آخر 10 مشاركات
ليلة مع زوجها المنسي (166) للكاتبة : Annie West .. كاملة (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          206- العائدة - كاي ثورب - روايات عبير الجديدة (الكاتـب : samahss - )           »          [تحميل] أعشقه و هو في دنيتي الجنه و صعب أنساه لأني نسيت أنساه ، لـ }{!Karisa!}{ (الكاتـب : Topaz. - )           »          ثمن الكبرياء (107) للكاتبة: Michelle Reid...... كاملة (الكاتـب : فراشه وردى - )           »          ارقصي عبثاً على أوتاري-قلوب غربية(47)-[حصرياً]للكاتبة::سعيدة أنير*كاملة+رابط*مميزة* (الكاتـب : سعيدة أنير - )           »          سحر التميمة (3) *مميزة ومكتملة*.. سلسلة قلوب تحكي (الكاتـب : كاردينيا الغوازي - )           »          حصريا .. تحميل رواية الملعونة pdf للكاتبة أميرة المضحي (الكاتـب : مختلف - )           »          بين نبضة قلب و أخرى *مميزة ومكتملة * (الكاتـب : أغاني الشتاء.. - )           »          جنون المطر (الجزء الثاني)،للكاتبة الرااااائعة/ برد المشاعر،ليبية فصحى"مميزة " (الكاتـب : فيتامين سي - )           »          حصريا .. رواية في ديسمبر تنتهي كل الأحلام .. النسخة الكاملة للكاتبة أثير عبدالله (الكاتـب : مختلف - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى الروايات والقصص المنقولة > روايات اللغة العربية الفصحى المنقولة

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 21-11-19, 04:18 PM   #21

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي




مطر.. مطر.. مطر..
مامن إمكانية للخروج والتمتع بأشعة الشمس والهواء الطلق؛ لكن زيارات الأصدقاء تبعد السأم عني، وتزيل كآبتي في الأيام المطيرة؛ وتدخل البهجة إلى قلب ليلى.
اليوم فوجئت بزيارة غير متوقعة.. كنت أجلس في غرفة المعيشة في الطابق الخامس ألعب الورق مع ليلى عندما دخل علي رجل إفريقي وامرأة هندية الملامح.. كان معهما ابن يافع وابنة أصغر من ليلى…..
ظننت في البداية أنهما يقصدان غيرنا؛ لكنهما تقدما نحونا يمدّان أيديهما بالتحية..
قالت المشرفة وهي تقدمهما لي: عائلة أميتامي حضرت لزيارتكما.
بادرني السيد أميتامي بالكلام، وهو يبتسم، ويناولني الهدايا الملفوفة بأوراق جميلة:
ـ هذه من أجل ليلى..
أظن أنك نسيتنا أنا وزوجتي..لقد زرناكما منذ زمن بعيد في بيتكم وكانت ليلى لا تزال رضيعاً، وهذا (وأشار إلى ابنه).. لقد كان شقياً وعبث بأشيائكما.
وفجأة تذكرتهما:
ـ يا إلهي!…
أنا آسفة حقاً إذ نسيتكما.. لقد كان ذلك منذ زمن بعيد أهلاً بكم.. أنا سعيدة جداً برؤياكم وشكراً على الهدايا.. كيف حالكم؟
السيد أميتامي رجل لطيف مهذب من غانا، وكيميائي حاصل على شهادته من هنا؛ لكنه وجد صعوبة بالغة في الحصول على عمل لائق في هذا البلد الذي حصل على شهادته منه، ولم يتوانَ زوجي عن مساعدته في الحصول على عمل جيد يتناسب مع دراسته وإمكاناته.. وجد له عملاً في إحدى شركات الصناعات الدوائية الكبرى..
ولم ينسَ السيد أميتامي ذلك، وزارنا مع زوجه في بيتنا ليعبرا لنا عن شكرهما؛ وبقي يتتبع أخبارنا بعد سفرنا إلى سورية..
قال لي السيد أميتامي:
ـ أنا لن أنسى أبداً فضل زوجك علي.. لقد حصلت بمساعدته على عمل محترم دائم.. إنه إنسان نبيل.
لقد علمت من صديقتنا انجي أن ليلى مريضة؛ وأنها هنا في المركز.. لقد صدمت في الواقع عندما أخبرتني عن معاناتكم وأحببت أنا وزوجتي أن نزوركم ونطمئن عليها.. نحن آسفون جداً من أجلها..
ـ أجل.. نحن نشارككم مشاعركم؛ فأنتم لا تستحقون إلا الخير.
أردفت زوجته السيرلانكية، وهي ترمق ليلى باسمة.
.. أما ليلى؛ فكانت ترمق الزوار الأربع بتوجس وحذر..
قلت لها:
ـ أنت يا ليلى لا تذكرين بالطبع هذه الأسرة الطيبة؛ فقد كنت لا تزالين طفلة صغيرة ترضع عندما أتوا لزيارتنا؛ وكان هذا الشاب طفلاً صغيراً؛ وأخته الصبية الصغيرة لم تخلق بعد…
وضحكت السيدة أميتامي، وأردفت:
ـ لقد كان شقياً، وشعرنا بالحرج منكما لتصرفاته أثناء تلك الزيارة..
أسعدتني تلك الزيارة؛ فالدنيا ما زالت بخير طالما مازال يوجد فيها أمثال هؤلاء الناس الطيبين، والمعروف لا يضيع ولو رميته بالبحر.. كما يقول المثل.
***
اليوم الأحد…
الإيطالية آناريتا حضرت مع زوجها أنطونيو وابنهما سيمون لزيارة الابنة المريضة ايرين….
لقد جلبوا معهم طعاماً للغداء أعدته آناريتا في مطبخ الطابق الخامس ودعتني لتناول الطعام..
جلسنا نتناول المعكرونة ونتحدث في أمورنا وهمومنا المشتركة..
فتح أنطونيو زجاجة النبيذ الفرنسي؛ فقلت له مازحة:
ـ أنت إيطالي تأكل طعاماً إيطالياً؛ فأين نبيذ "كيانتي"؟!
ضحك أنطونيو:
-أنا إيطالي أحب الطعام الإيطالي؛ ولكني أحبذ النبيذ الفرنسي.. أحب النبيذ الفرنسي؛ ولكني أحبذ نمط الحياة هنا.
-يالك من رجل عالمي!
لقد تعرفت على عائلة بيزانيللو هنا في المركز.. رأيتهما أول مرة في غرفة ليلى التي كانت ايرين تشاركها فيها.
ايرين تبلغ الخامسة عشر من العمر وهي مصابة أيضاً بمرض نادر يجعل جهاز المناعة في جسمها يعمل ضده ويعيق نموها، ولذا لا تتجاوز في الحجم حجم طفلة في الخامسة من العمر!
المرض يعيق نموها الجسدي فقط ولا يؤثر على قواها العقلية؛ ولذا فقد تمكنت ايرين من الحياة بصورة طبيعية نوعاً ما، والذهاب إلى المدرسة كباقي أقرانها.
واظبت على الذهاب إلى المدرسة حتى جاء اليوم المشؤوم الذي قرر فيه والديها بناء على نصيحة الأطباء معالجة التشوه في عمودها الفقري..
كان الطبيب يؤكد لهما أن لا خوف من نتائج العملية، وكانت مخاوف الوالدين تتعلق برئتيها الضعيفتين اللتين قد لا تتحملان المتاعب أثناء العمل الجراحي، ولم يخطر ببالهما قط أن النتيجة ستكون أسوأ من ذلك بكثير..
لقد صمدت الرئتان؛ ولكن العملية الجراحية فشلت.
كان على الطبيب أن يثقب الفقرات ويصلها ببعضها ويثبتها ببراغي معدنية؛ لكن الثقب اخترق النخاع الشوكي، وأصاب الأعصاب بعطب، وأصيبت ايرين بالشلل..
أصاب الشلل النصف الأسفل من جسمها، وأصبح لزاماً عليها أن تبقى طوال الوقت مستلقية على ظهرها على فراش هوائي..
أعطاهما الطبيب بعض الأمل في أن الشلل قد يكون مجرد أمر طارئ، وقد يزول بعد أشهر ثلاثة.. ربما!
أخبرتني آناريتا بذلك كله ونحن جالستين بمفردنا في عصر أحد الأيام نحتسي القهوة في غرفة المعيشة، وأخبرتها بدوري عن ليلى ومرض ليلى..
أصبحنا نجلس سوية كلما التقينا، وأصبحت أحاديثنا أطول.. وكان أنطونيو في البداية يخرج إلى الحديقة ليدخن، ثم يجلس متروياً صامتاً تاركاً المجال كله لزوجته تتكلم بسرعة وبصوت مرتفع على الطريقة الإيطالية.. على الطريقة المتوسطية!!
لكن أنطونيو مالبث أن أصبح ينضم إلينا ليشاركنا الحديث.. لقد جعلنا طبق المعكرونة أصدقاء!
خرجت مرة إلى الحديقة لأستمتع بأشعة الشمس وأدخن سيجارة..
كنت أمشي على مهل عندما سمعت صوتاً يناديني.. كان أنطونيو:
-مرحباً كارمن.. هل خرجت أيضاً لتدخين سيجارة؟
-أجل، وللاستمتاع بالشمس.. ياله من يوم جميل.
-تفضلي إذن بالجلوس.
وجلست بجانبه على المقعد الخشبي، ثم مددت له يدي بسيجارة "الحمراء":
-أتريد أن تجرب سيجارة سورية؟
-ولم لا؟.. شكراً لك.
سحب أنطونيو نفساً منها، وأردف:
-إنها جيدة..
تحدثنا في أمور شتى..
في الدين والسياسة.. عن الشرق والغرب، والبحر المتوسط، وعن ابنتينا..
قطع الحديث صوت آناريتا:
-آ.. أنتما هنا!
-وأين ظننت أننا يمكن أن نكون؟!
أجابها أنطونيو، فضحكت آناريتا وأردفت:
-في الحقيقة، لا مانع عندي أينما تكونان؛ ولكن ايرين تسأل عنك.
-هذه مجرد حجة واهية..
أجاب أنطونيو مازحاً هو الآخر، وأردت أن أجاريهما في المزاح كي لا يبدو لهما استغرابي من تلميحاتهما التي لا مبرر لها.
-اطمئني يا آناريتا.. فالظرف والمكان غير مناسبين أبداً.
-لا مانع عندي حقاً!
لم أجد جواباً أفضل من الصمت كي لا يطول حديث لا طائل منه، وعدنا نحن الثلاثة أدراجنا..


****



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 21-11-19, 04:26 PM   #22

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



أصبحت ايرين في الغرفة لمفردها، وانتقلت ليلى إلى غرفة أخرى بمفردها؛ فقد تم تخريج بعض المرضى الصغار، وعادوا للعيش في كنف والديهم..
قرعت مادلين على باب غرفة ليلى تستأذن بالدخول، وأنا أهم بالانصراف عائدة إلى غرفتي بعد أن حل المساء:
-كارمن.. هل تمانعين أن ترسمي لنا شيئاً لطيفاً على الباب الزجاجي الثاني؟
-بكل سرور.
-شكراً جزيلاً. سأعد لك إذن الأدوات والألوان.
التفت إلى ليلى أسألها:
-ماذا تريدينني أن أرسم يا ليلى؟
فأجابتني بعفوية:
-ارسمي لنا بيتنا في سورية.
-لقد حان وقت النوم الآن.. أتمنى لك ليلة سعيدة.. وستفاجئين صباحاً، أنت وأصدقائك بلوحة جميلة.
عندما انتهيت من الرسم كانت المناوبة المسائية للمشرفات قد انتهت، وما من مناوبة ليلية في يوم العطلة في الطابق الخامس؛ فلا حالات طارئة فيه، وأجراس الأولاد موصولة بجهاز مراقبة مركزي، وستأتي إحداهن من أحد الطوابق السفلى من حين لآخر للمراقبة والتأكد من سير الأمور على ما يرام.
الجميع نيام، ماعدا الفتى البرتغالي هوجو ابن الخامسة عشر..
كان يجلس على كرسيه المتحرك بجانبي يتأمل الرسم من وراء نظارته السميكة ويؤنسني بحديثه.. كان يكلمني بلغة ركيكة لم يتقنها بعد، ويحدثني عن طفولته، وعن والديه، وعن معاناته مع المرض.
عندما انتهيت من الرسم وقفت أتأمله..
لا ينقصه شيء من التفاصيل؛ فالببغاء "مانجو" رسمته واقفاً في مكانه المفضل على مظلة السطح، وليلى تقف تحت المظلة تلوّح فرحة بيدها.. حتى القط الأبيض "ميتسو" أعدته للحياة ورسمته جالساً على الافريز بجانب ليلى..
شجرة السرو واليوسفي والموز، والدالية تتسلق الجدار حتى السطح، وشجيرة "المجنونة" تتدلى فروعها خارج السور..
ستفرح ليلى حتماً، وتشير بإصبعها إلى الرسم وتقول للجميع هذا هو بيتنا الجميل.. وهاهي شمس الشرق الساطعة تغمره بأشعتها.
-ليلة سعيدة ياهوجو.
-ليلة سعيدة.. هل ستذهبين إلى النوم؟
-طبعاً؛ فأنا متعبة.. إلى اللقاء غداً.
-إلى اللقاء.
****
في الليل زارني طيفك في الحلم..
حلمت أني أنا وليلى في غرفة نومك، وأنك متزوج ولك أولاد.. لكنك زوج سيء وأب مهمل!
ثم حلمت أني أجلس فجأة مع زوجك وأولادك نتابع بالتلفاز فيلماً وثائقياً عن حياتك!!
زوجتك؟!
كيف كانت؟..
كيف كانت ملامحها؟.. هل رأيتها في الحلم بملامح مطابقة؟!
وأولادك؟!.. إنهم لم يولدوا أبداً.
لقد تزوجت لسنوات، ولم ترزق أولاداً؛ لأن زوجتك لم تكن ترغب بالأولاد.. كانت مهووسة بعملها، ولم تكن تعرف كيف تكون زوجة.. فكيف تصبح أماً؟!
وأنت؟!.. هل كنت زوجاً مثالياً؟.. ألم تزرع أنت أيضاً الفوضى في عشكما الزوجي؟!!
كيف كانت علاقتكما الزوجية تلك؟!
أمور تخصك وحدك وليس من حقي سؤالك عنها إن لم تشأ أن تفتح لي قلبك، كما فتحت أنا لك قلبي، وتخبرني عن أمورك كما أخبرتك عن أموري.
أمورك التي سمعت عنها من الآخرين بمحض الصدفة، والناس في بلادنا يحبون الثرثرة.. يحبون الثرثرة كثيراً.
****
انصرم شهر أيار بسرعة واقترب موعد السفر..
موعد العودة إلى سورية..
لقد أوقفوا إعطاء ليلى أحد الأدوية بعد أن تبين أن له مضاعفات تؤثر على تركيب الدم عندها، وينتظرون الحصول على بديل. أثار هذا الأمر الطارئ عصبيتي، وجعلني أفقد صبري؛ فقد طال الانتظار، ومازالوا حتى الآن في طور التجريب مع ابنتي؛ لكنني عدت لأتماسك من جديد وأعزي نفسي أن حالة ليلى النفسية على الأقل قد تحسنت كثيراً منذ قدومي لدرجة أدهشت الجميع.
فلأحمد الله إذن..
في الليلة الأخيرة لتواجدي في المركز طلبت أن أبيت الليلة مع ليلى في غرفتها؛ فجلبوا لي فراشاً وضعوه في غرفتها. جلست في الغرفة أحادثها؛ فبكت فجأة وأنا أحتضنها.. كان بكاءها مرتفعاً؛ فلم أتمالك نفسي وبكيت معها، ثم مسحت دموعي ودموعها ورجوتها ألا تبكي.. رجوتها أن تبقى متفائلة، وتؤمن بشفائها كي يشفيها الله.
خرجت ليلى برفقة المشرفة ميشيل تودعني عند باب المركز.. كنت أتصنع الابتسام بصعوبة، وكان قلبي يبكي. بقيت أقاوم رغبتي بالبكاء، وأنا أسير مبتعدة والتفت إلى الخلف لألوّح لها مرة أخرى حتى توارت عن أنظاري، وعندئذ انسابت من عيني الدموع.
بقيت أبكي بصمت طوال المسافة التي تجاوزت الساعة، والقطار ينطلق بي إلى حيث تقيم صديقتي أجنس التي سأقضي عندها الليلة الأخيرة قبل سفري.
أعرف أجنس منذ ثلاث عشرة سنة، وكانت أيضاً جارتي مثل فيرونيكا..
جاءت لتسكن في البناية الجديدة رقم 6 التي انتقلنا للعيش في إحدى شققها قبل أشهر من قدومها هي وزوجها؛ فدعوتها بعفوية لتناول القهوة.
فرحت كثيراً أني دعوتها بسرعة لنتعارف ولبّت الدعوة شاكرة..
دخلت إلى المطبخ، وأنا أعد القهوة. كانت حاملاً في الشهر الأخير، وبدأت تفتح لي قلبها وتخبرني عن خوفها من الولادة، وأنا أطمئنها أن الأمور ستسير على مايرام.
وتوطدت صداقتنا، خاصة بعد أن اكتشفنا هوايات مشتركة بيننا، ثم انتقلت مع زوجها وابنتها للعيش في منطقة أخرى؛ فحافظنا على الود وتبادل الزيارات.. وعندما وضعت توأمها جعلت مني عرّابة أحدهما.
جلست مع أجنس في الحديقة، وقد أرخى الليل سدوله، وبدأت تحدثني عن متاعبها مع زوجها ألبرت.
-أتعلمين يا كارمن؟.. أن المرأة بعد الأربعين تبدأ بمراجعة حساباتها وتواجه عواطفها بجرأة أكثر، وتضع علاقتها مع شريك حياتها على المحك.. لست وحدي من يعيش هذه المرحلة؛ فكثيرات ممن أعرفهن يشعرن نفس الشعور ويعانين من نفس المتاعب.
(لقد قالت لي فيرونيكا قبل أسبوع نفس الكلام!!).
نظرت أجنس إلي بدهشة غير مصدّقة ما أقوله:
-وأنا كذلك يا أجنس!
-ماذا؟!.. لقد ظننت أنك وبيتر في وئام.
-أجل.. أجل، نحن في وئام، لكننا نعاني من مشكلة… مشكلة مختلفة عن مشكلتكما أنت وألبرت.
-لم أفهم.
-إن مشكلتنا معكوستين تماماً؛ فأنت وألبرت لا تعانيان مما نعاني منه؛ ولكنكما تعانيان مما لا نعاني نحن منه!.. وشرعت أخبرها وهي تنصت بصمت واهتمام، ثم قلت لها:
لقد انقطع الحوار فيما بينكما؛ فعجزتما عن التفاهم، وأصبح من السهل عليكما أن تفترقا ويذهب كلاً منكما في طريقه.
أما نحن؛ فقد تعوّدنا دائماً على الصراحة، رغم كل شيء؛ فبقي الحوار بيننا متصلاً، والتفاهم قائماً؛ ولذا يصعب علينا أن نفترق كما ستفترقا!
-لكن عليك أن تتحلى بالشجاعة وتتخذي قرارك.
-أنا لست جبانة يا أجنس.. أنا أنتظر كلمة واحدة فقط لأتخذ قراري.. القرار ليس في يدي، وأنا لن أجازف إن لم أكن متأكدة من النتائج!
****

ودعتني أجنس في المحطة، وانطلق بي القطار إلى المطار..
كانت طائرة "أليتاليا" متأخرة كالعادة؛ فتم تحويلي إلى السويسرية المتجهة إلى ميلانو؛ لكنها تأخرت هي الأخرى!
بدأت الطائرة تتحرك أخيراً على المدرج، وبدأت الخواطر تتحرك في رأسي.. استرجعت في بالي عبارة سوسن:
-من يدري يا كارمن؟!.. حفلة الزفاف ستكون فرصتك.. هيا.. كوني متفائلة!
قبل أن أسافر إلى ليلى ذهبت إلى الخياطة ومعي قطعة القماش التي جلبتها من الهند.. مددت لها ورقة عليها تصميم الفستان الذي أريد:
-أرجو أن تخيطي لي هذا الفستان بسرعة.. إني مدعوة لحفل زفاف بعد أسبوع.
كذبت عليها؛ فبعد أسبوع سأسافر؛ لكنني أردتها أن تخيط الفستان قبل سفري ليكون جاهزاً عند عودتي إن فاجأني اقتراب موعد زفاف سناء فلا يتيح لي ضيق الوقت فرصة تحويل هذا القماش الجميل إلى فستان رائع ألبسه بهذه المناسبة..
ألبسه خصيصاً من أجلك!
اشتريت الاكسسوارات المناسبة، والحذاء المناسب والحقيبة المناسبة، وحملت كل هذا مع الفستان إلى بيت سوسن، وارتديته أمامها لأتأكد أني أبدو فيه أنيقة:
-أجل.. أجل. تبدين في منتهى الأناقة.. والرشاقة.
-طبعاً.. القالب غالب!
-يا ملعونة.
-آه يا سوسن.. ليت أحلامي تتحقق!
-من يدري يا كارمن؟!.. حفلة الزفاف ستكون فرصتك.. هيا.. كوني متفائلة!

