية؛ فتعاتبني وتدعوني بعفوية للدخول، و…
عدت أحلم من جديد.
أحلام يقظة كأحلام المراهقات أصبحت تلازمني وأنا أعمل في الحديقة؛ وأنا أركب السيارة أو أذهب للتسوق.. أو للنوم.
أصبحت مدمنة على التفكير بك!
اليوم هو 3/ 11، وقبل سنة بالتحديد كان ذلك المشوار معك..
قلت لي وأنت تمسك بيدي فجأة وتقربها إلى صدرك؛ فأحس بنبض قلبك على ظاهر يدي:
ـ أحبك ياكارمن؛ فهل تحبينني كما أحبك؟
ـ يجوز.. ولكنك خطير… أنت شيطان!
ـ أنا؟!.. أنا مسكين و"حبّاب" وطيّب القلب!..
مازلت أذكر كل كلمة قلناها بهمس، والسيارة تنطلق بنا في العتمة، وأنت مازلت ممسكاً بيدي تضغط عليها برفق:
ـ أحب يدك ياكارمن.. أنها يد Lady … وأحب صوتك!…
(كم من النساء حدَّثتهن بهذه الطريقة، وكم من ساذجة منهن مثلي صدّقت كلامك؟!)..
ليست مارلين مونرو من صنف النساء الحكيمات؛ لكنها صدقت إذ قالت: "الرجل يحب عن طريق عينيه، والمرأة تحب عن طريق أذنيها"!)..
فكرت بذلك وأنا أصعد الدرج إلى عيادتك… أحمل بيد باقتي بنفسج قطفتهما لك من حديقتي، وأمد يدي الأخرى إلى الحقيبة لأخرج منها الرسالة.. رسالة عتاب حاولت قدر الإمكان أن أجعلها رقيقة حتى لا تغضب من جديد:
"باقة بنفسج لك عربون محبة؛ وباقةأخرى لأن اليوم هو 3/11…
سأشرب في المساء نخب هذه المناسبة، وعلى الأرجح وحدي..
لن آتيك إلى العيادة كي لا أشعر أني ثقيلة الدم غير مرغوب حقاً بوجودي، ولأني لا أريد أن أسحب الكلام منك سحباً بين دخول المريض وخروج آخر من عندك..
اشتقت للتحدث إليك براحة وعفوية في أي مكان.. لا يهم.. ولكن ليس في العيادة!..
أتمنى لو يأتيني صوتك هذا المساء حنوناً ضاحكاً كما كان في بداية تعارفنا، وليس جافاً فيجفف الدماء في عروقي!!.."..
كانت العيادة مكتظة بالناس، وأنت في مكتبك وبابك مغلق.
أعطيت البنفسج والرسالة عند الباب لنديم ليسلمها لك وعدت إلى البيت أنتظر الهاتف ليرن.. (ياللسذاجة!)..
جاء المساء وتبعه الليل وأنا جالسة أنتظر.. غير راغبة بشيء آخر سوى الانتظار… انتظار أن يرن الهاتف اللعين.. لكن الهاتف اللعين لم يرن؛ لأنك سخرت مني ورميت رسالتي ودست بنفسجي ونسيت بالتأكيد تلك المناسبة التي لم أنسها.
بلغ توتري ذروته مساء اليوم التالي.. اتصلت بك، وليتني لم أفعل:
ـ آلو.. مساء الخير، أريد أن أزعجك لدقائق معدودة… ممكن؟!..
ـ آه.. يمكنك التحدث إلي صباح الغد.
(غداً… عند الفجر ستكون في طريقك عائداً إلى دمشق) فكرت وأجبتك بحدة:
ـ لا.. بل الآن!
لكنك لم تشأ أن تتحدث إلي..
(يالك من جبان)، فكرت وأنا أغلي من الغيظ، ثم تذكرت أن غداً هو يوم عطلة.. من أجل ذلك إذن طلبت مني أن أتصل بك غداً لأنك ستكون حتماً هنا.. في المنزل.
ربما كان لديك ضيوف وشعرت بالإحراج.. وإن يكن، أما كان بالإمكان أن تعتذر مني بلباقة لأنك لا تستطيع التحدث إلي الآن؟
كنت سأدرك ذلك وأنتظر حتى الغد..
لا… من المؤكد أنك تعمدت إهانتي… تريد التخلص مني، ولذا ترفض التحدث إلي.. هكذا بكل بساطة. بقيت ساهرة.. واجمة أفكر حتى الساعة الثانية عشر، وما إن اندسست في الفراش حتى رن جرس الهاتف.. هرعت إليه، ورفعت السماعة، بلهفة أتوقع سماع صوتك:
لكن الذي كان على الطرف الآخر بقي صامتاً يستمع إلي وأنا أردد كلمة "آلو"، ثم .. أغلق الخط!
كانت ليلة سيئة جداً لم أنم فيها سوى سويعات، واستيقظت وصدري مازال منقبضاً..
بكيت في الصباح، وأنا أحتسي الشاي وحيدة.. ثم رفعت سماعة الهاتف واتصلت بك.. سمعت صوتك يردد:
ـ آلو.. آلو..!!
ـ خسارة أن تكون هكذا..
ـ آه ياكارمن.. أرجوك لا تتصلي بي إلى هنا لا في الليل ولا في النهار.. أرجو لك التوفيق!..
ـ تتمنى لي التوفيق؟!… ماذا تظنني إذن؟!..
لقد عاملتك بكل حب واحترام، وأنا لست سافلة وحقيرة إن أحببتك… لك مني هذه النصيحة: في المرة القادمة إن أعجبتك إحداهن، وأردت مضاجعتها فقط، ومن المؤكد أنها ستكون أكثر مني شباباً وجمالاً؛ فلا تقل لها أبداً أنك تحبها؛ لأنك بذلك تشوه شيئاً جميلاً اسمه الحب.. هل تفهمني؟!!…
شعرت بالقذارة.. بالغثيان، وأنا أعيد السماعة إلى مكانها دون أن أنتظر منك جواباً
دست على البنفسج..
دست على قلبي مرة أخرى…
كانت الدموع تنهمر في داخلي، والغصة تنفجر في حلقي..
ثم بدأ العرق البارد يتصبب من جبيني ومن جسدي كله..
ارتعدت، ولعنت نفسي ولعنتك…
لعنت تلك الساعة التي تعرفت فيها عليك وأحببتك..
والساعة التي ضعفت فيها أمامك، والساعة التي اشتقت فيها، وجئت إليك..
(كم مرة ألعن فيها تلك الساعات؟!)…
جاء نيسان؛ وموعد العيد يقترب..
تذكرت ذاك اليوم عندما جئت أزورك في العيد الماضي..
كان يحز في نفسي أني لا أستطيع أن أزورك، وأنك لن تتصل بي لتتمنى لي عيداً سعيداً..
أمسكت بالورقة والقلم لأعاود الكتابة..
الكتابة إليك أصبحت كالتفكير فيك.. إدمان!
كان يهمني في هذه الرسائل صدى وقعها عليك وأنت تقرأها بقدر ماكان يهمني أني أجد فيها متنفساً لما في صدري…
كتبت رسالتي على بطاقة معايدة:
"كل عام وأنت بخير..
ترى هل كنت ستغلق الخط في وجهي لو قلتها لك عبر الهاتف؟!
… … … وداعاً".
لكنني لم أستطع أن أقول لك حقاً وداعاً..


