شبكة روايتي الثقافية

شبكة روايتي الثقافية (https://www.rewity.com/forum/index.php)
-   الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء ) (https://www.rewity.com/forum/f118/)
-   -   ظل في قلبه *مميزة ومكتملة * (https://www.rewity.com/forum/t456040.html)

نغم 07-09-19 11:49 PM

ظل في قلبه *مميزة ومكتملة *
 

https://upload.rewity.com/uploads/153510673142682.gif https://upload.rewity.com/uploads/15351067313711.gif

https://upload.rewity.com/uploads/157010377863691.gif

الغلاف الرسمي اهداء من اشراف وحي الاعضاء عند تمييزها


https://upload.rewity.com/uploads/157010292249891.jpg






https://scontent.ftun12-1.fna.fbcdn....52&oe=5F0AA31D

https://scontent.ftun12-1.fna.fbcdn....3a&oe=5F08C4F7

https://scontent.ftun12-1.fna.fbcdn....2c&oe=5F07EB58


https://scontent.ftun12-1.fna.fbcdn....66&oe=5F0AEDB8

https://scontent.ftun12-1.fna.fbcdn....9f&oe=5F0AB800


https://scontent.ftun12-1.fna.fbcdn....e5&oe=5F09A802




مساء الجمال

كعادتي مع أغلب ما أكتبه قطعت شوطا لا بأس به ثم موجة من عدم الاقتناع غمرتني و أطاحتني بعيدا عن شخصياتي و مساراتي .
هكذا فضلت الحل الوحيد و من وجهة نظري الأسهل : إعادة الصياغة .
على أمل أن لا تخونني كلماتي و أن لا تتوه مني أفكاري أو أتوه منها .
شكرا :
* للقارئات المخلصات اللاتي تحملن جميع نزواتي و انقطاعاتي
* للمشرفتين رونتي و ابتهال على طولة البال و الاهتمام و لام سوسو على ما سبق و على التشجيع المستمر
* لكل من مر و لكل من سيمر

ملاحظة :
الفصول من واحد إلى تسعة لا يوجد فيها أحداث جديدة ، هي فقط إعادة قولبة

المواعيد :
كل يوم احد الساعة الرابعة عصرا بتوقيت مصر إن شاء الله


إهداء :
[rainbow]إليك و إليه [/rainbow][rainbow]
و كلاكما في قلبي واحد [/rainbow]

ببساطة ...

إذا كان نسيانك وطنا فأنا أختار المنفى .


أغلفة اهداء من قرائي

غلاف هدية من أم سوسو

https://cdn1.imggmi.com/uploads/2019...2f0dc-full.png
***

غلاف هدية من نيلوفر
https://cdn1.imggmi.com/uploads/2019...76da9-full.jpg

***


خاطرة من إهداء الكاتبة موني جابر ، تصميم رويدا

https://cdn1.imggmi.com/uploads/2019...0c131-full.jpg



***


خاطرة من إهداء القارئة رنا منصور ، تصميم نيلوفر
https://cdn1.imggmi.com/uploads/2019...ea3ce-full.jpg

***



هذا رابط مشهدين اضافيين لرواية


https://www.rewity.com/forum/t472809.html#post15049016



https://upload.rewity.com/uploads/157010377866392.gif

المقدمة .... المشاركة التالية
الفصول 1 - 8 .... بالأسفل
الفصل 9، 10 نفس الصفحة
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون
الفصل الحادي والعشرون
الفصل الثاني والعشرون
الفصل الثالث والعشرون
الفصل الرابع والعشرون
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون ج1
الفصل السادس والعشرون ج2
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون ج1
الفصل الثامن والعشرون ج2
الفصول 29 ، 31 ، 32
الفصل الثالث والثلاثون
الفصل الرابع والثلاثون
الفصل الخامس والثلاثون
الفصل السادس والثلاثون
الفصل السابع والثلاثون ج1
الفصل السابع والثلاثون ج2
الفصل الثامن والثلاثون
الفصل التاسع والثلاثون الأخير ج1
الفصل التاسع والثلاثون الأخير ج2
الخاتمة


https://upload.rewity.com/uploads/157010377870613.gif

[B][FONT=Garamond][B][FONT=Garamond]متابعة قراءة وترشيح للتميز : مشرفات وحي الاعضاء
التصاميم لنخبة من فريق مصممات وحي الاعضاء


تصميم الغلاف الرسمي : Heba Atef

تصميم لوجو الحصرية ولوجو التميز ولوجو ترقيم الرواية على الغلاف :كاردينيا73

تصميم قالب الصفحات الداخلية الموحد للكتاب الالكتروني (عند انتهاء الرواية) : كاردينيا73

تصميم قالب الفواصل ووسام القارئ المميز (الموحدة للحصريات) : DelicaTe BuTTerfLy

تنسيق ألوان وسام القارئ المميز والفواصل وتثبيتها مع غلاف الرواية : كاردينيا73

تصميم وسام التهنئة : كاردينيا73

تصميم البنر الاعلاني : DelicaTe BuTTerfLy


https://upload.rewity.com/uploads/157010377875914.gif
يجب ان ترد لمشاهدة المحتوى المخفي




https://upload.rewity.com/uploads/157010377881935.gif

نغم 07-09-19 11:54 PM

المقدمة

خطت نادية خارج معقل شقة أسرتها تسير مسرعة .
تشعر بنفسها منتعشة ، منتشية ، كأنما تخلصت أخيرا من شرنقة أعبائها .
مشت في الشارع الخلفي لعمارتهم السكنية و ابتسامة واسعة تنبض حية بين شفتيها .
كانت تفكر كيف ستنجح اليوم في تهشيم جدار الروتين .
كيف ستنتشل نفسها الحقيقية التي اختفت طويلا وراءه .
تباطأت خطواتها و هي تقترب من الشارع الرئيسي قبل أن تتوقف لتتأمل مظهرها لبضع لحظات في الزجاج اللامع لأحد المحلات المغلقة في هذا الوقت من الصباح .
فكت ربطة شعرها ثم أعادت جمعه في شكل ذيل حصان أكثر حزما ، بادلت انعكاسها نظرة راضية أخيرة ثم ابتسمت له و رمت له غمزة خفيفة و عادت للسير .
بعد دقائق كانت تستقل سيارة " أوبر" فخمة تدلل بها نفسها المحرومة و جسدها الذي حُشر طوال أربعة أسابيع تقريبا داخل قبضة المواصلات العامة .
فتحت النافذة على آخرها و أعادت رأسها إلى الخلف تصغي لرياح تبدو كأنها تضحك داخل أذنيها .
ببطء مستمتع أغمضت عينيها البندقيتين راضخة للشمس تمشط ملامحها بأشعتها الدافئة قبل أن يكسر تدفقها ظل كبير قاتم لإحدى المباني الشاهقة التي يمرون بها .
تقلصت ابتسامتها لثوان قليلة و شيء من البرد يتسلل عبر حاجز قماش بلوزتها فترتجف لا شعوريا .
عادت الشمس تهزم الظلال فرجعت لنادية ابتسامتها.
تحركت أناملها تخط أشكالا عشوائية ناعمة على قماش حقيبتها و داخل ذهنها يتردد وعد حاسم :
" سأكسرك أيها الملل كما كسرت الشمس ذلك الظل ، سأقوم بتفتيتك إلى ندف صغيرة و أذيبك في زخم هذا اليوم الذي أشعر بشدة أنه لن يكون كغيره من الأيام "

**
**
بعد دقائق ،
جلسن ثلاثتهن ، نادية ، إيثار و بريهان ، متقاربات ، متهامسات أغلب الوقت ، بينهن طاولة مستديرة صغيرة الحجم كمعظم طاولات المكان .
المقهى الراقي التفاصيل و الرواد الذي اختارته نادية لتكنز لحظات بذخ ثمينة تتصدى بها لعراء الأيام القادمة .
من فوق كرسيها الزهري الكساء رفعت إيثار عينيها تتأمل فضاء الفخامة حولها .
تنقلت بمقلتيها لتقعا على الباب الرئيسي ، راقبت بشرود كيف تتعانق المرايا عند أطرافه .
حوالي الشرفات الأربعة الواسعة تراقصت الستائر بنعومة تبعد أذيالها الشفافة عن أيادي نسيم عابثة ، مر بأزهار ساكنة على غصونها ، أخذ بعضا من تويجاتها في رحلة بلا عودة ثم بعثرها أخيرا على الأرضية الرخامية .
عادت نظرة إيثار الناعمة لتحط على حواف الفنجان برفق كأنها تخشى أن تخدشه ، فكرها تعلق في شبكة من صمت ، نوعا ما تعيس .
- الأمر وحشي ، أسدلت جفنيها و هي تغمغمها .
- ما هو هذا الأمر الوحشي ؟

بشرود تساءلت بريهان ، تبعد عينيها عن شكل غامض ولد من ذوبان الرغوة داخل دوامة قهوتها السوداء ، كانت قد أمضت اللحظات السابقة تراقبه .
بصوت شبه هامس ، أوضحت إيثار .
- وحشي أن تعبث الرياح بالورود الأصيلة و ترميها أرضا لتداس تحت الأقدام بينما المزيفة مصانة داخل حصن مزهريتها .

وشاح من الظلال مر على وجه نادية يطمس مؤقتا معالم نظراتها .
هل هو التعاطف ما تظن أنها تراه ، فكرت إيثار .
فليكن لأنها تريده .
- ما الذي يحدث معك ؟ تساءلت نادية بعد صمت ، كالعادة بابتسام ، كالعادة باهتمام .
- اختبارات منتصف السنة أكيد ، أجابت بريهان بدلا عنها .

الإشراقة داخل عيني نادية أظلمت مؤقتا تحت ذكرى أيام كانت قاتمة ، وعرة .
أيام مضت و لن تعود ، تذكرت فتنهدت ارتياحا .
- قلبي معك حبيبتي لكني أطمئنك بأنك ستعيشين ، قالت و صوتها يتلون بمرحها المعتاد بينما تمد يدها تربت على ذراع إيثار .
- هناك شيء آخر أود أن أخبركما به ، تمتمت إيثار بتردد و كوب القهوة يلامس شفتيها .

رشفت رشفة بطيئة طويلة ثم ركنت إلى صمت أطول .
- هل تحتاجين أن نشحنك لكي تتكلمي ؟! تمتمت ناديةرافعة حاجبيها بتسلية .

راقصت إيثار فنجانها بين أصابعها عدة ثوان ثم قالت و عيناها متسمرتان عليه :
- هناك شاب كلما تقابلت عيني بعينه يغمزني .
- امم ، مطت نادية شفتيها بتعبير غير مفهوم ثم سألت ، و لم يحاول أن يكلمك
- أنا لم أسمح له بأن يحاول .
- إذن تجاهليه ، دعيه يغمز حتى يصاب بالشلل في جفنه .

كانت تلك بريهان بآرائها العاقلة المتزنة حول كل شخص و أي موضوع .
- هي لا تحكي لنا كي تسمع منك هذا ، تدخلت نادية ، ألق ماكر يلمع داخل ذهب عينيها ، هي بالتأكيد حاولت تجاهله لكنها لم تستطع .
و السؤال الآن هو لماذا ؟

رسمت ملامح تفكير عميق ثم مطت شفتيها مجددا و هي تقول بتقرير :
- أكيد لأنه وسيم ، التفتت نحو إيثار تسألها وهي تسند خدها على يدها مقلدة لها ، أخبريني إيثو بمقياسي أنا للوسامة كم تبلغ وسامته ؟
كان دور إيثار هذه المرة لتمط شفتيها بينما تبرطم :
- بمقياسك أنت لا يوجد أصلا رجل وسيم .
ضحكت نادية بأريحية فخورة ثم قالت بينما أصابعها تجول بين خصلاتها باختيال مضحك :
- معاييري عالية لسوء حظهم ، نظرت إلى بريهان و أضافت بتهكم ، استعملي مقياس بيري إذن .
- بمقياس ملكة الجليد لا يوجد أصلا رجال !!

أطلقت نادية ضحكة أخرى هذه المرة برنة أعلى ثم لملمت قهقهاتها و هي تلاحظ بعد النظرات الذكورية الغير مستساغة ، مالت تكلم بريهان بمرح خافت :
- قضينا على كل آمال البنت المسكينة و عقدناها فوق عقدها ، بريق عينيها ظل متسليا لكن صوتها تحول إلى الجدية و هي تضيف ، على فكرة يليق بك جدا .
- من ؟ ماذا ؟ همست بريهان و نظراتها تتشتت بين وجه نادية و بين فستانها .
- لقب ملكة الجليد ، حلو جدا و مناسب لك إلى أبعد حد ، مالت نحوها أكثر و همست بمكر ، يليق بك أكثر من اسمك الحالي حتى اسألي ابن خالك شريف الذي سلخت كرامته رفضا و هو سيؤكد لك .

ضحكت بريهان بتحفظها الرقيق الهادئ أما إيثار فبالكاد ابتسمت ، تنهدت في سرها و تباعدت عنهما بأفكارها .
أطرقت برأسها تخفي نظراتها في شاشة هاتفها المشوشة مثلها.
هي مختلفة عنهما ، فكرت بتعاسة .
ليس لديها ذلك التوازن الذي تحظيان هما به و لا ذلك الاستقرار النفسي .
هي هزيلة القرار ، تعرف نفسها جيدا لذلك تبعد نفسها عن مواقف الضعف كونها متأكدة من سرعة وقوعها.
تشعر بنفسها كالعجينة الرخوة يسهل تشكيلها و نحت أي كيان منها .
لذلك هي اختارت صحبتهما ، ببساطة لأنهما تحميانها من نفسها و تشكلان حاجزا بينها و بين السقوط .
ربما تكون مثلهما لا تهتم كثيرا لأمر الرجال.
ربما تكون كذلك أحيانا .
لكن أغلب الوقت ينتابها ذلك الضعف .
و لم تجد له حتى اللحظة حلا .
مشكلتها أنها حين يهتم بها رجل ، حتى لو كانت أسهمه منخفضة لديها ، تفقد مناعتها و لامبالاتها .
نظرة اهتمام ، كلمة مختارة بعناية تستطيع خلال دقائق دك حصون اجتهدت سنوات في بنائها .
أسدلت جفنيها و هي تذكر ذلك الموقف عندما استقلت المصعد في العمارة الفخمة التي يعمل فيها خالها .
كيف فُتح الباب و دخل عليها نجم السينما الأوسم مغادرا قاعة الرياضة الشهيرة التي تقع في نفس العمارة .
كان مثالا للرجولة و الجاذبية المستفزة و رغم ذلك لم يحرك فيها شعرة .
السبب كان بسيطا .
هو نظر إليها نظرة عدم اهتمام مؤدبة هي بادلته نظرة لا مبالاة مهذبة و لم يعن لها شيئا .
لم يبدو لها سوى جسد جذاب تكمله ملامح فتاكة كالتي تراها في صفحات المجلات لكنها لم تشعر معه بالاختناق أو انعدام الأكسيجين أو أي من تلك المشاعر المهتاجة التي تجعلها تحتقر نفسها بشدة كلما غمز لها الشاب الآخر مع أنه لا يقارن بأي شكل من الأشكال بنجم السينما الذي احتوتها معه أربعة أمتار مربعة .

**
**

بعد قليل خرجت ثلاثتهن تاركات خيالاتهن الوردية داخل جدران المقهى و بين أغلفة المنيو البراقة .
توقفن عن السير و بريهان تتوجه لطفل يجلس على الناصية وحيدا مع كرتونة مناديله الورقية .
اشترت منه ثلاث علب خبأت التي تخصها في غياهب حقيبتها الواسعة و قدمت الأخيرتين لرفيقتيها .
تناولتها نادية مبتسمة و هي تسترجع حديث فتى إيثار الغامز .
بلمعة مكر في عينيها الشبه مغمضتين أمام غزو أشعة الشمس لعدستيها قالت للطفل تفتعل الجدية :
- أخبرني يا بطل ؟
- تفضلي يا أبلة .
- متى تظن أن صنارتنا ستغمز ؟

لم يفهم مغزى سؤالها لكن ذكاءه الفطري التقط تهكمها المبطن .
- غدا ، بعفوية عابثة أجابها.
- غدا !! رفعت حاجبيها باندهاش مستمتع .
سؤال آخر يا بطل ، أضافت و هي لا تستطيع سجن ابتسامتها أكثر :
أخبرني كيف سيكون ؟
- دافئا ؟ تمتم محتارا و هو يحك رأسه بعدم فهم ، في الغالب تقصد الجو لكنه غير متأكد .
- دافئ ، هزت كتفيها بطيش مرح و هي تستدير لبريهان تشير لها بيدها و تقول :دورك
- و أنا ، استجابت الأخيرة رغما عنها ، أريد أن أعرف كيف يكون ؟

للطفل بدأ الأمر يصير غامضا أكثر و مملا أكثر ، فكر قليلا ثم قال بنزق :
- سيكون طويلا .
- طويلا ، رددت بريهان بخيبة حقيقية ، هي تعطيها الدافئ و أنا تعطيني طويلا بلا صفات .

تململ الطفل في وقفته ، هيأته تنطق ضجرا لكن إيثار لم ترحمه .
- الآن حان دوري ، أخبرني كيف سيكون ؟

هل يستغفلنه أم ما الذي يحصل بالضبط ؟
حط بنظراته العابسة على عقدة ما بين حاجبي الفتاة الأخيرة ثم قال بفتور :
- سيكون صعبا .

زاد عبوسه و هو يشاهد مهرجان الضحك الذي اهتز به كامل جسد نادية .
بتنهد عميق دل أن ما يخفيه في جعبة نفسه أكبر بكثير من سنوات عمره ، انحنى ليأخذ كرتونته و ينصرف .
قبل أن يشرع في أولى خطواته ، أوقفته يد نادية ، استدار بتوتر ففوجئ بها تلوح أمامه بورقة عشرية ثم بلطف تضعها داخل كفه الصغيرة .
كان مازال مذهولا حين شعر بوشوشتها الناعمة قريبا من أذنه و هي تقول :
- عدني أن تكبر لتصير كريما .

قبل أن يفتح فمه كانت الفتاتان الأخريان تدسان له ورقتين مماثلتين و الأقصر بينهن تقول له بشبه غضب :
- مع أنك لا تستحقها لأنك تنبأت لي بالأسوأ .

لم يغضب و كيف له أن يغضب و هو يتلقى للتو مبلغا كهذا دون أن يتعب ، دون أن ينتظر في بؤس ، دون أن تشتعل فروة رأسه حرا و غضبا ، يتلقى نقودا دون طعم المهانة المعتاد .
نظر نحو أجسادهن المبتعدة التي اتخذت شكلا شبحيا غامضا وراء ستار دموعه الخفيفة ثم داخل قلبه الصغير تكونت أمنية صغيرة من أجله و من أجلهن .
**********************

نغم 07-09-19 11:57 PM

الفصل الأول




ذراع يغطيها قفاز أبيض أنيق حتى المرفق و إشارة تكسوها الغطرسة اضطرتها للتوقف على جانب الطريق .
توترت يدا نادية على المقود و هي تستمع إلى الهمهمة المنبعثة من بين شفتي أمها و الأخيرة تكرر المعوذتين كعادتها كلما ركنوا السيارة رضوخا لشرطي مرور .
التصقت عيناها بالمرآة الجانبية و هي ترى الخيال الأسود يتقدم متباطئا ، يرفع يده في الأثناء بنفس الطريقة ليكبر صف السيارات السجينة على جانب الطريق .
يوقف و لا يتوقف ، و داخل مرآتها يكبر و يكبر ، يطرد جميع الموجودات الأخرى لتنعكس أخيرا صورته هو وحده .
ألقى سلاما عمليا أجابته هي بتحية فاترة و أمها بابتسامة مرحبة كأن الرجل حضر ليتعرف عليهم .
- هل هناك مشكلة بني ؟
- اسألي ابنتك يا حاجة و هي ستجيبك .
أوراقك و أوراق السيارة من فضلك ، وجه الكلام لها بفتور .

بطرف عينها وجهت نادية نظرة توسل لوالدتها قبل أن تعود لتحدق عبر الزجاج الأمامي إلى صف الهياكل الحديدية الأخرى ، ضحايا تقف تنتظر الحكم عليها في عجز .
تصاعدت أنفاسها ثقيلة بضيق و هي تبحث داخل الصندوق الجانبي ثم مدت يدها بالأوراق دون النظر نحوه ، تناولها منها ليفرشها على سقف السيارة ثم يقطع صفحة من دفتر المحاضر و يخرج قلمه ، يضغط على الزر و يهوي به نحو الورقة ، تعالت همهمات أمها في تلك اللحظة و أغمضت نادية عينيها في استسلام و هي تكاد تتصور المشهد القادم .
- لا داعي للدعاء و الحسبنة علينا يا حاجة ، سمعته يقول بين أصوات السيارات المارة بجانبه ، نحن نؤدي واجبنا هنا ، ابنتك أخطأت و عليها أن تتحمل مسؤوليتها .

بشهقة حملت نفس صدمة ملامحها أشارت السيدة بكفها تشتت ظنونه و تقول بأشد درجات صوتها دفئا :
- أنا أدعو عليكم ؟!! معاذ الله بني ، أنا أدعو لكم .
من قلبي أدعو لكم .
بسم الله ما شاء الله ، قالت بإعجاب واضح و هي ترفع عينيها تتأمل تناسق طقمه الرسمي و وسامة ملامحه ، شكل محترم و هيئة مشرفة ، أنتم فخر للبلد .

" لأجل هذا الموقف و أمثاله خلقت الكلمات البذيئة "، فكرت نادية في سرها .
فخر للبلد من أي ناحية الضبط لأنه ممشوق الجسد و يرتدي هذا الطقم اللامع المستورد حتما من خارج البلد ؟
ربما يختلف شكله عن أولئك العساكر ذوي البطون البارزة و الأكتاف المتهدلة و لكن في النهاية مهما كان القالب فالفكرة واحدة .
و الفكرة هنا هو أنهم جميعا أصابع قاسية ليد ضخمة تعصر و تعتصر المواطن المغلوب على أمره .
زفير خافت غادر من بين شفتيها و هي تواصل الاستماع بصبر إلى الموال المألوف الذي تصيغه أمها السيدة نعمات كعادتها في مثل هذه المواقف .
بجانب عينها راقبت نادية وجه والدتها يلبس ذلك الشكل الطيب الوديع و هي تبتسم ابتسامتها الواسعة التي أُغمضت لها عيناها الضاحكتان و غاب أنفها الصغير المستدق بين خديها المكتنزين و برز شبح الغمازتين الخفيفتين لتبدو كل تقاسيمها تَبُشُّ و تَهُشُّ ، ترحب و تستقبل بطريقة غالبا ما تهزم المقابل لها .
ليس حضرة الضابط محل السؤال على ما يبدو لأنه استمر بكتابة المحضر دون أن تنكسر الصرامة حول شفتيه و هو يستمع لتبريرات أمها .
- بني ، واصلت السيدة نعمات بثقة فلم تكن تعترف بالهزيمة .
- ماما ، همست نادية بين أسنانها بغيظ ، لا تذلي نفسك له ، مادام بدأ في كتابة المخالفة فيستحيل أن يتراجع .
- بني ، قالت أمها بصوت أعلى تتجاهلها عن عمد .
اعتبرني أمك و اشرح لي فيما أخطأت ابنتي بالضبط ليس لأننا نريد أن تلغي المحضر و لو أننا سنكون ممتنين طبعا لأن زوجها سيسود ليلتها عندما يعرف بالأمر و لن يعطيها السيارة مجددا لتوصلني إلى الدكتور بعد اليوم و سأضطر إلى الذهاب بالمواصلات و أنا لدي الضغط و آلام مزمنة في ظهري .
- ماما ، فحت نادية و هي تكاد تشم رائحة احتراق كرامتها .