-آمل ذلك، رغم أني لا أتوقع شيئاً البتة.
وضحكنا طويلاً.. ضحكنا وحلمنا بأشياء لم تتحقق أبداً.


**********


لامارا غير متواجد حالياً  
التوقيع







رد مع اقتباس
قديم 21-11-19, 04:28 PM   #23

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


الصيف الثاني:

ثلاثية الحزن والقلق والوحدة




هبطت الطائرة أخيراً في مطار دمشق، وقد تجاوزت الساعة الثالثة صباحاً.
كان بيتر في انتظاري.. أخبرته عن آخر تطورات حالة ليلى الصحية والنفسية، وعن دوائها الذي أوقفوه لأن له مضاعفات سلبية، وعن بطئهم في البحث عن بديل لدرجة أفقدتني صوابي…
إنهم مميّزون من حيث الرعاية والتأهيل؛ لكن خبرتهم بهذا المرض بالذات قليلة لندرة الإصابات بها في بلادهم، خاصة في هذا السن المبكر.
وأخبرت بيتر عن سوزانا وأوليفييه..
سوزانا.. الطبيبة الإسبانية من برشلونة التي تعرفت عليها منذ سنوات، وتصر دائماً على أنها قشتالية وليست إسبانية..
بفضلها عرفت أن تلك الكلمة التي نتداولها كثيراً، كلمة قشتالية الأصل، وليست كلمة عربية عندما سمعتها تقولها لأختها: "طاولة"!
أما زوجها اوليفييه؛ فمهندس طيران تجري في عروقه بعض من دماء عربية جزائرية!.
أمضينا أوقاتاً طويلة وراء شاشة الانترنيت نبحث عن مواقع يمكننا النفاذ إليها للبحث عن دواء بديل، وحان وقت سفري ولم يحالفنا الحظ..
أخبرت بيتر عن أجنس وألبرت؛ فسألني مباشرة إن كنت قد أخبرتها عنا، وقبل أن أجيبه أردف إن لا مانع لديه أن كنت فعلت.
أخبرني بيتر عما فعله أثناء غيابي، وأخبرني عنك!
أخبرني أنه رآك في مطعم "طل القمر"..
كانت سناء وخطيبها وأصدقاء لهما هناك، وزوج أختك مع أناس آخرين؛ فنهض زوج أختك وجاء يسلّم عليه. ثم جئت أنت مع امرأة حمراء الشعر، ولمحته من زاويتك..
كنت تتأمله، وكان يلحظ ذلك بطرف عينه؛ فاستدار إليك ليحييك؛ لكنك سرعان ما أشحت بوجهك عنه!! (أنت معذور طبعاً.. قال لي أنه يعذرك، وأنا عذرتك؛ فعذرك عندي أكبر من عذرك عنده!!
..لكن تلك المرأة التي كانت بصحبتك.. تلك المرأة ذات الشعر الأحمر القصير.. من تراها تكون؟!.. هل هي صديقتك الجديدة"؟.)
سألت بيتر:
-.. هل كانت جميلة؟
-من؟
-تلك المرأة التي كانت برفقته.
-لم أنتبه إليها.. ربما كانت جميلة.. هل تشعرين بالغيرة؟!
(يسألني، وكأني لست زوجته.. زوجته التي تستفسر منه عن رجل تحبه، وهو يعلم!!).
-نعم، أغار.. أغار، والأسوأ من ذلك أني، لا أقول لـه؛ بل لك أنت!!.. ألا يبعث هذا كله على الجنون؟!!
حملق بي في ذهول، وقد ارتفع صوتي:
-.. وأنا مجنونة.. أنا امرأة مجنونة!!
الغيرة هي نوع من الأنانية.
والحب.. أليس أيضاً نوعاً من الأنانية؟
إنه يبدو كذلك للوهلة الأولى..
نحن نحب لأننا نريد أن نمتلك.
ونغار لأننا نخاف أن نفقد ما نظن أننا نمتلكه.
لكننا في الحقيقة لا نمتلك أحداً.. لا نمتلك مشاعرنا.
الحب لا يمنحنا أبداً القدرة على الامتلاك؛ بل يسلبنا إياها ويجعلنا نحن ومشاعرنا ملكاً لغيرنا..
لكنه يمنحنا بالمقابل سعادة لا تساويها كنوز الأرض، ويعيد خلقنا من جديد.
والغيرة؟
الحب والغيرة.. كالوردة وعبيرها.
لا يمكن الفصل بينهما، ومن يحب يغار.. يا بيتر.. يا صديقي.
لا تقل لي بعد اليوم أنك تحبني.
لا تذكّرني بأفلاطون..
أنا لا أحب أفلاطون، وأكره حبه!
دعتنا ريما لزيارتها أنا وبيتر. إنها هنا في منزل والديها بالقرية تستمتع بإجازة لمدة يومين.
تناولنا المرطبات مع والديها، ثم ذهبنا إلى المطعم.. إلى مطعم "طل القمر"..
المطعم الذي رآك بيتر ورأيته فيه..
كانت نظراتي تتجه إلى تلك الزاوية حيث كنت تجلس.. أتخيلك جالس هناك، وأتمنى لو تأتي وأراك!
في اليوم التالي، كنت منهمكة في العمل في الحديقة عندما رن الهاتف.. كانت ريما على الطرف الآخر تدعوني لمرافقتها إلى الشاليه لنتمتع بيوم على شاطئ البحر:
-آه يا ريما.. لا أستطيع.. سيكون بيتر لوحده طوال اليوم.
-وما الضير في ذلك؟.. سيشبع منك غداً عندما أعود إلى دمشق.. أرجوك تعالي معنا.
-حسناً.. سأخبره وآتي إن لم يكن ذلك يزعجه.. سأعاود الاتصال بك بعد دقائق.
لم تكن لدي رغبة حقيقة بالذهاب إلى البحر، ولا الرغبة بحديث ليس سوى ثرثرة.. كنت أفضل البقاء معه لو أنه طلب مني ذلك؛ لكنه لم يمانع، ولم يزعجه غيابي، بل شجعني قائلاً:
-اذهبي واستمتعي بالبحر، ولا تشغلي بالك بالنسبة لي؛ فأنا لا يضيرني البقاء وحدي اليوم.
جلست مع ريما على الشاطئ الرملي ندخن سيجارة ونتحدث..
أخبرتني أنك مسافر إلى واشنطن، ولن تعود قبل الرابع من الشهر.. شهر تموز..
لقد سافرت أنت في نفس اليوم الذي عدت أنا فيه.. ستغيب أسبوعين آخرين إذن.
(مسافر أنت وبعيد، ولقد سافرت أنا وبعدت؛ لكنك بقيت مني قريب جداً.. أنا مشتاقة إليك رغم كل شيء أيها المغرور..
ألم يخطر ببالك أن تسأل ولو مرة ريما عني؟!
هي تخبرك عمداً أني سافرت؛ فتتساءل مستغرباً: هل حدث شيء؟!
هل كان سؤالك العفوي دليلاً على أن أمري يهمك فعلاً؟..
أظننت لوهلة أني عنيت ما قلته لك ذاك اليوم في العيادة، وأني عدت من حيث أتيت، وإلى غير رجعة، فتحرك في داخلك شيء أود من كل قلبي أن يتحرك؟!).
سألت ريما:
-هل ترك خالك لكم عنوانه في واشنطن؟
-لا.. لماذا؟
-أود أن أرسل له فاكساً إلى هناك.. لقد أوقفوا إعطاء ليلى أحد الأدوية؛ لأن له تأثيرات جانبية، والدواء مستورد خصيصاً من أجلها من الولايات المتحدة.. من البلد التي يتواجد فيها خالك الآن.
إنهم يبحثون لها عن دواء بديل، وقد فكرت أنه ربما كان باستطاعة خالك مساعدتي.. ربما يستطيع مساعدتي بطريقة ما، خاصة أنه هناك، ومرضها نوعاً ما من اختصاصه أيضاً.
-إنه بالطبع لن يبخل عليك بالمساعدة إن طلبت منه ذلك.
في طريق العودة سألني زوج أختك بلا مقدمات إن كان لبيتر صديقة؛ فهذا أمر طبيعي في أوروبا!!
استغربت؛ بل استهجنت سؤاله.. ليس لأني أعرف أنه أمر طبيعي في أوروبا، (وطبيعي هنا؛ لكننا نتكتم عليه.. وهذا هو الفرق بيننا وبينهم!).
وليس لأني أعرف أن لا صديقة لبيتر هناك؛ ولكن لأني أعجب من الرجل.. يراه أمراً طبيعياً؛ كونه رجلاً أن يكون له صديقة.. ولأن زوج أختك أولاً وأخيراً يتجرأ أن يسألني عن أمر شخصي كهذا!
فقلت له:
ليست الخيانة أن يكون للرجل صديقة.. إن الخيانة هي الكذب!.. أن يكذب الرجل على شريكة حياته ويشاركها فراشها وهو يوهمها أنه يحبها بينما تكون لـه صديقة، وربما صديقات في الخفاء… نحن أحياناً لا نستطيع التحكم بعواطفنا التي قد تكون أكبر منا، والإنسان قادر أكثر على المسامحة بوجود الصراحة والصدق، وعاجز عنها أكثر بوجود الكذب.. أنا أعلم علم اليقين أن ليس لبيتر صديقة، وإن حدث ذلك، فسأكون بالتأكيد أول من يعلم!
وعاد يسألني.. يسألني هذه المرة إن كان لي صديق!
وأحببت أن يكون جوابي هذه المرة صاعقاً، وعلى مبدأ المساواة بن المرأة والرجل؛ فقلت له:
-كان من الممكن أن يكون لي صديق، ولكنه لم يكن!!
****
حلمت أحلاماً غريبة متتالية:
حلمت أني أرتدي الثوب الذي خيّطته لعرس سحر (أمل يتحقق)، وأنك تأتي لتزورني في بيتي وبيدك مسدس تضعه جانباً وتجلس قبالتي تحدثني (علي ألا أثير غضبك)، وأنني أقف أمام لوحة إعلانية (مفاجآت جديدة)…
اتصلت بي سناء لتخبرني أنها ستتزوج في اليوم الأول من شهر تموز، وستكون مجرد حفلة بسيطة.. شعرت بالخيبة؛ فأنت لن تكون موجوداً فيها..
ليت سناء تؤجل الموعد؛ فأنا لم أخيط الفستان إلا لكي تراني أنت فيه.. أردت أن أبدو جميلة (ربما) في عينيك. ذهبت بعد أيام إلى سناء أزورها، وما إن توارت في المطبخ لتعد القهوة، حتى اقتربت أمها مني تهمس لي مخافة أن تسمعها سناء:
-آه يا ابنتي.. لقد ارتحت أخيراً.. ارتحت أن سناء خطبت، وأنها ستتزوج قريباً.
لقد عذبتني كثيراً.. بسببه!
-بسبب من؟!
-بسبب الدكتور "…"، أرجوك لا تقولي لها أني أخبرتك.. سوف يغضبها ذلك!
-….!!
-لقد كان يحبها وينوي خطبتها؛ لكن أهله جن جنونهم عندما عرفوا، وخاصة أخته وابنتها.. لقد شعروا بالغيرة من سناء.. إنه كريم لا يبخل عليهم بالمال والهدايا؛ ولذلك لا يريدونه أن يتزوج!
-..!!!
كانت زيارتي لسناء قصيرة..
كنت مضطربة فغادرت بسرعة أحث الخطى على درب القرية.. أفكر بسناء وأخاطبها في سري:
لا داعي للكلام يا سناء..
لقد أدركت بحدسي القاسم المشترك بيننا نحن الاثنتين، ولذا أحبك الآن أكثر!
أخيراً عرفت اللغز.. ذاك اللغز الذي طالما عرفت بوجوده.
ذاك اللغز الذي يربطك وسناء.
جاءت أمها لتكشفه لي دون أن أسألها عنه.
(عرفت لمن تشكي همك يا أم جميل!).
أنت إذن قاسمنا المشترك!!!
لم تكن سناء تذكرك أمامي إلا بالخير.
أما أنت؛ فقد أزعجك جداً أن أتعرف عليها.. كنت حذراً جداً؛ فلم تجب على تساؤلاتي، وتركتني فقط أستغرب من ردة فعلك، ثم اتخذت من معرفتي بسناء حجة كي تبتعد عني.
(هل كنت حقاً تحبها، وتنوي خطبتها؟!..
هل كان حبكما عاصفاً كالرعد والبرق وانهمار المطر؟!!
أم أنها وحدها كانت تحبك؟.. هل كانت تحبك بتعقل؛ أم بجنون يشبه جنوني؟!).
****
فكرت، وقد عجزت عن الحصول على عنوان إقامتك في واشنطن، أن أرسل لك فاكساً إلى العيادة في دمشق؛ فعساك تستطيع مساعدتي عن طريق الانترنيت.
فكرت أن طيبة قلبك هي أكبر من غضبك، وأنك ستتناسى ماحدث بيننا، وتتذكر أنك أولاً وأخيراً طبيب؛ فلا تتوانى عن المساعدة.. مساعدة إنسانية أطلبها منك؛ ولذا أرسلت لك الفاكس.
لقد سافر بيتر بعد ثلاثة أسابيع من عودتي، واتصل بي في نفس اليوم ليطمئنني عن وصوله بالسلامة، وعن صحة ابنتنا.. أخبرني أنهم لم يجدوا لها الدواء البديل بعد، وأخبرته أني أرسلت لك فاكساً؛ فاستحسن الأمر. في اليوم التالي وجدت نفسي أفكر فيك، ولم يبق على عودتك سوى أربعة أيام.. وجدت يدي تمتد رغم ذلك تلقائياً إلى سماعة الهاتف لأطلب رقمك في دمشق.. إنه الحدس!
فوجئت بصوت ذاك الذي يعمل عندك يرفع السماعة:
-آلو؟!
-مساء الخير.. هل عاد الدكتور من السفر؟
-أجل؛ ولكنه لم يصل إلى العيادة بعد!
خفق قلبي بشدة، وعجبت كيف عرف هذا الخافق اللعين أنك عدت قبل الموعد المحدد؟!!
مرت أيام على عودتك، ولم تصدر منك أية بادرة إيجابية.. إنك تتجاهلني كالعادة.
كانت xxxxب الساعة تشير إلى الثامنة مساء:
ستسافر بعد قليل برفقة ريما إلى اللاذقية، ولابد أن أتصل بها غداً لأستفسر منها عن ردة فعلك بعدما قرأت الفاكس..
في الصباح التالي اتصلت بالعيادة في اللاذقية؛ فقد اشتقت لسماع صوتك.. وعندما تناهى إلى مسمعي أغلقت الخط بسرعة وأنا أفكر:
"يا إلهي.. يبدو أنه لوحده في العيادة.. ليتني أستطيع أن أراه.. عليّ أولاً أن أنتظر حتى تستيقظ ريما التي لا تشبع نوماً"!!
اتصلت بريما بعد الحادية عشر، وجاءني صوتها كالعادة كسولاً يغالبه النعاس:
-آلو؟!.. آه.. أهلاً كارمن.. كيف حالك؟
-بخير.. وأنت؟.. هل أيقظتك؟!
-لا بأس..
-هل سألت خالك عن الفاكس؟!
-لقد قرأه!
-وماذا بعد؟
-حزن كثيراً من أجل ليلى.
-هل يمكنني أن أراه؟!
-لا أعرف!!
-كيف لا تعرفين؟!.. ألم تلاحظي كيف كانت ردة فعله على الفاكس؟!
-يا كارمن.. اتصلي مساء؛ فأخبرك عندما أصحو!!!
يالها من بليدة.. لم آخذ منها لاحق ولا باطل..
ألهمني يارب الصبر حتى المساء!
في المساء.. كانت ريما قد شبعت نوماً:
-أجل.. لقد حزن من أجل ليلى.. قلت له: "يا خالو.. أنا حزنت من أجلها عندما رأيت صورها التي التقطتها لها كارمن في المركز".
-هل تظنين أن بإمكاني أن أزوره وأستشيره؟
-نعم.. لكن اتصلي به أولاً كي لا يتفاجأ بحضورك.. أرجوك كوني صبورة معه!
-حسناً.. سأفعل.. إلى اللقاء.
ذهبت صباح اليوم التالي إلى المدينة؛ فزرت سوسن، ثم اتصلت بالعيادة لأتأكد من وصولك.. كان نديم على الطرف الآخر:
-لا.. لم يحضر بعد.
-سأتصل بعد نصف ساعة إذن.
ولم تحضر بعد نصف ساعة، ولا بعد ساعة.. ونفذ صبري كالعادة، وهذا أحد عيوبي.
ذهبت إلى العيادة أنتظرك هناك، والعيادة مكتظة كالعادة.
ناولت نديم بطاقة مني يعطيها لك كي لا تتفاجأ بدخولي إليك، ومضى الوقت ولم تحضر.
طلب مني نديم الدخول إلى المكتب وانتظارك هناك.. نسيت أمر البطاقة التي أعطيتها له ودخلت، وكان ذلك خطأ شنيعاً.
في المكتب جلس زوجان ينتظرانك..
بادر نديم إلى تعريفهما بي؛ فابتسما لي، وعرفني الرجل بنفسه وبزوجته، وأردف:
-… لقد كنت أستاذ الدكتور عندما كان طالباً في الجامعة.. لقد زرنا بلد زوجك كثيراً، ولنا فيه أصدقاء.. وشرع يحدثني هو وزوجته عن تلك الأماكن التي أعرفها.
وفجأة دلفت من الباب..
وقعت عيناك عليّ، وعرفت من نظراتهما أنك تفاجأت جداً بوجودي، وغاص قلبي بين ضلوعي..
مددت يدك تصافح الأستاذ وزوجته وتقبّلهما على الوجنات، ثم مددت يدك لي:
-أهلاً "سيدة كارمن".
(سيدة كارمن؟!.. هذه أول مرة تناديني بها هكذا!.. تريد أن تشعرني أن علاقتنا أصبحت رسمية جداً).
-أهلاً دكتور، والحمد لله على السلامة.
وجلست ثانية، وبقيت أنت، واقفاً تتحدث إلى الأستاذ وزوجته اللذين كانا يستشيرانك في أمر ما..
كانت هذه فرصتي لأتأملك، وأشبع شوقي بالنظر إليك فقط: "كم اشتقت إليك أيها المجنون.. اشتقت إليك". (كنت متوتراً، والانزعاج واضح على وجهك.. هل كان سببه وجودي في مكتبك؛ أم سبب آخر.. أم الاثنين معاً؟!).
خرج الأستاذ وزوجته..
كنت على وشك أن أفرح بذلك؛ لكن سرعان من دخل بدلاً منهما رجلان جعلا الفرحة تموت قبل أن تولد.
خرجت لهنيهة بعد أن صافحتهما، ثم ناديتني:
-سيدة كارمن؟!
(ما أثقل هذه العبارة، وهي تخرج من بين شفتيك!).
كنت متوتراً جداً وعابساً جداً، وأنت واقف وأنا واقفة في غرفة الفحص الصغيرة الفاصلة بين مكتبك وغرفة الانتظار:
-ألم تخبرك ريما؟
-…
تجاهلت سؤالك الذي أدركت منه أنك لا ترغب برؤيتي..
(يا لحماقة ابنة أختك هذه.. إنها لم تخبرني شيئاً؛ بل شجعتني على المجيء إليك).
-هل تنوين إجراء عملية لليلى؟
-ربما أن هذا هو الحل؛ ولكن متى يمكن إجراء عملية كهذه بالنسبة لها؟
-في الحقيقة.. طالما أن العطب قد وصل إلى الجهاز العصبي؛ فإن الأمل في الشفاء أصبح مستحيلاً!.. فحتى لو تمت عملية الزرع بنجاح؛ فإن هناك مضاعفات ستظهر بعد فترة، والنتيجة ستكون واحدة!
-ماذا؟!.. ماذا تقول؟!!.. لا أمل؟!!!
-لا أمل..
جمدت في مكاني.. صعقني كلامك.. أخرستني من جديد.
وتكرر المشهد..
ها أنت تقف مرة أخرى أمامي جامداً كالصخر؛ لكنك بدل أن تكرر: صفر، صفر.. تفوهت هذه المرة بما هو أخطر:
لا أمل.. لا أمل.
هممت بالانصراف؛ ولكن فاجأتني في اللحظة الأخيرة.. كالعادة:
-اتصلي بي بعد الظهر.
-أين؟.. في منزلك، أو عند أمك؟
وزعق الهاتف في مكتبك؛ فدخلت قبل أن أسمع جوابك.
البطاقة على مكتبك..
لم تجد كتابتها نفعاً؛ لأنك لم تقرأها في الوقت المناسب..
ياله من لقاء!..
همت في الطريق لا أرى شيئاً.. في عيني غشاوة وكلامك مازال يتردد في أذني.
جئت إليك آمل أن تمنحني دقائق تحدثني فيها بهدوء.. تحترم فيها مشاعري كأم، إن لم تحترم من قبل مشاعري كامرأة.
جئت إليك؛ لأن صحة ليلى تتحسن، وتبعث الأمل في قلبي من جديد.. جئت إليك لتعزز الآمال وليس لتحطمها.
جئت إليك؛ لأني أحبك، وأثق بك رغم ماحصل. فأنا لا يمكنني أن أكرهك، إن لم يكن بإمكاني الحصول عليك!!
أردتك أنت أيها "الجراح" أن تجري العملية الجراحية، إن كان لابد من عملية؛ فكان لقاءنا بهذا الشكل المريع..
لم أكن أعلم أن اختصاصك بالجراحة يصل حتى المشاعر!
يالك من همجي قاسي!!
وعدت إلى نفسي ألومها.. أنا ألومها دائماً؛ وكأني أبحث لك في كل مرة دون وعي عن مبرر لتصرفاتك معي:
يالي من حمقاء متسرعة.. لو أني انتظرت حتى يقرأ البطاقة، ودخلت عندما يدعوني للدخول.. لقد أزعجه حتماً وجودي داخل المكتب بعد تلك المكالمة الهاتفية والقطيعة.. لابد أن تصرفي كان وقحاً؛ ولكني كنت متوترة يا إلهي، وكيف كان علي أن أبرر لنديم رفضي للدخول والانتظار في المكتب عندما دعاني؟!
اتصلت بك في منزل أمك في الرابعة؛ فأخبرتني أنك نائم.. بقيت نائماً حتى السادسة.. كنت ما أزال شديدة التوتر عندما أتاني صوتك، ولم أعرف كيف خرجت الكلمات من فمي:
- مساء الخير.. هل من شيء تضيفه لما قلته لي ظهر البارحة ؟
لابد أن توتري جعل نبرتي فظة، وأردت إغاظتي بإجابتك:
- لا.. لا شيء!!
-لا شيء؟!.. مع احترامي لرأيك.. كيف توصلت إلى تحليلك السريع وحكمت مسبقاً على ابنتي بالموت، وأنت لم تسألني عن وضعها الصحي، ولم تعرف بتاتاً كيف أصبحت؟!!
- بيب.. بيب!
- انقطع الخط؛ فعاودت الاتصال:
- آسفة… لقد انقطع الخط.
- أنا مستعجل.. علي الذهاب إلى اللاذقية إلى بيت صهري!
- كيف توهمت أن بإمكاني طلب المساعدة منك؟.. لا أمل يرجى منك.. إني أنا من يتمنى لك التوفيق حقاً!!
أغلقت الخط، وجمدت في مكاني.. أحسست بالعرق البارد يتصبب من جسمي كله، وأصابتني القشعريرة، ثم انفجرت باكية.
اتصلت بي ريما، وأنا ما أزال أبكي:
- كارمن.. ما الأمر؟!
- خالك. استقبلني أسوأ استقبال، وأخبرني أن ليلى مائتة لا محالة!
- يا إلهي.. لقد بالغت، وأخبرته أن ليلى بأسوأ حال كي يشفق عليها ويساعدك؛ لكن النتيجة كانت عكسية تماماً!
- أيتها الحمقاء.. ألم تخبريه إذن أن ليلى تتحسن؟!!
على أي حال؛ فهو لا يراعي مشاعر أحد، وسواء أكانت تتحسن أم على وشك الموت –كما ظن هو- فما كان عليه أبداً أن يستقبلني بهذه الطريقة الفظة، وقد جئت خصيصاً إليه أطلب منه العون.
لم أتمالك نفسي؛ فعاودت البكاء.
اضطربت ريما وسألتني بحذر:
-بالله عليك يا كارمن.. هل حصل بينكما أمراً ما لا أعرفه؟!
أدركت بسرعة أن علي أن أنتبه لانفعالاتي:
-طبعاً لا.. لقد خاب أملي فيه فقط؛ لأني أحترمه، وكنت أعتبره صديقاً عزيزاً.
شعرت بالدوار بعد المكالمة مع ريما؛ فاستلقيت على الأريكة..
بقيت ساعات مستلقية أغفو وأصحو.. أتذكر كلامك فينقبض صدري وأشعر أني مريضة.
بقيت في اليوم التالي متعبة جداً.. وفي المساء اتصلت ريما:
-لقد عاتبت خالي، وقلت له أن ليلى تتحسن، وأنه ما كان يجدر به أن يقول لك ما قاله؛ فأجابني أنه لم يقصد أن يجرحك، وأنه هكذا.. لا يعرف المجاملة!
-هكذا إذن.. لا يعرف المجاملة!!
-أرجوك.. لا تغضبي كثيراً منه؛ فجدي مريض جداً وحالته لا تطمئن، وقد تأخر خالي عن العيادة لهذا السبب، وعندما دخلها كانت مزدحمة، وكنت هناك.. كانت الضغوطات كثيرة.. وكل منكما كان مسدوداً بقشة!
-لم أكن أعلم أن جدك متعب للغاية.. لماذا لم يخبرني؟.. لو أنه فعل لعذرته حتماً وأجّلت الحديث إليه لوقت آخر؛ لكنه بدلاً عن ذلك، زاد الطين بلّة.. كنت متوترة، وكان متوتراً؛ فتكهرب الجو بيننا!
-قال لي أنه يستغرب أن تأتي إليه، وهو ليس بالطبيب الذي يمكن مقارنته بالأطباء "الفطاحل" هناك.
-…
(كم أنت متواضع!.. فكرت، ولم أجب).
-… وأنه لم يشأ أن "يحرق لك قلبك" ويبكيك.
-أخبرته إذن أني بكيت؟!
-أجل.. قال لي أنه حزن من أجلك عندما لاحظ وقع كلامه عليك؛ فطلب منك أن تتصلي به في المنزل؛ لكنك تفوهت بكلام غريب لا يدري ماهو؛ فأغلق الخط!
(أنت إذن من أغلق الخط، وقد ظننت أنا أن العطل من الهاتف!.. أتغلق الخط لأني تفوهت حقاً بكلام غريب تعذّر عليك فهمه؟!!).
قلت لريما في محاولة مني لتغيير الموضوع:
-حسناً.. أخبريني ياريما.. كيف حالك، وكيف حال خطيبك؟
****