****


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 21-11-19, 03:53 PM   #17

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

بعد أيام اتصل بي بيتر ليطمأنني عن صحة ليلى… أخبرني أنها في تحسن مستمر، وأنها أصبحت تأكل لوحدها بعد أن كانت عاجزة عن ذلك من قبل.
قال لي:
ـ أتعلمين؟!!.. لقد حجزت لها مكاناً في ذلك المركز الطبي الخاص الذي شاهدته على التلفاز عندما كنت هنا..
ـ حقاً؟!
ـ أجل.. لقد اقترح علي الدكتور شميد ذلك؛ فأخبرته أني أعرف المركز، وأعرف اسم الطبيب المسؤول عنه، وأنك أنت من زوّدني باسم المركز وعنوانه.
ـ من حسن الحظ أني شاهدته على الشاشة وأخذت عنه فكرة تجعلني متفائلة من أجل ليلى.
ـ بإمكانك استئجار غرفة في بيت المشرفات بالقرب منه.. لقد حجزتها لك..
ـ هذا رائع.
كان بيتر في إحدى الأمسيات خارج البيت مع أخيه، وكان والداه مسافرين.
جلست وحدي؛ وقد نامت ليلى، أمام الشاشة أشاهد ما تعرضه قناة التلفاز المحلي الأولى.. كان برنامجاً وثائقياً عن مركز طبي كبير متخصص بأمراض الأطفال المعاقين…
كنا مانزال ننتظر نتائج التحاليل والفحوصات، ولكني أسرعت أحضر ورقة وقلماً لأدون اسم المركز وعنوانه، وعندما عاد بيتر إلى البيت ناولته الورقة وطلبت منه الاحتفاظ بها).
أخبرني بيتر أيضاً أن الطبيبة النفسانية المتواجدة في المركز لاحظت عصبيته المفرطة وقلقه الدائم؛ فطلبت منه أن يوافيها إلى العيادة للتحدث إليه.. جلست تحادثه لتكتشف أزمته وأسبابها.. أخبرها بيتر عن معاناته مع والديه.. هذه المعاناة التي بدأت منذ سن المراهقة، عندما كانت أفكاره وهوايته، واهتماماته بالسفر والجغرافيا والتاريخ والشرق تتعارض مع تربيتهما الصارمة وعقليهما المنغلقين وقلبيهما المتحجرين، واستفحلت أزمته بعد زواجنا؛ فقد كان عقوقاً أن يتزوج من غريبة عنهما في الدين والعرق والمنبت.. عقوقاً لم يستطيعا أبداً أن يغفراه له!
أخبر بيتر الطبيبة عن كل شيء.. أخبرها أيضاً عن علاقتنا معاً… علاقتنا الزوجية التي تأثرت أيضاً وتأذت من علاقته تلك مع والديه.
قالت له الطبيبة أن والديه هما نموذجاً مثالياً للوالدين المتسلطين الذين يحاولون فرض سلطتهم الأبوية على أولادهم، ويحاولون بذلك استبزازهم كلما سنحت الفرصة.. إنهم لا يدركون أبداً أن أولادهم قد كبروا وبلغوا سن الرشد منذ زمن بعيد.
وأردفت الطبيبة تقول لبيتر بصراحة أنه هو أيضاً نموذجاً مثالياً للابن الواقع تحت تأثير هذه السلطة الأبوية التي تشل حركته وتنغص عليه حياته، وتقتل فيه روح الإبداع والاستقلالية.
لم يكن ما أخبرني به بيتر بجديد علي.. كنت أعرف هذا التحليل النفسي منذ زمن.. منذ سني زواجنا الأولى. علاقته مع والديه أثرت على زواجنا وانعكست سلباً على علاقتنا العاطفية.
كنت أنا له البديل عن الأم منذ جمعنا سقف واحد..
كان يأتي إلي عندما يكون متعباً فيضع رأسه على ركبتي، ويرجوني أن أمسد له رأسه فأشعر نحوه بالحنان، ولا أرى فيه عندئذٍ إلا طفلاً صغيراً يبغي بعضاً من الراحة والطمأنينة في حضن أمه!!
أجل أمه.. أصبحت تلقائياً أمه ودون أن أدري!
أما هذا الشيء الذي يوجد عادة بين المرأة والرجل ويجمعهما معاً في لحظات حميمة؛ فلم يوجد بيننا أبداً!..
لم أدرك ذلك في الأيام الأولى..
اعتقدت أنه يتصرف معي بنبل لأنني مازلت عذراء ويخشى أن يؤلمني!!
ازداد تقديري لـه، وهنأت نفسي أني تزوجت "أجنبياً".. يراعي مشاعر فتاة عذراء، ولا يريد فض بكارتها ليثبت عذريتها ورجولته في أسرع وقت.. كأغلب الشرقيين!!
كم كنت واهمة!!
كنت بعد سبع سنوات من الزواج لا أزال نصف عذراء!..
ذهبت مرة وأنا حامل من أجل فحص روتيني..
نظرت إلي الطبيبة بتعجب وقالت:
ـ أتعلمين؟!.. إن غشاء البكارة لديك لم يفض بالكامل، ولذا سيتم ذلك أثناء الولادة!!..
ـ…
لم أشأ أن أريح الطبيبة من تساؤلها غير المباشر الذي لمحته في نظرتها، وأخبرها أني حامل بفضل مهارة الطبيب فقط، وحساباته الدقيقة ليجعلني حاملاً في مختبره وليس على فراش الزوجية رغم أني لا أشكو من العقم!!…