لكن السيدة نعمات رمقتها بنظرة تدعى اخرسي و واصلت بكل أريحية :
- و كما قلت بني أنا أريد أن أعرف فيما أخطأت كي لا تفعله مرة أخرى ، سأنبهها بنفسي المرة القادمة .

أخيرا توقفت الأصابع الرشيقة في الهواء .
- لكنك قلت لتوك يا حاجة أن زوجها لن يعطيها سيارته مرة أخرى .
- لن يعرف بني لأني أنا التي سأدفع مبلغ المخالفة ، تنهدت بمسكنة و همست بضعف عجوز تجاوزت المائة ، لن أشتري المُسَكِّن و سأدفع .

بشيء من الدهشة راقبت نادية طيف ابتسامة يتشقق له أخيرا جفاف تلك الملامح ، توقفت جميع أنفاسها داخل صدرها و هي تشاهده يلتفت نحوها فجأة لترى وجهها العابس ينعكس لامعا على الزجاج الأسمر لنظارته الشمسية :
- اشرحي للحاجة يا مدام ما الذي أخطأت فيه بالضبط .

شاحنة ضخمة مرت بجانبهم لتتلاعب مجموعة من الظلال الهاربة فوقهم و تنكشف عيناه للحظة خاطفة أمام عينيها ، عميقتان ، قريبتان من حاجبيه الكثيفين تبادلانها تحديقا بتحديق قبل أن تبتعد المركبة العالية جارة عتمتها خلفها و معيدة غطاء الغموض على نظراته .
- تجاوزت السيارة التي كانت أمامي و الخط متصل ، تمتمت نادية و هي تسدل جفنيها و تهز كتفيها ، شيء ما يتحرك داخلها لم تعرف كنهه و لم تحاول فليس وقته .

راقبته بطرف عينها يثني جذعه الأعلى و يميل ليستند بذارعه على حافة نافذتها فتسمرت نظراتها بقوة أمامها و بذلت جهدا واضحا حتى لا يخونها تماسك ملامحها و ينكسر أمام ما تشعره تفحصا دقيقا لها .
أطرقت برأسها تلقائيا و هي تستمع للصوت الذي تبدت لأذنيها الآن نبرته العميقة بينما صاحبه يتوجه بالحديث لأمها :
- و تعلمين يا حاجة معنى أن تتخطى ابنتك خطا متصلا ؟
- كلا بني لا أعلم فأنا لا أقود .

بساطتها أرخت ملامحه و زادت بالمقابل عبوس نادية ، شعرت به الأخيرة يدير وجهه نحوها لثوان قليلة قبل أن يعود بنظراته و كلامه لأمها :
- سأشرح لك الأمر يا حاجة .
ابنتك عندما تخطت ذلك الخط كأنها دخلت في جدار و حطمته .
- كلا بني ، هزت السيدة رأسها بتأكيد .

ارتفع الحاجبان باستغراب منتظر فأضافت بثقة :
- صاحب السيارة نصف النقل الذي كان أمامنا هو الذي حطم الجدار و ابنتي دخلت من الثغرة التي تركها وراءه .

كتمت نادية أنفاسها و مشروع ضحكة تهدد بالانطلاق و ساد صمت فقط لجزء من الثانية قطعته قهقهة رجولية عالية اهتز بها الصدر العريض للحظات قصيرة قبل أن تمزق الأصابع القوية صفحة المخالفة ثم ينحني صاحبها قليلا و يقول بتهكم و نظراته لا تغادر جانب وجه نادية :
- مادامت ابنتك لا تراعي قواعد المرور أنصحك يا حاجة أن تعلميها كيف تبتسم على الأقل و تُسَيِّر أمورها مثلك .
- طبعها كطبع أبيها بني ، حركت السيدة نعمات يديها في تعبير عن العجز .
- كان الله في عونك إذن .

عاد لينتصب قائما يشرف عليهما بنظرة أخيرة لم تعرف نادية إن كانت بطيئة أم هو توترها الذي جعلها تشعر بذلك .
انخفضت يده إلى مستوى وجهها يعيد لها وثائقها و ما إن تسلمتهم من بين أصابعه حتى ضربت كفه الأخرى سقف سيارتها بقوة في إشارة لهما بالانصراف .
ابتعدت نادية تقود السيارة القديمة بحرص زائف لم يكن أبدا من طبعها .
رفعت عينيها إلى المرآة العاكسة فرأت هيأته يقف عاقدا ذراعيه على صدره و يراقب ابتعادها .
عاد ذلك الشيء يتحرك بقوة في أعماقها فوجمت ملامحها دون شعور .
- افردي وجهك قليلا حتى الرجل الغريب نطق ، تنهدت أمها و هي تقولها ثم أراحت رأسها و واصلت باسترخاء ، الحمد لله أنه كان ابن حلال .
- الرجل الغريب ، ابن الحلال كما تصفينه ، كان سيحرر لي محضر مخالفة بحجم ربع مرتبي و طبعا كان المفروض أن أبتسم له و أشكره و أتحزم و أرقص لو لزم الأمر .
- ابتسامة بسيطة و بعض التأدب في الكلام و كنت ستسلكين مثل الشعرة من العجين .
- تعرفين ماما ؟ هتفت نادية بحدة لم تتعمدها ، في مرة نفذت هذا المثل حرفيا و تعرفين ما الذي حصل ؟ حين جذبت شعرتي من العجين تقطعت .
- ذلك لأن شعرتك قاسية مثل طبعك .
- شكرا ماما ، قالت بجفاء و هي تلتفت عابسة تعاتبها بعينيها .
- العفو يا روح أمك ، ابتسمت السيدة نعمات باستفزاز لاحتداد ابنتها غير المعتاد ، و الآن انظري أمامك أو تدخليننا هذه المرة في جدار حقيقي .

استدارت نادية و هي تلوي شفتيها في انزعاج لكن شيطانها الرافض للهزيمة كان أقوى منها و وجدت نفسها تقول بتهكم لم تحاول إخفاءه :
- على فكرة يا ماما ، حضرة الضابط أكيد عرف من بطاقتي أني لست متزوجة و عرف أن السيارة ملك لبابا و هكذا أكيد استنتج أن التي ستسود ليلتها هي واحدة أخرى غيري .
يعني ببساطة لم يصدق حرفا من موّالك .
- لم تكن الفكرة أن يصدق ، ربتت السيدة نعمات على صدغها كأنها تشكر دماغها و أضافت ، الفكرة أني قلت له ما أريد و الأهم بالطريقة التي يريد .
و هو كان فعلا ابن حلال و تجاوز عنك رغم أنك مخطئة .

لم تقدر نادية أن تنكر لكن نوعا من الصراع دار داخلها جعل ملامحها ترفض التخلي عن وجومها فيما استرخت السيدة نعمات في جلستها أكثر و بتعبير مشاكس دائما يلائم ملامحها المترواحة بين طيبة و مكر لكزت نادية الشاردة و هي تقول بحروف ضاحكة :
- بنت لماذا لا تتصلين بعمتك و تخبريها أننا قادمتين للغداء عندها .
- حرام عليك يا ماما ، قالت نادية بابتسامة واسعة طردت معظم وجومها ، عمتي كبيرة و لن تحتمل صدمة كرم مفاجئة أخرى ، قهوة في أول الأسبوع و غذاء في آخره ، ارحميها من أجل القرابة التي تسري في دماءكما .
- الحمد لله أنها لم تتجاوز الدم إلى الطباع .
- الحمد لله جدا جدا جدا .
تصوري لو كنت أنت أيضا مثل بابا و أسرته !

لكزتها أمها ثانية و هي تقول :
- إذن على سبيل الشكر و الامتنان اتصلي بعمتك سعاد يا بنت و دعينا نضحك عليها قليلا .

رقص طيف ابتسامة فوق شفتي نادية قبل أن تقول و هي تشير لهاتفها الموضوع بينهما :
- لم لا تكلمينها أنت يا ماما ؟
- أنا لا أستطيع أن أمسك نفسي عن الضحك مثلك ، اتصلي يا بنت و لا تكوني عاقة .
دعينا نضحك قليلا قبل أن نعود للبيت و ينكد علي أبوك .

*********************

تأخرت !!
قفزت الكلمة كرة عملاقة تنط على سطح وعيها ، مع خفقات قلبها الموتورة ، مع أنفاسها المبتورة ليقفز جسدها مغادرا السرير المغري بدفئه الناعس ليقظة الصباح الباردة.
بعد دقائق قليلة كانت تقف بجانب السرير من جديد بعد فنجان شاي ساخن و قطعة كايك أكلتها لترحمها أمها من الموال اليومي البائس .
أنت نحيفة ، أنت شاحبة ، انظري إلى هذه ، تأملي تلك ، أرأيت الفرق ؟ إذن كلي و غذي نفسك .
كأنها إذا أكلت جيدا في هذه السن ستلحق هرمونات النمو التي غفت غفوتها الأبدية داخل جسدها .
أين كان كل ذلك الاهتمام يا أمي حين كان جسدي و نفسي يحتاجانه ؟ تمتمت بمرارة و هي تتحرك لتكمل تجهيز نفسها .
الشيء الوحيد الذي تحبه في فترة الامتحانات هو أن بؤسها الأسود يغطي كل أنواع البؤس الأخرى .
هزت رأسها تنفض عنها كل شيء ثم التفتت تبحث بتوتر حولها .
البنطلون الوردي أين هو ؟ فكرت حائرة و هي تعض طرف إصبعها الرقيق
تذكر جيدا أنها وضعته على ظهر كرسيها الدوار .
لكنه لم يكن على الظهر و لا عند الأقدام .
أين ؟ أين ؟ ظلت ترددها و هي تبحث في أركان غرفتها الضيقة .
تحت السرير ؟ كلا .
ربما تكون أعادته في مكانه في الدولاب ؟ كلا أيضا .
تأملت كومة الملابس المكدسة فوق الكرسي الآخر ، ذلك الجندي المجهول الذي يتحمل بصبر ما يفيض عن قدرة دولابها .
بحثت و فرزت و لا أثر للبنطلون الوردي .
يا ربي ماذا سأرتدي الآن ؟ سأضطر لاختراع طقم آخر من وحي اللحظة ؟
الحل الوحيد هو بنطلون جينز و فوقه أي شيء .
و لحظتها فقط و هي تمد رجلها لتدخلها في طيات القماش اكتشفت أنها تضع بالفعل بنطلونها الوردي .
- بسم الله الرحمان الرحيم ، تمتمت بذهول تخاطبه ، كيف و متى ارتديتَني ؟ !!
دارت دورة كاملة حول نفسها تبحث عن شيء ليست متأكدة من ماهيته ثم أطلقت زفير راحة : البلوزة البوردو .
بالأمس كانت قد استقطعت وقتا لا يعوض من وقت مذاكرتها لتكويها بضمير على غير عادتها لذلك حمدت الله و هي تجدها معلقة باحترام على مقبض النافذة لا محشوة كما اتفق مثل باقي أخواتها .
حشرت نصفها الأعلى فيها بسرعة و هي تلوي خصرها و أطرافها بليونة كراقصة باليه رشيقة ثم ارتفعت أصابعها لتقفل الأزرار الثلاثة العلوية التي تركتها مفتوحة .
و الآن أين ذلك الحزام الجلدي البيج المظفور ؟
أين تختبئ مني يا ...
بترت شتيمتها و هي تشعر به ذيلا يتدلى خلفها .
- يا لئيم أنت و أنت و أنت ، صرت على أسنانها و هي توجه أصابع اتهامها نحو قطع ملابسها بينما تشاهد شكلها النهائي في المرآة .

رن منبه الهاتف مرة عاشرة لتعود للدوران حول نفسها بضياع و الكلمة نفسها تعود لضربها في وجهها .
تأخرت ، تأخرت .
- إييييييييييثار ، ارتفع صوت أمها .
- قا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ا ادمة .

ربما هي تتعمد التأخر كي تنال بعض الاهتمام و لو كان على شكل صراخ .
- لا فائدة منك ، احتدت السيدة سهير في وجه ابنتها الوسطى ، حتى في أيام الامتحانات تتأخرين .

"لا فائدة منك " ، كم كانت و ما تزال الكلمة تؤثر فيها ، لم يضع منها الألم حتى بضياع سنوات العمر .
بسرعة أخفت تأثرها ، في أية حال من ذا الذي سيلاحظه ؟
بصوت خافت يتظاهر باللامبالاة ، تمتمت و هي تنحني لتضع حذاءها :
- تعلمين ماما ما الذي يقوله الفرنسيون عن التأخر ؟
يقولون التأخر هو أدب الفنانين .
- تعلمين يا ابنتي ما الذي نقوله نحن المصريون عن التأخر و المتأخرين ؟
- كلا ماما ، ابتسمت بتعاسة ناعمة للحزم في وجه أمها الناظرة لها و أضافت بهزة كتف ، لا أعلم و لا أريد أن أعلم أنا مصرية صحيح لكن الهوى فرنسي .

زفرت السيدة سهير بيأس من تعود على هكذا مهاترات ثم مدت يدا حاسمة باتجاه إيثار تضبط لها ياقة بلوزتها و تدخل خصلات نافرة من حجابها الحريري الوردي اللون .
بحركة رشيقة أعادت ضبط الدبابيس الثلاثة و هي تدير القماش الحريري الناعم حول وجه ابنتها ليتدلى الجانب المزدهي بالنقوش الغامقة على كتفها الأيمن .
لامست بشفتيها الجبين الغض و مجموعة من الأدعية بالتوفيق ترفرف فراشات رقيقة تداعب بشرة إيثار و تسافر عبر أذنيها لتغمر قلبها رغم كل شيء بدفئ مطمئن .
- شكرا ماما

همست إيثار بنعومة قبل أن تطبع قبلة خفيفة على خد أمها ثم تستدير لتحلق بها خطواتها إلى عالم ما خارج شقتهم .
سارت و معادلات كثيرة شتى تتطاير في فضاء ذهنها ، تهاجمها من كل حدب و صوب ، دون انتظار في الصف ، همجية في تقدمها و في ذات الوقت خفيفة غير ثابتة كفقاقيع تنتظر أي لمسة من الواقع لتنفجر و تختفي .
كنفير سيارة عال أو صياح بعض الباعة و هل يخلو أي طريق منهم .
تقلقلت أنفاسها داخل صدرها وهي جالسة في المقعد الخلفي لسيارة الأجرة ، حدقتاها معلقتان بنداء مترج صامت للضوء الأحمر الذي أصر على التشبث بأحقيته في البقاء .
إلى الأبد على ما يبدو .
زفرت بتوتر متزايد ثم فتحت هاتفها ، ولجت إلى صفحتها ، نقشت بعضا من كلماتها و انتظرت .
" ماما تلومني لأني تأخرت في الخروج في أول أيام امتحاناتي قلت لها من يريد التبكير و هو يتوجه إلى الجحيم ؟ "
خمسة ، سبعة ، عشرة " لايكات " و عدة وجوه مقهقهة بينما الضوء الأحمر ثابت المبدأ ، لا تقهره المتغيرات حوله ، لا صوت الأبواق المزلزلة و لا الرؤوس المطلة المتذمرة و لا شيء .
**
**
بعد ساعة .
دخلت إيثار أخيرا لجنتها بعد أن نظرت ثلاث مرات إلى الرقم المعلق على صدر الباب .
بقايا دموع مشتبكة في شرك أهدابها الطويلة تأبى الارتحال .
سارت ثقيلة الفكر و الخطوات لتتخذ مجلسها بصمت غير دارية بذاك الذي وقف في ركنه يتأملها و قد تجمد في مكانه .
منذ دقائق طويلة يقف في نفس الزواية البعيدة عن النافذة ، حدود جسده تلتهمها الظلال القاتمة ، فكره يكاد يصدأ من التجول بنظراته بملل يراقب ، يعري الغش و الغشاشين و لا يتصدى .
هكذا ظل حتى دخلت هي بتلك الرموش المبتلة المثقلة و الشفتين المنحنيتين بتعاسة رقيقة نحو الأسفل لتحدث زلزالا في نفس المكان الذي ظن يقينا أنه حصنه بجدار مُصمت من البرود و اللامبلاة .
ما الذي يحدث ؟ و كيف ؟
جاهد أكرم بقوة ليخرجها من بيت أفكاره لكن تلك القطرات المعلقة بأستار الرموش أبت إلا أن تسرق تركيزه نحوها و نحو صاحبتها .
بخطوات بطيئة تقدم نحوها .
- المفروض أن لا أقبل بدخولك إلى اللجنة الآن إلا بإذن خاص من العميد .

بصمت مطبق قامت و بدأت بإعادة قلمها إلى محفظتها ، دفعت كرسيها إلى الوراء و وقفت تنتظر ابتعاده لتخرج و تغادر .
ماشاء الله على الحماس ، تمتم في سره قبل أن يسرح صوته و يقول بفتور :
- لكني سأقوم باستثناء هذه المرة لأنك لست الوحيدة التي تأخرت .

بنفس الصمت و دون حتى كلمة شكر عادت لتجلس ، تناولت منه ورقة الامتحان و بدأت في الكتابة أعلاها .
ابتعد أكرم ببطء ليستند على الحائط مراقبا الظهور التي تواجهه .
رغما عنه زاغت نظراته نحوها ليراها معتدلة في جلستها ، جامدة الحركة .
احتار في أمرها ، تدخل متأخرة ، منهارة ، ثم تتجمد لا تحاول حتى النظر هنا أو هناك ، لا تشغل قرونها الاستشعارية كباقي زملائها .
لا يدري كيف أخذته تساؤلاته إليها ليعود و يقترب من مكانها ، توقف و هو يرى ذلك الشاب النشط الذبذبات يميل باتجاهها و يخاطبها بكلمات يظنها همسا :
- صباح الخير يا قمر لدي كل الإجابات تقريبا ، قولي فقط ما السؤال الذي صعب عليك و أنا سأتصرف و أبعث لك حله .

انقبض صدره بضيق غريب و بدأ يبتعد ليسمح بمحاولة أخرى للغش عندما سمعها تجيب الآخر بنفس درجة صوته لكن ببرود واضح و دون أن تميل نحوه كما مال هو نحوها :
- يموت الورد و لا يطلب من أحد أن يسقيه .

بُهتت أحاسيسه مرة أخرى و في اللحظة التالية لا يدري كيف وجد نفسه يقف بجوار طاولتها ، يتأمل أظافرها الخالية من أية ألوان ، شفتيها المزمومتين في سكوت جامد كأنما هجر عتباتهما الكلام ، جفنيها المسدلين بإصرار و أصابعها المرتخية بإصرار أكبر .
- اكتبي شيئا على الأقل ، تمتم بخفوت و جذعه الأعلى يميل شيئا بسيطا نحوها .
- كتبت اسمي دكتور ، همست بصوت يميل للفتور .

ضيق عينيه يفك شيفرة الحروف المضطربة ثم عاد ليتمتم :
- آثار مثل الممثلة ؟
- كلا إيثار مثل لا أحد ، قالتها بفتور واضح هذه المرة و هي تتململ في جلستها ، هل أستطيع المغادرة دكتور ؟
- لماذا جئت بالأساس ؟ همس باحتداد فجره برودها ، كان بمقدورك أن تكتفي بكتابة اسمك في بيتك دون أن تكلفي نفسك عناء المشوار .

صوته الغاضب ، نظراته الجافة ، سخريته الساطعة في وجهها ، كل ذلك كان قطرات أفاضت الكأس الفائض أصلا و دون وعي بنفسها كان وجهها يحط بين كفيها الخائنتين في إذن لمزيد من الدموع لتنهمر و تسيل ، تفضح ما فشلت أصلا في ستره .
- ما الذي حصل ؟

ربما نبراته التي لبست دفئا لا لبس فيه ، ربما شفقتها على نفسها و استخسارها لذهاب تعبها هدرا ، لا تدري أي الأسباب كان الأقوى لكنها وجدت نفسها تبوح له .
في البداية تلكأت الكلمات على شفتيها لكن حرفا فحرفا ، جملة فجملة انطلق لسانها من جموده و حكت له ، كيف وصلت متأخرة جدا إلى الكلية ، كيف دخلت اللجنة الخطأ ، كيف لم ينتبه المراقب لعدم انتمائها للجنته سوى بعد أكثر من نصف ساعة أمضتها و هي تحل الامتحان ، كيف عندما انتبه أخيرا و هو يتحقق من هويتها أخرجها من اللجنة بعد أن أخذ ورقة الامتحان منها و ألقاها في سلة المهملات .
تفوهت بآخر حروفها ثم التزمت صمتا آخر ، فيه شيء من ندم و بعض من أمل .
أما هو فاستمع لها دون أن تتغير تركيبة ملامحه ، رسمية مع شيء من الجدية .
بمجرد أن سكتت واصل تأملها بنظرة تقييمية أخيرة ثم سار بخطوات سريعة نحو الباب .
راقبته يمد رقبته قليلا خارج الغرفة ، يرفع يده يشير نحو شخص ينتظر دخوله ثم يغادر .
تأملت وجه الساعي الشاب الذي دخل قاعة الامتحان ثم وقف بتوهان يحاول أن يتصدى لرسائل الحمام الزاجل المحلقة في سماء المكان بكل جرأة بينما يجاهد ليصرخ دون إقناع و لا اقتناع بتأنيب من هنا و تحذير من هناك .
خفتت كل الأصوات فجأة فرفعت إيثار عينيها و تلقائيا عضت على شفتها و هي تراه يعود إلى الغرفة أخيرا ، يصرف الفتى التائه و يتقدم نحوها بأجمل خطوات رأتها في حياتها .
سجنت أنفاسها الثائرة داخل رئتيها و هي تراه يضع الورقة التي تحمل إجاباتها و أملها ، يفردها بأصابعه المرتبة ثم يقرب القلم من أصابعها .
رفعت عينيها ببطء لتقابل نظراته الغامضة المحيرة بينما دمعة وحيدة تسيل في امتنان وصله دون حاجة لأي كلام .
من أين نبتت له هذه الفتاة سرابا يغزو صحراء حبس نفسه فيها اختياريا ، فكر أكرم و حججه تتبخر بوقاحة بينما نظراته تعود رغما عنه إلى رأسها المحني على ورقتها المجعدة مرارا و تكرارا .

******************

ألقى نديم نظرة طويلة أخيرة مات فيها كل اهتمام على غرفة الاستقبال الشاغرة داخل عيادته الجديدة ثم تناول سلسلة مفاتيحه المكتظة ، بمفاتيح معظمها صارت غير ذات جدوى و لكن أنى للقلب أن يقبل بتركها تسقط من حلقتها و في باله طوال الوقت أبوابها التي لا يريد غلقها .
تكسرت أنفاسه داخل صدره بألم رغم جمود ملامحه و هو يقفل الباب الحالي الجديد و يبدأ بالابتعاد متثاقل الخطى متجها نحو المصعد .
مع صوت إغلاق باب عيادته كل مساء يباغته فجأة شعور حاد بعدم الجدوى التام لكل حياته .
بعدم الانتماء لشيء و لا لشخص .
حتى لنفسه .
يعقبه تلك الرغبة العنيفة بالاضمحلال حد الاختفاء .
خطا داخل المصعد دون أي اهتمام بالالتفات حوله ، حتى و الباب يفتح لم تتحرك ذرة فضول في ملامحه .
تقدمت بريهان تحمل ابتسامتها الرقيقة على وجهها ، ألقت التحية بصوت خافت على جارتيها من الطابق الثالث و الرجل الآخر الغريب لكنها لم تحظى سوى بإجابتين .
أدارت وجهها للناحية الأخرى دون أي تأثر ، التهذيب و رقي الأخلاق لم يعودا في جميع الحالات عملة رائجة .
رن الجرس لتخرج المرأتان بعد تحية وداعية قصيرة و ظلت هي برفقة الرجل السمج لطابق واحد لحسن حظها .
ما إن فتح باب المصعد حتى خرجت دون أن تعيد خطأها و تخسر سلاما آخر عليه .
شعرت بخطواته يخرج بعدها لكنها مطت شفتيها بعدم اهتمام رغم استغرابها لوجوده فلم يسبق لها رؤيته أبدا من قبل .
عند باب شقتها ، بعد أن ضغطت الزر مرتين دون استجابة من أمها التي و لابد خرجت تسلي نفسها مع إحدى الجارات ، وقفت حقيبتها الواسعة مفتوحة على آخرها تبحث و تبحث عن مفاتيحها و حين وجدتها أخيرا مدت يدها تخرجها فقفزت تلك الكرة الصغيرة كأنما بفعل فاعل .
- بسم الله الرحمان الرحيم

تمتمت باستغراب و هي تشاهدها تتدحرج و تتدحرج حتى توقفت أخيرا عند عتبة الشقة المجاورة لهم و بالتحديد عند قدمي الرجل السمج ، عرفت ذلك و هي ترفع نظراتها إلى وجهه .
انتظرت ما هو متوقع ، أن ينحني ملبيا نداء اللباقة و يناولها لها لكنه بدل ذلك أشاح بوجهه ، فتح بابه ثم أغلقه في وجهها .