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 21-11-19, 04:28 PM   #24

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


الرسائل تشفي غليلي منك.. وسيلتي الوحيدة لمخاطبتك.
جلست أفكر قبل أن أكتب:
ملعونة أنا وملعونة هذه الرسائل؛ ولكن ماذا عساي أن أفعل سوى ذلك؟
أكتب إليك وأنا أعرف مسبقاً أنك تسخر من رسائلي ولا تجيب عليها أبداً..
فلماذا أكتب إليك؟!
أكتب إليك، لأني أكره أن تعاملني هكذا.
أكره أن تتجاهلني، وأنت من أغويتني فأحببتك.
أكره أن تتهرب مني، وأنا لا أطالبك بمنحي عواطفاً لا تملكها.
أكتب إليك؛ لأني أكره نفسي من أجلك!
أكره نفسي لأنها ضعيفة لا تستطيع أن تكرهك!!!
فهل عرفت الآن لماذا أكتب إليك؟!
كتبت إليك عن حالة ليلى بالتفصيل.. عن قلقي ومخاوفي.. عاتبتك برقة، وتمنيت لو أنك تفهم هذا كله، واتصلت بك بعد أيام:
-هل وصلتك الرسالة؟
-نعم.. وصلت ولم أقرأها!
-هذا يعني أنه لا يمكننا أن نتحدث.
-لا!!
-باي باي إذاً!
-أهلاً.. مع السلامة!!!
(طبعاً قرأتها، ولو من باب الفضول.. فكرت ملياً، ثم عاودت الاتصال:
-آلو؟!
-لقد قرأتها.. أيها الجبان!
-آلو؟!!
(تظاهرت أنك لا تسمعني).
-لقد قرأتها، وأنا أعرف!
وأغلقت الخط..
****
ذهبت في اليوم التالي إلى المدينة.. طلبت من السائق أن يتوقف قرب مبنى البريد، وما إن ترجلت من السيارة حتى لمحت ورقة نعي ملصقة على مدخل المبنى.. لقد توفي الجد!
توفي الجد؛ فتزوجت سناء بلا ضجة وبلا حفل زفاف، وبقي فستاني معلقاً في الخزانة.. لم ألبسه، ولم ترني أنت فيه!
ومرت الأيام سريعاً، وذهبت يوماً أزور أختك في القرية..
فرحت أختك كثيراً بأخبار ليلى؛ فهي تمشي، ولم تعد بحاجة إلى كرسيها المتحرك.. إنها تتكلم، وأصبحت قادرة على الرسم من جديد..
قال لي بيتر:
-لن تصدقي يا كارمن.. إنها معجزة.. لقد مشيت مع ليلى كيلومتراً كاملاً اليوم.. لقد طلبت مني ورقة فظننت أنها تريد أن تكتب؛ لكنها رسمت حصاناً كما كانت ترسم من قبل.. سأعطيها السماعة لتحديثها وتسمعيها بأذنك!
جلست مع أختك في الشرفة، وقد قاربت الساعة السادسة مساء.. كانت النسائم اللطيفة تداعب أشجار الحديقة وتحمل عبق الأزهار.
أعطيت أختك نقوداً لتوزعها على الفقراء شكراً لله من أجل ليلى، وأخبرتها أن ليلى ستأتي الأسبوع القادم مع والدها لتقضي هنا إجازة أسبوعين.
قالت لي أختك:
-توقّعنا قدومك ظهراً؛ فقد دعوت أخي لتناول طعام الغداء معنا، وطبخت أرز بالبازلاء و…
وشردت أفكر:
"يا للحظ العاثر.. ليتني جئت ظهراً ورأيته"..
نسيت من جديد موقفك السلبي؛ لأن شوقي إليك أقوى دائماً من جفائك.
دخلت أختك المطبخ لتحضر القهوة، ووقفت أنظر عبر حديقتها إلى حديقتك المهملة وبيتك، وأفكر:
"حظي دائماً عاثر معك، والظروف تعاكسني.. ليتك تحضر الآن وأراك".
لم أجرؤ على إطالة النظر.. خفت أن ينتبه أحد أني أمعن النظر إلى وجهة واحدة هي وجهتك؛ فقد انضم زوج أختك إلى مجلسنا وتبعته ريما بعد أن استيقظت من قيلولتها.
ولم يمض بعض الوقت حتى دخل نديم بسرعة ليخبرهم أن الخال العزيز قادم بعد دقائق ومعه ضيوف!!
خفق قلبي بشدة: "هل استجبت يا ربي بسرعة لرغبتي؟!".
ونظرت إلى وجه ريما، الذي كان منتفخاً من آثار النوم؛ فرأيت علائم كالرعب ترتسم عليه!
-مابك!
-سيحضر خالي وأنت هنا، ولا أدري كيف ستكون ردة فعله إن رآك!!
-يامجنونة.. أنا في بيتكم ولست في بيته.. هل علي إذن أن أنصرف حتى لا يرى وجهي؟!
-لا أدري!!
-إنك حقاً مجنونة.. سأدخل إلى الغرفة؛ فليس من اللائق أن يأتي والضيوف وأنا جالسة هنا وحدي بعد أن دخل والداك لتبديل ملابسهما.. لكن من المؤكد أني سأبقى هنا.
ما إن دخلت الغرفة حتى سمعت صوتك الحبيب يأتيني من الشرفة.
لمحتك من طرف الباب وأنت تجلس وتبتسم، ومالبثت ريما أن دخلت وقد هدأ روعها.
خرجت، ولم أستطع أن أخفي ابتسامة عريضة ارتسمت تلقائياً على شفتي.
كنت تبتسم لي وأنا أمد لك يدي مصافحة:
-مرحباً يا دكتور.
-أهلاً وسهلاً.
مددت يدي أصافح المرأة وزوجها وجلست..
جلست إلى جانبك الأيسر، وجلست ريما إلى جانبي تتأملنا بدهشة وصمت.
نظرت إلي وأنت مازلت تبتسم وتسألني عن حالي وحال ليلى، وأنا أجيبك محاولة إخفاء اضطرابي وراء ابتسامتي، وقد ارتفع وجيب قلبي حتى خيّل لي أنك تسمعه!!
كانت عيناي تنظران إليك غير مصدقة ماتسمعه أذناني.. وابتسامتك..
ابتسامتك الساحرة.. كم أحبها!
أنا أنسى الدنيا عندما تبتسم لي!!
نسيت الدنيا، ولم أعد أرى فيها غيرك؛ لكنك أعدتني إليها وأنت تبادر وتعرّف الضيفين عليّ!..
تحدثهما عني، وعن عائلتي مبتسماً، وأنا بقربك فرحة.. فرحة جداً.
قلت لك:
-حماتك تحبك!.. فقد أحضرت لك كاتو.
فضحكت، ولم تجب.. وفجأة استأذنت بالذهاب؛ لأن ثمة ضيوفاً آخرين ينتظروك في منزلك.
قطعت قالب الكاتو نصفين تركت نصفه في بيت أختك، وأرسلت إليك النصف الآخر مع أحدهم..
كان الكاتو كله لسوسن وصديقاتها، وكنت سأنام الليلة عندها ونذهب غداً في نزهة إلى صلنفة. ولكن حضورك جعلني أستغني عن الكاتو، وعن النزهة من أجلك!
(أنا آسفة ياسوسن؛ فالكاتو لن يكون من نصيبك هذه المرة؛ ولكنك صديقتي التي تفهمني وتعذرني).
****
قلت لريما أنك لا تفهمني البتة؛ فمرة أصالحك ومرة أخاصمك، وأني مجنونة!
وجاءت إلي تخبرني بما قلت.
وشعرت بالخزي..
كيف تتكلم عني هكذا أمام ريما التي تصغرني بعشر سنوات، ولا تعرف ربع ما أعرف؟
بدأت تشكو مني.. تثرثر عني لريما، ولم تكن تفعل ذلك من قبل.. هذا خطير.
هل ستخبرها في المرة القادمة بتفاصيل زيارتك لي؟!!
هل أنت حقاً لا تفهمني؟.. ولماذا لا تفهمني، وأنا واضحة وصريحة وصادقة معك و.. معه؟!
ألأنك لم تتعود على الوضوح والصراحة والصدق؟!!
لم تتعود –أيها الشرقي- على امرأة مثلي تعتبر الكذب أكبر الخطايا، وسبب كل الخطايا، وتجرؤ أن تفتح لك صفحاتها لتقرأها كلها دون حرج.. لأنها أحبتك!
عندما رأيتك في منزل أختك نسيت غضبي كله وظننت أنك فهمتني أخيراً، وأن لطفك معي لم يكن مجرد مجاملة لي أمام الناس.
اشتهيت لك الكاتو، ربما لتدرك ولو للمرة المئة أني لا أحقد عليك.. فلماذا تفضحني أمام أهلك؟!
ربما أنا مجنونة.. معك حق؛ ولكني لم أكن كذلك قبل أن أعرفك أيها العاقل جداً!!
كيف تفسر إذن تصرفاتك معي؟!
طبعاً أنت رجل، ولتصرفاتك في مجتمعنا تفسير آخر غير الجنون؛ لكنه يبقى جنوناً وإن اختلف عن جنوني!
آسفة أني لم أفهم قصدك عندما قلت لي: "تعالي نجن معاً؛ فنحن لا نؤذي أحداً"!..
تمنيت لو نجن معاً؛ لكن جنونك لم يوافق جنوني!
وتمنيت لو نبقى مجرد أصدقاء؛ فأفرح برؤيتك من حين لآخر.
وتمنيت لو تقدر على الأقل مشاعري، إن لم يكن بإمكانك أن تبادلني إياها؛ فقلت للآخرين عني أني مجنونة.
****

