شبكة روايتي الثقافية

شبكة روايتي الثقافية (https://www.rewity.com/forum/index.php)
-   الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء ) (https://www.rewity.com/forum/f118/)
-   -   سُلاف الفُؤاد *مميزة ومكتملة * (https://www.rewity.com/forum/t458525.html)

Hend fayed 30-09-19 03:32 PM

سُلاف الفُؤاد *مميزة ومكتملة *
 
https://upload.rewity.com/uploads/153510673142682.gif

https://upload.rewity.com/uploads/15351067313711.gif

https://upload.rewity.com/uploads/157441867056313.gif


سلاف الفؤاد
https://upload.rewity.com/uploads/157441867042651.jpg




سلاف : تعني أجود وأحسن أنواع الخمور؛ إلا أننا لن نتناول الحديث عن الخمور بهذا المنطلق فيما عدا اقتباسنا لإحدى خصائصه التي تخدم موضوع روايتها وهي أنه يعمل ك... مُخدر.







https://upload.rewity.com/uploads/157367004165162.jpg


https://upload.rewity.com/uploads/157367004168823.jpg


https://upload.rewity.com/uploads/15736700417254.jpg


https://upload.rewity.com/uploads/157367004174675.jpg


https://upload.rewity.com/uploads/157367004176946.jpg


https://upload.rewity.com/uploads/157367004180347.jpg


https://upload.rewity.com/uploads/157367004182768.jpg


https://upload.rewity.com/uploads/157367004185589.jpg


♢*♢

المقدمة
نحتاج جميعًا إلى مخدر من نوع ما في وقت ما لأجل إخماد ثورة داخلية أو انفلات الأعصاب الناتج عن موقف معين يضطرنا قسرًا إلى إخراج أسوء ما فينا تاركاً الأثر من خلفه لا يعاني منه سوانا نحن.
منا من يسعى للصلاة والذِكر واجداً فيهما السكينة المنشودة والهدوء المطلوب، ومنا من يسلك إحدى دروب التجاهل واللامبالاة راسما لنفسه منهجا يسير عليه وحده مهما اختلفت معه وجهات النظر شرط ألا يشعر في أي لحظة بأي ألم لأي سبب كان،،، لكن أيضًا نجد منا هذا النوع الذي يهرب من نفسه ومشاكل الدنيا التي تزاحمه ليُلقي بها على كتف من يحب.. موقنا كل اليقين بأنه سيحظى على الدعم المرجو دون خيبات كما يفعل معه الآخرين، حينها نجد أن العلاج يكمن في العشق.. نجده هو الدواء الذي يستطيع القضاء على كل العلل والأزمات.. نجده الشفاء والترياق المُراد.
يكون القلب يحترق والروح تئِن ألماً لكنهما فور أن يرتشفا نظرة حنان ممن يحبا أو يلحظا لمحة من أمان واهتمام في عينيّ المُحب فإن تلك الآلام تسكن وكأنها فجأة قد أصابها الخِدر فتلاشت أمامه أي مشاعر أخرى من أي نوع وبقى هو سائدا على العرش لا سلطان علينا من سواه، وهذا ال 'سواه' ما هو إلا 'العشق' .
*كما تعمل أنواع الخمور على تخدير العقل وسائر الجوارح فللعشق نفس المقدرة على إثباط قوى العقل والجوارح حتى يظل هو المهيمن الوحيد على قوى القلب والروح، ويصبح هو المخدر الخاص بهما.
*تُذهب الخمر العقول ويُذهب العشق القلوب، وإن اعتبرناهما قوتان كبيرتان في سباق طويل.. سباق نهايته لا يمكن التنبؤ بها فيا تُرى أيهما تستحق الفوز؟ وأيهما ستتمكن في النهاية من رسم طريقها الخاص والوصول إلى العرش مُتوجة بلا خسائر أو جروح؟

♢*♢


*ملاحظة/ مواعيد تنزيل الفصول ستكون يوم الثلاثاء من كل اسبوع في تمام الساعة الخامسة '5' مساءً بتوقيت مصر إن شاء الله.


وأخيرا... أتمنى أن ينال العمل استحسانكم ويلقى عندكم القبول الطيب والله حسبي وهو نِعمَ الوكيل.


https://upload.rewity.com/uploads/157441867060184.gif

المقدمة .. اعلاه
الفصول الاول والثاني والثالث والرابع .... بالأسفل

الفصول الخامس والسادس والسابع نفس الصفحة
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر والحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر والرابع عشر
الفصل الخامس عشر والسادس عشر
الفصل السابع عشر والفصل الأخير
الخاتمة
https://upload.rewity.com/uploads/157441867063325.gif

متابعة قراءة وترشيح للتميز : مشرفات وحي الاعضاء
التصاميم لنخبة من فريق مصممات وحي الاعضاء


تصميم الغلاف الرسمي :


تصميم لوجو الحصرية ولوجو التميز ولوجو ترقيم الرواية على الغلاف :كاردينيا73

تصميم قالب الصفحات الداخلية الموحد للكتاب الالكتروني (عند انتهاء الرواية) : كاردينيا73

تصميم قالب الفواصل ووسام القارئ المميز (الموحدة للحصريات) : DelicaTe BuTTerfLy

تنسيق ألوان وسام القارئ المميز والفواصل وتثبيتها مع غلاف الرواية : كاردينيا73

تصميم وسام التهنئة : كاردينيا73

تصميم البنر الاعلاني : DelicaTe BuTTerfLy




https://upload.rewity.com/uploads/157441867066866.gif
يجب ان ترد لمشاهدة المحتوى المخفي


https://upload.rewity.com/uploads/157441867069987.gif




قصص من وحي الاعضاء 30-09-19 08:51 PM

اهلاً وسهلاً بك بيننا في منتدى قصص من وحي الأعضاء ان شاء الله تجدين مايرضيك موفقة بإذن الله تعالى ...

للضرورة ارجو منكِ التفضل هنا لمعرفة قوانين المنتدى والتقيد بها
https://www.rewity.com/forum/t285382.html

كما ارجو منك التنبيه عندما تقومين بتنزيل الفصول على هذا الرابط
https://www.rewity.com/forum/t313401.html

رابط لطرح اي استفسار او ملاحظات لديك
https://www.rewity.com/forum/t6466.html



واي موضوع له علاقة بروايتك يمكنك ارسال رسالة خاصة لاحدى المشرفات ...

(rontii ، um soso ، كاردينيا73, rola2065 ، رغيدا ، **منى لطيفي (نصر الدين )** ، ebti )



اشراف وحي الاعضاء



Hend fayed 30-09-19 08:51 PM

|| الفصل الأول ||

** كانت ترتب الفراش وهي تدندن بخفوت وعلى ثغرها ترتسم ابتسامة تعبر عن سعادتها الغامرة، أما روحها فكانت تتعانق مع السحاب من شدة فرحها وكيف لا تكن كذلك وهي تمتلك أكثر زوج محب عطوف في العالم وطفلين من أجمل الأطفال الذين قد رأتهم في حياتها
وفجأة انفتح الباب بقوة واندفع الصغير راكضاً إليها وهو يصرخ بخوف شديد " يا أمي انجديني "
فتحت حبيبة ذراعيها له وما إن وصل إليها حتى ضمته بحنان إلى صدرها وقالت " مِمَن حبيبي؟ "
رمش الصغير بتوتر وهو يفسر فعلته دون إنتظار سؤال أمه " لقد جرحت ريحانة وحينما رأى أخي الدماء التي تغطيها ب... بكى كثيرا "
قطبت حبيبة دون تعقيب بينما قال هو بعد أن لمح العتاب الصامت في عيني أمه " والله لم أتعمد ذلك يا أمي.. أنا طلبت منه أن أمتطيها لكنه رفض ف... "
سكت وهو يشعر بالخزي من فعلته فربتت حبيبة على كتفه وهي تقول " أكمل حديثك حبيبي أنا أسمعك "
ازدرد ريقه بإرتباك قبل أن يتكلم بخفوت: " فأنتظرت حتى خرج من الدار مع قاسم ثم... ثم امتطيتها ولأنني لا أعرف كيف أتعامل معها وهي لم تتقبل أن اقترب منها فقد غضبت وضربتها بالسوط فجُرِحَت "
فغرت حبيبة فاهها بذهول وهي تطالع ابنها متمتمة بدون شعور " ضربتها بالسوط؟ كيف استطعت فعلها يا زيد؟ "
أطرق الصغير رأسه وهو يزم شفتيه بقوة بينما تابعت هي بأسى: " ما فعلته بريحانة خطأ كبير سيجعله يخاصمك "
شهق زيد باكياً وهو يقول: " ألن... ألن يسامحني أبداً؟ "
ربتت حبيبة على كتفه بحنان وهي تقول " بلى سيفعل، لكنه الآن سيكون غاضبا منك "
أجهش زيد في البكاء بشدة وهو يقول " لكن... لكنه قال أنه لن يسامحني أبدًا.. والله يا ماما لم أقصد أن أؤذي ريحانة "
قبل أن تتكلم حبيبة رأت الآخر يندفع إلى الغرفة بملامح متصلبة والغضب يشع من نظراته التي يوجهها إلى زيد رغم أن عينيه تؤكدان صحة قول الأخير بأنه بكى كثيرًا، أما زيد أمام تلك النظرات الحادة من أخيه فلم يستطع إلا الاختباء خلف ظهر أمه وهو يتشبث بثوبها بشدة بينما يوجه النظرات الآسفة إلى أخيه.. يرجوه الصفح والعفو دون كلام لم يجد له سبيل بينهما في تلك اللحظة الحرجة
ابتسمت حبيبة بحنان وهي تفتح له ذراعيها في دعوة صامتة حتى يقترب منها لكنه بعناد أشاح بوجهه عنها وهو يقول بصوت متشنج " ابنك المدلل أذى فرسي في غيابي "
مالت نظرات حبيبة بأسى لحال الفرس المسكينة وهي ترد بمهادنة " أخوك لم يتعمد ايذائها يا حبيبي.. هو أراد امتطائها فحسب "
صرخ يوسف بقوة " لم يكن عليه الإقتراب منها.. هو يعلم كما الجميع أن ريحانة لا تتقبل غيري.. إنها ملكي وحدي فبأي حق اقترب منها من الأساس؟ "
حاولت حبيبة أن تقترب منه لكن زيد ظل متشبثا بثوبها يرفض أن تتركه فتنهدت تقول " أخبرني أولاً كيف حالها الآن؟ "
رفع يوسف رأسه باعتداد رغم نظرة اللوم التي وجهها إلى أخيه قبل أن يرد على أمه " ماذا تظنين أمي؟ بالتأكيد بخير رغم الجروح العديدة التي تسبب فيها السوط الغليظ بفضل ابنك لكنها بخير أو هكذا ستكون قريباً "
ابتسمت حبيبة بحنان عذب تقول " ألن تقترب من ماما وتمنحها قبلة الصباح أم ماذا؟ "
حينما ظل على جموده وتجاهله لها ناكفته هي بطفولية لذيذة يفقد أمامها كل غضبه وحنقه " هل ستعاقبني معه على ذنب ليس لي دخل فيه؟ ظننت أن والدك علمك سمات العدل "
رمش لبرهة قبل أن يتقدم منها مطرق الرأس بانكسار آلم قلبها على صغيرها فتراجع زيد للخلف خطوة وترك ثوبها بينما هي خفضت رأسها قليلاً فقبل يوسف جبينها وهو يقول " آسف أمي.. لم أقصد أن ازعجك مني "
ابتسمت حبيبة بمحبة خاصة وهي تقول " هل لو طلبت منك أن تسامح أخاك لأجل خاطري ستفعل؟ "
ران الرفض في نظراته وهو يقول بصوت حمل الغضب وغصة البكاء " لقد... لقد ضربها حتى جرحها وأدماها.. كيف اسامحه على هذا؟ "
انتفض بين ذراعيها وقد هزته موجة بكاء عنيفة كان يكبتها ببسالة بينما يضيف " هل لأنها مخلوق ضعيف لا تستطيع النطق والشكوى بما يؤلمها أو الدفاع عن نفسها مثلنا يعطيه هذا الحق حتى يتجبر عليها؟ هذا ظلم "
وفي لحظة التالية كان يبتعد عنها وهو يهتف بقهر من الغضب الذي يشعر به " لن أسامحك يا زيد على ما فعلته بفرسي.. ظننتك موضع ثقتي وسندا لي في غيابي.. ظننت أنك ستحمي ممتلكاتي من أي شخص يحاول أن يقترب منها لكنني لم أتخيل أن تكون أنت من عليّ حماية ممتلكاتي منه "
ران على حبيبة البؤس وهي ترى الصدع الذي حدث بين ولديها فقالت بعد لحظات بمهادنة في محاولة لحل الأمر " نعم هو أخطئ لكنه نادم على ما فعل ويريد أن يعتذر لك وأيضًا سيعدك بألا يكررها ثانية.. سامح أخاك تلك المرة فقط يا صغيري "
بعناد وغضب متفاقم كان يوسف يرد " لأنه أخي ما كان عليه أن يؤذي ريحانة.. أنا لن اسامحه أبداً ومهما فعل "
خرج بعدها صافقاً الباب من خلفه بينما زيد عاد إلى البكاء وهو يقول بنبرة آسفة حزينة " يا إلهي! ماذا فعلت أنا بغبائي؟ والله لم أقصد أن يحدث كل هذا كنت غاضباً من رفضها لي فحسب.. أنا آسف والله آسف يا ماما "
ضمته حبيبة إلى صدرها وهي تقول بأسى " لا تبك يا حبيبي.. ما فعلته كان خطأ لكن أخاك سيغفره لك فقط ككل مرة.. يوسف قلبه حنون ويحبك كثيرا.. دعه حتى يهدأ الآن وبعدها سنحاول معاً أن نسترضيه من جديد.. اتفقنا "
هز زيد رأسه بأمل قبل أن تلتمع في ذهنه فكرة ما فأبتسم بحماس واستأذن أمه خارجا من جناح والديه وهو يهرول بسرعة تجاه البوابة الخارجية للدار
***
بعد عدة دقائق / في الأسفل
كانت الدار خالية من رجالها على نحو مفاجئ بعدما خرج الحاج عبد الرحمن كبير العائلة بصحبة ثلاثة من أبنائه _خالد، سليم، مختار_ منذ الصباح الباكر لحضور جلسة صلح ستعقد للفض بين نزاع كبير حدث بين عائلتين على قطعة أرض
أما الآخرين _محمد، محمود_ فقد خرجا منذ ساعة متوجهان إلى المزرعة الخاصة بالخيول والتي تنتمي ملكيتها للعائلة
كانت الحديقة الخلفية للدار مقتصرة على إسطبل صغير خاص _بريحانة_ بجانب أنها مهيئة لتكون مناسبة للهو ولعب أطفال العائلة لكنها خلت من الجميع خوفاً من إثارة غضب ابن عمهم خاصة بعد العراك الحاد الذي دار بينه وبين أخيه لأجل فرسه المجروحة
في تلك الأثناء كان يوسف يجلس على الأرض رافعا ركبتيه ضامهما إلى صدره ومستندا بظهره على الحاجز الخشبي من خلفه حيث تقبع ريحانة ومن جوارها جواد آخر بني اللون ملتصقا بها وكأنه يواسيها بطريقته
كان يشهق بين الفينة والأخرى في بكائه ونشيجه المكتوم يكاد يفتك بروحه المقهورة مما لحق بفرسه الأثيرة من أذى
كان يتحدث معهما وكأنهما من البشر ويفهمان ما يقول " إنه لم يتعمد ايذائك يا ريحانة.. زيد يغضب سريعاً ويتصرف بدون تفكير لكنه يحبك جداً وهو نادم على تصرفه الخاطئ معك.. سامحيه أرجوك لأنني لن أفعل ومن الظلم أن نعاقبه كلانا بالخصام... "
قطع استرساله في الكلام فجأة وهو يهب واقفا على قدميه بينما يقول بحماس " سوف أذهب الى عمي محمود في المزرعة وأطلب منه أن يأتي حالاً لرؤيتك حتى يداويك بنفسه "
نظر لها مبتسماً وهو يمسح دموعه بظهر كفه بينما يربت على رأسها بيده الأخرى وهو يقول " لن اتأخر عليكِ كثيراً يا ريحانتي (ثم التفت إلى الجواد الآخر وربت على رأسه أيضا وهو يحدثه) وأنت أهتم بها في غيابي حتى أعود إليكما بعد قليل "
انصرف بعدها متعجلا حتى يلحق بعمه في المزرعة التي لا تبعد كثيرا عن الدار، كان يركض بسرعة وحماس وفي داخله رغبة قوية بألا يتأخر على فرسه فيكفي ما نزفته من دماء وما تعانيه من جروح بسبب ما فعله أخاه المدلل بها
بعد مرور ما يقارب النصف ساعة كان قد وصل أخيراً إلى المزرعة، توقف للحظة أمام البوابة الضخمة يلتقط أنفاسه قبل أن يدلف للداخل، كان سعيداً بوصوله السريع وقبل أن يتحرك من مكانه وصله صوت طلق ناري جعل جسده يرتجف فزعاً ليدرك في لحظة أن الصوت قريب جداً
صرخ حينها بهلع " الصوت من الداخل.. من المزرعة.. يارب سلم "
راعه اختفاء الحارسين من أمام البوابة فتوجه إليها ودفعها بيديه فانزاحت أمامه مفتوحة على مصراعيها فدخل مهرولا تسبقه أنفاسه المضطربة كجسده وما هي إلا بضعة خطوات حتى شلت قدميه وتوقفت تماماً عن الحركة وهو يرى أمامه عدد كبير من الرجال الملثمين يحملون بين أيديهم أسلحة نارية ثقيلة
رفع قبضته سريعا يضعها على فمه ليكتم شهقته بينما عينيه تنتقلان من هؤلاء الرجال الى الناحية الأخرى حيث اثنين آخرين من هؤلاء الملثمين كل واحد منهما يمسك أحد عميه محمد، محمود بطريقه مهينة
فتح فمه ليتكلم لكنه لم يجد القدرة على إخراج حرف واحد وما جعل عينيه تتسعان ذعرا هو رؤية أخيه مقيد المعصمين واقفاً باستكانة أمام أحد الرجال الذي يوجه سلاحه إلى منتصف جبهته، حينها صرخ بذهول مضطرب من الوضع " لقد تركتك في الدار "
رفع زيد رأسه بلهفة حينما سمع صوت أخاه ونظر إليه دامع العينين وهو يرد بلهفة " جئت من أجل ريحانة.. أردت أن أحضر معي طبيب المزرعة ليعالجها حتى تشفى وتسامحني "
رفع يوسف سبابته يشير إلى الرجال الغرباء الملثمين وهو يحدث عميه " من هؤلاء؟ وكيف... كيف يتجرأن عليكم بهذه الطريقة؟ "
لم يرد أياً منهما في حين لوح أحد الملثمين بسلاحه في وجهه وهو يقول بغلظة " تعال هنا يا فتى "
رغم صعوبة الموقف وادراكه للخطر المحيط بهم إلا أن روحه الأبية التي تربى عليها رفضت ما يحدث فهتف بقوة " لن يرحمكم جدي أيها الأوغاد "
ضحك أحدهم بخشونة وهو يقول بتهكم " هذا إن استطاع جدك الوصول إلينا وأنتم لازلتم على قيد الحياة "
هزته الكلمة بشدة وتركته ورقة جافة في مهب الريح
قيد الحياة!..
هل هذه هي النهاية؟
هل حان الأجل وخط القدر كلمته؟
هل سيموت قبل أن يداوي فرسه الجريحة ويسامح أخاه؟
حاول التفكير في مخرج لتلك الورطة التي وقعوا فيها لكن عقله توقف فجأة عن العمل وتركه وحده في مواجهتهم، كان لا يزال في أفكاره وحيرته وفزعه مما يحدث حينما سمع عمه محمود يوجه حديثه إلى أحد الرجال والذي بدى أنه كبيرهم " أرجوك دعهما يرحلان فلا ذنب لهما فيما بيننا "
رد الرجل المعنيّ ببرود " لم نطلب منهما المجيء من البداية ولكن طالما حضرا فلا ضرر من ذلك فلن يختلف مصيرهما عنكما (ثم تابع متهكما) هذا عقابا لغبائهما "
صرخ محمد بقهر نضح به صوته رغماً عنه " هذا ظلم "
ضحك الرجل بخشونة ساخراً " وهل تريدنا أن نتعامل معكم بالعدل وأنتم لا تعرفون السبيل إليه؟ يؤسفني أن أخبرك أن ما تطلبه هو الظلم بعينه "
نكس محمد رأسه وسكت مجبراً بينما قال محمود بمهادنة " لكم عندنا ثار وجئتم لتأخذوه وهذا حقكم طبعاً لكن كما تعرف ثأركم لا يجوز من طفلين فهما لا دخل لهما فيما حدث بيننا ونحن جميعا رجال عقلاء بالطبع لن نضع الذنب على طفلين صغيرين.. ما لكم عندنا هو دم رجلين مقابل من قُتِلا من عندكم وها أنا وأخي أمامكم فأفعلوا بنا ما يحلوا لكم لكن أتركهما يرحلان "
سكت الرجل لحظات قليلة قبل أن يشيح بوجهه ويسلط نظراته على الصبيين وهو يقول " لكني أفكر في شيء آخر.. اممم مثلا لو أخذت بثأري منهما سيكون ذلك كافياً ليطفئ نيران غلي وحقدي عليكم "
صرخ محمد بإنفعال وهو يشعر بانفلات اعصابه بينما يحاول دفع الرجل الممسك به " أيها الحقير الجبان هل تريد التجبر على طفلين صغيرين؟ ألا يكفي أنك لم تستطع مواجهتنا كالرجال فأتيت تحتمي خلف أمثالك من أشباه الرجال؟ "
كان الرد الوحيد على كلامه هو لكمة عنيفة تلقاها من ذلك الرجل الذي وجه له كلامه لكنه رغم ذلك لم يتراجع بل تابع " ألا يكفي أنك اتجهت إلى الخديعة معنا بعدما يأست من الإيقاع بنا فأتيتنا متخفيا كاللصوص وقطاع الطرق.. ألا يدل ذلك على أنك كنت ولازلت مجرد جبان يا فؤاد؟ "
تزامنت قبضة فؤاد التي انفجرت من جديد في وجه محمد مع صوته وهو يصرخ بغضب " أخرس أيها الحقير "
صرخ محمد في المقابل بغل ودون تفكير وهو يبصق الدماء من فمه " الحقير هو أنت ولا سواك يا فؤاد.. الحقير هو من يظن نفسه صاحب حق وهو في الأصل مجرد جرذ اعتاد أن يحيا على ظلم الناس والتجبر عليهم.. الحقير هو من قتل أخويه طمعا فيهما وألصق التهمة والذنب فينا "
مع نهاية جملة محمد علت الهمهمات بين رجال فؤاد وكل واحد منهما ينظر إلى الآخر بحيرة جعلت الأخير يقطب بغضب دون أن يفطن أحد إلى أن مقلتيه غامتا بالخوف من انكشاف ما سعى لسنوات في اخفائه
كان يفكر في حل سريع في حين علا صوت أحد الرجال يقول " ما هذا الكلام الذي يقوله ذلك الرجل يا فؤاد؟ "
أخفى فؤاد توتره خلف قناع من الغضب الزائف وهو يصيح " هل يعقل أن تصدق ما يقوله ذلك الحقير يا عمران؟ إنه يحاول أن يجد لنفسه طريقة للخلاص من الموت "
لم يبد أن عمران أقتنع برد فؤاد فسأله بإقتضاب من جديد " لكنه يبدو واثقاً مما يقول وكأن لديه دليل "
ارتبك فؤاد ولم يسعفه عقله في إيجاد ما يرد به بينما اقتنص محمد الفرصة ليصيح بتشفي " بالطبع عندي وهل كنت لأتكلم في أمر خطير كهذا دون أن يكون لدي دليل قاطع "
قطب آخر باستنكار يسأله " ولكن إن كان ما تقوله صحيح فلماذا لم تظهر دليلك هذا عندما أعلن فؤاد أن قاتل أخويه من عائلة الجبالي وأراد الثأر منكم منذ سنوات؟ "
رد محمد بغل مكبوت " ماذا تظن أنت؟ بالطبع لو كان ذلك الدليل بحوزتي وقتها لكنت فضحته وأخبرت الجميع من يكون القاتل الحقيقي لكني لم اعثر على ذلك الدليل إلا منذ بضعة أشهر قليلة بمساعدة خاصة ولقد ذهبت إليه في داره بنفسي وأخبرته أنني سأكشفه أمام أهل المدينة كلها حتى نرفع عنا ذنب دم أخويه فكان رده هو تهديد دنئ مثله "
حينما أراد فؤاد الرد سبقه رجل آخر يقول " أنا رأيتك منذ أيام خارجاً من دار الناصر بالفعل "
عبس عمران وهو يقول " هل ما يقوله ذلك الرجل صحيح يا فؤاد؟ إذن ما الحاجة لوجودنا هنا؟ "
قبض فؤاد على كفيه إلى جانبيه يخفي رجفة الخوف والتوتر التي سرت في جسده بينما يهتف " هل ستُكذب ابن عمك وتصدق ذلك الحقير يا عمران؟ "
رد عمران بنفس العبوس " الحق أحق أن يتبع يا ابن عمي "
ظل فؤاد على توتره الخفي للحظات قبل أن تلتمع عينيه بالمكر وهو يقول " وإن كان ما يقوله صحيح فأين هو ذلك الدليل الذي يتحدث عنه؟ "
تمتم محمد بقهر وغل " أنت تعلم أين هو؟ فأنت من سرقت ذلك التسجيل من الأساس أم تراك ستنكر ذلك أيضاً؟ "
شعر فؤاد بالراحة حينما تأكد أن محمد لم يوصله عقله لأن يقوم بنسخ التسجيل للاحتياط مما جعله يتحدث بثقه عادت له وهو يقول " أرأيتم أنه يكذب؟ لم يكن لديه أي دليل منذ البداية وأراد أن يعبث بعقولكم ويصرفكم عن نيل حقكم وثأركم منهم لكنه بالطبع لا يعلم من هم رجال عائلة الناصر "
حينما رأى التحفز عاد إلى رجاله عدا عمران والذي لم يستطع منع نظرة الخيبة وقلة الحيلة التي رمق محمد بها زادت ثقته وهو يجذب محمد من مقدمة شعره بينما يغمغم بغل من بين أسنانه " أرأيت أنك خاسرا في كلا الحالتين وبإشارة صغيرة مني لهم سأجعلهم يفتكون بك دون رحمة؟ "
زمجر محمد بغضب وهو يحاول التحرر من ذلك الرجل الذي يمسك به بينما يقول " حييت عمرك كله وضيع يا فؤاد ولا عجب في ذلك فهذا طبعك وما تربيت عليه.. ما أتعجب منه حقاً هو حال هؤلاء الجراذ الذين سلموك عقولهم لتشكلها على هواك وكأنهم مسلوبي الإرادة "
ابتسم فؤاد بمكر وهو يغمغم بنفس الخفوت " لتحيا ملكاً عليك أن تجد لنفسك عبيداً يطيعونك دون نقاش وأنا اخترتهم حمقى حتى لا يعنيني كثرة سؤالهم "
بصق محمد في وجهه وهو يصرخ بسخط " أيها القذر المهووس بالطمع والسلطة أ نسيت أنك أيضاً عبدا وأن المَلك وحده هو الله كما المُلك له؟ "
رد فؤاد تجسد في لطمة قوية منه شجت شفتي محمد وصرخ على إثرها إبنيّ أخاه خوفاً وفزعا
أما محمود فكان يشعر بالضعف وخوار القوى بجانب أنه لم يستطع التفوه بكلمة واحدة وكأنه أخرس وبداخله يقين ترسخ من العدم بأن هذه هي النهاية لا محالة
صاح زيد فجأة بهلع " شفتيك تنزفان يا عمي "
طمأنه محمد بلطف قدر ما إستطاع " لا تخف يا بني إنه جرح بسيط "
هز زيد رأسه برعب واجهش فجأة في البكاء وهو يقول " الدم.. أنا أقصد الدم.. يوسف يخاف رؤية الدماء، لقد رأى منها الكثير اليوم "
لم تمض لحظة إلا وعلا نشيج يوسف وهو يضع كفيه على وجهه بينما يتمتم برعب " من ينزف يموت وأنا لا أريدك أن تموت يا عمي.. أرجوك لا تمُت "
رد محمود بحنان " لقد كبرت على هذا الخوف يا بني إنه مجرد جرح لا يميت لا تخف "
أزاح كفيه عن وجهه وقال بتقطع من بين شهقات بكائه " ح... حقاً عمي؟ "
اومأ له محمود دون أن يرد بينما قال زيد " هل سيقتلوننا يا عمي؟ "
قطب محمود بألم وهو يرد " إن شاء الله لن يمسكما أذى وهذا جلّ ما أتمناه اللحظة "
أشار زيد إلى أخيه أن يقترب وهو يبكي ففعل الآخر مهرولا إليه يحتضنه بقوة وهو يربت على رأسه قائلاً بحنان " لا تبكي.. سنكون بخير "
شهق زيد يقول " لكنني خائف "
ربت يوسف على رأسه من جديد وقال بصلابة " لا تخف يا أخي أنا معك.. لن أدع أذى يصيبك "
غمر زيد رأسه في صدر أخيه متنهدا براحة لأنه ليس وحيدا، لأن توأمه إلى جواره ومحيط به ولن يدع أحد يمسه بسوء
صاح أحد الرجال فجأة " بما تأمرنا يا كبير؟ "
تلاقت نظرات فؤاد ومحمد للحظات قصيرة قبل أن يقطعها الأول وهو يصيح بنبرة مشبعة بالغل " انتهوا منهم "
قطب عمران يقول بحذر " والصبيين؟ "
ارتجف زيد خوفاً فصرخ يوسف وهو يشدد عليه بين ذراعيه الفتيتين " إياك أن تفكر بالاقتراب من أخي.. أقسم بالله سأقتلك "
رد فؤاد بسخرية " حقاً وكيف ستقتلني؟ أريد أن أعرف فقط فقد أثرت اهتمامي "
قطب يوسف بغضب يفوق سنوات عمره الخمسة عشر وهو يرد " بيدي المجردتين أيها الحقير الجبان أم تظنني مثلك اتخفى خلف اللثام واحتمي وراء ظهور الرجال؟ أنا لست خائفا منك "
رغم الغضب الذي دب في داخله من تلك الإهانة التي تلقاها من صبي صغير إلا إنه لم يستطع أن يخفي إعجابه بشجاعته الفتية ولكن كان لزاما أن يقتص حقه منه فهو فؤاد الناصر كيف يهينه طفل صغير أمام رجاله وينتقص من قدره؟
كانوا جميعا غافلين عن تلك العينين المتسعتين بصدمة وهما تطالعان ما يحدث بدون تصديق وكأنه فجأة انفصل عن الواقع، عقله تجمد فجأة فلم يستطع فعل شيء وظل في مكانه متخفيا يلاحق ما يدور بينهم ويسجله في ذاكرته
بعد لحظات أخرى قال فؤاد ببرود قاس " العين بالعين والسن بالسن والبادي أظلم.. اثنان مقابل اثنان "
أشار بعدها إلى رجاله وما هي إلا لحظة وكان جسد محمد ومحمود يهويان على الأرض مدرجان في دمائهما بدون أن يملكا حتى الحق في المقاومة أو الدفاع عن نفسيهما
صرخ زيد وهو يهوي على ركبتيه أرضاً أمام جسدي عميه يناظرهما بهلع " لاااا.. لا تموتا "
في تلك اللحظة أشار فؤاد خفيه إلى أحد رجاله بطريقة ذات معنى وهو يقول " هيا نحن.. وأنت تأكد من أنهما فارقا الحياة ولا تنس أن تتأكد من أن الصبيين لن يفتحا فاهيهما بكلمة "
اومأ الرجل مبتسما بمكر وقد وصله أمر سيده وحينما سمع هدير انطلاق السيارات إلتفت إلى زيد فوجده على حالته يبكي ويصرخ بينما يوسف كان جامداً في مكانه لا يحرك ساكناً وقبل أن يعي أن أجله قد حان ويطلب أمنيته الأخيرة كان ذلك الملثم يرفع سلاحه مصوبا إياه تجاهه لكن في لحظة خاطفة كان آخر يندفع أمام يوسف خارجا من مخبأه ليحميه من مصير لم يخطه القدر له فتكون تلك الطلقة الغادرة من نصيبه هو
وخلال لحظات معدودة سقط يوسف على الأرض مغشيا عليه بعدما فقد كل ذرات طاقته وقدرته على تحمل رؤية المزيد من الدماء وقد كان سبقه إلى الأرض جسد آخر لصبي غريب
حينها خرس زيد تماماً وهو يرى أمامه ثلاثة أجساد تغرق في بركة كبيرة من الدماء وإلى جانبهم أخاه
كان جاحظ العينين جامد العقل، لم يستطع لحظتها التمييز بين جسدي الصبيين وتحديد أيهما قد أصيب ودون وعي منه أخذ لسانه يردد " أنا السبب.. لو لم أؤذي ريحانة لما كان جاء إلى المزرعة.. أنا السبب.. أنا من قتله "
كان زيد يشعر بالضياع والتيه، لا يعرف ماذا حدث بالضبط فصرخ بعجر وهو يهز جسد أخاه: " لا.. لا تمُت يا أخي.. أرجوك أبقى معي أرجوك.. بالله عليك لا تتركني.. رد عليّ (وضع رأسه على صدر أخيه وهو يتمتم بنشيج حاد) رد عليّ يا توأمي.. رد عليّ "**
،،،
*كعادته كلما أعاد عقله الباطن سرد تفاصيل ذاك اليوم البائس عليه خلال كوابيسه التي لا تفارقه وبأبشع الصور كان يحاول فتح فمه كي يرد على زيد ويطمئنه على أن أخاه بخير وتلك الطلقة لم تصبه لأنه هو من تلقاها بدلا منه لكنه لم يستطع وهو يشعر بأن هناك ما يكبل لسانه ويخرسه
يظن في كل مرة يتذكر تلك التفاصيل بأن باستطاعته الرد على هذيان زيد كما يستطيع الأخير سماعه لكنه يكتشف في لحظة ما بأنه هو من يهذي داخل كابوسي طويل لا يكاد يفارق نومه في أي ليلة
كان كمن يصارع السقوط في لجة سوداء عميقة تجذبه للأسفل بقوة بينما هو يتشبث بما يملك من قوة لكي يظل على السطح
غزا العرق جسده بالكامل وهو يحرك ذراعيه بعنف دافعا عنه شيء يجثم بثقله على صدره ويمنع الهواء من الوصول إلى رئتيه بسلام
بدأت أنفاسه تتعالى وتتهدج بشكل مؤلم، كلما حاول فتح عينيه تعيد تلك الأيادي الخفية سحبه نحوها بقوة أكبر من قدرته فيسقط أسيرها من جديد
وكلما حاول مقاومتها والافلات من بين براثنها تعيد التشبث به فلا يجد منها مفر وهي تطبق عليه من كل إتجاه وتحكم من حوله الحصار
أخذ يركض هنا وهناك يبحث عن منفذ دون جدوى، يبحث عمن يساعده في الهروب من ذاك الجحيم فلا يجد والأشباح السوداء تحيط به من كل إتجاه
كلما اصطدم بواحد منها يدفعه بغلظة نحو البقية فيقل الهواء أكثر من حوله ويرتفع معدل البرودة فيرتجف جسده خوفاً وبردا وكأنه أصبح هيكل خاوي من الداخل كما الخارج
سكنه اليأس وهو يشعر بأنه سيظل محتجز في هذا المكان البارد الموحش بظلامه المخيف للأبد، لن يخرج منه ولن يرى النور من جديد
توقفت حياته عند هذا الحد وقد ظن بأنه أصبح أسيراً لتلك الأشباح القوية المخيفة فسكن جسده بتخاذل عن المقاومة
جلس بينهم أرضاً في جلسته الشهيرة والتي يلجأ إليها ليحتوي نفسه بنفسه كلما شعر بالخوف أو الضياع كمثل حالته الآن
جلس ضاما ركبتيه إلى صدره مطوقا إياهما بذراعيه المرتجفتين وهو ينظر إلى الأشباح السوداء التي تقترب منه ببطء، سلم أمره واستسلم إلى أن تلك الرصاصة الغادرة إن لم تكن قتلته فعلاً كما يظن فهو على كل حال هالك على أيدي تلك الأشباح البشعة
رآها تقترب منه فلم يتحرك!
عددها يتضاعف فلم يتأثر!
كان حقاً يشعر بالسكون في كل خلية أو عضلة من جسده إلا ذاك المسكين الصغير المرتجف بهلع بين جنبيه
سالت من عينه دمعة حارة وهو ينتظر لحظة أن يمتصوا منه روحه ويجردوا جسده من كل شعور كل يمتلكه يوماً
وحينما فعلوا وظن أن ذلك سيتبعه سكون في كل أوصاله ومفاصله كان مخطئ فها هو صغيره المسكين لازال يأنّ متألما متوجعا دون حول منه ولا قوة
سالت دموعه بغزارة تلك المرة وهو يشعر بالعجز والحسرة على ذاك الصغير المسكين
يريد الموت والخلاص عله يرتاح ويريحه من ظلم وشقاء ظل يتحمله لسنوات وسنوات، وكاد يصرخ من قهره وصميم وجعه ' أما آن لي أن أحظى بالقليل من السلام والراحة.. أما آن لقلبي العليل أن يشفى وتطيب أوجاعه؟ '
ومن صميم وجوف كآبة اليأس زارته طمأنينة الفرج
فجأة ومن بين الظلام المحيط رآها هناك تشق بنورها الوهاج صفوف تلك الأشباح وكأنها عين ماء وانفجرت من الأرض لتروي ظمأ عطشان في وسط صحراء جرداء
وقفت على مسافة منه تفتح له ذراعيها بترحيب جلي وابتسامتها الجميلة تنير له كل ظلام حوله
كانت سلطانة بهية بثوبها الأبيض الزاهي الملائكي الطلة الذي كانت ترفل فيه، كانت خيالية بالنسبة له فأخذ يحدق فيها ملء عينيه يتأكد من حقيقة وجودها بنقائها ونورها بين تلك الوحوش المخيفة دون أن تهابها
اتسعت ابتسامتها وكأنها تناديه فلم يجد السبيل لصدها أو تجاهلها وهب من جلسته على الأرض يحث الخطى تجاهها وهو ينظر تارة للأشباح المحيطة به خائف من أن تمنعه من الوصول إلي ذات النور البهي وتارة أخرى ينظر إليها ليتأكد من أنها لازالت هنا موجودة.. وتنتظره
حينما أيقن أن نورها جعل تلك الأشباح تتراجع عنه خوفاً منها هرع إليها مهرولا وهو لا يطيق صبرا ليلقي بنفسه بين ذراعيها
سبقه لسانه يناديها بلهفة تنبض بالأمل قبل أن يصل هو إليها ' أمي.. كنت أعلم أنكِ لن تتركيني وحدي ولن تسمحي لتلك الأشباح المخيفة بأذيتي '
وصل إليها أخيراً وألقى بنفسه بين ذراعيها الحنونتين وحضنها الدافئ فأكتنفه أخيراً السكون
سكون الطمأنينة والراحة والسلام لا سكون الوحشة والاستسلام الذي كان يعتريه من قبل
وهدأ الصغير المسكين فجأة
لم يعد يتألم أو يشكو من أوجاعه وعلة لازمته لسنوات ، لم يعد خائف أو يخشى الموت ولا الأشباح
زينت ثغره ابتسامة صغيرة وشفتيه تفرجان عن تنهيدة راحة طويلة وعميقة أخرجت معها كل شعور سيء كان يشعر به قبل وصول أمه
أمه؟!..
قطب بحيرة وهو يحرك رأسه يدفنها أكثر بين احضانها بينما عقله يومض بالتفكير فجأة بعد خمول طال
لماذا أمه قصيرة لهذا الحد وكأنها صبية صغيرة في طور مراهقتها؟
شهق بإدراك متأخر وهو يشعر بالغرابة لقد كان منحنيا لكي يتمكن من معانقتها كما يجب ولكي يتمكن من غمر نفسه بين ذراعيها
لقد كان هو من يغمرها بين أحضانه وليس العكس!
أبعد نفسه عنها ببطء تدريجيا حتى يتمكن من تأمل وجهها فلم تمانع هي
وقف على مسافة خطوة منها ينظر إلى ابتسامتها الجميلة التي لم تخبت وإلى ملامحها العذبة التي تفيض بالحنان دون أن تتبدل فيزهو قلبه الصغير المسكين بالخضرة بعد أن كان قد أصابه التيبس والذبول
كاد يبتسم فرحا بنجاته لكنه عاد يقطب من جديد بإرتباك وهو يدقق النظر في صاحبة الضياء الدافئ الآمن فهذه ليست أمه
في لحظة كان عقله يعقد مقارنة سريعة بين أمه وتلك التي تقف أمامه
أمه أطول وهذه قصيرة
أمه امرأة ناضجة أما هذه صبية
عينيّ أمه صافيتين كصفحة السماء أما هذه فعينيها محيطين لا قرار لهما
تراجع عنها بيأس وإحباط وهو يسألها ' من أنتِ؟ أنتِ لستِ أمي '
لم تخبت ابتسامتها رغم حديثه لكنها لم تعقب فسأل هو بأمل أن تكذبه ' أنتِ لستِ هي أليس كذلك؟ '
كان يعلم إجابة سؤاله منذ البداية لكنه تشبث بأمل كاذب في أن تكون هي، أن تخبره أنها أمه
لكنها لم تفعل
لم تمنحه الطمأنينة الواهية التي كان يرجوها بل ردت بصدق تفصح له عن هويتها ' نعم لست أمك.. أنا لست هي '
سألها بقنوط وعدائية نضحت بها نبرته رغما عنه وهو يشعر بنفسه يكاد يسقط في لُجة الضياع من جديد ' إذن من أنتِ؟ '
ردت عليه ببساطة وكأن اجابتها بديهية لا تحتاج لسؤال ' أنا سُلاف الفؤاد.. سُلاف فؤادك أنت.. إذا ما نظرت فيه وجدتني وإذا ما احتجت إليّ يوماً لا تكلف نفسك سوا النداء عليّ وحينها ستجدني '
أولته ظهرها وهمت بالرحيل فاستوقفها بلهفة ' بماذا أناديكِ إذا احتجتكِ؟ '
ضحكت برقة وهي تلتفت له برأسها تقول بصوت منغم حلو النبرة ' بما تريد وتحب يا غريب فأنا منك.. نبض يسكنك ويخفق به فؤادك '
اختفت فجأة كما ظهرت له فجأة، أخذ يصرخ ويصيح مناديا عليها ولكن.. دون جدوى*