**************************

**************************

نغم 07-09-19 11:59 PM

الفصل الثاني


- في مثل هذا اليوم ، تنهدت بريهان و هي تقوم من سريرها ببطء بينما الفجر لم يعلن بعد عن ميلاده .

في الحمام توضأت بمنتهى الصمت ، تخشى أن تزعج نوم أمها ، رفيقتها الوحيدة داخل الشقة الواسعة .
لذلك لم تشعل النور ، فقط اكتفت بالضوء الخافت الآتي من البهو .
بعد قليل ، داخل غرفتها ، كانت تصلي فجرها .
و طال سجودها فيه ، طال و طال حتى ليظن الرائي أنها لن تقوم .
قامت من صلاتها و اتجهت نحو النافذة ، شرعتها بهدوء و استندت بذراعيها على حافتها تتأمل السماء المعتمة في شرود .
مضت دقائق لم تشعر بطولها سوى حين رأت خيط الفجر الباهت يشق الظلام فأغمضت عينيها ببطء تعود لليلها .
ليست شغوفة أبدا بالاستيقاظ لأنها تعلم أنه سيكون أمامها يوم جديد تستوعب فيه مجددا الشكل البارد الذي أصبحت عليه حياتها .
لكن اليوم بالذات تكره بشدة أن تستيقظ فحتى اللحظة لم يتعلم قلبها التأقلم مع لحظة اليقظة المفزعة التي تتكرر كل سنة ...
في مثل هذا اليوم .
اليوم الذي افترقت فيه عن ذاتها القديمة إلى الأبد .
اليوم الذي تتأكد فيه أن حزنها لم يمت ، لم يذبل ، فقط كان كوحش مفترس يأخذ غفوة بعد أن اقتات على أيام و أشهر و سنوات من عمرها .
و الآن و تلك الورقة من الأجندة تسقط يستيقظ شرسا ، جائعا ضاريا ، ضاربا بصبرها و تجلدها عرض كل حيطان العالم .
أسدلت جفنيها و تركت العنان أخيرا لدموع مدفونة في ذلك الجرح الغائر داخل قلبها .
و دموعها تنهمر و تجري ، امتدت أناملها تكتب على صفحتها الخاصة جملة قرأتها بالأمس و وقعت روحها في أسرها لعلها توقف مؤقتا نزف جرح كجرحها لم يندمل .
" إن عوض الله اذا حلّ ، أنساك كل ما فقدت "
عادت تسدل جفنيها و تلوذ بليلها حتى سمعت هاتفها يرن بإشعار جديد ففتحت عينيها تتفحصه .
" الحياة وإن مالت، تستقيم بـمن نحب " هكذا أتاها رد نادية يسابق رياح الود التي بينهما .
نادية هي عوض ، عوض جميل من الله .
نادية المخلصة ، الكريمة ، الأصيلة في زمن قلة الأصل .
رفيقة درب الطفولة و صديقة الهم و الشباب .
كم تتمنى أن يبتعد العالم الخارجي هاربا و لو للحظات تنغلق عليهما فيها أبواب ذلك الماضي الساحر السعيد .
**
**

بعد ساعات بدت كأنها أبد و هي تغير ملابسها و ترتدي نفس ذلك القميص القديم الذي تكدس زاد أنوثتها ليجعله ضاغطا ضيقا تختنق منحنياتها تحته لكن مع ذلك عليها أن تضعه فلن تكتمل حفلة الشوق بدونه .
خرجت إلى البهو المتوسط الحجم و حانت منها التفاتة أو ربما سرقت منها نظرة إلى الطاولة العريقة الضخمة في قاعة الطعام و التي أصرت أمها أن تحتفظ بها كأنها ترفض أن تودع حياتها السابقة وداعا نهائيا .
كانت طاولة ذات ست كراسي ، اثنان فقط مازالا قيد الاستعمال ، أحدهما تشغله هي و الآخر أمها و اثنان رحل عنهما صاحباهما ، شقيقها و شقيقتها الأكبر منها ، إلى كراسي مختلفة حول سفرتين أخرتين .
و آخر كرسيين هما من فئة تلك الكراسي الشاغرة إلى الأبد ، تلك الكراسي داخل زوايا الروح التي لن يسمح باحتلال غيرهم لها .
أبوها و شقيقها الأكبر .
أغمضت عينيها بألم ، فتحتهما لتصطدم بالجدران الشاحبة الطلاء ، كل منها مرآة تكاد ترى في انعكاسها جزءًا من صورة ، طيف ضحكة بعيدة ، نكتة ألقيت بعفوية ، كلمات نصح و إرشاد .
صور كثيرة ، صور ثابتة يد المشاعر تحركها ، ترتب تبعثرها كأنها قطع بازل صغيرة لتصبح حياة ، حياة سابقة .
حياة لن تعود .
و هي أكثر من يعرف ذلك لكن كيف تعلم قلبها العنيد أن يتعود عليه .

**
**

بعد ساعتي سفر في مركبة الدرجة الأولى من القطار المبكر باتجاه مدينتهم الساحلية التي غادروها لكنها لم تغادرهم ، جلست بريهان في نفس البقعة من نفس الشاطئ ، مكان اللقاء الفراق .
تلفتت حولها تتأكد من خلو الفضاء حولها ثم بلطف فكت أسر خصلاتها من وشاحها القطني العريض و تخلصت من بلوزتها .
شعرها تطاير بعبث يلهو متمردا مع الريح ، زرقة عينيها غرقت في الخضرة الزمردية للبحر الممتد أمامها ، تتأمله كيف يعانق أمواجه الراحلة .
لم يكن لها هذا الترف أبدا ، لم يسمح لها الزمن بمعانقة موجه قبل رحيله .
- أتعرف أنك محظوظ جدا لؤي ، رحلت قبل الجميع ، قبل أن تعلمك الدنيا كيف يكون وجع الوداع .

انحنت رقبتها و أطرقت برأسها أرضا بينما تثقل عيناها بالدموع مرة أخرى .
- صدقني لم تكن لتفتقد أي شيء ، همست باختناق و شفتاها ترتجفان ، خصوصا أنا لأني جامدة في نفس تلك اللحظة .
تلك اللحظة التي فقدتك لؤي و فقدتني فيها .

تنفست بعمق و أغمضت عينيها ، خصلاتها كانت ما تزال تتراقص بحرية حول وجهها ، من حين لآخر تشعر بمداعبة أطرافها الناعمة لبشرة وجهها معيدة آثار لمسة أخرى مشابهة في رقتها .
شفتاه الرجوليتان تحطان للحظة كخطف البصر على خدها ثم تتراجعان و داخل عينيه تنحسر نظرة مشتعلة ليحل محلها ندم عميق .
في نفس هذا المكان حيث تجلس الآن ، كانا قد توقفا ، قريبين جدا من بعضهما البعض ، يتبادلان نظرات جانبية مسروقة و بسمة متلاعبة على الشفاه تكشفهما أمام نفسيهما .
ثم كانت تلك القبلة السريعة ثم كان ذلك الندم الأسرع ثم كانت تلك الهمسات ، عميقة دافئة ، سكنت بين نبضاتها و لم ترحل :
- لم أستطع مقاومة الورد على خدك ، أنا آسف .
آسف ، آسف ، آسف

لم تعُدّ كم مرة كررها .
لكن قلبها عدَّ تلك القبلات الأخرى .
عندما انحنى يقبل طرف قميصها هذا الذي ترتديه الآن .
خمس قبلات ملهوفة ثم شبك أصابعه الدافئة بأصابعها المتجمدة و سحبها وراءه و لم يعدها لنفسها أبدا .
ابتسامة ألم تمايلت على شفتيها لمشهد آخر ، عصفورا مغردا ، حط على سور ذكرياتها .
تلك المرة عندما أرته أول صورة رسمتها له من وحي الذاكرة .
- أبدو أجمل داخل لوحتك ، همس و عيناه كالعادة تضحكان لها ، ضحكة خاصة بها وحدها .
- هكذا أراك ، بصدق أجابته .

و هو اكتفى بأحبك ، من روحه نطقها.

قيلت لها بعده من آخرين لكنها كانت قد توقفت عن الشعور بها كأن عاطفتها أصيبت بالزكام .
ببطء وقفت تنفض عن تنورتها الطويلة ذرات الرمال الناعمة ثم ارتفعت يداها تعيدان الخصلات الشاردة إلى حضن وشاحها السماوي .
بدأت تمشي متمهلة الخطوات ، تستدير للخلف كل بضع لحظات ، عيناها تلمحان صورا خاطفة لهما معا هي و هو و أُذناها تلتقطان صدى ضحكاته لها مختلطة برنة همساته الحنونة و هو يبثها حبه ، يغرقها بشغفه في ذلك اليوم الأخير .
لم يكف هو و لم تمل هي كأنه كان يعرف أنه آخر حديث بينهما فاختار أن تكون كلماته من قاموس الحب و لا شيء سواه .
- الحقيني ما دمت أحبك ، التفت يومها يستعجلها بينما هي تمشي سكرانة بتأثير حبه و اعترافاته .
لا أضمن قلبي في الثانية التالية .

تخصرت له هي وقتها و هي تقول بنزق فتاة العشرين التي كانتها :
- من يريدني يأتي لعندي ، أنا لا ألحق بأحد .
- يا قاسية ، أنا " أحد " عندك .

شفتاها اللتان التصقتا وقتها بتردد خجول تباعدتا الآن تجيبانه كما لم تقدر يومها :
- أنت كل الناس .

تابعت بريهان سيرها المبتعد ، هاجرة آثارا يطبعها حذائها الأبيض على سجاد الرمال الدافئة .
بعد دقائق و قدمها تودع نعومة الرمال و تحط على الممشى الحجري الضيق المؤدي للشاطئ ، التفتت و الوجع يعصر قلبها لتتفتت همستها الأخيرة بين هدير الأمواج التي ابتلعته منذ سنوات :
- اشتقت لك حبيبي .
لؤي آآآه يا لؤي .

**
**

بعد نصف ساعة من المشي السريع ، أوصلتها خطواتها إلى بيت أخيها الأوسط .
اليوم يصادف يوم نهاية الأسبوع لذلك ستمر عليه .
بيت أخيها هو في واقع الأمر بيت العائلة لكن بعد وفاة شقيقها الأكبر تنازلت هي و شقيقتها له عن أغلب حقهما فيه مقابل تنازله هو عن نصيبه في شقتهم بالعاصمة ، لم تكن صفقة عادلة بمقاييس الدنيا .
لكن فاجعة فقد أخيها الأكبر علمتهم جميعا أن الدنيا ما هي إلا موجة غادرة مهما علت بك سترميك يوما على شاطئ الفناء .
و رغم أن أفواه الناس كثيرا ما تهامست و علت باللوم لهن ، هي و أختها و أمها ، بعد أن وقعن على عقد التنازل و كيف يتركن امرأة غريبة ترتع و تتربع على عرش كن هن ملكاته لكن أيا منهن لم تندم فماذا يساوي التنازل عن بضع أمتار من أرض في سبيل إراحة شقيقها الوحيد المتبقي خاصة بعد أن اختار هو وقتها أن لا يرحل من هواء مدينتهم البحرية إلى اختناق العاصمة بينما فضلت والدتها سند الأخ بعد فقدها لسند الزوج و الابن البكر .
أما هي شخصيا فلم يشكل الأمر لها أي فارق ، هنا أو هناك ؟
كلها غربة ، كلها لجوء مادام القلب الذي كان يحتويك غادرك .
هزت بريهان رأسها و هي تتنهد بعمق ، أولجت المفتاح داخل قفل الباب الخارجي لهذا البيت الذي كان منزلهم و الذي حوله تتابع السنوات و تغير الماديات من فيلا كلاسيكية أنيقة بطابق واحد إلى عمارة حديثة مؤلمة للنظر من طوابق ثلاث .
نظرت إلى الساعة الفضية الناعمة التي تعانق معصمها فتزيده رقة .
العقا رب الدقيقة تشير إلى الساعة الثامنة .
هل الوقت مناسب لتطرق الباب على أخيها و زوجته في صباح يوم عطلة ؟
أكيد الجواب لا و كلا و كل أدوات النفي .
لذلك توجهت بآلية إلى الاستديو الصغير الذي ظل ملكهن و الذي قامت والدتها ببناءه بجزء من أموالها الخاصة من أجلها هي و ابنتيها كي تجدن راحتهن متى أردن الهروب من ضوضاء العاصمة .
فتحت الباب الخشبي اللامع ثم توجهت فورا إلى غرفة النوم الوحيدة و ألقت بجسدها على السرير المزدوج فربما حين تنام ينام معها بعض الألم .
في الساعة العاشرة كانت أمام المبنى الرئيسي تطرق باب الطابق الأرضي الذي اختار شقيقها سامر أن يقطنه و يؤجر الطابقين الذين يعتليانه .
مدت يدها لتطرق ثانية لكنها توقفت في الهواء و هي تسمع الصوت المألوف للأقدام الصغيرة تتراكضان لفتح الباب رغم تنبيه أمهما المتكرر لهما بترك هذه المهمة للكبار .
لكن سما و لمى كان لهما رأي آخر طبعا .
في هذا الأمر كما في كل أمر آخر .
انحنت أرضا و هي تسمع صوت توقفهما يفصل بينها و بينهما الباب العريض السميك لكن ليس بما يكفي لتسمع اللغط المعتاد : سما الكبرى تشد شعر لمى ، لمى تفتح حلقها على آخره في سيمفونية بكاء أكيد أيقظت الحي بأكمله من سباته .
- أنا التي أفتح الباب ، في المرة القادمة احترمي نفسك حتى لا أضربك ، كان هذه نبرة سما التي يفوق حزمها بكثير سنوات عمرها السابعة .
- عا ا ا ا ا ا....ا ا ا ا ، كان هذا رد لمى المألوف .

فتحت بريهان حقيبتها بسرعة و اتجهت أناملها للجيب الأوسط و ما إن فتح الباب حتى كانت قطعة الشوكولاتة تدس بنجاح داخل الفم الباكي .
- عمتو ، هتفت سما و هي تلقي بجسدها الضئيل داخل أحضانها الجاهزة .
- عم..هم..يم ..تو ، نجحت لمى أخيرا في تقليد أختها الكبرى و هي ترمي جسدها مع شعرها المنفوش على أحدث صيحات الموضة في ما تبقى من حضنها .

أغمضت بريهان عينيها تبتسم بحنان و صور من الماضي تصبغ لحظتها الحاضرة بألوان الحنين لتشعر كأنها لم تكبر يوما واحدا ، كأنها فقط تحولت من جسد المحضون إلى جسد الحاضن .
- صباح الخير ، أيقضها صوت نهلة زوجة أخيها من نشوة حنينها لترفع عينيها و تقابل ذلك المزيج الغريب من الترحيب و الغيرة في نظراتها المتفحصة لها .
- صباح النور ، تمتمت بريهان و هي تقف لتشرف عليها يساعدها في ذلك فرق الطول بينهما .

أحيانا و هي ترى و تشعر بتلك الموجات الباردة المنبعثة من هذه التي اختارها أخوها تكاد تشعر بالندم لإمضاءها في ذلك اليوم البعيد لكنها تعود و تتذكر أنها … دنيا فتهز كتفيها في كل مرة باستخفاف كما فعلت اللحظة و هي تتقدم لتجلس على الأريكة براحة و تسأل عن أحوال أخيها.
- الحمد لله ، جميعنا بخير و خالتي كيف حالها ؟

" خالتي " هكذا كانت تنادي والدتها رغم كل ما فعلته من أجلها لكن يبدو أنه لم يكن كافيا لتناديها " ماما " كما تفعل الكثير من زوجات الأبناء .
عندما تشاهد هكذا علاقات بين أفراد العائلة الواحدة يزيد نفورها من فكرة الزواج و تعاف روحها توديع علاقة بصفاء و رقي السماء لتقحم نفسها في ارتباط كطين الأرض ، قاتم ثقيل و لزج .
- ماما بخير ، ردت باختصار قبل أن تقف فجأة غير راغبة بالبقاء أكثر ، أين سامر ؟ أريد أن أسلم عليه لأني سأغادر في قطار الحادية عشر .
- آه ! رفعت الأخرى حاجبيها ، كنت أظن أنك ستبقين للغذاء .

هل كانت تلك خيبة حقيقية ما سمعته في نبرة صوتها أم نوعا من الكذب المجامل ؟
لم تهتم و لم تكلف نفسها بالتدقيق أكثر ، بدل ذلك اكتفت بالابتسام بهدوء و هي تقول :
- في المرة القادمة إن شاء الله و أنتم طبعا لا تحتاجون دعوة لتأتوا لزيارتنا متى شئتم .

صمتت لتبتسم بصدق هذه المرة بينما يصلها صوت تثاؤب شقيقها العميق العالي ، عادت بأنظارها إلى وجه زوجة أخيها لتتمتم و البسمة مازالت تعانق شفتيها :
- هل تسمحين لي بأخذ البنتين معي ؟
تمضيان معنا اليوم و يعيدهما سامر معه عندما يأتي لزيارة ماما في الغد .

التعابير التي ارتسمت الآن على وجه زوجة أخيها صارت فجأة مشرقة كشمس نفضت عنها غيومها بقوة .
- سما و لمى اسبقاني إلى غرفتكما ، علا صوتها منطلقا بارتياح ، سأجهزكما بسرعة لتسافرا مع "عمتو " .

الأمومة تتجلى في أبهى صورها ، فكرت بريهان و هي تكون رقم والدتها لتتصل بها ، هكذا هي الحياة و هكذا هم البشر .
يركضون وراء حلم ثم حين يصبح واقعا يصير قيدا .
فليتركوها إذن تنعم بحرية حلم لم يتحقق و ليعيشوا هم سجن الواقع الذي سعوا إليه .

*********

نغم 08-09-19 12:03 AM

الفصل الثالث


بعد خمس ساعات ، في شقتهم بالعاصمة .
تركت سما البلكونة عائدة للصالون الرحب ، جلست على الأريكة تأرجح ساقيها ، عيناها مستقرتان على شاشة التلفزيون العريضة ، أطلقت تنهدا عميقا أصيلا ثم قالت بامتعاض :
- أشعر بالملل ، لا يوجد شيء لأفعله .

كان هذا بعد رحلة مرفهة في القطار و بعد ساعتين من التجول بين الملاهي و متاجر لعب الأطفال .
- فعلنا كل ما نقدر على فعله ، قالت بريهان بهدوء بينما تناظرها بتسلية و هي تدور و تبرطم كعكجوز غير راضية ، أخبريني الآن ما الذي يسعد سموك ؟

حينها فقط عاد شيء من الطفولة ليسكن نظرات ابنة أخيها و هي تقول لها بتملق :
- أعطني هاتفك أو لوحتك الرقمية لألعب .
- و لن تملي ؟
- حين أمل سأشاهد شيئا ما .
- و أنا أيضا أريد هاتفك " عمتو " .

رفعت بريهان يديها تشير إليهما بالاقتراب ، أجلستهما فوق حجرها ، غمرتهما بالأحضان و القبلات ثم همست بتشويق :
- ما رأيكما أن نلعب لعبة الوسائد ؟
- فيما بعد ، قررت سما بكل حزم ، تلك لعبة ما قبل النوم .
- نعم لعبة ما قبل النوم ، كررت الببغاء الأخرى .
- طبعا ، حضرتكما الأدرى

إزاء نظرة الغضب التي بدأت تحمر لهما الأعين الصغيرة ، رفعت بريهان كفيها تقول بصوت مهادن :
- ما رأي الأميرتين في حكاية جميلة للأطفال ؟

دارت عينا الكبرى في محجريهما و عادت للجلوس مكتفة ذراعيها على صدرها بينما حاولت الصغرى القيام بنفس الدورة ثلاث مرات بفشل ساحق فاكتفت بالجلوس بقوة بنفس تكتيف الذراعين .
" سلام قولا من رب رحيم " ، تمتمت بريهان بخفوت و عيناها تتنقلان بين الغيوم المتلبدة على الملامح الطفولية .
رفعت أمها الجالسة على مقعد منفرد عينيها عن كتاب الطبخ الذي كانت تتظاهر بتصفحه و أطلقت تنهيدة طويلة كموال يمهد لأغنية تعلم بريهان بحكم حفظها لوالدتها كيف ستكون لذلك بابتسامة ناعمة حولت عينيها لملامح أمها المتحفزة .
لم تفلت الأخيرة الفرصة فوضعت الكتاب على الطاولة المجاورة لها بقوة كأنها تخبطه ثم قالت هي تحول نظراتها بين ثلاتهن :
- أعطيهما هاتفك بريهان .

بعد لحظات قصيرة كانت الطفلتان قد تاهتا تماما عن عالم الدنيا ، تأملت السيدة جلنار النظرة المركزة المستغرقة داخل عينيهما ثم قربت مقعدها من طرف الأريكة حيث تجلس بريهان و بدأت تقول بخفوت :
- و الله يا ابنتي عندما أرى طولة بالك مع الأطفال سواء كانوا أبناء إخوتك أم التابعين للدار قلبي ينقهر عليك .
أليس الأولى بحنانك و صبرك طفل من رحمك ؟

استمرت بريهان تنظر نحوها دون كلام فأضافت أمها بسخط :
- و أنت بالذات لا تقولي النصيب ، النصيب يأتي إليك طوال الوقت لكنك ترفضين بعند و دون أسباب .
في هذه اللحظة و أنا أراك أمامي و أحس بقلبي كم تتوقين أن تكوني أما أريد أن أعرف حتى متى ستستمرين بالرفض ؟
- حتى أجد من يقنعني ماما ، تمتمت بكل هدوء و يدها تمتد لمداعبة شعر ابنة أخيها الصغرى .
- بيري حبيبتي ، غيرت أمها طريقتها و عادت تقول بصوت لانت نبراته ، شريف ابن خالك لا ينقصه شيء ، اتركي له فقط الفرصة و هو سيعرف كيف يقنعك .
- ماما ، سبق و أخبرتك : شريف لا .
برقت عينا أمها و نظرت ثانية نحو حفيدتيها ثم قالت و هي تحافظ بصعوبة على انخفاض درجة صوتها :
- لكنك لم تبد أي أسباب ، أقنعيني على الأقل لماذا ترفضينه و هو يحبك كل هذا الحب ؟
أقنعيني حتى أقنعه و أقنع أخي معه .