****
عندما تعرفت عليه في لندن منذ أكثر من عشرين سنة، تبادلنا العناوين ـ كما يفعل الشباب في هذا السن ـ واتفقنا على المراسلة.
واستمرت صداقتنا عبر الرسائل لسنة.. كنا نحكي فيها عن كل تفاصيل حياتنا اليومية ونتبادل الأفكار.. كان حواراً مستمراً عبر الكلمات، وقد أحببت ذلك.. أحببت أن أجد فيه صديقاً من عمري يحاورني وأحاوره. ثم دعاني بيتر لزيارة بلاده والتعرف على أهله، وسافرت إلى هناك في أواخر الربيع..
تعرّفت على والديه وأخويه، وأعجبتهم الهدايا الشرقية التي حملتها لهم.. قالوا له عني أني ذكية وجذّابة وحلوة المعشر وطلبوا مني أن أنزل ضيفة عليهم في منزلهم بدل الفندق الذي حجزت فيه لإقامتي.
كان بيتر مايزال طالباً في الجامعة؛ لكنه في الوقت نفسه كان، رغم غنى والديه، يعمل في قسم الأرشيف في مطبعة أكبر الصحف المحلية معتمداً على نفسه بدل أن يمد يده لوالديه من أجل المصروف.
أعجبني ذلك؛ فهو مثلي يدرس في الجامعة ويعمل.
كان مهذباً جداً وخجولاً (ربما متردداً)، وكان وجهه الملائكي يشعرني بالطمأنينة ويمنحني ثقة تجعلني أخرج معه في المساء وحدي.
كنت فرحة بصداقته البريئة، وأشعر معه أني عدت طفلة صغيرة شقية.
(هل كنت حقاً بحاجة لمن يشعرني بالطفولة ويعيدني إليها.. أم من يشعرني بأنوثتي ويوقظها فيّ؟!…).
وكان هو فرحاً بقدومي إليه من ذلك الشرق البعيد الذي طالما حلم به.
كان يأخذني لنتجول في شوارع مدينته ونتسكع في أزقة حيها القديم وأتعرف معه على معالمها..
أو نمضي يوماً كاملاً نصعد جبلاً مغطى بثلج أبدي لنكافئ أنفسنا بعد ذلك بتناول المثلجات اللذيذة في مطعم معلّق بين الأرض والسماء.. لم يحاول مرة أن يمسك يدي بعفوية، أو يهمس بأذني بضع كلمات رقيقة ونحن عائدين مساء بعد تجوالنا إلى منزل والديه..
لم يحاول أبداً أن يشدني إليه ليحضنني، أو يفاجأني بقبلة خاطفة ونحن نتنزه لوحدنا على ضفة البحيرة وقد غابت الشمس ونسيت بعضاً من ألوانها الساحرة لتصطبغ به السماء..
لم يكن هذا المنظر الرائع يغريه ليرتكب حماقة صغيرة ربما لم أكن لأمانع لو أنه ارتكبها!
وأنا؟.. ماذا عني؟!
هل كنت سأكتشف شيئاً جديداً في داخلي لو أنه فعلها؟!!
لو كان ثمة شيء في داخلي ليوقظه فعلاً تجاهه؛ لكان مجرد وجوده بقربي يكفي لذلك.
كان ومازال وسيماً… وسيماً جداً؛ لكن نظراته لم تكن تغريني… لم تكن تزيد من خفقان قلبي؛ أو تجعل ساقاي غير قادرتين على حملي.
كان عقلي، وأنا معه يفرض علي احترامه..
كان عقلي يقنعني أنه شاب مثالي.. شاب لا يرى في الفتاة الجالسة أمامه مجرد جسد يرضي غريزته؛ بل عقلاً يحاوره ونداً يحترمه.
كان هذا ما يشدني إليه؛ فلم أشغل ذهني بالتفكير بتلك الأمور الأخرى.. بالحب كمشاعر مجنونة تجتاحنا، ولقاء جسدي محموم يجمع بين رجل وامرأة..
كانت غريزتي الأنثوية، وأنا معه، تبقى كامنة، وكان هذا بمثابة ضوء أحمر صغير.
جهاز إنذار في داخلي، يحذرني ويدعوني لأن أختبر مشاعري تجاهه..
لكنني تجاهلته.. تجاهلت الإنذار، ولم أختبر أبداً حقيقة مشاعري تجاهه..
كان حرياً بنا أن نبقى مجرد أصدقاء ولا نجازف عندما جاءت تلك اللحظة الحاسمة التي كان علينا فيها أن نتخذ قرارنا المصيري..

****



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 21-11-19, 03:54 PM   #18

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



قبل ليلة من سفري، جلسنا أنا وهو في حديقة المنزل نتسامر..
كان عقلي مشوشاً، وعواطفي غير مستقرة، ورغم ذلك خرجت كلمة "نعم" تلقائياً من فمي..
لم أشعر بحماس وفرح وأنا أنطقها؛ لكنني في الوقت نفسه لم أكن أرغب في أن أقول "لا"!!
لا أدري كيف اتفقنا أن نتزوج، ونحن لم نتعرف على بعضنا نظرياً إلا لسنة من المراسلة، وعملياً إلا لأسابيع!..
ربما أني لم أكن حقاً أعني ما أقوله، وأن الأمر لم يكن يتعدى كونه مجرد فقاعات كلام.
كلام لا يؤخذ على محمل الجد.. مجرد اقتراح لمشروع زواج..
لم نكن نملك من مقومات الزواج، مايكفي، فنحن في أوائل العشرينات ومازلنا طالبين في الجامعة..
صحيح أن كلاً منا يعمل، لكن هذا لا يكفي.
وماذا عن الحب؟
هل نحن نحب بعضنا حقاً… أم أننا مجرد أصدقاء؟!