وعلى أرض الواقع كان تخبطه فيما ومن حوله بلا فائدة وبينما تعاود الأشباح زحفها نحوه من جديد إذ بأذان الفجر يصدح فجأة من العدم فينتشله من الضياع المحيط به
صاحب ذلك طرقات خفيفة بعيدة على باب جناحه تلاها وقع أقدام كانت تقترب من غرفة نومه ثم من فراشه بهدوء حذر
كان يسمع كل هذا لكنه لا يستطيع التجاوب معه حتى شعر بعد لحظات بيد تهزه وصوت حنون يناديه بخفوت " صخر.. بني أستيقظ لقد أذَّن الفجر "
فتح عينيه بغتة وهو ينتفض جالساً شاهقا بقوة وكأن أحدهم كاد يسحب روحه منه
طالعه معتز بصمت وهو يتفحص هيئته التي اعتادها بعدما يوقظه من كل كابوس مُخيف يحلم به
شعره الناعم كان مشعث وغرته ساقطة على جبينه المكلل بالعرق الغزير كسائر جسده المرتجف بوضوح
ربت معتز على كتفه بلطف وهو يقول " أسرع صخر حتى نلحق وقتنا قبل أن تفوتنا صلاة الجماعة في المسجد "
وخرج بعدها دون أن يشير أو يعقب على حالة صخر فتنهد الأخير بكآبة وهو يتحرك بتثاقل وهمّ من الفراش متجها إلى الحمام لكي يتوضأ عله يجد في الصلاة ملاذاً ومخرجا كما أعتاد
،،،
بعد قليل / في المسجد
سجد وأطال السجود كعادته كلما أحتاج للشكوى أو الإفضاء بمكنونات فؤاده لبارئه لكن هذه المرة شعر بأنه مثقل بالهموم فلم يمكنه لسانه من الإفصاح عن شيء لذا نطق بتنهيدة حارة عميقة " رُحماك ربي.. وحدك أعلم بحالي وبما يسكن فؤادي "
***
صباحًا / في شقة مختار زين الدين
كانت تشعر بنظراته المسلطة عليها رغم أنها لم تنظر إليه لمرة واحدة مذ جلسوا على مائدة الإفطار
مرة تغص في الطعام فتسارع أمها بإعطائها كوب الماء دون تعقيب، ومرة ترتطم يدها بالطاولة دون وعي منها لشدة اضطرابها فتكتم آه الألم حتى لا تسترعي انتباه والديها لها، لتفاجئ في النهاية بكلامه العجيب الذي أشعرها بالريبة منه لأول مرة " ارفعي وجهكِ إليّ نبض.. أريد رؤية لون عينيكِ "
نظرت باستنكار إلى أمها التي رانت الحيرة عليها بينما قال مختار متدخلا " أنت تعرف أن عينيها زرقاوتين "
عبس وهو يرد " أعرف ورغم ذلك أريد رؤيتهما بوضوح (ثم وجه حديثه لنبض) نظرة واحدة إذا سمحتي يا نبض "
عادت تنظر إلى أمها بحيرة فأبتسمت الأخيرة تطمئنها لتفعل، فرمشت لوهلة بتوتر قبل أن ترفع وجهها دون أن تنظر إليه مباشرة وقالت بإرتباك " هكذا "
شدد على كلماته " لا.. قلت انظري إليّ "
رمشت من جديد وهي تشيح بوجهها عنه بإرتباك وهي تتورد بشدة لخجلها من غرابة طلبه فزفر هو بحنق قائلا " لن آكلكِ "
نهضت فجأة من مقعدها متمتمة بإرتباك وهي تغادر المائدة متجه إلى غرفتها " لا أدري ما بك اليوم؟ أنت تبدو غريبا وتخيفني "
بعدما اختفت نبض في غرفتها سأل مختار بحيرة حقيقية " ما بكَ يوسف؟ نبض محقة.. أنتَ تبدو غريبًا اليوم "
قطب يوسف مجيبا " لا أعرف عماه.. أنا أيضاً أشعر بأني غريب عن نفسي.. نمت واستيقظت على هذا الحال (زفر بعمق وهو يكمل) يبدو أن حالتي تلك تتعلق بكوابيسي المعتادة "
ربتت مريم على كتفه بحنان وهي تسأله بأسى " ألم تتخلص منها بعد؟ "
هز رأسه سلبا وهو يرد بتنهيد " لا يبدو لي منها خلاص "
ابتسمت بمرح وهي تقول مناكفة إياه " وما دخل لون عينيّ نبض بكوابيسك المعتادة؟ "
لم يجيبها وهو يفكر بأن ما يحدث معه أمر غريب فعلاً وخاصة في تلك المرات التي تترابط وتتشابه كوابيسه مع كوابيس صخر
شتم نفسه في سره بسبب الطلب المتهور الذي تفوه به قبل لحظات
ليته ما ألح على صخر حتى يخبره بالكابوس الذي رآه فجر اليوم، لكن لسوء حظه فقد استجاب له صخر للمرة الأولى وقص عليه ما رآه من مقتطفات الماضي والكابوس الذي لحق بكل هذا
لو لم يعرف بالطبع لما أثاره الأمر وجعله يطلب من نبض أن تنظر له ليتأكد من لون حدقتيها هل هما ذاتا زرقة قاتمة أم صافية؟
تنبه من أفكاره على صوت مريم تناكفه من جديد باسمة " يبدو أن كوابيسك أصبحت تأخذ منحدر آخر لا أظنه مخيف أو غير مرغوب فيه كما كانت في البداية أليس كذلك؟ "
رفع حاجبا بمكر يجاريها قائلا: " معك حق.. أظنها باتت مرغوبة بعدما احتلتها زرقاء العينين وسكنتها تماما "
ضحكت مريم وهي تغمز له بطرف عينها قائلة: " أظن الكوابيس ستتحول إلى أحلام وردية عما قريب "
رد لها غمزتها بمناكفة يقول " بالطبع.. كوني أكيدة من ذلك طالما سكنتها الأميرة ابنتكِ "
قطب مختار يقول بجدية مصطنعة " يبدو أنه عليّ الحذر على ابنتي منك منذ اليوم خاصة بعدما تحالفت معك الملكة بجلالة قدرها "
أمال رأسه متصنعا الأسى وهو يقول " ظننتك أنت من سيحرضني على اختراق كل الخطوط الحمراء لكي أحظى بقلب الأميرة "
رفع مختار حاجبيه ببرود مصطنع يقول " لا أسمح بهذا الانحلال في بيتي "
نهض من مقعده بهدوء وهو يتابع بمرح " لكن خارجه ربما.. تروقني الفكرة "
رفع يوسف حاجباً باستفزاز يقول " ألا ترى عماه أنك سرعان ما تغير مبدأك؟ "
ابتسم مختار بمكر يقول " أنا على أتم الاستعداد لتغييره طالما ستساعدني في التخلص من نبض "
نظر يوسف بطرف عينه لمريم قبل أن يعود ببصره إلى مختار قائلًا بمناكفة " قلبي يخبرني أن نواياك ليست بريئة تماما عماه "
ابتسم مختار يرد بمكر " بالطبع.. طالما تخص ملكتي ومالكة فؤادي فهي أبداً لا ولن تكون بريئة "
هتفت مريم بحرج " مختار! لا مزاح في هذا "
اتسعت ابتسامته بشقاوة وهو يقول " وأنا لا أمزح حبيبتي "
زفرت بغيظ وهي تتصنع الضيق لتخفي توردها من الخجل " بِتَ لا تطاق يا مختار.. أذهب إلى عملك أفضل "
حرك كتفيه بلامبالاة يقول " حسناً سأذهب حبيبتي لكنني سأعود فكوني في انتظاري "
قطبت بعبوس طفولي وهي ترد " لن انتظر أحد.. أنا أشعر بالإرهاق اليوم وسأنام باكراً "
ضحك مختار وهو يرفع حاجبا بمكر قائلا " اممم هكذا إذن (التفت إلى يوسف يكمل بمرح) هيا بنا لنرى ما ينتظرنا من عمل حتى أعود لملكتي المرهقة باكراً "
سحب يوسف كف مريم وقبلها سريعاً وهو يهمهم بالوداع ليترك الساحة خالية لمختار الذي مال يقبل وجنتها وهو يبتسم بمناكفة هامسا " حاولي ألا ترهقي نفسك حبيبتي حتى أعود ونتباحث سويا في سبب هذا الإرهاق "
أشاحت بوجهها عنه دون رد وهي تتصنع التأفف والضيق فكتم مختار ضحكته وهو يتخطاها حتى وصل إلى الباب حينها التفت لها من جديد يقول بخبث " هل تظنين أن سبب الإرهاق هذا ليلة أمس؟ "
صرخت بغيظ وهي تقذفه بتفاحة التقطتها من طبق الفاكهة على المائدة فتلقفها هو ببساطة دون أن تصيبه ثم قال بعدها باستفزاز " وأنا أيضا سأشتاق إليكِ.. انتظريني حبيبتي لن اتأخر عليكِ.. سلام "
خرج مختار وهو يأكل من التفاحة باستمتاع وابتسامة واسعة ترتسم على شفتيه بينما عقله يخبره بقناعة راسخة أن سعادته دائما وأبدًا تتعلق بوجود ملكته الحبيبة في عالمه وحياته
***
في مؤسسة الجبالي بالعاصمة
بعد إنتهاء اجتماع طويل دام لساعتين كاملتين كان كل واحد منهم يخرج بمشاعر مختلفة عن الآخر وإن كان يجمع بينهما شعور واحد وهو الإرهاق
خرجوا من غرفة الإجتماعات ويفترض بكل منهم التوجه إلى مكتبه إلا أنهم لم يفعلوا بل دلفوا جميعاً إلى مكتب زيد الذي ما إن وصل إلى كرسيه المريح حتى ارتمى عليه ملقيا ما بيده من أوراق على سطح مكتبه وهو يقول " لقد تعبت اليوم كثيراً "
زفر ياسين وهو يجلس على الأريكة الجلدية هاتفاً بنزق " العمل والعمل والمزيد من العمل.. ما هذه الحياة البائسة التي نحياها؟ "
ابتسم عاصم وهو يقول بمناكفة " أرى أن الحل الوحيد لتغيير مزاجك النزق هذا هو الزواج "
ابتسم ياسين ساخراً وهو يشير إلى حمزة بينما يقول " يبدو أن حلك مفعوله سلبي يا ابن عمي فنظرة واحدة لوجه أخيك العابس الذي تحدد عرسه بعد شهر تجعلني أجزم بأن الزواج ليس الحل المناسب للهروب من ضغط العمل "
كتم عاصم ضحكته وهو يرى كيف زم حمزة شفتيه بطريقة طفولية بينما يقول ببرود " وهل عليّ حمل لافتة بوجه ضاحك حتى أعبر عن سعادتي كوني مقدم على الزواج؟ "
زفر قاسم يقاطع حديثهم وهو يصيح بضيق " هلا توقفتم عن ثرثرة النساء تلك؟ صدعتم رأسي "
عقد ياسين ساعديه أمام صدره وهو يغمغم بصوت حانق " لما لا تنهض وتصفعنا أيضاً؟ "
في حين قطب حمزة وهو يقول " ثرثرة نساء! سامحك الله يا ابن عمي "
عبس قاسم وهو يرد " أصبحت تتحدث كثيراً يا حمزة يبدو أن زهراء أثرت عليك سلبا "
هتف حمزة بغيظ " وما بها زهراء يا أستاذ قاسم؟ "
أشاح قاسم بوجهه عنه وهو يتأفف دون تعقيب فأومأ زيد إلى عاصم خفية حتى يتدخل فقال الأخير مغيراً الموضوع " لم تخبرني عن رأيك في الصفقة الجديدة يا قاسم "
كاد زيد يصرخ غيظا لإتجاه حديثهم نحو هذا الموضوع الذي ود لو تناساه الجميع لبعض الوقت حتى يرتب احجياته ويفهم على أي بر سيرسو في النهاية بدلاً من تلك الحيرة والتخبط الذي يشعر بهما لكنه ورغم ذلك لم يعقب بشيء والتزم الصمت مترقبا سماع آراء أبناء عمومته وخاصة رأي قاسم
قطب قاسم بجدية وهو يرد " الصفقة تبدو جيدة لكن كما تعلم يا عاصم أنا لدي تحفظ تجاه العمل مع هذا الرجل "
اومأ عاصم بتفهم وقال " أنا افهم اسبابك جيداً لكن تلك الصفقة تستحق أن نغامر قليلاً للفوز بها "
كان حمزة هو من تدخل ورد بدلاً من قاسم " أسمح لي أخي أنا الآخر اعترض وأرى أن رأي قاسم في محله تماماً.. نحن أمامنا الكثير من الصفقات ولن يضيرنا التخلي عن تلك الصفقة فهذا الرجل يثير حفيظتي ناحيته "
زم ياسين شفتيه وهو يضيف " الحمد لله لست وحدي من شعر ناحيته بالانقباض ظننت أن بي خلل ما.. أنا الآخر لست مستبشرا خيرا بالعمل معه "
تنهد عاصم وهو يقول مؤكدا " بصراحة أنا أيضاً لا أشعر بالراحة في فكرة العمل معه لكن زيد متمسك بتلك الصفقة "
توجهت الأنظار إلى زيد في تساؤل ترجمه قاسم بصوت غامض " أليس من الغريب أن تقبل العمل مع رجل كهذا يا زيد سبق وكان مسجونا في قضية تهريب أثار إلى جانب تعاطيه للممنوعات وربما يكون يتاجر فيها أيضاً؟ "
قطب زيد بضيق مكبوت وود لو يصرخ فيهم أنه ليس المتمسك بتلك الصفقة وإنما ذلك المجنون المتهور الآخر لأسباب لا يعلمها إلا الله لكنه على خلاف ذلك رد بإقتضاب " هذه الصفقة مهمة بالنسبة لي بشكل خاص.. سوف تتم حتى لو اضطررت لأن اعقدها معه بعيداً عن أعمال العائلة "
بدى على الجميع الذهول التام بينما رفع قاسم حاجباً بسخرية يقول " تبدو عاقداً العزم والنية دون أن تهتم حتى لرأينا يا ابن عمي "
تنهد زيد وهو يشعر بالحنق من ذاك المتهور الذي وضعه في ذلك الموقف المحرج أمام أبناء عمومته وقال بهدوء " بالطبع رأيكم جميعاً يهمني وكالعادة لا يتم شيء دون أن نتشاور فيه ونتفق عليه لكن كما أخبرتك يا قاسم تلك الصفقة مهمة بالنسبة لي "
تدخل عاصم بمهادنة يقول " لما لا تخبرنا عن وجهة نظرك يا زيد؟ لربما كنت أنت على صواب واقنعتنا بحجتك "
والله كاد ينفجر ضاحكاً على حديث ابن عمه، أي وجهة نظر يطلبها منه؟ وأي حجة؟
هو شخصياً لا يريد إتمام تلك الصفقة بل إنه يوافقهم في رأيهم بأن العمل مع ذلك الرجل من الممكن أن يسبب لهم مشاكل هم في غنى عنها.. لكن كيف يخبرهم أنها ليست رغبته وليست حجته وأنه لا يملك أي مبرر واضح أو حجة مقنعة بل لا يعرف حتى ما هو الأمر المهم أو المغزى من تلك الصفقة حتى اللحظة؟
أطرق برأسه للحظات في صمت حتى قال حمزة فجأة بغموض " يبدو أنك لا تملك إجابة على سؤال عاصم من الأساس "
رفع عينيه إلى حمزة ينظر له بهدوء تام بينما الأخير يضيف بصوت قاتم " تبدو كمن ينتظر أن تأتيه الإجابة من مكان ما أو ربما من... شخص بعينه "
قطب زيد وقبض على أصابعه بتوتر يخشى أن يتمادى حمزة في تحليله للأمر فيفسد ما عمل لسنوات على اخفائه
حمزة أكثرهم قرباً من زيد، أكثرهم فهماً لأفكاره وشروده الحائر، لطالما كانا رفيقين منذ الصغر ورغم الانقلاب الذي حدث منذ بضعة سنوات في العائلة وجعل زيد يتباعد قليلاً عن الجميع إلا أن حمزة ظل على عهده يسعى خلفه ويحلل كل صغيرة وكبيرة تصدر منه مما جعل زيد أحيانا يغضب منه
تصنع زيد الانشغال بالأوراق التي سبق وألقاها بإهمال على مكتبه وهو يقول " لا فائدة من إطالة الحديث في هذا الأمر فهو بالنسبة لي منتهي "
نهض قاسم بهدوء وهو يرد بصوت بارد حاسم " إذن يجدر بك العلم بأنك مضطر لعقد تلك الصفقة بعيدا عن أعمال العائلة بالفعل لأنني لن أسمح لك بأن تورط إسم الجبالي مع أي مجرم من أي نوع كان "
بعد تلك الكلمات القاطعة انصرف كل إلى مكتبه لكن حمزة قبل أن يخرج قال بصوت يحمل الشجن " لازلت انتظر اللحظة التي ستفصح لي فيها عما يشغل تفكيرك كما كنت تفعل دومًا.. سأظل في إنتظار تلك اللحظة للأبد ولن أيأس يا ابن عمي "
استند زيد برأسه للخلف على ظهر مقعده وقال يحدث نفسه ببؤس " ليتني أملك الحق في الإفصاح يا حمزة.. ليتني أحمل المزيد من القوة للمواجهة لكنت أخبرتك بكل شيء علك تجد لي الحل كما كنت تفعل دوماً لكن للأسف الأمر أصبح خارج مقدرتي.. لم يعد يخصني وحدي بل لم يعد يخصني من الأساس "
***
قرابة الغروب / المدينة الجبلية
في دار الجبالي
كانت ملك تجلس شاردة على الأرجوحة في الحديقة حتى سمعت فجأة الصوت المألوف لوصول سيارات شباب العائلة
ابتسمت بسعادة طفولية وهي تفكر في أبناء عمومتها وكم أنها تحب لحظة وصولهم وتترقبها كل يوم بصبر ودون ملل
تشعر بالراحة حينما تراهم يدخلون إلى الدار معاً سالمين، لا تتخيل أن يصيب أحدهم مكروه وكلما فكرت أن الثأر القديم وإن هدأت نيرانه لكنها لم تنتهي تماماً ينقبض قلبها بخوف وهلع ولسان حالها يهتف بجزع ترى من القادم؟
دخل عاصم أولاً والذي سارعت حلا في استقباله ليتلقفها بين ذراعيه ضاحكاً وهو يقول " حلاي الشقية كم اشتقت إليكِ! "
ترد الصغيرة ضاحكة بدلال " وحلا أبيها أيضاً اشتاقت إليه كثيراً "
مد حمزة يده يعبث في شعرها بينما يقول بكآبة مصطنعة " وأنا يا حلا.. ألا تحملين بعض الشوق ولو قليلاً لعمو حمزة المسكين؟ "
ترد حلا عليه وهي تبتسم بمكر يفوق سنوات عمرها التي تعد على أصابع اليد " أنت لا تحضر لي حلوى "
عبس حمزة وهو يقول " وما ذنبي إن كانت هذه أوامر والدك؟ "
حركت كتفيها بدلال وهي ترد " إذن أبحث عن أخرى تقول لك اشتقت إليك لأنني لن أفعل "
ضحك عاصم وهو يضمها إلى صدره قائلاً " مصيبة أنتِ يا حلا.. ليرحم الله من يقع تحت قبضتيكِ "
قطب حمزة بغيظ طفولي يقول " تحكماتك تأتي بنتائجها السلبية عليّ وحدي يا عاصم.. يبدو أنني سأحضر لابنتك الحلوى حتى أسمع منها كلمة طيبة قبل أن أموت غيظاً بسببها "
ضحك عاصم بصخب شاركه فيه ياسين الذي هتف باستفزاز " الحمد لله لم يتزوج قاسم بعد ليبتليني الله بابنة أخ تثير غيظي أنا الآخر "
رد حمزة بحنق " أتمنى أن يرزقك الله بذرية كلها بنات يصيبنك بالجنون لا بالغيظ "
ضحك ياسين يغيظه وهو يقول " إن شاء الله تكن بناتي ملائكة هادئة كأمهن تماماً "
تدخل زيد يقول بحاجب مرفوع بتعجب ساخر " حقاً أمهن ستكون ملاك هادئ؟ سبحان الله! وأنا الذي ظننتك لا تميل لتلك النوعية من الفتيات "
قطب ياسين وهو يقول من بين أسنانه " لا بأس إن لم تكن هادئة تماماً "
رد زيد بنفس التعبير " لا أظنها ستكون هادئة من الأساس.. أعترف يا ياسين أنك لا تريدها أن تكون كالحمل الوديع "
زفر ياسين بغيظ وهو يقول " أنا جائع.. سأذهب لأرى هل يوجد طعام في هذه الدار أم سأبيت ليلتي جائعا؟ "
هتف زيد ساخراً في اعقابه " لا تخش من تلك الناحية أظن أن هناك الكثير من الطعام.. كُل حتى تشبع لكي تتمكن من إيجاد إجابة على سؤالي "
انزل عاصم ابنته أرضا وهو يقول بهدوء " لماذا تناكفه بغلاظة هكذا يا زيد؟"
حرك زيد كتفيه بلامبالاة وهو يرد " لا لسبب محدد "
تنهد عاصم وهو يربت على كتفه قائلاً " أما آن لك أن تبحث عن نصفك الآخر يا زيد؟ شباب العائلة بأكملها وإن لم يتم ارتباطهم رسمياً لكن كل واحد منهم يعلم من يريدها "
أطرق زيد رأسه بحسرة وهو يفكر بأن نصفه الآخر موجود ورغم أنه ليس فتاة لكنه لا يشعر بأن من يكمله سواه
لكن أين هو نصفه الآن؟
تنهد بعد لحظة يرد " لا أعلم يا عاصم لكن لا أجد في نفسي رغبة للارتباط بأي فتاة.. لا أشعر بأنني قادر على مبادلة أي فتاة مشاعر الحب.. أشعر أنني لا امتلك مثل تلك المشاعر من الأساس "
قطب عاصم وهو يرد بكآبة تمكنت منه بسبب حديث زيد " لا أصدق بأن من يصف نفسه بأنه يفتقر لمشاعر الحب هو أنت يا زيد؟ لطالما كنت محباً عطوفاً كعمي سليم "
ابتسم زيد بفخر وهو يرد " وهل هناك من يشبه سليم الجبالي! "
رد عاصم بجدية " لما لا تدع لنفسك فرصة فكل ما تحتاجه هو المحاولة يا زيد وإن فشلت لن تخسر شيء؟ "
تنهد زيد بعمق وهو يرد بصوت متباعد شارد " لا أستطيع حتى المحاولة يا عاصم.. ليس من حقي فقد أنجح في ارتباطي بفتاة ما أحبها وتحبني ثم... (صمت لحظة وهو يقبض على كفيه بشدة قبل أن يتابع بصوت غامض) ثم يأتي القدر ويصدر حكمه بإعدام هذا الحب حينها لن أكون الخاسر الوحيد يا ابن عمي "
كاد عاصم يعقب بشيء لكن زيد قاطعه وهو يحرك رأسه سلباً " لن اظلمها يا عاصم لا يمكنني فعلها بأي فتاة.. كسر الخاطر والفؤاد ليس بالهين وأنا لا أضمن عمري قد... (قطب بحيرة من أفكاره الكئيبة لكنه تابع بغصة خانقة) قد أموت واتركها خلفي كسيرة محطمة.. هذا الموقف صعب جداً جربته مرة حين فقدت أمي و... "
صمت زيد وسالت من عينه دمعه فربت عاصم على كتفه بمؤازرة وهو يقول " لازلت غير متقبل فكرة موته أليس كذلك؟ لازلت لا تستطيع نطق اسمه حتى "
ازدرد زيد ريقه وهو يقول بصوت متحشرج " كيف أفعل وأنا... أنا من حكمت عليه بما حدث له؟ أنا السبب فيما هو فيه؟ "
قطب عاصم بحيرة وهو يقول " فيما هو فيه؟ "
جحظت عيني زيد من الذلة التي نطقها دون شعور فقال بتوتر " أقصد ما حدث له "
ربت عاصم على كتفه من جديد وهو يقول " لا تحمل نفسك فوق طاقتها يا زيد.. ما حدث كان ليحدث على أي حال إنها إرادة الله وقضائه "
اخفى تأثره وهو يقول بشجن " ونعم بالله لذلك أنا لا أتمنى أن أرى أحد في هذا الوضع أبداً "
***
بعد بضعة ساعات قليلة
حينما وصل إلى باب المجلس الذي يتصدره جده كالعادة وصلته أصوات الاعتراض فتيقن أن خبر موافقته على تلك الصفقة البائسة قد وصل لهم مما جعل شعوره بالبؤس والتعب يتضاعف
ألا يكفيه ما ناله من توبيخ منذ قليل وكأنه صبي صغير؟ لقد سمع الكثير ولم يستطع النطق بكلمة اعتراض واحدة وهو يشعر بالغباء من نفسه لأنه لم يتدارك الأمر منذ البداية ويحسن التفكير والتصرف كما كان يجدر به أن يفعل
تنهد وهو يسند رأسه على الحائط المجاور للباب بينما يتذكر محتوى الرسالة التي وصلته منذ قليل والتي كانت بدايتها صاخبة بالتوبيخ
**هل أنت ولد صغير تحتاج إلى التوجيه لكي تقع في خطأ كهذا؟ كيف تخبرهم عن تلك الصفقة اللعينة؟ ألم أخبرك أن الأمر سيظل بيننا يا أحمق؟ أين كان عقلك وأنت تخبرهم وتطلب منهم المشورة وأنت تثق بأنهم سيرفضون خاصة وأنك شخصياً كنت معارضا؟**
حينها شعر بكم هائل من الغباء فكان رده الوحيد
*على ما يبدو أنني نسيت أنك نبهتني أن تلك الصفقة لا يجب أن يعلم أحد عنها لهذا أخبرتهم*
كان رده دون أن يشعر أكثر غباءا مما فعل مما جعل الآخر غضبه يشتد
**نسيت! كيف تنسى أمر مهم كهذا؟ لقد نبهت عليك أكثر من مرة.. هل تريد أن تصيبني بالجنون؟ ستدمر كل ما أفعله.. منك لله يا زيد**
اغتاظ زيد من كثرة التوبيخ فأرسل له ببرود
*هل تدعو عليّ؟ عامة شكراً.. مقبولة منك*
انتظر لحظات طوال ولم يصله أي رد حتى شعر باليأس وكاد يغلق الهاتف لتأتيه رسالة طويلة بعد لحظة أخرى، كانت زاخرة بالتوبيخ والتأنيب والصراخ على ما يبدو
**لو كنت أمامي في هذه اللحظة ما كنت ترددت لحظة في قتلك.. منك لله بسببك أشعر بدنو إحدى النوبات القلبية.. اسمعني جيداً وأقسم لك إن فعلت أي خطأ جديد فلن أخبرك عن شيء آخر ولتضرب رأسك الغبي اليابس هذا في أضخم حائط أمامك ولن يهمني.. أسمع زيد وافهم كلامي ونفذه بالحرف دون أن تضع عليه إحدى لمساتك الفنية فلست في وضع يسمح لي بتحمل المزيد منك.. أظن أن الخبر ما إن يصل إلى الجميع حتى سيواجهونك بموجة عاتية من الغضب ولا استبعد أن يضربك جدك وصراحة لن ألومه بل سيكون سدد لي معروف كبير.. كل ما أريدك أن تفعله هو...*
قطع سيل أفكاره صوت والده الذي وصله بوضوح وهو يحاول تهدئة غضب جده يقول " أهدأ يا أبي حينما يأتي سنفهم منه كل شيء وكما قال عاصم إنه لم يوقع العقد بعد فلا مشكلة حتى اللحظة "
سحب نفس عميق وزفره على مهل وهو يغمغم بحنق " يبدو أن جدي سينفذ أمنيتك ويضربني بعصاه فعلاً.. ليتك هنا أيها المتعجرف لترى قدر المصائب التي تلحق بي بسبب تهورك وينعتني بالأحمق عجباً والله! (سحب نفس عميق وهو يتمتم) توكلت عليك يا ربي "
بعد لحظة كان يدلف للداخل بهدوء وهو يحيي الجميع " السلام عليكم "
ردوا التحية بإقتضاب بينما والده يوجه له نظراته المعاتبة فقابلها بأخرى تشي بقلة حيلته وأن لا يد له فيما يحدث
ما إن استوى في جلسته حتى بادره جده بالسؤال بلهجة حادة " أين كان عقلك وأنت تفكر ولو مجرد التفكير في التعامل مع ذاك الرجل سيء السمعة؟ "
تنحنح زيد وهو يستدعي شجاعته لكي ينهي تلك المعركة قبل أن تبدأ فقال " أنا أعتذر يا جدي.. أعلم أنها كانت فكرة متهورة... "
قاطعه جده بغضب " غبية "
عبس زيد وهو يقول " حسناً فكرة غبية لكنها كما قلت مجرد فكرة وذهبت إلى حال سبيلها "
كان الذهول بادياً على أولاد عمومته من تراجعه السريع حتى هتف ياسين بدهشة " لقد كنت مصراً منذ بضعة ساعات فقط فماذا حدث الآن لتغير رأيك بهذه السرعة؟ "
رد زيد بهدوء " يمكنك أن تقول أنني من ضغط العمل لم أكن في قمة تركيزي وأنا أوافق على تلك الصفقة لكن الآن وبعد أن فكرت مليا فيها وجدتها فعلا غير مناسبة "
عقد حمزة ساعديه أمام صدره وهو يقول ببرود مقصود " لكن الصفقة تبدو مناسبة جداً بل ومربحة للغاية وإنما العيب الوحيد فيمن سنشاركه "
عبس زيد بحنق وهو يرد " لهذا رفضت "
عاد حمزة يقول بنفس النبرة " اعتراضك كان على الصفقة وليس صاحبها "
كان واضحا أن زيد يتحكم في أعصابه بصعوبة حتى لا يصرخ أمام الجميع وظل على صمته لحظات طوال وبعدها قال بإقتضاب " إنتهينا حمزة.. لا الصفقة ولا حتى صاحبها شخصا مناسبا لكي نتعامل معه هل هذا جيد؟ "
ابتسم حمزة بسخرية دون أن يرد بينما قطب خالد بتفكير وهو يميل على أخيه سليم قائلاً بصوت خفيض " يبدو مضغوطا ولا أظن قرار الموافقة كان قراره من الأساس "
تنهد سليم عميقا وهو ينظر إلى ابنه بينما يرد على أخيه " هذا هو ما هداني إليه عقلي أنا أيضاً يا أخي.. أنا خائف عليه "
سأل خالد بكآبة غريبة على طبعه الصارم الشديد المعتاد " على أيهما بالضبط؟ "
أجفل سليم وهو ينظر إلى عينيّ أخيه التي غامتا في بحر من الحزن فرد بصدق " على كليهما "
أشاح خالد بوجهه وهو يقول بنفس الصوت الخفيض وإن تحشرج قليلاً بغصة خانقة " زيد معنا وبيننا لا خوف عليه أما هو... وحيد تماماً بلا أهل أو عائلة تحتويه وتدعمه في حياته "
أطرق سليم رأسه بانكسار بينما خالد يتابع " نحن هنا وهو هناك لا نعلم عنه شيء ولا نستطيع حتى رؤيته.. وكأنه آفة ضارة اقتلعناها من بيننا حتى لا تلوثنا ونبذناها بعيداً "
طرفت عينيّ سليم بالدموع بينما خالد يكمل " أمَّا آن له أن يعود؟ "
تسارعت أنفاس سليم ورد بجزع " ليقتلوه! "
واجهه خالد بنظرات قاسية وهو يرد من بين أسنانه المطبقة " أوَ ليس ميتاً من الأساس؟ "
كان وقع الكلمات على سليم كالخناجر التي تمزق جسده دون رحمة فازدرد ريقه وهو يقول بصوت اختنق بالبكاء " بالله عليك لا تزد يا أخي.. يكفيني ما أعانيه "
لكن خالد لم يصمت بل تابع بنفس القسوة " إن بقيت على خوفك هذا طويلاً ستكون سلبته آخر أنفاس يحيا عليها، ستكون انتزعت بيديك روحه.. لا يعقل بأن يظل في الغربة للأبد.. ألم تشتاق إليه؟ "
قبض سليم على كفيه بشدة وهو يقول بصوت عميق بالشجن " بلى إشتقت.. يكاد يقتلني حنيني وشوقي إليه لكن... "
قاطعه خالد بصلابة يقول " ليس هناك لكن.. دعه يعود "
انتفض سليم في جلسته وهو يهتف بصوت مرتفع دون شعور منه لتلك الأنظار التي إلتفتت له في إهتمام " لا.. لم يحن الوقت بعد يا أخي "
كان الجميع يتبادل نظرات الحيرة فيما بينهما عدا الجد عبد الرحمن الذي فهم حديث ولديه وزيد الذي شحب تماماً كالموتى
كاد عاصم أن يسأل مستفهماً عما يحدث لولا أن هب سليم من جلسته وخرج مطرقاً الرأس وتبعه خالد بعد لحظات بوجوم
***
منتصف الليل / في العاصمة
كانت تقف أمام الباب المغلق بملامح بائسة محبطة وقلب منقبض حزين
يصلها صوتيهما بوضوح وهما يتجادلان في نفس الموضوع الذي باتت تحفظ تفاصيله تماماً
كان الجدال بينهما بين مد وجزر ولم يصلا إلى شاطئ الأمان ليرسوا بسفينتيهما بعد ومع كل هتاف حاد من والدها وصرخت اعتراض من ابنة عمه وزوجته الأولى كانت تغلق عينيها بقوة وكأنها تحاول الإفلات دون جدوى من بين قبضة كابوس مُخيف لا ينتهي
أخيراً تنهدت براحة طفيفة حينما سكتت الأصوات وساد الصمت