أحنت بريهان رأسها فمال شعرها مع حركتها و انسدل يخفي نصف وجهها الفاتر التعابير .
هذا هو حالها كلما تأتي سيرة شريف ، ينتابها فتور غريب و تنكمش عواطفها كأنما لفحتها نسمة باردة .
رفعت وجهها تنظر إلى لمعان الترقب داخل عيني أمها ثم قالت بنبرات واضحة متمهلة حتى يصل المعنى هذه المرة دون التباس :
- ماما أنا لا أحب شريف ، أحترمه كرجل نعم ، أحمل له مشاعر جميلة كونه ابن خالي نعم لكني لا أحبه و لن أفعل ، أبعدت شعرها عن وجهها و أضافت ، و ليست مشكلتي معه تتمثل فقط في غياب الحب ، مشكلتي الأكبر معه أنه كلما اقترب أنا أبتعد ، هو يشعر بي جدا و بالمقابل أنا منعدمة الشعور به و هذا يجعل من المستحيل أن ينجح أي شيء بيننا .

وقفت السيدة جلنار ، أشارت لحفيدتيها بإفساح المجال لها قليلا ثم جلست شبه ملتصقة بابنتها ، تأملت جانب وجهها قليلا و تحسرت على فتنتها الباردة التي سيضيع أريجها فهي لا تسمح لرجل بالاقتراب حتى تفتح ورد أنوثتها له .
مدت يدها تلامس شعرها الغامق الكثيف الذي ورثته عن أبيها كما كثير من طباعه أهمها الحنان و العند ، برقة جلبته ذكراه همست :
- و أنت تريدين الشعور به حبيبتي ؟

حدقت بريهان أمامها لحظات طويلة ثم بالكاد افترت شفتاها و هي تتمتم :
- كلا بصراحة لا أريد و لا أعرف إن كان هو السبب أم أنا لكن في جميع الحالات شريف يستحق من تريده ، لا من تغصب نفسها عليه .

تنهدت أمها بعمق بينما تظاهرت هي بمتابعة ما تشاهده ابنتي أخيها حتى تنهي نقاشا لطالما كان ثقيلا على قلبها .
أختها الأكبر نرمين تلح عليها أيضا لتقبل بشريف ، تقول لها طوال الوقت أنها بعد الزواج ستندمج معه و السبب هو ما سيحصل في العلاقة الزوجية بينهما .
طبعا أختها لم تتكلم معها في تفاصيل لكنها أفهمتها أن الجانب الحميمي في الزواج يغير كيان أي امرأة مهما تظاهرت بالعكس و أنه أحيانا يكون أهم من الحب .
ربما يكون الأمر صحيحا فهي لم تجرب كي تحكم لكنها رغم ذلك لن تخوض تجربة الزواج بشريف لأنها فعلا تعجز عن الشعور به قلبا و جسدا .
هي شبه متأكدة أنها لو تزوجته هو أو سواه فسيعرف كيف يجعلها تستجيب بجسدها لكنها ترفض أن تدخل علاقة حيث للغريزة كلمتها العليا و يطوي القلب نفسه بما يحتويه في خضوع لشهوات جسد فان .
ستحتقر نفسها جدا إن فعلت ، خاصة بعد كل ما عاشته مع لؤي .
لذلك لن تتزوج حتى يتحرك احيتاجها الخاص و ليس فقط لتلبي حاجة الطرف المقابل .
- أعطيني الهاتف سما ، قالت فجأة بعد صمت طويل و هي تمد يدها بالتزامن مع وقوفها أمامهما .

بنفس الصمت الرافض المتحفز ارتفع الرأس الأول و تبعه الرأس الثاني ، نفس الوضعية ، نفس الزواية حتى نفس نوعية النظرة .
تعالت ضحكتها ثم قالت تهادنهما :
- لدي الحل الأفضل لقتل الملل .

أخذت هاتفها ثم أمسكت بيديهما الصغيرتين بين يديها و بدأت تجرهما وراءها إلى المطبخ بينما تقول بحماس :
- سنقوم بصنع كيكة كبيرة ضخمة و سأسمح لكما بتزينينها و نقشها كما تشاءَان .
- ستكون هناك شموع ؟ قالت سما بعبوس .
- شموع و ألعاب نارية و قنابل و كل ما تريدينه سموك .

**
**

كان قد مضى عليهن حوالي ساعة حين دخلت والدتها المطبخ ملامحها تنطق قلقا قبل شفتيها و هي تقول :
- سنيّة عادت .
جعدت بريهان ما بين حاجبيها الرقيقين و متى كانت عودة سنيّة مشكلة ؟
- لماذا لم تناديها لتدخل معنا المطبخ ماما ؟
التفتت السيدة جلنار بقلق إلى ما وراء كتفيها ثم قالت بصوت تهاوى إلى درجة الهمس :
- من الأفضل أن تذهبي و تنظري إليها بنفسك .

نفضت بريهان يديها من بقايا الدقيق ، ألقت نظرة حنونة على الطفلتين و هما تتصارعان على وعاء الشكولاطة الذائبة من تأخذه كي تشوه به وجه الكعكة المسكينة أكثر .
- الشكولاطة مازالت ساخنة ماما انتبهي لهما حتى لا تلعقاها فيحترق لسان ..
- حاضر بيري ، قاطعتها أمها بشبه حدة ، فقط اذهبي و انظري إلى البنت .

توجهت بخطى سريعة نحو الصالون حيث من المفترض كانت تجلس سنيه كما أخبرتها أمها لكنها لم تكن هناك .
غريب ، هل غادرت بهذه السرعة .
المغادرة فجأة هو طبع في سنية و لكن ليس قبل أن تسلم عليها و الأهم ليس قبل أن تنام ليلة عندهم على الأقل .
ليلة تمثل فيها على نفسها أن لديها سقف يؤويها ، أنها مرغوبة ، مطلوبة و مدللة ، هذا ما كانت سنية تأتي لتبحث عنه لديهم قبل أن تعود في كل مرة للاختفاء و ترجع للعالم الوحيد الذي عرفته و حفظت قوانينه : الشارع .
كانت تتوجه مع تساؤلاتها نحو باب الشقة لتحاول اللحاق بها حين أوقفتها تلك الآهة المكسورة .
التفتت بسرعة لينعكس داخل عدستيها المتسعتين مشهد جسد الفتاة المتصلب بتشنج على الأرض بعد أن وقعت أثناء قدومها من جهة الحمام .
احتارت بريهان أين تستقر بنظراتها ، على ملامح الأخرى المشبعة بعذاب باك أم على تلك الشكوى الخرساء و التي هذه المرة لم تكتف بالسكن داخل خواء عينيها بل و تجلت في التواء شفتيها الصاخب الصارخ بكلمات لم تغادر حلقها .
- سنية ، همست تتألم لألمها ، ما الذي حصل لك حبيبتي ؟
- لا تلمسيها ، جمَّدت كلمات أمها و النبرة الصارمة التي نطقتها بها يدها في الهواء .

التفتت تتساءل و ذراعها تعود إلى جانب جسدها ببطء متردد .
- ألق نظرة على بشرتها .

و حينها فقط لاحظت بريهان تلك الحبوب الحمراء التي يلتهب بها جلد الفتاة .
- تصرفي معها بيري ، تمتمت والدتها و هي تشيح بوجهها ، لا أستطيع أن أستقبلها داخل بيتي و هي بهذا الشكل
ابنتي أخيك عندنا و هما أصلا مناعتهما ضعيفة و البنت ..

توقفت عن الكلام و هي ترفع يدها بحركة وضعت فيها كل ما لم تستطع قوله : القرف ، الاشمئزاز ، الرفض .
- تعالي معي سنية ، تمتمت بريهان و هي تتلافى نظرات الطفلة المراهقة ، كأنها تريد الاعتذار لها نيابة عن كل هذا العالم الذي وحده بوحوشه أوصلها إلى ما تردت إليه : كلبة شريدة يطردها الجميع .
- إلى أين ؟
- سأتصرف ماما .
- ستعيدينها إلى الملجأ ؟
- ليس قبل أن أعرضها على دكتور .
*
*
بعد دقائق ،
زفر نديم و هو يقطع مكالمته مع حماته ليلتفت إلى السكرتيرة و هي تدخل عليه باضطراب تلونت به خطواتها و ملامحها .
رمقها بنظرة جليدية أوقفتها عن التقدم لكن لم توقفها عن الكلام .
- دكتور هناك حالة مستعجلة .
- آنسة ... ، توقف محاولا تذكر اسمها لكن حروفه طارت و تبخرت من ذاكرته .
- صفاء ، تمتمت بتردد .
- آنسة صفاء كم مرة قلت لك أني لا أستقبل حالات مستعجلة ، أولا عيادتي لم يكتمل تجهيزها بعد ، ثانيا المستشفى على بعد مائتي متر .
- لكن دكتور ، الحالة .. أقصد الطفلة تتألم ، ربما نستطيع إعطاءها مسكنا على الأقل .
- أدخليها غرفة الكشف ، علا صوته ببرود و هو يصرفها بيده .

تناهى إلى سمعه صوت باب غرفة الكشف يفتح و يغلق ثم بعض همهمات غامضة ، زفر مرة أخرى ثم قام بتثاقل يتجه نحو الباب الفاصل .
و في مدخله وقف قليلا يستند على الإطار محاولا السيطرة على تلك الرجفة اللاإرادية التي تتملكه دائما و هو في أقل حالاته استعدادا لها .
ألقى تحية خافتة على الطفلة و مرافقتها ذات الوجه المألوف ثم أشار لها بيده اليسرى التي توقف ارتجافها إلى سرير الكشف .
الدقائق التي تلت اشترك ثلاثتهم خلالها صمتا تاما .
صمته كالعادة كان جافا خاويا ، أبيض و أسود خاليا من أي لون من ألوان العاطفة ، الطفلة تتألم بحق لكن قلبه صار عاجزا حتى عن الشفقة .
و في جميع الحالات ما الذي ستفعله هي بشفقته ؟ على الأرجح نفس ما فعله هو بشفقة الناس .
الشفقة هي عبء لكن العملية هي الحل ، فكر عابسا و هو يتنفس بعمق ليخفي تلك الرعشة التي عادت لتتلبس يده اليمنى .
أسند كفه المهتزة على حاجز السرير و واصل تفحص الجسد الضئيل بيد واحدة .
- أريني ظهرك الآن .

استدارت الطفلة ببطء و عاد لرفع يده اليسرى ليكمل تفحص ذلك الطفح الغريب الذي انتشر على كامل نصفها الأعلى . امتدت أصابعه تبعد خصلاتها القصيرة المبتلة ليفتش عن آثار ما يظنه فطرا في فروة رأسها و فعلا وجده لكنه وجد معه بعض الصئبان متعلقا في خيوط شعرها .
بنفور لم يحاول إخفاءه تراجعت يده بسرعة إلى الخلف ، نزع قفازه بعنف ثم استبدله بآخر قبل أن يستدير نحوهما و يبدأ أخيرا بأكثر شيء يكرهه ، الكلام مع الآخرين .
تجاهل الشابة و توجه بالحديث إلى الطفلة .
- لديها مشكلة في النطق و الفهم لذلك لو تسمح اسألني أنا .

دون أن يغير اتجاه نظراته تدفق سيل أسئلته مسرعا و مقتضبا .
- متى بدأ الطفح ؟ هل لديها حساسية من أي نوع من أنواع الأدوية ؟ أين يتمركز لديها الألم بالضبط و هل هناك أعراض أخرى مع الطفح قيئ ، إسهال ، ارتفاع في الحرارة ؟

الثواني التالية ظل جامدا مكانه و هو يستمع لأغرب حوار سمعه في حياته ، هو الذي ظن أن قدره علمه أن لا يستغرب أبدا ، أن لا يهتم و أن لا يشعر بأي شيء يجد نفسه مازال قادرا على الاستغراب و على الشعور بلمحة فضول .
كانت الطفلة تبدو كأنها تتكلم غير أن ما يصدر من فمها لم تكن كلمات ، كانت همهمة تعلو و تهبط مع بعض الحروف المتآكلة و رغم ذلك ، رغم ذلك كانت الفتاة تفهمها ، تسألها و تستمع إلى حشرجتها بتركيز ثم تجيبه عن أسئلته بهدوء.
لم يلبث أن عاد جموده ليطغى إليه و يهزم استغرابه اللحظي .
فليذهب كل شيء إلى الجحيم ، لم يعد يبالي .
انتظر حوارهما المعوق حتى انتهى ثم أشار بيده إلى غرفة مكتبه ، تركهما تسبقانه و في طريقه وراءهما نزع قفازاته و رماها في سلة المهملات بضجر .
وقف وراء مكتبه ، مزق ورقة من دفتر الكشف ثم بدأ يخط تلك الرموز الغريبة التي كان من الممكن أن تكون حروفا مفهومة لكنها اختارت أن تكون لغة غامضة ترمز لطبقتهم السامية .
هذا ما كانت بريهان تفكر فيه و هي تستمع لنبرات صوته الروبوتية .
- بما أنها لم تدخل عيادة دكتور أبدا من قبل كما أخبرتني و لم تتناول أية أدوية لذلك يتبقى لدينا احتمال أنها مصابة بفطريات وبائية أو فطريات طارئة .
أستبعد الفطريات الوبائية لأنه لا توجد الأعراض العادية المصاحبة لها .
حسب رأيي الأولي ، الاحتمال الأرجح أن الطفلة تناولت طعاما فاسدا خاصة و هي تعاني من ذلك الالتهاب في فم معدتها .
- هل تناولت شيئا لا يصلح للأكل حبيبتي ؟ قاطع الصوت الناعم انسياب كلماته و أفكاره فارتفعت عيناه بنظرة مستهجنة .

لكن الشابة هدف تلك النظرة لم يكن هو هدف مبالاتها .
بدل ذلك كانت نظراتها مثقلة هما و اهتماما و هي تميل بجسدها نحو الطفلة الجالسة مقابلة لها يفصل بينهما و بينه مكتبه الخشبي الأبيض اللون .
دون أن تلتفت له سمع صوتها الناعم يرتفع مجددا بعد بضع همهمات غامضة أخرى من الطفلة .
- تناولت علبة زبادي منتفخة وجدتها على مقعد انتظار في محطة الحافلات .
- اممم ، تمتم بآلية و هو يواصل كتابة آخر سطر في الوصفة الطبية .
- تفضلي ، مد يده إليها بها دون رفع عينيه .
- و مبلغ الكشف دكتور ؟

راقبته يلقي نظرة شاملة على تفاصيل الطفلة ثم انتقل باهتمامه إلى الشاشة .
- لا بأس .
- و لكن ..
- قلت لا بأس ، قاطعها بجفاف و هو يستند بكفه أكثر على سطح المكتب و يشير لها بيده الأخرى نحو باب الخروج .

فتحت بريهان شفتيها لتنطق كلمة ما تعيد له بها شيئا من الذوق الذي يبدو أنه تاه منه في مرحلة ما لكن تأوها آخر من سنية أوقفها .
قامت ببطء متعمد و سارت ببطء أكبر و انحنت في الأثناء على سنية تسوي لها ياقة قميصها و ترتب لها خصلات شعرها بكل تمهل .
و لم تنس أن تغلق الباب بصفقة لتعبر له عن رأيها المستصغر له و لأمثاله .
ظل لحظات يحدق في الباب الموصد و هو يعرف أنه اكتسب كارها آخر لشخصه لكن ما الذي قد يهمه في ازدياد عدد قطيع الكارهين واحد مادام هو أولهم و أشدهم كرها و بغضا .
ببطء جلس وراء مكتبه ، ضغط زر السماعة الداخلية ثم قال ببرود :
- كم حالة لديك الآن ؟
- أربعة دكتور .
- لا تستقبلي مزيدا من الحالات .
- حا...

لكنها قطعت بقية الكلمة و هي تسمع الصوت المميز لإنهاء المكالمة .
رمتها بريهان بنظرة متعاطفة و هي تتمتم في سرها بينما تحضن كف سنية و تسحبها خارجا معها .
- سامحك الله يا ماما ، لم تجدي غير هذا السمج كي تدليني عليه .
سمج خرب القلب و الروح .

توقفت تربت بلطف على رأس سنية ثم أضافت رغما عنها :
- لكن على الأقل صاحي الضمير .

ترى ما الذي فعلته به الدنيا ؟ همست بها دواخلها و هي تواصل المضي في طريقها .


***************

نغم 08-09-19 12:07 AM

الفصل الرابع


بين موجات ذلك اللحن الشرقي الراقص تمايل خصر نادية يمينا و شمالا يخوض بنعومة بحرا دافئا وهميا ، يرتفع مرة ، ينخفض أخرى .
تهتز له و معه باقي منحنيات جسدها كأنها تؤازه و تؤيده ، تكشف عن تفاصيل محرمة عن غير عيني صاحبتهن .
و صاحبتهن شابة صغيرة ، جميلة و حلوة و من حقها أن تحلم و أن تتغنج .
هكذا حدثت نادية نفسها و هي ترفع ذراعيها فوق رأسها و تعود لتنزلهما بحركات رقيقة متشابكة كأنهما غصنين غضين يحركهما نسيم ساحر فتان .
انخفضت درجة صوت المغنية إلى درجة الهمس فانخفض معها خصرها ملتويا برشاقة لتجلس على ركبتيها و تسدل جفنيها تعيد ظهرها إلى الوراء و تحني رأسها حتى التقت أطراف شعرها الناعم بسطح السجادة القديمة .
للحظات ظلت في نفس الوضع بينما نصفها الأعلى يواصل التثني متباطئا دافعا بين دمائها نشوة ماكرة متملصة ، نشوة ممتعة حد الألم و هي تدفعها لتغوص حتى الأعماق في كيانها الأنثوي قبل أن تصحو فجأة مع توقف النغمات المسكرة لتواجه صورتها داخل المرآة و قد سقط عنها رداء أحلامها المؤقتة : امرأة عاملة واقعية وحيدة جدا .
أين أنت أيها الدافئ ؟ تنهدت تخاطبه و هي تبحث داخل هاتفها عن أغنية أخرى تسافر بها إلى عالم منسوج من غزل الخيال .
أين تختبئ مني ؟
أين تتواجد في هذه اللحظة ؟
أكيد وراء مكتب شركتك الدولية الفخمة أو ربما داخل قاعة اجتماعك الواسعة البراقة ذات الجدران الزجاجية ؟
أو ربما تحلق في هذه اللحظة في طائرك الخاصة لتأكل بعض الكافيير الفرنسي ثم تحلي ببعض القشدة الهولندية ؟
أو ربما أنت ذلك اللاعب الشهير الذي يتبختر الآن فاردا صدره الرياضي اللامع أمام جماهيره العريضة بعد أن فجرت قدمه الذهبية مرمى الخصم بذلك الهدف الماسي ؟
أي هؤلاء تكون ؟
أيا كنت فاظهر و بان و لك مني كل الأمان .
لا تخف حبيبي مني فلن أقيدك برباط مداه طول العمر ، بصراحة أنا إنسانة ملولة و الحياة أقصر من أن أضيعها مع رجل واحد .
كل ما أريده منك أن أعيش معك يومين ،
يومان أرى فيهما ما لم أره طوال حياتي ، أعيش فيهما دون حسابات ، دون عد للفكة التي في جيب محفظتي ، تعرف لماذا ؟ لأنه لن تكون هناك محفظة أصلا .
فأنت لا تتعامل سوى بالشيكات و تلك البطاقات الإلكترونية المعقدة .
يومان و ينتهي الأمر و يغادر كل منا فرحا راضيا بصفقة العمر .
أنا بمبلغ مؤخر الصداق الذي سيغنيني طوال حياتي الباقية و أنت ؟
أنت ستعيش يومين مع امرأة دون إضافات ، كلها طبيعي في طبيعي ، ما رأيك ؟
ألم تمل من كل أولئك الفاتنات الشقراوات ذوات الأجساد الصاروخية المتخمة سيلكون ؟
ما رأيك في ؟ جميلة لا تنكر .
طول و موجود .
خصر منحوت و إلى هذه اللحظة موجود ، الحقه قبل أن يختفي .
و عيناي ما رأيك بهما ؟
رمشت ثلاث مرات بإغراء لخيال رجل تكاد تراه على سطح مرآتها ثم واصلت بهمس و هي تضم شفتيها بإغواء تعلمته من تلك الفنانة و تلك الراقصة و تلك المغنية و تلك و تلك .
و هاتان الشفتان يرضيك أن تتركهما هكذا ؟ دون ...
أستغفر الله العظيم ، أسرع يا رجل قبل أن أنحرف .
صمتت مؤقتا و هي ترفع يدها لشعرها تنزع منه اللفافات بلطف لتنساب الخصلات الأمامية ملتوية بتموج ناعم ، معطية لتقاسيم وجهها تلك الرقة التي تحتاجها .
تشعر أنها عندما تجمع شعرها كله إلى الأعلى يبدو طبعها الحازم الجاف واضحا على ملامحها .
و اليوم هي ليست تلك المرأة العاملة المكافحة التي تضرب أكتاف الرجال بكتفيها لتمر في شارع الحياة .
اليوم هي العروس اللطيفة الهشة التي ينتظرها ذلك العريس المحتمل داخل ذلك المقهى المكيف الفخم .
و للأسف لم يكن رجل أعمال أو مدير شركة أو لاعبا شهيرا .
كان مجرد شاب مكافح مهاجر يعيش في سويسرا .
تبددت أفكارها فجأة مع صوت رنة الهاتف المرتفعة بتلك الأغنية الهندية التي تتغنى باسمها هي : نادية .
احتضنت الهاتف بين كفيها و أغمضت عينيها لحظة صغيرة تسمح لجليد أيامها بالذوبان قليلا تحت وهج الصوت الرخيم الآتي من ذلك المكان البعيد النائي حيث تستحم الأنوثة بندى الأحلام .
لكن ليس هذا وقت الأحلام ، تمتمت و هي تصفع نفسها ذهنيا مرتين .
الأحلام للاتي تقفن خلف حاجز الخامسة و العشرين أما هي و الثلاثين تُلَوِّح لها على بعد سنوات ثلاث فقط من العمر فليس أمامها سوى خيار الواقع .
و الواقع يقول أن الثلاثين سن جميل حين تكون المرأة داخل بيت زوجها محاطة بقطيع من الصغار لكن نفس الثلاثين تصبح سنا غير ظريف حين تكملها في بيت أسرتها ، تصبح سنا تعيسا حين يكون رب الأسرة مثل والدها هي نادية .
تنهد بثقل خيبتها ارتفع من جوفها حتى شفتيها لتطلقه على شكل زفرات ثلاث قبل أن تعود للتماسك و تضغط زر قبول المكالمة .
- إيثار ، ماذا تريدين مني الآن ، غيرت رأيك بهذه السرعة و تريدين الاحتفاظ بالعريس من أجلك ؟
- كلا شكرا ، بالي مشغول تماما بغيره هذه الأيام .
- الشاب الغامز ؟
- كلا ذاك أصبح تاريخا ، عموما ليس هذا وقته نادية ، أنا فقط أتصل كي لا تحرجيني مع الرجل .
أرجوك لا تتأخري عليه ، تعلمين أنه يعيش خارج البلد منذ فترة طويلة و المواعيد هناك شيء مقدس .
- أنت تحذرينني أنا يا بنت ؟ أنا زملائي يظبطون ساعتهم علي .

عدة كلمات أخرى تراوحت بين مزاح و تحذير انتهت بعدها مكالمتهما القصيرة لتلتفت نادية إلى طقمها الأنيق المفرود على السرير ، تتقدم نحوه بتردد واضح و هي تتحدث كأنما إليه :
- هي ضربة أخرى ، مجرد ضربة أخرى .
ربما تصيب و ربما تخيب ... كالعادة .