اتصل بي بيتر قبل أسبوع من الموعد المرتقب لقدوم ليلى إلى سورية من أجل إجازة قصيرة، ليخبرني أنها لن تأتي..
لقد أصيبت بالتهاب طارئ بالدماغ يحتاج إلى صور وفحوصات وتحاليل!
أخبرني أنها بخير؛ لكن كلامها أصبح غير مفهوم كثيراً بسبب الدواء الذي ينبغي عليها تناوله.
تهدج صوتي وأنا أكلمه وطفرت الدموع من عيني..
لقد فرحت كثيراً وانتظرت طويلاً قدوم ليلى؛ فقد طال غيابها عن المنزل.
وما عساها تفعل الآن، وقد علمت أنها لن تسافر؟!
كنت قلقة من أجلها، وخائفة أن يؤثر عدم تمكنها من السفر على نفسيتها، ولكن بيتر طمأنني أنها بخير.
وكنت قد اتفقت مع سوسن أن تذهب وأفراد أسرتها كلهم إلى دمشق لاستقبال ليلى في المطار، وشرعت أعد في ذهني كل الترتيبات..
كنت سأسبقهم بيوم؛ لأني مدعوة للعشاء في السفارة ثم يوافونني في اليوم التالي.
قلت لبيتر، وأنا أتأمل بحزن الكلب القماشي الصغير الذي اشتريته من أجل ليلى، وكنت سأحمله إليها لاستقبلها به في المطار:
-لن أذهب إذن الأسبوع القادم إلى دمشق.
-بل اذهبي أرجوك.. يجب أن تلبي الدعوة هذه المرة.. هذا مهم؛ فقد انقطعنا مدة عن الذهاب، كما أني أتمنى أن تذهبي لتروّحي عن نفسك قليلاً.
-حسناً.. سأذهب.
****
توزع المدعوون في أرجاء الحديقة في مقر السفير يحملون كؤوس الشراب ويتناولون المقبلات ويتبادلون الأحاديث..
وجئت وحدي.. مرة أخرى.
السفير وقرينته عند الباب كالعادة يرحبون بالضيوف ويتبادلون معهم المجاملات.
معظم الوجوه مألوفة لدي.. أتأملهم يتضاحكون.
السكرتيرة سامية تقبل علي باسمة وتقبلني:
-مرحباً يا كارمن.. كيف حالك؟.. وكيف حال المسيو بيتر؟..
كيف حال ليلى؟.. طمأنيني عنها.
وجاء الباقون يلقون علي التحية ويسألونني نفس الأسئلة..
كانت سيسيليا الغانّية الأصل تعبث بالقلادة الذهبية السميكة في عنقها البني، وهي تتذكر مع زوجها الأبيض اللون الأزرق العينيين، وتذكّر الأصدقاء الذين كانوا معها، وتخبر الذين لم يكونوا.. بذاك اليوم الذي تجمّعوا فيه بعفوية ودون موعد مسبق وجاؤوا يزوروننا في بيتنا في القرية الجبلية باللاذقية.
قالت سيسيليا وهي تضحك؛ فتبدو أسنانها اللؤلؤية:
-لقد كان يوماً رائعاً في بيت كارمن وبيتر الجميل .. لقد… و…
وشردت أتذكر معها ذاك اليوم..
لم يجدوا صعوبة في العثور على البيت؛ فللبيت علامة فارقة، ونحن معروفون في القرية، وأناسها الفضوليون لا يستثنوننا من ثرثراتهم في الأمسيات!
وقفت السيارات في الزقاق تثير بلوحاتها المميّزة فضول الجيران، وترجّل منها الضيوف المزدوجي الجنسية.. كان اجتماعاً مصغراً للأمم المتحدة في بيتنا.. جنسيات تونسية وسويسرية وألمانية ولبنانية وفرنسية وغانيّة وسورية!
وكنا نتحدث كيفما اتفق: بالعربية والإنكليزية والفرنسية والألمانية.
كنا ننوي دعوة أربعة أشخاص؛ فأصبحوا عشرة، وفرحت بزيارتهم، ولم أجد حرجاً في ذلك؛ بل بالعكس.. إن "مكان الضيق يتسع لألف صديق".. ولقد كان حقاً يوماً رائعاً تعيد سيسيليا ذكراه كلما التقينا.
كنا أسرة منسجمة، وكانت دفاتر حساباتي العاطفية مع بيتر مغلقة لا أنوي مراجعتها..
كان لنا بيت جميل يجمعنا، وهوايات وأشغال تمنع الملل من التسلل إلى نفسينا، وتنسينا ذاك الحاجز اللامرئي القائم بيننا.
كانت ليلى يومها تبدو كأقرانها.. مفعمة بالحيوية والصحة؛ فأين اليوم من البارحة؟!!
****
البارحة كان حفل السفارة، وأنا سأعود صباح الغد لللاذقية.. لدي إذن الوقت كله مساء اليوم.
قادتني قدماي إليك.. صعدت الدرج وبيدي ورقة صغيرة:
"أتعرف؟.. لو حكم علي بالإعدام، وسألوني عن أمنيتي الأخيرة، لما طلبت سيجارة؛ وإنما أن تجلس قبالتي وتنظر مباشرة في عيني وتقول لي لماذا يمكنني أن أتكلم وأتصالح حتى مع العفاريت الزرق، ولا أستطيع ذلك معك؟!".
كان حمزة واقفاً عند الباب؛ فسألته إن كنت موجوداً؛ فأومأ لي بالإيجاب..
كنت أنت في غرفة الانتظار جالساً وراء طاولة المكتب بدلاً منه، وكانت العيادة تعج بالزوار، وكنت أنا آخرهم..
تبادلنا التحية "العادية" ودلفت أنت إلى مكتبك، وجلست أنا في غرفة الانتظار.. أنتظر والورقة الصغيرة مازالت في يدي.
جاء دوري، وكانت xxxxب الساعة تشير إلى الثامنة مساء، عندما دخلت..
أخذت القصاصة ووضعتها في جيب قميصك دون أن تقرأها..
قلت لك:
-كتبتها لأستأذن بها بالدخول عليك.. لم أتوقع وجودك في غرفة الانتظار.. ألا تريد أن تقرأها؟
قلت لي، وأنت تجلس تلقائياً قبالتي.. كما أتمنى:
-سأقرأها فيما بعد.. ما الأمر؟
كان وجهك جافاً جداً.. وقرأت لك الورقة عن ظهر قلب.
-أنا حر.. أنا دائماً هكذا!!
-حر؟!.. لا.. أنت لست حراً "هكذا"؛ فللحرية أيضاً حدودها، و..
لم أستطع أن أكمل الجملة؛ فقد دخل للتو رجلان!
(ياإلهي.. لقد جاوزت الxxxxب الثامنة؛ فلم يأتيان الآن؟!).
نظرت إليهما.. أود أن أصفعهما، بينما أنت ترحب بهما وتدعوهما للجلوس!
وخرجت معي إلى الباب الخارجي.. وقفنا عند الدرج نتابع حديثنا القصير جداً.. كنت أعددت في ذهنك إجابة سريعة توهمت أنت أنها مقنعة:
-أنت تخيفينني!!.. أسلوبك.. رسائلك.. أنت تخيفين من يحبك!!
-أنا لا أخيف.. أنت من تهرّب مني دون سبب.
-أنا حر.. أنا هكذا!!
-ماذا يعني ذلك؟.. هل أنت مجنون إذن؟!!
-نعم.. أنا مجنون!!
(لم تعد تجد عذراً مقنعاً أكثر.. أيها المجنون).
اقتربت منك بصمت أعانقك وأطبع على خدك قبلة، ثم أمسكت يدك برفق وقلت لك وأنا أنظر في عينيك مباشرة:
-أحبك أيها المجنون.. وإن حدث وتقابلنا مرة أخرى؛ فأرجو أن تكون لطيفاً معي.
تنازعتني مشاعر متضاربة وأنا أهبط الدرج..
شعرت بحزن عميق.. حزن أعمق من الغضب والنقمة.. حزن أقرب إلى الشفقة عليك!
خرجت زائغة النظرات إلى الشارع المزدحم بالضجيج، والمضاء بالنيونات.. مازال طيف وجهك الكالح في عيني، وكلماتك المؤلمة في أذني، وعدت إلى نفسي أحاسبها كالعادة لأجد لك مبرراً.. كالعادة:
هل أنا مخيفة حقاً؟..
هل أصبحت شرسة ومشاكسة لدرجة تجعلك تنفر معي؟
أتخاف مني وأنت "المثقف" المسافر في أرجاء الدنيا؟
أتخاف أنت بالذات من جرأتي وصراحتي، وأنت من يحسب الناس له ألف حساب؟!
أتريدني أن أتملقك وأجاملك فقط، وأن أكذب عليك وعلى غيرك كي أرضي غرورك كرجل؟!!
أنت لست مثقفاً إذن.. أنت رجل متعلم.. فقط!
أنا لم أكتب رسائلي هكذا.. بلا سبب.
جفاؤك جعلني أغضب، وجعلني أكتب لأعاتب..
أعاتبك لأعرف السبب، وأنت تهرب وتتهرب.. ثم تضع اللوم كله على رسائلي وتقلب النتيجة سبباً؛ وكأنك تتعامل مع ساذجة!
ظننت أنك ستتخلص مني بأسلوبك هذا؛ لكنك كنت واهماً يا عزيزي!
إن أسلوبك هذا يستـفزني ويجعلني أشعر برغبة مميتة أن أحاصرك حتى النهاية.. حتى أنتزع منك جواباً مقنعاً!
أنا لم أعتد أبداً أن يتجاهلني أحد مهما يكن، ومهما تكن الأسباب..
أتجد صعوبة أن تقول لي أني لم أكن بالنسبة لك سوى نزوة عابرة؟
إن ذلك لا يتطلب منك سوى بعضاً من الصدق في التعامل مع نفسك ومعي، وبعضاً من الرقة والدبلوماسية كي أتقبل الأمر بأقل قدر من الصدمة، وأدعك وشأنك!
إن ذلك لا يتطلب منك شجاعة أكثر من الشجاعة التي يتطلبها اعتراف امرأة لزوجها أنها تحب غيره!!
سأراك ثانية إذن!!


****




لامارا غير متواجد حالياً  
التوقيع







رد مع اقتباس
قديم 21-11-19, 04:35 PM   #25

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

التقيت أحد المعارف.. كانت قد مضت مدة لم أره فيها، وعلمت أنه خطب إحدى الفتيات:
-مبروك يا الياس.. سعيدة أنا من أجلك.
-شكراً.. إنها تصغرني بخمسة عشر عاماً، وهي فتاة جامعية ذات تربية دينية متزمتة، ولقد تعرفت عليها في الكنيسة في حفلة عرس..
-جميل جداً.
في الحقيقة لم أتعرف عليها مباشرة.. لقد أعجبتني واستفسرت عنها واستأذنت وذهبت أخطبها.
-خطبة تقليدية إذن.
-أجل.. لكنها خجولة جداً، ولا تعرف شيئاً سوى البيت والكلية والطريق بينهما!!
-فتاة جامعية ومنغلقة على نفسها إلى هذه الدرجة؟!.. لن يضيرها أن تكون منفتحة قليلاً.. إن ذلك لن يتعارض مع تربيتها.
-إنها تتعبني، ولقد أعطيتها مهلة لتتغلب على خجلها.. قليلاً فقط؛ فالشرقية شرقية والشرقي شرقي، وفي الحقيقة لا ضير عندي أن تكون "خام"!!
-خام؟!.. هذا رأيك وأنت حر به، وأنا أحترمه؛ ولن أبدي لك رأيي بصراحة.
واستدرك فقال:
-أنت امرأة شرقية فريدة من نوعها؛ فهدفك في الحياة ليس أن تتزوجي وحسب وتصبحي مجرد زوجة فلان؛ بل أن تكوني وتبقي أنت.. أنت!
-طبعاً.
-أنا أهنئ زوجك بك وأهنئك به!
(أجل يا الياس.. لقد كان اعترافك خطيراً!.. إذ لم يلغ أحد منا شخصية الآخر بالزواج.. ولكن؟!).
****
اتصل بي الدكتور طارق يدعونا للغداء.. هذا الصديق الذي يحلو معه الحوار والنقاش بصراحة وعفوية لا تخلو من دعابة.
قال لي:
-لقد دعوت أيضاً الدكتور إبراهيم الذي تعرفينه، وزوجته.. أنها أيضاً حلوة المعشر.
-سيسعدني التعرف عليها.
كان الحوار ممتعاً حقاً لم يترك لا سياسة ولا دين ولا فن ولا أي موضوع آخر يعتب عليه!
قلت له:
-غريب أمر الرجل الشرقي.. إنه معظم الأحيان، حتى وإن كان مثقفاً، يخاف من المرأة المثقفة التي تحاوره وتناقشه.. يحترمها لكنه لا يريدها لأنها تسبب لـه (أو يتوهم أنها ستسبب له) صداعاً، ولذا يفضل عليها أية امرأة أخرى.. امرأة لعوب تجامله وتخدّره ولو كانت تسخر منه.. أو يريدها امرأة "خام" يشكّلها كيفما يشاء.
ضحكت زوجة الطبيب، وقالت مخاطبة طارق وهي تشير إلي بسبابتها:
-أنت تحترمها وتستمتع بالحديث معها؛ ولكن ألا يخيفك أن تتزوج واحدة مثلها؟!
-طبعاً لا؛ ولذا لم أتزوج حتى الآن!
****
اتصل بي بيتر يعلمني أنه غيّر رأيه، ولن يبقى هناك ينتظر ليلى ليصطحبها معه.. فلا عمل لديه حالياً هناك بعد أن أنهى ارتباطاته في العمل بالمؤسسة العائلية التي يملكها والديه.
سيعود ليبدأ أخيراً العمل الذي يأمل منه خيراً.. هنا، ومع شركاء سوريين.
قلت له:
-سأستقبلك في المطار إذن.
قبل أن أذهب إلى المطار.. ذهبت إليك!
جئت إليك في محاولة أخرى لمعرفة السبب.. أريد معرفته قبل أن أسافر.
كنت تتوقع قدومي بعد تلك الرسالة التي كتبتها لك في لحظات من الانفعال، ثم ندمت:
"ياحبيبي المجنون..
حزينة أنا.. إن سافرت وليس وداعنا أكثر من قبلة اختطفتها منك!
حزينة.. لأنك لا تعرف ماتريد وتعاكس الظروف دائماً.
وحزينة.. لأني أعرف ما أريد وتعاكسني الظروف دائماً!!
يا حبيبي المجنون..
أنت لست مطلق الحرية كما تدّعي.. أنت مجرد هارب من نفسك، ومن عواطفك، ومني.
تهرب مني كل مرة بحجة واهية جديدة؛ لكنك في قرارة نفسك تحبني كما أحبك!……"
أردتك على الأقل أن تستقبلني بطريقة حضارية وتدعوني ربما لنشرب شيئاً ونتحدث.
استقبلتني عند الباب ودعوتني للجلوس:
-تفضلي.. كيف تحبين الشاي؟
-وسط.. لو سمحت.
ودخل حمزة يحمل صينية الشاي..
كان شاياً أصفراً غير مختمر.. مجرد ماء ساخن أصفر ومحلّى بالسكر!
مكثت صامتة؛ فبادرتني تقول:
-يا كارمن.. هذه الرسائل..
(أردت هذه المرة أن تتغدى بي قبل أن أتعشى بك.. كما يقول المثل؛ فلقد منحتك فرصة مابين قراءتك الرسالة وحضوري إليك لتكون في موقع القوي، وتضع اللوم علي، ويكون "السبب" جاهزاً لديك.. بعد أن كنت أنا الأقوى عندما فاجئتك بالزيارة السابقة وأنت غير مستعد!!
كنت تدرك نقطة ضعفي، وتعرف أني بحضورك أنسى الكلمات التي أعددتها لأقولها لك.. تهرب مني وتضيع بمجرد أن أراك!).
وعاودت هجومك..
عدت تجادلني على مبدأ: "من كان أولاً.. البيضة، أم الدجاجة؟!"
وأنا؟.
أنا لم أنس الكلمات وحسب؛ بل نسيت أني لست مذنبة على الإطلاق!
بدأت أستميحك عذراً، وأنا أبتسم محاولة بذلك تلطيف الجو:
-آسفة.. آسفة على كل الرسائل التي كتبتها!
-كم عمرك لتكتبي لي هذه الرسائل؟
-وهل للجنون عمر يادكتور؟!
-إن لله في خلقه شؤون!
-وهذا ينطبق عليك أيضاً!
(أخيراً.. أسعفتني القريحة بجواب أكبح به هجومك!).
-هذه الرسائل يا كارمن.. إنها قاسية جداً. وأنا delicate
-وأنا أيضاً delicate
بقيت أنت صامتاً.. فتابعت:
-.. والرسائل كانت "فشة خلق" لابد منها؛ لأنك تتجاهلني باستمرار.
وعدت من جديد تنظر إلي النظرة المؤنبة:
-… على أي حال نحن دراويش ونفهم على بعضنا!
-ماذا تعني بذلك؟
-أقصد أننا أخوة وجيران!
-ألا شيء غير ذلك؟!
-أخوة وجيران ولا شيء غير ذلك!
بدأت تذرع الغرفة جيئة وذهاباً وبيدك فوطة صغيرة تمسح بها الغبار عن الأثاث وعشرات.. بل مئات الأشياء الصغيرة والكتب المتبعثرة على مكتبك، هنا وهناك..
-إن كان لديك فوطة أخرى.. أعطني إياها كي أساعدك!
-…
-لماذا جئت يوماً تزورني؟!.. ألأننا أخوة وجيران؟!!
-ومتى زرتك؟!!
(كنت تريد أن تنتقم مني لأني سخرت من ثرثرتك عني مع ريما).
-لا.. طبعاً، أنت لم تزرني أبداً!
عدت تجلس وراء منضدة مكتبك؛ فسألتك:
-هل لديك صديقة "جديدة"؟!
فاجأك سؤالي.. قرأت ذاك في عينيك وسمعته في إجابتك المبهمة:
-… لو أن جميع "صديقاتي" مثلك!.. ليس بمقدورك يا كارمن أن تقيمي علاقة ما!
عدت تكيل لي الاتهامات، وبقيت أنا صامتة.. لم أعد أعرف بما أجيبك؛ بل تركتك تتابع كلامك:
-.. يا كارمن. أرجو من الله أن يشفي لك ابنتك.. بلّغي تحياتي لزوجك، وأتمنى لك Happy flight