ورغم أن ذلك لا يبشر بالخير بل دليل على أن كلاً منهما صمت ليشحن طاقته قبل أن يعاود الهجوم من جديد إلا أنها كانت ممتنة للحظة الصمت التي سادت واختارت تلك اللحظة لتطرق الباب بهدوء ثلاث دقات متتالية خفيفة كما اعتادت قبل أن تمسك بالمقبض وتديره بخفة مندفعة بخفة للداخل
رسمت على شفتيها ابتسامة صغيرة وهي تحييهما ببساطة كما لو أنها لم تسمع شيء من شجارهما منذ لحظة مضت " مساء الخير "
رمقتها مروة بحقد قبل أن تشيح بوجهها عنها في تجاهل تام بينما تنهد أكرم بعمق وهو يشير لها بيده حتى تقترب منه دون أن يتفوه بحرف
اقتربت منه بخفة وهي تشعر بانقباض قلبها يزداد وبتلك القبضة التي تقبض على روحها تشتد أكثر وتعتصرها دون رحمة وما إن وصلت إليه حتى جذبها إليه محيطاً إياها بذراعيه وهو يضمها إلى صدره بقوة
كانت تشعر بأنفاسه الحادة التي تضرب بشرة عنقها وهو يغمر وجهه بين طيات شعرها متمتماً بهمس شديد الخفوت " يا الله كم أحب راحتك! وكم أحبك يا شمسي! "
رفعت ذراعيها تحيط عنقه وهي تبتسم برقة متذكرة أنه أخبرها مراراً أنها ورثت من أمها ملامحها الناعمة وروحها المفعمة بالحياة كما ورثت منها رائحتها العطرة التي كان مدمناً عليها
أخبرها أنها الأحب إليه ورغم أنها ليست ابنته الوحيدة إلا إنها دوماً كانت المفضلة لديه
أجفلت فجأة حينما هتفت مروة من خلفها بصوت ممتعض " لم ننهي حديثنا بعد يا أكرم "
شعرت بتشنجه وزفرته الحارة قبل أن يخفف من قيد ذراعيه من حولها وللحظات ظل أكرم ينظر إليها دون أن يرد على مروة حتى ظنت أنه سيتجاهلها لكنه بعد لحظة أخرى رد بصوت جامد دون أن يحيد ببصره عن ابنته " لكنه بالنسبة لي انتهى "
هتفت مروة بضيق " لا لم ينتهي.. لم تسمعني بعد "
رفع حاجباً ببرود وهو يرد " أظن أنني سمعت ما يكفي يا مروة لذا أقول لكِ بأن الموضوع أغلق تماماً ولا مجال للنقاش فيه مرة أخرى "
صرخت باعتراض " لكن أنا... "
لكنها لم تتم جملتها حينما صرخ أكرم بصوت عالٍ صارم يقاطعها " قلت إنتهى "
قطبت مروة بغضب مكبوت وهي تتمتم من بين أسنانها " حسناً يا أكرم.. كما تريد "
بعد خروج مروة رفعت شمس رأسها تنظر إلى والدها بتوتر وقالت بخفوت " عمتي مروة ليست راضية يا بابا "
ابتسم أكرم ساخراً وهو يرد " ومتى كانت عمتك مروة راضية عن شيء؟ "
قطبت شمس بحيرة وهي تسأله " لا يبدو أنك تنوي ارضائها "
وضع كفيه في جيبي بنطاله وهو يرد بلامبالاة " لم أخطئ في حقها لكي أراضيها "
زادت تقطيبتها وهي تقول " لكنها غاضبة "
حرك أكرم كتفيه وهو يرد بنفس ببساطة " وما الجديد؟ "
خفت صوتها فجأة وهي تقول " بسببي "
حينها قطب بشدة وهو ينظر إليها قائلاً بحذر" سؤال هذا أم تقرير؟ "
رمشت شمس لوهلة ثم قالت بصوت أشد خفوتاً وكآبة " إنه إقرار بالأمر الواقع يا بابا.. عمتي مروة لا تحبني لذا هي تتشاجر معك كل يوم بسببي "
أخرج أكرم يديه من جيبيه ممسكا كتفيها وهو يقول بصوت شديد البأس " أحبتك أم لم تفعل هذا لن يغير من كونك ابنتي، مدللتي ومن يفكر في مسك بسوء فلا يلومن إلا نفسه لأنني لن أرحمه "
تهدل كتفيها بإحباط وهي تقول " أنا لا أريدك أن تتشاجر معها يا بابا.. لا أحب أن أراها حزينة بسببي.. أرجوك لا تفعل "
تنهد أكرم وهو يرد " وأنا لا أريد أن اتشاجر معها يا حبيبتي لكن... حسناً.. لا تشغلي نفسك بنا "
صمت لحظة ثم ابتسم بمكر يقول: " هناك موضوع مهم أريد مباحثته معكِ "
رفعت وجهها إليه بحماس وهي تقول " ماذا؟ "
سحبها أكرم من يدها حتى وصلا إلى الأريكة الوثيرة فجلس وأجلسها إلى جواره وهو يقول بصراحة ودون مواراة " ألم تشتاقي إلى عائلة أمكِ رحمها الله؟ "
رمشت شمس بقوة وهي تقول بحيرة: " وكيف سأشتاق لهم وأنا لا أعرف أي فرد منهم؟ "
قطب أكرم وشرد ببصره وهو يقول " لقد حافظت على قسم رقية لسنوات طويلة لكن لا استطيع الاستمرار أكثر.. أشعر بالذنب لمنعكِ عنهم "
مالت شمس برأسها جانباً وهي تقول بخفوت " وما دخل ماما رحمها الله في هذا الأمر؟ "
زفر أكرم وهو يقول بإقتضاب " سأخبركِ "
اومأت شمس برأسها بخفة وانتظرته أن يتحدث وبعد لحظات صمت طويلة قال " عندما تزوجت من ابنة عمي مروة لم تكن تلك رغبة مني بل إرضاءا لأبي بعدما انتكست حالته الصحية جداً وكانت أمنيته الأخيرة أن يراني مستقراً في حياتي.. (سكت لحظة ثم تابع بصوت متباعد) كانت حياتي تسير بنمط روتيني إلى أبعد حد.. نمط ممل لم يرضيني لأن شخصيتي غير نمطية أبداً ولكنني كنت اتعايش مع الأمر وكأنني أقضي فترة عقوبة على ذنب لا أعرف كنهه "
وضعت كفها على كتفه فعاد بوجهه إليها وهو يبتسم بحنان قائلاً " لكن هذا الروتين لم يدم طويلاً بعدما دخلت أمكِ إلى حياتي واقتحمت كل حصوني "
ابتسمت شمس برقة وهي تقول " وكيف تعرفت على ماما رحمها الله فهي ليست من العاصمة؟ "
حرك كتفيه بخفة يقول " أحد اخوتها كان شريكاً لي في مشروع ما.. كان مشروع كبير وبعد أن تم بنجاح دعاني ذات يوم إلى بلدتهم لحضور حفل زفاف أحد أبناء عائلته وهناك رأيت أمكِ "
تنهد بعمق ثم ضحك فجأة بصوت عالٍ تعجبت له شمس فقالت " علام تضحك بابا؟ ما الأمر؟ "
تعالت ضحكاته أكثر حتى دمعت عينيه ليجيب بعد وقت طويل " المجنونة صفعتني.. أنا أكرم الباسل صفعتني فتاة قزمة لم يصل طولها إلى مستوى كتفي حتى "
رفعت شمس حاجبيها بذهول وهي تقول " هل تقصد ماما؟ "
اومأ إيجاباً من بين ضحكاته فقالت بحيرة " لا تبدو غاضباً من تلك الذكرى "
تنهد بقوة وهو يحاول كبت ضحكاته ثم قال " بالطبع لست غاضباً.. إنها الذكرى الأحب إلي قلبي.. يكفيني أنها كانت أولى الخيوط التي جمعتني بها "
عبست شمس وهي تقول " أنا لا أفهم شيء.. ألم ينتفض كبرياء السيد العظيم أكرم الباسل مطالباً بأخذ ثأره من تلك القزمة التي تجرأت وصفعته؟ "
حرك رأسه سلباً وهو يرد " لا.. للأسف لم يحدث.. حتى أنا شعرت بالحيرة من نفسي.. حينها كان جلّ همي أن أعرف من تكون تلك الفتاة لأنها أعجبتني وليس لآخذ ثأري منها كما تقولين وكان يفترض بي وقتها أن أفعل "
عقدت ساعديها أمام صدرها وهي تنظر له بغموض قائلة " أعجبت بفتاة وأنت متزوج من أخرى.. لا تبدو لي من هذا النوع العابث يا سيد أكرم "
ابتسم أكرم بمكر وهو يقول " وما ذنبي أنا هي المخطئة؟ لم أستطع مقاومتها كانت... "
صرخت شمس بخجل تقاطعه " أبي "
ضحك أكرم وهو يميل عليها مقبلاً وجنتها وهو يقول " هي الأخرى كانت تذوب خجلاً وتتورد من اللاشيء حتى كلمتي صباح الخير مني كانت توترها "
ضحكت شمس وهي تقول " يبدو أن نيتك لم تكن بريئة تماماً وأنت تقولها يا بابا "
غمز أكرم بطرف عينه وهو يرد ضاحكاً " أكيد "
ابتسمت شمس وصمتت بينما شرد أكرم من جديد وهو يقول " عائلة أمكِ في الجنوب كانت تسير على قوانين ثابتة لا يستطيع أحد مخالفتها مهما بلغت مكانته ومن ضمن هذه القوانين ألا تتزوج أي فتاة من خارج العائلة "
ردت شمس ببساطة " لكن ماما فعلتها "
اومأ برأسه بشرود وهو يقول " الأمر لم يتم بتلك البساطة يا شمس لقد طلبتها رسمياً وكنت أعلم بقرار الرفض مسبقاً لسببين.. الأول أنني كنت متزوج ولم أظن أن تقبل عائلتها بي وهي لم يسبق لها الزواج والثاني هو أنها لا يمكن أن تتزوج بي كوني من عائلة أخرى لا تمس لعائلتها بأي صلة ورغم ذلك لم أخفِ رغبتي في الزواج منها لكن... "
صمت أكرم فجأة فحثته شمس على المتابعة بخفوت مترقب " لكن ماذا يا بابا؟ أنا أسمعك "
نظر لها طويلاً قبل أن يتابع حديثه " لكني فوجئت بل صدمت بموافقتهم أو لأكن أكثر وضوحاً بموافقة أخيها خالد والذي كان شريكي "
صمت مجدداً فقالت شمس بصبر " وماذا بعد؟ "
تنهد بإحباط يقول: " لم تهمني موافقته ولم أشعر بالسعادة أبداً حينها لأنها كانت رافضة لقد قالتها صراحة في وجهي *أنا لا أريدك وإن كنت رجلا على حق فغادر حالاً ولا تريني وجهك ثانية* "
قطبت شمس تقول " لكنك لم تغادر أليس كذلك؟ "
عبس وهو يقول " كنت على وشك أن أغادر فعلاً لكني علمت بأن أخاها هددها إن لم تتزوجني فسوف يزوجها من آخر ويبدو أن هذا الآخر كانت ترفضه أكثر مني وبعد ساعة من رفضها لي وجدتها تقف أمامي تتوسلني أن اتزوجها "
قطبت شمس بعدم وهي تقول " وأين والدها من كل هذا يا بابا؟ "
عبس أكرم بضيق وهو يرد " رغم هيبة جدك وسطوته إلا أنه كان يأخذ كثيراً برأي ابنه خالد كونه بكريه خاصة وأنه الوحيد الذي كان يرافقه في كل مكان ويهتم بأمور البلدة أما بقية إخوته فكان جلّ همهم هو دراستهم غير مبالين بما يدور من حولهم "
رمش أكرم بعينيه لبرهة قصيرة قبل أن يتنهد طويلاً وهو يقول بصوت حزين " أتعلمين أنني شعرت حينها بضربة قوية شطرت قلبي نصفين.. شعرت بإهانة شديدة أراقت كبريائي وأنا اسمعها تخبرني بصراحة... *يبدو أن نصيبي العاثر لن يحالفني أبداً وتبدو لي أخف البلايا لذا أنا أقبل الزواج منك ولا أريد أي شيء سوا أن تخرجني من هذه البلدة.. لقد سئمت قوانينهم ولم أعد أطيق أن أظل لحظة أخرى تحت ظلال هذه الدار.. خذني بعيداً أرجوك* "
حملقت شمس في عيني والدها وهي تتمتم بذهول بالغ " قالت أنك أخف البلايا! ماما قالت ذلك وأمامك بهذه البساطة "
زفر أكرم وهو يشيح بوجهه عنها قائلاً " هذا ما حدث بالفعل وكدت... أقسم بالله كنت على وشك صفعها حينها من شدة وقاحتها لكن... (تنهد بعمق وهو يتابع بصوت يحمل الكثير من الشجن) نظرة الرجاء في عينيها غلبت غضبي منها ووجدت نفسي طوع بنانها تطلب فأجيب وتأمرني فأطيع "
ابتسمت شمس برقة وهي تقول بمشاكسة " أنت عاشق من الدرجة الأولى سيد أكرم "
ابتسم وهو يكمل حديثه بهدوء " لم يعارض أبي على فكرة زواجي من أخرى فهو كان يعلم بتلك الخلافات التي لا تنتهي بيني وبين مروة فلم يشأ أن يثقل عليّ أكثر لذا ترك حرية القرار لي "
استرخى أكرم في جلسته واستند برأسه على ظهر الأريكة مغمضا عينيه وهو يتابع بصوت شارد " لم نقيم عرس بناءًا على رغبة أمكِ وبعدما عقد قرآننا مباشرة أتينا إلى العاصمة.. كان أبي أكثر من مرحب بها وقد ألتمس فيها السكن الذي كنت أبحث عنه لكن مروة كانت لا تترك فرصة حتى تهينها وأمكِ كانت صامدة في مواجهتها لا يهزها شيء دوماً كانت رقية ثابتة في تلك المواقف مما زاد فخري وحبي لها "
سألته شمس بحيرة " لم تخبرني بابا على أي شيء أقسمت ماما؟ "
قطب أكرم دون أن يفتح عينيه وهو يرد " رقية حينها كانت غاضبة لكنها كبتت لجام غضبها بصلابة حتى تم عقد القران ثم فاجأت الجميع بقرارها (صمت طويلاً وزادت تقطيبته ليقول بعد ذلك بصوت جامد) وقفت أمام الجميع بتحدي وهي تقول *ها قد تمت الصفقة وربح من دفع أكثر.. هذه أرضكم التي خرجت منها مجرد لاجئة تهرب إلى يد من تشعر أنه سيقدرها أكثر وهذه داركم التي هددتموني فيها حتى أقبل الزواج بغريب متخليين فجأة عن قوانينكم التي ظللتم تتغنون بها منذ قديم العهد والدهر* "
صمت أكرم قابضاً على أصابعه في قبضتين متصلبتين إلى جانبيه قبل أن يتابع ما قالته رقية بغضب مكبوت " *لم أعد أريد منكم لا الأرض ولا الدار ولا حتى صلة الوصل بيننا فقد قطعتموها بسكين ثلم بهذا العقد وأقسم ألا تطأ قدماي أرضكم هذه حتى النفس الأخير في صدري وإن شاء الله وكانت لي ذرية فقسمي جارٍ عليهم أيضاً* "
تشنجت ملامحه بشدة فأشفقت شمس عليه كثيراً من تلك الذكريات السيئة فمالت برأسها تستند برأسها على كتفه وهي تربت على صدره برقة دون كلام
تنهد براحة حينما بدأت شمس في التربيت على صدره وكأنه طفل صغير يبكي فتهدهده أمه ليهدأ
شعر بالسكينة في صمتها ومواساتها له دون كلام، دوماً كانت أقرب إليه من نفسه، تشعر بألمه دون أن يفصح وتهب لنصرته دون طلب
رفع ذراعيه يحيطها بخفة ويضمها إليه أكثر وهو يقول بخفوت وكأنه يخشى أن يبدد لحظات السكون تلك " حينها كان جدك على وشك صفعها أمامي فلم أطيق ذلك ووقفت في وجهه اتحداه أن يفعلها وأنا أصرخ دون خوف أو مهابة له بأن لا حق له في ذلك وأنها أصبحت زوجتي ولن أسمح لمخلوق بمسها بسوء أياً كان ورغم أنها نظرت لي حينها بامتنان إلا أنني كنت أتمنى لو كان حباً "
استمرت شمس في تربيتها الحاني واستمر هو في كلامه " منذ تزوجتها ولم أرفع صوتي عليها قط وهي لم تغضبني أبداً.. دوماً كانت تخفي عني خلافاتها مع مروة ولم أرها يوماً إلا مبتسمة في وجهي.. مهما تأخرت في عملي تنتظرني وإن سافرت لعمل ضروري في الخارج كانت تنهال عليّ باتصالات لا حصر لها حتى تطمئن على أكلي وشربي ونومي وعملي.. لم تكن تفوتها أي صغيرة أو كبيرة تخصني إلا وسألتني بشأنها "
تنهد بشجن وهو يقول " كنت أشعر أني ابنها أكثر مني زوجها وحينما كنت أحب مشاكستها اناديها 'أمي' كنت أظن أن الكلمة ستزعجها كونها فتاة صغيرة لازالت في ريان شبابها فأنتظر أن تهب روح الأنثى بداخلها لتهاجمني لكنها كانت تفاجئني في كل مرة بأن تتقبلها مني برحابة صدر وابتسامة.. يا الله لم أر أجمل منها يوماً إلا حينما أراكِ تبتسمين.. كانت أمكِ تبتسم لي فتشرق شمس صباحي ويتلون نهاري بأزهى الألوان "
ابتسمت شمس وهي تقول بمناكفة " ألم أقل أنك عاشق من الدرجة الأولى؟ ها قد صدق حدسي "
ابتسم أكرم وظل على حالته مغمض العينين وهو يرد " معكِ حق.. أنا كنت ولازلت عاشقاً لأمكِ حتى بعد رحيلها لا أظن ذلك شكل فارقاً أو انتقص من عشقي لها ولو مقدار ذرة "
صمت بعدها وصمتت هي تتأمل ملامح وجه والدها الحبيب وهي تخبر نفسها أنها لو وجدت يوماً عاشقاً مخلصاً مثل أبيها ستخطبه لنفسها بل ستطلب منه الزواج وتحبسه في قفصها وتقصقص أجنحته قبل أن يحلق بعيداً باحثاً عن أخرى
كتمت ضحكتها وهي تصل بتفكيرها إلى تلك النقطة في حين تابع أكرم غافلاً عنها " منذ تزوجنا ولم تذهب لزيارة عائلتها أبداً حتى أنها رفضت رفضاً قاطعاً أن يزورها أياً منهم هنا (تنهد وهو يقول) أخبرتني ذات يوم أنها رغم أنها أحبتني ورغم أنها لا تشعر بنفسها كانت ستكون كاملة وسعيدة مع رجل غيري إلا إنها لا تستطيع أن تغفر لهم ما فعلوا معها.. كنت أمني نفسي بأن هذا رد فعل أو قرار لن يدوم وسيتبدل مع مرور الأيام وأنه مهما بلغ غضبها منهم إلا أن قلبها الحنون المتسامح بطبعه سيلين لهم ذات يوم لكن... "
اختنق صوته وارتعشت أصابعه المحيطة بها وهو يكمل بصوت متحشرج " لكنني لم أتخيل أن تنتهي رحلتنا سوياً بهذه السرعة.. لم أتخيل أن ترحل وتتركني قبل مضي عام على زواجنا.. قبل أن أشبع جوعي إلى حنانها ورأفتها التي تذيب الجليد.. قبل أن انهل المزيد من بحر عشقها الذي لا ينضب ومن أمومتها التي كانت تغدقني بها بدون شروط "
رمشت شمس فانهمرت عبراتها على وجنتيها حينما فلتت شهقة صغيرة مكتومة من بين شفتي والدها قبل أن يتابع بألم " بكيت ليلتها كما لم أبكي من قبل.. كنت ممسكا بكفها اتوسلها أن تجيبني أن... أن تطمئنني ولو بكلمة لكنها لم تفعل.. كنت أتألم بشدة ولم أصدق أنها ظلت صامدة أمام آلام الولادة الصعبة كما اخبرتنا الطبيبة.. أنها ظلت تحارب وتقاوم حتى أتمت مهمتها بنجاح وعلى أكمل وجه فخرجتِ أنتِ إلى النور بينما هي... فاضت روحها إلى بارئها "
فرت دمعة يتيمة من عين أكرم وهو يقول بهمس مختنق " عندما خرجت الطبيبة تخبرني بأن... بأن النبض توقف وحاولوا انعاشها دون فائدة كانت تلك هي نفس اللحظة التي سمعت أحدهم من خلفي يسألني ماذا سأسمي الوليدة فلم أشعر بنفسي سوا ولساني يردد 'رحلت شمسي' كنت مصدوما وبعدها علمت بأن ابن عمي من كان يسألني وحينما سمعني أكرر الكلمة ظنني كنت أخبره بالاسم الذي أخترته لكِ فسماكِ شمس "
شهقت شمس مع انتهاء جملته وانخرطت في بكاء حاد فضمها أكرم إلى صدره أكثر ممسداً على شعرها وهو يقول " لا تبكِ يا شمسي.. لم أخبركِ لأبكيك.. أردت فقط أخباركِ بالماضي لتكوني على علم بكل شيء فأنتِ لم تعودي صغيرة "
تعالت شهقاتها أكثر فتمتم أكرم بخفوت " أنا واثق من أن رقية لو... لو طال بها العمر لكانت عادت إلى أهلها وعائلتها وغفرت لهم وأعادت بينهم الود من جديد لكن... القدر لم يحالفها لذا... "
خفت صوت بكائها قليلاً ورفعت وجهها المغرق بالدموع إلى والدها فقال بحزن وهو يتأمل ملامحها الحزينة " لذا أريد إعادة الود عن طريقك أنتِ يا شمس.. أشعر أن هذا سيريح رقية أكثر بعد مرور كل هذه السنوات فقد أوصتني بأهلها خيراً ولا أظن بأن هناك ما قد أفعله خيراً بهم أكثر من ذهابك إليهم.. يجب أن تزوريهم وتوديهم لأن هذه هي صلة الرحم وأنا لا أقبل بأن أعصي أمر الله ولا أرضى لكِ ذلك "
قالت بصوت متقطع من بين شهقات بكائها " لكن... لكن والد ماما أقصد... جدي أظنه سيكون... أظنه غاضباً من ماما لأنها أقسمت بأن... بأن تقاطعه "
اومأ أكرم وهو ينظر إليها بحنان قائلاً " بالطبع هو غاضبا فجدكِ صعب المراس كأمك رحمها الله تماماً لكن من يمكنه تجاهل قطعة الحلوى المسماة شمس.. ليس هناك شخص عاقل واحد يستطيع أن يظل غاضباً وأنتِ أمامه "
ابتسمت شمس رغم عدم توقف دموعها تقول " أنت تبالغ يا بابا لأنني ابنتك "
حرك أكرم رأسه سلباً وهو يقول " لا والله أقول الحق.. وسترين بنفسكِ أن الجميع سيحبك وأولهم خالكِ خالد "
ارتمت شمس على صدره وهي تحيط عنقه بذراعيها وعادت تبكي من جديد وتشهق وهي تتمتم " أنا أحبك كثيراً يا بابا "
تنهد أكرم وهو يربت على ظهرها بحنو " وبابا يحب شمسه كثيراً "
لحظات وانتفض أكرم غاضباً على صوت ابنه المرتفع في الخارج بينما شمس قطبت ببؤس لنهاية كارثية تعلم مجراها جيداً ككل ليلة يأتي فيها أخاها في ساعة متأخرة من الليل
استقام أكرم بهدوء ما يسبق العاصفة متوجهًا للخارج فهبت شمس من مكانها وهرولت خلفه تتبعه وهي تدعو الله أن تمر تلك الليلة على خير
وقف أكرم واضعاً كفيه في جيبي بنطاله في مواجهة ابنه الذي بالكاد يحاول الوقوف باتزان دون أن يترنح
سأله أكرم بهدوء ظاهري " أين كنت؟ "
قطب أنس وهو يرد ببرود " هل سيبدأ التحقيق اليومي الآن ونحن نقف على الباب؟ ألن تسمح لي بالدخول أولاً على الأقل؟ "
تصلب فك أكرم بشدة وهو يحاول كبت غضبه لأقصى حد وهو يقول من بين أسنانه " تكلم باحترام يا أنس ولا تجبرني على استخدام القوة معك "
زفر أنس بغيظ وهو يرد " حسناً.. ماذا تريد يا أبي لننتهي؟ "
تحرك أكرم مندفعاً بغضب ناحيته لكن شمس أدركته سريعاً وتشبثت بذراعه بقوة وهي تنظر إلى أنس بتهديد صامت حتى لا يتمادى في استفزاز والدهما بينما وجهت حديثها لأبيها " أرجوك يا بابا أهدأ.. أنس لا يقصد "
وقف أكرم مكانه صامتاً للحظة واحدة ثم سأله بإقتضاب " أين كنت حتى الساعة؟ "
عبس أنس وهو يرد ببرود " كنت مع رفاقي "
سأله أكرم بإيجاز " أين؟ "
سكت أنس متوترا ليس من سؤال والده وإنما من نظرة شمس الخائبة وهي تشيح بوجهها عنه
شعر وكأن أحدهم لكمه بعنف حينما رأى تلك النظرة في عينيّ شمس فهي دون الجميع لا يحب أن يرى خيبة الأمل في نظراتها له
أجفل أنس على صرخة والده الحادة " سألتك أين؟ "
ازدرد أنس ريقه قبل أن يجيب بإرتباك " في مقهى لن تعرفه "
رفع أكرم حاجبيه وابتسم ساخراً وهو يقول مشدداً على كلماته " حدد إذا سمحت 'مقهى' لا أعرفه أم 'ملهى' لا أعرفه؟ "
أشاح أنس بوجهه عن والده وهو يرد " قلت مقهى "
تصلب صوت أكرم وهو يقول " هل أنت واثق مما تقول؟ كنت في مقهى يا أنس؟ "
الآن توالت اللكمات عليه تباعاً دون رحمة وهو يسمع اسمه منطوقاً بنبرة عتاب ولوم من أبيه
لا يحب أن يعاتبه والده بهذه الطريقة يتمنى لو يضربه لا أن يعاتبه وأن تصرخ شمس في وجهه أو حتى تشتمه لا أن تخاصمه كما ستفعل الآن في نهاية المطاف
أطرق برأسه للحظات ثم قال كاذباً " أجل كنت في مقهى "
ما إن أنهى جملته حتى استدارت شمس وخطت بعيداً في طريقها إلى صعود الدرج وصولاً إلى غرفتها حيث ستختبئ وتخبأ معها خيبتها ويأسها منه
أراد أن ينادي عليها، يعتذر لها ويطلب منها السماح لكنها كانت قد ابتعدت واختفت وهو لم ينطق بحرف حتى اجفله صوت والده وهو يقول بتهكم " عليك إذن بتغيير ذلك المقهى لأنه مدعاة للشبهة خاصة مع رائحة الخمر التي تنبعث من بين أنفاسك مع كل كلمة تنطقها "
انتهى أكرم من حديثه وشيعه بنظرة لائمة محبطة ثم استدار عنه وابتعد هو الآخر
رفع أنس كفه يتخلل شعره بأصابعه بخشونة وهو يتأفف غاضباً من نفسه لأنه دوماً سبب في اغضاب والده وإيلام شمس
***
بعد ساعة كاملة كان أنس يقف أمام باب غرفتها المغلق يطرقه بهدوء ويناديها ولا تجيبه " أعلم أنكِ لازلتِ مستيقظة يا شمس "
صاحت شمس بغضب وهي تقف متكتفة خلف الباب من الناحية الأخرى " لا أنا نائمة.. هيا أذهب إلى غرفتك "
ابتسم أنس وهو يقول بمشاكسة " إن كنتِ نائمة فكيف أجبتني؟ "
ردت شمس بنفس الغضب " لا شأن لك بي يا أنس.. أنا... أخاصمك "
تحشرج صوتها مع نطقها لآخر كلمة فمال أنس يستند بجبهته على الباب وهو يقول بصوت حزين " وأنا جئت لكي اراضيكي.. هيا افتحي لي الباب "
شهقت باكية وهي تقول " لا أريدك أن تراضيني "
قطب بألم وهو يقول " لكنني أريد.. افتحي الباب يا شمس أنا آسف "
ضربت الباب بقبضتها وهي تهتف بغضب " كل مرة تقول آسف ثم تفعل نفس الخطأ يا أنس.. كل مرة... كل مرة... آه "
هتف أنس بضيق " توقفي شمس.. ستؤذين يديكِ "
ظلت شمس تبكي وتشهق بينما أنس يطرق الباب بحدة وهو يناديها " افتحي يا شمس.. أنا آسف.. أرجوكِ افتحي الباب "
خرج والديه فجأة من جناحهما وقد بدى والده غاضباً بينما أمه كان الحقد يسكن نظراتها وهي تقول " هل ستستمر طويلاً في توسل شمس هانم لتفتح لك باب رحمتها أم ماذا؟ "
نظر لها بجمود وهو يرد ببرود مغيظ " أجل سأظل مستمراً حتى تفتح لي باب رحمتها وإن لم تفعل فلن أرحل ولن أكف عن توسلها "
شعر أكرم بانقباض مفاجئ وهو ينظر إلى أنس، لا ينكر بأنه شاب مجتهد كفء في عمله ، ولا ينكر بأن أنس يكن لشمس مكانة خاصة ومحبة لا يمكن لأخر أن ينافسها عليها رغم أنها ليست شقيقته تماماً
تلك المكانة والمحبة هي ما تجعله مطمئناً على شمس إن تركها يوماً فهو يثق بأن أنس سيحميها ويفديها بروحه لو تطلب الأمر
لكنه غاضب منه ومن أفعاله المتهورة التي لا يكف عنها ولا يتركها إلا إرضاءا لشمس وما هي إلا فترة ويعود لها من جديد
تنهد أكرم قائلاً بإقتضاب لا يعكس دواخله " اذهب إلى غرفتك يا أنس طالما لا تريد شمس أن تفتح لك "
عقد أنس ساعديه أمام صدره وقال بإصرار وهو ينظر إلى أمه بإستفزاز " قلت لن أرحل إلا بعدما تفتح لي الباب واضمها إلى صدري واقبلها وربما رغبت أيضاً في النوم إلى جوارها الليلة "
كتم أكرم ضحكة كادت تفلت منه وهو يرى الشرر الذي بدأ يتطاير من نظرات مروة وهي تهتف بحقد ودون وعي " وهل الهانم ستظل في عملية إذلالك بهذا الشكل طويلاً؟ لا أفهم ما سر تعلقك بها لهذا الحد إنها مجرد فتاة مدللة سخيفة... "
أجفلت مروة وانخرست تماماً على صرخة أنس الحادة وهو يقول " كفى "
نظرت له بذهول وهي تقول " هل تصرخ في وجه أمك لأجل تلك ال... "
صرخ من جديد بصلابة أكبر " قلت كفى.. لا أقبل ولا أسمح لكائن من كان بأن يهينها.. لست متهاونا مع من يمس ما يخصني بسوء ولو بكلمة عرضياً فأرجوكِ لا تكوني أنتِ الأولى يا أمي "
شحبت مروة وهي تقول بصدمة " هل تهددني يا أنس؟ تهدد أمك ولأجل من؟ "
رد أنس ببرود " لأجل أختي "
صرخت مروة بغل " ليست أختك.. لا تقل أختك.. هي ليست ابنتي "
حرك أنس كتفيه بلامبالاة وهو يضع كفيه في جيبي بنطاله بينما يرد بهدوء مغيظ " معكِ حق هي ليست ابنتك لكنها اختي رغماً عني وعن الجميع يا أمي وليس معنى أنني وشمس لسنا من نفس الأم أننا لسنا أخوة فعلى ما يبدو أنه قد فاتك أن كوننا من نفس الأب سبب ودافع ورابط أقوى يجعل منا أخوين "
دون أن ينتظر منها رد كان يستدير ويطرق الباب وهو يقول بغيظ طفولي " افتحي الباب حالاً يا شمس وإلا أقسم س... "
قطع حديثه فهتفت شمس من الداخل بغيظ " س... ماذا؟ تابع سيد أنس أنت تثير اهتمامي جداً "
ضرب الباب بعنف وهو يصرخ " سأكسر الباب يا شمس.. إن لم تفتحي سأكسر الباب وسيقع فوقكِ وأنتِ تقفين خلفه فيتحطم رأسكِ ويتشوه وجهكِ وتصبحين بشعة "
صرخت شمس في المقابل وهي تضرب الباب بقبضتها " لن تفعل... آه "
صرخ أنس بغضب " توقفي عن ضرب الباب بقبضتك.. يا غبية الباب صلب وقبضتك رقيقة ستتأذى ولعلمك يا شمس.. سأفعل "
فتحت الباب بقوة وهي تهتف بشراسة " هيا أرني كيف ستحطمه "
لمعت عيني أنس ببريق النصر وهو يمسك معصميها هاتفاً بحماس " وما حاجتي لكسر الباب طالما فتحتي الباب بوداعة وأدب يا حمقاء؟ "
حاولت الإفلات منه دون جدوى فصرخت بغيظ " أنت مخادع.. اتركني أنس أنا اخاصمك "
نظر إلى وجهها العابس ببراءة وهو يقول " ألا يمكنكِ أن تمنحيني قبلة المساء وتخاصميني بدءاً من الغد؟ "
زفرت بغيظ منه قبل أن تميل على وجنته تقبله بسرعة وهي تقول " هل إنتهينا الآن؟ "
برم شفتيه بغير رضا وهو يقول " لا بأس بها (ثم أفلت يدها وهو يبتسم بحنان قائلاً) تصبحين على خير يا شمسي "
تنهدت مبتسمة وهي تقول " وأنت بخير يا أخي "
***