*
*

تنهد آخر عاد من حيث أتى ، إلى بئر التنهدات الأعمق بكثير من سنوات و إحباطات عمرها .
و ها هو أحدث هذه الإحباطات يجلس مقابلا لها ، مباعدا ما بين ساقيه في تلك الحركة التي تكرهها في الرجال ، مسترسلا في مونولوجه الممل .
تشجعه ابتسامتها المصطنعة التي تعودت أن تلجأ إليها في هكذا مواقف لأنها إما تبتسم أو تموت بكمدها .
منذ اللحظة الأولى التي دفعت فيها الباب الزجاجي تخطو داخل المقهى و داخل هذه المغامرة الجديدة شعرت بشيء لا يبشر بخير و هي تراه يقف في الطاولة التي اختارها تتوسط المكان و يشير لها بكل ...
تملك .
ربما لم يكن تملكا بالضبط لكنها مع ذلك لم تسترح لوقفته و إشارته و خاصة الطريقة التي تفحصها بها بطيئا متمهلا محتفظا على ما يبدو بكل شاردة و واردة ، مجريا ربما مقارنة سريعة بينها و بين أيقونة الأنثى المثالية التي تعشش داخل فكره .
لم تعجبها كذلك لمعة الرضا التي برقت داخل عينيه بوضوح .
لأن هذا بالضبط ما كانت تهرب منه باعتراضها العنيد المستميت على زواج الصالونات ، ترفض ذلك الشعور بالرخص و هي تعرض كبضاعة محلية متوفرة ، صندوق فاكهة غير ممنوعة متاحة للنظر و التخير و التفضيل .
و لكن يبدو أنها كأنثى لا يمكن إلا أن تعرض مهما تشبثت بحق الاختيار .
لم تساعد لباقته الأجنبية و هو يؤخر الكرسي من أجلها و يسألها بلطف عن طلبها ، لم يساعد أي من ذلك على الارتياح له أو لشخصه .
لكنها غصبت جسدها على التسمر مكانه فقط لتعطي نفسها فرصة .
هذه المرة لن تستسلم لطبعها الصعب ، ستحاول مجاراة قوانين الحياة فالبقاء ليس للأقوى ، البقاء للأكثر تأقلما .
ارتشفت جرعة متوسطة من عصير الليمون المثلج تحت نظراته المشتعلة التي طافت في بقاع وجهها بكل حرية .
تجاهلته بصبر و هي تواصل ممارسة الفن الذي تجيده : الاستماع بصمت ظاهره قبول باطنه تهكم و اعتراض .
- إذن آنسة نادية كما ترين ، قال و هو يعود للوراء قليلا في كرسيه مسترخيا أكثر في جلسته ، أنا رجل عصامي و لم أعتمد على أحد سوى على ذراعي و الحمد لله .

" اسمح لي أن أؤجل التصفيق لوقت لاحق " ، تمتمت تجيبه في سرها و هي تمط ابتسامتها قليلا لترضي فخره الذكوري .
لكنه ظل يتأملها منتظرا المزيد ، كتمت تنهدا آخر و معه تثاؤبا طويلا ثم قالت باستسلام هادئ :
- يعجبني الإنسان العصامي .

و كأنها فتحت على نفسها ماسورة مضغوطة !
اتسعت عيناها الفاتحتان و هي تتعرض لعدة طلقات من الغزل المندفع المفاجئ :
- و أنت أيضا أعجبتني للغاية آنسة نادية ، جدا جدا في الواقع .
اعذري صراحتي لكن فيك كل ما أبحث عنه ، إنسانة راقية ، جميلة ، أنيقة جدا في لبسك و حركاتك .

تنفس بقوة و هو يمرر يده في خصلات شعره و يوصل بحرارة نظراته ما لم يجرأ على قوله بكلماته .
كل هذا و هي تجلس أمامه في مقهى عام ، وسط فوج من البشر ، منكمشة على نفسها في طقمها المحترم .
" الحمد لله أني لست معك في أتوبيس مكتظ " ، أطرقت برأسها قليلا تهرب من الاشتهاء الواضح داخل نظراته و قسماته .
عادت ترفعه عندما رفع مستوى الحديث و هو يستمر بصوت خالط ثقته بعض الاضطراب :
- ستضطرين لتعلم اللغة الألمانية لكي أقدر على إتمام أوراق الإقامة لك هناك .
و منذ الآن أريد أن أوضح لك أني لن أعيش هناك مدى الحياة ، خمس سنوات أخرى هذه أقصى مدة أنوي الاستمرار بها في الغربة لأنه ما إن يكبر أبناؤنا حتى نعود إلى أرض الوطن .

لأول مرة منذ فتح فمه للكلام تجد نادية نفسها تنتبه بحق ، دون شعور تحرك جسدها مائلا قليلا باتجاهه و كلها آذان صاغية لأسبابه .
- أنت تعرفين أن القوانين هناك صعبة و تزداد صعوبة مع الأيام .

مالت أكثر و الاهتمام يكبر داخل عينيها فأضاف بنفس درجة الثقة :
- هناك أساليب التربية تختلف كثيرا عن أساليبنا .
- فعلا ، وافقته دون تردد .
- و أنا آنسة نادية رجل تقليدي و أؤمن بشدة أن الضرب لا غنى عنه في تأديب الأطفال و توجيههم و للأسف قوانينهم هناك تُجَرِّمُه .
- للأسف ، رددت نادية وراءه و في داخلها يد عملاقة تدق آخر مسمار في نعش علاقتهما المفترضة .

" شكرا يا دنيا " ، تمتمت و هي تغمض عينيها براحة مرة .

*
*

- كيف سارت المقابلة ؟ أتاها صوت بريهان الناعم عبر سماعات هاتفها فأبطأت خطواتها تلقائيا و ثقل غادِر يتمكن من قلبها .
- لم تَسِر ، شُلّت في مكانها ، تنهدت بعمق ، كما هو الحال دائما .
- كيف تشعرين الآن حبيبتي ؟

" لا أريد اهتمامك المراعي بيري ، ليس الآن " كادت تنطقها لكنها تراجعت في آخر لحظة و قالت بعبث نادية التي يعرفها الجميع :
- أشعر بنفس شعور الهائم في بلاد البهائم .
- هل رقصت كعادتك قبل المقابلة ؟
- نعم ، ردت بملل ، و بعد ؟
- حبيبتي لم لا تجربين مرة الصلاة ، الدعاء ؟

زفرت نادية بضجر و قالت و هي ترفع يدها كارهة تشير لإحدى سيارات الأجرة الطائرة :
- تعرفين بيري ذلك الإحساس بالشيء و ضده ، حين تعرفين أن ذلك الفعل هو الصحيح و مع ذلك تجدين نفسك تفعلين الأمر الغلط ؟
هذا ما أتعرض له قبل أي مقابلة ، لا أدري ما السبب ، ربما هي نفسيتي المعطوبة و ربما شيء في طبعي ، لا أستطيع وضع يدي على موضع العلة .
لكن تعرفين فكرة الصلاة تبدو لي رائعة في هذه اللحظة .
رفعت يدها تشير للمرة الخامسة و هي تستمر :
- الصنف الذي قابلته منذ قليل يجعلني أتمنى أن أصلي صلاة الجنازة عليه و على أمثاله .
- لا إله إلا الله ، وصلتها نبرات بريهان المصدومة بينما تضع جسدها أخيرا في المقعد الخلفي لسيارة الأجرة .
ما لا يعجبك حبيبتي غيرك يرضيها و يسعدها أيضا .
- بالهناء و الشفاء على قلبها ، تمتمت نادية بصوت مختنق .
- حبيبتي هل تبكين ؟
- أبكي !؟ استنكرت بصوت عال و هي تكاد تغص باللقمة في فمها .
- صوتك ما به إذن ؟
- أنا آكل بيري ، ألتهم إحدى ألواح الشوكولاتة التي أحضرها لي من سويسرا .

حشرت ربع لوح آخر في فمها و هي تواصل الكلام بفم مفتوح ، أسنانها تغوص بتلذذ في خليط الكاكاو و اللبن ، الخليط الساحر إلى الأبد .
- إذن خرجت بشيء على الأقل من المقابلة ، لم تكن فاشلة تماما ، رنت ضحكة بريهان برقة أرغمتها على الابتسام .
- بالفعل خسرت عريسا و ربحت كيسا لا بأس به من الشوكولاتة ، صفقة لا بأس بها .
- Bon appétit
- لا تقلقي سأترك لكما نصيبكما ، لا يعقل أن نتقاسم الخيبات و أحتفظ بالشوكولاتة لذاتي مع أنها محرومة .
أما تلك ال.... إيثار فلي حساب معها ، أخبرتها أنه لم يعجبني صوته عندما اتصل بي و لكنها أصرت علي .

ضحكة من كلتيهما انتهت على إثرها مكالمتهما لتشرد نظرات نادية فورا و ذكرى غير بعيدة تفيق من غفوتها بعد كلمتها الأخيرة لبريهان .
صوته ...
ذلك الصوت العميق الذي تحرك له شيء ما بأعماقها ، اهتز بدفء ، بقوة حتى أنها كادت تغمض عينيها لتسيطر على تزعزعها اللحظي .
الواقع ، همست دون وعي منها .
الواقع ، نادية ، كررتها في سرها و هي تشيح بوجهها عن نظرات السائق المستغربة ، الواقع هو ما تعيشين فيه ، هو ما تواجهينه لذلك ركزي عليه نادية ، فقط عليه .

*******************

في مكان آخر ، بعد ساعات .
جلس آصف يستعد لنوبة عمل ليلية بينما يخرج تلك الورقة الممزقة التي احتفظ بها في جيب طقمه الرسمي .
وضعها ببطء داخل منفضة السجائر ثم ببطء شديد كأنه يريد تأخير تلك اللحظة إلى الأبد ، قرب طرف الوَلاَّعة و ضغط يقدح الزناد ، ضيق عينيه و هو يتابع هجوم النيران الصغيرة على طرف أول قصاصة و كيف تتابعت العدوى لتتآكل الحروف و تتشوه أمام ناظريه .
نادية سليمان المعلاوي ، هذا كان اسمها الثلاثي و لسبب ما يرفض الاختفاء من صفحة ذاكرته .
لا ينكر أنه عندما رأى خصلات شعرها المتطايرة استفزته .
ظنها واحدة من أولئك الفتيات المتهورات اللواتي طفت فئتهن و طغت مؤخرا .
لكن أجبره على تغيير رأيه وجهها العابس ، رأسها المطأطأ ، التحدي الذي تكلمت به جميع حركات جسدها ما عدا عينيها اللتان تجنبتا بإصرار الالتقاء بعينيه سوى في تلك اللحظة الخاطفة .
و ما الذي فعلته به تلك اللحظة .
دفقة عتمة مع دفقة نور صنعتا الأعاجيب بلون عينيها و متجمدا شاهد لون عينيها يتحول كأنما بفعل ساحر غابات من الكستناء إلى حدائق من البندق .
حينها شعر بذلك القرار في داخله يهتز و ينسيه مؤقتا بل مطولا ضغط الدبلة المؤلم على خنصره .
تنهد و هو يستلقي بعد أن ذوت آخر شعلة و تهاوت أطراف الورقة المتبقية .
و في أعماقه كذلك يتهاوى و يذوي نوع من الأمل .
أمل ولد على شكل امرأة .
*******************

نغم 08-09-19 12:13 AM

الفصل الخامس


في منتصف ذلك الشارع المهجور ، وقف يتأمل تلك الجثة التي هجرتها روحها .
داخل عيني الشاب الذي تجمدت أسفل رأسه بركة دماء ، تجمدت كذلك نظرة كانت منذ دقائق ربما تموج حياة ، أفكارا و أحلاما بغد أفل نجمه إلى الأبد .
تنهد آصف و هو يبتعد بعينيه عن المشهد الذي سحب شيئا من روحه .
ألا يكفي يا بلد ؟ ألا يكفي موتا و موتى ؟
ألا يكفيك يا بلدي و أنت كل يوم تحطمين رقما قياسيا جديدا في موسوعة الأحزان .
فقر ، مرض و حوادث طرقات .
كل يوم ألم ، كل يوم فقد جديد حتى صرنا نتنفس هواءًا رائحته الفناء .
- لا حول و لا قوة إلا بالله ، نطقها بعمق يحاول أن تتشبع بها روحه في لحظات كهذه حيث يشعر بأن العبث يلتهم كل معاني الكلمات .
كأنما اليأس حط الرحال على أراضيهم و يرفض أن يغادر .
أطرق برأسه مطولا و في لحظة قنوته المظلمة ارتفعت تلك التكبيرة الأولى .
تكبيرة تعلن ميلاد فجر جديد تلتها باقي كلمات الأذان ، تُكَوِّن نداءًا يدعو من استيقظ من أصحاب القلوب المؤمنة للقرب و البدء من جديد .
الله أكبر
كلمة يبدأ بها الأذان
تبدأ بها الصلاة
تلخص الحياة
الآن يفهم لماذا
لأن ...
الله أكبر
من الموت
من الحياة
من العبث
من الجهل
من الظلم
من الدنيا و ما فيها و ما لم نجده فيها .
و الله
الذي تتسابق الصومعات و تسرع و تتنافس لترديد اسمه بينها في الأعالي لتعلو النفس و الروح عن كل شيء .
الله في هذه اللحظة يدعوه
كي ينسى الدنيا و يريح تعبه منها في سجدة
يخفف من أعباء روحه في ركعة و يقوم مكبرا في دافع جديد للاستمرار .
تنفس بقوة لاهثا يأسه خارج قلبه و فكره ثم بتلقائية انتصبت قامته مجددا مستجيبة لدافع الواجب الذي ينبض بداخله .
طافت عيناه الحادتان بتفاصيل الشارع حوله و استقرتا أخيرا على تلك الكاميرا أمام بوابة إحدى البنايات ، قاس بنظره المسافة بينها و بين مكان الجثة ثم علا صوته بنبرات آمرة :
- منصور ، تعال هنا .
- حضرة الضابط ، أسرع العسكري الشاب إليه و هو يومئ برأسه بتبجيل .
- تقف هنا ، لا تغادر مكانك حتى الساعة السابعة ، حينها ستتوجه إلى ذلك المبنى و تطلب منهم تسجيل المراقبة الخاص بالليلة الماضية ، مفهوم ؟
- عُلم حضرة الضابط .

رماه بنظرة اشتعل رماد حدتها و أضاف بلهجة محذرة :
- لا تغادر مكانك .

أعطاه ظهره و انصرف بخطواته الواسعة و هو يستمر بتوجيه أوامره هنا و هناك بخصوص الجثة التي كان صاحبها يقطع الطريق إلى مكان لا يعلم وجهته الآن سوى خالقه لتقطع عنه أنفاسه تلك السيارة المجهولة و هي تدهسه ، تتركه لمصيره و تهرب بصاحبها المجرم .
- ليس كثيرا يا ابن ال...، تمتم من بين أسنانه و هو يمتطي دراجته النارية الضخمة ، سنصل إليك ، يعني سنصل إليك .

وضع خوذته الرسمية و انطلق بسرعة مناسبة ، يستقبل بصدره الواسع نسائم الفجر النشطة .
لهذا هو يختار رغم رتبته أن يتجول في الشارع .
يعلم أن مجال عمله عفنه الفساد و أنه مهما فعل لن يغير سوى القليل القليل لكن ذلك لن يمنعه من تأدية واجبه نحو ربه ، نفسه و الإنسانية .
لذلك هو قاس لا يرحم لكن ليس ليطغى بل ليمنع .
يمنع مزيدا من المصائب ، من الكوارث ، من الهروب الجبان دون دفع الثمن .
مر على مسجد يقع في طريقه ، صلى فجره ثم عاد بروح خففت شيئا من أثقالها إلى فيلا أسرته .
أوقف دراجته النارية بسهولة أمام بوابة المرآب الحديدية ثم أخرج آلة التحكم عن بعد و وقف ينتظر ارتفاعها البطيء المتحشرج عن الأرض بينما عيناه تصعدان ببصره تلقائيا للطابق الأعلى حيث أقام لمدة ثلاث سنوات بأيامها و لياليها .
لياليها ، ترددت الكلمة داخله تشعل بركانا ظنه خاملا ، منطفئ الشرارات .
ثلاث سنوات ، تمتم بخفوت و هو يدخل دراجته و يركنها على حائط الممر الحجري المؤدي للفيلا الرحبة .
ثلاث سنوات بحُلوِها و مُرِّها
و مُرِّها
و مُرِّها .

ثلاث سنوات هجر بعدها حياته الزوجية القصيرة تاركا الطابق العلوي خاويا على عروشه و عاد إلى الطابق الأرضي يؤنس وحشة والدته ، سيدة حياته الحقيقية و الوحيدة .

*
*

بعد دقائق ، كان يقف أمام المرآة العريضة لحمامهم الفخم ، يمرر آلة الحلاقة على ذقنه بشرود يحلقها استعدادا لاستحمام خفيف ثم نوم ساعات قليلة قبل أن يعود للتحقيق في مصرع ذلك الشاب .
التفت و ملامحه تشرق بابتسامة هادئة و هو يسمع صوت خطوات متأنية .
- صباح الخير بني .
- صباح الخير حاجة ، غمغم بنبرات أثقلها النعاس و هو يخفض وجهه ليقبل جبين أمه .

راقبها تتوضأ بحركاتها الرصينة المعتادة و لم يستطع إلا أن يلاحظ نظراتها السريعة إليه من حين لآخر ، أغمض عينيه و هو يسمع تنهدها العميق .
كتم زفيرا محترقا و هو يسمعها تخرج عن صمتها بحدة ليست من طبعها :
- ألست أمك آصف ؟
- لماذا هذا الكلام الآن يا حاجة ؟
- لأنك لا تراعي مشاعري بني ، لمعت دموع تعاسة على سطح عينيها ، لا تتصور إحساسي و أنا أراك كل يوم تصارع لتحشر إصبعك داخل تلك الدبلة المنحوسة .

وضعت يدا مرتجفة على قلبها و هي تضيف بهمس مخنوق :
- بإصرارك على سجن نفسك داخل ماضيك معها تعيد لقلبي كل الذكريات الحزينة و أنت أكثر من يعلم ما الذي يفعله بي رؤية تعلقك المجنون بها .
و لكن لم علي أن أستغرب بني ، الولد سر أبيه .

لم ينبس بكلمة واحدة ، استمع إليها بمنتهى الصمت فهذا أقل ما يقدر على تقديمه لها ، فقط حين انتهت عاد لينحني على جبينها بقبلة عميقة دافئة و هو يقول بخفوت :
- صلي يا حاجة اقترب وقت الشروق

بهزيمة جديدة راقبها تنصرف منحنية الرأس ، مثقلة الخطوات ، تتمتم بكلمات رنت داخل قلبه قبل أذنيه :
- متى يحين وقت شروقك أنت ؟

***********************
راقبت عينا نادية أسراب الظلال تهاجر جوانب الطريق فعادت لتلقي نظرة سريعة أخرى على ساعة معصمها .
الساعة التاسعة ظهرا ، أكدت لها الأخيرة .
نعم ظهرا لأنهم لا يملكون صباحات في هذا الجانب من الكوكب ، الصباح كما قرأت عنه هو ذلك الوقت من اليوم حيث تكون النسائم ندية و يُسمع شدو العصافير و هي لا ترى هذا أو ذاك .
ما تراه هو تلك الشمس الغاضبة التي تصب أشعتها دون رحمة على أم رأسها .
استدارت إلى ذلك الشارع الجانبي الواقع خلف عمارتهم و الذي لا تمر عبره عادة لكنها تريد التأكد ثانية .
رأت سيارتهم الأنتيكة تربض في نفس المكان كما منذ أسابيع عندما اكتشفت مكانها لأول مرة .
حينها شكت في الأمر ، بعد أيام تحول شكها إلى يقين .
شقيقها الأصغر لم يعد يذهب إلى عمله ، كل صباح يتناول إفطاره معهم كالعادة ثم ينصرف ، يركب السيارة ، يركنها في هذا الشارع ثم يختفي و يعود إلى البيت في الوقت الذي من المفترض أن ينتهي به دوامه .
هل طردوه أم هو الذي استقال ؟ أم أخذ إجازة بسبب أزمة نفسية أخرى ؟ أم ؟ أم ؟ كل هذه أسئلة لم تعرف بعد أجوبتها لا هي و لا أمها ، تنتظرانه هو كي يعترف بالأمر دون أية ضغوط .
أما أبوها فطبعا ليس لديه فكرة عن الموضوع و أكيد لا تنوي إخباره .
لأنها تعرف أنها غالبا لن تمسك لسانها و ستقول له ما تمنت دوما أن تطلقه من عقال ذاتها ، أن تصرخها في وجهه :
انظر أين أوصلت ابنك يا بابا .
انظر أين أوصلتنا جميعا .
حسبي الله و نعم الوكيل في ..
وقفت فجأة عن إكمال سيرها و إنهاء جملتها ، طأطأت رأسها لحظات تنظر بخواء إلى ظلها الممتد أمامها ، وحيدا ضائعا ينتظرها لتقوده ، كبيرا أسودا مثل ذلك الكيان الذي تشعر به الآن يجثم على قلبها ، يطمس باقي مشاعرها فلا تقدر سوى على الإحساس بالقهر .
سرحت نفسا عميقا من داخل صدرها ثم اقتلعت نفسها اقتلاعا من وقفتها لتستمر في سيرها و تكتمل باقي الجملة تغادر شفتيها بهمس :
حسبي الله و نعم الوكيل فيك يا دنيا .

*
*

بعد دقائق ، كانت تجلس في الحافلة المكيفة ، ترخي جفنيها و ابتسامة شكلية تحط فوق شفتيها ، تسترجع مشهدهم بالأمس مع والدها .
دخل عليهم كما يفعل في كل شهر و هو يقول جملته المألوفة :
" لدينا عزومة من الحكومة "
ثم رمى الفواتير أمامهم و قسمها بينهم ، هو و هي و شقيقها .
و بما أن هذا الأخير لم يعد يعمل عرفت أن عليها أن تتصرف ، يكفيه ما عاشه من رخص .
لذلك ها هي اليوم تتوجه إلى ذلك المطعم الفخم الذي تعودت منذ سنوات مراهقتها أن تعمل فيه كلما أرغمتها ظروفها و كثيرا ما كانت تفعل .

*
*

أوقفتها الحافلة على بعد أمتار قصيرة من المكان ، مشت بسرعة حتى وصلت الباب الأمامي ، توقفت قليلا تتأمل انعكاس شكلها على سطحه الزجاجي اللامع .
أسود في أسود ، هكذا اختارت أن تكون ثيابها اليوم ، بنطللون أسود ، قميص أسود ، بلوزة سوداء ، نظارة سوداء و حذاء أسود .
فقط الحقيبة بيضاء ليس لشيء سوى لأن شريط حقيبتها السوداء ممزق .
قطعت أفكارها و أكملت سيرها لتدخل من الباب الخلفي .
حيث يدخل العاملون .

*********************

مساءًا ،
اتكأت إيثار بكلا مرفقيها على المنضدة الرخامية في مدخل الصيدلية ، شردت بفكرها بعيدا جدا عما حولها و هي تتأمل السطح اللامع بأطياف لونه الرمادي المتدرجة بتناغم ناعم جذب ذكرى فورية لذهنها .
فهمست ببطء حكيم :
- سبحان الله .

شيء في النبرة ، ربما الحزن الذي مازجها ، لفت انتباه نادية المشغولة بتنظيم علب الأدوية المقتناة حديثا ، تملأ بها فراغ الرفوف .
- ما الذي يحدث معك الآن ؟ تمتمت و يداها تواصلان مهمتهما بآلية .