أخرجت من حقيبتي شريط الكاسيت وناولتك إياه:
-هذا لك.
-آه.. Italiano. شكراً.
- وموسيقى كلاسيكية سجلتها لك.
(كان الكاسيت مناسباً جداً للموقف الدرامي.. إنه الحدس مرة أخرى!)
أردفت، وأنا أحاول السيطرة على انفعالاتي:
-أتساءل إن كنت ستذكر صوتي إن فكرت يوماً أن أتصل بك.
-…
-هل أنت مسافر الليلة إلى القرية؟
-لا.. ليس إلى القرية.. أنا مسافر إلى فيينا لأربعة أو خمسة أيام.
-.. لن تكون إذن بعيداً عن المكان الذي سأسافر إليه؛ ولكني لن أسافر إلا بعد أسبوعين أو ثلاثة.
ومددت لك يدي مصافحة:
-أستودعك الله.
-مع السلامة.
(استمع وأنت تقود السيارة إلى المطار، إلى أندريا بوتشيللي يشدو con te partiro ؛ فقد تحرك أغنيته الشجية بعضاً من مشاعر قد تكون موجودة عندك!).
عدت إلى الشقة، وقلبي أشعر به ثقيلاً بين ضلوعي..
في الساعة الحادية عشر ليلاً سيصل بيتر، ومازال لدي متسع من الوقت.
خلعت ملابسي واستلقيت في السرير أفكر في قسوتك وكلامك:
"أخوان وجيران".. حتى هذه تقولها مجرد "رفع عتب".
كانت عيني مبتلّة من آثار الدموع، وقد فوجئت بالوصول المبكّر لأخي، جاء مع أمي يصطحبني إلى المطار..
لم ينتبه وائل أنني كنت أبكي؛ لكن أمي كشفتني وبقيت شفتاها صامتتين، بينما عيناها تتساءل رغم أنها تعرف..
تعرف نصف الحكاية فقط.
النصف الآخر الذي لا علاقة لك به!
****
لم أشأ، ولم أفكر يوماً أن أخبرها بذاك النصف الآخر من الحكاية.. بذاك الحاجز اللا مرئي الذي يفصل بين بيتر وبيني منذ ليلة الزفاف!
كنت أتقن إخفاء همومي عنها عندما ترانا أنا وبيتر معاً.. ولم يخطر ببالها قط أن هناك خللاً ما في حياتنا العاطفية والجنسية..
لم تكن فضولية لتستفسر وتسألني.. ربما لأنها تعرف أني أتمتع بالاستقلالية في شخصيتي، وليس من عادتي.. بل ليس باستطاعتي أيضاً أن أبحث عندها عن حلول لمشاكلي، وقد تزوجت وسافرت، وأصبحت المسافات الجغرافية تفصل بيننا.
لم تسألني قط في رسائلها، ولا في زياراتي المتكررة للوطن عن الإنجاب والأطفال..
لم تسألني قط عن تأخر حملي سبع سنوات بعد الزواج..
لم أعرف أبداً أنها كانت قلقة علي بهذا الشأن إلا عندما حملت فعلاً وزففت إليها الخبر، وعندئذ فقط أخبرتني عن ذاك القلق الذي كان يشاركها فيه أبي طوال تلك السنين!!
أصبحت أمي جدة، وكانت ليلى أولى الحفيدات والأحفاد.. أما أبي؛ فلم يصبح جداً؛ إلا بعد وفاته، رحمه الله.
لم تعرف أمي كيف حملت بليلى، وبقي الأمر سراً احتفظت به كرمى لبيتر حتى كانت تلك الأمسية..
عندما سافرت برفقتك إلى دمشق في عيد الأم، ثم ذهبت أزورها وأحمل لها هدية..
تلك الأمسية التي كنت فيها مستعجلاً جداً، ومدعواً للعشاء في سفارة ما!
****
كانت ظلال الأشجار تتراقص على جانبي الطريق، وتذكّرني بأشجار أخرى كانت تتراقص أمام ناظري في أمسية ربيعية ساحرة.
(تصوّر.. أفكر بك رغماً عني وأنا ذاهبة لاستقباله.. لاستقبال زوجي!
فما السبيل إلى نسيانك؟!
هل استمتعت ياعزيزي بزيارة فيينا الرائعة رغم الجو الماطر؟..
هل زرت دار الأوبرا فيها، واستمعت إلى إحدى معزوفات فالس شتراوس؟.. وتذوقت في مقاهيها الجميلة قهوتها اللذيذة المعروفة باسمها؟!.. أم أنك تذوقت هناك أشياء أخرى؟!!
لا لوم ولا عتاب بعد اليوم.. لقد تعبت ومللت ولم يعد يهمني أن أعرف السبب؛ ولكن يهمني أن تعرف أنك لم تقنعني!
أنت تحبني، ثم تؤاخيني!..
فهل أحببتني حقاً، وهل بإمكانك أن تصبح بعد ذلك أخاً؟!
الحب والأخوّة..
كلمات.. ما أسهل النطق بها؛ لكنها ليست مجرد كلمات نلوكها كيفما نشاء ثم نبصقها عندما نتعب منها!).
****
-أريد أن أعمل في دمشق.
قلت لبيتر، وقد عدنا إلى الشقة، واستلقى كلاً منا في سريره.
-طبعاً.. ألم نفكر بذلك من قبل؟
-أريد ذلك بعد عودتي من السفر.
-لا بأس.. أنت متوترة جداً، ما الذي حدث؟
-… لقد أصبحنا أخوة، وهو يبعث إليك بتحياته!
-وماذا بعد؟
-لا شيء البتة.. تصبح على خير.
-تصبحين على خير.
واستدار بيتر لينام، وسرعان ما زاره النوم وعلا شخيره.. أما أنا؛ فقد هرب النوم مني وزارني عوضاً عنه الأرق عندما استغرقت في التفكير أناجي نفسي:
-يالك من تعيسة يا كارمن..
كيف سمحت لهذا الرجل أن يستولي على مشاعرك دون أن يمنحك شيئاً؟!..
تنازلت من أجله عن كبريائك، ومنحته قلبك بلا مقابل..
وجعلت تصرفاتك كلها رهن قلبك الأرعن.. فأين أضعت عقلك يا مجنونة؟!
يا مجنونة.. يا مجنونة!!
استفقت من أفكاري على صوت بيتر.. لقد أيقظه صوت بكائي المكتوم دون أن أدري:
-أنت تبكين؟!.. تبكين يا كارمن من أجله؟!!
هل يستحق حقاً دموعك؟!!!
وخجلت.. خجلت من نفسي، ومن دموعي.. خجلت من بيتر.
لم أستطع أن أقول له من جديد: "آسفة".. لقد أصبحت الكلمة ممجوجة ومللت من تكرارها.. إنها على أي حال لا تكفي؛ فالتزمت بالصمت، ونمت..


****



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 21-11-19, 04:39 PM   #26

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



عدنا إلى منزلنا في القرية، وهرول بيتر فور وصوله إلى الحديقة يتفقد نباتاتها، كعادته كلما عاد من سفر:
-آه.. انظري، هناك ثلاث شجيرات موز مثمرة!
-أعرف..
-علي أن أقص أغصان العريشة و"المزّيكا".. إنها تمنع ضوء الشمس عن باقي النباتات.
-…
-هل نشاهد فيلم فيديو هذا المساء؟
-نشاهد..
جلس على السجادة الممدودة صيفاً شتاء –كما يحب- يتابع أحداث الفيلم، وأنا أشعر بالملل، ولا رغبة لي بمشاهدة أفلام.
نظرت إليه… مستغرق بالمتابعة بكل حواسه، وقد نسيني..
نسيني، وقد عاد البارحة فقط من السفر!!
اندسست جالسة بين ساقيه الطويلتين الممدودتين.. تحرشت به.
داعبت بأناملي ذراعه؛ فلم تقف ولا شعرة واحدة!.. وبقي منسجماً مع الأحداث.. أحداث الفيلم طبعاً!
سألني وعيناه مازالتا تحدقان في الشاشة اللعينة:
-مابك؟!
-لا شيء.. أتحرش بك فقط.
-…
-هل.. الفيلم ممتع جداً؟
-أجل!
-ألا.. يمكننا أن نلهو قليلاً؟
-نلهو؟!.. أنت تعرفين يا كارمن.
-أعرف.. لا داعي أن نلهو حتى النهاية.. نلهو ولو قليلاً!
-…
تركته وذهبت إلى الفراش.. بقيت مستلقية حتى أتعبني التفكير الذي لا يجدي على أي حال.. ثم نمت.
زرتني أنت في الحلم!
حلمت أني أكتب لك رسالة، وما إن أوشكت على الانتهاء حتى جاءتني سناء.. قلت لها: "أكتب رسالة للرجل الذي نحبه أنا وأنت!!".
****
بعد يومين ستأتي الذكرى العشرون لزواجنا.. لكن بيتر أراد العودة بعد يومين إلى دمشق من أجل بعض اللقاءات والاستعدادات لعمله الجديد.
سألته:
-هل عليك حقاً أن تسافر غداً إلى دمشق؟
-أجل يا كارمن.. لقد اتفقت مع نبيل والدكتور شاهين على اللقاء غداً.. علينا أن ننهي الأمور بسرعة..
أريد أن نبدأ مشروعنا أخيراً..
آه صحيح.. سيكون غداً عيد زواجنا!!
-حمداً لله أنك تذكرت!..
لا بأس.. نحتفل بالمناسبة عندما تعود.
-حسناً.. نذهب ونتعشى في مطعم "طل القمر".
(بيتر يحب هذا المطعم، وأنت تتواجد فيه غالباً عندما تكون في القرية، وتدعو ضيوفك للغداء.. فهل سأراك هناك؟!).
وسافر بيتر إلى دمشق، ثم اتصل بي هاتفياً من هناك، وكنت قد نسيت أنا أيضاً المناسبة:
-أطيب الأمنيات لك!
-لماذا؟!
-عيد زواجنا العشرين!
-يا إلهي.. لقد نسيت!
(من المؤسف؛ بل من المؤلم أن ننسى.. لقد أصبحت مناسبة كهذه تفوتنا لأول مرة!!).
ذهبت مساء إلى سوسن أزورها.. تجولنا معاً في أرجاء المدينة الساهرة في مهرجانها السياحي؛ ثم بت الليلة عندها.
****
اتصلت بي ريما:
-يا خائنة.. لماذا لم تتصلي بي، وأنت تعرفين أن خطيبي قد عاد من السفر؟
-الحمد لله على السلامة.. أعرف أنه عاد لتوه؛ ولكنك مشغولة به حتماً الآن، وأنا مشغولة.. فقد عاد بيتر أيضاً، كما تعلمين.
-أود أن يتعرف يونس على بيتر؛ فهل يمكننا أن نلتقي؟!.. أنا في القرية.
-سنذهب هذا المساء إلى مطعم "طل القمر"؛ فما رأيك أن نلتقي هناك؟
-حسناً.. اتصلي بي فور وصولك إلى هناك.
-لا داعي لذلك؛ فنحن سنأتي إلى القرية لنزور سريعاً أسرة سناء.. هل أنت في المنزل مساء؟
-أجل..
-أراك إذن هناك ونذهب سوياً إلى المطعم.
دلفت مع بيتر إلى الشرفة، حيث تجلس أختك مع زوجها وضيفيهما..
لم تكن ريما هناك!!
ولم تكن أختك تعرف بما اتفقنا عليه صباح اليوم، وقالت أنك جئت فجأة وطلبت من ريما ومن خطيبها أن يرافقاك إلى المدينة.. جئت فجأة مسرعاً لدرجة أن ريما لم تجرؤ على الدخول إلى الغرفة لجلب حقيبتها؛ بل أرسلته.. أرسلت خطيبها يونس ليجلبها لها!!
(يالك من استبدادي، ويا لها من…!
إنها لا تجرؤ أن تجلب حقيبتها بنفسها؛ فكيف تجرؤ أن تخبرك أننا كنا على موعد مساء اليوم؟!!).
أزعجنا تصرف ريما.. لقد تصرفت معنا بمنتهى الفجاجة وعدم اللباقة.
في الحقيقة.. أنا لم أعرف ريما، وأمها أيضاً، إلا كذلك؛ وأعذرهما –رغم انزعاجي- لأني أعرف تماماً أن المرء يبقى ابن بيئته التي ترعرع فيها، ولكن التأقلم ضروري عندما يعيش الإنسان في بيئة مغايرة، ويحتك بأناسها..
ضروري ليكتسب منهم عادات اجتماعية تسمى أصولاً.. أليس كذلك؟!
إن درجة التأقلم تختلف باختلاف الشخص وخلفيته الثقافية.. وهنا تكمن مشكلة أسرة أختك!).
أذكر أول مرة دعتني فيها أختك لتناول الطعام عندها.. كان ذاك في العام الفائت، وقد حل بيننا شهر رمضان.. جئت إليها قبل الإفطار بحوالي الساعة، وكانت بادئ الأمر لوحدها في البيت، ولم يكن في المطبخ مايدل على أنها منهمكة في إعداد طعام الإفطار.
قالت لي:
-لقد قال لي أبو ياسر أنه سيجلب طعاماً جاهزاً معه.
وجاءت ريما، ثم جاء أبوها؛ لكنه كان خالي اليدين!
بادرته أم ياسر بالسؤال:
-ألم تقل لي أنك ستحضر طعاماً جاهزاً من السوق؟!
-أنا؟!.. لا لم أقل لك ذلك!!
-لأسرع إذن إلى المطبخ وأعد شيئاً من طعام البارحة!!!
وتم إعداد ماتبقى من طعام البارحة:
نصف رأس خروف مسلوق فوق جاط من البرغل، مع حساء عدس وشيء آخر يسبح فيه، وصحناً من سلطة خضراء لم أعد أذكر محتوياتها.. إضافة إلى خبز بائت منذ أيام يتكسر بمجرد اللمس!!
أنا لا أحب التعقيدات والرسميات، وأحب أن يشعرني من أزوره أني "من أهل البيت"؛ لكنها كانت أول دعوة من أختك، وكانت تعرف أني قادمة في ذاك اليوم بالتحديد؛ فأنا لم أزرها فجأة حتى تجود بالموجود!
ذهبت أنا وبيتر إلى "طل القمر" لوحدنا..
كان روّاد المطعم كثيرين، والموسيقى تصدح والمساء لطيف؛ لكننا كنا نشعر بالملل، ونحاول عبثاً أن نبعده، ونحن نتسلى بتناول المقبلات..
قلت لبيتر، وقد شارفت الساعة على الحادية عشر إلا ربعاً:
-سأطلب سيارة.
وبينما نحن جالسين ننتظر السائق حانت مني التفاتة إلى القسم العلوي من المطعم لأراك تدخل مع أربعة رجال آخرين!
-انظر يا بيتر من جاء إلى المطعم الآن!
-أتظنين حقاً أنه هو؟!
-طبعاً.. شعره الأشعث وحركات يديه العصبية!
-لكنه رجل هادئ!
-رجل هادئ؟!.. أنت لا تعرفه حقاً.. إنه هو.
-لا.. ليس هو؛ بل رجل يشبهه.
(إن الله يخلق من الشبه أربعين؛ ولكن لا أظن أنه خلق مجنوناً يشبهك!).
نظرت مرة أخرى حيث تجلس؛ فرأيتك تنظر إلي.
نهضنا خارجين، وبيتر يطلب مني، ونحن نعبر بين الطاولات، أن أمعن النظر لأتأكد من صحة كلامي، أو كلامه!!
(تصوّر هذا الطلب!..).
..لكنني لم أجرؤ، وخرجت مسرعة إلى السيارة.