في ذات التوقيت / بالمدينة الجبلية في الجنوب
في عتمة الليل ووحشته الكئيبة كان يقف كالطود على جواده ، منتصب الظهر بثبات دون أن يرف له جفن، حدقتيه تدوران في المكان الفسيح الذي يقف فيه وهو يحاول ترصد أي حركة أو صوت دون جدوى
كان كل شيء ساكن من حوله ولا هدير عالٍ سوا أنفاسه المتسارعة
وفجأة ومض ضوء خافت على بُعد منه فضيق عينيه قليلاً وهو ينظر إلى ذاك الضوء محاولاً إكتشاف مصدره لكن طول المسافة نسبياً بينهما لم يساعده في ذلك مما جعله يعيد اللثام على وجهه من جديد قبل أن يشد اللجام الذي يمسك به بقبضة قوية فيصهل الجواد في استجابة له قبل أن يعدو به منطلقاً نحو مصدر الضوء
بعد دقائق معدودة كان قد وصل إلى وجهته فرفع وجهه إلى السماء يزفر بغضب مكبوت وهو يدعو الله في نفسه " يارب خيب ظني فلا أعلم إن صدق حدسي ماذا سيكون رد فعلي؟ يارب لا تجعل جحيم الماضي يؤثر عليّ.. يارب "
بضع خطوات أخر وتوقف تماماً عن الحركة وهو ينظر إلى الرجل العجوز الذي يفترش الأرض ودموعه تغرق وجهه
بصبر سحب نفس عميق ثم زفره على مهل قبل أن يقفز من فوق ظهر الجواد برشاقة ويتقدم بخطى هادئة قائلاً بخفوت حتى لا يجفل العجوز " السلام عليك عماه "
رغم خفوت نبرة صوته وهدوئها إلا أن الرجل أجفل بشدة وهو ينتفض في جلسته هاتفاً بصوت أقرب إلى الصراخ " ماذا تريد؟ أنا لم أؤذي أحد.. ابتعد "
أغمض عينيه للحظة قصيرة ثم فتحهما ببطء وهو يحدق في الرجل العجوز مطيلاً النظر إليه مما جعل الأخير ينكمش على نفسه قائلاً بصوت مرعوب " من أنت؟ أنا لم أؤذي أحد.. أقسم لم أفعل "
أخيراً وبعد صمت طويل تكلم الشاب الملثم قائلا بهدوء تام " وهل اتهمتك بشيء يا عماه؟ "
حرك العجوز رأسه سلباً وملامحه متشنجة خوفاً وهو يتمتم " من... من أنت؟ "
التفت الشاب بخفة حول نفسه وهو يتجاهل سؤال العجوز قائلاً بنفس نبرته الهادئة حد الغيظ " ماذا تفعل وحدك هنا في هذا المكان المقفر والجو البارد؟ "
سكت العجوز للحظات ثم رد بإرتباك حينما عاد الشاب الملثم ينظر له بنظرته الثاقبة من جديد " ليس... ليس لي مكان آخر أذهب إليه.. أنا هنا منذ بضعة أيام فقط ولم... ولم ازعج أو أؤذي أحد "
اومأ الشاب برأسه وهو يؤكد كلام العجوز بثقة تامة محدقا في عينيه بجمود " بالطبع لم تفعل وإلا لكنت عرفت بذلك ثم من ستؤذي في مكان خالي كهذا لا تطأه أقدام بشر؟ "
عادت حدقتي الشاب تدوران متأملة في المكان الخالي شبه المعتم الذي يقف فيه وكأنه يبحث عن شيء ما حتى تنبه على صوت العجوز يكرر سؤاله " لم تخبرني من أنت؟ "
زفر بحدة لسبب مجهول قبل أن يعيد بصره للعجوز قائلاً " هويتي لن تفيدك في شيء.. أخبرني ما إسمك يا عماه؟ "
قطب العجوز وهو يرد " عمران "
سأل الشاب بإهتمام " لا أظنك غريب عن البلدة.. من أي عائلة أنت يا عماه؟ "
زادت تقطيبة عمران دون أن يرد عليه فقال الشاب بصبر " انتظر ردك يا عماه.. من أي عائلة تكون؟ "
رد عمران بعد لحظة " هويتي لن تفيدك في شيء "
ارتفع حاجبي الشاب قليلاً ثم قال بشيء من اللامبالاة " لعلمك فقط أنا أعرفك "
نهض عمران من مكانه واقترب من الشاب بحذر وهو يقول " إن كنت تعرفني فما الداعي لسؤالك؟ "
رد الشاب ببساطة يخفي لهيب مشاعره في تلك اللحظة وهجوم ذكريات جاهد لكبتها " مجرد تأكيد ليس إلا "
صهل الجواد فجأة بقوة فاستدار الشاب على عقبيه ينظر حيث يصهل جواده ثم قال بعجلة وهو يعتلي جواده الأدهم " سأرسل لك أحد بعد قليل فأذهب معه حيث سيأخذك ولا تخف.. لك الأمان.. أراك على خير يوماً ما عماه "
ركض الشاب منطلقاً بجواده بعيداً والعجوز يشيعه بنظرات حائرة قبل أن يتمتم بشجن " سبحانك ربي لا تضيع عبادك أبداً ومن بعد وحشة اليأس تمنحنا سكينة الفرج "
***
أخيرا وفي نفس اللحظة وصل زيد إلى وجهته التي كان يقصدها ووقف على فرسه ينظر أمامه حيث ابن عمه بغضب مكبوت
بصوت قوي وقد زال به كل لمحة هدوء كان يهتف بضيق " دوماً حظك لا يحالفك يا ابن عمي "
قطب ياسين بضيق وهو يواجهه قائلاً " ماذا تفعل هنا في تلك الساعة؟ "
هتف زيد بصوت جاد " هذا السؤال من المفترض بي أنا أن أوجهه لك.. ماذا تفعل هنا يا ابن عمي؟ أو لأكون أكثر تحديداً من تنتظر هنا في تلك الساعة؟ "
ارتبك ياسين للحظة ثم أشاح بوجهه عنه وهو يحاول أن يخفي عنه توتره بينما يقول " لا أنتظر أحد.. أنا شعرت بالضيق فخرجت من الدار لكي... لكي أسير قليلاً وحدي "
رفع زيد حاجبيه بسخرية وهو يقول " سبحان من خلق الملكوت وأبدعه وخلق الصدف وجمعها! عجيبة تلك الصدفة فعلا وخاصة أن ملك شعرت بنفس الضيق فخرجت من الدار هي الأخرى لكي تستنشق الهواء الطلق في الخارج بل لأكون أكثر دقة في نفس المكان الذي قصدته أنت "
زاد توتر ياسين فهتف بحنق " بماذا تهذي أنت؟ انتبه لكلامك زيد فهو ليس بهين "
كانت نبرة زيد القوية أكثر سطوة من كافة الصراخ والهتاف وهو يقول " أنت من عليه الانتباه لكلامه ليس أنا... (رفع رأسه بشموخ وهو يتابع باعتداد) لست أنا من يهذي وأنت تعرف ذلك جيداً "
زفر ياسين واصابعه تتقبض بتشنج وهو يقول " ماذا تريد؟ "
رد زيد بصوت بارد " وجه سؤالك لنفسك أولاً يا ابن عمي وأعرف إجابته.. ماذا تريد من ملك؟ "
انتفض ياسين بغضب وهو يهتف " لقد تخطيت حدودك كثيراً يا زيد وأنا لا... "
قاطعه زيد بسخرية " وهل أكذب؟ "
زفر ياسين بضيق وهو يرد " أنا لم أطلب منها أن تلحق بي إلى هنا ولا لأي مكان آخر "
زفرة حادة خرجت من بين شفتي زيد قبل أن يقول من بين أسنانه " هذه هي المصيبة.. أنت لم تطلب منها لكنها تلاحقك وأنت لم تمنعها أبداً مما يجعلها تتمادى أكثر "
هتف ياسين بيأس شديد " ماذا تريدني أن أفعل؟ أنا أحبها "
أجفله صوت زيد وهو يقول بحدة " إن كنت تحبها حقاً فأذهب إلى جدها واخطبها منه.. أما غير هذا فيعد خطئا محسوبا عليك قبلها حتى وإن لم تفعل أو تشجعها على شيء "
زفر ياسين دون رد وقد غمره شعور بالحرج والخزي من تصرفاته الصبيانية الغير محسوبة لكنه كان تائه ولا يعرف أي السبيل يسلك.. حائر ولا يعرف الطريقة الصحيحة التي يجب أن يتصرف بها مع ملك حتى يصل معها إلى بر الأمان
بعد لحظات صمت في سكون الليل قال ياسين بصوت متعب " سأعود للدار.. أحتاج إلى النوم بشدة "
رد زيد بإيجاز " حسناً "
لم يكد ياسين أن يسير خطوتين حتى توقف فجأة وهتف بقلق " قلت أن ملك خرجت من الدار فأين هي إذن؟ ماذا حدث معها؟ "
قطب زيد وهو يرد ببرود " ملك في مكانها الصحيح حيث يجب أن تكون.. إنها في الدار.. لقد أعدتها بنفسي دون أن يشعر أحد بخروجها وحدها في تلك الساعة المتأخرة "
تنهد ياسين براحة وهو يقول " الحمد لله.. تلك الغبية تحتاج لصفعة تفيقها من طيشها "
رد زيد متمتماً بنفس البرود وهو يستدير بفرسه بخفة " ليست وحدها من تحتاج لصفعة حتى تفيق وإن كانت تحتاج إلى كسر عنقها على وقاحتها "
تذكر فجأة تلك الرسالة التي وصلته قبل وصوله إلى ياسين والتي كانت كلماتها تصرخ غضباً جعله يعرف في أي حال صاحبها الآن
**لقد سئمت التغطية على أفعالكم جميعاً بمن فيهم أنت وكأنني شبح يطارد الكون بمن فيه حتى يزيل آثار خباياكم واخطائكم**
ودون كلمة أخرى كان ينطلق بفرسه سالكاً طريق العودة إلى الدار
***
بعد ساعة دخل بملامح هادئة لا تعبر عن شيء ولا تفصح عن مكنون خلده وأفكاره
كان الصمت والسكون يعم الدار فعلم أن الجميع بالتأكيد قد خلدوا للنوم فتنهد شاعراً بالراحة
لكن خطوة.. اثنتين.. ثلاث ثم توقف في مكانه للحظة وهو يسحب عدة أنفاس يملئ بها رئتيه، أنفاس كانت محملة برائحة الطيب الذي يبث في روحه السكينة
شبح ابتسامة ظهر على شفتيه وهو يتمتم بهمس به لمحة من الشجن " ومن سواك يا أبي ينتظرني مهما تأخرت؟ "
أكمل خطاه بهوادة وكأنه يعد خطواته حتى وصل إلى الدرج فتسلقه بهدوء كذلك حتى وصل إلى تلك الغرفة الجانبية التي يتخذها والده مصلى وعزلة له عن الجميع
كان الباب مغلق لكن صوت والده العذب وهو يتلو آيات القرآن الكريم تشعرك وكأن كل الأبواب مفتوحة على مصراعيها، تناديك بأن تقتحمها دون مقاومة منها، تطلب منك سلكها ببساطة دون تعقيد
أغمض عينيه للحظة ثم فتحهما متنهداً بقوة قبل أن يطرق الباب ثلاثاً ويمسك بمقبض الباب يديره بخفة قبل أن يدلف للداخل مغلقاً الباب خلفه
كان والده يجلس في ركن قصي من الغرفة وفي يده مسبحته البيضاء يحركها بين أنامله بخفة مع صوت تمتماته الخافتة
ما إن دخل حتى رفع والده رأسه إليه ونظر له مبتسماً وهو يشير له بكفه ليقترب منه دون كلام
دون تردد اقترب منه وجثى على ركبتيه أمامه وهو يميل ليلثم كتفه قائلاً " السلام عليك يا أبي "
قبل سليم جبينه وهو يرد بحنان " وعليك سلام الله ورحمته وبركاته يا ولدي.. تأخرت الليلة "
تنهد بإرهاق وهو يعتدل في جلسته أمام والده مجيبا بهدوء " لقد طرأت لي بعض الأمور وكان عليّ حسم الأمر فيها دون تأخير "
ابتسم سليم وهو يسأله " وهل وفقك الله فيها؟ "
حرك كتفيه بخفة وهو يرد " أظن ذلك فدعواتك تلاحقني أينما أكون يا أبي "
اتسعت ابتسامة سليم وهو يقول " بالطبع ستلاحقك فقد وكلتها بحراسة ولدي الغالي وأتمنى أن تكون على قدر ثقتي بها فتحميك "
أطرق برأسه دون رد فقال سليم بقلق " ما بك يا زيد تبدو مهموما؟ "
رفع زيد رأسه ونظر إلى والده بإقتضاب قائلاً " لقد وجدنا العم عمران الناصر يا أبي "
قطب سليم بحيرة يقول " الحمد لله.. هذا خبر جيد لكنك تبدو منزعجاً "
قبض زيد على كفيه في قبضتين قويتين وهو يرد بضيق " حينما مررت عليه قبل قليل وجدته يبكي فلم أستطع أن أكلمه حتى "
زفر بحدة وهو يضيف " لا أصدق أن هناك ابن قد يفعل ما فعله ذاك الحقير بوالده.. لقد تطاول عليه وضربه يا أبي.. أي نوع من الأبناء هو ذاك ال... ال... استغفر الله العظيم.. أشعر بأنني سأموت كمدا وقهرا إن لم أقتله... "
قطع حديثه مجفلاً وذاهلا حينما انفجر والده في الضحك بصخب على غير عادته الرزينة
رمش مراراً وهو ينظر إلى والده حتى وجد نفسه يبتسم تلقائياً وهو يضيق عينيه قليلاً بينما يقول مناكفاً " ما الذي يضحكك هكذا يا سليم؟ اضحكني معك أم أنني لا حظ لي سوا في البؤس والحزن من هذه العائلة؟ "
دمعت عيني سليم من شدة الضحك فكانت يد زيد الأسرع وصولاً إلى وجهه وهو يمسح دمعاته بلطف شديد وحينما هدأت ضحكات سليم قال بابتسامة حنونه " حفظك الله للضعفاء يا ولدي "
غمغم زيد لنفسه بخفوت " بل حفظه هو للضعفاء يا أبي فلست أنا من وجد العم عمران من الأساس "
تنهد سليم قبل أن يضيف دون أن يلاحظ تمتمة زيد الخافتة " لكن تمهل قليلاً وأحذر من اندفاعك في ردود أفعالك.. يكفي واحد يا زيد "
قطب زيد وهو يقول بامتعاض " بالمناسبة هذا ال 'واحد' منزعج وبشدة "
ابتسم سليم بشجن وهو يرد " ومتى لم يكن هكذا؟ لقد أتى إلى الدنيا على هذا الحال "
صمت زيد دون تعقيب بينما تنهد سليم وهو يقول مغيراً الموضوع " ملك كانت في الخارج.. لقد رأيتها وهي تدخل الدار لكني لم أكلمها "
قطب زيد وهو يتذكر الرسالة الثانية التي وصلته في طريق عودته للدار
**إن أكتشف أحد ما فعلته تلك الحمقاء وسألك عن الأمر فتصرف بحكمة ورد بإيجاز دون أن تفصح عن الكثير حتى نجد لرعونتها حل ونضع لها حدا**
تنحنح بتوتر وهو يرد " لم تكن وحدها يا أبي ولم تبتعد كثيراً وقد أعدتها بنفسي إلى الدار لكنني لم أتمكن من الدخول معها بسبب أمر طرأ لي فجأة كما قلت لك "
أطرق سليم برأسه وهو يتلاعب بحبات مسبحته بين أنامله بينما يقول " هناك ما لا تريد الإفصاح عنه أليس كذلك يا ابن سليم؟ "
تنهد زيد بعمق وهو يرد بإيجاز " أجل "
ابتسم سليم وهو يربت على كتفه قائلاً " لا بأس بني يمكنك إخفاء ما شئت.. أنا أثق بك "
تنهد زيد وهو يطرق رأسه ناظراً لحظات المسبحة التي تتحرك بخفة بين أنامل والده وهو يحدث نفسه بشجن " ليتني إحدى حبات مسبحتك يا أبي.. تتنعم بدفئك ولا تغادر يدك أبداً "
عاد سليم إلى ملكوته الخاص وتمتماته بالذكر تسكب السكينة والراحة في نفس زيد المهمومة وظلا هكذا لقرابة الساعة
بعد مضي وقت طويل التفت سليم إلى ابنه فوجده يقف أمام النافذة ينظر للأفق البعيد بنظرة شاردة فناداه بلطف حتى لا يجفله " زيد! "
رمش زيد لبرهة ثم التفت برأسه إلى والده يرد بهدوء " نعم أبي "
ابتسم سليم وهو يقول " هل انتهيتم من ترتيبات العرس؟ "
عبس زيد بينما يرد " أظن ذلك رغم أن الفنانة لا تكف عن التذمر كل لحظة مطالبة بتعديلات لا أعرف من أين تأتي بها "
ضحك سليم بخفوت فتابع زيد بغيظ " لو كانت عروسي كنت طلقتها ثلاثاً وهربت منها أقسم بالله "
انفجر سليم ضاحكاً بينما زيد زم شفتيه عابساً وهو يعود ببصره إلى النافذة من جديد
بعد لحظات قال سليم " من حقها يا ولدي فهي العروس ويجب أن تنال كل الترتيبات رضاها.. إنها ليلة العمر ولا تتكرر "
بنفس العبوس رد زيد " هذا لا يعطيها الحق حتى تتذمر على كل شيء ولا شيء.... أكاد أجن بسببها "
ابتسم سليم وهو يقول " وماذا عن حمزة؟ "
رد زيد ساخراً " لا ينطق بكلمة وكأنه أصيب بالخرس كل ما يفعله أن يتأفف ويعبس في وجوهنا "
تنهد سليم وهو يقول " إنه يحب زهراء كثيراً ولا يريد أن يفسد عليها فرحتها كأي عروس لذلك يحتملها دون شكوى "
عقد زيد ساعديه أمام صدره وهو يرد متذمراً كطفل صغير " وما ذنبي أنا لأتحمل عبوسه وجنون عروسه؟ هل أخبرك سراً أبي؟ أنا لا أحبهما هل هذا مبررا كافيا لكي أتهرب منهما ومن عرسهما؟ "
ضحك سليم وهو يهز رأسه سلباً فزفر زيد حانقا وهو يقول " أنت تتخذ صف أبناء اخوتك يا سليم.. تقف معهم ضدي وهذا خطر عليك ففي لحظة لن أتوانى عن أخبار الحارس الحامي خاصتي ليرى العقاب المناسب لك (رفع سبابته وهو يشير الى والده بعبوس زائف) ها أنا احذرك "
أوشك سليم على الرد لكن صوت طرقات أحدهم على الباب قاطعه ليقول بهدوء " أدخل "
دخل حمزة ومن خلفه زهراء وكلاهما عابسين فنظر زيد إلى والده بطرف عينه وكأنه يقول
' ألم أخبرك أنَّ عليّ الهرب منهما؟ '
ابتسم سليم وهو يشير إلى زهراء لتدنو منه بينما قال حمزة " السلام عليكم "
رد زيد بخفوت دون أن ينظر إليه بينما ابتسم سليم بهدوء قائلاً " وعليك السلام يا ولدي.. لماذا لازلت مستيقظا؟ "
رمق حمزة زهراء بطرف عينه قبل أن يرد " كنت اتناقش مع زهراء في عدة أمور "
هز سليم رأسه بهدوء وهو يقول " وهل أثمر النقاش بينكما على خير؟ "
أراد حمزة أن يصرخ ب ' لا ' لكنه بدلاً من ذلك تمتم من بين أسنانه " تقريباً "
حينها رمقه زيد بنظرة ساخرة وهو يقول موجهاً الحديث لوالده " ألا ترى يا أبي بشارة الخير تكسو وجهه البشوش ما شاء الله؟ "
عبس حمزة بغيظ دون أن يرد بينما كتم سليم ضحكته في حين قالت زهراء بحزن " تصور يا عمي لا يريد أن نسافر إلى فرنسا في شهر العسل؟ "
رد سليم بمهادنة " ربما كان يريد اختيار مكان آخر ليس شرطاً أن تقضي شعر العسل في فرنسا "
ابتسم حمزة ساخراً وهو يقول " أخبرها يا عمي فقد مللت من محاولة اقناعها دون جدوى.. ألن يكون شهر عسل إن لم نذهب إلى فرنسا؟ "
هتفت زهراء بذهول وكأنها تخاطب مجنون " بالطبع لن يكون.. ألا تفهم؟ أنا أريد زيارة باريس مدينة العشاق ولن أقضي شهر عسلي في مكان أخر "
قطب حمزة وهو يقول باستنكار " مدينة العشاق؟ حقاً! لكن عمي سليم كان عاشقاً ولم يذهب إلى باريس في شهر عسله حتى حفصة وعاصم لم يذهبا إلى باريس هل هذا يعني أنهم ليسوا عاشقين أم أنهم لم يستمتعوا بشهر عسلهم الموعود؟ "
زمت زهراء شفتيها وهي ترد بعناد " لن أقضي شهر العسل سوا في فرنسا "
تمتم حمزة بتهكم " عسل! وأين هو العسل يا حسرة؟ لا أرى أياً من بوادره "
جحظت عيني زهراء وهي تقول " ماذا تقول يا حمزة؟ أنت... أنت لا تحبني "
أنهت كلماتها وانخرطت في البكاء فزفر حمزة بيأس وهو يقترب من زيد يقف إلى جواره أمام النافذة واضعا كفيه في جيبي بنطاله وكلاهما ينظران للخارج
كان سليم يهدئها ويحاول مناقشتها بلطف في حين تمتم حمزة بخفوت " هذا ما نأخذه من الحب "
رمقه زيد بطرف عينه وهو يقول متنهداً بنفس الخفوت " لازلت في بداية الطريق.. عليك بالصبر أكثر فقد فات الأوان.. لا يمكنك الندم الآن ولا حتى التراجع "
تنهد حمزة وهو يلتفت ناظراً إلى زهراء بهيام رغم كآبته وهو يقول " أنا لا أنوي التراجع في أي لحظة ولا أشعر بالندم أبداً لكن المشكلة أنني تعبت يا زيد.. كل ما أريده أن تكون زهراء أكثر تفهما "
ربت زيد على كتفه قائلاً " زهراء طفولية جداً لذلك يصعب ارضائها بسهولة لكنها هي الأخرى تحبك جداً وهذا وحده كافياً ليطمئن قلبك.. صدقني مهما عاندت في البداية سترضخ لك ولما تقرره في نهاية الأمر "
لم تمر لحظة حتى هتفت زهراء بنبرتها الطفولية بحماس " لِمَا لا؟ فكرة رائعة وأنا موافقة "
نظر حمزة إلى عمه بترقب وهو يقول " علام اتفقتما عماه؟ "
ابتسم سليم وهو يقول " زهراء وافقت على قضاء شهر العسل في أي بلد ستختارها أنت على أن... "
قطع سليم كلامه فجأة فحدق فيه حمزة بحذر وهو يقول " ماذا بعد؟ "
أكملت زهراء بسعادة " حينما يقرر زيد الزواج ويقيم العرس فسوف نذهب معه أثناء رحلة شهر عسله "
هتف حمزة بذهول " نذهب معه! "
في نفس اللحظة هتف زيد مستنكرا " شهر العسل خاصتي؟ من سيذهب معي؟ "
ابتسمت زهراء بسعادة وهي تقول " أنا وحمزة سنذهب معك وهكذا سأحظى برحلتين شهر عسل بدلاً من واحدة وسأسافر مرتين بدلاً من مرة واحدة "
قال زيد من بين أسنانه " فكرة من هذه؟ "
أشارت زهراء على عمها وهي تقول " فكرة عمي سليم.. أليست رائعة؟ "
رفع زيد حاجباً بغيظ ولسان حاله يقول
' تماديت يا سليم وقد أخبرتك أن انحيازك إلى صف أبناء اخوتك خطر عليك '
كتم سليم ضحكته وقد فهم ما يفكر فيه ابنه بينما قال حمزة بعبوس " لا يصح أن نشاركهما.. كل عروسين يحتاجان إلى بعض الخصوصية في تلك الرحلة "
ابتسمت زهراء وهي تقول ببساطة " سنسافر معهما ونقيم في أي فندق آخر غير ما سيقيمان فيه وهكذا لن نزعجهما إطلاقاً وسيحظيان بكل الخصوصية "
رفع زيد حاجبيه بذهول وهو يقول " هل تتحدثان جدياً في رحلة شهر العسل خاصتي بل وخصوصيتي أنا وعروسي التي هي وللعلم مجهولة حتى اللحظة وقد لا تكون هناك عروس من الأساس في حين أن الزفاف الذي سيقام قريباً يخصكما أنتما؟ "
ردت زهراء ببساطة " لا تقل هذا.. ستتزوج إن شاء الله قريباً جداً ومن عروس غاية في الجمال "
فتح فمه ينوي الحديث ثم اغلقه ثانية وهو يشعر بالذهول حتى تمتم بعد لحظات " سأذهب لغرفتي قبل أن أفقد الجزء الصغير المتبقي من عقلي الذي قضيت عليه تلك العائلة المجنونة.. تصبح على خير يا أبي وانتما... لا "
ضحك سليم وهو يرد " وأنت بخير يا بني "
فتح زيد الباب ليغادر لكنه التفت لهم مرة أخرى وهتف بحنق " هل يمكنني أن أطلب منكما طلب صغير؟ "
عبس حمزة بينما قالت زهراء مبتسمة " بالطبع.. أي شيء "
هز زيد رأسه بيأس قبل أن يهتف بغيظ " هلا تبرأتما مني؟ ستكون هدية تاريخ مولدي لهذه السنة وسأتقبلها منكما شاكراً أقسم بالله "
خرج بعدها صافقاً الباب من خلفه وضحكات سليم تتبعه في حين قطبت زهراء بحيرة تقول " هل جن تماماً؟ خسارة والله كان من زينة شباب العائلة "
***
وصل إلى غرفته يشتم في سره حمزة وزهراء وذلك الزفاف وبقية أفراد العائلة
مزاجه مكدر لا لسبب سوا أنه للمرة التي نسى عددها قد فشل في لقائه ، ها هو يأتي إلى البلدة ويرحل دون أن يراه وجهاً لوجه
يحمل بداخله الكثير من التساؤلات التي يريد إيجاد حلول وتفسير لها ومع تهرب ذاك المستفز من لقياه لا يجد سبيلا لحل شفرة تلك التساؤلات
جلس على طرف الفراش مطرق الرأس وبضعة دمعات تفر من عقال محبسها منهمرة على وجنتيه بحرقة وهو يتمتم " ألن تسامحني؟ ألن تغفر لي؟ أخبرني ماذا أفعل لترفع حاجز الماضي الذي يفرق بيننا ويحول بيني وبين رؤياك؟ لكم أشتاق إليك كثيرًا.. أخي "
فجأة أضاءت شاشة هاتفه الملقى إلى جواره برسالة نصية فسارع بالتقاط الهاتف وفتحه يقرأ الرسالة بلهفة
**أتمنى أن تكون أنجزت ما طلبته منكَ دون أخطاء**
كاد يسب ويلعن وهو يشعر بأحشائه تتفتت من الحرقة والألم، ها هو يرسل له بضعة كلمات مقتضبة موجزة للإطمئنان على سير الأمور التي سبق واطمئن أنها تسير كما خطط لها
سحب نفس عميق وزفره على مهل في محاولة منه لتهدئة أعصابه المحترقة بعدها كتب
*لا تقلق.. كل شيء يسير حسب اوامرك هل هناك شيء آخر؟*
أتاه الرد دون تأخير
**لا.. ليس بعد**
زم زيد شفتيه يمنع نفسه بصعوبة من التلفظ بسباب تليق بذلك المتعجرف البارد وهو يكتب بغيظ
*حسناً.. أين أنتَ الآن؟*
انتظر الرد طويلاً حتى أتاه بعد دقائق متمثلا في كلمتين موجزتين لا تعبران عن شيء
**في الطريق**
جحظت عينيه بغضب مكبوت وهو يتمتم " هل يريد اصابتي بالجنون أم ماذا؟ "
دون أن يتحكم في نفسه كتب ما يعبر عن غيظه وضيقه
*تباً لكَ*
أتاه الرد باردا كمحتواه
**أخلاقك أصبحت متدنية جداً**
***
على الجانب الآخر
كان يحدق في الطريق أمامه بعينين صقريتين غائمتين في بئر سحيق لا قرار له من الغموض
كانت نظراته القاتمة تنهبان الطريق كعجلات سيارته في تلك اللحظة
عقله لا يتوقف عن التفكير ورغم أن أفكاره متفرعة لعدة موضوعات وتشمل أكثر من جانب وجهة إلا إنه بحكمة ومهارة يمسك لجامها جميعا في قبضة يده
أجفل من أفكاره على صوت هاتف يوسف وقد علا رنينه فجأة فألتقطه الأخير من جيبه مجيبا " السلام عليكم "
ردت مريم بهتاف حانق " وعليكم السلام.. كم الساعة الآن يا بك؟ "
قطب قليلاً وهو ينظر إلى ساعة معصمه قبل أن يرد ببساطة " الواحدة صباحاً "
عادت تصيح من جديد " نعم الواحدة صباحاً ولازلت في الخارج "
زفر بإرهاق يقول " اهدئي أرجوك لا داع لكل هذا.. أنا لست ولدا صغيرا "
صمتت للحظة وقالت بعدها بحزم أمومي " حينما تصل أصعد مباشرة لشقتنا أريد رؤيتك قبل أن تنام.. مفهوم؟ "
تنهد بإحباط يقول " حاضر "
قالت هي بإقتضاب " في أمان الله "
أغلق الخط وهو يتمتم بيأس " حتى متى ستظلين تعاملينني كطفل صغير؟ اقسم بالله أنا كبرت "
بعد لحظات إلتفت يوسف إلى صديقه قائلًا " لماذا لم تخبره أنني كنت معك في المدينة؟ "
رد الآخر بلامبالاة " لا أريد لأحد أن يراك.. هذا أفضل لأجل سلامتك وأمانك ولا تنس أنه يظن بأنك أنت من وجدت العم عمران وأنك من تراسله "
ابتسم يوسف بمحبة يقول " بطلي المغوار يخشى عليّ إذن "
عبس الآخر يرد " لستُ بطلا "
ضحك يوسف وهو يسلط نظراته على الطريق من أمامه قائلا " ماذا عن فارسي المغوار؟ "
زفر الآخر بملل يقول " ركز في القيادة وأكرمني بصمتك يا يوسف "
كتم يوسف ضحكته يقول " تحت أمرك يا باشا "
***
بعد ساعة
تفاجئ بها تقف على الباب مكتفة الساعدين أمام صدرها ووجهها عابسا على غير عادتها
تنحنح قليلا بخفوت فأفسحت له ليدخل وهي تقول بغيظ " حمداً لله على سلامتك يا بك "
دلف بهدوء وهو يرد بعفوية " سلمكِ الله عمتي "
صفقت مريم الباب خلفها وهي تقول " الساعة أصبحت الثانية.. أين كنت كل هذا الوقت؟ "
رفع حاجبيه بتعجب وهو يرمق جلسة مختار على الأريكة، مكتف الساعدين واضعا ساق على الأخرى ويطالعه بهدوء تام لا يعبر عن شيء بينما كانت نبض إلى جواره، ضامة ركبتيها إلى صدرها وتطوقهما بذراعيها مستندة بجبهتها على ركبتيها ويبدو أنها سابحة بعيدا على بساط النوم السحري
تساءل يوسف بدهشة " هل هناك حالة استنفار أم ماذا؟ "
برم مختار شفتيه دون رد بينما صاحت مريم من خلفه " حدثني أنا.. سألتك سؤال ولازلت انتظر إجابة واضحة وصريحة عليه.. أين كنت؟ "
نظر لمختار باستجداء ليساعده لكن الأخير حرك كتفيه وهو ينظر له ببراءة مغيظة فلم يجد بُدا من الرد
التفت إليها بهدوء يقول " كان لدي عمل طارئ "
سألته وهي تكتف ساعديها أمام صدرها " أين؟ "
رد بإيجاز " خارج العاصمة "
سألته وهي ترفع حاجبا ببرود " أي عمل هذا الذي يستدعيك للخروج من العاصمة يا دكتور؟ "
رد مقطبا " ليس له علاقة بعملي كطبيب "
نظرت له بغيظ تقول " بالطبع ليس له علاقة.. أخبرني يوسف أين كنت بالضبط؟ "
زادت تقطيبته وهو يرد " هل لي بأن أحتفظ بالإجابة لنفسي؟ "
صرخت مريم بانفعال " لا.. ليس من حقك.. تكلم يا ولد حالا "
أجفلت نبض من خلفه وصدرت عنها صرخة قصيرة كتمتها بسرعة وهي تقول بإرتباك بينما تجاهد لتبقي عينيها مفتوحتين " ها! ماذا يحدث.. لماذا تصرخين ماما؟ "
التفت ينظر إليها بحنان وهو يقول " اذهبي إلى غرفتكِ يا صغيرة لقد تأخر الوقت ولديكِ مدرسة في الصباح "
أجفلته صرخة مريم وهي تقول بانفعال " لقد أتى الصباح بالفعل يا بك إن لم تكن لاحظت ذلك "
تنهد بعمق وهو ينظر إلى مختار الذي تطوع أخيرا بالتدخل " اهدئي مريم الأمور لا تؤخذ على هذا النحو من العصبية "
هتفت مريم بغيظ " من فضلك مختار لا تتدخل أنت.. هذا ابني وأنا أدري بالطريقة التي أتعامل بها معه "
نهض مختار من جلسته يغمغم بغيظ " حسناً مريم سأدعه لكِ عسى أن نستريح فقط من صراخكِ فلدينا عمل ونحتاج للراحة بضعة ساعات "
دلف لغرفته ببساطة بينما خطى يوسف نحو نبض وجلس القرفصاء أمام الأريكة حيث تجلس وهو يقول " وأنتِ صغيرتي ألا تحتاجين للراحة؟ "
تثاءبت نبض رغما عنها وهي ترد عليه دون أن ترفع رأسها المطرقة باسترخاء " نعم احتاج لكن... ماذا ستفعل ماما معك؟ "
تنهد بعمق يرد " لا أظنها ستضربني مثلا.. هيا انهضي إلى فراشكِ ولا تقلقي بشأني "
اومأت برأسها وهي تنزل ساقيها عن الأريكة الواحدة تلو الأخرى ببطء فانحسر ثوبها قليلا دون شعور منها مظهرا بشرة ساقيها البيضاء
أشاح يوسف بوجهه عنها سريعا وهو يضع كفيه في جيبي بنطاله متصنعا الانشغال بالنظر للساعة المعلقة على الحائط المقابل له في حين كانت نبض ترمش بقوة لكي تستفيق قليلاً دون جدوي
قالت مريم بحنان " تعالي حبيبتي سأذهب معكِ إلى غرفتكِ (ثم إلتفتت برأسها ليوسف وأكملت من بين أسنانها) وأنتَ أبق هنا حتى أعود "
تنهد بإحباط وهو يسحب كرسي منفرد ويجلس عليه باستسلام بينما اختفت مريم مع نبض خلف باب غرفة الأخيرة
زفر بحنق من نفسه وهو يتذكر الصغيرة نبض وما حدث منذ لحظات ليغمغم بخفوت " عليّ بالحذر أكثر في التعامل معها بل وتقليل ساعات تواجدي معها هنا (قطب بضيق يقول) بل المفروض ألا اتواجد معها في الشقة حتى تكون على راحتها دون أن يشعرها وجودي بالحذر أو الارتباك كما يحدث معها "
أتت مريم بملامح عابسة تقول " فيما تفكر؟ "
رفع وجهه لها يرد بصدق وصراحة " أظن بأن وجودي هنا أصبح غير مرغوبا فيه "
قطبت مريم بتعجب تقول " كيف؟ من أخبرك بهذه الترهات؟ "
رد بهدوء " لم يخبرني أحد بشيء هذه أفكاري أنا "
رمقه مريم شذرا وهي تقول ببرود " أفكار حمقاء "
تنهد يقول " اصبحت شاباً يا عمتي لم أعد ذاك المراهق الذي سمحتِ له بدخول بيتكِ لأول مرة "
نظرت له بترقب في حين تابع هو " ونبض لم تعد تلك الطفلة التي رأيتها من قبل هي الآن مراهقة "
قطبت بعدم فهم تقول " ماذا تقصد؟ "
نظر لها يرد ببساطة " نبض دائما حذرة متخوفة من وجودي (حاولت مقاطعته لكنه تابع بتصميم) أعلم أنكِ وعمي مختار تثقان بي وأنا الآخر أعلم قدري وأثق في نفسي كثيراً لكن هذا لن يساعد نبض في شيء "
سحبت كرسي وجلست عليه بينما تقول " لم أفهم "
تنهد عميقا قبل أن يقول بجدية " نبض تحتاج لأن تشعر بأنها حرة في بيتها وغير محاصرة أو ملزمة بفعل شيء محدد بسبب وجود أي شخص "
قطبت بترقب تقول " هل تنوي هجرنا وتتخذ من نبض حجة لكي تفعل ذلك بضمير مرتاح؟ "
اومأ سلبا وهو يقول " بل أريد أخباركِ بأن أيا مما سأفعله لاحقا لن يمس مكانتكم لدي أبدا ولن يبعدني عنكم مهما حدث "
لم تعقب على كلامه فتابع هو بلطف " نبض يحق لها مساحة من الحرية يا عمتي وكلانا نعلم أنها لطبيعتها الخجولة لن تشعر بها في وجودي "
قالت مريم بحنان " نبض لم تشكو من وجودك بل إنها تكون سعيدة جداً كلما رأتك بخير "
ربت على يدها بلطف وهو يقول " وأنا أثق في ذلك لكن هذا لا ينفي أنها دائما ما تكون حذرة أمامي "
عبست مريم تقول " هي لا تكن كذلك.. أنتَ تضخم الأمر وتعطيه أكثر مما يستحق "
لمعت عينيه ببريق السعادة وهو يرى تشبث مريم القوي به وبوجوده معهم، شعر بانتعاش روحه المرهقة وهو يلمح حنانها العذب الغير مشروط التي تغدقه عليه دوما وأبدا دون انتظار مقابل أو السعي لتحقيق هدف خاص
لكنه رغم ذلك لا يستطيع أن يكون انانيا فيتجاهل حقوق نبض والتي تعد لها الأولية على كل شيء آخر حتى على نفسه هو
رد بهدوء " إنها تجلس بكامل حجابها طيلة النهار ولا استبعد أن تكون تنام به أيضا.. أعلم أن ذلك ضروري وطبيعي أثناء وجودي في محيطها لكنه من غير العادل في حقها يا عمتي.. ألا ترين بأنني وبدون قصد مني أضيق من حولها الحصار بوجودي معكم؟ "
أشاحت بوجهها عنه فقال يتابع " أقسم لكِ أنني لا أنوي هجركم أو الرحيل بعيدا عنكم ليس بعد أن وهبني الله أم غاية في الحنان واللطف مثلكِ أو أب مراع لي ومهتما بي لأبعد الحدود كعمي مختار لكنني لست انانيا ولا استطيع أن أكون كذلك "
نظرت له بشجن فأكمل " لا يمكنني أن احرمها مما أحله لنفسي.. حريتها مهمة لها وإن لم تطلبها لكنها بحاجتها يا عمتي "
قالت بأمل " إذن أنتَ لن تتركنا "
رد بصدق " بالطبع لا.. (ثم أكمل يناكفها) وحتى إن أردت ذلك لا أظنك ستسمحين لي "
ردت بكبرياء وهي ترمقه بطرف عينها " طبعا.. أنتَ ابني ولن أسمح لكَ بهجري أبداً "
قطب يتصنع الحنق " تبدين أم متعنتة بشدة "
تكتفت تنظر له شذرا وهي ترد " هل لديك مانع؟ "
تأفف بتصنع دون تعقيب فقالت بترقب وهي تعود لجدية الموضوع " إذن ماذا تنوي بهذا الشأن؟ "
نظر لها بهدوء يجيبها " سآتي إلى البيت في وقت غيابها "
عبست مريم تقول " قرار غير صحيح "
تنهد يرد " ليس أمامي حل آخر وأرى أنه مريح "
قطبت تسأله " وماذا سأخبرها إن لاحظت غيابك عن البيت وسألتني عنكَ؟ "
رد ببساطة يقول " اخبريها أنني مشغول في عملي "
أشاحت بوجهها عنه تتمتم " لا أحب الكذب "
رفع حاجباً باستفزاز يقول " إذاً اخبريها الحقيقة بأنها باتت تشكل خطراً كبيراً على ثباتي واتزاني "
صاحت مريم بضيق " هذه ليست الحقيقة أنتَ تبالغ "
رمش ببراءة مصطنعة يقول " كيف أبالغ؟ ألا ترين ابنتك كيف هي زهرة جميلة تتفتح أمام ناظري وأنا شاب ككل الشباب لي مشاعري الخاصة و... "
قاطعته صارخة بحرج وهي تهب من جلستها قائلة بانفعال " أخرس يا ولد وكف عن وقاحتك تلك "
اومأ بأدب بأنه لن يتكلم فلكزته في كتفه بغيظ تقول من بين أسنانها " هل تعني أنكَ بت تنظر إليها نظرة غير أخوية؟ "
كتم ضحكته المتسلية وهو يرد ببراءة زائفة " نعم.. إنها جميلة و... "
قاطعته من جديد تصرخ " قلت أخرس "
اومأ من جديد وصمت فزفرت هي لاهية عن تسليه وكتمه لضحكته وهي تسأله " منذ متى؟ "
رد يوسف متصنعا التفكير " اممم... منذ متى؟ آه أظن منذ... "
قاطعته وهي تتحرك في مكانها بحرج " لا تقل.. أخرس تماما "
اومأ بطاعة وقد احمر وجهه قليلا من كتمه لضحكاته حتى لا يثير غضبها
قطبت مريم فجأة وهي تدقق النظر لوجهه قائلة من بين أسنانها " هل تتسلى على حسابي يا يوسف؟ "
اومأ إيجابا دون أن يرد فقالت بعينين لامعتين " إذن نبض لازالت تحتل مكانة الأخت الصغيرة لديك؟ "
اومأ برأسه إيجابا مرة أخرى فصاحت بغيظ وهي تضربه في كتفيه " كنت تتلاعب بأعصابي يا وقح يا قليل الحياء يا... يا... "
قاطعها وهو ينهض من كرسيه ممسكا بيديها بلطف بينما يقول ببسمة رقيقة " اهدئي عمتي.. كنت أمزح معكِ.. نبض أختي الصغيرة ولا اجرؤ على رفع عيني في وجهها بنظرة أخرى سوا هذه.. إنها صغيرتي كما هي صغيرتك في أمان معي كما هي معكِ "
ردت بإقتضاب بعدما هدأت قليلا " أعرف ذلك ولست في حاجة لتخبرني بما لدي يقين تام به "
رفع كفها إلى شفتيه يقبله برقة وهو يقول " الساعة باتت الثالثة يا مريمي.. أحتاج للنوم بشدة وحينما استيقظ إن شاء الله سآتي إليكِ بنفسي لتكملي توبيخكِ لي كما تريدين.. تصبحين على خير "
ابتسمت بحنان فياض وهي تشيعه بنظراتها وهو يبتعد عنها خارجا من الشقة بينما لسانها يتمتم " تصبح على جنة آمنة طيبة من الرحمن يا حبيبي "
***
في نفس التوقيت
كان يمني نفسه بحمام منعش وفراش وثير يريح فيه جسده المنهك من العمل الذي استهلك منه الكثير من الجهد اليوم لكن أمانيه ذهبت كلها أدراج الرياح وهو يرى أمامه آخر شخص كان ليتمنى رؤيته في تلك اللحظة
خطى ناحية الدرج بتجاهل تام لها وهو يدعو في داخله أن تتجاهله هي الأخرى فلا مزاج أو طاقة لديه لتحمل كلامها المغيظ لكنها أجفلته حينما شعر بها تتتبع خطواته بصمت فقطب وهو يكمل صعوده الدرج دون تعقيب
وصل إلى غرفته ففتحها ببساطة وقبل أن يغلقها بعدما دخل وجدها تقف أمامه بإبتسامة واسعة لا يعلم لما تشعره بالانقباض فتراجع للخلف خطوة تاركا الباب مفتوح قبل أن يوليها ظهره متجها نحو خزانة الملابس
دخلت هي مغلقة الباب خلفها واستندت عليه بظهرها مكتفة الساعدين أمام صدرها وحدقتيها متسعتان ومثبتتان على كل شاردة وواردة تصدر منه
كتم أنفاسه الغاضبة وهو يفتح أزرار قميصه بتأني وبرود عساها تمل وتشعر بالحرج منه فتخرج حينما ترى أنه لا أمل في أن يعطيها أي لمحة من الاهتمام
رمى القميص على الأرض بغيظ قبل أن يجلس على طرف الفراش مائلا بجذعه للإمام وهو يخلع حذائه وحينما انتهى وأستقام واقفا رمقها بطرف عينه فأشتعل الغضب بداخله أكثر وهو يراها لا تحرك ساكنا ولا تكف عن ملاحقته بنظراتها وابتسامتها
تحرك ناحية الحمام بضيق وقد قرر بأن يطيل المكوث فيه حتى ينفذ صبرها وتغادر الغرفة
وبالفعل أطال البقاء في الحمام لما يزيد عن الساعة حتى نفذ صبره هو وصبرها هي على ما يبدو طويل جدا ولازال في بدايته
حينما خرج كان القميص الذي بدله موضوع في سلة الملابس التي تحتاج للغسيل وحذائه موضوع بنظام إلى جوار البقية والأهم من كل هذا أنها هي كانت تجلس على الفراش متربعة وهي تحتضن دب أسود كبير يبدو أنها جلبته من غرفتها
رمى المنشفة التي كان يجفف شعره بها بغيظ على كرسي منفرد قابع في إحدى الزوايا ثم اتجه ناحية الفراش وأستلقى عليه موليا إياها ظهره والغضب يتآكله من الداخل
" أخشى أن تصاب بنزلة برد فمكيف الغرفة على أقصى درجة ومن الخطأ أن تنام عاريا هكذا وللتو أنهيت استحمامك "
جز على أسنانه وهو يسحب إحدى الوسائد ويضعها بعنف على رأسه ليشعر بها بعد لحظة تميل عليه قائلة " ألا تشعر بالبرد؟ "
أيضا لم يرد فتابعت هي " تمتلك جسد رياضي مثير لماذا لا تحاول استعراضه كما يفعل الشباب للإيقاع بالفتيات؟ "
حدث نفسه بكبت وسخط " يارب أصرفها عني قبل أن أقتلها تلك الوقحة "
أغمض عينيه بقوة حينما بدأت تحرك أناملها بخفة على ظهره وجذعه العاريين بينما تقول ببؤس طفولي " لماذا لا ترد عليّ؟ أعلم أنك تتجاهلني لكني أجهل السبب "
لم يتحمل المزيد منها فهب من استلقائه بحدة اجفلتها وجعلتها تتراجع بجذعها للخلف حينما صرخ في وجهها " السبب سهل وبسيط وهو أنني لا أريد محادثتك أو سماع صوتك .. هل وصلك الرد على سؤالك الآن؟ "
رفعت حاجبيها ببرود وهي تقول " لكن لماذا؟ "
زفر بعنف وهو يقول " لأنني أريد هذا بدون سبب أو تفسير "
ابتسمت بإتساع وهي تميل عليه من جديد فتجبره على التراجع للخلف حتى أستلقى على ظهره وهو يحدق فيها بغضب يكبته بقوة حتى لا يؤذيها
همست بفحيح أمام وجهه القريب الغاضب " أنت تخافني.. تدري أنني أعلم الكثير مما تود اخفائه لهذا تتجاهلني "
قطب بعبوس دون تعقيب فتابعت هي بإبتسامة أكبر وحماس " لكنني لستُ غاضبة أو منزعجة منك أتعلم لماذا؟ "
زاد تقطيبه فهتفت هي بنفس الحماس " لأنني أحبك جداً "
في تلك اللحظة شعر وكأن أحدهم قبض على قلبه فاعتصره بقسوة في قبضته دون رحمة
قبل أن يتدارك ما يحدث وجدها تميل إلى جواره مستلقية على صدره وهي تحتضن جذعه بقوة وكأنها تخشى أن يهرب منها
سكن جسده دون حركة وهو يشعر بها بعد لحظات من الصمت بدأت في الارتجاف ظن السبب برودة الغرفة لكن ما صدمة هو انفجارها فجأة ودون سابق إنذار في البكاء شاهقة بقوة
رمش ذاهلا مما يحدث ودون إرادة منه أشفق عليها فرفع يده ووضعها على رأسها يمسد على شعرها ليسمعها تقول من بين شهقات بكائها " أنتَ لست راضياً عما أفعله أليس كذلك؟ أنا أيضا لستُ راضية عن نفسي لكنى لا أعرف ماذا أفعل؟ "
ظل يمسد على شعرها دون رد فقالت هي بحرقة " أنا لا أكرهك كما أحاول أن أبدي لكَ وللجميع.. أنا أحبك جداً صدقاً أحبك.. لكنني لا أريدك أن تشعر بحبي لكَ "
أغمض عينيه بيأس ليسمعها تقول بعد لحظة " هل أنا مجنونة؟ "
أجبر نفسه على الصمت حتى لا يصرخ فيها بأنها أكبر مجنونة في العالم بل إن الجنون لم يُخلق لسواها لكنه شفقة عليها سكت وأكتفى بأن ضمها إلى صدره رداً على سؤالها فشهقت باكية من جديد وهي تتمتم بمرارة " لماذا أنا سيئة هكذا؟ لماذا أنا... "
قاطعها وقد بلغ منه الجهد والتعب مبلغه " اهدئي نغم.. أنتِ بين أحضاني الآن فاسترخي حبيبتي "
شهقت بحماس وفرح وهي ترفع رأسها عن صدره تطالعه والنجوم تتلألئ في مقلتيها " حبيبتك؟.. أنت قلت حبيبتي "
تنهد بعمق وهو يقول بخفوت وكأنه يهدهد طفلة صغيرة " نعم قلت حبيبتي وأعنيها تماما يا نغم.. أنتِ حبيبتي "
ارتمت عليه تعانقه بقوة صارخة بفرح " وأنا أحبك بجنون صخر.. يا الله كم أحبك! "
تنهد براحة أخيرا حينما سكنت بعد وقت طويل وغاصت في نوم عميق ليهمهم " رُحماك يارب "