عدة هزات نفي تحرك بها رأس إيثار ببطء قبل أن تقول بنفس التمهل :
- لا يحدث شيء معين ، كل ما في الأمر أني تذكرت ذلك اللون الرمادي الكئيب الذي كانوا يطلون به جدران الفصول في مدرستي الابتدائية ، و مع وجه المدرس العابس صارت حصة الدرس طقسا بشعا نؤديه يوميا مجبرين .
خرجت من تلك المرحلة طفلة تكره الرمادي بجميع أشكاله و كبرت لأراه لونا للكآبة ، للشك ، لعدم الاستقرار .
و الآن و أنا أتأمل هذه الرخامة أرى الرمادي كما هو حقا ، مزيجا بين الأسود و الأبيض ، مزيجا ساحرا غامضا كأنما يأخذ الليل فيه بيد النهار ، يلقي كل منهما بأسلحته و يعانق الآخر ،
يتخلى الليل عن عتمته و بعض غموضه و يغوص النهار بإرادته الحرة داخل بحر من الظلال ، يلتقيان يتمازجان يتزواجان فينتجان هذه التدرجات التي يخفق القلب لجمالها .

ضيقت نادية عينيها و هي تحدق في الرخامة كأنما تراها لأول مرة و قد كانت فعلا أول مرة ، حاولت رؤية ذلك السحر و عندما فشلت قالت بعملية :
- لا تنسي أن جرعة الأبيض هنا هي الغالبة لذلك ترينه جميلا .
عندما يطغى السواد لا يصبح الرمادي بتلك الروعة .
- كلام معقول .

تأملت نادية رأس الأخرى المطرق ثم تمتمت بهدوء :
- إيثار هل لديك فكرة أنك فاشلة ؟
- فاشلة ؟ أنا ؟
- فاشلة في كل شيء في الواقع ، أكدت لها نادية بأريحية ، روحك روح شاعرة و تحبسينها داخل جدران كلية الهندسة .

توقفت تصعدها بأنظارها ثم أضافت بصوت عانقت نبراته حدة خفيفة :
- تظنين نفسك قادرة على فهم النفس البشرية و أنت تعجزين حتى عن فهم نفسك .
- واو ، رفعت إيثار رأسها بنظرة استنكار ، كل هذا لأنك فشلت في التفاهم مع العريس ؟
- ذلك الكارثة كان بالنسبة لك عريسا ؟!!
- أنت قلت مرارا أنك تريدين أن ترحلي عن البلد و أنا اخترت لك من رأيته يناسبك .

اتسعت عينا نادية و داخلهما اختفت نظرة التهكم ليحل محلها استغباء قرأته الأخرى بوضوح :
- لو كان ذاك الرجل المناسب أتوق أن أعرف من هو غير المناسب .
- هل دعوتني هنا لتفرغي خيبتك فوق رأسي ؟

رفعت نادية عينيها إلى الأعلى تستجدي صبرا لا تشعر به ثم بهدوء ناولتها كيسا ورقيا متوسط الحجم من أكياس الصيدلية .
- دواء للضغط الذي رفعته لي ؟ ضيقت إيثار عينيها بتساؤل .
- نصيبك من الصفقة الفاشلة مثلك ، تمتمت نادية و هي تدفعه أكثر نحوها قبل أن تميل تقرب وجهها منها و تضيف بهمس :
- على فكرة ، الولد زميلي لم يرفع عينيه عنك منذ دخلت .
- أي ولد ؟ بادلتها إيثار همسا مضطربا .
- زميلي ، دكتور صيدلاني بعينين خضراوين و اسمه باهر .
عريس أم ليس بعريس ؟ يا أم التخلف .
- لم لا تحتفظين به لنفسك إذن ؟ تساءلت إيثار و هي تنظر نحوه بطرف عينها .
- لست مهتمة ، ردت نادية و هي تجعد أعلى أنفها ، شكرا .
- العفو و لا أنا .
- إذن لماذا صعدته بنظراتك ؟ تمتمت نادية و هي تستند بمرفقيها على المنضدة لتميل نحوها أكثر .
- لأنها لحظة للتأريخ : أن يهتم بي رجل ما و أنت تتواجدين معي في نفس الحيز المكاني .
و عموما لا باهر و لا مبهر ، الآن كل وجداني ينبض باسم واحد .

وضعت يدها برقة مبالغة على أعلى يسار صدرها و تمتمت و هي ترفرف برموشها :
- تك ، تك ، تك ، تك .
له وحده .
الحب ، الحب .
مع أني مازلت لا أعرف اسمه .

***********************

في الصالون الخامل الجو في تلك الساعة من ذلك الأصيل الدافئ ، فرضت أشعة الشمس وجودها منسكبة من خلال زجاج النافذة الوحيدة الواسعة ليتململ أكرم المستلقي في كسل على الأريكة الرئيسية و الضوء القوي يشاكس جفونه المثقلة نعاسا .
تحرك ببطء يدير ظهره للنافذة يبحث عن ظل يغمر وجهه و يعيده لمملكة النوم .
الصوت المرتفع لانفتاح الباب بشكل مفاجئ يتبعه طرق كعب عال على الأرض الرخامية جعله يطلق تنهدا يائسا و يستوي جالسا ، ملامحه تفيض استياءًا و هو يراقب شقيقته الصغرى تواصل تقدمها نحوه مرتجفة الخطوات تمشي بحرص حذر لينقلب انزعاجه ابتسامة واسعة و يقول بنبرات دافئة لم تخف تهكمه .
- بما أنه واضح أنه لم يخلق من أجلك و لا أنت خلقت من أجله لم تعذبينه و تعذبين نفسك معه ؟
- من هذا ؟ نظرت له بفم فغر دهشة ، أنت لا تقصد سيف .
- سيف ، سيف يقطع رقبته سيفك هذا ، ألا تستطيعين التفكير في شيء غيره ؟

بابتسامة حالمة تمتمت تهمس برقة :
- أستطيع لكني لا أريد .

رفرفت قليلا برموشها ثم أضافت بجدية :
- إذا لم تكن تقصد سيف فمن الذي لم أخلق من أجله ؟
- كعبك العالي يا قزمة .

لوت شفتيها مرتين ثم قالت و هي تحدق في عمق عينيه :
- أ تذكر يا أكرم ذلك الرجل قريب ماما الذي كان يسخر طوال الوقت من ساقي أخته النحيلتين فانتهى به الأمر إلى أن يتزوج من امرأة كأخته و أكثر ، صدقني أنت سيحصل معك نفس الشيء و التي سترزق بها ستكون في نفس طولي دون فرق مليمتر واحد .
- يا سلام .

بتحد واصلت تقول :
- و الآن أنا أمامك ، أجر مسحا شاملا علي و تأكد أن كل عيب تقوله ستجده في عروسك المصونة .

مد يده يشدها بلطف من شعرها المبعثر حول صفحة وجهها .
- تعجبني تخاريفك يا قزمتي ، تذكرينني بجدتي ، متأكدة أنك خريجة هندسة ؟
- أترجاك يا أكرم أن لا تذكرني بالهندسة و سيرتها ، لا تجعلني أندم على شبابي الذي ضاع .

زفرت بحرارة بينما صور كئيبة تعبر ذهنها لتشتت جزءًا من سعادتها ثم استمرت تقول و هي تتأمل طرف صندلها الربيعي .
- أتمنى لو كنت قد قابلت سيف بعد الثانوية العامة لكان كل شيء اختلف لكن قدر الله و ما شاء فعل .
- يا سلام على التقوى و الرضا .
دعيني أقول لك يا مدام شيرين أن سيف لم يكن ليرضى بك لو كنت بمستوى أقل .
- أنت تقول هذا لأنك لا تعرف عن شيء اسمه الحب .

أشاح بوجهه ما إن انطلقت آخر كلماتها و مد يده لهاتفه يعبث به .
- أكرم أنا ..
- هل حددتم موعدا لحفل الزفاف ؟ قاطع بسرعة محاولتها للتوغل في تلك المنطقة .
- ليس بعد ، تنهدت باستسلام ، ما زال لدي أمل أنك ستعود ل...
- لن أعود .
- إذن ابحث أكرم عمن تعوضك عنها مادام ذنبها الذي نجهله لا يغفر .
- أنا أخبرت أمي عن مواصفاتي و تركت لها مهمة الاختيار بدلا عني .

وضعت شقيقته كفها على كتفه تداعب قماش قميصه القطني و هي تقول بصوت رقت نبراته حنانا :
- و أنا ليس لي من ثقتك نصيب ؟ أخبرني كيف تريدها أخي ؟

تركها تقترب بجسدها منه حتى أنه أحاط كتفيها بذراعه لكن ذهنه كان يبتعد و يبتعد زمانا و مكانا .
- كيف أريدها ؟ همس بشرود .

يريدها " عيناها سبحان المعبود
فمها مرسوم كالعنقود
ضحكتها ألوان و ورود "

مع أنه لم يرى ضحكتها بدلا منها رأى دموعها ، لآلئ تتلاحق و تتعانق على صفحة ذلك الخد الأسيل .
و فمها ..
عندما كان العندليب يشدو بتلك الجملة عقله الهندسي المنطقي لم يقدر على فهمها يوما فكيف لفم أن يرسم كالعنقود .
لكن الآن فهم .
في تلك اللحظة و الكلمات و الشهقات تتتابع متساقطة من بين شفتيها لمع ذلك الوصف فجأة داخل قلبه و هو يرى حروفها الباكية المتهامسة حبات عنب صغيرة حلوة تمنى قطفها بدل تركها تتبخر في الهواء أمام عينيه .
- كيف تريدها أكرم ؟ أعاده سؤال أخته من رقة أحلامه إلى صلابة واقعه .
- أريدها من البلد ، من أسرة معروفة لأسرتنا ، و شرطي الأساسي الذي لا غنى عنه أن لا تكون لديها صفحة اجتماعية من أي نوع .
الشرط الآخر أن لا تكون ارتادت الكلية بتاتا .
و أنا ، قاطع شهقتها المستغربة برفع يده في وجهها و هو يستمر قائلا ، سأحرص على أن تكمل تعليمها بعد زواجنا و ليس قبله .

ليس قبله .
هذا هو شرطه .


*************************

نغم 08-09-19 12:15 AM

الفصل السادس



في مكانهن ، في آخر مقعد من الأتوبيس النهري ، في تلك الساعة الصباحية من يوم الجمعة ، وقت يخلو من البشر و ضوضائهم ليزخر بذلك الحوار المتواصل بين همهمة المياه و زمجرة المحركات ، انبعث صوت نادية بعد صمت طويل ليبدو لثلاثتهن نوعا من النشاز .
- إيثار اسمحي لي أن أعتذر منك .
- تفضلي أنا أستمع ، قالت الأخرى و هي تعدل من جلستها لتواجهها .
- أعتذر لأني أخبرتك بأنك فاشلة .
- و الآن غيرت أقوالك ؟
- كلا ، قلبت نادية شفتها السفلى و جعدت أنفها ثم أضافت ، عدلتها ، أنت فاشلة و لكن أنا الأكثر فشلا لأني سلمتك مستقبلي .

زفرت إيثار بملل و أشارت بيدها نازلة بها بقوة إلى الأمام كأنها تسدل ستارا غير مرئي بينهما ، رشفت القليل المتبقي في علبة مشروبها الغازي ثم رمتها بإهمال في النيل المسكين المستكين ، تحفزت في مقعدها و علت نبرة صوتها بشيء من الحدة :
- ثلاثة أيام مرت و أنت ما زلت تغلين ؟
في ثلاثة أيام أنا شخصيا أحب عشرة رجال و أنساهم .

تدخلت بريهان بابتسامة هادئة ، تحاول امتصاص الشرارات التي بدأت بالاندلاع .
- من فضلك ، احجزي لي كي آخذ دروسا عندك مهما كان سعر الحصة .

- تعلمين لماذا لم أنسه ، استأنفت نادية و هي تثبت عينيها داخل حدقتي إيثار ، لأنه يتصل بي كل ساعتين تقريبا و يكتب لي في اليوم الواحد أكثر من عشر مرات منذ ذلك اللقاء الأسود .
- الموضوع بسيط ، صارحيه ، أخبريه بصدق أنك لا تريدينه .
- بمناسبة الصدق ، الآن ستصارحينني كيف عرفته لأني لا أصدق النسخة الكاذبة من الحكاية ، لا يمكن لذلك السمج أن يكون قريب أمك من بعيد ، ماما تعرف أمك منذ سنوات و لم تخبرها عن أقارب لها يقيمون خارج البلد ، كل ما أفكر في الأمر أكثر أتأكد أن الموضوع ..
- الموضوع ببساطة ، تكلمت إيثار تقطع عليها الاستنتاجات و الاحتمالات ، هو أنني وضعت صورة لنا معا أنا و أنت على صفحتي .
- هكذا دون استئذاني ! ثم ماذا أكملي .
- ثم تلقيت لك عروض زواج و تعارف من كامل الكوكب تقريبا .
- و طبعا لكي تنفي عن نفسك تهمة ذكاء لا سمح الله اخترت لي من ضمن هذه العروض الأسوأ و الأكثر انحطاطا و ال...
- المشكلة ليس في سوء اختياري ، ببساطة هذا هو حظك .

كانت الكلمة أخيرا بنزينا سكب على لهب نادية الخافت ، اشتعلت تقاسيمها و برزت أوتار رقبتها لتهتف بحدة بدت في صوتها و كلماتها :
- بالضبط المشكلة أن بختي المائل وضعك في طريقي .

في الأثناء ، جلست بريهان ملتحفة كعادتها في مثل هذه المواقف برداء ثقيل من الصمت بينما عيناها تتنقلان داخل محجريهما يمينا و شمالا تتابع بتسلية حذرة مباراة التراشق بالألفاظ بين أقرب صديقاتها إلى قلبها .
- المشكلة في طبعك بالفعل نادية ، كانت هذه إيثار و هي تميل بجسدها المستنفر إلى الأمام و تجعد ما بين حاجبيها الرقيقين لتتشكل تلك العقدة الغاضبة المتهمة
و أنا فاشلة بالفعل لأني …
- out

صرخت بريهان بها دون شعور ، تقوم بدور الحكم بينهما في هذه المباراة التي لن يكسب فيها أي طرف ، فهي أكثر من يعرف كيف يمكن أن ينتهي هذا النقاش .
و آخر مرة ظلتا ثلاثة أسابيع دون كلام .
دون أن تسمح لفكرة أخرى أن تتكون مفرداتها على الشفاه الممتعضة ، أضافت تقول و هي تلتفت لصغراهن سنا و عقلا :
- إيثار حبيبتي ألم نجتمع اليوم بالذات لنسمع منك حكاية الرجل الغامض الجديد الذي أطاح بأبي غمزة .

هزت إيثار كتفيها بطفولية واضحة و أشاحت بوجهها و هي تغمغم بفتور :
- لم تعد لدي أية رغبة في قول أي شيء .
تنهدت بريهان الجالسة بينهما ثم التفتت للأخرى بابتسامة مترجية .
مررت نادية أصابعها بين خصلاتها المتوسطة الطول ، دعكت فروة رأسها قليلا ثم قالت و كأن شيئا لم يكن :
- و نحن نريد أن نسمع .
تكلمي قبل أن يهل علينا الحر و الخلق .

لنصف دقيقة تمسكت إيثار بجلستها مديرة ظهرها لهما ، عيناها منخفضتان تتابعان حركة ساقيها المتأرجحتان توترا ثم نفخت بقوة و استدارت باستسلام تتلافى عينا نادية بإصرار يعلن عن بقايا غضب لم تنطفئ بعد .

بعد دقائق كان جلستهن قد عادت للاشتعال لكن حماسا و ضحكات هذه المرة .
- و هكذا بهذه البساطة أصبح الحب الحب .
- كلا انتظري أنت و بصلتك المحروقة حتى أكمل أهم حدث في الحكاية .

اكتسى وجهها بجميع انفعالاته و أزهرت ابتسامة حالمة على شفتيها و هي تواصل استرجاع المشهد الذي أخذ إقامة دائمة داخل أراضي ذاكرتها :
- قبل ربع ساعة من نهاية وقت الامتحان ، خرج من زاويته و بدأ التقدم بخطوات هادئة ثابتة ثم .

صمتت و هي تسدل أهدابها و ابتسامتها تزداد حالمية .
- ثم ؟
- ثم ، قالتها في نفس اللحظة التي فتحت فيها عينيها ، بمنتهى البساطة و البرود اتجه نحو الطلبة الغشاشين و كتب ملاحظات على أوراقهم .
طبعا لن تصدقي كمية الغباء و الذهول التي استمتعنا بمشاهدتها على وجوههم ثم ذلك الذل و هم يتوسلون إليه أن يسمح لهم بمحو تلك الملاحظات .
- و هو ماذا فعل ؟
- استمع لهم ببرود ثم مزق أوراقهم بحركات قوية سريعة قبل حتى أن يستوعبوا الأمر .
- أنا معه تماما ، قالت نادية دون ذرة شفقة على الوجوه التي رأت العشرات من أمثالها على مدى أيام حياتها الدراسية .
- لم ينتهي الموضوع عند هذا الحد ، ارتفع صوت إيثار ثانية لترتفع موجات التوقعات .
- لا تقولي أنه استدعى لهم العميد ، بصراحة ستكون قسوة لا تفسير و لا داعي لها و لن يكون اسمه الحب الحب بل النذل النذل .
- بريهان اؤمريها أن تصمت ، مطت إيثار شفتيها باستياء قبل أن تضيف بعينين نصف مغمضتين ، رمى الأوراق الممزقة داخل سلة المهملات ثم ناولهم أوراقا جديدة و أعطاهم فرصة أخرى .
- فرصة أخرى مدتها ربع ساعة أو أقل ، شهامة ليس لها مثيل .
- بريهان أخبريها أن هذا العريس المحتمل لا يخصها لذلك من الأفضل أن تحتفظ برأيها لنفسها .

زفرت ثم أكملت و هي تعض شفتها السفلى و تهمس بنبرات ملتاعة :
- في البداية ظننت أني أعجبت بطيبته و تعاطفه و لكن عندما رأيته و هو قاس قلبي جن به تماما ، و الآن أنا محتارة يا بنات ، ماذا أفعل ؟
- تأكدي أولا أن مشاعرك حقيقية و أن عقدك لم تشتغل .
- مشاعري حقيقية تماما يا دكتورة نادية ، يكفي أن تعرفي أني لأول مرة أشعر بعدم الندم على دخول الهندسة لأني لولاها لما رأيته .
قولي شيئا مفيدا يا بيري .

ببساطة من تعود هذا الأمر ككل أمر غيره تمتمت بريهان بشرود هادئ :
- دعي الموضوع للقدر .

*******************

انتهى نديم من الكشف ، عاد إلى وراء مكتبه و جلس ببطء ، خطت أنامله بسرعة أسماء بعض الأدوية المخففة للألم ثم سلم الوصفة للأم المحتضنة طفلها برقة حامية كأنه خلق من زجاج .
- لن تعطيه مضادا دكتور ؟
دون أن يرفع عينيه عن شاشة جهازه و أصابعه مستمرة بنقر كلمات يضيفها إلى الملف الصحي للطفل ذي الخمس سنوات تمتم و صوته يرتدي عمليته المعتادة :
- كلا ، حالته لا تحتاج مضادات و عامة أنا لا أنصح بالمضادات الحيوية ، أنا مع ترك الجسد يتعود المقاومة بنفسه .
- متى أعود يا دكتور ؟
- بعد أسبوع إن شاء الله لكن لو لاحظت أية علامات غير عادية من التي قلتها لك اتصلي بي على الفور .
رقمي الخاص موجود أسفل ورقة الوصفة ، سارع يضيف قبل أن تفتح معه حوارا آخر .

رراقب خطواتها المبتعدة و بدأت نفسه بالاستعداد لإطلاق تنهد راحة حين فتح الباب فجأة ، اتسعت عيناه و هو يشاهد تقدم تلك الطفلة السريع نحوه ، التقط نظره تلك الألفة في ملامحها لكن ذاكرته كالعادة لم تسعفه في إعطائها اسما أو حتى موقفا .
- دكتور أنا آسفة ،
كان ذلك صوت سكريترته و هي تدخل وراءها باندفاع فاق اندفاعها .
- إنها تلك الطفلة ال ، قطعت كلماتها و هي تشير بيدها بجانب رأسها بينما يدها الأخرى تجذب الجسد الأصغر بعنف إلى الخارج .

ضاقت عيناه بنظرة عدم فهم و هو يتذكرها أخيرا ، تلك الطفلة التي أتته برفقة جارته ، هي ذاتها لكن بوجه أقل شحوبا و شعر أقصر طولا .

تنفس بعمق و هو يشاهد السكرتيرة تواصل محاولة إخراجها فيما كانت الأخرى تقاوم و تعافر كأن شياطينا استولت على جسدها .
- اتركيها ، أمر بصوت عال و هو يشير للطفلة بيده اليمنى لتقترب بينما استند على يده الثانية ليبدأ بالقيام .

في ثوان كانت تقف يفصل بينهما مكتبه تحت عيني السكرتيرة المتجمدتان بنظرات مستهجنة .
أوقف أذنه جيدا و هو يحاول استخلاص كلمة واحدة مفهومة من بين أشلاء الحروف المنطلقة بسرعة من بين شفتيها .
عشرون ثانية من المحاولة هذا ما قضاه مستمعا ليتأكد أنه لا و لن يفهمها .
رفع كفه يوقف سيل كلماتها المبعثرة ثم قرب يده من يدها بورقة و قلم لكنها رمقته و إياهما بعبوس ثم هزت رأسها نافية عدة مرات و هي تعود لل..كلام .
- أخرجيها ، قال نديم أخيرا باستسلام و اذهبي بها إلى شقتها ، الشقة التي تقع بجانب شقتي تماما و أحضري تلك الفتاة التي رافقتها المرة السابقة .

بحماس لم يخف عليه طبقت السكرتيرة كلماته و يداها تقبضان على كتفي الطفلة و تبدأ بجرها نحو الباب مرة أخرى .
توقفت دفعة واحدة و هي تطلق صيحة ألم على إثر عضة متقنة من أسنان البنت الحادة .
و تجمد نديم في كرسيه و قد عاد للجلوس بينما يشاهد اندفاع الطفلة الراكض نحوه و قبل أن يستوعب ما يحصل كانت كفها الصغيرة تهوي بأقصى ما تملكه من قوة لتنطبع آثار أصابعها على خده الأيمن المذهول .
تجمد نديم في جلسته بينما بداخله ينهار سد كبير ضخم و يترك الحرية لمشاعر عشواء هوجاء لأن تهدر و تفيض سيولها ، تنفض نفسه نفضا حتى الأعماق .
عيناه ظلتا بفعل أشبه ما يكون بالسحر مشدودتين إلى عيني الطفلة .
هناك من قال أن هؤلاء المخلوقات اللاتي حرمهن القدر نعمة التحدث بالصوت و الكلمات وهبهن الخالق بالمقابل موهبة التعبير بالنظرات .
من قالها كان بالتأكيد صادقا . لأنه داخل عينيها المتسعتين صدمة من نفسها قرأ كل شيء ، و تجسد شكل روحها أمامه بكل وضوح .
و فهم أن حياتها مثل الكثير من الحيوات هي أرض جافة قاحلة لا تنتظر أمطارا و لا توقعات .
مملكة مهملة من الأحلام ، منسية من الأمل ، يحكمها ثلاث أباطرة : الظلم ، القهر و الحرمان . و قرأ كذلك السبب وراء تصرفها غير المحكوم بالمنطق و العقل : العجز .
هذا ما تشعر به الطفلة و هذا ما شعر هو به تلك الليلة .
بوصول أفكاره إلى هذه النقطة ، شقت زفرة عميقة قلبه الحابس المحبوس ليخرج من شفتيه و يخرج ثلاثتهم من جمودهم السابق .
ببطء رفع يده إلى خده يتحسس بأصابعه علامات صفعتها ، مجرد تورم بسيط هذا ما فعلته يدها بخده و لكن العلامات التي أحدثتها عيناها بكيانه هي أكبر و أكثر من أن يتعامل معها في لحظته الراهنة .
لذلك حرك رقبته ليستدير بوجهه يهرب من كل المسكوت عنه داخل نظراتها .
- أحضري لي حقيبتي يا آنسة ، قال برسمية و هو يبدأ بالقيام .
- لكن دكتور ، بدأت السكرتيرة تتمتم و عيناها تتراقصان كبندول الساعة بين جسده و جسد الطفلة .