من الغريب حقاً أننا لم نشغل نفسينا بالتساؤل؛ بل حسمنا الأمر بسرعة وقررنا أن نتزوج بعد ثلاثة أشهر.. أي في أواخر الصيف!..
وودعت بيتر على أمل اللقاء بعد ثلاثة أشهر، وعدت إلى سورية.
***
تعودت في البيت على الصدق، وعلى مكاشفة أمي بأسراري.. كانت تعرف قصة حبي الأول بتفاصيلها أيام الدراسة الثانوية، وتعرف كل ماكنت أتعرض له من أمور أو مضايقات في العمل، وكان أبي يعرف كل ذلك منها..
كان يحلو لي أن أجلس إلى أبي وأتناقش معه في كثير من الأمور، وقد نختلف أحياناً في أمر ما، ويفشل كلاً منا في إقناع الآخر؛ فيتحول نقاشنا إلى قطيعة تستمر يوماً أو يومين ثم نتصالح..
كان يبادر هو إلى مصالحتي فيطلب مني أن أعد شاياً نشربه… أو أبادر أنا إلى مصالحته؛ فأسأله إن كان يريد مني أن أعد شاياً نشربه.
في اليوم التالي لعودتي، دخلت على أبي وهو قابع بين أوراقه وكتبه وقلت له دون مقدمات:
ـ بابا… سأتزوج بعد ثلاثة أشهر!..
لم يتمالك أبي نفسه من الضحك بصوت مرتفع؛ ثم سألني وعلامات الدهشة مازالت مرتسمة على وجهه:
ـ ماذا؟!… ستتزوجين بعد ثلاثة أشهر.. ومن هو سعيد الحظ هذا؟! … لابد أنه صديق المراسلة الذي عدت تواً من زيارته… أليس كذلك؟
ـ نعم.. لقد اتفقنا على الزواج بعد ثلاثة أشهر.
ـ يبدو أنك حسمت الموضوع بنفسك…
ووافق أبي على زواجي دون معارضة، وبعد مداولة قصيرة مع أمي.. ربما لأنه لم يأخذ الأمر على مأخذ الجد، وظن مثلي أن الأمر ليس سوى فقاعات كلام.. وأن العريس لن يأت أبداً…
طوال الأشهر الثلاثة التالية كانت أفكاراً مضطربة متناقضة تضج في رأسي..
أشعر أحياناً أني على صواب، وأشعر أحياناً أني أقدمت على خطأ بتسرعي وقبولي بفكرة الزواج..
وعندما كانت هذه الأفكار تلح علي كنت أطمئن نفسي وأقول لها أنه لن يحضر، وأنه لابد أن يفكر بالأمر ويغيّر رأيه..
ورغم ذلك، ذهبت إلى الصائغ واشتريت لنفسي خاتماً ذهبياً وضعته في إصبعي باليد اليمنى!!
ثابرنا أنا وبيتر على كتابة الرسائل، ووصلني مرة منه طرداً كبيراً؛ فأسرع أبي إلى البريد ليجلبه… قال لي وأنا أهم بفتحه:
ـ لابد أنه فستان الزفاف.. أرسله خصيصاً من هناك..
عندما فتحت الرزمة وجدت فيها غزالة "بامبي" مصنوعة من القش… كنت قد رأيتها هناك في أحد المتاجر وأعجبتني…
كانت تلك هي هدية العرس من بيتر!..
نظر إلي أبي بشيء من الامتعاض وهو يقول:
ـ ظننته أرسل لك فستان الزفاف؛ لكنه أرسل بدلاً منه لعبة!
فقلت له ضاحكة:
ـ هذه الغزالة أجمل من فستان الزفاف.
أصبحت الغزالة فيما بعد من نصيب ليلى.. أما الفستان؛ فقد اشتريته بنفسي!!..
***
جاء شهر آب، ووصلتني برقية من بيتر يحدد فيها موعد قدومه..
هرعت إلى أبي ألوّح له بالبرقية:
ـ أرأيت؟… إنه قادم.
فوجئ أبي، وأدرك أن الأمر أصبح جدياً الآن.
بدأنا نستعد لاستقبال العريس القادم من الغرب ليطلب يدي رسمياً من أبي بعد خطوبة بالمراسلة.
استنفرت أسرتي في اليوم المحدد لقدومه، وانطلقت بي الحافلة إلى المطار وأنا أشعر أني أحلم حلماً غريباً وأنتظر أن يقرصني أحد ما حتى أصحو منه.
رأيته قادماً نحوي يبتسم.. بدا لي غريباً وقد حلق شاربيه..
صغير جداً.. مجرد فتى ناعم لا يمكن أن يتزوج بعد أيام!
لم أكن ممن يحبذن الرجل ذو الشاربين؛ لكن ذلك كان يناسبه هو بالذات ويغطي ملامحه الناعمة ويمنحه بعضاً من خشونة… بعضاً من رجولة في المظهر أراها ضرورية..
سألته عن شاربيه؛ فضحك وقال لي أنه سيتركه لينبت من جديد إن كان يعجبني.
كان يرتدي سترة صيفية وبنطال جينز أسود؛ ويحمل بيده حقيبة سامسونايت، ولاشيء سواها.
أمسكت بيده اليمنى أبحث عن شيء… ووجدته.. خاتماً فضياً اشتراه هناك.
رحب أفراد أسرتي الصغيرة بالضيف العريس؛ لكن أخي الصغير، الذي كان في العاشرة من عمره، لم يتمالك نفسه؛ فخرج بسرعة من الغرفة قبل أن ينفجر من الضحك وهو يسمع أبي لأول مرة يحاور أجنبياً باللغة الفرنسية، لم يأتِ بيتر بفستان زفاف لي، ولم يأتِ ببزّة زفاف له.. ورافقته إلى السوق لنشتري له بزّة وقميصاً وحذاء أيضاً!!
جاء الشيخ إلى المنزل، وقرأت الفاتحة وعقد القران، وفي اليوم التالي كانت حفلة الوداع..
تزوجنا دون أفراح عرس تقليدية، وبعد أسبوعين كانت الطائرة تتجه بنا إلى أوروبا الغربية.. إلى بلاده…
***



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 21-11-19, 03:55 PM   #19

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



كان زواجي من بيتر مجرد هروب… هروب…
مات الحب الأول… حب الرعشات والحمى وضوء القمر وأريج الياسمين.
أحرقت لأنساه دفاتر الذكريات والأشعار، فقد جف حبر القلم بين أصابعي.
هجرت الرسم وأحلام الفن بعد أن يبست فرشاة الألوان في يدي وهربت.
هربت بعد أن مللت صناعة الكلام الأجوف في بلادي..
هربت علّي أجد حبي الضائع في بلاد الغربة بين الوجوه الغريبة… فلم أجده.