♢*♢


Hend fayed 01-10-19 06:00 PM

سُلاف الفُؤاد
 
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد؛
|| الفصل الثاني ||

صباح اليوم التالي / بيت مختار زين الدين
كان يجلس على مائدة الإفطار بعينين حمراوتين وكأنه لم يذق للنوم طعم طوال الساعات الماضية وهذا بالفعل ما حدث ..فمنذ رأى ذلك الكابوس الذي يؤرق نومه ويرهق روحه واستيقظ منه مع صوت أذان الفجر وقد أبى أن يستسلم لسلطان النوم من جديد خاصة بعدما حاول مرارا مهاتفة صخر لكن الأخير كان هاتفه مغلقا على غير العادة مما زاد قلقه وكآبته
لم يشعر بمذاق الطعام في فمه، بل لم تكن لديه شهية من الأساس وهو ينظر إلى الأطباق الموضوعة أمامه بنظرة فارغة خاوية وكأنه لا يرى شيء من الأساس
كانت مريم ومختار لاهين عنه منشغلين بالحديث عن موضوع ما فلم يلاحظ حالته الغريبة سوا نبض التي وكالعادة تلتزم الصمت في وجوده وتكتفي بالمراقبة دون تدخل أو تعقيب
تنهد يوسف فجأة تنهيدة عميقة ود لو تخرج معها كل الشحنات السلبية التي تسيطر عليه وتجسم على روحه لكن ذلك لم يحدث فكما تقول المقولة الشهيرة 'ليس كل ما يتمناه المرء يدركه'
تنبهت له مريم بعد لحظات فسألته بقلق " ما بكَ بني؟ تبدو مرهقا "
رد دون أن يرفع نظراته عن طبقه " لم أستطع النوم هذا كل ما في الأمر "
عقب مختار بهدوء "على ما أظن أن اليوم جدولك ممتلئ.. من المفترض أن تكون استغليت الساعات الماضية لترتاح حتى تكون في كامل طاقتك وتركيزك "
غمغم بمزاج مكدر " لا تقلق عماه سأقوم بعملي على أكمل وجه بإذن الله "
رد مختار بإيجاز وهو يكمل تناول طعامه " جيد "
لكن مريم قطبت بقلق وهي تتفحص ملامحه المرهقة لتقول بعد قليل " هل عاودتك الكوابيس من جديد؟ "
أراد أن يخبرها بأنها لا تتركه من الأساس لكنه لم يرد أن يثير قلقها عليه فرد كاذبا " لا "
قالت مريم بخفوت وهي تربت على يده الموضوعة على سطح المائدة " تستطيع اخباري بني "
لم يستطع رفع عينيه إليها فأطرق برأسه وهو يجيبها بإقتضاب " لا تشغلي نفسك بي عمتي.. أنا بخير "
تنهدت مريم وهي تقول " وهذا ما أتمناه.. أن تكون بخير دائما بني "
بعد بضعة دقائق نهض من مقعده يقول " يجب أن أذهب الآن.. هل انتظرك عماه؟ "
رد مختار وهو يترك مقعده هو الآخر " نعم.. سأحضر هاتفي واوافيك حالا "
دلف مختار لغرفته بينما مال يوسف يقبل يد مريم وهو يقول " السلام عليكم مريمي "
ردت مريم بابتسامة حنونة " وعليكَ السلام والرحمة حبيبي "
نظر يوسف إلى نبض يقول " هل أحضر لكِ شيء معي يا نبض؟ "
هزت رأسها سلبا فسألها من جديد " هل أحضر لكِ عمي مختار الكتب التي طلبتها منه؟ "
هزت رأسها سلبا مرة أخرى دون رد فعقبت مريم بدلا منها " لقد نسى أن يحضرها معه بالأمس "
قال يوسف بلطف " لما لا تعطيني أسمائها فأشتريها لكِ أنا؟ "
هزت رأسها برفض قاطع وهي تنهض من مقعدها تجيبه بخفوت مقتضب " أبي سيحضرها لي "
قال يوسف ببرود مقصود " وماذا إن نسى أن يحضرها اليوم أيضًا؟ "
عبست وهي تخطو تجاه غرفتها مغمغمة " لا مشكلة.. لم أعد أريدها "
بعدما اختفت نبض ابتسمت مريم تقول " لا تشغل نفسك بها بني.. سأؤكد على مختار أن يحضرها معه اليوم "
اومأ بصمت وهو يتحرك ناحية باب الشقة لكنه قبل أن يخرج التفت إلى مريم يقول بعبوس طفولي " بل سأحضرها أنا وستقبلها مني رغما عنها شاكرة "
كتمت مريم ضحكتها وهي تلمح اقتراب نبض منهما والتي على ما يبدو سمعت ما قاله يوسف.. وضعت حقيبتها المدرسية على الكرسي بعنف وهي تتمتم بغيظ " لن أعطيك أسماء الكتب "
رد يوسف بلامبالاة " ليست مشكلة كبيرة.. سآخذها من عمي مختار "
عبست نبض وهي تقول " أبي لن يمنحك إياها "
وضع كفيه في جيبي بنطاله يرد بتحدي " سنرى "
التفتت له تصيح بغيظ متفاقم دون أن تنظر له " أنا لا أريد منك أي شيء.. ما الذي لا تفهمه في كلامي بالضبط؟ "
تبدلت ملامحه من التسلية إلى الشحوب وهو يرد بصوت بارد فقد كل تحديه " ورغم ذلك سأحضرها "
أشاحت بوجهها جانبا وهي تقول بكبرياء " لن أقبلها منكَ وستكون حينها أهدرت مالك دون فائدة "
رد بهدوء ظاهري " تستحقين أن أهدر مالي عليكِ "
لم يضف بعدها كلمة وخرج من الشقة فنظرت مريم إلى ابنتها بعتاب تلقته الأخيرة بعبوس شديد قبل أن تغمغم بالوداع وهي تخرج من الشقة هي الأخرى
***

في الشارع
كان هو يقف أمام السيارة كفيه في جيبي بنطاله ونظراته شاردة في الفراغ
رمقت نبض وقفته بعبوس وهي تتخطاه بتجاهل حاولت تصنعه لكنها فشلت وهي ترمش بعينيها حتى لا تطرفان بالعبرات التي تتراقص فيهما، ولم تبتعد عنه سوا خطوتين أو ثلاث حتى عادت له ووقفت أمامه مطرقة الرأس وأصابع كفيها متشابكة خلف ظهرها فقطب يوسف وهو ينظر لها قائلاً: " ماذا تريدين؟ "
ردت بصوت خافت رانت فيه نبرة الذنب " أنا آسفة.. سامحني .. لم أقصد أن أحتد عليكَ "
تنهد بعمق وهو يرد ببساطة " حسناً "
سألته بنفس النبرة " هل سامحتني؟ "
رد بنفس النبرة " نعم.. فعلت "
ابتسمت نبض برقة وهي على نفس وقفتها المطرقة تقول " إذن ً سأذهب أنا.. السلام عليكَ "
رد بحنان التمع بمقلتيه واصطبغت به نبرته " وعليكِ السلام صغيرتي "
ما إن همت بالتحرك حتى استوقفها يقول بجدية وحزم " نبض لا تكرري وقوفك معي في الشارع مرة ثانية لأي سبب.. مفهوم "
اومأت بطاعة وهي ترد دون جدال " حاضر "
خطت بعيدا وهو يتأمل طيفها الغارب عنه بنظرة شاردة قطعها مختار حينما وصل إليه يقول " هل نذهب؟ "
اومأ إيجابا وهو يتحرك ناحية مقعد السائق دون رد
***

في فيلا أكرم الباسل
كانت شمس تختلس النظرات إلى والدها تارة وإلى أخيها تارة أخرى ولم يعجبها الوضع بينهما خاصة وكل منهما يتجاهل الآخر ويتصنع اللامبالاة
تنحنحت قليلا وهي تقول " بابا هل يمكن أن تمنح أنس إجازة من العمل اليوم؟ "
نظر أكرم لها سائلاً ببعض التهكم " لماذا؟ هل أنس بك يشعر بالتعب من سهرة أمس في... المقهى؟ "
قطب أنس مغتاظا وهو يتشاغل بتناول طعامه بينما ردت شمس " ليس هذا هو السبب يا بابا "
وضع أكرم أدوات الطعام على المنضدة ثم شبك أصابع كفيه أمامه وهو يسألها بترقب " إذن؟ "
ردت شمس بهدوء " مر عليّ وقت طويل لم أخرج فيه من البيت وأريد التنزه اليوم بصحبة أنس "
أومأ أكرم برأسه موافقا لكنه قبل أن يتمكن من إضافة كلمة واحدة كانت مروة تهتف بحقد " وهل ابني الحارس الخاص بها أم السائق المسئول عن إيصال الهانم حيث تريد؟ "
زفر أنس بيأس لكنه لم يعقب في حين قال أكرم ببرود " الأمر في مجمله يعود إلى أنس فلو رفض الخروج معها ما كنت لأرغمه على فعل ما لا يريد (ثم شدد على كلماته الأخيرة) لكنني لا أظنه سيرفض "
وضعت مروة أدوات المنضدة بحدة وهي تصيح " أنا لن أقبل بهذا الوضع حتى لو وافق هو.. هذا كثير "
انكمشت شمس في مقعدها وشحب وجهها وهي تستمع إلى صياح مروة التي تابعت " عليها أن تعتمد على نفسها فابني ليس عاملاً لديها "
رد أكرم بهدوء مستفز " تلك الأمور عادية جداً بين الإخوة وذلك لا يقلل من شأن أنس أبداً "
ضربت مروة بقبضتها على سطح المنضدة وهي تقول " ليسا أخوين.. هذه ليست ابنتي و... "
قاطعها أكرم هادرا بغضب " كفى "
خرست مروة وقد انتابها الخوف عندما هب أكرم من مقعده وهو يقول " كنت أظن أن جزء من عقلك معطوب وبه خلل لكن ما لم اتخيله أنه بالكامل مختل "
كانت نظراته الغاضبة وكأنها حريق مستعر تكاد تحرقها وهو يتابع " والله لا أعلم هل جننت أم ماذا؟ هل تُحرمين ما شرعه الله؟ "
نظرت له بضيق لكنها لم تستطع الرد خوفاً منه فهو في لحظات غضبه غير مأمون العواقب
رفع أكرم سبابته ملوحاً بها في وجهها وهو يقول من بين أسنانه " ستكون هذه المرة هي آخر مرة تتفوهين بتلك الحماقات يا مروة.. أنس وشمس أخوين رغماً عنكِ وأقسم بالله... أقسم بالله إن سمعت منكِ كلمة أخرى في حق شمس لن تبيتي ليلة واحدة بعدها في هذا البيت "
قطبت وهي تقول بذهول " ماذا تقصد؟ "
أشاح أكرم بوجهه عنها وكأنه ما عاد بقادر على النظر إليها للحظة إضافية بينما رد بصوت جامد متصلب " لم أكن أتحمل حماقاتك لأجل أحد سوا أبي لكن... أبي رحل ورحلت معه آخر ذرات صبري عليكِ (التفت لها ناظراً لعينيها مباشرة وهو يقول بتهديد) خطأ واحد... فقط خطأ صغير ولو بدون قصد منكِ وأقسم بالله ستكونين طالق "
شهقت مروة بصدمة بينما شمس جحظت عينيها هلعا وهي تحاول رؤية أي لمحة من المزاح أو السخرية في عيني والدها لكنها لم تجد سوا الغضب مما أكد للجميع أنه لم يكن يمزح وأنه جاد في قسمه
كان أنس يستمع لما يحدث دون تدخل بل إنه شعر بشهية لتناول المزيد من الطعام على نحو مفاجئ، كان يبتسم بنصر وهو يرمق جلسة أمه المرتعبة وهي ترتعد خوفاً في مكانها رغم نظرات الحقد والغضب التي تكاد تردي والده قتيلاً
سعيد حد التخمة وهو يراها أمامه في موقف ضعف، وكم أشتاق لرؤيتها أمامه هكذا منذ سنوات طويلة!
بعد صمت طويل قال أكرم بهدوء بارد موجهاً كلامه لأنس " أنت اليوم إجازة من العمل.. كل ما عليك ومطلوب منك هو تدليل شمس كما يجب وإلا... (ونظر إلى مروة بشراسة مكملاً حديثه) اعتبر نفسك مطرود من العمل وأبحث لنفسك عن وظيفة أخرى خارج أسوار مؤسستي "
شهقت مروة للمرة الثانية بصدمة أكبر، كان أكرم يعلم جيداً أن ما يهمها هي الثروة والمال فأراد أن يوضح أنها لو كانت تظن نفسها أم ولي العهد ووريث أكرم الباسل مما يدعها تهين شمس فها هو سيجعل ولي العهد يجالسها في البيت لترى حينها كيف ستحصل على الثروة إن قرر هو حرمانهما من كل شيء؟
هبت مروة من مقعدها وهي تصرخ بانفعال " ما هذا الهراء؟ كل هذا لأجل هذه ال... "
قاطعها أكرم هادراً بغضب مكبوت " احترمي نفسك يا مروة وإياكِ والتطاول عليها.. لقد أقسمت ولن أتراجع فإن شئتِ أن تكوني الليلة في بيت أبيك انطقي حرف آخر وليس كلمة "
رفع أنس وجهه ينظر إلى والديه بشحوب وسكون تام أزال كل أثر سابق للتسلية بينما شمس كانت منزوية في مقعدها تبكي بصمت
في حين كانت مروة فاغرة الفاه، صدرها يعلو ويهبط بأنفاس متسارعة من غضبها المكبوت وصمتت مجبرة فإن كان هناك ما تعلمه جيداً عن أكرم فهو أنه رجل لا ينكث قسمه ولو كان الثمن في مقابل ذلك حياته
أما أكرم فكان ينظر لها بحاجب مرفوع وملامح باردة ساخرة وهو على تمام الثقة واليقين بأنها لن تنطق ليس خوفاً من حصولها على الطلاق وتدمير بيتها بقدر خوفها على تجريدها من صلاحياتها ومكانتها المرموقة في المجتمع كونها زوجة أكرم الباسل
***

بعد قليل
كانت شمس تسير إلى جوار أنس كل منهما يضع كفيه في جيبي بنطاله الجينز، مطرق الرأس يتلاعب بلامبالاة بحبات الحصى الصغيرة الملقاة على الأرض
كل منهما كان شارد العقل والروح، مثقل القلب بهموم لا طاقة لهما على تحملها ولا يد لهما فيها وفجأة هتف أنس بحنق " إنها لي "
توقفت شمس مقطبة بحيرة تنظر إلى حيث ينظر أنس فارتفع حاجبيها بدهشة وهي تفهم قصده حينما أدركت أنها ركلت الحصاة التي كانت أمامه فعبست بطفولية وهي تركلها في اتجاهه متمتمة " ها هي "
وهكذا استمر بهما الحال حتى وصلا إلى الشارع العام فقالت شمس بإحباط " لم تعد لي رغبة في التنزه.. دعنا نعود للبيت "
رمقها أنس بنفس الإحباط وهو يقول " ولا أنا "
تحرك عدة خطوات للخلف ثم استند بظهره على إحدى أعمدة الإنارة وأخذ يطالع مرور السيارات من أمامه بشرود.. في حين قطبت شمس ببؤس وهي تنظر إلى الناحية الأخرى من الطريق حيث توقفت للتو سيارة رمادية خرج منها رجل بسيط الهيئة وسيدة تعكس ملابسها عن ذوق رفيع ورغم تناقضهما في الظاهر إلا أنهما يبدوان على وفاق تام
تحرك الرجل ناحية المقعد الخلفي وفتح الباب لتترجل حينها طفلة صغيرة يبدو أنها في العاشرة.. كانت باسمة الثغر، جميلة بثوبها الأحمر القصير حتى ركبتيها وشعرها الأسود القصير الذي بالكاد يلامس كتفيها، أكثر ما كان يميزها هو عينيها السوداوتين الواسعتين الضاحكتين
تقدمت الفتاة والديها وهي تركض ضاحكة نحو مدخل العمارة الكبيرة التي على ما يبدو هم ساكني إحدى الشقق فيها.. أما الزوجين المتوافقين فقد أمسكا بأيدي بعضهما وهما يدلفان لداخل العمارة لاحقين بابنتهما
كم تمنت شمس في تلك اللحظة أن تكون هي بطلة هذا الموقف الذي رأته للتو، تمنت أن تكون بدلاً من الفتاة الصغيرة سوداء العينين
أغمضت عينيها وهي تشعر بغصة حارقة تستحكم حلقها، تشعر وكأن هناك أصابع خفية تقبض على قلبها بقبضة من حديد وتكاد تسحقه دون رحمة
روحها تأن بين جنبيها تطالبها بلحظة سعادة.. بلمحة من الحياة.. بإشراقة أمل تحيي فيها ما قد خبت
أجفلت فجأة عندما سمعت أنس من خلفها يقول بسخرية " لا تفكري مجرد التفكير حتى في إمكانية حصولكِ على عائلة سوية كتلك التي دلفت لعشها الصغير لأنكِ ستكونين واهمة "
إلتفتت برأسها تنظر إلى أخيها فوجدته يبتسم لها بمرارة وهو يتابع حديثه " لا تحزني هكذا فأنتِ في حال أفضل من غيركِ.. انظري لحالي وتأملي وضعي جيداً بين أبوين لا يطيق أحدهما الآخر وستعرفين حينها في أي نعمة تعيشين أنتِ؟ "
كان محق فعلى الأقل هي أمها ماتت دون أن تعرفها، دون أن تمتلك لها أي ذكرى بينما هو... هو ولسوء حظه أمه لازالت على قيد الحياة لكنها لا تعتبر نفسها أمه بل هي مروة الباسل زوجة أكرم الباسل رجل الأعمال المشهور فحسب
أنس لا يختلف عنها كثيراً يعتبر مثلها تماماً يتيم الأم، لذلك لا يمكنها أن تحزن فهي ليست وحدها المبتلاة في هذا الأمر بل أنس المسكين يفوقها ألماً وهو يجد المال والثروة لدى أمه أهم منه بل لا مجال للمنافسة حتى فهو بالتأكيد سيكون الخاسر كالعادة
تنهدت بحرقة لحالهما في نفس اللحظة التي اعتدل أنس في وقفته يقول بمرح مصطنع " هناك فكرة لاحت لي في الأفق للتو هل ستشاركينني فيها أم... "
قاطعته بمرح مصطنع مشابه له وهي تقول " لن اتركك تحظى بالمتعة وحدك بالطبع سأشاركك فيها .. هيا أخبرني "
إبتسم أنس وهو يقول مازحا " سنسرق مصرف "
حركت كتفيها بلامبالاة وهي ترد ببرود " أفكارك دوماً من الزمن الغابر "
رفع حاجبيه وهو يبتسم بمناكفة قائلاً " حسناً الساحة أمامك ابهريني بأفكارك الفذة "
طالعته بشقاوة وهي تقول " لما لا نجرب التسول؟ "
رمش أنس لبرهة ثم ما لبث أن ضحك بمرح حقيقي وهو يقول " معكِ حق.. الفكرة جديدة ولم نجربها من قبل "
ابتسمت بحماس وهي تقول " أتمنى أن يتم القبض علينا.. أريد دخول السجن لكي أعرف حال المساجين كيف يكون؟ "
كتم أنس ضحكته وهو يقول بغيظ مصطنع " نواياك بريئة جداً يا شمس على ما يبدو لكن.. هلا تمنيتِ ذلك بعيداً عني؟ أنا لدي فوبيا من الأماكن المغلقة وبالتأكيد لن أحتمل البقاء في السجن دقيقتين متتاليتين "
ثم أولاها ظهره وهو يخطو عائداً إلى الفيلا فنادته شمس بحنق طفولي " أين تذهب وتتركني؟ "
رد دون أن يلتفت لها " آسف شمس أنا أعلن انسحابي.. لم أعقد العزم على قضاء السنوات الباقية من عمري في السجن بعد "
ضربت شمس بقدمها الأرض بغضب طفولي وهي تصيح من خلفه " أنتَ جبان "
ضحك أنس وهو يرد " وأنتِ مجنونة "
عقدت ساعديها أمام صدرها ونظرت له وهو يبتعد عنها بغيظ حتى توقف أنس فجأة واستدار لها يقول بابتسامة حانية " يوماً ما ستحظين بسجن انفرادي وحينها ستتحقق أمنيتكِ بدخول السجن لكن رغم ذلك لن تتمكني من رؤية حال المساجين فأنتِ لن يشارككِ أحد في سجنكِ.. (ثم عبس بمناكفة وهو يقول) فتاة شريرة "
أخرجت له لسانها بطفولية ثم ركضت تسبقه عائدة إلى البيت فصرخ أنس من خلفها ضاحكاً " مجنونة "
***

في المدينة الجبلية
كانت الفتيات ملتفات في حلقة حول العمة فاطمة التي أخذت تحكي لهن عن آبائهن في طفولتهم وجميعهن تستمعن إليها بإنصات واهتمام شديد
كانت العمة فاطمة تمتلك حس فكاهي بجانب الكثير من الحنان الذي لم تضن به يومًا على أحد صغير كان أم كبير
امرأة من أصل طيب، تزوجت في سن صغير كما عادة أهل الريف وخاصة البلدات الجنوبية التي ترى في زواج الفتيات ستر وحفظ لهن
كانت تتحدث معهن عن تقاليد الزواج التي لم تتغير منذ الأزل حتى هتفت فرح فجأة بحماس " وأنتِ عمتي كيف تعرفتِ على الشيخ عبد الله رحمة الله عليه؟ "
رفعت فاطمة طرف حجابها تغطي به وجهها في خجل وهي ترد " والله لم أره سوا ليلة العرس وأبي يخبرني أنه بات زوجي "
ضحكت الفتيات بينما فرح تسأل من جديد " ألم يأخذوا رأيكِ أولاً؟ "
ابتسمت فاطمة بحنان وهي تجيبها " هكذا كانت تجري العادة يا ابنتي.. طالما أتى الزوج المناسب فلا تتردد الأهل في الموافقة وأنا حتى لو خيرني أبي ما كنت لأرفض الشيخ عبد الله أبداً "
تدخلت حفصة تقول بلطف " رحمه الله عمتي.. الجميع كان يحبه وكم أتمنى لو رأيته أنا الأخرى وتعرفت عليه "
ردت فاطمة بشجن ومودة خالصة " كان رفيق رحيم في معاملة الصغير والكبير فأحبوه.. ما كان يرى أحد مهموم إلا وبذل ما يستطيع لكي يذيل همه ويضحكه "
تنهدت بحزن وهي تشرد في ذكريات الماضي الجميل التي جمعتها بزوجها لتفيق بعد لحظات من شرودها على صوت حياة تقول " هل حقاً أنه ليس من أهل مدينتنا؟ "
اومأت فاطمة وهي ترد " أجل بنيتي.. الشيخ عبد الله كان من العاصمة وأتى إلى هنا للعمل فقد كان إمام المسجد الكبير في المدينة "
نظرت لهن فوجدتهن يبتسمن في انتظار أن تكمل حديثها عنه فتنهدت بعمق يحمل الحنين وهي تشرد بنظراتها بعيداً بينما تكمل " حينما جاء إلى هنا كان في أواخر الثلاثينات كان وقورا، سمح المحيا.. لم أره يوماً حزيناً حتى في مرضه كان يبتسم برضا وقناعة تامة غير قانط أو متبرم من قضاء الله وابتلائه... "
قاطعتها فرح لتسألها " الجميع يقول بأن عمي سليم تأثر كثيراً منذ صغره بالشيخ عبد الله.. أخبريني عمتي كيف حدث ذلك ومن البداية؟ "
ضحكت فاطمة وهي تقول " عمك سليم فرض نفسه على الشيخ عبد الله وتعرف عليه بالإجبار "
بدى الذهول على الجميع فتابعت فاطمة حديثها بإسهاب " ذات يوم كنا نجلس نتناول الغداء وفجأة سمعت طرق على الباب فبادرت بفتحه لكن الشيخ عبد الله استوقفني مازحا يقول *انتظري فاطمة.. طالما أنا هنا في البيت فاتركي لي هذه المهمة الصعبة وارتاحي أنتِ* فتنحيت جانباً وتركته يفتح هو وعلمت أنه لا يريدني أن أفتح الباب فقد يكون رجل غريب... "
قاطعتها فرح بمكر تقول " يبدو أن الشيخ كان يغار على فاطمته جداً "
ضحكت فاطمة بخجل حاولت أن تداريه وهي تضرب فرح على كتفها بخفة تقول " اصمتي يا ثرثارة وإلا لن أكمل كلامي "
ضحكت حياة وهي تعقب " يبدو أنها أتت لتقاطع الناس في حديثهم "
عادت فاطمة تكمل حديثها من حيث توقفت " بعدما فتح الشيخ الباب وجد أمامه خمس أولاد صغار وطفلتين لا تكادان تظهران من خلف الأولاد ذوي القامة الطويلة رغم صغر سنهم "
ابتسمت للحظات بصمت ثم تابعت " ادخلهم الشيخ ورحب بهم بشدة فهو كان يحب الأطفال كثيراً ( ثم أطرقت بحزن وهي تقول) كنت أتمنى أن أمنحه طفلاً يقر عينه به لكن... (تنهدت تكمل) الحمد لله طالما هي إرادة الله فقد رضيت بها "
ربتت حفصة على كتفها وهي تقول بلطف " لكنكِ كنتِ نِعمَ الأم ربيتِ الكثير من أطفال المدينة وأحبوكِ أكثر من أمهاتهم حتى "
ابتسمت فاطمة برضا تقول " يعلم الله كم أحببتهم أنا الأخرى وخاصة آبائكن.. كانوا في طفولتهم بهجة ومتعة للنفس والروح، تعلقت بهم وكأنهم خرجوا من رحمي أنا... (ثم أضافت بمكر) حتى أن جدتكن كانت كثيراً ما تغار مني لتعلقهم الشديد بي "
ضحكت الفتيات بينما هتفت فرح بنزق " أكملي عمتي حديثكِ الأول.. أريد أن أعرف ماذا حدث حينما ذهب عمي سليم لدار الشيخ عبد الله "
ابتسمت فاطمة وهي تقول " لقد ورثتِ من والدك الكثير من النزق يا فتاة.. ابنة أبيها على حق "
ضحكت الفتيات من جديد بينما هي شردت تتابع حديثها الأول " حسنا إسمعي...
^قبل سنوات عديدة^
*** أشار لهم الشيخ بالجلوس ففعلوا جميعا إلا طفل واحد ظل واقفاً عابساً فتقدم منه الشيخ يقول " ما بك يا بني؟ لماذا لم تجلس؟ "
رد الصبي بنفس عبوس ملامحه " أريد الجلوس إلى جوارك "
ابتسم حينها الشيخ بسرور وهو يسحبه من يده برفق بينما يقول " اوامرك مجابة "
ما إن جلس الشيخ وإلى جواره الصبي كما أراد حتى أشار إلى فاطمة التي كانت تقف في زاوية بعيدة وقال " تعالي يا فاطمتي.. لدينا الكثير من الضيوف.. أظنكِ ستحبين مجالستهم "
تقدمت فاطمة وجلست على الناحية الأخرى بجوار الشيخ فعاد يولي الصغار اهتمامه وهو يقول " أبناء من أنتم؟ "
رد أكبر الأولاد " أبناء عبد الرحمن الجبالي "
ابتسم الشيخ بود وهو يقول " ما شاء الله.. لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.. بارك الله لكم في والدكم وبارك له فيكم "
ما هي إلا لحظة صمت وصدح صوت إحدى الفتاتين تقول بصوت خافت خجول " أنا ابنة طه الجبالي "
كان صوتها منغم جميل وكأنه صوت بلبل يشجو بعذوبة فأبتسم الشيخ وهو يرد " أعرف الشيخ طه رحمه الله "
نظروا له بحيرة فقال بلطف " كان صديقاً لأبي رحمهما الله.. أحياناً كان يأتي لزيارتنا في العاصمة.. لقد تعلمت منهما الكثير أنا وأخي الأصغر "
سأله أحد الأولاد بحماس " وأين هو أخوك؟ "
ابتسم الشيخ وهو يجيب " إنه في العاصمة مقيم عند عمتنا "
سأله طفل آخر بحيرة " لماذا لم تحضره معك إلى مدينتنا؟ "
تنهد الشيخ وهو يرد بحنان " لأنه لازال صبي في الخامسة عشر لم يكمل دراسته بعد.. أنا ازوره كل فترة لكنه سيأتي إليّ ويقيم معي هنا بعدما ينهي دراسته بإذن الله "
ابتسم أحد الأولاد يقول بحماس " وهل تعرفان أبي أيضاً مثلما تعرفان عمي طه؟ "
ربت الشيخ على كتفه وهو يرد " بالطبع أعرفه.. الحاج عبد الرحمن غني عن التعريف طبعاً "
ثم التفت إلى الصبي العابس إلى جواره وقال " ما إسمك؟ "
رد الصبي " سليم وهذه.. (وأشار على الفتاة صاحبة الصوت الجميل) حبيبة "
ابتسم الشيخ وهو ينظر إلى حبيبة التي كانت تتلاعب بطرف جديلتها لاهية عنهم بينما سليم ينظر لها باهتمام ليضيف بعد لحظة " إنها ابنة عمي... أنا وحدي "
نظر الشيخ إلى فاطمة بذهول بينما الأخيرة كتمت ضحكتها وهي تحدث أحد الاولاد " وأنت يا صغير ما إسمك؟ "
رد الصبي مبتسماً " اسمي مختار "
إبتسم الشيخ بحنان وهو يقول " أخي أيضا إسمه مختار "
صاح مختار بحماس " حقا! "
اومأ الشيخ قائلا " نعم لكنه على ما يبدو يكبرك ببضعة سنوات "
سألت فاطمة بلطف " من الأكبر سناً بينكم؟ "
رد الصبي الذي يجلس على كرسي منفرد " أنا يا عمتي.. إسمي خالد ولدي ثلاثة عشر سنة وهذان (أشار على صبيين يجلسان متجاورين وممسكين بأيدي بعضهما) محمد ومحمود إنهما توأمين ولديهما أحد عشر سنة أما هذا... (أشار على مختار المتبسم) مختار ولديه تسع سنوات "
ثم التفت خالد ينظر إلى الفتاة ذات الشعر الأسود الطويل وقال بابتسامة صغيرة: " هذه رقية أختنا لديها ثمان سنوات وهذا... (رمق الصبي العابس بطرف عينه وهو يعرف الشيخ عليه) إنه سليم اصغرنا سناً لديه سبع سنوات "
لم يهتم سليم ببرود خالد معه وإنما هتف يقول بضيق: " نسيت حبيبة "
ضحكت فاطمة وهي تنظر إلى حبيبة تسألها: " كم عمركِ يا حبيبة؟ "
رفعت حبيبة عينيها الواسعتين كبركتين من العسل الصافي وهي تقول بصوتها الجميل " لدي القليل... (ارفقت قولها بأن رفعت كفها وبسطته أمام فاطمة تقول) هذا فقط "
ربتت فاطمة على شعرها بحنان وهي توضح لها باسمة " لديكِ خمس سنوات.. لكن هذا كثير "
حركت حبيبة رأسها سلباً ترد " لا.. أخبرني أن هذا قليل "
قطبت فاطمة بحيرة وهي تسألها " من أخبركِ بهذا الكلام يا حبيبة؟ "
رفعت حبيبة سبابتها تشير إلى سليم وهي تقول ببراءة " سليم "
ابتسم الشيخ وهو يناكفها بينما عينيه مثبتتان على سليم " ليس شرطاً أن يكون كل ما يقوله سليم صواباً؟ "
مالت برأسها قليلاً بحيرة وهي تقول: " كيف؟ سليم لا يكذب "
دوت ضحكات الشيخ وهو يعبث في شعر سليم الحريري قائلاً " يبدو أنك ذو سلطان وسحر خاص على الصغيرة يا سليم "
ابتسم سليم فرحاً باهتمام الشيخ به وهو يرد " أنا أحب حبيبة "
كانت فاطمة هي من ردت وهي تنظر إلى حبيبة بمحبة خاصة " ومن يرى أمامه ملاك كتلك الصغيرة ولا يحبها.. يا الله ما أحلاها! "
مالت ابتسامة الشيخ بشجن وهو ينظر إلى زوجته قبل أن يقول " تشبهك كثيرًا يا فاطمة (نظرت له بخجل فتابع بحب) حبيبة تملك إسم جميل لكنك أنتِ تملكين المعنى "
اخفت وجهها بطرف حجابها وهي تبتسم بخجل شديد فتنهد الشيخ يقول " سعدت كثيراً بتلك الزيارة الجميلة يا أولاد "
هتف مختار بابتسامته المعتادة " جميعنا سعداء أيضاً عماه "
بينما قال خالد " أعتذر إن كنا جئنا بدون موعد مسبق لكننا كنا متحمسين جدا لرؤيتك والحديث معك عماه "
ارتفع حاجبي الشيخ قليلاً وهو ينظر إلى خالد بإعجاب فهو يتحدث بطريقة ناضجة تفوق سنوات عمره وبعد لحظة قال بود " لا بأس بني.. بيتي مفتوح للجميع وأنا أكثر من مرحب بكم في أي وقت (ثم نظر إلى فاطمة ليتابع بعدها بمحبة) ويبدو أن العمة فاطمة أيضاً سعيدة جداً بزيارتكم وستطالبكم بتكرارها ثانية أليس كذلك يا فاطمتي؟ "
اومأت فاطمة وهي ترد بحنان " بالطبع يا شيخ.. البيت مفتوح للصغار في كل وقت "
سألت رقية بحماس " أين اولادك عمي أريد أن ألعب معهم؟ هل لديك بنات؟ "
أطرقت فاطمة بحزن وكآبة بينما رد الشيخ بابتسامة راضية وهو يشير إلى زوجته " لا أملك من البنات سوا تلك الأميرة التي تنير بيتي بوجودها فيه "
حاولت فاطمة أن تبتسم له لكنها لم تستطع وأطرقت برأسها من جديد وهي تتنهد ببؤس فأجفلت بعد لحظة على لمسة خفيفة من حبيبة وهي تقول " ليس لديكِ أبناء؟ "
نظرت لها فاطمة بحزن وأومأت لها إيجاباً دون أن ترد فأبتسمت حبيبة تقول برقة تذيب الجبال " لا بأس.. لا تحزني.. أنا معكِ "
تجمعت الدموع في عيني فاطمة بتأثر فقالت حبيبة بنفس رقتها " أنا ليس لدي ماما.. هل أستطيع أن أدعوكِ ماما؟ "
لم تشعر فاطمة سوا وهي تضمها إلى صدرها وتجهش في البكاء بشدة بينما تقول بسعادة " قولي ما شئت يا حبيبتي.. أي شيء تحبين أنا راضية " ***