تبخرت جميع محاولات اعتراضها و هي تراه يقوم واقفا و يبدأ بتقليص المسافة بينه و بين الباب بخطواته الثقيلة المعتادة .
- سأذهب معها ، يبدو أن لديهم حالة مستعجلة لا تستطيع الانتظار ، تكلم يحاول التوضيح لعينيها المستنكرتين بينما يتسلم حقيبته من بين أصابعها .

عندما خطا مغادرا عيادته كانت الطفلة تنتظره في الخارج .
تبعها إلى المصعد و وجد الباب قد فتح على مشهد يتمنى أن يراه كل يوم : المصعد الخالي من أشخاص آخرين .
دخل و مد يده تلقائيا ليضغط زر الطابق الرابع فوجدها تسبقه مجددا كما فعلت عند استدعائها للمصعد كما لو كانت تريد باستماتة أن تثبت له أن القصور لم يطل جميع طوابق عقلها .
وقفا متباعدين شيئا ما ، عيناه متسمرتان على الباب و عيناها منخفضتان إلى الأرض .
منذ غادرا و بينهما اتفاق غير معلن على تفادي نظرات بعضهما البعض و مع ذلك وجد يدها تقترب بتردد من يده و دون أن ترفع وجهها نحوه رأى أصابعها تمسك مقبض حقيبته في طلب صامت لحملها بدلا عنه .
و في لحظة استسلام غريبة تركها لها دون أي اعتراض ، داخله يموج بحيرة كبيرة و شعور آخر أكبر : راحة .
فمنذ وقت طويل لم يتسلم أحد عنه أحماله بهذه الطريقة ، مجانا ، اعتذارا و ... تقديرا .
بعد لحظات كان يدخل وراءها من باب الشقة الذي تركته مفتوحا .
توقفت خطواته لثانية صغيرة عند المدخل و هو يستشعر ذلك الطيف الغريب كأنما هناك أنفاسا شفافة تهمس له بنعومة مرحبة به .
هز رأسه يطرد أحاسيس غير مطلوبة لكن مع ذلك اعترف و هو يمضي وراء الطفلة أن الشقة تحوي شيئا مخلتفا ، شيئا يفتقده في شقته مع أنهما تحملان نفس التقسيم .
تجاوز الطرقة الصغيرة التي تفتح يمينا على قاعة طعام متوسطة المساحة ليصل إلى صالون تقليدي بسيط يجمع بين عتق و فخامة ، ارتفعت عيناه لتلتقيا بنظرات متجمدة غير حية لرجل يطل عليه من خلال صورته المعلقة في صدر المكان .
والد تلك الفتاة المتوفى كما أخبره دون أن يسأل بواب العمارة .
هل سيصل إلى تلك المرحلة يا ترى ؟ فكر و عيناه تبوحان بألم صامت لصاحب الصورة ، ذلك الوقت حيث ينظر بكل بساطة إلى وجه شخص رحلت عنه الحياة دون أن يشعر برحيل روحه هو شخصيا .
للمرة الثانية يطرد أفكاره و هو يواصل اتباع خطوات الطفلة و هي تمضي به عبر القوس في آخر الغرفة الحالية ليجد نفسه داخل صالون عصري بواجهة زجاجية مريح الشكل و الألوان و على أريكته الأساسية نامت امرأة ، رأسها ملتو إلى الناحية الأخرى و يدها تتدلى بجانبها بشكل استنفر الطبيب بداخله .
***************************

نغم 08-09-19 12:18 AM

الفصل السابع



بخطوتين كبيرتين كان بجانبها يدير وجهها بلطف عملي نحوه ، جارته صاحبة البيت و أم تلك الفتاة عرف فور أن حطت عيناه على ملامحها التي اختلطت طيبتها بامتقاعها الشديد .
- متى تعبت هكذا ؟ رفع عينيه نحو الطفلة في ذات اللحظة التي بدأ فيها بفتح حقيبته .

راقبها تهز رأسها ب" لا أعرف " مرارا فتنهد بعمق و هو يشرع في قياس ضغط المرأة المسنة . مرتفع جدا عن العادي و نبض قلبها منخفض نوعا ما عن الطبيعي .
ربت بيده برفق على خدها ففتحت عيناها تتأمله بنظراتها المتعبة .
- حاجة ، أنت تأخذين أدوية للضغط أليس كذلك ؟

أشارت له بنعم فأضاف :
- أريد أن اراها من فضلك .

حولت اتجاه نظراتها نحو الطفلة و لكن الأخيرة كانت قد طارت نحو مكان غرف النوم .
ثوان قليلة و عادت إليه لتناوله كيسا صغيرا ، فتحه يقرأ أسماء الأدوية بسرعة بينما عقله يستوعب و يحلل بسرعة أكبر ثم أخرج تلك البخاخة التي تلازم دائما مكانها داخل حقيبته .
- افتحي فمك يا حاجة من فضلك ، أطلق بختين داخله ثم أضاف بهدوء ، طعمه قوي أعرف لكن أغلقي فمك و تحملي قليلا حتى يسري مفعوله داخلك و ينخفض ضغطك بسرعة .

أطاعت المرأة باستسلام و هي تعود لإسدال أهدابها مواصلة التنفس بصعوبة ملحوظة . عاد يرفع عينيه نحو الطفلة و يأمرها بصوت عملي :
- اتصلي بابنتها .
- ه.. كا..ه .

" هي قادمة " لدهشته فهمها و بدون إشكال .
لأنه كان في نفس اللحظة ينظر داخل عينيها .
و اكتشف أن ما لا تقوله كلماتها تتكفل به نظراتها .
التفت بآلية إلى الوراء مع سماعه لصوت الباب الخارجي يفتح و يغلق ثم اتسعت نظراته بشدة و هو يرى الطفلة تأخذه على حين غرة و تنحني تقبل يده المستقرة على فخذه بينما تهمس :
- شا...هني .

" سامحني " ، مرة أخرى يلتقط كلماتها بشيء أبعد و أعمق من سمعه .
بوجه خلا من تعبيراته راقبها تعود للطيران بخطواتها الخفيفة و تعود مرفقة بجارته الشابة ، متعلقة بيدها و هي تشرح لها ما حصل بكلماتها ، إشاراتها و نظراتها .

- مرحبا دكتور ، وجهت الفتاة حديثها إليه باضطراب ، ما بها ماما ؟
- ضغطها مرتفع جدا و لو لم نلحقها لكان الموضوع تحول حتما إلى جلطة .

كان يتكلم بعمليته المعتادة و مع كل حرف جديد يضيفه راقب الفزع ينمو على ملامحها و يتآكل قناع التماسك الذي كانت ترتديه .
- وهي بخير الآن ؟ تمتمت بهمس ضعيف و هي تركع بجانب أمها و تبدأ بتمرير كفها على جبينها بحنان .
ماما ، ردي علي من فضلك ، أنا بيري .
- لا تستطيع التكلم الآن يا آنسة ، قال بهدوء مطمئن ، أعطيتها للتو دواءًا يخفف الضغط و يجب أن تظل مغلقة الفم حتى تستفيد منه .
من الأفضل تركها تسترخي قليلا ، واصل و هو يغلق حقيبته ، من فضلك اتبعيني إلى الصالون الآخر .

تبعته ممزقة القرار و النظرات بينه و بين جسد أمها المريض .
جلس على الأريكة القديمة و أخرج ورقة بيضاء و بدأ يخط عليها و هو يعود لقراءة أسماء الأدوية .
- على ما يبدو أمك تعرضت لشيء ما جعلها تصل إلى هذه الحالة ، هل لديك فكرة ؟
- كلا ، تركتها هذا الصباح و هي بحالتها العادية .

عاد بنظره إلى الورقة و هو لا يستطيع تحمل الفزع المذعور داخل عينيها المحدّقتين إليه .
- هنا كتبت لك دواء جديدا ستتناوله بشكل وقتي و كتبت لك أيضا الجرعات التي أراها مناسبة لدواءها القديم حتى لا تتعرض إلى هذه النوبة مجددا . لكن طبعا يجب عليها أن تستشير طبيبها الأصلي ، مفهوم يا آنسة ؟
- مفهوم دكتور ، شكرا لك .

دون كلمة إضافية سار عائدا إلى حيث ترقد المرأة المريضة .
- كيف تشعرين الآن يا حاجة .
- الحمد لله دكتور ، غمغمت بلسان ثقيل .
- ابتسمي حاجة . رفعت عينين مستغربتين نحوه .
- حتى نتأكد أنك لا تتعرضين إلى جلطة ، شرح لها و هو يعود لقيس معدل ضغطها .

ابتسمت المرأة بتردد فبادلها ابتسامة مطمئنة قبل أن يوجه حديثه لابنتها مرة أخرى .
- المفروض أنها بخير الآن ، ضغطها انخفض و بدأ يعود إلى معدله الطبيعي ، سأنصرف و إذا لاحظت شيئا ما غير عادي أرسلي لي البنت . و في الأثناء يجب أن تبعديها تماما عن أي ضغوط .
- حاضر دكتور و شكرا لك .

لكنه ترك شكرها لديها للمرة الثانية و هو يدير ظهره إليها و يغادر .

***************************
راقبت بريهان ظهره المبتعد بنظرة محتارة ثم نفضته بسرعة عن أفكارها و عادت لمن تستحق اهتمامها الحقيقي ، جوهرة حياتها ، أمها .
- ماما ، تمتمت و هي تشاهدها تقوم ببطء ترفع جذعها الأعلى و تتخذ وضعية اتكاء ، جلبت لها وسادة إضافية من الأريكة الأخرى ثم ربتت على خدها الذي ضاعت ألوانه و هي تواصل همسها ، ما الذي حصل ماما ؟
- أخوك التيس .
قطبت بريهان جبينها بعدم فهم .
- ما به سامر ؟ ما الذي حدث له ؟ طمئنيني أرجوك .
- حدث له أنه فقد رجولته و شخصيته .
- اهدئي ماما من أجلي أرجوك ، لو التكلم عنه سيرفع ضغطك مرة أخرى فلا داعي لأن تخبرني بأي شيء ، فقط ارتاحي .
- كلا بيري ، أحتاج إلى الفضفضة . أغمضت عينيها قليلا ثم فتحتهما و هي تقول بنبرات أهدأ :
- شقيقك المهزوز ، الضعيف الخنوع قام بكتب عقد تمليك طابق من طوابق الفيلا لتلك الحرباء .
- نهلة ؟
- تلك المصيبة ، نعم .
- و هو اتصل و أخبرك ؟
- كلا طبعا و هل يجرأ ؟ جارتنا القديمة السيدة رجاء عرفت عن الموضوع من زوجها المحامي و أخبرتني .

" حسبي الله و نعم الوكيل فيك يا رجاء " ، تمتمت بريهان في سرها بإخلاص .
بصوت مسموع قالت :
- و لماذا أنت غاضبة ؟
- لماذا أنا غاضبة ؟ حدقت السيدة جلنار في وجه ابنتها الصغرى بصدمة مستنكرة .
الموضوع لا يستحق حسب رأيك ؟
- لا شيء يستحق أن تعرضي نفسك و تعرضيني أنا لكل هذا من أجل طابق لا يسوى عندي حفنة تراب .

تنهدت الأم و هي ترفع ذراعها تغطي بها عينيها و همست كأنها تخاطب نفسها :
- نحن تنازلنا له كي يضمن مستقبله لأنه رجل ضائع و لم يجد فعل شيء بحياته .
- ماما لا تكوني قاسية عليه يكفيه ظروفه و مسؤولياته .
- أنا قاسية عليه بيري ؟ علا صوتها قليلا عن نبرته الطبيعية ثم إزاء نظرات ابنتها المتوسلة استعادت هدوءها و هي تقول :
- كلا حبيبتي لست قاسية ، ليتني كنت أقدر .
ربما لو كنت قاسية لما ضاع مني و من نفسه هكذا بعد وفاة والدك .
- لا تلومي نفسك ماما ، كان كبيرا بما يكفي حينها ، لست السبب .
- يا ابنتي خذيها مني عبرة ، لن تستطيعي أبدا إقناع أم بأنها ليست السبب في ما آلت إليه حال أبناء رحمها .
- و أنت ماما خذيها مني عبرة أنه لا جدوى من لوم نفسك على ضرر حدث و لن تقدري على إلغائه ، وضعت يدها على يد أمها و هي تضيف بينما تمرر أصابع يدها ، اقبلي ابنك كما هو يا ماما لأن غضبك من عدمه لن يغيره .

نظرت إليها السيدة جلنار ثم أشارت بيدها أمامها كأنها تعرض نسيج أيامها و هي تقول بيأس :
- رحم الله أخاك فراس ، كان رجلا بحق ، هذا الذي ظل معنا لا أعرف كنهه ، كيف و لماذا نشأ بهذا الضعف ؟
- لله في خلقه شؤون يا ماما .

لبعض لحظات تركتا لصمت هادئ المجال ليحل بسلامه عليهما قبل أن تقول بريهان بهدوء :
- من وجهة نظري يا ماما و بغض النظر عن حبي لنهلة من عدمه أرى تصرفه عادلا .
سامر لا يكاد يستقر بوظيفة و أحيانا يظل لأسابيع طويلة دون عمل معتمدا على إيجار الطابقين بينما هي تكدح يوميا و تواصل التقدم في وظيفتها و تساعده كما تعرفين .
واجبه نحوها أن يكافئها على كل ذلك و هذا ما فعله ، أكملت جملتها الأخيرة و هي تنظر إلى ملامح أمها بحذر .
- أفهم من كلامك أنك لست غاضبة .
- و لماذا قد أغضب ماما ؟ ألم أتنازل له من تلقاء نفسي ؟
الفيلا ملكه و هو حر ليفعل بها ما يشاء كيفما يشاء .

تنهد عميق صدر عن أمها احتارت كيف تفسره حتى رفعت الأخيرة عينيها إليها تتمتم بهدوء :
- من فضلك يا ابنتي أحضري لي بعض العصير لأطرد طعم الدواء من فمي .
- حاضر ، قالت بريهان و هي تقوم من مكانها فورا .

خرجت عبر القوس و بدأت تميل بجسدها يسارا لتتجه إلى المطبخ قبل أن تتوقف فجأة و هي ترى جارهم الطبيب جالسا على أريكة الصالون التقليدي .

بدهشة حاولت إخفاءها بدأت تتقدم نحوه ببطء ، هل سمع حوراها العائلي الخاص هي و أمها ؟ تساءلت و حرجها يزداد مع كل خطوة .
لكن نظراته الساهمة البعيدة أكدت لها العكس ، هذا رجل مغلف تماما بقوقعة من مشاكله الخاصة تعزله عن كل ما قد يحصل حوله .
توقفت على بعد خطوتين منه و هي تلاحظ ذلك التعبير الذي نقلته ملامحه بكل شفافية ، التعب . جارهم ، هذا الطبيب الغريب الطبع و الأطوار الذي يجلس في هذه اللحظة على أريكة منزلها ، هو رجل متعب .
بل مثقل تعبا .
- دكتور ، تجرأت أخيرا على مخاطبته بهمس ، هل تحتاج شيئا ؟

رفع عينيه إليها بنظرات بدت لها مستكشفة كأنه لم يسبق له أبدا رؤيتها و هذا هو الواقع بالفعل فهو كما هو واضح ينظر دون أن يرى .
راقبته يتململ قليلا في جلسته ثم يسدل جفنيه نصف إسدال و يتمتم بفتور :
- كوب ماء .

" من فضلك " ، أكملت عنه بريهان العبارة التي سقطت منه و هي تنصرف بخطوات سريعة نحو المطبخ .
وجدت سنية تخرج من الحمام فأشارت إليها بيدها لتتبعها ، ناولتها علبتي عصير صغيرتين و أمرتها بأن تشرب واحدة و تأخذ الثانية لأمها ثم فتحت الثلاجة مجددا و تناولت زجاجة مياه جديدة ، أخذت كوبا بعد أن تأكدت من لمعانه و عادت إلى طبيبهم الغريب .
مرة أخرى وجدت نفسها تتوقف فجأة على بعد خطوات صغيرة من مكانه ، الدهشة و كثير من الحرج يلجمانها عن التقدم فالرجل كان بكل بساطة نائما .
أخيرا استطاعت التقدم من مكانه بتردد ، وضعت الصينية على الطاولة أمامه و رفعت عيناها تمشطه بنظرة متأملة .
حطت عيناها بداية على خصلاته .
شعره أسود بنفس درجة سواد مزاجه ، يناقض بطريقة تشد الأنظار بشرته القمحية الفاتحة . توترت أنفاسها و شكله يسرق منها اعترافا مرغما بأن إجهاده لم يخف وسامته و لكن فقره لأي لباقة هو من يجعل المتعاطي معه يسقط شكله من حكمه عنه .
نزلت بنظرها كأنها شيئا ما يجذبها لتواصل رحلة اكتشافه و مثل المرة السابقة التي رأته فيها لم يكن يرتدي بلوزته الطبية البيضاء و مثل تلك المرة الماضية كان لبسه أبعد ما يكون عن الرسمية : قميصا أسود و بنطلونا من الجينز الشاحب ليبدو كمصاص دماء عصري بوجهه الممتقع المرهق .
رن صوت الجرس فبدا أجوف وسط السكون السائد ، عملاقا كأنه يدق داخل عقلها و ضميرها . انتزعت نظراتها الفضولية من الجسد النائم و توجهت خطواتها نحو الطارق اللحوح .
وقفت أمام الباب تترك الجرس يرن ثانية و ثالثة و رابعة عسى ذلك النائم يصحو و لكن نظراتها المختلسة نحوه أنبأتها أنه شيء بعيد الاحتمال .
ترددت لثانية أخرى و أخيرة ثم مدت يدها لتفتح الباب فأي شيء آخر أمامها لتفعله ؟
تنفست بارتياح و هي ترى الوجه الذي برز أمامها .
الشخص المناسب في الوقت المناسب .
بخطوتين تراجعت بريهان تفسح طريقا أمام الفتاة المرتبكة الملامح ،
السكرتيرة .
- آسفة ، تمتمت الأخرى و هي تتقدم بحرج ، الدكتور تأخر جدا و المرضى بدؤوا بصب غضبهم فوق رأسي .

أشارت لها بريهان إلى جهة الصالون و هي تقول مرفقة كلماتها بابتسامة هادئة :
- لا بأس ، تفضلي .

مازج شيء من التهكم ابتسامتها و هي تراقب الأخرى تتوغل داخل الطرقة ، رأسها لا يكاد يستقر في مكانه بينما تدير رقبتها لتسجل أكبر ما تقدر على حمله من تفاصيل .
توقفت الفتاة فجأة و هي تطلق شهقة خافتة ، عيناها مستقرتان على المنظر الذي يقابلها داخل الصالون و شفتاها تتمتمان بهمس غير مصدق :
- الدكتور ..نائم !؟

التفتت إلى بريهان تتأكد فهزت الأخيرة رأسها في صمت .
تقدمت الفتاة بخطوات صارت أسرع و قوامها يتلوى بوضوح داخل البلوزة الضيقة القصيرة و البنطلون الناعم القماش .
سارت بريهان خطوتين إضافيتين فقط و توقفت تراقبهما من بعيد ، تتنهد بنوع من الارتياح و هي تشاهده يبدأ بالتحرك قليلا مستجيبا للمسة الأخرى الخفيفة على كتفه .
عبست دون وعي و هي تشاهده يرفع ستار جفونه أخيرا لتقابل نظراته المشوشة نظرات الأخرى التي لا تستطيع رؤيتها لكنها متأكدة أنها في دفء و حميمية حركاتها و انحنائها الناعم عليه .

" و ما دخلك أنت ؟ وضعت حدا سريعا لأفكارها ، سكرتيرته و متعودة على إيقاظه كما يبدو "

تحول تهكمها لشعور آخر أوقع و أعمق و هي تراه يستند على حافة الأريكة و يقوم بصعوبة واضحة ، رفعت عينيها بتردد و حطت بهما على وجهه لتفاجئ تعبير ألم مسروقا هاربا من سيطرته الدائمة على ملامحه ، رفعت عينيها أكثر و التقت عينيه .
و داخل عتمتهما الباردة البعيدة لمعت نظرة قوية سرعان ما انطفأت كما يفعل شعاع برق في ليلة تتظاهر بأنها ممطرة .

رأته يلتفت ببطء نحو وجه سكرتيرته المتطلعة إليه .
- آسفة دكتور نديم على إيقاظك لكن المرضى ينتظرون حضرتك و الأطفال قلبوا قاعة الانتظار رأسا على عقب .

لم يجبها و لم يبد عليه أصلا أنه فهمها ، فقط مد يده يتناول حقيبته ثم سبقها نحو باب الشقة .
- دكتور شكرا لك ، تمتمت بريهان و هي تخفض عينيها عندما اقترب منها في طريقه للخروج .
- العفو ، أجابها بصوت عملي دون أن يبطئ من سيره .

" و أخيرا ، صدق من قال أن الثالثة ثابتة " ، فكرت بينما تتنهد في سرها قبل أن تلتفت إلى الخلف و هي تشعر بيد تلامس ذراعها .
التفتت بتساؤل صامت إلى وجه الفتاة المتفحص لها .
- أنا آسفة ، قالت السكرتيرة ، نسيت أن أسألك عن الحالة التي استدعيتم الدكتور من أجلها .
- ماما ، ضغطها ارتفع كثيرا و الحمد لله أن الدكتور نديم لحقها قبل أن يتفاقم الوضع .
- الحمد لله على سلامتها .
- شكرا لك ، قالتها بريهان و هي تبدأ تدريجيا بمسح الابتسامة المجاملة عن شفتيها .

أغلقت الباب و مشاعر غريبة تبعثر بعضا من استقرارها ، أهمها تلك المتعة التي شعرت بها و هي تلمح الضيق الواضح في نظرات السكرتيرة عندما نطقت هي اسمه و لم تكتف بلقبه المهني .
- بريهان

تعالى صوت أمها ضعيفا متسائلا فأسرعت بخطواتها إلى غرفتها تاركة استغرابها من نفسها تائها بين حيرة و لامبالاة .

**********************

- شوكت ؟
- نعم نديم أسمعك ، كنت فقط أصرف السكرتيرة .
- أعتذر لأني أتصل بك أثناء دوامك .

تعالت ضحكة قصيرة قطعها صوت الآخر الهادئ يقول بتهكم غير مبطن :
- لا تعتذر و لا تقلق لأني أنوي خصم كل دقيقة من حصتك القادمة معي .

اعتدل في جلسته ، تقطيبة بسيطة تجعد سفح جبينه بينما يتساءل باهتمام :
- أنت تنوي طبعا مواصلة الجلسات معي أم تتصل لتنسحب كعادتك ؟

تنهد نديم بعمق ، تخلل شعره بأصابعه الطويلة ثم غمغم بصوت بالكاد يسمع :
- بالعكس ، أشعر بأني أحتاج إلى جلسة عاجلة .
- ما الذي حصل ؟ تشعر بنوع من الانتكاس ؟

تنهد ثانية و بصوت أعلى ، انتكاس ؟
كلا لا يمكن له أن ينتكس لأنه لم يغادر تلك المرحلة أصلا ، هو فقط يتظاهر ، يخدع نفسه و يخادع غيره .
عبث بأزرار قميصه قليلا ثم تمتم يبدأ اعترافاته :
- اليوم حصل معي شيء غريب .
انفصلت عن الواقع تماما .
- اممم ، انبعثت الهمهمة السيكولوجية المعتادة .