****

والتقيته.. غربي؛ لكنه غريب عن عالم المادة والجنس والمخدرات.. غربي مأسور بروح الشرق الذي درسه وأحبه.
جذبني إليه بصدقه وجديته، ولم أجذبه إلي بجمالي (فأنا عادية بمقاييس الجمال)؛ ولكن بروحي الشرقية ونمط تفكيري وجرأتي التي أخافت غيره!..
جبنا أصقاع الدنيا في رحلات تطول أو تقصر، ووجد كلاً منا في الآخر رفيقاً، وكانت ليلى تشاركنا في كل مرة متعة الاستشكاف..
كبرت الابنة، وبدأت المخاوف تشغل تفكير بيتر قبل أن تشغل تفكيري عن مستقبلها في بلاد الغرب
كانت الفكرة فكرته، واستطاع إقناعي أخيراً بالرحيل صوب بلادي… صوب الشرق.
كانت أفكاره تتعارض مع أفكار والديه، فأدار ظهره لشركة العائلة وترك لأخويه مهمة إدارتها؛ فهو لا يريد فيللا فاخرة ولا سيارة فارهة يدفع ثمنهما حياة مملة يمضيها وراء مكتب الشركة يدير أعمالها لاهثاً حتى يصبح عجوزاً.
استقرينا هنا في منزل يربض على تل يطل على البحر، وقلبنا المنزل رأساً على عقب، وأضفينا عليه من روحينا طابعاً خاصاً به، وزّينا حديقته بالخضرة والزهر.
لم نأبه لكلام الناس وهم يرون صورة الحياة الزوجية تختلف عما ألفوه، ونمط للحياة يختلف عما عهدوه.. لكن الناس المحكومين بالمظاهر والعائشين والمائتين بها.. لم يكونوا سوى بداية المتاعب، إذ سرعان ما اكتشف بيتر أن زواجه لا يمنحه حق الاستقرار في هذا البلد الذي أحبه…
لا يحق لزوجي الاستقرار هنا، ولا يحق لابنتي أن تكتسب تلقائياً جنسية أمها… جنسيتي!
لقد اكتشفت أني هنا أصبح شيئاً ما إن تزوجت سورياً، ولا شيء إطلاقاً إن تزوجت أجنبياً!!…
ذهبت يوماً إلى صندوق توفير البريد لأفتح حساباً لابنتي، وطالما أنها قاصر، فلابد لها من ولي أمر.
كنت أعتقد أن كوني أمها التي أنجبتها، بعد أن حملتها في بطني تسعة أشهر، يمنحني هذا الحق "بديهياً"!..
لكنني كنت واهمة.. فقد سألني الموظف إن كنت أحمل توكيلاً من أبيها.
ـ توكيل؟!.. لماذا؟.. أنا أمها!!
ـ آسف سيدتي.. هذا لا يكفي، ولابد من توكيل من زوجك!..
خرجت أضحك من شر البلية الذي يضحك!
لايكفي أن أكون أمها… ياللسخرية..
كيف نحتفل بعيد الأم، ونجعله عطلة رسمية، ثم تزول قداسة الأمومة في المعاملات الرسمية، لأنها لا تكفي! … أين هي هذه "الجنة تحت أقدام الأمهات إذن؟!..
"النساء شقيقات الرجال، ما أكرمهن إلا كريم، وما أهانهن إلا لئيم"… هكذا قال رسولنا الكريم.
واليوم…. بعد أكثر من ألف وأربعمائة سنة أحتاج إلى توكيل…
توكيل من الأب يمنحني هو فقط الحق في تولي أمر ابنتي!! فهل من إهانة أكبر من هذه؟!…
أرادت أم فادي مرة الحصول على بطاقة هوية لابنها المراهق؛ فطلب منها الموظف "ولي أمر"!..
هذه الأرملة.. الأم التي تعيل فلذات أكبادها لوحدها.. ليست بحال من الأحوال "ولية الأمر"..
علاقة الأم الحميمية بأولادها، وكل عواطفها وتضحياتها من أجلهم لا تجعل منها "ولية أمر"؛ فهي امرأة، والأمر إذن بيد العم البعيد، أو الجد… وقد كان متوفياً أيضاً!..
ثم كان لابد من ذلك الحدث السخيف المخيف عندما ذهبت إلى مخفر الشرطة للشهادة من أجل أمر روتيني جداً، وقد غاب عن بالي وبال الرجلين اللذين كانا برفقتي أمراً ذكّرنا به الشرطي:
ـ آسف… إني أرى امرأة واحدة، وليس امرأتين"!!…
قال لي ذلك، رغم أن المرأة في بلادنا محامية و… قاضية!!!
بيتر لم يكترث؛ فقد توقع شيئاً من هذا القبيل؛ ولم يفقد الأمل في التغيير..
أما أنا..؟!!
مازال قلبي لا يعرف السكينة، وما زالت روحي متمردة، وسواء في الغرب أم في الشرق، ثمة أموراً كثيرة تقلقني.
لقد هربت من الشرق إلى الغرب، ثم من الغرب إلى الشرق، ولم أجد ماكنت عنه أبحث..
***
لم أستطع أن أشغل بالي كثيراً بالتفكير بما قاله بيتر بعد أن سمع اعترافي، ونحن نحتسي الشاي في الصيف ذات مساء..
أجلّت ذلك لوقت آخر؛ فقد كان بالي مشغولاً بأمور أخرى أكثر إلحاحاً… لكنني وجدتُ نفسي أفكر تلقائياً بهذا الأمر وأنا هنا… في بلاده؛ وفي منزل والديه، أراه وأرى ابنتنا بعد غياب..
أفكر بالأمر في كانون الثاني، في زيارتي الأولى.
وأفكر بالأمر في نيسان، في زيارتي الثانية…
أفكر، وأستعرض بسرعة شريط حياتنا المشتركة طوال عشرين سنة..
أفكر تلقائياً به ولا أتهرب منه كما كنت أفعل.. أواجه نفسي به وأطرح على نفسي لأول مرة أسئلة في منتهى الخطورة…
أجل… في منتهى الخطورة…
مكثت مع بيتر أياماً في منزل والديه، ثم سافر هو إلى سورية، وانتقلت أنا إلى الغرفة المحجوزة لي في بيت المشرفات قرب المركز.
المركز الطبي التخصصي بناء ضخم مؤلف من ستة طوابق مبني على تل في أحضان الطبيعة الهادئة، ويستقبل الأطفال المراهقين الذين خلقوا بإعاقة جسدية أو عقلية أو كليهما معاً، أو أصبحوا معاقين فيما بعد جراء تعرضهم لحادث ما، أو إصابتهم بمرض عضال… كمرض ليلى…
الطابق الأول مخصص لمكاتب الاستقبال والإدارة والسكرتاريا وغير ذلك، والطابق الثاني للمدرسة والمسبح وغرف المعالجات المختلفة، والمطعم الذي يتم فيه إعداد الوجبات الخاصة لكل مرض حسب حالته الصحية، ويتناول فيه الزوار والعاملين في المركز طعامهم أيضاً..