لم تستطع فاطمة أن تكمل لهم سرد تلك الذكرى واجهشت في بكاء مرير ولم تستطع إحداهن التخفيف عنها أو تهدئتها وهي تقول " رحلت الحبيبة دون أن تودعني.. لم تسمعني صوتها لمرة أخيرة حتى.. حرموني من صغيرتي فلينتقم ربي منهم.. فلينتقم ربي منهم.. قتلوها حسرة وقهرا على صغيرها.. ما ذنبها حبيبتي؟ لم تفعل لهم شيء "
صاحت ملك فجأة بصوت يرتجف قهرا وملامحها ملبدة بكره أعمى " ليست وحدها الضحية يا عمتي ولا أظنها الأخيرة.. انظري لما فعلوه مع أبي وعمي بل ما فعلوه مع يو... "
لم تستطع أن تكمل وهي ترتجف حرفياً وقد أغرقت العبرات وجنتيها فهبت من جلستها تقول بغضب عنيف " كان صبي صغير مجرد صبي ولم... لم يرأفوا به.. ما كان ذنبه هو الآخر؟ كيف يأخذون بثأرهم من صبي صغير؟ إنهم أوغاد "
نظروا لها بشفقة بينما تابعت حديثها بكره أكبر وهي تصرخ بقسوة " أتمنى أن أرى ذلك الحقير ذليل مهان حتى آخر لحظة في حياته ثم... ثم يموت موته بشعة تليق به وبنفسه الحقودة المريضة.. أتمنى لو اقتله بيدي هاتين وازهق روحه ببطء ليتعذب حتى اللحظة الأخيرة له على قيد الحياة "
نهضت حياة من مكانها واقتربت منها تربت على كتفها بحنان لكي تهدأ لكن ملك دفعت يدها بعيداً بجفاء وهي تقول " لا أحتاج شفقة من أحد (رفعت سبابتها وهي تكمل بحقد) يوماً ما سأثبت لكم أنكم جميعًا كنتم مخطئين وأن ذلك الحقير لن يحيا بسلام طويلاً لأنه لا يستحق.. أبداً لا يستحق "
اندفعت بعدها للخارج وتركتهم من خلفها تخيم عليهم الكآبة والحزن فقالت حفصة بصوت مختنق بغصة البكاء " أنا خائفة عليها جداً.. تلك الطاقة بداخلها من الكره والحقد كافية لتدمير الكثير "
صمتت فأضافت حياة بصوت جامد " لا خوف عليها يا حفصة فملك تجيد استخدام ما تملك لتحصل على ما تريد "
تنهدت فاطمة وهي تقول بصوت مكتوم " كل ما يزيد عن الحد ينقلب إلى الضد.. وملك بكل ما تحمله بداخلها من طاقة سلبية أكثر عرضة لتدمير نفسها دون أن تشعر.. تظن نفسها تعرف ما تريد لكنها في الحقيقة لا تعرف ولا تفهم شيء (تنهدت بعمق قبل أن تكمل بشرود) إنها تائهة، مشتتة وليست هي وحدها فهذا حال الجميع.. الجميع لا يعرف الطريق الصحيح "
***

في مجلس الرجال
أتخذ الحاج عبد الرحمن صدر المجلس موقعا له بين ولديه وبعض المقربين للعائلة
كانوا يتحدثون في أمور تخص العائلة حتى سأل أحدهم عن موعد عرس حمزة وزهراء فرد الحاج يقول بهدوئه المعتاد " حددناه آخر الشهر بإذن الله "
دخل حمزة في تلك اللحظة بصحبة قاسم وياسين فأتخذ كل منهم مجلسه بهدوء بعد أن ألقوا السلام
ابتسم صالح بسرور مربتا على كتف حمزة وهو يهنئه " مبارك لكَ وعليكَ يا ولدي "
رد حمزة بأدب " بارك الله فيكَ عماه "
التفت صالح حينها موجها حديثه لقاسم " العقبة لديك بني "
هَمّ اعتمل بصدره فجأة وهو يرد " حينما يشاء الله عماه "
ابتسم صالح بمودة قائلا " العروس موجودة ولا ينقص سوا إشارة منكَ ليتحدد العرس "
غامت نظرات قاسم بحسرة وأفكاره تصرخ بأن تلك الإشارة ليس هو من سيمنحها للعروس بل العروس هي صاحبة الرأي والقرار ويا ليتها فقط ترأف بحاله
وجد أن الصمت هو الرد المناسب فلاحظ صالح شروده ولم يرد أن يثقل عليه فألتفت إلى حمزة معاتبا " آدم أخبرني أنكَ طلبت منه بعض الحاجيات من أمريكا لكنك مُصر على دفع ثمنها وهو يريد أن يهاديك إياها "
عبس حمزة وهو يقول بغيظ طفولي " كنت واثقا بأنه سيخبرك عماه رغم أني أقسمت عليه ألا يفعل "
إبتسم صالح بلوم وهو يقول " ورغم ذلك لازلت على اصرارك "
رد حمزة بهدوء " لا أريد أن أكلفه يا عمي.. كما أن تلك الأشياء أنا من طلبتها منه لذا فمن الطبيعي أن أدفع ثمنها "
قطب صالح وهو يقول بجدية " ليس هناك فرق بينكما إن دفع هو أو فعلت أنتَ لذا فهي هدية منه وانتهى الأمر "
عبس حمزة متمتما " ابنك لا يراع أنني أكبره ببضعة سنوات عماه، دومًا يستغل مكانتك لدي لينفذ ما يراه صوابا من وجهة نظره هو "
ضحك صالح بمودة وهو يقول " إن ذلك فقط من محبته لك ولكل ما يمس لعائلة الجبالي بصلة "
غمغم حمزة بنزق دون أن يسمعه أحد " وهذا ما يجبرني على تحمله "
ابتسم عبد الرحمن بمودة خاصة وهو يوجه حديثه لصالح صديق عمره " ووجودك في عائلة الجبالي فخرا لها لآخر العمر يا أبا آدم "
رد صالح الإبتسامة لصديقه وهو يرد عليه " بارك الله لنا فيكَ يا أبا خالد بل أنت الفخر لي.. أطال الله في عمرك "
تناظر خالد وسليم فيما بينهما بصمت بينما ابتسم حمزة وهو يشعر بالسعادة لتلك العلاقة الفريدة والتي تعدت الصداقة بين جده وصديق عمره العم صالح
في ذلك حين كان قاسم لازال على شروده الكئيب أما ياسين فقد أطرق برأسه للأرض ليفاجئ الجميع بقوله الحزين: " هل تذكر عماه ذاك الصبي الذي كان يتسابق وأخاه في أيهما يصل إليك ليحظى بالجلوس إلى جوارك؟ "
رد صالح بشجن " بالطبع أذكر.. وهل يمكنني نسيان الغالي الذي نال الحظوة لدي؟ "
تنبه قاسم من أفكاره على سحابة الكآبة التي لاحت على الجميع وكأنها عدوى وأصابت الكل فغمغم بمرارة " لست وحدك من منحته الحظوة لديك عماه.. لست وحدكَ "
تنهد حمزة معقبا " رحمه الله "
لم يلاحظ أحد تلك الرجفة التي سرت في جسد سليم على وقع كلمتي حمزة سوا صالح الذي عقب بغموض " جازت الرحمة على الميت والحي رغم أن بعض الأحياء يستحقونها أكثر من الموتى.. عل الله يرحمنا جميعا برحمته الواسعة "
أطرق سليم بحسرة صرخت بها نظراته التي سارع في اخفائها عن الجميع وهو يدعي الهدوء على عكس ما يشعر
بعد لحظة سأل عبد الرحمن مغيرا الموضوع " أين عاصم وزيد؟ "
رد حمزة بهدوء " عاصم سافر إلى العاصمة باكرا ليباشر سير العمل هناك أما زيد فلا أعرف أين اختفى من بعد صلاة الفجر "
ظل سليم على اطراقه ووحده يعلم أن زيد بعدما صلى الفجر ذهب إلى عمران الناصر للإطمئنان على حاله لكنه لا يعلم إن كان لازال عنده أم ذهب لمكان آخر
وفي نفس اللحظة إلتفت عبد الرحمن يسأل ابنه " أين ابنك يا سليم؟ "
أغمض سليم عينيه بيأس فهو لا يريد أن يكذب ولن يستطيع اخبار والده بالحقيقة الآن لكن القدر كان رحيما به حينما دخل زيد فجأة ملقيا السلام تتبعه حلا متذمرة وهو تصيح " أريد الحلوى خاصتي وإلا سأشكوك لجدي "
رفع زيد حاجبيه بتعجب وهو يرد " لقد أكلتها فكيف سأعطيكِ إياها؟ "
ضربت الأرض بقدمها وهي تصرخ بشراسة بينما تتخصر أمامه " ليس ذنبي.. تصرف واحضرها لي حالا "
عبس في وجهها بإغاظة وهو يقول " لن أحضر شيء، هذا ما عندي وإن لم يعجبكِ اضربي رأسكِ في الحائط "
توسعت عينيها بغيظ شديد ثم لم تلبث أن استدارت مهرولة للخارج وهي تصيح ببكاء حار " مامااا "
ضحك زيد بتسلية وهو يجلس بجوار أبناء عمومته قبل أن يسأله جده " أين كنت يا زيد؟ "
رد زيد بهدوء " كنت في الحديقة الخلفية أطعم الجرو الذي احضره ياسين بالأمس "
سعل ياسين بحرج حينما قال الجد بعبوس " جرو! مجددا ياسين؟ ألم احذرك من جلب المزيد؟ "
لكز ياسين ابن عمه في خاصرته بغيظ قبل أن يرد على جده بإرتباك وكأنه طفل صغير " آخر مرة جدي.. لن أحضر المزيد.. أعدك "
ضحك زيد بتسلية وهو يقول " آه لو تعرف يا جدي من أين يحضرها؟ اممم ستسعد كثيراً "
كشر ياسين عن أنيابه في وجه ابن عمه بتهديد ليتدخل حمزة قائلًا ببساطة " من الشارع بالطبع "
رفع زيد كفيه إلى مستوى كتفيه يقول ببراءة مصطنعة " أترى؟ هو من عرف بنفسه ولم أخبره بشيء "
تأفف ياسين وهو يشيح بوجهه عنه فعقب حمزة بمزاح " كم وصل عددهم؟ "
كتم زيد ضحكته بصعوبة بينما رد ياسين بخفوت نزق " ثمانية "
توسعت عيني حمزة بذهول وهو يقول مناكفا " الله أكبر.. هل سنسمع أخبار سعيدة قريبا؟ "
قطب ياسين بعدم فهم متمتما " أخبار سعيدة! "
تصنع حمزة الجدية وهو يسأله " ألا تنوي أن تزوجها؟ "
فغر ياسين فاهه ببلادة وهو يقول " أزوج من؟ الكلاب! "
اومأ حمزة كاتما ضحكاته ليتدخل قاسم بسخرية قائلا " فليزوج نفسه أكرم له وأولى "
انفجر حمزة وزيد ضاحكين بينما ياسين غمغم بحرقة بكلمات خرجت منه بدون تفكير أو سبب يستدعي ذلك حقا " الآن أصبحت مادة للتهكم والسخرية رحم الله يوما كنتم فيه تخشون التندر عليّ كيلا يغضب منكم ويخاصمكم.. ليته كان هنا اليوم كان ليلقنكم درسا من أجلي "
بعدها انسحب من الغرفة بخطوات هادرة تتسابق مع أنفاسه المشحونة وترك خلفه الجميع يتطلعون لطيفه الغارب بتعجب وحيرة وبعد لحظات من الصمت المطبق سأل صالح بقلق " ما به ياسين؟ لا يبدو اليوم على ما يرام "
لم ينتظر قاسم سماع رد أحد وخرج من فوره لاحقا بأخيه حتى يعلن منه ماذا يجري معه بالضبط؟
***

لم تتمكن ملك من اللحاق به وهو يمشي بسرعة وكأن الشياطين تحاصره وهو يحاول جاهدا الهروب منها وحينما وصلت إلى الطابق الذي تقبع فيه غرفته وقبل أن تصل إليها وجدت قاسم يطرق الباب فتخفت بسرعة حتى لا يراها وما إن دخل الأخير حتى تقدمت بحذر من الباب
فتح قاسم الباب ووقف متسمرا مكانه ينظر تجاه أخيه الذي كان يجلس على الأرض في إحدى زوايا غرفته يبكي بحرقة كما لم يبك من قبل إلا يوم موت ابن عمهم والذي كان يعتبره صديقه المقرب من بين جميع أبناء عمومتهم
دخل قاسم بهدوء مغلقا الباب من خلفه وتقدم نحوه بخطوات متمهلة وعينيه مثبتتان على ملامحه المنقبضة بألم شديد.. جلس أمامه ببساطة والتزم الصمت لوقت طويل في حين ظل ياسين يبكي دون حرج من وجود أخيه
أما في الخارج…؛
ظلت ملك على وقفتها أمام الباب المغلق تستمع إلى صوت بكاء ياسين الواضح فتحترق مقلتيها بدموع تهدد بالهطول
أجفلت فجأة حينما ربت أحدهم على كتفها فألتفتت بحدة لتجد أختها وابنة عمها زهراء وقبل أن تتفوه أيا منهن بحرف صدح فجأة صوت ياسين ليخرسهن
في الداخل...
شهق ياسين بقوة وهو يقول " لقد رأيته في منامي كان... كان يطعم ريحانة كما أعتاد أن يفعل واخبرني بأن... بأن عمي سليم سيحضر له فرس جديدة في يوم مولده بعد أيام لكن... "
اجهش في البكاء ثانية قبل أن يكمل حديثه " لكن ذاك اليوم أتى وهو غائب وحتى عمي سليم لم... لم يحضر الفرس... "
أغمض قاسم عينيه بألم وهو يقاطعه بمرارة " لا تكمل ياسين.. لا تزد يا أخي "
لكن ياسين لم يتوقف بل تابع بحرقة " بعدما صليت الفجر ذهبت إلى المزرعة بلهفة عسى أن أجده هناك.. ذهبت ونسيت أن المزرعة احترقت بالكامل ذاك اليوم وأن... وأنه رحل يا قاسم.. رحل ولم يعد له وجود "
سأله قاسم بصوت متحشرج " لماذا تذكرت كل هذا اليوم بالذات؟ "
رد ياسين بحسرة " اليوم هو يوم مولده "
فتح قاسم عينيه يطالع أخاه بنفس الحسرة التي نضحت بها نظرات الأخير
بعد لحظات قال ياسين " زيد لم يكن يطعم الجرو كما أخبرنا.. لقد كان يبكي في الحديقة الخلفية وحينما رأته حلا أخذ منها الحلوى التي كانت معها ليشتت انتباهها عن الحالة التي وجدته عليها "
نظر له قاسم بتساؤل صامت رد عليه بتنهيد " هي أخبرتني بعدما خرجت من المجلس "
تنهد قاسم بعمق وهو يقول " لازلت أرفض فكرة موته ليس اعتراضا مني على قضاء الله وقدره بل... بل... لا أستطيع وصف ما أشعر به لكنني أشعر بأن احشائي تحترق كلما ذهب تفكيري إلى تلك الزاوية التي اخصص لها الحيز البعيد في روحي حتى لا يقتلني الاشتياق إليه.. أجد نفسي أتقلب على جمر لاهب يكاد يحرق الأخضر واليابس دون رادع "
في الخارج...
ابتسمت ملك بمرارة تتمتم بخفوت وهي تقصد أختها بكلامها " هل سمعتِ حياة؟ لست وحدي من ترفض الفكرة حتى حبيب قلبكِ يرفضها.. هيا جادليه هو الآخر كما تفعلين معي "
قطبت حياة بجمود اخفت تحته ألم يكاد يفتك بها وهي ترد على أختها بنفس نبرتها الخافتة " كل شخص حر في وجهة نظره.. أنا لا اجادل أحد "
استدارت توليها ظهرها تخطو بعيدا في حين رفعت يدها تمسح عبرة سالت من عينها وهو تغمغم بحرقة " وكأن ما تحمله لا يكفيك يا حبيب الفؤاد "
أما زهراء فقد مسحت دموعها التي أغرقت وجهها وهي تتمتم بكآبة " كلنا نشتاق إليه يا ملك.. ليته كان معنا "
***

بعد بضعة أسابيع / مساءً
كان يسير بخطى ثابتة هادئة في الممر المؤدي إلى غرفته الخاصة، كفيه في جيبي بنطاله ونظراته مثبتة على اللاشيء
لقد أجرى عملية هامة وخطيرة لطفلة صغيرة في التاسعة رفض الكثير من زملائه مباشرة حالتها منذ البداية نظرا لسوء حالة قلبها لكنه بتحدي لنفسه وافق على أن يكون هو المسئول عنها
يفترض به أن يشعر بالزهو والفخر بنفسه لهذا المجهود الذي بذله لكنه ورغم ذلك لا يشعر سوا بالخواء
ترددت على مسامعه كلمات وجمل التهنئة والتشجيع من الكثير من زملائه لكنه لم يجد لها صدى في نفسه
" صخر "
قطب بضيق وهو يجبر نفسه على الإلتفات لكتلة السماجة في نظرة والأغراء في نظر غيره وبملامح لا تحمل أي تعبير كان يرد " نعم "
ابتسمت ريم وهي تقترب منه بلهفة معاتبة " لم أراك اليوم أبدا.. الجميع يأخذك مني والمرضى تحتل أغلب وقتك "
ببرود مقصود كان يردد بعض كلماتها " الجميع يأخذني منكِ "
تنحنحت بحرج طفيف تشرح مقصدها " أقصد أنكَ مشغول طوال الوقت بالمرضى و... "
قاطعها بملل " أليس هذا هو واجبنا تجاه عملنا دكتورة أم ترانا نأتي إلى المستشفى كل يوم لمجالسة الأصدقاء والتسامر؟ "
عبست بغيظ تقول " بالطبع لكن ليس الكل منشغل مثلك طوال الوقت أم أنكَ تتعمد ذلك حتى لا تفسح لي المجال للحديث معك؟ "
رفع حاجبا بترفع وهو يرد " أولاً دكتورة أنا لست مثل أحد ولا أقبل بأن تضعيني مع أحد في خانة واحدة، ثانيا وهذا المهم هو أنني لا أتعمد فعل شيء ولست في حاجة للتهرب منكِ لأنني وببساطة إن أردت ألا أسمح لكِ بذلك فلن اتجه للتهرب منكِ واختلاق الفرص حتى لا أتيح لكِ مجالا للحديث معي بل سأخبركِ بكل صراحة وجها لوجه بأنني... (شدد على نطقه لبقية جملته التي حملت تحذير مبطن) لا أريدكِ أن تقتربي من محيط تواجدي أبداً "
شحبت ريم وكأنها تلقت منه صفعة على وجهها وقبل أن تبرر أي شيء كان هو يوليها ظهره مكملا سيره دون أن يمنحها ولو نظرة شفقة منه أما هي فقد قطبت بغضب تتمتم لنفسها " حسنا صخر اليوم لكَ والغد لي أنا وحينها... (لمعت عينيها ببريق خبيث وهي تكمل) سأجعلك تعلم قدرك جيدا ومع من تتعامل وكيف تتعامل مع ريم الناصر بالطريقة التي تليق بي؟ "
***

كان يبدل ملابسه على عجلة من أمره حتى يتمكن من اللحاق بموعده الهام في حين يفكر في مكالمة عمته مريم والتي هاتفته منذ بضعة دقائق تذكره بأن اليوم هو الموعد الذي حدده لنبض حتى يشرح لها بعض دروس مادة البيولوجية
وبعد لحظات قطب بعبوس حينما ومضت شاشة هاتفة برسالة نصية تجاهلها ليكمل ارتداء ملابسه ليعلو بعد لحظة رنين الهاتف فالتفت لصخر الذي يرتدي حذائه قائلا " هلا أجبته رجاءً يا صخر؟ "
اومأ الأخير دون تعقيب وهو يتجه ناحية المكتب حيث الهاتف موضوع على سطحه وتناول الهاتف بعبوس ازداد حينما رأى هوية المتصل ليجيب بحنق " ماذا تريد؟ "
رد الآخر ببرود زائف بعد أن تأكد من الرقم الذي طلبه " لما لا ترسل لي صفعتين أيضا؟ "
زفر صخر بضيق يقول " أنجز يا أحمق ماذا تريد؟ "
رد الآخر بفكاهة " قُبلة "
غمغم صخر بغيظ من بين أسنانه " اعترف آدم من حرضك عليّ لتصيبني بالجنون؟ "
صدحت ضحكات آدم وهو يرد بتسلية " لا أحد.. أنتَ حبيبي "
عبس صخر بملل وهو يقول " وأنتَ لست كذلك بالنسبة لي.. هلا أخبرتني الآن ماذا تريد لأنني مشغول ولست متفرغا لهذرك السمج؟ "
كتم آدم ضحكته وهو يسأله بمكر " بمناسبة السماجة.. كيف حالة كتلة السماجة المسماة ريم؟ "
زفر صخر وهو يرد باستياء " رأيتها قبل قليل وليتني لم أفعل.. أشعر بأن أعصابي على وشك الانفلات مني وقريبا جدا سأكون قاتلها "
ضحك آدم بصخب قبل أن يقول " كم أشفق عليكَ يا صاحبي "
تنهد صخر متمتما " هيا أخبرني ماذا تريد؟ "
عبس آدم يرد بمسكنة " ألا ترى أنكَ كررت ذلك السؤال أكثر من مرة؟ ألهذه الدرجة تريد التخلص مني؟ "
رفع صخر يده يتخلل شعره بإرهاق مجيبا" آدم بالله عليكَ إن كان لديك كلمة مفيدة قلها وإن لم يكن فاتركني لحالي الآن فأقسم لكَ أكاد أنهار من شدة حاجتي للنوم ولازال أمامي عمل آخر قبل أن أحظى بخلوة أحلم بها وأنا يقظ "
قطب آدم بقلق يسأله " عمل آخر! ماذا تقصد؟ "
أغمض صخر عينيه بتعب يرد " عليّ شرح بعض دروس مادة البيولوجيا لنبض "
وصله صوت آدم مناكفا: " اممم قلت لي نبض.. كيف حالها صحيح؟ "
لم يفطن لنبرة التسلية والمزاح في صوت آدم من شدة ارهاقه فصمت وأعطى الهاتف ليوسف بعد أن نفذ صبره أما يوسف فرد بإقتضاب " ما لكَ أنتَ وما لها؟ لا تسأل عنها "
كتم آدم ضحكته يقول بمناكفة " وما لكَ أنتَ الآخر كشرت عن انيابك فجأة وكأنني سآكلها؟ "
صرخ يوسف بغيظ " آدم لا تستفزني.. نبض خط أحمر وأنتَ تعلم ذلك "
رد آدم بدهشة مصطنعة " وماذا فعلت أنا لخطك الأحمر؟ كنت أسأل فقط عن حالها من باب اللباقة "
رد يوسف من بين أسنانه " لا تسأل عنها من أي باب كان "
قال آدم ببساطة " حسنا ولكن أخبرني لماذا لن تشرح أنت لنبض؟ "
تنهد يوسف مجيبا " الليلة هو الموعد الأسبوعي الخاص بي كما تعرف وأخشى أن أؤجله فينشغل دكتور معتز ولا أستطيع رؤيته حتى وقت طويل لأنه سيسافر قريبا "
قطب آدم وهو يقول " لو قبلت عرضه وذهبت إلى بيته سيكون أفضل لك "
عبس يوسف هاتفا " أذهب إلى بيته حتى يعالجني هل أنت أحمق آدم؟ "
زفر آدم وهو يرد " وما المانع؟ "
زفر يوسف هو الآخر قائلا " سلام آدم فلست في حالة جيدة للنقاش "
رد آدم بهدوء " حسنا يوسف، كما تحب.. سلام "
كان صخر قد أنهى إرتداء ملابسه بالكامل وقبل أن يخرج من الغرفة نظر ليوسف بغموض قائلا " نغم ستسافر إلى إسطنبول ولن تعد إلا بعد ثلاثة أشهر على أقل تقدير "
بعدما خرج جلس يوسف متمتما بإحباط " ألا يمكن إخفاء أي شيء عنك؟ كيف علمت أنها سبب امتناعي عن الذهاب إلى بيتكم؟ "
***

بعد ساعة / في شقة مختار زين الدين
كان يقف أمامها متخصرا يزم شفتيه بقوة كيلا يتلفظ بما يليق بها في هذه اللحظة
تدخلت مريم بمهادنة تقول " لا خيار آخر أمامكِ حبيبتي طالما ترفضين الذهاب مع زميلاتك لأخذ درس خاص في المادة إذن دعي صخر يشرح لكِ "
غمغمت نبض بإرتباك وهي تكاد تغطي وجهها بحجابها من الحرج " هذا ليس تخصصه.. سأنتظر أبي "
رد صخر بغيظ من بين أسنانه " والدكِ لديه عملية بعد ساعتين وإشراف على بعض الحالات ولن يأتي الليلة على أي حال "
ردت نبض بنفس الخفوت " لا بأس سأنتظره "
شعر صخر بالضيق من عنادها الشديد فهتف بإنفعال بالغ " ولما الإنتظار يا ذات الرأس الصلب؟ أنا هنا وأستطيع القيام بتلك المهمة بدلا من والدكِ "
غمغمت بتذمر " ليس تخصصك "
صرخ هو بغيظ " وليس تخصص والدكِ أيضا (قطب فجأة وهو يسأل مريم بدهشة) لحظة عمتي.. عن أي تخصص تتكلم نبض أنا حتى اللحظة لم أفهم سبب رفضها؟ "
تنهدت مريم بقلة حيلة وهي ترد " هناك باب كامل في المادة يتحدث عن التكاثر والهرمونات التي يفرزها الجسم في الذكر والأنثى وهي... (رمقت نبض بطرف عينها وهي تتابع بشفقة على حرجها) تشعر بالحرج في أن تشرح لها هذا بنفسك حتى أنها رفضت أن يشرح لها يوسف أيضا "
قطب وهو يغمغم بغيظ " إذن يوسف كان يعرف أبعاد تلك الورطة منذ البداية ولم يخبرني.. النذل "
ثم تنهد بإرتباك طفيف وهو يقول بتمتمة " معها حق إذ كنت أنا شخصيا شعرت بالحرج لها "
قطبت مريم تقول " نعم! هل هذا يعني أنك لن تشرح لها؟ "
تنحنح يقول " لما لا ننتظر عمي مختار؟ "
هتفت نبض برضا " هذا ما كنت أقوله والله.. نعم لما لا ننتظر... "
قاطعتها مريم بعبوس " ششش.. أسكتي أنتِ (والتفتت إلى صخر تقول) وأنتَ يا بك هل تتهرب من واجبك نحو أختك؟ "
أشاح بوجهه جانبا وهو يقول بتهرب " ليست أختي لذا فلست مجبرا على الشرح لها "
رفعت مريم حاجبا ببرود تشير على كرسي منفرد مقابل لكرسي نبض حيث تجلس أمام الطاولة المستديرة وقالت " أجلس "
عبس بطفولية وظل متمسكا بوقفته البعيدة عنهما نسبيا حتى رضخ في النهاية لأمر مريم مع تشبث الأخيرة برأيها
سحب الكرسي بفظاظة وجلس عليه وهو يغمغم في سره شاتما المادة وما تحتويه.. هو بالفعل محرجا لكن شعوره ذلك ليس مرتبطا به هو فهو معرض لشرح تلك الأمور بطريقة أو بأخرى في موقف ما رغم أنها لا تمس لمجال تخصصه بصلة ولكن شعوره ذلك بسبب نبض
لا يتخيل أنه سيقوم بتلك المهمة الصعبة ملقيا تلك الكلمات العلمية ظاهرا والمحرجة لنبض باطنا.. إنها خجولة لأبعد حد وهو يتفهم ذلك و.... أجفلته مريم من زحام أفكاره قائلة بسخرية " لولا معرفتي الوثيقة بك وبجمودك المعتاد كمكعب مصقول من الجليد لظننتك لا قدر الله متحرجا من شرح تلك الأمور "
رمقها شذرا بغيظ دون أن يرد فأبتسمت بنصر وهي تقول " هيا ابدأ "
سحب الكتاب من أمام نبض ونظر إلى الصفحة المفتوحة ببرود ليتمتم بعد لحظة " طرق التكاثر في النبات "
أتاه صوت نبض خافتا يكاد لا يكون مسموعا وهي تقول " أنظر الصفحة التالية "
قلب الصفحة بنفس البرود لتتسع عينيه قليلا وهو يقرأ العنوان مغمغما بخفوت " التكاثر في الإنسان (رفع وجهه عن الكتاب ينظر لمريم ببرود مصطنع قائلًا) نبض محقة هذا ليس تخصصي "
لم تكد المسكينة نبض تتنهد براحة حتى ردت مريم بلامبالاة تقول " لم يطلب منكَ أحد إعطاء شرح مفصل ودقيق لكل نقطة في الدرس فقط شرح مبسط وسطحي.. إنها هوامش "
نظر للصفحة المفتوحة أمامه للحظة ثم رفع وجها محتقنا بالحرج وهو يقول " هوامش! إن كانت هذه الهوامش فكيف هي بواطن الأمور؟ "
ردت مريم كاتمة ضحكاتها متصنعة اللامبالاة وهي تقول " أنتَ تعلم كيف يا دكتور "
زفر صخر بقوة وهو يسحب ورقة بيضاء وبدأ في الرسم بينما مريم تمتمت بخفوت بجواره " لا أصدق أنكَ تشعر بكل هذا الحرج بالفعل.. ألست طبيبا؟ "
غمغم بنزق " ليس مجال تخصصي "
تنهدت وهي تقول " لكنك تظل طبيبا وقد تتعرض لأسئلة مشابهة من أحد معارفك مثلاً "
عبس ببرود وهو يرد " قطعت صلتي منذ اللحظة بكل المعارف والأقارب كي أتجنب الوقوع في تلك المأساة مجددًا "
ناكفته مريم بفكاهة " أصدقني القول صخر.. أنتَ لست طبيبا من الأساس وتخشى أن تخفق في شرح تلك الأمور البسيطة حتى لا تنكشف حقيقتك أليس كذلك؟ "
عبس في وجهها وهو يقول " أنا على وشك قتل أحدهم فأرجوك لا تكوني أنتِ "
كانت نبض تخفي وجهها بكتاب آخر تتصنع الإنشغال بالدراسة فيه لتنتبه فجأة على صوت صخر المتهكم وهو يقول " هل تجيدين القراءة والكتاب مقلوب؟ ما شاء الله طالبة متعددة المواهب "
احتقن وجهها حرجا وهي تضبط الكتاب مغمغمة بتوتر " لم أكن أقرأ كنت... (هبت من جلستها فجأة تقول) غيرت رأيي سأذهب غدا مع زميلاتي إلى الدرس الخاص "
قبل أن تنطق مريم كان صخر يهب بحماس هو الآخر صارخا بطفولية " الحمد لله.. كم أنتَ رحيم يا ربي "
كانت نبض تنظر إلى أمها بذهول من حماسته الزائدة ليفاجئها بأن مال عليها من فوق الطاولة يقبل وجنتها بقوة هاتفا " منقذتي الحلوة "
شهقت نبض بصدمة ورفعت كفها تضعه على وجنتها موضع قبلته وكأنه صفعها قبل أن تهرول إلى غرفتها صارخة بخجل " قليل الحياء "
كانت مريم هي الأخرى ذاهلة مما حدث في حين تسمر هو مكانه بوضعه المائل وهو يتمتم بصدمة من نفسه ومما فعل " تباً.. كيف فعلتها؟ "
نهضت مريم من كرسيها بهدوء وحاولت أن تتكلم متخطية ذهولها ليبادر صخر بإرتباك وإحساس بالذنب " أنا آسف.. أقسم بالله لم أقصد أن... أن... سأغادر "
وقبل أن تنطق بحرف كان هو يغادر الشقة بخطى واسعة وكأن الشياطين تلاحقه
***

في المستشفى
تفاجئ يوسف وهو يستعد للمغادرة بعد أن تأخر لساعة كاملة بسبب حالة طارئة بدخول صخر وملامحه متجهمة فاقترب منه بقلق يسأله " ما بكَ صخر؟ ما الذي أعادك إلى المشفى؟ "
صرخ صخر غاضبا " ابتعد عن وجهي اللحظة يا يوسف يكفي ما تسببت لي فيه "
قطب يوسف بحيرة يقول " وماذا فعلت أنا؟ "
قبض صخر على مقدمة قميصه يهزه بعنف وهو يصرخ " أخبرني أنك لم تكن على علم بما يحتويه ذاك الدرس اللعين الذي طلبت منك العمة مريم شرحه لنبض؟ "
تنحنح يوسف بحرج يقول " بلى كنت أعرف "
لكمه صخر في وجه صائحا " تباً لك "
تأوه يوسف وهو يتحسس موضع الضربة ثم سأله بحنق " لازلت لا أفهم ماذا حدث لكل هذا؟ "
استدار صخر مغادرا الغرفة وهو يهتف بغيظ " اسأل عمتك أيها البغيض "
قطب يوسف بتعجب وهو يقول مفكرا " أ يعقل أن تكون نبض طردته من البيت؟ "
تنهد بقوة وهو يغادر هو الآخر على عجالة حتى يلحق بموعده مع دكتور معتز مؤجلا التحقيق في الأمر لوقت لاحق
***