****



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 21-11-19, 04:40 PM   #27

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


ذهبت ليوم واحد إلى دمشق لتجديد عقد استئجار الشقة، وبقي بيتر في اللاذقية يقلّم أشجار الحديقة..
وفي المساء زرت مايا..
مايا مطلّقة تعمل مديرة مكتب، مستقلة وسعيدة بعملها ومعارفها كثر..
اقترحت علي أن تتصل بصديقها زهير وتعرّفني عليه ونذهب سوية للعشاء؛ فوافقت..
قالت لي تحذّرني، ونحن نخرج من مكتبها للقائه:
-..إنه يقسم لي أنه يحبني، ورغم ذلك لا يقصّر إن سنحت له فرصة!
-لا تقلقي.. لن تسنح له معي أية فرصة.
-أعرف.. ولكن تحسباً من إمكانية أن يطرق بابك يوماً، أو يتصل بك هاتفياً بحجة أنك صديقتي ويريد أن يقول لك مرحباً؛ فمن الأفضل أن تقولي له أنك تقطنين حالياً مع أختك أو أخيك!!
استغربت اقتراحها، ولكنني طبعاً وافقت أن أكذب هذه الكذبة من أجلها.
تناولنا العشاء في شرفة أحد المطاعم بالهواء الطلق، ثم أوصلني زهير إلى بيتي، فدعوتهما لتناول الشاي عندي.
سألني زهير، ونحن على وشك أن نترجّل من السيارة، إن كنت أقطن وحدي..
نسيت وصية مايا؛ فأجبت بنعم ولم أستدرك إلا عندما رمقتني مايا بنظرة عتب ودهشة وتحذير؛ فأردفت بسرعة:
-.. أقطن وحدي؛ ولكن في شقة أخي التي فصلها مؤقتاً بواسطة باب داخلي إلى قسمين.. إنه يقطن هنا.
وأشرت بيدي إلى باب مجاور كان في الواقع باباً لشقة أخرى لا أعرف أصحابها!!
****
آخر مساء لي هنا قبل سفري إلى ليلى..
جلسنا كعادتنا على كرسيين متقابلين نرقب من سطح منزلنا شمساً حمراء تغرق ذائبة في حضن البحر.
أشعل لي السيجارة التي نسيتها بين أصابعي وأنا غارقة بأفكاري، ودارت الأسطوانة الليزرية في الجهاز:
con te partiro.. كان أندريا يشدو..
ونجحت في كتم مشاعري، بادئ الأمر؛ لكن سرعان ماتملكني الشجن عندما بدأ يغني أغنية أخرى حزينة جداً؛ ففقدت السيطرة على انفعالاتي..
كان بيتر يعانقني، وأنا أبكي..
لا أدري متى بدأ البكاء، ولا متى ضمّني بيتر إليه..
كنت أبكي من جنوني، ومن يأسي، و.. منك!
أبكي من أجله، ومن أجلي، ومن أجل ليلى..
وهدأت نفسي؛ فابتعد عني بهدوء، وجلس يرقبني بصمت ويدخن.
****
التوصيات الأخيرة قبل أن أسافر إلى دمشق وحدي عصر ذاك اليوم من أواخر شهر آب:
-… أرجوك أن تأكل جيداً.. لقد أعددت لك كالمرة السابقة ما يكفي من طعام مطبوخ؛ فلا تهمل نفسك وتأكل فقط جبناً وزيتوناً وزعتراً، وتترك نصف الأكل ينتظرني عندما أعود.
-نعم.. نعم.
-لقد كتبت لك كالعادة المحتويات على غطاء كل علبة، وماعليك سوى تسخينها.. أخرج مساء كل يوم من الجمّادة علبة من أجل غداء اليوم التالي.
-…
يوجد أيضاً برغل وأرز حسب ماترغب مع الوجبة، وطعام مطبوخ بالزيت يلائم الجو الحار!
-حسناً "يا أمي.. لا تقلقي بشأني.. لن أهمل معدتي هذه المرة لا تغضبي!!
وتبادلنا القبل على الوجنتين:
-إلى اللقاء إذن..
-إلى اللقاء.. اتصلي بي فور وصولك.
****
انطلقت بي الحافلة إلى دمشق، وفي المساء زرت مايا.. أخبرتها عن رغبتي بالحصول على عمل كي لا أقضي أيامي كمداً وخمولاً.. ولأهرب من التفكير بك.
لأقتل في دمشق الوحدة التي تقتلني في القرية..
فحياة الناس اليومية لم تعد توحي لي بالكثير من الخواطر أكتبها للمجلة، وعهد التحقيقات الصحفية انتهى، إذ لم تعد للسفر سوى وجهة واحدة.
وعدتني مايا خيراً؛ فلابد أن تعلم بوجود شاغر ما بحكم عملها واتصالاتها وصداقاتها، وأنا رغم أني ابنة دمشق فأنا لا أعرف فيها سوى الأهل؛ بحكم أسفاري وغربتي الطويلة وسكني بعيداً عنها بعد رجوعي.
المؤهلات لا تنقصني، وأنا واثقة أن بإمكاني التأقلم بسرعة.. أنا لا أخشى البدايات.
سهرت عند مايا حتى العاشرة؛ فطائرتي ستقلع الساعة السادسة والنصف من صباح الغد، وسيارة الأجرة ستكون بانتظاري في الساعة الرابعة والنصف لتقلني إلى المطار.
جاء السائق في الوقت المحدد، وانطلقت السيارة، والعتمة مازالت تلفّ المدينة الخاوية كوشاح أسود..
أغادر دمشق، وأنت ستنهض بعد قليل لتسافر عائداً إليها من اللاذقية..
أتساءل إن كنت أنت من اتصل بي مرتين بعد عودتك من السفر، ولم تتكلم!
لم أغلق السماعة بسرعة؛ بل انتظرت كل مرة وطلبت من الذي على الخط الآخر أن يتكلم؛ لكنه كان كل مرة ينتظر ثم يغلق الخط بعد أن أنهي جملتي!
لا.. لا يمكن أن تكون أنت.. كفاني أوهاماً..
أنت تهرب مني؛ لأن الشيء الوحيد الذي لم يكن في حسبانك هو أن أحبك!
أنت تخشى الحب.. تخشى أن تحبك امرأة؛ فكيف إن كانت امرأة متزوجة؟!!
تريد أن تكون حراً، والحب بالنسبة إليك قيد، لأنه التزام..
لكنه التزام جميل.. التزام لا يمليه الواجب؛ بل الشعور.
لا بأس.. نحن أخوة..
لقد جعلتني أختك؛ ولكن يصعب علي أن أجعلك أخي!
وما حاجتي أنا لأخ جديد، وأخوتي ممن لم تلدهم أمي كثيرون؟!!


********


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 21-11-19, 04:41 PM   #28

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


الخريف الثاني:
سافرت البحار.. لم تأخذ السفينة




اليوم السبت..
اليوم الأول من عطلة نهاية الأسبوع.
وطئت قدماي أرض المطار الكبير المزدحم دائماً..
وطئت قدماي أرضه للمرة الثالثة منذ سفر ليلى..
كانون الأول.. نيسان.. ثم آب.
مددت يدي بجواز السفر لضابط الأمن القابع وراء الحاجز الزجاجي؛ لكنه ما إن لمح لونه وشارته المميزة حتى قال لي شكراً، وأعدته إلى مكانه دون أن يفتحه؛ فأنا مواطنة منذ عشرين سنة في هذا البلد الذي يحترم مواطنيه..
هبطت السلم الكهربائي إلى حيث تسليم الحقائب.. نظرت مرات عبر الجدار الزجاجي وأنا أنتظر مرور حقيبتي على الشريط الدائري المتحرك فلم ألمحهما.. حماتي وحماي!
حملت حقيبتي الخفيفة (فباقي حاجياتي مازالت هنا منذ زيارتي السابقة)، وجلت بعينيّ مرة أخرى بين الجموع فلم أجدهما!
ثم.. سمعت فجأة صوت بيتر الأب يناديني، فأقبلت نحوه أحاول رسم ابتسامة على وجهي:
-مرحباً بيتر!
-مرحباً كارمن
هكذا تكون المناداة في هذا البلد الأوروبي.. لا عمي ولا امرأة عمي؛ بل الأسماء المجرّدة فقط، وكذا الأمر بالنسبة للأعمام والأخوال والعمات والخالات حتى وإن كان المنادي طفلاً صغيراً، ويستثنى من القاعدة الجدّين فقط!..

اسم والد زوجي هو أيضاً بيتر، وكذا اسم جده..
فحمداً لله أني لم أرزق صبياً.. ربما توجّب علينا أن ندعوه بهذا الاسم، خاصة وأنه أول الأحفاد، ليصبح بيتر "الرابع"!
.. عندما ولدت ليلى وأردنا أنا وبيتر تسميتها بهذا الاسم احتج الوالد بأن الاسم هو اسم لسلالة كلاب!!
هرعت إلى ليلى فاحتضنتها، وقبّلت جديّها على الوجنات، وتبادلنا عبارات المجاملة، ثم قاد المليونير بيتر سيارته الجاكوار إلى البيت..
إنه مصطنع في كل شيء حتى في مزاحه.
اصطنعت ضحكة لأوهمه أنه خفيف الدم فعلاً، ثم التفت إلى ليلى.. تأملتها وابتسمت:
-ياحبيبتي.. فرحة أنا بلقائك.. فرحة جداً أنك أصبحت تمشين من جديد وتتكلمين.. لقد ازداد وزنك وازددت جمالاً.
ضحكت ليلى ومدت لي يدها بهدية:
-هذه هدية لك ياماما.. صنعتها لك في المعسكر الصيفي.
-شكراً ياحبيبتي.
فتحت الرزمة الخضراء.. كانت الهدية قناعاً من الجص لوجه ليلى وضعته على وجهها بمساعدة المشرفة حتى جف واكتسب ملامحها، ثم لونته بلون فضي ورسمت الشفاه باللون الأحمر:
-كم هو جميل!.. سأحتفظ به في غرفة النوم كي أراه عندما أستيقظ وقبل أن أنام، وأفكر بك كلما رأيته.
****
صباح يوم الأحد أوصلتنا ماريا (حماتي) إلى "مركز التأهيل" حيث تقيم ابنتي وتخضع للعلاج منذ حوالي السنة، وتزور المدرسة أيضاً.. مدرسة خاصة في المركز.
أما أنا فسأمضي أيامي التالية في نفس الغرفة التي كنت فيها المرة الفائتة.
عندما آوت ليلى إلى فراشها وقبّلتها قبلة المساء، عدت إلى غرفتي وأشعلت لفافة تبغ.
جلست أدخن وأحتسي كوباً من الشاي..
".. سافرت البحار، لم تأخذ السفينة
وأنت كالنهار، تشرق في المدينة
الريح تبكي، تبكي في الساحة الحزينة.."
وأنا أبكي..
أندريا وفيروز والبحار والسفن و.. أنت!
أفكر بك أيها البعيد..
أرسلت لك بطاقة جميلة، ودونت عليها رقم الفاكس هنا.. في المركز.
أبعث في نفسي أملاً جديداً كاذباً.. فعساك ولعلك تتصل بأختك المزعومة!
تمددت في السرير ورفعت الغطاء حتى كتفي وأغمضت عيني..
فكرت بك، وبكل جراحاتك.. تدحرجت من جديد دمعات ساخنة على خدي، ووجدت نفسي أبكي هذه المرة بصوت مسموع:
-ارحمني يا الله!..
أريد أن أعرف طعم الراحة.. لماذا لا أشعر أبداً بالرضى؟.. بالرضى عن نفسي؟!
فتحت عيناي ومسحت دموعي وأنا أنظر عبر زجاج النافذة..
لاح لي في ظلمة السماء نجم يتلألأ.. أمعنت النظر إليه؛ فهدأت نفسي ونمت.
ماعدا الاستقبال الحار في المطار؛ فإن ليلى اعتادت على وجودي رغم أني حضرت بالأمس فقط.. بل إنها لم تعد تشعر بوجودي!
برنامجها في المركز مكثّف ما بين معالجة فيزيائية ونفسية ولغوية وسباحة وركوب خيل ومدرسة.. وأنا آتي إليها في فرصة ما بعد الغداء لأقضي هذه الساعة معها، أو في الفترة مابين العشاء ووقت الذهاب إلى النوم، لكني سرعان ما أجد نفسي وحدي أنتظر في غرفة ليلى مجيئها، وقد ذهبت هي في أثر المشرفة فلانة أو علانة ونسيتني.
تقبّلت الأمر في البدء وفرحت أن ليلى ليست انطوائية، وأنها منسجمة مع الآخرين ومشغولة؛ لكني وجدت نفسي في بحث دائم عنها هنا وهناك، وأنا ما أتيت إلى هنا إلا من أجلها ولوقت معلوم ولسويعات محددة في اليوم، وهي تعرف ذلك حق المعرفة.
جئت إليها؛ فلم تكن متحمسة لحضوري..
اقترحت عليها أن نتمشى في الحديقة؛ لكنها أصرت على انتظار المشرفة بربارة حتى تخرج من المكتب لتعطيها حبتي توت قطفتهما لها، وأذعنت لمشيئتها وانتظرت معها، وطال انتظاري، وبربارة مازالت في الغرفة تسجّل تقريرها اليومي، وليلى مازالت مصرّة على انتظارها وقد عبس وجهها.
بدأت أشعر بالحنق؛ فقلت لليلى محاولة قدر الإمكان أن أخفي انفعالي:
-أنا آتي من أجلك حتى نخرج في نزهة، وأنت تنتظرين بربارة لتعطيها حبتي توت قبل انصرافها إلى البيت، وكأنك لن تريها بعد اليوم، مع أنها ستكون هنا في الصباح من جديد، وأنا أنتظر معك طوال هذا الوقت.
-…
-سأذهب إلى غرفتي إذن.. إذ يبدو أن بربارة أهم مني.
-…
أردت أن أجس نبضها؛ فوقفت أنوي الانصراف؛ لكنها بقيت صامتة وكأن الأمر لا يعنيها البتة!
لم تركض ورائي وأنا أتجه إلى المصعد لتخرج معي إلى النزهة، أو لتطلب مني أن أنتظر قليلاً، أو لتعتذر مني على الأقل.
عدت إلى غرفتي وجلست فيها طويلاً أنتظر ليلى أن تأتي أو أن تتصل بي هاتفياً؛ فلم تفعل!
"جميل جداً يا كارمن.. لماذا جئت إذن إلى هنا؟!.." شرعت أخاطب نفسي:
".. هاهي ابنتك لا تحس بوجودك، بل وتتصرف معك ببرود، وبقلة أدب أيضاً.. إذ كثيراً مايعلو صوتها وتخاطبك بحدة، أو تقاطعك قبل أن تنهي جملتك!…
يا إلهي!.. ربما ستكبر باردة العواطف كجدّيها.. وأبيها أيضاً.. إنها تشبههما في الملامح، وستكون مصيبة إن كان للتشابه وجه آخر!
لعنهم الله جميعاً.. وليلعنه هو أيضاً أكبر لعنة"!
(كان المقصود باللعنة أنت طبعاً)!!
أطفأت لفافة التبغ ونهضت ألوم نفسي:
"حسناً.. سأذهب إليها.. إنها ابنتي، وأنا أمها
وعلي أن أستوعبها، وهي مريضة وأنا هنا من أجل
ماذا إذن؟!!".
****
اليوم ستتزوج ريما..
دعتني ريما لحضور زفافها؛ لكن الموعد تأجل وحان موعد سفري قبله..
لن يقام حفل زفاف على أي حال، ولن أرتدي للمرة الثانية ذاك الفستان الذي أخطته من أجل زفاف سناء من قبل..
لن أراك هذه المرة أيضاً..
ربما هذا أفضل.. فقد وصلت الأمور بيننا إلى أسوأ ماكنت أتمنى؛ ولكن من حسن الحظ أنها لم تكن أسوأ مما كنت أتوقع!
وماذا كنت أتوقع أسوأ من ذلك؟!
أن يحتقن وجهك غضباً وتحملق فيّ، ثم يعلو صوتك و..؟!!
أنت تضع اللوم كله علي بكل برود، وتحتفظ بهدوء أعصابك أمامي كي لا تعطيني الفرصة لأرد لك الصاع صاعين!
تمنيت لو أنك أعطيتني تلك الفرصة لأفجّر غضبي الكامن.. أفجّره فيك، وأرمي بوجهك بعضاً من أشيائك المبعثرة على طاولة المكتب أمامك..
أتمنى لو أني أصفعك، ثم أخرج من عيادتك إلى الأبد وقد صفقت الباب ورائي بعنف!
كنت أجلس قرب النافذة أمعن النظر إلى القرية المنبسطة أمامي يميناً، والغابة الممتدة يساراً.. أفكر بك وأنا أستمع إلى الموسيقى.
كلاسيكية حزينة كنفسي الحزينة..
أنت في الذاكرة لا تبرحها أبداً.. كيف استطعت أن تحتلني هكذا؟!
أحاول نسيانك فلا أقدر.. أحاول أن أكرهك فلا أقدر..
أشعر تجاهك بالمرارة.. (فالرجولة هي موقف لم أجده عندك أبداً وبحثت عنه عندك، ولم أجده بعد!).
لقد حاصرتك كثيراً، وكتبت لك كثيراً، وتمنيت لو نجلس معاً ونتحدث.. كثيراً.
وكنت تجيد دائماً التهرب مني، وتنزلق كالزئبق من بين أصابعي بإجاباتك المبهمة..
تشد الحبل ثم ترخيه وتؤكد لي كل مرة أننا أحباباً.. وكم وددت لو كنا كذلك حقاً..
تبعث كل مرة فيّ الأمل من جديد، وأجلس أنا في وحدتي أنتظر منك دون جدوى مبادرة صغيرة..
أصبح رنين الهاتف يوتّرني، فيقفز قلبي بين ضلوعي ويسبق قدماي إلى الجهاز الذي يحمل كل الأصوات إلا صوتك!
..أردتك واحة فرح، ولو صغيرة؛ لكن الحب لم يكن طوال سنة ونصف إلا من طرف واحد.
رنين الهاتف جعل خواطري تتلاشى:
-مرحباً يا كارمن.. أنا آناريتا.. سأحضر إليك لتناول الغداء.
-حسناً.
فتحت الباب ودخلت آناريتا.. امرأة قصيرة ممتلئة:
-تشاو كارمن
-تشاو آناريتا.. كيف حالك؟
-بخير.. تبدين مثيرة يا كارمن بهذه الثياب.. لو رآك أنطونيو لما قصّر بمغازلتك.
ضحكت، وقلت لها:
-مثيرة؟!.. دعك من هذا الهراء.
(لقد أحببت اليوم، والجو دافئ مشمس، أن أرتدي هذه البلوزة والتنّورة الضيقتين.. صحيح أنني رشيقة القوام، ولكن لم يخطر ببالي حقاً أني قد أبدو بهما مثيرة).
-ليس هراء.. أنت امرأة جذّابة، وأنطونيو…
-ما به أنطوينو؟!
-إنه رجل وسيم وأنيق، وأنا امرأة ممتلئة!.. أتعرفين أني كنت أكثر سمنة، وأن أنطونيو كان يطلب مني دائماً أن أنتبه إلى قوامي، ويشجعني لأذهب واشتري ثياباً جميلة؟
-…
-كنت أتأمل قطع الثياب المثيرة، وأفكر، مرتين ثم..
-لا تشتريها..
-أجل.. لقد اعترف لي أنطونيو أنه خانني مع امرأة أعرفها، وأنا لم أستطع إلا أن أسامحه.. لقد أقسم لي أن المبادرة كانت منها، وأنها لحقته حتى المنزل!
-ياله من رجل بريء!
كانت آناريتا تحضّر في المطبخ الصغير طعام غدائها الذي جلبته معها، وجلست أنا على الكرسي قبالتها..
ضحكت آناريتا، ثم قالت:
-تصوري.. إنه يخونني، ويغار علي.. يغار كثيراً.
-لا أستغرب ذلك.
-وأنت يا كارمن.. كيف حالك مع بيتر؟!
تجاهلت قصدها وتظاهرت أنني لم أفهم.
-ماذا تقصدين؟
-أقصد أن بيتر هادئ جداً.. هؤلاء الرجال الأوربيون الشماليون.. إنهم مختلفون.
-أجل.. إنهم حقاً مختلفون، وهدوئهم يبعث على الجنون أحياناً!
ضحكت آناريتا مرة أخرى وسألتني:
-ألن تتغدي؟
-لا.. لقد أصابني الأرق، وبقيت مسهدة حتى الرابعة صباحاً، ثم استيقظت تلقائياً الساعة التاسعة والنصف..
أنا لست جائعة الآن.
-لا يستطيع المرء النوم جيداً هنا.
-نعم.. إن المكان ضيق نوعاً ما.. يشعرني بانقباض نفسي.
لم يكن هذا هو السبب الوحيد، أو الأساسي.. فلقد بكيت الليلة الفائتة بما فيه الكفاية..
أريد أن أستريح من عناء التفكير.. أريد أن أعيش أيامي يوماً بيوم؛ ولكني لا أستطيع ذلك..
آناريتا تستطيع:
-أتعرفين يا كارمن.. لقد تعوّدت أن أعيش حياتي يوماً بيوم؛ فظروف مرض ايرين تحتم علي ذلك.. أنت على الأقل استمتعت بأوقات جميلة قبل أن تكتشفي مرض ابنتك؛ ولكن ابنتي مريضة منذ زمن بعيد، وقد تعايشت مع مرضها وقبلت بالأمر الواقع.. فلا جدوى من التفكير في الأحزان.
-معك حق.. الحمد لله أنها لم تعد طريحة الفراش، وأنها لم تعد بحاجة إلى كرسي متحرك.
-أجل.. أجل يا كارمن، لقد أصبحت ليلى في وضع نفسي أفضل.. إنها تتقبل مرضها الآن ولديها قوة الإرادة.. لقد منحتها أنت ذلك عندما جئت إليها في المرة السابقة.
-أجل، لقد أعطيتها مني طاقة كبيرة.. طاقة أتعبتني كثيراً، ولكن النتيجة كانت مثمرة والحمد لله.
-إنها تشعر نوعاً ما أنها في بيتها هنا.. لقد تأقلمت مع الجو وانسجمت مع المشرفات وأقامت علاقات صداقة مع باقي الأولاد.. إنها فتاة ذكية.
التقيت بعد الظهر بالطبيبة لأناقش معها إمكانية سفر ليلى إلى سورية من أجل إجازة قصيرة؛ فأخبرتني أنه من الأفضل الانتظار وتأجيل ذلك لوقت آخر بسبب كذا وكذا وكذا..
وعاد الأرق يزورني في الليل..
نهضت من الفراش حوالي الساعة الثانية، وجلست على المكتب أكتب حتى سمعت صوت الديك ينبهني إلى انبلاج الفجر..
اندسست في الفراش؛ لكن النوم استعصى علي مجدداً، وما إن تسلل أخيراً إلى أجفاني حتى أيقظني منه رنين الهاتف.. كانت الساعة تشير إلى الثامنة والنصف، وأنا لم أنم إلا ساعتين، وكانت ليلى على الطرف الآخر؛ فاليوم هو السبت..
اصطحبت ليلى في نزهة طويلة، وعدنا والجو مازال لطيفاً مشمساً منذ أسبوع.. منذ مجيئي إلى هنا..
أما صباح الأحد؛ فقد جلسنا –ليلى وأنا- في غرفة المعيشة بالمركز نشاهد معاً شريط الفيديو الذي سجلته المشرفات.. كان مسجلاً عليه برنامجاً للتلفاز المحلي الرسمي عن المركز ونشاطاته، وكانت ليلى بحق هي البطلة؛ فقد كانت اللقطات، وهي تمتطي الحصان تحتل أكبر مساحة من التصوير..
وأمضينا اليوم كله لوحدنا تقريباً؛ فمعظم الأولاد عند ذويهم في عطلة نهاية الأسبوع.
لم تتغير تصرفات اللامبالاة التي تبديها ليلى تجاه تواجدي معها؛ لكن إحدى المشرفات المعنيات بأمرها مباشرة لاحظت ذلك، وأرادت أن تتحدث إلي في نفس الوقت الذي كنت أنا أنوي فيه لقاءها ومناقشتها عن ذات الموضوع.
إن كل مشرفة في المركز هي بمثابة "أمينة سر" لعدد من الأولاد يلجؤون إليها عندما تعترضهم مشكلة ما، أو يشعرون بحاجة لشخص يمكن الوثوق به والبحث عن حل لهمومهم الصغيرة عنده.
كانت بربارة هي "أمينة سر" ليلى..
جلسنا معا في حديقة المقهى نشرب المرطبات ونتحدث..
أدركت بربارة حجم المشكلة، وتفهمت الإحباط الذي أشعر به كأم، في ذات الوقت الذي أفرح فيه لانشغال ليلى بمختلف النشاطات؛ فاقترحت علي أن تتناول ليلى العشاء معي، وليس مع الأولاد الآخرين –كما جرت العادة- وتبقى الفترة مابين العشاء ووقت النوم مخصصة لنا لوحدنا.
عندما حان وقت العشاء امتعضت ليلى عندما أخبرتها بربارة باقتراحها، ولم تبد حماسة كبيرة بادئ الأمر للذهاب إلي وتناول الطعام معي.. حيث أقيم.
كانت تتذرع كل مرة بسبب ما كي نبقى مع باقي الأولاد، وكنت أطلب منها في كل مرة أن تسأل بربارة إن كانت تسمح بذلك؛ لكن بربارة كانت صارمة في كل مرة.. وأذعنت ليلى للأمر مرغمة!
كنت أحاول قدر الإمكان أن يكون الوقت الذي نمضيه معاً ممتعاً؛ لكنني كنت ألحظ أنها معي، لأنها مجبرة وليس لأنها ترغب حقاً بذلك..
كنت أحياناً أذهب معها لنتمشى في الغابة، ثم نجلس على أحد المقاعد، وأقرأ لها قصة أخذتها معي من المكتبة؛ لكنها لم تكن حقاً تستمتع بذلك، وكثيراً ماكنت أراها شاردة الذهن لا تستمع حقاً لما أقرأه لها.
كان ذلك يحز في نفسي؛ فقد تغيّرت علاقتها بي كثيراً عن المرة السابقة..
كانت لا تطيق فراقي.. تريد أن تراني طوال الوقت.. وكانت مقعدة وبحاجة ماسة لمساعدتي ودعمي المعنوي وتشجيعي..
أما الآن، وبعد التحسن الكبير الذي حصل لها؛ فقد أصبحت لا مبالية، وأصبحت نظراتها باردة.. باردة جداً. يبدو أنها تأقلمت أكثر من اللزوم، وليس باستطاعتي تجنب ذلك طالما أن إقامتها هنا مازالت إلى أجل غير مسمّى، كما أنه ليس بإمكاني البقاء دائماً هنا.