الطابق السادس مخصص لمكاتب الأطباء وقاعة الاجتماعات والمعالجة النفسية.
أما الطابق الثالث والرابع والخامس؛ فمقسّم إلى غرف مؤثّثة بأثاث خشبي جميل لتبدو كغرف المنازل، وليست كغرف المشافي، وقد وضع فيها 54 سريراً.
في كل طابق من هذه الطوابق غرفة معيشة مشتركة فيها مكتبة وتلفاز وفيديو وموسيقى متنوعة وأدوات للرسم والأشغال اليدوية، ومطبخ مستقل تحفظ فيه الأطعمة التي ترد من المطبخ الرئيسي لتقدم ساخنة في موعدها، وتعد فيه مساء كل خميس وجبات يعدها بسرور وفرح أحد الأولاد المرضى بمساعدة المشرفات كل بدوره.
المرضى موزعون في الغرف فرادى ومثنى وثلاثاً حسب أعمارهم ونوعية إعاقتهم حرصاً على راحتهم ولخلق الانسجام بينهم في عيشهم المشترك وتعاملهم مع بعضهم البعض.
كانت كل حالات هؤلاء المرضى الصغار مشمولة بالضمان الصحي، وتكاليف بعض الحالات مغطاة من قبل الحكومة.. كحالة ابنتنا الخاصة جداً…
ليلى على الكرسي المتحرك…
لم تعد قادرة على المشي، ولم تعد قادرة على الكلام.
لقد أعدّوا لها لوحة بالأحرف الأبجدية لتشكل منها كلمات تخاطب الآخرين بها، ودفتراً لصور مختلفة تعبر بواسطتها عن رغباتها، وكانت أحياناً تثور وتحتج بصمت عندما تعيد محاولتها لتخبرني بشيء ما؛ وأفشل أنا، رغم ما أبذله من جهد، في فهم مقصدها.. كنت أشعر عندئذٍ بالعجز، وأنا أراها هكذا تتعذب في صمت وتعذبني.
ورغم أنها أصبحت مقعدة؛ إلا أنها تحسنت من الناحية الصحية والنفسية عما كانت عليه عندما رأيتها في المرة السابقة، لم يكن مرضها قدتم تشخيصه بعد..
لقد زاد وزنها، واكتسى وجهها الشاحب حمرة خفيفة في الوجنتين؛ إذ أنهم أعدوا لها في المركز برنامجاً يومياً يشمل علاجات مختلفة.
إنها فرحة بقدومي إليها تريد قضاء كل أوقات فراغها معي.. كانت تتصل بي هاتفياً فور استيقاظها تستعجلني للقدوم إليها؛ لكن المشرفة مارلين طلبت مني أن أخفف من أوقات لقائي معها حتى تتمكن من المشاركة ببعض النشاطات لاحقاً.!..
هززت رأسي متظاهرة بالموافقة، ثم خرجت للتنزه قليلاً في الغابة المشبعة بالرطوبة، بعد أمطار هطلت الليلة الفائتة.. إنه آخر يوم من نيسان.
كانت النسائم النقية الباردة تنعشني، ومنظر زهرات البنفسج النامية عند جذوع الأشجار يعيد إلي فرحاً طفولياً افتقدته منذ زمن.. البنفسج هو أول تباشير الربيع في بلادي، وكان منظره يفرحني كثيراً وأريجه يسكرني عندما كنت صغيرة.. كنت أخرج من المدرسة لأرى بائعه واقفاً في الزاوية فأسرع إليه لأشتري منه بقروشي باقة أحملها إلى البيت فرحة وأهديها لأمي.
بنفسج بلادي افتقدته هنا.. في سنوات الغربة.
افتقدت أريجه..
البنفسج هنا جميل؛ ولكن لا أريج له!!
زهرة البنفسج الجميلة هي المادة.. هي الجسد؛ أما أريجها فهو الروح..
هي القيمة التي افتقدناها هنا.
بنفسج الغابة ذكّرني بمارلين:
هراء… هذه الموضوعية التي تلجم عواطف الناس هنا.. وأنا ماجئت إلى هنا إلا من أجل ليلى.. من أجل أن أراها وأحتضنها وأحادثها وأعوض نوعاً ما أياماً طويلة من البعاد.
من الغريب أن تظن المشرفة أن قربي منها سيؤثر سلباً على نشاطاتها؛ فعندما تبدأ النشاطات التي حدثتني عنها؛ فإن ليلى ستنشغل تلقائياً بها عني؛ ولن تتشبث بي باكية؛ لأنها بطبعها اجتماعية ولا تعاني من عقدة الخجل أو الانعزالية، وأنا لم أحبسها في الغرفة وأمنع عنها الهواء والناس!…
لقد أضحت ليلى "دليلي السياحي" في المركز.. تتجول معي في أرجائه، وهي مفعمة بالحيوية، وتعرفني على كل من له علاقة به بدءاً من الطبيب المسؤول عنه، ومروراً بنزلائه من الأطفال المرضى، وذويهم، وانتهاءً بالبستاني.
لم أكن بحاجة لأن أخبر مارلين بوجهة نظري، بل تركتها ترى وتدرك صحتها بنفسها، وهذا ماكان.
لقد أدركت ذلك، ولمست بنفسها التحسن الجديد الذي طرأ على ليلى منذ قدومي إليها، وقلبت نظريتها السابقة مئة وثمانون درجة!
كل شيء هنا مرتب ونظيف، وموضوع في المكان الذي يجب أن يكون فيه.. لا شيء ناقص، ولا شيء زائد، كل شخص هنا مؤهل ويعرف تماماً ماهية العمل الذي ينبغي عليه القيام به.. لا أحد زائد ولاأحد ناقص…
لكن ثمة أمر ماليس على مايرام.. أمر ناقص!!
هذا مركز كامل.. كامل في مادياته؛ ولكنه ناقص في روحه.
ثمة برودة.. برودة عواطف.
برودة تكبح العواطف؛ فلا عفوية أو انفلات انفعالات..
وبرودة تحكم السلوك؛ فلا تلقائية أو ارتكاب هفوات!
عواطف باردة؛ لكنها مغلّفة بورق لامع من اللطف الزائد والمجاملة المفرطة التي كانت تثير أعصابي لا شعورياً كل مرة ألتقي فيها أحد أفراد طاقم العمل أو أطلب منه خدمة صغيرة!..
قصدت مكتب الدكتورة موللر في المركز..
ليلى مازالت تعاني من التشنجات التي لا تخف وطأتها إلا بتناول الدواء، والدواء يجعلها تشعر بالنعاس والتعب.. إنها ما زالت غير قادرة على الكلام؛ فالدواء مسؤول أيضاً عن ثقل لسانها؛ ومازال الأطباء في طور المعالجة التجريبية معها نظراً لندرة المرض، ولندرة إصابة الأطفال به..
ـ متى تنتهي تجاربكم هذه؟
سألت الطبيبة وقد نفذ صبري فطلبت مني التحلي بالمزيد من الصبر.. والانتظار.
الصبر والانتظار.. كم بت أكرههما!!..