بعد نصف ساعة / في عيادة معتز
^قبل عشر سنوات^
*** كان يشعر بالضياع والخمول في عقله كما بقية حواسه.. يحاول أن يتذكر ما حدث وما الذي أتى به إلى هنا؟ لكنه فجأة ينشغل بشيء ما يشتت انتباهه وتركيزه عن التفكير فيما يريد الوصول إليه
وفجأة طرق أحدهم الباب قبل أن يدخل أحد الأطباء باسما بلطف وهو يقول " حمداً لله على سلامتك يا بطل.. بماذا تشعر الآن؟ "
قطب قليلاً وهو يرمش بحيرة فهو ليس مصابا ولو بخدش صغير من الأساس ثم رد بعد لحظات قليلة بخفوت وهو يشعر بجفاف حلقه " الحمد لله "
ابتسم الطبيب بلطف وهو يعاينه بإهتمام قبل أن يقول " رائع "
ازدرد ريقه ببعض الصعوبة وهو يسأل الطبيب بحذر " كيف وصلت إلى هنا؟ "
رفع الطبيب رأسه وناظره بحيرة فعدل سؤاله " أقصد مَن معي مِن عائلتي هنا؟ "
اومأ الطبيب بفهم وهو يرد " والديك "
قطب الصبي وهو يقول " وأخي؟ "
مال الطبيب برأسه قليلاً سائلا ببعض الحيرة " تقصد أختك؟ "
هز الصبي رأسه سلباً وهو يقول مؤكدا " بل أخي "
قطب الطبيب بحيرة للحظات ثم ربت على رأسه بلطف وهو يقول " أرتاح الآن ولاحقا سنناقش موضوع أخوك هذا "
زمجر بغيظ وهو يحرك رأسه بعيداً عن مرمى يد الطبيب قائلاً " أنا لست مجنوناً.. أريد أبي "
اومأ الطبيب بسرعة خوفاً من أن يؤذي نفسه وهو يقول " حسناً.. حسناً أهدأ وسأدخل لك والدك حالاً "
سكن في موضعه وصدره يعلو ويهبط بأنفاس متسارعة من انفعاله.. لحظات مضت وهو ينتظر دخول والده بعدما خرج الطبيب من عنده، كانت لحظات قاتلة لأعصابه والأفكار السوداء تعصف بعقله دون هوادة
وأخيراً أتى الفرج من عند الله
دخل الغرفة رجل باسم المحيا وسيم في بداية العقد الرابع، اقترب الرجل من فراشه بهدوء وهو يحييه بلطف " السلام عليكم.. كيف حالك الآن بني؟ "
قطب بحيرة وهو ينظر إلى ذلك الرجل الغريب، لا يعرف ما علاقة وجود هذا الرجل الذي أمامه الآن بما طلبه هو من الطبيب؟
لقد طلب رؤية والده ليجد ذلك الرجل يدخل بدلاً منه!
اكتنفه شعور بالضياع فجأة وهو ينظر إلى ملامح ذلك الرجل التي لم تتغير وهو يراقبه بصمت وفتح فمه ببطء بعد لحظات يرد بأدب " وعليك السلام عماه.. أنا بخير والحمد لله "
اومأ الرجل مبتسماً وهو يقول " الحمد لله سعدت كثيرا لأنك بخير فأنت ذا مكانة عزيزة لدي "
سأله الصبي بنفس التهذيب وإن تخلله بعد التعجب الحائر " لا أفهم عماه ما تقصد.. أنا حتى لا أعرفك ولا أظنني رأيتك من قبل "
اتسعت ابتسامة الرجل وهو يرد " أنا أيضاً لم تسبق لي رؤيتك من قبل لكنني أعرفك.. سبحان الله لقد رأيت كل أفراد عائلتك إلا أنت.. دومًا كنت منشغلا مع فرسك ريحانة حينما آتي لزيارتكم... "
انتظر هو بصبر أن يتابع الرجل حديثه الذي قطعه لكنه لم يفعل فخرج سؤاله بحنق رغماً عنه " هلا أخبرتني عماه من تكون؟ "
لم تتبدل ابتسامة الرجل وهو يجيبه " أنا الأخ الأصغر للشيخ عبد الله زين الدين رحمه الله.. هل تعرفه؟ "
أجاب الصبي ببعض الراحة " بالطبع أعرفه أبي حدثني عنه كثيراً لكن... لكن... "
أكمل الرجل جملته " لكن ما سبب هذا بوجودي هنا بدلاً من والدك أليس هذا ما تريد السؤال عنه؟ "
اومأ إيجاباً فتنهد الرجل وهو يسحب الكرسي الموضوع أمام الفراش ثم جلس عليه بهدوء وهو يقول " سأخبرك "
توترت أنفاسه وهو يشعر بالخوف مما سيخبره به هذا الرجل لكنه فجأة وجد نفسه يقول " أخي.. هل أخي بخير؟ أين هو؟ "
ربت الرجل على يده ورد " إنه بخير حال لا تقلق "
ازدرد ريقه بصعوبة بالغة وهو يقول " أخبرني عماه بالله عليك بما يحدث فأنا... أنا أشعر أني ضائع "
بعد لحظة من الصمت قال الرجل " اسمعني بني وزن كلامي جيداً فما سأخبرك به ليس هين ويحتاج منك أن تكن صلبا قويا.. يحتاج منك أن تفكر في الأمر بتروي وحكمة وألا تسرع في إطلاق الأحكام ففي كل الحالات لن يكن المتضرر سواك "
لم يستطيع النطق بكلمة فأومأ برأسه إيجاباً ليتابع الرجل " أولاً يجب أن تعرف أنه ومن اليوم ستكون تحت رعايتي ومسؤوليتي أنا "
رفع حاجبيه بذهول وهو يقول " كيف؟ "
ابتسم الرجل يناكفه قائلا " هكذا.. أحببت أن يكون لدي ولد فرزقني ربي الكريم بكَ "
أسرع لقول شيء حينما قاطعه الرجل يقول " هل تعلم أنك هنا في المشفى منذ ما يقارب الشهر ونصف؟ وأنك لست مريضا بل فقط يمكننا القول بأن أعصابك مرهقة مما حدث ولم تتحمل الصمود أكثر فانهارت تماما "
سأله بحيرة " وكيف علمت هذا؟ "
اعتدل الرجل في جلسته وهو يميل بجذعه إلى الأمام مجيبا " لأن الطبيب المسؤول عن معاينة حالتك اممم ماذا أقول؟ زميل عمل مثلا.. كما أنني لم افارقك لحظة منذ دخلت المشفى "
رمش الصبي لوهلة وهو يتفحص الرجل الوسيم من جديد قبل أن يقطب بحيرة متمتما " أنت لا ترتدي زي الأطباء "
ابتسم الرجل وهو يجيب ببساطة " لقد أخذت إجازة طويلة حتى أتمكن من مرافقتك كما يجب "
توتر الصبي وهو يرد بحرج " آسف لأنني اعطلك عن عملك عماه "
تنهد الرجل وهو يقول بحنان " لا داعي لاعتذارك بني فأنا سعيد بالتعرف عليك ومرافقتك رغم أني وددت لو حدث ذلك في ظروف أفضل من تلك "
ران عليهما الصمت طويلاً حتى قطعه الرجل يقول بهدوء " ما تريد أن تعرفه ستجده هنا (وضع شريحة صغيرة بجانبه على الفراش قبل أن يكمل) مسجلاً بصوت والدك.. لكن نصيحة مني لا تسمعه قبل أن تقف على قدميك وتسترد هدوء أعصابك لأنك ستكون بحاجة لكل ذرة قوة فيك حتى تتمكن من التفكير السليم وتقدير الموقف كما يجب "
نهض بعد ذلك من مكانه واتجه ناحيه الباب وفتحه ثم وقبل أن يخرج إلتفت له قائلاً بلطف ودود " مرحباً بكَ بني في عائلتي الصغيرة "
تذكر الصبي شيء فجأة فصاح بجذع " ماذا حدث لذلك الصبي الآخر الذي أصيب بدلا مني؟ أنا لا أعرفه حتى لكنني... "
قاطعه الرجل يرد بتنهيد حزين " يحتاج إلى دعائك بني.. اخلص لله الدعاء حتى ينجيه فحالته صعبة وحياته بين يدي الرحمن الرحيم " ***

^في اللحظة الحالية^
أجهش يوسف في بكاء حار، يخفي وجهه بين كفيه بينما كتفيه يهتزان في بكائه كالأطفال بعدما صمت فجأة ولم يقو على إضافة كلمة أخرى من سجل ذكرياته المرير
ظل معتز ثابتا، ساكنا في جلسته على الكرسي المقابل للسرير المنفرد الذي يجلس عليه يوسف دون أن يبدي أي رد فعل وقد أكتفي بالمراقبة ككل مرة
تكلم يوسف بعد لحظات بحرقة وهو يقول " شعرت حينها بأن روحي تُنتزع مني.. كانت تلك الكلمات الأخيرة التي قالها عمي مختار من أصعب الكلمات التي سمعتها في حياتي "
شهق بعنف وهو يكمل " لم أتخيل للحظة أن يضحي أحد بحياته لأجل أن يحميني.. لم أتخيل للحظة أن... أن أتسبب في موت أحد لكنني فعلت "
سأله معتز بهدوء " من تسببت في موته؟ "
رد يوسف بحسرة وشعوره بالذنب يطغى على كل حواسه وكأنه مُخدَر " قتلت أعز الناس على قلبي.. قتلت حبيبتي ومصدر كل شيء جميل في حياتي "
ردد معتز سؤاله بنفس الهدوء " من تقصد؟ "
نطقها يوسف وكأنه يلفظ معها آخر أنفاسه " أمي "
جادله معتز بأسلوب مستفز متعمد " كيف قتلتها وقد سبق وأخبرتني أنك لم تشهد لحظة وفاتها حتى؟ "
رد يوسف بغضب من نفسه " نعم لم أكن حاضرا لكنها ماتت بسببي.. حينما أخبروها أنني قُتلت لم تستطع تحمل الصدمة وماتت "
قطب معتز بهدوء مستفز وهو يقول " ولما لا تُحمل من أخبرها الذنب فعلى أي حال الخطأ خطؤه هو لأنه لم ينتظر حتى يتأكد من الخبر قبل نشره؟ "
أطرق يوسف رأسه بقهر وهو يقول " أخي من أخبرها فكيف سأحمل توأمي الذنب؟ "
رد معتز باستفزاز " أوَ لم يكن هو السبب في كل ما حدث حينها؟ إذن الذنب ذنبه وحده ونتائج كل ما جرى تقع على عاتقه هو "
عبس يوسف وهو يدافع عن أخيه " إنه لم يرتب لأي شيء مما حصل حينها.. كل ما حدث كان خارجا عن علمه وقدرته إذاً لا ذنب له "
عقد معتز ساعديه أمام صدره وهو يقول باستفزاز بارد " إذن أنت الآخر لا ذنب لك في موت أمك لأنك أولاً وأخيراً لم ترتب لهذا وما حدث كان خارجا عن علمك وقدرتك وبالتالي لا فائدة من بكائك على طلل لم يكن خرابه على يديك "
طالعه يوسف بتشتت فأردف معتز بهدوء " لا فائدة من تحميل نفسك ذنب لم تكن فاعله لأنك تؤمن أن ما حدث كان مخططا له الحدوث فهو قدرها أن تموت بتلك الطريقة دون أن يكون لك دخل في هذا "
أجهش في البكاء ثانية وهو يرد " لكنني لا أستطيع رفع ذلك الذنب عن عاتقي.. كلما نظرت إلى صورتي في المرآة أراها تطالعني باكية وفي حلمي تعاتبني بنظراتها دون كلام.. صعب أن أنسى أن... "
نظر له معتز بإهتمام شديد وهو يحثه على المتابعة قائلا " أكمل حديثك يوسف.. أن... ماذا؟ "
رد يوسف بمرارة " كلما جلست وحدي أفكر أن... لو لم تتأذى فرسي ذاك اليوم لما ذهبت إلى المزرعة وحينها لم يكن ليحدث كل ما حدث.. لم أكن لأرى عمايّ وهما يخران صريعان أمامي دون حول منهما ولا قوة، ولم يكن صخر ليتعرض للموت حينها ولما... لما ماتت أمي "
سكت لحظات حتى يتمالك نفسه رغم عدم توقف دموعه عن الهطول كزخات المطر وهو يضيف بصوت موجوع " أحيانا أتخيل أنني أجلس إلى جوارها كما كنت أحب رأسي بين أحضانها وهي تقص عليّ إحدى حكايتها السرية مع أبي.. أتخيل أن أول شيء سأفعله كالعادة بعدما أعود من عملي أن أذهب إليها وأخبرها كم أحبها وكم افتقدتها في الساعات التي قضيتها منشغلا عنها لكنني أصحوا فجأة على الحقيقة المُرة بأنني ما رأيتها أبدا بعد عودتي من العمل، ما أخبرتها عن مقدار حبي وافتقادي لها لأنها ببساطة رحلت قبل أن أبلغ تلك المرحلة من حياتي، فارقتني وأنا ابن خمسة عشر.. أتعلم؛ أحيانا أخرى أفتح عينيّ صباحا فأجدني أنتظر أن تأتي إليّ وتوقظني من نومي كما كانت تفعل كل يوم أجد نفسي يطول بي الإنتظار ويطول غيابها أكثر "
بعد وقت طويل كان معتز يتنهد بتعب وحسرة وهو يراقب يوسف في غفوته التي تلي كل جلسة مصارحة بينهما
غفوة جبرية لا يشعر بها يوسف ولا يستطيع حتى مقاومتها، بمجرد أن ينتهي من قص بعض ذكرياته وجداله مع معتز الذي يستنفذ آخر ما يملك من قوة وطاقة على التحمل يجد نفسه يقع في بئر عميق يسحبه إليه بإصرار فيستسلم له في نهاية المطاف وكأنه بالحديث مع معتز يشعر ببعض الراحة
يوسف ليس مجنونا ولا حتى مريضا وإنما مكبلا بشبح الذنب الذي يطارده في خياله ويرسمه له عقله الباطن لذا أختار معتز بحكم تخصصه حتى يتحدث معه بهذا الشأن وهو يثق بأنه سيتفهمه أكثر من أي شخص آخر
من خلف الباب المغلق كان يقف صخر مستندا بظهره على الحائط المجاور للباب وقد وصلت إلى مسامعه كل كلمة نطقا بها وانسكبت من عينيه كل دمعة زرفتها عينيّ يوسف وخط الألم والقهر علاماته على روحه قبل أن يضع بصمته على روح يوسف
وبنفس الصمت والسكون الذي أستمع به إلى حديثهما انسحب دون أن يشعرا به أو يعلما بوجوده من الأساس كحال كل جلسة ليوسف
***

في الصباح / بيت مختار زين الدين
كانت مريم تقف في المطبخ تعد الإفطار في حين رن جرس الباب فصاحت تقول " افتحي الباب يا نبض.. هذا يوسف "
توجهت نبض مطرقة لتفتح الباب وبالفعل كان هو ورغم حرجها منه لأن صخر بالتأكيد أخبره بما حدث ليلة أمس إلا إنها بتلقائية سألته السؤال المعتاد ككل مرة " لماذا لم تستخدم مفتاحك الخاص؟ "
رد وهو يدلف للداخل " هذا أفضل حتى تكوني وأمي على راحتكما "
حركت كتفيها بخفة وهي تتجه إلى غرفتها بينما تتمتم " كما تشاء "
قبل أن تبتعد عن مرمى بصره استوقفها يقول " هل تعرفين رجل يدعى تامر عبد الحميد؟ "
عبست قليلاً قبل أن ترد عليه بمراوغة دون أن تستدير إليه " لي زميلة في الصف إسمها علا عبد الحميد "
هتف يوسف بغيظ " سألتك عن تامر وليس علا "
زفرت بصوت مكتوم وهي ترد بنفس النبرة " لا أعرف تامر أو غيره فمن أين لي بمعرفته من الأساس؟ "
همت بالتحرك فقاطعها يقول بحنق مكتوم " حقاً! لكنني رأيتك تقفين معه بالأمس "
اتسعت عينيها بذهول وهي تغمغم " كيف رآني وهو حضر بالأمس من المشفى في وقت متأخر؟ "
خرجت مريم من المطبخ في تلك اللحظة ولاحظت الوضع المتوتر بينهما فسألت بلطف " ماذا هناك يا أولاد؟ "
قطب مجيبا " كنت أسأل نبض عن شخص ما "
ابتسمت مريم وهي ترد بالنيابة عن ابنتها " وبالطبع أنتَ منزعج لأنها لم تعرفه.. لكنك تعرف جيدا أن عدد من تعرفهم نبض قليل جداً "
رد بإقتضاب وهو ينظر لنبض " رأيتها تقف معه "
نظرت مريم بحيرة بينهما قبل أن تسأل ابنتها " من هذا الذي كنتِ تقفين معه يا نبض؟ "
غمغمت نبض بغيظ " حتى أنتِ يا أمي.. حتى أنتِ "
أعادت مريم سؤالها ثانية بحزم " انظري إليّ يا نبض واجيبيني.. مع من كنتِ تقفين؟ "
استدارت نبض تنظر إلى أمها وهي تشبك أصابع كفيها خلف ظهرها بينما تقول بخفوت مرتبك " مع الأستاذ تامر "
قطبت مريم تسألها باستفسار " تقصدين أستاذ تامر عبد الحميد مدرس اللغة الإنجليزية؟ هل عاد من أمريكا؟ "
اومأت برأسها وهي ترد " نعم منذ أسبوع تقريباً وقد تعين في المدرسة التي أدرس فيها "
ابتسمت مريم بلطف وهي تقول " كان صديقا لمروان ابن خالتك.. منذ صغرهما وهما معاً.. إذن هو أصبح جارنا أيضاً "
اومأت نبض من جديد وهي ترد " نعم ماما.. شقته في الدور الثالث "
صرخ هو فجأة مجفلا مريم ونبض " وكيف عرفتِ ونحن لا نسكن في نفس الطابق؟ "
ردت نبض بتلقائية " لأن الطابق الثالث حيث يسكن في الأسفل والطابق الخامس حيث نسكن نحن في الأعلى كما أنه أخبرني بالأمس "
جز على أسنانه بغيظ سائلا " وما سبب اخباره لكِ بكل هذه التفاصيل آنسة نبض؟ هل ظنك تعملين في السجل المدني؟ "
هزت رأسها سلبا وهي ترد ببراءة " لا.. هو يعلم أنني لازلت طالبة ولم أعمل بعد "
كتمت مريم ضحكتها وهي ترى بوادر انفجار وشيك في المكان بسبب براءة نبض المستفزة
تخصر يوسف وهو يقف أمامها بينما يسألها من جديد " ولماذا كنت تقفين معه في الشارع بالأمس؟ "
برمت شفتيها وهي تبرر موقفها " هو من ناداني ليخبرني أنني مرحب بي في أي وقت إذا ما احتجت لأي سؤال أو إستفسار في المادة "
ضيق عينيه وهو يميل بجذعه للأمام ناحيتها بينما يقول " مرحب بكِ! مرحب بكِ أين بالضبط؟ "
ردت بعفوية " أظنه يقصد في شقته بالطبع إذ أنه يعطي دروس خصوصية لبعض زميلاتي في الصف في شقته "
قطب يوسف بضيق وهو يقول " مرحب بكِ في شقته.. ويعطي الدروس لزميلاتك في شقته (ثم صرخ بإنفعال شديد وهو يتابع) ذلك الحقير لن يبقى في تلك البناية دقيقة واحدة إضافية "
ثم بخطى واسعة كان يتجه إلى الباب وبعد أن فتحه وقبل أن يخرج نظر لها ورفع سبابته في وجهها يقول " إن رأيتي وجهه اليوم في المدرسة أخبريه أن اليوم هو الأخير له في تلك المدرسة.. أخبريه أيضًا أن مستقبله المهني إنتهى للأبد "
خرج بعدها وصفق الباب خلفه بعنف وهو يهدر بغضب " الحقير، النذل.. يريدها في شقته أقسم بالله لأجعلنه يندم على طلبه الوقح هذا وأعلم من سيؤدي تلك المهمة على أكمل وجه "
***

وصل إلى المستشفى وهو يشعر بداخله كله يحترق ورغم كل ما فعله إلا إنه لازال يشعر بالضيق، توجه على فوره إلى غرفته الخاصة ليبدل ملابسه بينما عقله يعمل ويخطط لأكثر من شيء في ذات الوقت
خرج بعد بضعة دقائق وهو يتفحص هاتفه في انتظار مكالمة هامة من شخص ما ليأتيه الصوت الضاحك من خلفه يقول: " أحببت اللوحة الجديدة لك يا فنان "
أخفى شبح الابتسامة الذي كاد يظهر على شفتيه وهو يستدير بتمهل مجيبا " كنت أعلم أنها ستحظى على اعجابك ورضاك "
عقد مختار ساعديه أمام صدره وهو يقول " إعجابي نعم.. أما رضاي فلا "
قطب صخر يقول بضيق " لا يهم.. فعلى أي حال ما كنت لأتركه يتجرأ على ما يخصني دون أن أوقفه عند حده كما يستحق "
رفع مختار حاجباً باستفزاز وهو يقول " حولت من وجه الرجل وجسده لوحة تجريدية مخيفة لا معالم لها لأجل بضعة كلمات قالها بدون تفكير "
جز صخر على أسنانه وهو يجيب " إنه حقير وقد كشفت بضعة الكلمات التي قالها نواياه القذرة "
ابتسم مختار بلامبالاة يقول " لا أجد للرجل قطع غيار بديلة لما افسدتها "
برم شفتيه ببرود وهو يتخطاه ببساطة قائلاً " اتركه يموت ببطء.. هذا ما يستحقه هو وأمثاله "
صاح مختار من خلفه " ألا تخاف أن يقدم شكوى ضدك؟ "
رد بتهكم دون أن يتوقف عن سيره " فليفعلها إن لم يكن يريد التنعم بما بقي له من عمره "
زفر مختار بغير رضا وهو يتمتم " لن ترتدع بسهولة يا صخر، تحتاج إلى صدمة قوية لتصحو من غفلتك قبل أن تضيع نفسك "
***

بعد قليل / في مكتب صخر
قطب بحيرة حينما وجد مختار يدخل مغلقاً الباب خلفه فقال " أليس لديك حالات لتعاينها دكتور مختار؟ "
تجاهل مختار الرد على سؤاله وتقدم يجلس على الكرسي المقابل لمكتبه وهو يقول " يبدو أن تلك الصفقة لم تسير كما خططت لها "
رد بلامبالاة " إنها مجرد غطاء لما أسعى له وأنت تعرف هذا "
قطب مختار بجدية وهو يقول " إذن سترفضها "
هز رأسه سلباً قائلًا " إن رفضتها بتلك السرعة سأثير شكه "
طالعه مختار وهو يسأله بترقب " إذن ما الحل البديل من وجهة نظرك؟ "
سلط صخر نظراته الغامضة على قلمه الذي يتلاعب به بين أصبعيه بينما يجيب " من المفترض أن موافقتي قد وصلته في تلك اللحظة وبعد ساعة على أكثر تقدير ستكون كافة العقود قد تم الاتفاق عليها "
عبس مختار بغير رضا وهو يقول " من الغباء أن تورط نفسك مع شخص ذو سمعة سيئة وخارج عن القانون كهذا؟ "
رد ببساطة " إنه الوسيلة الوحيدة المتاحة أمامي للوصول إلى الحقير فؤاد "
زفر مختار بضيق يقول " أنت وحدك أمام التيار يا صخر.. ستخسر بني بل ستهزم شر هزيمة "
لمعت مقلتيه بقسوة مخيفة وهو يتمتم " لا تخف عماه هذا لن يحدث.. فأنا لم أعتد الهزيمة ولم أخط ذلك المصطلح في قاموسي يوماً ولن أفعل "
ضرب مختار بقبضته على سطح المكتب قائلا بضيق شديد " يا ولد أفهم أنت هكذا لا تعرض نفسك وحدك للخطر "
رد صخر بصلابة " وأنا لم أطلب من أحد المساعدة عماه استطيع فعلها وحدي وكما ترى أنا أجنب يوسف كل هذا حتى لا أورطه فيما أفعله حتى تلك الصفقة تخضع لإشراف كامل مني وبعيدا تماما عن مؤسسة الجبالي حتى لا أسبب لهم أي مشكلات "
خفتت نبرة مختار بأسى وشفقة وهو يقول " صخر يا ولدي.. لا تغامر أنت تتعامل مع وحوش بلا ضمائر كل منهم يسعى ليسلب الآخر ما يملك بحقارة وأنت... لست هكذا "
أشاح صخر بوجهه بجمود وهو يرد " إذاً عليّ أن أتعلم كيف أصبح مثلهم حتى أتمكن من التعامل معهم (ثم أكمل بلهجة ذات بأس وقوة) لن أتراجع عماه.. لي حق ولن أفرط فيه مهما بلغ الثمن الذي عليّ دفعه في المقابل "
زفر مختار بحنق قائلا " عن أي حق تتكلم أنت.. ها؟ الأمر منذ البداية لم يكن متعلق بك من الأساس.. وجودك هناك كان صدفة وما تلاه أنتَ وحدك من تسببت في حدوثه "
غمغم صخر بجمود " ما كنت لأترك شخص يُقتَل أمامي وأظل مكتوف اليدين دون أن أدافع عنه "
صاح مختار وهو يضرب على سطح المكتب بقبضته من جديد، غاضبا من صلابة رأس صخر التي لا تلين " أتمنى من كل قلبي أن تذهب مبادئك تلك إلى الجحيم أيها المغرور "
قطب صخر مشيحا ببصره بعيدا دون تعقيب فمرت بضعة دقائق بينهما على هذا الصمت الكئيب حتى سأل مختار مغيرا الموضوع " كيف حال آدم؟ "
رد صخر بعبوس طفولي " طالما يرفع لي ضغطي فهو بخير "
ضحك مختار قبل أن يقول بمحبة " أحب علاقتكما القوية ببعضكما البعض رغم طول المسافة بينكما "
تنهد صخر وهو يرد " طول المسافة ليس عائقا بين علاقتنا يا عمي طالما حبل الود موصول فقط ليته يظل موصول حتى الأبد ولا ينقطع عند لحظة تحت أي ضغط أو لأي سبب "
قطب مختار بعدم فهم يقول " ماذا تقصد يا صخر؟ هل هناك أي خلاف بينكما لا قدر الله؟ "
أطرق صخر بنظراته إلى سطح المكتب وهو يقول بغموض " حتى اللحظة لا.. لكن قريبا سيكون "
ثم تنهد فجأة وهو يردف " آدم عائد إلى البلاد عما قريب ولا يعرف بشأن تلك الصفقة التي أخطط لها "
سأل مختار بترقب " ولماذا لم تخبره عنها؟ "
قطب صخر بضيق يقول " لأنني لا أستطيع اخباره عن المغزى من وراء تلك الصفقة.. لا أريد أن أفصح له عما أخطط له "
سأل مختار بحيرة " ألا تثق به؟ "
رد صخر بإقتضاب " بالطبع أثق به كثيراً فآدم بمثابة أخ لي لكن... "
قطع حديثه فتابع مختار عنه " تخشى أن يرفض فكرة الإنتقام التي تسعى خلفها "
لم يرد صخر فأردف مختار بتساؤل حذر " ترى لأي سبب قد يرفض؟ خوفا عليكَ أم (نظر له صخر بإقتضاب شديد فأكمل مختار بهدوء) أم رفضا لإيذاء خاله؟ "
رد صخر ببرود مراوغا " في كلا الحالتين ما كنت لأتراجع عن قراري "
نهض مختار من مكانه قائلًا بهدوء " إن أردت رأيي فمن الأفضل أن تفصح له عما تخفيه عنه.. أشرح له قرارك ووجهة نظرك وأتركه يفكر ويتخذ قراره وحده وعن قناعة وبعدها فليكن ما يكون.. لكن ليس من العدل أن تخفي عنه أمر بهذه الأهمية "
رد صخر وهو يتخلل خصلات شعره بقلة حيلة " آدم يشعر تجاهي بحمائية شديدة أفشل في كثير من الأحيان في تفسيرها وأخشى أن يتخذ جانبي فيتورط معي في طريق لا رجوع منه ويتأذى "
قطب مختار يقول " هذه هي مشكلتك تتمسك برأيك لأبعد حد ظنا منكَ بأنكَ هكذا تحمي من حولك .. رهابك من أذية من حولك لا يأتي بنتائجه السلبية على أحد سواك .. وحدك المتضرر يا صخر "
رد صخر بخفوت كئيب " لطالما كنت كذلك دومًا فلا أرى ضير من أذى جديد يُضاف للائحة أوجاعي اللانهائية "
هز مختار رأسه بيأس وهو يخطو مغادرا الغرفة دون أن يعقب بشيء في حين رفع صخر هاتفه وطلب رقم ما أتاه الرد منه على الفور " نعم صخر بك "
رد صخر بجمود " سأبعث لكَ بصورة مرفقة بإسم أريد كافة المعلومات الخاصة بها في غضون أربعة وعشرين ساعة لا أكثر "
رد الطرف الآخر بطاعة " ليكون ما تريد يا باشا "
قال صخر بإيجاز قبل أن يغلق الخط " حسناً سأرسل لكَ الصورة الآن "
ضغط زر الإرسال قبل أن يلقي الهاتف على سطح المكتب بلامبالاة مغمغما بجمود " لنرى ما خلفكِ أنتِ الأخرى "
***

بعد مرور بضعة ساعات / في المدرسة الثانوية
كانت نبض تجلس في مقعدها إلى جوار نور زميلتها وجارتها في حرج شديد وهي تتحاشى النظر لوجه الأستاذ تامر الذي حضر إلى المدرسة في حالة مزرية كانت تعلم سببها بالطبع
كل فينة والأخرى ترمق ساعة معصمها بغيظ وهي تعد الثواني المتبقية على إنتهاء الحصة لكي تهرب سريعا من أمامه وتختبئ في أي مكان لا يمكن أن يجدها فيه لكن الدقائق كانت تمر بطيئة وكأنها لا تريد أن تنتهي
زفرت براحة حينما أعلن الجرس المدرسي عن إنتهاء حصة اللغة الإنجليزية وبدء فترة الراحة قبل إستكمال بقية الحصص
كانت تضع كتبها في حقيبتها على عجلة لتخرج من الصف حتى فوجئت بالأستاذ تامر يقف أمامها محدثا زميلتها " إن كنتِ انتهيت من لملمة أدواتك يمكنك الخروج من الصف نور "
تنحنحت نور بحرج وهي ترمق نبض بطرف عينيها في حين ردت " لقد انتهيت بالفعل.. بعد إذنك أستاذ "
اومأ لها بلا معنى فخرجت مهرولة وحينما همت نبض باللحاق بها استوقفها تامر قائلًا بجمود " انتظري نبض.. أريد الحديث معكِ "
تسمرت مكانها ورأسها مطرق للأرض وهي تكاد تبكي من الحرج في تلك اللحظة
همهمت بخفوت " نعم أستاذ "
رد تامر بإقتضاب " طبعاً أنتِ لستِ في حاجة للسؤال عما حدث وتسبب لي في هذا (وأرفق قوله بأن رفع يده مشيرا لوجهه المكدوم بحركة دائرية وهو يكمل) لأنك تعلمين أليس كذلك؟ "
رمشت بقوة وهي تتوسل للأرض بصمت أن تنشق وتبتلعها لتنقذها من ذلك الموقف المخزي
استجمعت شجاعتها وهي ترد بمراوغة " وكيف سأعرف أستاذ؟ "
هتف تامر بغيظ لم يتمالك كتمه " لا تستفزيني نبض .. تعرفين أن ذاك الهمجي قريبك هو من فعل ذلك "
فغرت فاهها بصدمة وحيرة للحظات وهي لا تفهم عن أي قريب يتحدث؟ لكنها سرعان ما تذكرت أن والدها أخبر الجميع من قبل بكون صخر قريبهم وأن يوسف محال أن تنتج عنه أي ردة فعل عنيفة إذن الفاعل هو صخر ولا غيره، قطبت بتعجب تفكر كيف وصل الخبر لصخر بهذه السرعة وهي أخبرت يوسف وحده؟ والأهم هو متى وأين رسم صخر تلك اللوحة التجريدية على وجه الأستاذ تامر؟
خرجت من أفكارها على إهانات تامر المستمرة التي يخص صخر بها فرفعت رأسها بحدة مقطبة بغضب صرخت به مقلتيها وهي ترد " صخر ليس همجي أستاذ تامر.. إنه طبيب محترم وأيا كان سبب شجاركما فليس من حقك أن تنعته بالهمجي.. (رفعت سبابتها في وجهه تقول بشراسة من بين أسنانها) لن أسمح لكَ بذلك "
طالعها بذهول وهو يقول " هل تدافعين عنه بعد ما فعله بي؟ "
التقطت حقيبتها وهي ترد ببرود مقصود " بالطبع فهو قريبي مهما فعل يفترض بي أن أدافع عنه في غيابه.. بعد إذنك أستاذ "
خطت خطوتين وتوقفت تقول بترفع وهي توليه ظهرها " بالمناسبة أستاذ تامر نسيت أن أشكرك على عرضك الذي أخبرتني به بالأمس لكني لست في حاجته فصخر.. (وشددت على بقية جملتها) يشرح لي كافة المواد "
خرجت بعدها من الفصل دون أن تعيره إهتمام مغمغمة بتذمر طفولي " منكَ لله يا صخر بسببك اضطررت للكذب "
***

ما إن وصلت إلى فناء المدرسة حتى تفاجأت بعدد لا بأس به من زميلاتها في الصف تقتربن منها بحماسة عالية بادية على وجوههن الباسمة بهيام سخيف مبالغ فيه من وجهة نظرها
صاحت إحداهن بفرح غير مبرر " قريبك هنا "
قطبت بحيرة تشير لنفسها قائلة " قريبي أنا "
قطبت الفتاة تقول " نور اخبرتنا أنه قريبك "
نظرت نبض بعدم فهم إلى نور تسألها " فسري نور ماذا تقصد هبه؟ "
ابتسمت نور بحماس كباقي الفتيات تقول " هبه تقصد صخر "
رمشت نبض بذهول وهي تتمتم " صخر هنا.. يا للمصيبة "
تنهدت أخرى بهيام وهي تتلاعب بخصلة من شعرها قائلة " معكِ حق هو مصيبة بالفعل.. لكنه مصيبة وسيمة للغاية .. ماذا ينقصه يا ترى؟ "
ردت أخرى بنفس الهيام " لا شيء بالطبع.. طبيب، وسيم، ذو عينين كحيلتين، طويل القامة، عريض المنكبين.. إنه كأبطال الروايات وأيضًا ذو شخصية جبارة "
فغرت نبض فاهها ببلاهة بينما ضحكت نور بتهكم تقول " نعم جبارة وليتها تنفجر في وجهك "
عبست الفتاة من سخرية نور بينما قطبت نبض تسأل " أين هو يا نور؟ "
ردت نور " في مكتب المديرة "
اتسعت عينيّ نبض بقلة حيلة وهي تغمغم " لا حول ولا قوة إلا بالله.. ضاع الأستاذ تامر المسكين في شربة ماء "
همت بالتحرك فسألتها نور " إلى أين أنتِ ذاهبة؟ "
ردت بعبوس وهي تسرع الخطى ناحية مكتب المديرة " يجب أن أنقذ ما يمكن إنقاذه قبل أن نجد المسكين معلق من قدميه كالذبيحة على بوابة المدرسة "
قطبت هبه بحيرة تسأل نور " مسكين! وذبيحة! ما الذي تقصده نبض؟ "
كتمت نور ضحكتها وهي ترد بمراوغة " لا أعلم.. دعينا نراقب في صمت "
***