****


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 21-11-19, 04:42 PM   #29

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


بعد أسبوع كان لي اجتماع مع الفريق الطبي، والمشرفات، والطبيبة النفسانية والأخصائية الاجتماعية.
ابتسمت، وبادرتهم بالمزاح، وأنا أراهم يشيرون إلي للجلوس على ذاك الكرسي في صدر المجلس، وقد توزعوا على اليمين واليسار، ينتظرون دخولي لأترأس أنا الاجتماع..
إن سمة التواضع فيهم تفرض على المرء احترامهم..
تناقشنا في وضع ليلى الحالي من كافة النواحي وتبين لي أنها مازالت لا تستطيع التركيز رغم كل الجهود والتمارين الخاصة، وأن تصرفاتها مازالت طفولية لا تناسب عمرها، ثم ذهبت في اليوم التالي للقاء المستشارة الغذائية في مكتبها الذي يقع في تلك المدينة الكبيرة، ويبعد مسافة ساعة بالسيارة عن المركز.
ومضت الأيام المتبقية من إقامتي مابين انشغال بليلى واجتماعات بالمعنيين بأمرها وزيارات الأصدقاء.
وحان من جديد موعد السفر..
اليوم الاثنين..
اليوم العشرون من شهر أيلول..
جاءت مارية في الصباح لتقلني إلى المطار..
استأذنت المشرفات لاصطحاب ليلى معي، وجلسنا ننتظر وصولها، والجو ماطر..
لقد استقبلني المطر عند وصولي، فأصابني الاكتئاب.. لكن الشمس ما لبثت أن أشرقت في اليوم التالي، وبقيت مشرقة حتى يوم سفري..
لم يكن وداع ليلى درامياً كالمرة السابقة، فقد قبلتني بسرعة، ثم لوّحت لي بيدها وهي تضحك وأنا أعبر الباب الزجاجي متجهة إلى البوابة..
في الخريف تبادلنا الأدوار من جديد أنا وبيتر.. أعود أنا ليسافر هو..
قبل سفره اتصلت بي مايا لتخبرني عن عمل لي في دمشق..
كانت فرحة بيتر أكبر من فرحتي، فقد أدرك مدى معاناتي وشعوري بالوحدة.. ربما تمنى أيضاً أن يكون في انشغالي بالعمل شفائي منك!
(هل كان لرغبتي في العمل بدمشق سبب آخر؟.. هل كنت أرغب شعورياً بالهرب منك، ولا شعورياً أن أكون قريبة منك!؟).
ذهبت مع مايا للقاء رب العمل.
دخلنا مكتبه الفخم.. الفخم جداً.
نادى على أحدهم بجهاز التحكم عن بعد ليجلب لنا شيئاً نشربه، ثم استرسل بالحديث مع مايا يسألها وتسأله بالتفاصيل عن أمور عائلية جعلتني أشعر بالسأم، وأنا أنتظر أن يسألني أخيراً عن شهاداتي ومؤهلاتي.. عن خبرتي وعملي!
باشرت العمل في اليوم التالي في بناء تمَّ ترميمه حديثاً، وتأثيثه بأثاث خشبي أنيق لا عهد للدوائر الرسمية به!
صحيح أن المركز الذي أعمل به تابع للدولة، ولكن وضعه خاص جداً.
ارتحت جداً للأثاث المريح، والنظافة والنظام، ولإدارة الإعلام حيث سأعمل..
كانت إدارة الإعلام مؤلفة من أربع موظفين فقط:
الأستاذ غسان وعماد والسكرتيرة فريال وأنا.
جو عمل مثالي..
أشعة الشمس التي تسللت عبر النوافذ الواسعة وغمرت المكتب نوراً غمرت قلبي فرحاً بالعمل الذي ينتظرني لأنجزه..
عدت إلى دمشق..
مدينتي التي ولدت فيها وكبرت وعشت أول عشرين سنة من عمري.. عدت إليها وقد تغيرت ملامحها كثيراً. نمت المدينة في عقود قليلة من الزمن نمواً لم تعهده مثيلاتها في قرن كامل!
جفّ نهرها الذي طالما تغنّى به الشعراء، وأصبح مستنقعاً، فاستعاض سكانها عن خريره بنقيق جوقة الضفادع التي تقطن جوفه.
لم تعد النسائم تحمل منه عبق أزاهير تنمو على ضفتيه، بل رائحة كريهة لجثة نهر تتفسخ.. وحدها الأشجار التي نمت على جانبيه ما زالت صامدة حتى تنضب آخر قطرة ماء تمتصها من أعماق تربته التي تجف رويداً رويداً كما جف سطحها.
مات النهر الذي كان منذ زمن ليس بالبعيد يزور أهل المدينة في بيوتهم، جارياً في قنوات تصل بينها..
كانت النسوة يرسلن الفاكهة لبعضهن البعض عبر القنوات، وهن يتنادين من وراء الجدران، والرجال يتوضؤون من مائها، والأطفال يتراشقون بالرذاذ.

كان بردى هبة دمشق..
ومات بردى فلم يبك عليه أحد، ولم يرث لحاله أحد، ولم يحاول إعادة الروح إليه أحد، وكأن موته أمر محتّم وطبيعي.
حرام أن تكبر المدينة وتتغيّر معالمها إلى حد التشوّه.. هذه المدينة التي ولد التاريخ من رحمها.. حرام!
قلت لي، والسيارة تنطلق بنا في تلك الأمسية:
-أنا أكره هذه المدينة.. أشعر دائماً بالانشراح عندما انطلق منها باتجاه القرية، ثم بالانقباض عندما أعود باتجاه دمشق!
نظرت إليك أعاتبك على كرهك العلني لمدينتي:
-لكن دمشق لم تكن كذلك.
-نعم، لم تكن كذلك.. إنهم التجار الذين شوّهوها!
(التجار؟! لقد ازدهرت دمشق منذ أقدم العصور على أيدي تجارها!)
لذت بالصمت.. لأني لم أشأ أن أفسد جو الأمسية الجميل بنقاش قد يطرق أبواباً أخرى!!
لقد سحرت دمشق الروائي هاني الراهب عندما جاء إليها من اللاذقية لأول مرة..
قال في لقاء معه أنها سحرته ببناتها وياسمينها ونظافة شوارعها، واعترف أن دمشق قبل أربعين عاماً هي غير دمشق التي نعرفها اليوم..
وأن سكانها كانوا من أكثر الناس دماثة.. لا يجعلونك واحداً منهم، ولكنهم يرحبون بك، ويحترمون خصوصيتك.. فكيف تكرهها بدل أن تشفق عليها؟
****
القلق هو رفيقي الدائم..
هناك في الغربة، كان القلق يعبث بي في الليالي عندما آوي إلى فراشي… أفكر في السنوات القادمات وأتساءل إن كنت سأمضي عمري الباقي كله في الغربة.
الغربة يحملها المرء معه فور رحيله لتكون زوّادته منذ اللحظة التي تطأ فيها قدمه الأرض الغريبة، وأنا حملت زوادتي معي منذ اللحظة التي وطئت فيها قدمي أرض ذلك المطار الكبير متأبطة ذراع زوجي الأجنبي..

أحببت في بلاد الغربة نظامها ونظافتها، والتزام أهلها بالعمل والمواعيد، وسهر الدولة على راحة مواطنيها.. طبيعتها جميلة.. يهتم الناس بالمحافظة عليها، فلا يشوهوا جمالها بأبنية قبيحة، ولا يرموا فيها قمامتهم.. طبيعة جميلة نظيفة منسقة، لكنها تفتقد إلى الرومانسية.
تلك الرومانسية التي أجدها في طبيعة بلادي رغم الأبنية القبيحة والقمامة واستهتار الناس!
كنت أفتقد الرومانسية في الطبيعة، والدفء في قلوب الناس..
كرهت في بلاد الغربة برودة عواطف أهلها، وتعجرفهم، وضيق أفقهم أحياناً..
مللت من أسئلتهم التقليدية: المرأة والحجاب، المرأة والرجل، الإسلام ومحرماته.. إسرائيل" المسكينة" والعرب المتربصون بها!
أسئلة تتكرر دون أن يتكبدوا عناء البحث عن أجوبتها بأنفسهم، ثم مناقشتي فيها كما أناقشهم أنا في قضاياهم.

أغرب سؤال سمعته كان عندما دعونا مرة لزيارتنا زوجين أتوا حديثاً للسكن بجوارنا.
تبادلنا الأحاديث عن الطقس والأولاد والجيران وأحوال البلدة وغير ذلك من الأحاديث التافهة التي لا مفر منها أحياناً حرصاً على اللباقة، ولعدم إحراج الطرف الآخر إن كانت اهتماماته لا تتعدى هذا المجال المحدود.
ثم.. ومن حيث لا أدري تغيّر فجأة مجرى الحديث، وأصبح "العالم الغريب" الذي جئت منه موضع اهتمام غابي وزوجها مارسيل الذي بادرني بسؤال لا يخطر ربما على بال طفل أن يسأله.. فما بالك برجل تجاوز وقتها الثلاثين من عمره!
سألني مارسيل ببداهة وبلاهة:
-هل تعرفون، وتستعملون فراشي الأسنان؟!
من حسن حظ مارسيل في تلك الأمسية أنني لجأت إلى طريقة العد إلى عشرة المحمودة، ولم أفتح فمي جيداً لأبرهن له على سلامة أسناني، ومعرفتي بفرشاة الأسنان، وبالمسواك أيضاً.. فرشاة أسنان أجدادنا أيام كان أجداد مارسيل لم يكتشفوا الفرشاة بعد، وكان القمل يسرح ويمرح في رؤوسهم!