رمى نديم القلم على سطح المكتب بقوة ثم قال :
- نمت داخل بيت جيراني .
- اممممممم .
- استدعوني لحالة عاجلة ، واصل يشرح ، ثم و أنا في طريقي للمغادرة هاجمتني تلك الرعشة من جديد .
انهرت جالسا على الأريكة و لم أستطع الوقوف مجددا ثم لا أدري كيف غرقت في النوم .
- اممم ، حدثني عن جيرانك .

ضيق نديم عينيه بشك ثم قال بفتور :
- سيدة مسنة و ابنتها .
- امممممممممممممم .

صمت نديم تماما و الشك يكبر داخل نظراته ، ترى ما الأفكار أو الأوهام التي تتلاعب داخل عقل شوكت التحليلي في هذه اللحظة ؟
- ما سبب الرعشة هذه المرة ؟

تردد نديم قليلا ثم قال بهدوء :
- عدة انفعالات تعرضت لها بشكل مفاجئ .
- اها ، رن تعبير الانتصار بقوة داخل أذن نديم الشارد ليزداد تقطيبه و يتراجع داخل مقعده دون كلام .
إذن الرعشة أسبابها نفسية كما أخبرتك مرارا و ها أنت بنفسك تلاحظ مرة تلو المرة صحة تشخيصي .

تأفف نديم بملل ، عادت أصابعه لتمسك القلم و يبدأ باعتصاره بينما يتمتم ، عيناه متسمرتان متعلقتان بالفراغ و قلبه يسبح داخل نفس ذلك الفراغ :
- دعنا من الرعشة و أسبابها الآن يا شوكت .
الأهم هو كيف وصل بي الأمر أن أغفو داخل بيت أناس غرباء عني .
كيف أتجنب أن يحصل لي نفس الموقف في المستقبل ؟
- الإنسان ينام لأنه يشعر بالتعب ، لأنه يحتاج الراحة نديم .
تريد أن تتجنب أن يتكرر ذلك معك ببساطة ارحم نفسك ، ارحم عقلك ، ارحم قلبك ، ارحم جسدك .

أغمض نديم عينيه و شفتاه تفغران في محاولة قصيرة للكلام ، محاولة ماتت قبل أن تولد الحروف فاكتفى بالتنهد مرة أخرى .
- لن أعطلك أكثر يا شوكت ، سأتركك لمرضاك ... الآخرين .
احجز لي موعدا في أقرب وقت من فضلك .
- فليكن الغد لو تقدر .
- إن شاء الله .

بعد دقيقة كان يضع هاتفه بجانبه و عقله يجتر نصيحة شوكت الأخيرة و الدائمة له ، ارحم نفسك .
كيف يُرحم الإنسان و هو مازال على قيد الحياة ؟
لأن الرحمة بالنسبة له هي في النسيان و كيف له أن ينسى و هل يقدر أصلا أن يسمح لنفسه بالنسيان .
إذا كانت الذكرى هي الفسحة الوحيدة حيث يعيش حياته التي لن تعود فهل سيرحم نفسه أم سيذبح ذاته و كينونته إذا سمح لقلبه بالهجر و السلوان ؟

*********************

نغم 08-09-19 12:24 AM

الفصل الثامن


للمرة الرابعة في نفس الشهر تجد نادية نفسها مضطرة للقدوم إلى المطعم .
هذه المرة لأن سخان المياه بحاجة إلى قطعة غيار لن يشتريها أحد غيرها طبعا .
أبوها لا يمكن أن يخالف تعاليم كتاب مصارفيه الشهرية المقدس .
سيتدفأ الفأر في حضن القط قبل أن يصرف السيد سليمان سليل عائلة المعلاوي قرشا إضافيا عما كان قد قرره .
فليقفز ثمن العملة ، فلتشتعل الأسعار ، فليستحموا جميعا بالمياه الباردة أو حتى بمياه الصرف ، فليحصل كل هذا و أكثر قبل أن يفكر السيد سليمان بطعن محفظته و التسبب في نزيف نقوده منها .
تنهدت نادية و هي تشاهد الآلة الحديثة تقوم بتقطيع اللحم إلى شرائح ، ينتابها شعور أن هذا ما فعله والدها بحياتها و نفسيتها .
هي عبارة شرائح ، مزقت ، قطعت و لن تعود أبدا كما كانت .
تناولت الشرائح المتوسطة الحجم ثم بدأت بإغراقها داخل وعاء " التتبيلة " .
- نادية ، انطلق اسمها من بين شفتي " زميلتها " فتمتمت دون أن تلتفت .
- ماذا الآن ؟
- هل بإمكانك أن تناوليني " البابا غنوج " من فضلك ؟

انتفض جزء بداخلها كرها لدى سماعها لاسم السلطة الشهيرة ، في هذه اللحظة تكره أي شيء يحتوي على كلمة بابا .
تأففت بنزق و قالت دون أن تغير من وضعها المنحني :
- انتظري قليلا حتى أخرج يدي الثالثة .
- ما به مزاجك اليوم ؟ لوت الأخرى فمها الواسع و هي تخطو وراءها لتتناول الطبق بنفسها .

تجاهلتها نادية و هي تتحرك لتضع اللحم المتبل داخل الثلاجة .
مزاجها ؟ كيف تريده أن يكون ؟
مع أب كأبيها يشعرهم طوال الوقت أنه يؤويهم بمقابل .
مع رجل رصيده في البنك يكفي لفتح ثلاث بيوت لكنه يحصر عمره و أعمارهم داخل شقة متواضعة .
- نادية ، انبعث اسمها ثانية من فم زميل آخر لها ، نادل على ما تذكر .

التفتت إليه عابسة دون كلام .
- الأستاذ مدحت يطلب منك بشكل شخصي أن تنضمي لنا اليوم لأن مجموعة من زبائنه المهمين فاجئوه بزيارة غير متوقعة .
- كلا طبعا ، امسح الفكرة من دماغك و من دماغ الأستاذ صفوت .
- مدحت .
- أيا كان ، تعرف أني لا أعمل سوى خلف الكواليس .
*
*
بعد ربع ساعة ، قدم أثناءها الأستاذ مدحت مدير المطعم شخصيا إليها بلحمه و شحمه و وجهه السمين المبتسم ، كانت داخل استراحة الموظفين تكمل وضع اللمسات الأخيرة على طقم عملها .
أدخلت أطراف القميص الأحمر الغامق داخل التنورة الرمادية الحالكة ، سوت أكمامها و هي تُملِّس الشريط الفضي الرقيق الذي يزينها ثم انحنت تنتعل الحذاء الأسود اللامع العالي الكعب .
فرقت شعرها من المنتصف و جمعته أعلى عنقها في عقدة بسيطة و تنفست بغير رضا و هي تعاين التناقض الواضح بين جدية تعابيرها و المظهر المغري لانحناءَاتها الأنثوية .
رمشت بعينيها عدة مرات ثم رفعت رأسها بشموخ لا تشعر به و خرجت تستقبل بقوامها الرشيق النظرات المعتادة .
سارت هنا و هناك ، بين الطاولات التي كانت ضمن نطاق خدمتها ، شفتاها تتقلصان و تتمددان بين ابتسامات تافهة المعنى و جمود فارغ من العاطفة بينما بداخلها تنشط خلاياها الساخرة و هي تصنف زبائنها .
فكما عودوها على تقييمها و غيرها بناءًا على كرم منحنياتها ، تعودت مثلهم على فرزهم و تقسيمهم ضمن أجناس مختلفة .
الشباب على الطاولة رقم أربعة مثلا هم قطعا من فصيلة الزواحف ، نظراتهم تدِبّ على كل شبر فيها بلزوجة مقرفة .
الرجل المقابل لزوجته على الطاولة رقم خمسة ينتمي إلى الفأريات ، عيناه صغيرتان متلصصتان ، تقرضان ما تقدران عليه منها أو من زميلتها كلما غفلت عنه قطته .
كانت تعود من المطبخ ، تحمل بيدها طلب الطاولة السادسة حين استدار صاحب الظهر العريض نحوها .
من الجوارح ، صنفته دون تردد و هي تخفض عينيها تتحاشى حدة الصقر في نظراته المتباطئة عليها .
لم يكن سوى ذلك الضابط ، عرفت و هي ترفع عينيها تغرق في ظلمة حدقتيه .
رجل معطوب الذمة ، فقير الضمير و إلا من أين له أن يتغدى داخل مطعم كهذا ؟
لص ، سارق ، مبتز أطلقت عليه أحكامها دون رحمة .
و بكل ثقة .
إذن لماذا تشعر بنفسها تخطو نحوه كالمسحورة .
لماذا لا تضايقها لمحة الإعجاب داخل عينيه كما تفعل بقية الأعين .

********************

بوجه عابس دخلت نادية شقة أسرتها و هي تقفل هاتفها فورا .
محتارة في أمرها ، هكذا تصف حالتها اليوم .
سارت ببطء تشق الصالون العتيق الأثاث ثم البهو المتوسط الطول الباهت الطلاء حتى وصلت غرفتها فدفعت الباب و دخلت .
ألقت حقيبتها بإهمال لم يكن أبدا من عادتها لكن هذا طبيعي في ظل الحالة الغريبة التي تعيشها اليوم .
جلست على طرف سريرها ، ساهمة التعابير ثم فتحت هاتفها تتصل بأحد المحلات القريبة للوجبات الحاضرة .
ربما حين تملأ معدتها الخاوية قد يعود لعقلها شيء من اتزانه .
وضعت الهاتف بعد انتهاء المكالمة و وقفت تسير مطأطأة الرأس .
وقفت أخيرا بعد دقائق قضتها تقطع مساحة غرفتها الصغيرة ذهابا و إيابا ، خطواتها مرتبكة حائرة متعثرة تماما كأفكارها .
ما الذي يحصل لها بالظبط ؟
منذ لقائها به هذا الصباح لم تستطع لفظه خارج لجة أفكارها .
بل كل ما مضت دقيقة إضافية توغل هو و هيأته الطاغية ليطرد ما عداه و تظل ذبذباته وحدها ترتفع داخل أثير عقلها .
لأول مرة في حياتها يقدر شعور على السيطرة على أعماقها .
قبلا ، لم تشعر أصلا بوجود هذه الأعماق لديها .
مسطحة المشاعر ، مسطحة التوقعات ، هكذا صيرتها الحياة و مقاديرها .
عندما كان الآخرون يكلمونها عن الحب و المشاعر كانت تشعر كأنهم بدأوا التحدث بلغة نائية ، كلماتها غريبة عصية على عقلها العملي الواقعي .
إذن ما الذي يحصل ؟ و مع من ؟
مع شخص لم تره سوى مرتين و كلاهما في موقف يصب ضد صورة الرجولة التي تحملها داخل ذاتها .
ربما هذه مكافأة القدر لك نادية ، فكرت بمرارة ، لأنك لطالما لمت الأخريات على عماهن في اختياراتهن ، على تنازلهن المهين و قبولهن بمن لا يقبل .
أغمضت عينيها و أحاطت جسدها بذراعيها بقوة و ذكرى نظراته لها تعود لتعتقل اهتمامها و تكبر و تسيطر فتعود هي لنفس اللحظة ، أنثى ضائعة في أحاسيس لم يسبق على جسدها و قلبها اختبارها .
يعود قلبها ليخفق بعنف و أنفاسها تتلاحق باضطراب و هي ترى نفسها داخل عينيه كأنه يرى أحلامه الذكورية فيها و لدهشتها لم يزعجها ذلك و لم يحبطها و لم يجعلها تشعر بالمهانة .
على العكس وجدت نبتا غريبا ينمو و يزدهر ، يظهر و يلوح في رجفة جارفة اعترت ساقيها ، في حمرة متوهجة طغت على شحوب خديها ، في لمعة عينيها و هي تستجيب للنداء الملح داخل عينيه ، في خفقة قلب ، في دوخة رأس و في و في و في ...
ما الذي يحصل لها بالضبط ؟

***********************

بعد أسبوع ،
جلس اصف داخل مكتبه في مبنى شرطة المرور في ذلك الحي الناشط من العاصمة ، أغمض عينيه للحظة عرف أنها لن تطول قبل أن يقتحم أحد الأمناء عليه مكتبه يقحمه في مشكلة أخرى من مشاكل وظيفتهم التي لا تنتهي .

ما إن أسدل جفنيه حتى تراءى طيفها أمامه ، تتوجه نحوه هو كأن الكون بأسره خلق ليعيش معها هي هذه اللحظة ، أنثى كما يشتهيها ، تتخبط خطوتها بخجل واضح ، تقترب منه بسيقان ناعمة تلتف فتلف أفكارا عنيفة المراس حولها و حول ما يريده منها ، أفكارا لم يكن يجب عليها أن تكون .
تنهد و هو لا يزال مغمض العينين ، يشتكي نفسه لنفسه فمنذ متى كانت الأمور معه كما يفترض منها أن تكون .
- ليس لدي وقت لك ، تمتم يخاطبها ، ساكنة أفكاره ، و لا مكان لك لدي فقلبي لم يخلو بعد و ربما لن يخلو منها .
فتح عينيه تدريجيا و أمضى ثوان يتأمل الموجودات داخل مكتبه و في الأخير و كعادة جميع هذه الأيام الأخيرة عاندته يداه و هما تتناولان هاتفه ، تبحثان في إصرار عن اسمها و تتأملان رقمها .
الرقم الذي أخذه من مدير المطعم مستغلا اسم أسرته و لأول مرة أيضا رتبته الحكومية .
في نفس المساء كان يجلس القرفصاء داخل حديقة بيتهم يتسلى برمي الطبق البلاستيكي إلى السور المقابل و يراقب كلبه " إيجل " eagle و هو يلتقطها بدقة فائقة و يعود له نهما إلى رمية أخرى .
رمى الطبق مرة و هو يفرقع بأصابعه و تبدأ ابتسامة فخر بالظهور حين سمع خطوات أمه مسرعة بشكل يخالف طبيعتها الهادئة .
- خيرا حاجة ، قال و حدسه يستقبلها قبل حتى أن يستدير نحوها .

لحظات و كانت واقفة أمامه تشرف عليه بنظرات بعيدة ، تأمل وجهها بصمت ، تعبيراتها حملت غربة كبيرة لم يستطع أن يميز شيئا منها سوى ذلك اللوم المألوف الذي سكن منذ مدة روحها تجاهه .
- خيرا يا حاجة ، نطق ثانية يضع حدا لصمتها المتألم .
- هو خير لي أكيد لكن لك بني لست متأكدة ، ثبت عينين قاتمتين متحفزتين داخل مقلتيها فأضافت ببرود ، حضرتها خُطبت و

قطعت كلماتها تبحث عن شيء ضائع داخل قسماته الجامدة ربما هو التأثر ، الصدمة لكنها لم تجده فواصلت :
- و بعد أسبوع عقد قرانها .

****************

في منتصف قاعة الفصل العامرة بصخب الشباب كأنهم يجلسون وسط مقهى شعبي عام ، جلست إيثار لوحدها بعد أن فصلت ذاتها عنهم و عن شوشرتهم ، وضعت السماعات داخل أذنيها و أعطت الإذن لعقلها بالشرود مع اللحن الهادئ الناعم المتضاد تماما مع المشهد المتشكل أمام عينيها لذلك أغمضتهما حتى تكون عزلتها أعمق و أكثر روقانا .
كانت قد اندمجت تماما و شفتاها تتحركان ببطء تهمسان بكلمات تلك الأغنية العاطفية الراقية المعاني حين أخرجها عنوة من رقة حلمها صوت يحمل خشونة رجولية ، أحد زملائها الذين لا تطيق معظمهم .
فتحت عينيها نصف فتحة ، ترفض يقظة تامة من نشوتها ، رفعت نحو وجه زميلها نظرة متسائلة .
- هل أستطيع الجلوس بجانبك ؟

لم يكن لزجا لكنه لم يكن ظريفا كذلك لذلك اكتفت بالإيماء نحوه دون اهتمام .
- هل أستطيع التعرف عليك .

هذه المرة لم تتعب رأسها بالإيماء و اكتفت بالصمت .
- أنا أدعى ماجد .

طبعا كانت تعرف اسمه و هو كان يعرف أكثر من اسمها فهما زميلين منذ أشهر لكن بما أنه بدأ هذا الحوار التافه فعليها أن تجاريه ثم ... تربيه .
- ما اسمك ، واصل يقول دون إحساس .
- ليس لدي اسم ، ردت عليه دون أن تلتفت .

شعرت به يتأملها بغباء لكنها استمرت تتشاغل بهاتفها عنه ، ترن على بسنت ، زميلتها الجديدة التي تكاد ترتقي إلى رتبة صديقة لكنها ستخسر هذه المكانة لو لم تظهر حالا و تنقذها من المتشرد الذي يلازم الكرسي بجانبها ، ينفخ صدرها مللا و غيظا و هو يواصل افتعال مواضيع تافهة لا تهم أحدا سواه .
- الآن تذكرت اسمك ، قال بصوت عال أكيد سمعه الآخرون حولهما فالتفتت نحوه بنفور مستهجن .

لكنه على ما يبدو لديه نقص شديد في فيتامين الكرامة لأنه ثبت عينيه الناعستين داخل عينيها الجامدتين ، تنهد و قال بوله :
- إيثار آه إيثار .

تنهدت مثله و أجابته في سرها و هي تعود لتطرق برأسها :
" أنت الذي سيشفيني تماما من أبناء جنسك . "
بدأ الهاتف في يدها بالاهتزاز فخفضت بصرها تقرأ الرسالة التي استقبلها :
- أنا وصلت و أنرت .

رفعت عينيها و تنفست بارتياح و هي ترى بسنت تلوح أخيرا من فوهة الباب .
- عن إذنك ، التفتت تكلم الثرثار الذي بجوارها .
- تفضلي ، أجابها بلهفة فورية .

حركت يدها من الأسفل إلى الأعلى في إشارة واضحة و قالت ببرود :
- صديقتي وصلت و أنت تجلس مكانها .
- أنا .. أنا ، تمتم بحرج و البلادة تخيم على ملامحه ، نظر إلى بسنت التي اقتربت و وقفت تنتظر في ابتسامة صامتة ثم وقف و انصرف بارتباك واضح .
- مسكين ، تعبير من الأسف ارتسم على ملامح بسنت المتراخية ، ضحية أخرى تنضم إلى قائمة المطرودين من قلبك .
- لم يعتبه أصلا ليطرد منه ، قالت إيثار و يداها في الطريق إلى وجهها لنزع نظاراتها .
لماذا تأخرت ؟ صارت نبرتها هجومية و هي تلتفت إلى زميلتها .

لكن بسنت كالعادة وجدت الطريقة المثلى لتأخذ الحديث إلى وجهة مختلفة ، تأملتها مطولا ، اتسعت عيناها ثم ضاقتا ثم لمعتا ببريق غريب لم تفهمه إيثار فتململت في جلستها على الكرسي القديم ثم قالت بتوتر :
- هل أضعت شيئا ما في وجهي ؟

أجابتها الأخرى بسؤال آخر :
- أتعرفين أنك أجمل بدون نظارات ؟
- كل الناس يبدون أجمل دون نظارات .
- نعم بالفعل ، بدأت تقول معترفة ، ذكرى معينة ضربتها فتراجعت تهز رأسها عدة مرات ، كلا ، كلا ليس جميعهم .

صمتت للحظات ، مدت يدها خلالها تتناول نظارات إيثار ، وضعتها على عينيها تأملت نفسها قليلا في شاشة هاتفها ثم نزعتها برشاقة و أعادتها لمكانها ، فرشت عدة أوراق على سطح الطاولة أمامها ثم استندت بكلتا ذراعيها و بدأت تقول بشرود :
- في إحدى المرات عرفتني إحدى صديقاتي بأحدهم ، مطت شفتيها المطليتين بلون وردي فاتح ثم أكملت ، كلمته لفترة على الهاتف و أعجبني فوافقت على الخروج معه و هكذا جلسنا ذلك اليوم في أحد المقاهي ، كان وسيما يضع نظارات ذات إطار أسود لامع و كنت على وشك الموافقة على رفع علاقتنا إلى مستوى أعلى و في آخر لحظة و الكلمة في طريقها لتخرج من شفتي رفع يده إلى وجهه و نزع عنه النظارات .
- و ما الذي حصل ؟ تمتمت إيثار بضجر واضح .
- فزعت جدا من شكله لكني سيطرت على ملامح وجهي ثم ........

بلا بلا بلا ، هكذا رنت بقية الكلمات داخل أذني إيثار و هي تكاد تتقيأ من شدة تفاهة العالم و الناس .
- لا أعرف حتى اللحظة إن كان عرف حقا ، استمرت الأخرى تقول اهتمامها المنصب على ذاتها يمنعها من ملاحظة برود إيثار الصارخ .
- هل تظنينه عرف ؟ ألحت ثانية فزفرت إيثار و تمتمت بلامبالاة :
- السؤال الأهم هو لماذا اختار أن ينزع نظاراته في تلك اللحظة ؟
- ياي ! تصوري ما الذي كان ليحدث لو لم يفعل ؟
- لا شيء رهيب بالعكس كانت مجموعتك ستزيد شخصا مميزا يبدو بشعا دون نظاراته .

ضيقت بسنت عينيها و نفس النظرة الغريبة تعود لتحتل عينيها قبل أن تدير كلاهما وجهها رغما عنها و لغط خفيف أتبعه صمت شبه تام جعل جميع الأنظار تتوجه نحو الباب يراقبون الرجل الطويل الجسد نوعا ما ، الجدي الملامح ، حاد النظرات يدخل عليهم .
- صباح الخير ، انطلقت عباراته مسرعة غير مترفقة بذهنهم الخامل المتفاجئ ، أنا الدكتور أكرم فهمي كريم سأكون مدرسكم المعوض بدل الدكتورة إيناس التي ستغيب المدة المتبقية بسبب إجازة الأمومة .

لم تسمع إيثار بقية كلماته و قلبها يدق في حلقها ، تتخاصم نبضاته ، تتزاحم أيها تستقبله ، تتسع عيناها لهفة و هي تركض هنا و هناك تنادي نظرة منه ليلتقي عينيها و يجد فيها تساؤلاتها الطويلة الكثيرة عنه و ربما يجيبها عنها بنظرة اهتمام يخصها بها كما في تلك المرة .
بتوق متزايد راقبته يتحرك في الفصل ، سرعة أنفساها تتناغم مع خطواته و التفاتاته ، تصل إلى ذروتها حين يقترب من مكانها و تكاد تقتنص نظرته ثم تذوي و تخفت حين يعود للابتعاد .
أخيرا ، بقلب واجف مترقب ، رأته يحمل لائحة الأسماء و يبدأ بالمناداة على أسماء الطلبة .
ابتلعت ريقها بصوت خيل لها أن الصف بكامله سمعه و هو يصل لاسمها أخيرا .
- إيثار جاد الله ، نطقه ببطء فعل الأعاجيب بقلبها لتقفز دقاته و تتعالى صرخاته و تثبت عينين متسعتين على وجهه .

أخيرا وضع حدا لترقبها ، للهفتها و جميع اضطراب مشاعرها و هو يرفع عينيه ليلتقي نظراتها الحائرة المتحيرة .
رفرفت إيثار برموشها الطويلة عدة مرات و هي تتلقى نظراته نحوها .
في البداية كانت نظرة عدم معرفة
ثم نظرة برود تؤكد لها أنه ليس لديه ما تبحث عنه .
و أخيرا نظرة تجاهل تام لها و هو ينتقل بصوت رافقت الرسمية نبراته إلى الاسم التالي .


****************


الساعة الآن 02:51 PM

Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.