*****


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 21-11-19, 03:55 PM   #20

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

عدت إلى غرفتي.. محبطة ناقمة وحزينة.
جلست قرب النافذة أحدق في الفراغ..
آه يا ابنتي….
هل بالإمكان أن تعودي يوماً كما كنتِ؟
أسمع صوتك وأنت على السطح تنادي صديقتك ابنة الجيران وتضحكين؟
تأتي لأبيك بطبق البيض المقلي، وأنت فخورة أنك أعددت له العشاء الذي يحب بنفسك؟!..
آه يا ابنتي.. هذا "العمو" الذي احتضنك مرة في عيادته، ومرة في بيته.. ليته يهتم
مددت يدي إلى درج منضدة المكتب أمامي..
أخرجت منه صورتك التي التقطّتها وسافرت معي مرة أخرى.
صورتك هي الشيء الوحيد الذي أمتلكه منك..
تأملتك وأنت تحتضن ليلى وتنظر إلي تلك النظرة الغامضة التي لا أدرك مغزاها..
تأملت صورتك طويلاً، ثم اجتاحتني رغبة بتمزيقها علّي بذلك أتحرر منك!..
فصلتك بالمقص عن ليلى، ومزقت صورتك..
مزقتها إرباً وفكرت أن أرميها في .. المرحاض!..
في المرحاض؟!.. حرام!..
أشعلت عود ثقاب وأحرقتها في المغسلة.. لم تحترق صورتك بسهولة.. لم تحترق إلا بعد أن أشعلت فيها عدة أعواد من الثقاب، وبعد أن أحرقت أصابعي معها!
لماذا لم تحترق صورتك بسهولة؟.. هل كان قلبي يطفئ النار خوفاً عليها دون أن أدري؟!!…
****
سرعان ما أصبح الجميع يعرفني، في الطابق الخامس من المركز، أدعوهم ويدعونني بالأسماء المجردة، دليلاً على رفع الكلفة بيننا، ففي هذا البلد المحافظ يحتاج المرء وقتاً طويلاً كي يلغي الحواجز ويرفع الكلفة، وأنا ضقت ذرعاً بمناداة هذه بالسيدة مركيزي، وذاك بالسيد كامينيش، بدلاً من أليدا وفيناند.. كنت دائماً أكره اللقب وأجد صعوبة في حفظ الكنية؛ أما الاسم الأول.. الاسم الشخصي، فكنت أحفظه بسرعة ولا أنساه.
اقترحت على كل واحد من طاقم العمل منذ البداية أن يناديني وأناديه هكذا؛ فنحن نرى بعضنا يومياً، ولا داعي أن نبقى رسميين وننادي بعضنا كل يوم بالألقاب السخيفة!!
كانت ردود الأفعال على اقتراحي إيجابية؛ ولكن التردد والدهشة من عفويتي في التعامل كانت بادية في العيون.. كان البعض بادئ الأمر ينسى، بحكم العادة، ويناديني باللقب والكنية، ثم يعتذر ضاحكاً.
أصبحت أنا والأطباء زملاء،وأنا والمشرفات، وأنا وعاملات النظافة، وأنا والأطفال المرضى، الذين يجب عليهم أن يكونوا مهذبين وينادوا الكبار باللقب والكنية!!
وخلق ذلك بيني وبينهم جواً من الألفة والمودة رغم أن العواطف بقيت مغلفة بذلك الورق اللامع!!
كان الطبيب المشرف على المركز هو الدكتور سوتر..رجل في العقد السادس من عمره، وقد غزا الشيب والصلع رأسه.
الابتسامة لا تفارق وجهه الأبيض المشرب بالحمرة، وعيناه الزرقاوان تشعان بهجة كعيون الأطفال.
لقد جعله تواضعه وبشاشته واهتمامه بكل صغيرة وكبيرة في المركز محبوباً من كل العاملين معه ومحبوباً من الأطفال المرضى وأهاليهم.
كثيراً ماكان يلقاني في الردهات؛ فيقبل نحوي محيياً ليحدثني في أي موضوع قد يخطر بباله.
وكثيراً ماكنت أراه في حديقة المركز وبيده آلة تصوير يسجل بها آخر الأعمال أو النشاطات.. أو منكباً على أوراق يدرس محتواها في مكتبه في ساعة متأخرة من المساء.
لقد أتعستني رؤية كل هذا الشقاء المختبئ وراء جدران المركز.. أتعستني رؤية كل هؤلاء المرضى، وخاصة أولئك الميؤوس من تحسن أحوالهم، وجعلني ذلك أشعر بفيض من الحنان تجاههم، وأحمد الله أنه كان رحيماً بليلى، وأن همي لا يعادل هموم ذويهم.
لم أستطع أن أكون أنانية لأفكر بنفسي فقط؛ فأسعدت الأطفال بلوحات جميلة رسمتها لهم في غرفهم، وعندما رأت المشرفات ذلك فرحن واقترحن علي أن أساعدهن في تزيين الردهات؛ فوافقت….