منذ تلك الأمسية أصبح غابي ومارسيل حذرين في طرح الأسئلة.. ربما لأنهم اكتشفوا بأنفسهم أننا لا نمسح مؤخرتنا بأوراق الشجر!!
(هكذا هم معظم الناس، وليس كلهم.. فأصابع اليد ليست واحدة، ولي من مواطني تلك البلاد أصدقاء متسامحين ومحبين يحلو الحديث معهم)
الشعور بالقلق ملازم دائماً للشعور بالغربة..
كنت أقلق من شيء مجهول يحمله لي المستقبل.. شيء لا أدري كنهه، وكنت في نفس الوقت أخاف… أخاف أن أموت في الغربة، وأدفن في أرض غريبة باردة..
لم يكن الموت بحد ذاته يخيفني أبداً..
أنا لا أخاف الموت، ولا أخاف المجازفة.. لا أخاف السفر ولا أخاف الفأرة التي تخافها النساء!!
(يا لها من مسكينة تلك المخلوقة الضعيفة.. الفأرة!)
عدت إلى الوطن.. إلى أحضانه، لكنني لم أجد فيه الدفء الذي كنت أبحث عنه، وعاد القلق من جديد ليصبح رفيقي.
الشيء المجهول الذي كنت أتوجس أن يحمله لي المستقبل، لم يعد مجهولاً، فقد تجسّم لي القلق ثلاثي الأبعاد..
مرض ابنتي هو عمق القلق.. أهم أبعاده..
أما بيتر وأنت، فطول القلق وعرضه!
كان بيتر يتركني دائماً ويسافر إلى بلده.. حيث عمله.
كنت أتحمل غيابه، فعلاقتنا هي على أي حال من نوع آخر، فأنا أفتقد فيه عقل الصديق، ولا أفتقد جسد الزوج، أو أشواق الحبيب، وكانت ليلى تملأ وقتي وتشغلني بمسؤوليتي تجاهها، وتؤنسني بوجودها.
أما الآن.. فأنا وحيدة حقاً.
وأنت؟..
كيف أحببتك كل هذا الحب؟!
لا أنتظر جواباً منطقياً.. متى كان الحب منطقياً؟!
لقد تسلّقت جبالاً مكللة بالثلوج في سويسرا.
عبرت بالسيارة الغرب الأمريكي حتى المكسيك وأنا في مقتبل العمر وحدي مع جدة تجاوزت الثمانين من العمر!
طرت بالحوّامة فوق بركان ثائر في هاواي دون خوف، وسمعت زمجرة النمر في أدغال ماليزيا، وليس معي سوى سكين لن يمنع النمر من التهامي!
جرّبت قدرتي على تحمل الغثيان في قارب سريع ترفعه الأمواج العاتية ثمانية أمتار، ثم تهوي به في ثوان وسط محيط هائج عند سواحل جزر تاهيتي.
حاول سائق سيارة أجرة في تايوان ابتزازي، ووقف أمامي متحفزاً بطريقة الكونغ فو وهو يصرخ بالصينية لإخافتي، فما كان مني إلاّ أن قلدته الحركة والصراخ فلاذ بالفرار وهو لا يعلم أني لا أفقه من الكاراتيه شيئاً!
وحاول بعض رجال الشرطة تجاوز سيارتي في الأردن بسيارتهم بالقوة، ودون وجه حق، فترجلت من السيارة وتقدمت نحو السائق، وقد انحشرت سيارته في الزحام، لأجذبه من ياقة قميصه، وأنا أهدده ببطاقة سحبتها بسرعة من جيبي، وكأنها بطاقة حصانة دبلوماسية، ثم أعدتها بنفس السرعة كي لا ينتبه، وأنا أقسم أن أخرب بيته، فبدأ يعتذر ويتوسل وهو لا يعلم أن البطاقة كانت مجرد بطاقة اعتماد من البنك!
أول صفعة تلقاها رجل مني كانت منذ أكثر من عشرين عاماً، وكان هو يكبرني بعشرين عاماً..
تجاهلته سنة كاملة رغم أن ظروف العمل كانت تجمعني به معظم الأحيان، ولم أصفح عنه إلا عندما وقف أمامي يبكي كالطفل لأنه لم يعد يحتمل!
(عديدة هي المرات التي تمنيت فيها لو.. ولم أجرؤ لأنك لم تعط انفعالاتي فرصة، ولأنك ذو سطوة ومهابة، ولأني أحبك.. كنت ألمح آثار أصابعي الخمس حمراء على.. خدك.. في مخيلتي فقط!!)
أجل يا عزيزي.. هذه أنا.
لا أروي لك أحداثاً من نسج خيالي، بل أروي لك أحداثاً صحيحة مئة بالمئة، ليست سوى غيض من فيض، والله على ما أقول شهيد، وكذلك بيتر!!
كنت جريئة وشجاعة وخالية البال..
أستعرض أحياناً شريط الماضي في بالي، وكأني أستعرض أحداث فيلم من أفلام المغامرات بطلته ليست أنا.. فأضحك في سري وأنا أفكر أنه لولا الذكريات والصور والوثائق لما صدقت أنني أنا البطلة!
كانت رباطة جأشي، و"آية الكرسي" تكفيني لأنجو من المأزق مهما تكن..

لكن مأزقي معك مختلف.. وقد طال أمده سنة وسنتان..
سنتان لم تنفع فيها "آية الكرسي"، ولا الصلاة، ولا الصوم!



***


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 21-11-19, 04:46 PM   #30

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي


الشتاء الثاني:
.. ويمطر الشتاء قرنفلاً أحمرا




لا أدري كيف خطرت ببالي فجأة أختك أم ياسر.. قبل أن أرفع السماعة كنت أسأل نفسي: هل أزورها اليوم، أم غداً؟
لكن الصوت في داخلي أجاب: بل اليوم، فقد تسمعين عنه خبرا!
ما إن سلّمت على أم ياسر وجلست حتى رن جرس الهاتف!
لم أعرف من المتحدثة، لكنني عرفت فوراً أنهما يتحدثان عنك.. هي وأم ياسر..
سألتها بلهفة:
-هل هو متوعك..؟
لمحت في عينيها تعجباً أني عرفت فورا.
قالت:
-أجل.. إنها زميلته.. لقد شعر بالدوار، وهو في مدرج الجامعة.
-سأزوره في العيادة لأطمئن عليه.
-أرجوك.. لا تخبريه أننا نعرف.. هو لا يحب أن نعرف كي لا نقلق عليه!
لقد كان بالأمس عاتباً علينا وشكانا لأمه لأننا نهمله، ولكن بالله عليك.. كيف أذهب إلى بيته لأرتبه له؟.. ماذا سيقول عني الجيران أن رأوني؟.. أنهم لا يعرفون أنني أخته!!
عجبت من منطقها الغريب.. ماذا سيقول عنها الجيران حقاً؟!.. يا للسخف.. مجرد حجة واهية كي تتهرّب وأنت.. ما أطيب قلبك!
فحتى ريما التي تدللها، وتجلب لها الهدايا وتأخذها إلى الحفلات استغنت عنك فور زواجها، ولم تعد تزعج نفسها بمرافقتك إلى اللاذقية عندما تنتهي زيارتها لأهلها في دمشق.
تطلب منها أن ترافقك، لكنها تتركك تسافر وحيداً رغم أن وجهتكما واحدة!
xxxxب الساعة تتحرك ببطء، وأنا أنتظر أن تحين الساعة السادسة مساء..
أسرعت فرحة .. أحمل إليك قرنفلة حمراء..
قلبي تدحرج إلى قدمي، لكن نبضه يصل حتى رأسي!
سألني حمزة، وأنا أناوله القرنفلة ليسلّمها لك:
-ما الاسم لو سمحت لأقول له؟
-لا عليك.. سيعرف لوحده!
وناديتني..
فأجبت: بعفوية: نعم..
كتلميذة مطيعة جاءت لتزور أستاذها!
ودلفت من الباب، وابتسامتي تسبقني إليك.
وجهك يشع بابتسامة عريضة وأنت تشدني إليك وتقبلني على الوجنتين، فأضغط بلهفة على يدك القوية الدافئة وقد اغرورقت عيناي بالدموع.
أجلس قبالتك مضطربة جداً كعادتي كلما تصالحنا.. صامتة.. فالكلام كله مقروء في عينيّ.
وأنت مضطرب مثلي.. تسألني مرة وثانية وثالثة كيف حالك.
(كيف حالي؟.. مشتاقة إليك.. لم أرك منذ آب.. وقد شارف تشرين الأول على نهايته)
جئت إليك لأتكلم، ولكنني معقودة اللسان دائماً بقربك.. لا أريد إلا أن أتأمل وجهك، ولو بقيت لساعات.. صامتة!
أريد أن أخبرك عن كل متاعبي، ولا أريد..
أريدك أن تستشف ذلك بنفسك، وتسألني وأجيبك على قدر السؤال.. كي لا أتعبك.
وأنت.. أدركت هذه المرة أن عليك أن تسألني..
تسألني، ولكن بحذر كي لا يزل لسانك أيها اللعين!!
****
جاءت سوسن إلي في المكتب عند نهاية الدوام، ففي فندق الميريديان معرضاً لأجهزة الحاسب ومستلزماتها، وقد اتفقنا على زيارته معاً مساء اليوم.
كان من الصعب إخفاء الفرح الذي خلقه لقائي بك البارحة.
كان الفرح يتألق في عينيّ، فبادرتني سوسن ضاحكة:
-الله.. الله.. تبدين فرحة للغاية.
-أجل.. أنا فرحة.. وبهذه المناسبة أدعوك لتناول الغداء في مطعم فاخر تختارينه بنفسك!
كانت الشمس المشرقة دافئة، والطعام لذيذ، والحديث ممتع.. كل شيء كان رائعاً..
جاء النادل بورقة الحساب، فناولته آخر النقود التي كانت في المحفظة!
ثم ذهبت بعد سفر سوسن إلى أمي أستدين منها مبلغاً من المال حتى يوم القبض.. فقد طار باقي الراتب، والحوالة لم تصل من بيتر بعد!!
****
كيف أكره قوتي أمامه، وأحب ضعفي أمامك؟
كيف تذيبني بابتسامة وتحرقني بقبلة ولو على الوجنتين؟!
لتذهب إلى الجحيم كل المشاعر الأخوية.. فليس بإمكاني إنكار القرنفلة!
وأنت.. لم تسألني إن كنت ذاهبة غداً إلى اللاذقية عندما زرتك.
لماذا؟.. لا خوف من رفقتي، فلست مطالباً بمبادلتي نفس المشاعر.
أو لم تقل لي عندما جئتك بالقرنفلة: "زوريني دائماً، فنحن أصحاب وجيران"؟!
جئت إليك يا جاري لأعرف إن كنت تريدني رفيقة سفر.
كان الباب مفتوحاً قليلاً، وصوت المذياع يصل إلى مسامعي، وحمزة ليس في غرفة الانتظار..
قرعت الباب قرعاً خفيفاً ثلاث مرات قبل أن تسمعني وتأذن لي بالدخول..
تسربت إلى أنفي، وأنا أدخل رائحة دخان.. رائحة نارجيلة!
أنت تدخن النارجيلة في العيادة!!
بادرتني مرحباً:
-أهلا.. أهلاً تفضّلي بالجلوس.
أضحك وأسألك عن تدخين النارجيلة، فتضحك..
أنت تجلس في العيادة وحيداً..
تدخن لتنفث مع الدخان همومك التي لا ترغب أن أشاركك فيها..
أنت متحفظ جداً معي في الحديث عن نفسك، وأنا فتحت لك كتابي لتقرأه صفحة.. صفحة.
وتسقط الجمرات.. واحدة، ثم أخرى على الأرض..
تنحني لتبحث عنها، وتلتقطها وتعيدها إلى مكانها شاكياً:
-هذه الجمرات.. لا تتقد جيداً.
-هل أضعها لك على النار في المطبخ؟
-لا تزعجي نفسك.. سيفعل حمزة ذلك.
(هو هنا إذن)
دخل حمزة ثم خرج يحمل معه الجمرات ليشعلها.
تعاود التدخين.. وأنا أتلذذ بصمتي وأتأملك.
وتعاود السؤال عن أحوالي، بحذر هذه المرة أيضاً فأجيبك عن تفاصيل أخرى لا تعرفها.. كعملي مثلاً.
ثم أسألك أنا أيضاً بحذر:
-هل.. أرافقك إلى اللاذقية.. أم أشتري بطاقة السفر؟
-اشتريها، لأني ذاهب إلى بيروت.. مؤتمر طبي!
(قرأت الكذب مرة أخرى في عينيك)..
-يا للمصادفة!!
نظرت إلي نظرة معاتبة لأني أشك بمصداقية كلامك..
يا لبيروت هذه، ومؤتمراتها الطيبة التي لا أسمع عنها في نشرات الأخبار!
مرة أخرى تتخذ من بيروت ذريعة واهية!
كنت على وشك أن أذكرك بتلك المرة الأولى، لكنني آثرت الصمت..
لست بحاجة لتبرر لي شيئاً.. أنت حر.
اذهب إلى "مؤتمرك الطبي" وعد منه، وقد عاد إليك نشاطك..
عد من بيروت رائق المزاج، واطلب ممن يجرون معك العمليات الجراحية في اللاذقية ألا يعكرّوه!!
****
موجات القشعريرة تجتاح جسمي في المكتب..
أشعر بالتعب، ولا رغبة لي بالعمل..
جلست قرب النافذة حيث الشمس، ألتمس منها دفئاً دون جدوى..
انطلقت الحافلة بي إلى اللاذقية بعد انتهاء الدوام، وحالتي الصحية تزداد سوءاً.
توجهت فوراً إلى منزل سوسن القريب وأنا في غاية الإعياء أرتجف من الانفلونزا.
نوبات السعال منعتني من النوم، ومنعت صديقتي المسكينة منه.
أعرف أنك لست ذاهباً هذه المرة أيضاً إلى بيروت.
أعرف أنك ذاهب لوحدك إلى اللاذقية
ندمت جداً أني تسرعت مرة أخرى معك..
ليتني لم أسألك..
المرض يصيبني كل مرة أصاب فيها بخيبة أمل منك.. صغيرة كانت أم كبيرة.
سيحين قريباً شهر رمضان.
سأصوم وأصلي وأطلب من كل قلبي من الله أن يشفيني منك!
(آه.. كم أود ذلك!)
فإن جئت أزورك في العيد، فاعلم أن الله لم يقبل توبتي!
****
سافرت مرة أخرى إلى اللاذقية..
أسافر كل أسبوعين مرة..
اليوم هو اليوم الأول من شهر رمضان، وأنا صائمة..
والبارحة كان عيد ميلاد ليلى.. أول مرة تأتي هذه المناسبة دون أن أشاركها فيها..
اتصلت بليلى اهنئها بعيد ميلادها..
لقد أصبح حديثها أكثر اتزاناً..
أخبرتني بالتفاصيل عن الحفلة التي أقاموها في المركز احتفالاً بعيد ميلادها، وعن صديقتها ايفي، وعن كعكة العيد بكريم البرتقال.
لقد أصبحت تفتقدني، وتتصل بي من حين لآخر من المركز بالبطاقة الالكترونية التي بحوذتها لتخبرني بتفاصيل حياتها اليومية..
اختفت تلك اللامبالاة التي كانت تثير أعصابي وتحزنني.. لقد تغيّرت ليلى حقاً.
تغيّرت نحو الأفضل من الناحية الجسدية، ومن الناحية النفسية أيضاً.
كنت قد اتصلت بسوسن البارحة أدعوها لترافقني إلى القرية، إذ لم أشأ أن أبيت الليلة وحدي.
كانت سوسن بانتظاري عند موقف الحافلة، وعندما لاحظت شحوبي اقترحت علي المبيت عندها فوافقت دون تردد، فقد كنت في غاية التعب.
****
عدت إلى دمشق..
ليست لدي الرغبة في زيارات يومية لأمي، أو أحد أخوتي..
لقد تعودوا على غيابي الدائم، فلم تنشأ بيننا تلك العلاقات الحميمة جداً ..
وكانت لي أفكاري المغايرة لأفكارهم..
فقد جعلني السفر والترحال، منذ أن كنت في الثامنة عشر، أنظر إلى الأمور من منظار مختلف.
وسّع احتكاكي المباشر مع أناس مختلفين من مشارق الأرض ومغاربها آفاقي، وأعطاني دروساً في المحبة والتسامح واحترام إنسانية الآخرين واختلافهم.
جعلني ذلك أيضاً أكثر حساسية في اختيار الأصدقاء.
لم تسنح الفرصة بعد لتكوين صداقات جديدة، هنا في دمشق.. فالأمر يحتاج إلى وقت، وأنا لا أعرف في دمشق أناس أرتاح للجلوس معهم والحديث إليهم سوى نائب السفير هانس وزوجته روزماري، وسكرتيرة السفارة سامية.
أما الآخرون الذين جاؤوا يزوروننا في اللاذقية فقد سافروا جميعاً.
عادوا إلى أوطانهم، أو انتقلوا للعمل في بلاد أخرى بعد أن انتهت مهامهم الدبلوماسية، أو عقود عملهم هنا.

ذهبت وحيدة إلى حفل توديع السفير الذي أنهى هو الآخر مهمته هنا..
جلست بعد انتهاء "مراسم تبادل التحيات" في ركن قصي أرقب الناس في حفلة الكوكتيل الباذخة يأكلون ويشربون ويتحدثون.
لم تكن لدي الرغبة في الأكل ولا في الحديث، فانصرفت بسرعة.
في اللاذقية تعرّفت على سوسن منذ سنوات.
عاش أهلها فترة في ألمانيا، وأمضت هي في سويسرا وقتاً تعلمت فيه الفرنسية في دير للراهبات هناك.
سوسن المتحفظة في عواطفها، وفي تعاملها مع الناس لا تلبث أن تصبح موضعاً للثقة إن نجحت في النفاذ إلى قلبها.. أتبادل معها الكتب نقرأها، والأفكار نناقشها..
أفتح لها قلبي وأبكي أمامها دون حرج، وأعرف أنها ستفهم السبب وتفهمني.
تأتي لتنام عندي عندما أكون وحيدة فيخطر ببالها فجأة، وقد تأخر الوقت، أن تصنع قالباً من الكاتو ننسى ونحن غارقتين في الحديث أننا زدنا معيار السكر فيه قليلاً، أو تشتهي فطائراً أصنعها بسرعة ونلتهمها ساخنة، فنسهر الليل بسببها ونحن نعاني من سوء الهضم!
نضحك ونبكي معاً.. نلعن الدنيا ونسخر منها، ونحن نعرف أنها تلعننا وتسخر منا أيضاً.
أما طارق الطبيب، فهو وأسرته الوحيدين من أهل القرية الذين تجاوزت علاقتي بهم حدود المجاملة والمعرفة السطحية.
يأتي طارق ليسهر عندنا في الصيف، وتمتد السهرة حتى الثانية صباحاً.. ينظر إلى ساعته، وقد تذكرها فجأة، مندهشاً ثم معتذراً أنه نسي الوقت، فأضحك وأقول له:
-أهلاً وسهلاً بك دائماً.. لا بأس علينا نحن إن تأخر الوقت، ولكن عليك أنت أن تستيقظ باكراً للذهاب إلى العيادة.
يتصل طارق دائماً عندما أكون وحيدة ليسألني إن كنت بحاجة لشيء ما، ويستفسر عن حال ليلى.
يدعوني من حين لآخر لتناول الغداء مع أسرته في المنزل، أو مع أصدقائه في المطعم ليبعد عني السأم والكآبة.
يوصلني وحقيبتي بسيارته إلى موقف الحافلة عندما أسافر، أو يترك مرضاه لعشر دقائق، ويأتي إلى الموقف مودعاً إن أوصلني شقيقه بدلاً منه.
عندما نجتمع نحن الثلاثة، يلتزم بيتر الصمت ويكتفي بالاستماع إلى حوارنا وهو يبتسم، ويزعجني ذلك، فأطلب منه أن يشاركنا الحديث، لكنه يقول أنه يستمتع بالاستماع إلينا ونحن نتناقش ونضحك!!
أطلب من كليهما أن يلتقيا عندما أكون مسافرة فلا يفعلان، ويبقى كلا منهما ينتظر عودتي كي نجتمع نحن الثلاثة!


****


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:27 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.