وبسرعة جلبن الأوراق الملونة وأدوات الرسم والمقص والصمغ، وغير ذلك، واقترحت إحداهن أن يكون موضوع الزينة هذه المرة البحر.. وجلست معهم أرسم وأقص وألصق أسماكاً وحيوانات بحرية مختلفة الأشكال والألوان، ثم وقفت ليلى… (أجل وقفت؛ فقد أصبحت قادرة على ترك كرسيها من حين لآخر)…
وقفت ليلى فرحة تملي علينا الأوامر لنعلق الأشكال في الأماكن التي تختارها.. نزين بها الردهات ونشيع فيها جواً من البهجة والفرح.
بعد أيام فاجأت المشرفات بلوحة جميلة.. باقة من الورود الحمراء رسمتها وذيّلتها مع التوقيع بكلمة "شكراً"، كتبتها تعبيراً مني عن تقديري لكل العاملين في المركز.. وعلّقت اللوحة في مكان بارز، وجاء الكل يشكرني عليها ويفرحني بثنائه.
***
كان يومي يبدأ مع ليلى وينتهي معها..
كنت أستيقظ باكراً؛ فأتناول فطوري بسرعة، ثم أصعد درج بيت المشرفات الصغير، وأعبر طرف الحديقة الذي يفصله عن المركز..
أذهب إلى ليلى، فأجدها جالسة مع المشرفة وباقي الأولاد عند المائدة في غرفة المعيشة في الطابق الخامس تنتظرني لأطعمها فطورها؛ ثم آخذها في نزهة وهي في كرسيها المتحرك، أو أحكي لها حكاية أقرأها من أحد الكتب الكثيرة الموجودة في المكتبة.
أطعمها طعام الغذاء وأساعدها في تنظيف أسنانها وخلع ملابسها والدخول إلى الحمام، ثم وضعها في السرير لتنام القيلولة… ثم أعود إليها لأمكث معها حتى المساء فأطعمها. و…. و…. هكذا دواليك…
كانت ليلى تصاب أحياناً بتشنجات أثناء جلوسها إلى المائدة لتناول الطعام، فتحتاج إلى الراحة والاستلقاء وتناول حبة من الدواء لتخفف من آلامها، ثم تعاود بعد ذلك تناول ماتبقى من الطعام بعد أن يكون الآخرون قد انتهوا منه وغادروا.
كانت المشرفات يرجونني أن آخذ قسطاً من الراحة أحياناً، وأن أذهب للترويح عن نفسي.. ولكن كيف أرفه عن نفسي؟‍
إن كل وسائل الترفيه، وما أكثرها هنا، ستفشل في الترويح عني…..
إني هنا من أجل ليلى ولست بحاجة للترفيه، وهي في أمس الحاجة إليَّ الآن، وفي كل وقت، لترتفع معنوياتها وتساعد نفسها على الشفاء.
كنت أرفع معنوياتها بالضحك؛ فأختلق من أجلها الكلام، والأفعال والمواقف المضحكة، وهي بطبعها مرحة لا تحتاج إلى الكثير حتى تنفجر ضاحكة.
عندما يحين موعد نوم ليلى كنت أضعها في سريرها وأساعدها لتمد يدها اليسرى المتشنجة على الوسادة وتضع رأسها عليها لتستريح، ثم أمد لها اليد اليمنى لتمسك بها الجرس الذي تنادي بواسطته المشرفة المناوبة ليلاً عند الضرورة.
أمسد لها رأسها وأمازحها وأحكي لها حكاية، ثم أقبلها وأتمنى لها ليلة سعيدة، ثم أعود إلى غرفتي.
أعود إلى غرفتي في كل مساء مرهقة وحزينة.. أدخن لفافة، وأبكي…
****
صورتك مزقتها وأحرقتها؛ فجاء طيفك يزورني في الحلم..
استيقظت من حلم كنت أنت وأختك فيه..
كانت تحدثني عن شجار لها معك، وكأنها تلتمس لك عذراً عندي، وهي تقول أنك تتشاجر مع من تحبهم فقط!..
استيقظت من الحلم في هذا النهار شبه الرمادي من شهر أيار، والشمس ماتزال تصارع السحب لترسل لنا من خلالها بعضاً من أشعتها.
وضعت شريط الكاسيت في جهاز التسجيل… كانت فيروز تغني: "عندي ثقة فيك"…
جلست قرب النافذة أدخن سيجارة "الحمراء" وأتأمل القرية المنبطسة أمامي على أطراف الغابة…
المطر ينهمر من جديد، وليلى مستقلية في سريري..
أستمع إلى الأغنية:
عندي ثقة فيك.. أما زال بإمكاني ذلك؟!… ماذا تفعل الآن ياترى؟
صورتك مزقتها وأحرقتها؛ فما بال فيروز أيضاً تذكرني بك من جديد؟!!


***



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:09 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.