وصلت إلى مكتب المديرة لكن قبل أن تطرق الباب كان صخر يفتحه فكادت تصطدم به من شدة اندفاعها لولا أنه تراجع للخلف في نفس اللحظة ليقف كليهما أمام بعضهما بملامح عابسة
أتى صوت المديرة من خلفه حينما لاحظت وجود نبض تطمئنها بالقول " لا تقلقي نبض.. ستحاول إدارة المدرسة اتخاذ الإجراءات اللازمة بشأن الأستاذ تامر في أسرع وقت "
ضيقت نبض عينيها بعدم فهم ليهمهم صخر بخفوت وهو يميل ناحيتها قليلًا " إياكِ وفتح فمك بكلمة أمام المديرة "
كادت تجادله لكن المديرة سبقتها تقول بلوم " في المرة القادمة حينما تكون لديكِ أي مشكلة أو شكوى تعالِ لمكتبي واخبريني مباشرة فليس هناك داعٍ لتعطيل دكتور صخر عن عمله بسبب تلك الأمور "
رمشت بضيق وهي تستشعر تغير في نبرة صوت المديرة، عبست وهي تفكر ترى هل تتخيل نبرة الدلال في صوتها؟
ماذا يحدث مع الجميع اليوم بسببه؟
غمغمت بخفوت " حاضر.. في المرة القادمة بإذن الله سأخبرك فورا أستاذة جهاد "
إلتفت صخر إلى المديرة قائلًا بلباقة " شكرا مرة ثانية أستاذة جهاد وسعدت بلقائك "
ابتسمت جهاد بإتساع وهي ترد " أنتَ على الرحب دكتور صخر.. لا تحرمنا من رؤيتك مجددًا حتى وإن لم تكن لدى نبض أي مشكلة "
مالت نبض من خلف كتفه تطالع المديرة بذهول جاحظة العينين وهي لا تصدق أن الأستاذة جهاد التي يضرب بها المثل الأعلى في العبوس تبتسم بل ويبدو أنها تغازل صخر
رد صخر متنحنحا بحرج " آه بالطبع قريباً إن شاء الله.. بعد إذنك أستاذة جهاد "
ردت جهاد بإبتسامة هائمة " مع السلامة دكتور صخر.. شرفت المدرسة وأنرتها والله "
تمتمت نبض بدهشة " والله! وأنار المدرسة! هل ظنته يعمل في مجال الكهرباء؟ مصباح هو ربما؟ "
إلتفت صخر إلى نبض قائلًا " هيا نبض "
اومأت برأسها وهي تتحرك معه بينما ترمش بذهول متمتمة بتفكير جاد " هناك لغز في شخصية صخر عليّ اكتشافه حتى أفهم ماذا يحدث مع كل الفتيات اللاتي تراه؟ "
حينما وصلوا إلى الفناء كانت هي لازالت على سيرها الشارد عنه تفكر فاستوقفها بتعجب يقول " توقفي نبض.. إلى أين أنتِ ذاهبة؟ "
توقفت بالفعل والتفتت حولها بحيرة للحظات ثم ثبتت في وقفتها أمامه مطرقة الرأس وهي تقول بهدوء ظاهري " هلا أخبرتني بما قلته للأستاذة جهاد عن الأستاذ تامر؟ "
رد ببرود " وما دخلك أنتِ؟ "
قالت من بين أسنانها بغضب مكبوت " لي دخل بالطبع.. أنتَ هنا لأجلي والأمر الذي جئت تتحدث عنه يخصني.. لذا فمن حقي أن أسأل ومن واجبك أن ترد "
رفع حاجبا باستفزاز وهو يضع كفيه في جيبي بنطاله قائلًا " لا أظن بأنني في حاجة لأن تخبرني طفلة قزمة مثلك عن واجباتي "
رددت ببهوت " قزمة! من القزمة؟ أنا! "
مال برأسه قليلا وهو يرد باستفزاز " ألم تطالعي صورتك في المرآة من قبل؟ "
فتحت فمها لترد حينما لفت انتباهها وقوف زميلاتها على بُعد قليل منهما تتهامسن وهن يُشرن على صخر فعبست بغيظ تقول " قف بانضباط وأخرج يديك من جيبيك.. لست هنا لتقدم عرض يا سيد "
رفع حاجبيه بذهول يقول " ماذا؟ "
ضربت الأرض بقدمها بطفولية وهي تتمتم بصوت حانق " نفذ ما قلته حالا يا صخر "
تلقائيا وجد نفسه يخرج يديه من جيبي بنطاله منفذا أمرها وهو ينظر لها بحيرة قائلا بتلقائية " هكذا؟ "
اومأت له دون أن تنظر له وهي تسلط أنظارها على الفتيات من خلفه واللاتي كن من صفوف أخرى غير صفها لتهمهم حينها بغيظ " ما هذا؟ أليس لديهن حصص أم ماذا؟ "
قطب صخر متحيرا في أمرها قبل أن يقول " هل ستعودين معي الآن لأقلك إلى البيت في طريقي أم ستكملين دوامك المدرسي؟ "
ردت بغمغمة نزقة " لن تسمح لي المديرة بالذهاب للبيت قبل إنتهاء الدوام طالما ليس لدي سبب يستدعي ذلك "
عقد ساعديه أمام صدره وهو يرد بعجرفة لكي يغيظها " يمكنني أن اتوسط لكِ عندها إن رغبت في العودة معي الآن "
تأففت غيظا من الفتيات اللاتي عاودن التهامس من جديد ونظراتهن تبدي إعجابهن الواضح به كان ذلك قبل أن تلاحظ وقفة صخر فتصرخ بإنفعال وهي ترفع سبابتها في وجهه " قف منضبطا قلت.. لماذا لا تنفذ ما أقول؟ "
نظر لها ملئ عينيه وهو لا يصدق بأنها أخيرا تنظر له مباشرة دون أن تشيح بوجهها عنه بعيدا كما تفعل في كل مرة تحدثه فيها وحين لاحظت هي صمته الطويل الشارد رمشت بتوتر وهي تخفض بصرها عنه متسائلة بإرتباك " ما بكَ؟ هل أكل القط لسانك؟ "
نسى كل شيء وهو يسألها بخفوت " نبض ما لون عينيّ؟ "
ردت نبض بتلقائية، مسهبة دون وعي منها " بنيتين كلون القهوة لكنهما تزدادان قتامة كلما غضبت أو انفعلت وكأنهما مرجلين يغليان حتى إن اشتعال أفكارك دوماً ينعكس في لون عينيك فيجعلهما أثيرتين ببريق خاطف "
كان يطالعها ببلاهة متسع العينين وظل صامتا للحظات طويلة قبل أن يتمتم بخفوت " كيف عرفتِ كل هذا وأنتِ لا تنتظرين إليّ مباشرة؟ "
أولته ظهرها بخجل دون أن ترد فاقترب منها خطوة يهمس جوار أذنها بنبرة رقيقة حنونة " وأنتِ عينيكِ تبارك الخلاق.. جوهرتين نفيستين كحجرين كريمين يلمعان كلما تحمستِ أو غضبتِ، تغيمان في قتامة مثيرة تنعش القلب العليل حينما تخجلين فلا حرمني الله من رؤية خجلكِ في كل لحظة "
كتمت شهقتها بسرعة وهي تخطو بعيدا عنه مغمغمة بتلعثم من الخجل " أظن بأن... بأنني سأكمل دوامي .. السلام عليكم "
استوقفها قائلاً بندم حقيقي " نبض أنا أعتذر.. لم أقصد ما حدث بالأمس "
ازدردت ريقها وهي تقف مكانها قائلة بحرج " لا بأس لكن... أتمنى ألا يتكرر ثانية.. أرجوك إنتبه "
تنهد بقوة وهو يرد " كانت ذلة أقسم لكِ ألا تتكرر مجددًا لا تقلقي "
ردت ببسمة رقيقة دون أن تستدير له " حسنًا الآن اعتذارك مقبول دكتور "
خطت عدة خطوات ثم توقفت من جديد واستدارت له بحدة تستوقفه وقد همَّ بالرحيل " صخر انتظر "
نظر لها بتساؤل فرفعت حاجبا بتهديد وهي تشير له بسبابتها قائلة " أخرج حالا من المدرسة وأستقل سيارتك مباشرة وعد لبيتك وإياك... إياك أن تقف مع أي فتاة لأي سبب "
قطب بعبوس يقول " لستُ ولدا صغيرا لتكلميني بهذه الطريقة.. ثم إنني لا أفهم سبب ما تقولين "
ردت ببرود مصطنع " هذا ما عندي وبدون سبب "
استدارت بخفة وخطى ثابتة ناحية مبنى الصفوف دون أن تضيف المزيد
رفع صخر حاجبيه يكلم نفسه " لقد ورثت تعنت أمها وتسلطها بجدارة لكَ الله عماه "
تنهد بعمق وهو يضع كفيه في جيبي بنطاله متوجها ناحية البوابة وقبل أن يصل إليها رأى الأستاذ تامر يقف في إحدى الزوايا يتحدث في هاتفه بعصبية فرمقه بترفع وبريق النصر يلتمع في مقلتيه مما جعل تامر يقطب بغضب مكبوت وهو يعجل في إنهاء المكالمة متوجها لصخر الذي تمهل عن قصد في الخروج من المدرسة
وصل إليه تامر قائلا بإندفاع " لا تظن نفسك حققت أي نصر عليّ.. أنتَ لا تعرف من هو تامر عبد الحميد وما بمقدوري فعله بكَ؟ "
نظر له صخر باستهانة وهو يقول " هل يفترض بي إعتبار هذا تهديد أستاذ تامر عبد الحميد؟ "
جز تامر على أسنانه وهو يرد بغل " يفترض بكَ أن تحذرني دكتور صخر فأنا لا أترك حقي "
رفع صخر حاجبا بترفع وهو يرد باستفزاز " وأنا لا أحب أن أبخس الناس حقوقها فإن كان لكَ عندي حق تعالَ وخذه "
قطب تامر يقول بغيظ مكبوت " ستندم عما قريب وستدفع الثمن غاليا.. هذا وعد مني "
رمقه صخر بنظرة مستخفة شملته باستهانة وهو يقول بلامبالاة " سأكون في الجوار أترقب.. فقط لا تتأخر فأنا لا أحب الإنتظار طويلًا "
ثم رفع اصبعيه السبابة والابهام إلى جانب رأسه بينما قبض على البقية وهو يشير له بتحية تشبه تحية الكشافة قائلا باستفزاز " سلام "
***

بعد بضعة أيام / صباحًا
كان أنس مستمتعا كالعادة بمناكفة شمس التي تتذمر عليه في البداية لكنها لا تلبث أن تطلق العنان لضحكاتها الراضية المرحة
كان أكرم يراقبهما بعين الأب الحنون السعيد من تلك العلاقة الوثيقة والفريدة التي تربط بين أنس وشمس رغم اختلاف أميهما
بينما مروة كانت تميد غيظاً من ابنها وحقداً على شمس، صحيح أن الفتاة لم تفعل يوماً ما يزعجها منها أو ما يغضبها لكنها لا تشعر ناحيتها بأي عاطفة إلا الحقد والقهر
لا يمكنها تناسي أن أكرم تزوج عليها ذات يوم وأحب زوجته الأخرى أكثر منها بل للحق إنه لم يحبها يوماً بتلك العاطفة التي تتولد بين الرجل وزوجته وإنما كان يبذل قصارى جهده ليعاملها بود ورحمة ليس أكثر
وهي مع انشغالها بالاجتماعات السخيفة التي تقيمها مع صاحباتها في النادي لم تجد الوقت لتحاول رأب الصدع في علاقتها بزوجها أو التفكير في حل لتلك الخلافات التي لا تنتهي بينهما
كان جلّ همها أن تظل بصورتها المنمقة كسيدة مجتمع مخملي راقي، تبذل الكثير للحفاظ على تلك الصورة أمام الجميع ولو كلفها هذا إهمال أسرتها لبعض الوقت بل لكثير من الوقت لكنها لا تبالي سوا بمظهرها
وفي سبيل الحفاظ على هذا المظهر المنمق هدمت الكثير من الروابط كان أولها علاقة الود بينها وبين زوجها فلم يعد أكرم يهتم بغضبها منه ولا يسعى لمراضاتها ولو لأجل صلة الدم والرحم التي تربط بينهما كما كان يفعل في السابق
كما هدمت العلاقة بينها وبين ابنها الوحيد، تلك العلاقة التي لم تكن يوماً من الأساس فهي وإن كانت تهتم به أحياناً فهذا لأنه يعد ولي العهد والوريث الوحيد لأكرم الباسل رجل الأعمال الثري ذا النسب والجاه أما دون ذلك فهي لا تهتم أبداً بل إنها كانت منزعجة منه منذ ولادته كونه سلبها الكثير من الوقت أثناء الحمل كان من الممكن استغلاله في عمل أكثر نفعاً من وجهة نظرها
ولم تفلت تلك المسكينة شمس منها بل كان لها الحظ الوافر من نقمتها وصب جام غضبها عليها كلما ازعجها أكرم أو أنس فلم تكن تجد لها منفذا لتفرغ فيه غضبها سوا شمس
وكم تحملت شمس منذ وعت على الحياة من تلك المرأة البغيضة دون شكوى أو تذمر، كان يكفيها حضن أبيها لتنسى يوماً كاملاً استغرقته في البكاء نتيجة لضرب مروة لها، أو ابتسامة صادقة وتربيته حانية من أنس لينجلي همها وحزنها وتشع روحها بالسعادة
تنحنح أكرم قليلاً مخرجاً نفسه من أفكاره وهو يقول بابتسامة هادئة " أتتك دعوة لحضور حفل زفاف يا شمس "
نظرت شمس إلى والدها مقطبة بحيرة تقول " دعوة، لي أنا!.. مِمَنَ؟ "
اتسعت ابتسامته أكثر وهو يرد بمكر " إنها مفاجأة "
ضيقت شمس عينيها وهي تقول " أشعر أنك تخفي عني أمر خطير بابا .. مفاجآتك دوماً تصدمني "
ضحك أكرم متسلياً وهو يرد " الأمر مختلف هذه المرة لكن بصراحة معكِ حق سوف أصدمك "
زمت شمس شفتيها وهي تتمتم بعبوس " رائع "
سأل أنس بجدية " ممن تلك الدعوة يا أبي؟ أنا لم اسمع عن حفل زفاف أياً من اقاربنا أو معارفنا حتى "
كانت مروة هي الأخرى تتابع الحديث بترقب واهتمام حتى أجاب أكرم ببساطة " هذا لأن الدعوة ليست من أياً من اقاربنا أو معارفنا "
عقد أنس حاجبيه بانزعاج من مماطلة والده بينما هتفت مروة بنفاذ صبر " ما هذا يا أكرم؟ لغز! لما لا تقل من قدم تلك الدعوة حتى ننتهي؟ "
رفع أكرم حاجبيه ببرود وهو يرد " الدعوة مقدمة لشمس لذا فهي وحدها من لها الحق بالسؤال عن هوية المرسل ولا أحد... آخر "
تشديده على الكلمة الأخيرة اشعرها بالحرج والإهانة مما جعلها تنهض مغادرة الغرفة وهي تتمتم بغضب وتسب شمس في نفسها
نظرت شمس إلى والدها بلوم وهي تقول " ألم نتفق يا بابا؟ "
نظر لها أكرم ببراءة مصطنعة وهو يسألها " نتفق! على أي شيء اتفقنا؟ "
قطبت شمس وهي تشيح بوجهها عنه في يأس متمتمة " لا أمل أبداً في تغيير شخصية السيد العظيم أكرم الباسل "
تجاهل أكرم ردها وابتسم يقول " حفل الزفاف سيقام غداً بإذن الله لكنك ستذهبين اليوم "
عادت شمس تنظر إلى والدها بحيرة بالغة وهي تقول " أذهب إلى أين بالضبط؟ "
رد أكرم بهدوء " إلى حيث سيقام حفل الزفاف "
قطبت شمس بغيظ وهي تسأله " وأين سيقام هذا الحفل الغريب؟ "
ابتسم أكرم باستفزاز وهو يجيبها " إنه جزء من المفاجئة لذا لن استطيع الإفصاح لكِ عن المكان "
عبست شمس وهي تعقد ساعديها أمام صدرها بينما تقول " لن أذهب فلست في مزاج لحضور أي حفل "
غمز أكرم بطرف عينه بمرح وهو يقول " ألم أخبركِ الأمر مختلف هذه المرة .. أنا على تمام الثقة بأنكِ ستستمتعين كثيراً وبالمناسبة... (قطع حديثه وهو ينظر إلى أنس بهدوء ثم تابع موجهاً حديثه لشمس) لن يرافقك سوا أنس وحده "
رمشت شمس بذهول وهي تقول " لماذا؟ ألست مدعواً أنت وعمتي مروة أيضاً؟ "
رد أكرم بهدوء " بلى أتتنا دعوة أيضاً لكن أنتِ وأنس فقط من ستذهبان فأنا مشغول وعمتك مروة... (ابتسم ساخراً ثم تابع) لا أظن أجواء ذاك الحفل ستنال إعجابها ولا أريد إفساد الأمر عليكِ بكثرة تذمرها لذا لن نذهب معكما "
نهض أكرم من كرسيه واقترب منها مقبلا وجنتها برقة وهو يقول بحنان " سأغادر الآن لعملي حتى لا اتأخر.. استمتعي حبيبتي قدر ما تستطيعين.. سأشتاق إليكِ "
بعدها التفت أكرم إلى أنس واقترب منه بهدوء وعلى نحو مفاجئ انحنى أكرم قليلاً وقبل جبين أنس الذي تجمد في مكانه من وقع المفاجئة وهو يسمع والده يقول " انتبه لأختك ولا تغفل عنها لحظة يا أنس وحاول أن تستمتع بالأمر فهو جديد عليك.. سأشتاق إليك... كثيراً يا أنس "
والده نطق إسمه ' أنس ' مرتين، مرة بتحذير وحزم أبوي تام ومرة بحنان معهود منه لكنه شعر به بفيض عليه بحنانه تلك المرة أكثر وهذا أثر فيه بشكل خاص
قبل أن يرد أنس بكلمة كان والده قد ابتعد بعدما ربت على كتفه قائلاً " هاتفني بعد ساعة هناك ما أريد اخبارك به "
اومأ بالموافقة لكن والده كان قد غادر فلم يره فتنهد بعمق وهو يتمتم بشجن " رُحماك يا رب "
نظرت له شمس بقلب مكلوم حزين عليه، أنس ذلك الشخص الفريد من نوعه رغم كل عيوبه ومساوئه لا ينسى لسانه ذكر الله في كل وقت
لم يتخلف مرة عن أداء صلاة في وقتها ولم يتكاسل يوماً عن القيام بأي فريضة لكنه ورغم ذلك متمسك بطريق الضياع الذي يسلكه راضياً به ليس راضياً عن نفسه
ابتسمت بمرح زائف حاولت به إجلاء القليل من الهم المسيطر عليهما وهي تقول " إذاً سنذهب أنا وأنت وحدنا.. أظنها ستكون مغامرتنا السرية الصغيرة "
ابتسم أنس بحنان وهو ينظر إليها قائلاً " هذا ما أظنه أنا الآخر يا شمسي "
هبت شمس من مكانها تقول بحماس " إذاً سأذهب لأرى ما سأحتاجه فعلى ما يبدو أننا سنبيت هناك الليلة نظراً لأن الحفل لازال في الغد "
اومأ أنس وهو يقول " حسناً اذهبي "
***

في المدينة الجبلية
كانت ترتيبات العرس تقام على قدم وساق الكل منشغل وملتفت إلى عمله بجد واهتمام كبير
ليس مسموح لأحد بالراحة خاصة وأن العروس المزعجة الطفولية إلى حد مغيظ تشرف على الترتيبات بنفسها والعمال أنفسهم يشعرون بالغيظ والحنق عليها
منذ ساعة باكرة من الصباح وهي تحوم من حولهم تهتف كل لحظة بتعديل على كل شيء يفعلونه
" لا أريد الزينة بهذا اللون بل أريدها وردية "
" بدلوا تلك المصابيح بأخرى فهذه لا تعجبني "
" لماذا لم تبدؤا حتى اللحظة؟ أسرعوا.. أنا أريد كل شيء جاهز قبل حلول المساء "
وحينما حاول أحدهم الاعتراض قائلاً " يا سيدتي لازالت الليلة الحناء والعرس سيقام في الغد فلما تلك العجلة التي لا أرى سبب لها؟ "
كان ردها الوحيد أن صرخت مستنكرة مما قال وهي تهتف بغيظ " لا دخل لك.. العرس اليوم أم في الغد أفعل ما اطلبه أنا دون نقاش .. هل أنت العروس أم أنا؟ "
عبس الرجل بحنق وهو يغمغم بما لم تسمعه زهراء فصرخت فيه بضيق " أجبني... هل أنتَ العروس أم أنا؟ "
زاد عبوس الرجل وهو يرد " أنتِ هي العروس سيدتي "
شمخت حينها زهراء بذقنها وهي تقول " إذاً أفعل ما تأمرك به العروس بصمت ودون نقاش وإلا... (نظر لها الرجل بترقب بينما هي برقت عينيها بمكر وهي تكمل جملتها) سأشكوك لعمي خالد "
انتفض الرجل بفزع وهو يقول بنبرة أقرب إلى التوسل " لا داعي لذلك سيدتي كل ما تأمرين به سيتم في الحال لا تشغلي نفسك بالأمر "
اومأت زهراء برأسها وهي تبتسم بنصر قائلة بخفوت قبل أن تخطو للداخل " جيد "
***

كان زيد يقبض على أصابعه بشدة ويكاد ينفجر غيظاً وهو يستمع إلى ابنة عمه الطفولية السخيفة بينما أبناء عمومته من حوله يكتمون ضحكاتهم بشق الأنفس حتى لا يثيرون غيظه أكثر
قال ياسين بتسلية " لقد اشفقت على الرجل المسكين حينما ذكرت اسم أبي .. كاد يموت من الفزع لولا لطف الله به "
انفجر الجميع في الضحك الشديد بينما صرخ زيد غاضباً " لولا خوفي من الله لكنت ذهبت إليها اللحظة وقطعت لسانها الطويل الذي تستخدمه في بث الخوف في نفوس الناس لكي تحقق رغباتها السخيفة "
صمتوا جميعاً في لحظة وكأن على رؤوسهم الطير بينما هو تابع كلامه " هل ترى عمي خالد وحش مخيف لهذه الدرجة؟ "
رد حمزة بهدوء " بل الرجل من يراه هكذا يا زيد .. هو من فزع وارتعب لمجرد ذكر اسمه أمامه "
ضيق زيد عينيه وهو يقول من بين أسنانه " هو ليس ظالماً سيد حمزة "
ارتفع حاجبي حمزة بتعجب وهو يرد " وهل قلت ذلك؟ كل ما قصدته أن زهراء استغلت اسمه لتضغط على الرجل لينفذ لها ما تريد "
اومأ عاصم برأسه وهو يؤكد كلام أخوه " حمزة معه حق .. الجميع يعلم من هو خالد الجبالي لذا يحسبون له ألف حساب وهذا ما دفع زهراء لذكر اسمه هو على وجه الخصوص دون آخر "
عبس زيد دون أن يعقب على كلامهم فتابع عاصم مناكفاً " لقد أصبحت تشبه عمي خالد في الصرامة وحدة الطباع .. أتعلم؟ يليق بك أن تكون ابنا له أكثر من عمي سليم "
التفت زيد جانباً ينظر إلى قاسم الذي يجلس متجهماً كالعادة ثم قال " أرى أن عمي خالد يكفيه ابن واحد حاد الطباع "
قال ياسين مازحا: " إذن واحد من نصيب أبي وآخر لعمي سليم فعلاً يا شباب القدر عادل إلى أبعد الحدود "
تأوه ياسين عندما ضربه قاسم على مؤخرة عنقه وهو يقول بخشونة " حسناً هيا بنا لنرى ما ينتظرنا من عمل ونعرف من هو عادل هذا يا ذا الظل الخفيف؟ "
دلك ياسين موضع الضربة وهو يلحق به متمتماً بغيظ " ادعوا لي يا شباب فقد تصيبني يد ذلك الجلف بعاهة فلا أتمكن من حضور العرس "
تبعته ضحكات حمزة الساخرة وهو يقول " بل قد يصيبك بعاهة مستديمة تجعل الفتيات تنفر منك فلا نجد عروس تقبل بك يا مسكين "
توقف ياسين عن سيره والتفت إلى أبناء عمومته ينظر لهم بهلع زائف وهو يقول " حقاً!.. "
لم يكد أحدهم يرد حتى أتاه صوت قاسم صارخاً من خلفه " ياسين "
استدار ياسين بسرعة يلحق بأخيه وهو يتمتم بغيظ وحنق " أراهن على أنهم استبدلوا أخي في المشفى بهذا الجلف .. ما كل هذا الحظ التعيس يا ربي أخ جلف وحبيبة حمقاء؟ هذا كثير جداً عليّ "
***

بعد بضعة ساعات
توقفت السيارة الفاخرة السوداء أمام دار الجبالي بتلك المدينة الجنوبية التي يغطي معظمها المساحات الخضراء التي تجعل منها روضة مبهجة للعين على خلاف أجواء العاصمة الصاخبة
ترجلت شمس من السيارة بهدوء وثقة لتقف بجوار أخيها أنس الذي أمسك بكفها مبتسماً بحماس وهو يقول " سعيد بأني سأشاركك في مغامرتك مع عائلتك الغامضة "
ابتسمت شمس برقة وهي ترد " ما كنت لأخوضها بدونك يا أنيس الروح "
لحظة صمت مرت بينهما وكل منهما يحاول استمداد قوته وطاقته من الاخر حتى قاطعهما صوت رجل ضخم ذو شارب كث، يرتدي جلباب قاتم اللون وعمامة بيضاء قائلا بنبرة ثقيلة تخص أهل الجنوب " كيف استطيع خدمتكم؟ "
رغماً عنها أجفلت من نبرته القوية، كل ما استطاعت فعله حينها أن تكتم تلك الشهقة التي كادت أن تفلت من بين شفتيها لكنها كرد فعل عفوي اختبأت خلف أنس فقط رأسها ما كان ظاهراً وهي تميله جانباً لتتمكن من رؤية الرجل غريب الهيئة بالنسبة لها
ضحك أنس من فعلتها الطفولية وهي تشدد على كفه الممسكة بها بينما يرد على الرجل بتهذيب " أهلاً يا عم .. هل هذه دار الحاج عبد الرحمن الجبالي؟ "
رمق الرجل شمس بنظرة جامدة غير راضية قبل أن يرد على أنس بنبرته الثقيلة " نعم هي .. من أنتم؟ "
ابتسم أنس بلطف وهو يرد " معنا دعوة خاصة من الحاج عبد الرحمن لحضور الحفل "
ردد الرجل ببطء ممتعض " الحفل! "
رفع أنس حاجبيه قليلاً وهو يعدل كلامه بنبرة تحمل الكثير من التسلية " أقصد لحضور عرس حفيديه "
ظل الرجل على امتعاضه منهما وهو يعيد سؤاله من جديد " لم تخبرني بعد... من أنتما؟ "
اتسعت ابتسامة أنس وهو يمد يده ليصافح الرجل وهو يقول بنفس نبرة التسلية " أنا أنس "
رمق الرجل كف أنس ببرود ثم عاد ورفع بصره إليه وهو يقول " من أنس؟ .. لم أفهم "
اغتاظت شمس من نبرة الرجل المستخفة بأخيها فهبت من خلف أنس تصيح " حقاً لا تعرف من هو أنس الباسل؟ "
نظر لها الرجل ببرود وهو يرد " لا.. لا أعرف من هو (وشدد على اسم أنس باستخفاف) أنس الباسل؟ "
رفعت شمس حاجباً بترفع وهي تتخصر أمام الرجل بثقة بينما تقول " إذن يشرفني أن أخبرك من هو أنس الباسل؟.. (ثم نظرت إلى أخيها بفخر وهي تقول) أنس أكرم الباسل أصغر واوسم رجل أعمال قد تقابله في حياتك هذا خلاف أنه... (قطعت كلامها وهي تنظر إلى الرجل بغيظ بينما تتابع) يكون أخي وأنا أكون... شمس أكرم الباسل ابنة السيدة رقية عبد الرحمن الجبالي "
فغر الرجل فاهه بصدمة وتبلدت ملامحه بغباء للحظات ثم هتف بصياح مرحب اجفلها " كنا ننتظرك منذ وقت طويل .. شرفت البلدة بأكملها وأنرتِ داركِ ودار أمك .. أهلاً وسهلاً بالغالية ابنة الغالية ابنة الغاليين "
رمشت شمس بذهول وهي تنظر له وكأنه مجنون من سرعة تبدل حاله ثم نظرت إلى أخيها بطرف عينها لتجده يكتم ضحكته بتسلية فعادة ببصرها إلى الرجل الذي تابع صياحه المرحب " تعالِ يا ابنتي لما تقفين عندك؟ .. أدخلي داركِ فالجميع في إنتظارك بالداخل "
ظلت شمس تطالعه بذهول وهي تقول بتمتمة خافتة متذمرة " الآن ابنتك وماذا عن العرض المسرحي والعبوس الذي لاقيتنا به منذ لحظات؟ "
سمعها الرجل فتبسم بحرج يقول " لا تؤاخذيني يا ابنتي .. من لا يعرفك طبيعي أن يجهلك وأنتِ لم تزوري عائلة أمك من قبل حتى نراك ونتعرف عليكِ "
شعرت شمس في تلك اللحظة بالحنين والشجن لتلك العائلة التي ظهرت لها فجأة من العدم
ابتسمت برقتها المعهودة وهي تقول " حسناً يا عم... (نظرت له بأدب وهي تسأله) ما إسمك عماه؟ "
ابتسم الرجل وهو يرد بلطف " إسمي ابراهيم "
اومأت برأسها بخفة وهي تقول برقة وأدب " حسناً يا عم إبراهيم لا بأس .. يمكننا أن نتجاهل ما حدث في بداية لقائنا وكأنه لم يكن والآن هل تسمح لنا بالدخول حتى ألتقي بعائلة ماما؟ "
اومأ الرجل برأسه بقوة وهو يرد عليها ماداً ذراعه أمامها وهو يقول " بالطبع تفضلا بالدخول .. من أنا لتأخذي الأذن مني يا ابنتي؟ .. تفضلي إلى داركِ أنرتِ وشرفت .. والله سعادتي لا تسعها الدنيا .. يا أهلاً وسهلاً وألف مرحباً بكِ "
كاد أنس ينفجر ضاحكاً من ترحيب الرجل المبالغ فيه لكن شمس حدجته بنظرة مهددة صارمة ألا يفعل حتى لا يحرج الرجل بينما هما يسيران خلفه ممسكين بأيدي بعضهما كطفلين صغيرين يخشيان الضياع من بعضهما
كانت شمس تتأمل ما حولها بابتسامة رقيقة وهي تطالع الزينة التي يعلقها العمال بنظام دقيق وحرص
اعجبتها الحديقة الواسعة الملحقة بالدار والتي ملأتها المصابيح الملونة والزينة هكذا لكنها لم تستطع تأمل ورؤية كل شيء حينما سمعت صوت العم إبراهيم من أمامها يقول " يا أهلاً وسهلاً .. سيسعد الحاج عبد الرحمن كثيراً حينما يراك "
ابتسمت شمس بصمت دون تعقيب وهي تصعد درجات السلم القليلة خلفه لكنه توقف فجأة فاجبرها هي الأخرى على التوقف وهكذا أنس
نظر إبراهيم إلى أنس وقال ببرود " عرفت من النظرة الأولى أنكَ لا تنتمي لعائلة الجبالي "
رفع أنس حاجباً بمناكفة وهو يقول " نبرتك معي عدائية دون سبب يا عم .. لعلمك وللمرة الثانية أنا اخوها .. ألا نصيب لي في الترحيب أنا الآخر؟ "
تمتم إبراهيم وهو يستدير مكملاً طريقه " استغفر الله العظيم "
كاد أنس أن ينفجر غيظاً منه لكنه صمت متنازلا لأجل شمس حتى لا يفسد عليها بهجتها الظاهرة على وجهها
***

حينما دخلت شمس بصحبة أنس إلى ذلك المجلس الفسيح كان كما قال لها العم إبراهيم تماما، الجميع في انتظارها أو بدقة أكثر كانت الأغلبية في انتظارها
الكل يطالعها بترقب وصمت، يتأملونها بتركيز من رأسها حتى أخمص قدميها
حتى أنس لم يستثنوه من نظراتهم المتفحصة مما أشعره بتوتر لا يستسيغه وكاد يتكلم منهياً لحظات الصمت المربك له لكن شمس سبقته وقد شعرت بتوتره من خلال تشنج يده التي لازالت مبقية على كفها بقبضة من حديد وكأنه يخشى أن يسرقها أحد منه
ابتسمت شمس وهي تقول مناكفة الجميع " كل هذا الجمع في انتظاري .. لا أصدق .. هكذا سأغتر كثيراً "
ابتسموا جميعاً في صمت عدا صوت عبد الرحمن الذي صدح بنبرته الثقيلة القوية والتي لم تخفضها أو تهزها مرور السنوات وتقدم العمر " تعالِ يا ابنة رقية .. اقتربي "
بدى واضحًا في أول الأمر أن لا نية لأنس بترك يدها لكن حينما رمقته بابتسامة مطمئنة تنهد باستسلام وافلت كفها على مضض
اقتربت شمس من الكرسي الوثير في صدر المجلس حيث جلس جدها للتو
بدت مرتبكة لا تعرف ما يتوجب عليها فعله حتى اهتدت بنفسها إلى أن أول ما قد تفعله هو أن تقبله وتسلم عليه
دنت شمس من جدها ومالت عليه تقبل وجنته برقة فأجفلتها الشهقات المكتومة التي انبعثت من خلفها فاعتدلت بسرعة وهي تتلفت حولها تحاول أن تعرف هل ما فعلته خطأ أم ماذا؟
وجدت النساء والفتيات ينظرن إليها بصدمة واستنكار عدا امرأة شابة ذات عينين واسعتين بلون العسل كانت تبتسم لها بلطف لكنها لم تطمئن فنظرت إلى أنس لكي تفهم منه ما يحدث فأومأ لها أنه مثلها بالضبط لا يفهم شيء
سألت شمس بتوتر " هل... هل فعلت شيء خاطئ؟ "
حينها اقترب منها رجل وسيم يبدو أنه أصغر من والدها ببضعة سنوات ، كان بشوش المحيا سمح الوجه ذو لحية خفيفة ، ما إن تنظر إليه حتى تشعر بالسلام النفسي والسكينة
بادرها الرجل الوقور بالقول المرحب الودود " لا أظن فتاة حلوة مثلك قد تفعل خطأ أبداً رغم أنكِ غير معصومة .. مرحباً بالغالية من تحمل رائحة أمها الطيبة "
رفعت شمس حاجبيها بذهول وهي تنظر له وقبل أن تتدارك ذهولها كان يغمرها بعناق طويل حاني وهو يربت على ظهرها قائلاً " وكأنني أرى رقية أمامي رغم اختلاف الملامح .. أنرتِ داركِ يا ابنة الباسل "
ابعدها عنه بلطف وهو يشير إلى جدها قائلاً بمزاح لطيف " أنتِ الفتاة الوحيدة بعد أمك التي تقبل عبد الرحمن الجبالي بهذه الطريقة .. حظيت بشرف كبير "
ابتسمت شمس بخجل وهي تقول " وكيف تسلم باقي الفتيات على جدي؟ "
رد سليم ببساطة " تقبلن يده "
لمحة استنكار ومضت في عينيها لم تخطئها عيني سليم الذي تبسم بإتساع مكملاً كلامه " أو تلثمن على كتفه "
اعتلى ملامحها عبوس طفيف فضحك سليم قائلاً بمناكفة " هذه عادة لا تسير عليكِ يا ابنة رقية فافعلي ما يرضيك "
ابتسمت شمس ابتسامة واسعة وهي تستدير إلى جدها وتميل عليه فتقبله على وجنته الأخرى وهي تقول برقة " أنا سعيدة جداً برؤيتك أخيراً يا جدي "
رد عبد الرحمن بصوت متباعد " وأين كنتِ منذ سنوات مضت يا ابنة رقية؟ هل منعك أحد عنا؟ "
رمشت شمس لوهلة وهي تطرق برأسها بينما تقول بحزن " بالطبع لا .. أنا آسفة يا جدي الذنب ذنبي وحدي "
قال عبد الرحمن بصوت هادئ " لكنك هنا "
رفعت رأسها بحماس وهي تنظر إليه قائلة " أجل يا جدي... أنا هنا .. أردت أن أتعرف على عائلة ماما واعرفهم بنفسي "
قال عبد الرحمن مقطبا " إنها عائلتك "
فطنت شمس إلى مقصده فردت بهدوء " بالطبع يا جدي كوني باسلة لا يمنع أن عائلة ماما هي عائلتي... (وشددت على كلمتها الأخيرة) الثانية "
ابتسم سليم بإعجاب وهو يقول برضا في نفسه " لم تمنحك ما أردت يا أبي .. الفتاة ذكية .. نسخة مطابقة لأكرم الباسل .. صدق من قال أن من أنجب لم يمت "
تقدمت شمس بعفوية من رجل آخر كان يقف إلى جوار كرسي جدها ، رجل في منتصف العقد الخامس ذو ملامح صلبة وعينين تفيضان بالحنان ، كان متناقض في ذاته لكن هذا هو خالد الجبالي ، الشيء وضده معاً
نظر لها بهدوء تام وانتظر بترقب أن تكون هي المبادرة بالسلام
شعرت شمس بشعور خاص اتجاهه ودون وعي منها ارتمت بين ذراعيه تعانقه بقوة وهي تقول " شكراً خالي "
كان دور خالد ليشعر بالذهول والتعجب منها فقال بحيرة ، متسائلاً بنبرته القوية الشبيهة بنبرة جدها رغم خفوت صوته " على أي شيء تشكرينني؟ "
شددت شمس من طوق ذراعيها حول عنقه وهي تقول بهمس " لأنك السبب في زواج بابا وماما .. شكراً خالي "
لم يستطع منع نفسه من الرد بصوت يحمل الشجن والوجع رغم قوته " لم يكلفني اصراري على إتمام هذا الزواج سوا قطيعة دائمة بيني وبين أختي حتى... حتى رحلت قبل أن نتصافى ونعود كما سابق عهدنا فعلى أي شيء تشكرينني؟ "
أبعدت شمس نفسها عنه قليلاً فهالها رؤية بريق الدموع في عينيه فقالت بهمس متحشرج وهي على وشك البكاء تأثرا " إنها إرادة القدر يا خالي.. مشيئة الله.. ولعلمك ماما رحمها الله ظلت تذكركم جميعاً حتى آخر لحظة في حياتها.. هي لم تنساكم أبداً.. كانت فقط غاضبة مما حدث لكنها لم تنساكم فلا يمكن أن تنسى الابنة عائلتها وأهلها مهما حدثت بينهم من مشاحنات.. أليس كذلك؟ "
ربت سليم على رأسها وهو يقول بشجن " نعم الابنة لا تنسى عائلتها وأهلها مهما حدث بدليل أنكِ هنا "
رفعت شمس رأسها حتى تتمكن من النظر إليه وهي تقول برقة " نعم أنا هنا يا خالي "
أتاها صوت جدها من الخلف بنبرة غريبة لم تستطع تفسيرها هل هو غاضب أم حزين " لكنك سترحلين .. في الغد أو بعد غد سترحلين ولن تبقي هنا "
نهضت شمس من مكانها والتفتت إلى جدها مقتربة منه وهي ترد ببساطة " مكان الفتاة بيت أبيها حتى يحين موعدها فترحل إلى بيت زوجها أو إلى قبرها "
أجفلتها شهقات الفزع والاستنكار التي انبعثت من خلفها لكنها لم تستسلم وتابعت " هنا عائلة ماما .. أهلها وأصلها وعائلتها وبالتالي هنا جزء منها وما كنت لأترك جزء من ماما يظل غريباً عني (ابتسمت بلطف وهي تكمل) حتى لو رحلت في الغد أو بعد الغد سأعود من جديد "
أشاح جدها بوجهه عنها وكأنه يأبى أن ترى التأثر في عينيه فجثت على ركبتيها أمامه وامسكت بكفه وهي تقول بصوت رقيق " أجل سأعود يا جدي .. سأعود لأجلك ولأجل خالي خالد وخالي سليم ولأجل أبناء أخوالي الذين لم ألتقيهم بعد (ابتسمت بمرح وهي تتابع) وسأعود لأجل العم إبراهيم رغم أن بروده مع أخي أنس يزعجني "
تنهدت بعمق حينما رمقها جدها بنظرة صلبة وكأنه يجبر نفسه على تكذيبها حتى لا يؤلمه رحيلها هي الأخرى كما آلمه رحيل أمها من قبل وللأبد
لكن شمس وقد فهمت نظرته تلك ما كانت لتتركه دون أن تعيد له الأمل من جديد وإلا فما الفائدة من مجيئها إلى هنا ، لابد أن تحقق الغاية التي أرسلها والدها إليها ، لن تقبل بالهزيمة أبداً بل ستخرج من معركتها منتصرة كما تحب
نظرت إلى جدها وهي تبتسم بينما تقول " سيعيدني الحنين إليكم حينما أرحل عنكم .. ما كنت لأترك شرف القرب من عائلة الجبالي فأنا لست حمقاء لأفعل هذا وقد أحببت وجودي هنا منذ اللحظة الأولى .. صدقني يا جدي أشعر وكأني كنت في رحلة طويلة وأخيراً عدت إلى بيتي ومأواي ولا ينقصني سوا ماما فحسب ليصبح كل شيء بالنسبة لي مكتملاً... "
قاطعها صوت أنس وهو يصيح " كفى يا شمس اقسم بالله كلمة أخرى وسوف يغرق المكان في بحر من الدموع "
إلتفتت مبتسمة إلى أخيها تظنه يمزح لكن صدمها رؤية الجميع يبكون حتى هو كانت الدموع تلتمع في عينيه بشدة
صمتت لحظة ثم اثنتين وبعدها انفجرت في الضحك الذي شاركها فيه أنس تحت نظرات الذهول من الجميع
***

بعد ساعتين
كان الليل قد حل وأوشكت ترتيبات حفل الحناء أن تكتمل وكانت شمس تجلس في غرفة واسعة جداً في الطابق الأول من الدار الضخمة
غرفة اتخذتها النساء والفتيات كمجلس خاص بهن دون الرجال
كانت شمس تراقب بحماس انشغال بعض النسوة في تجهيز الأدوات التي سيستخدمونها في رسم الحناء للعروس وللمقربات منها إن أردن
بينما بعض الفتيات كن منشغلات بتحضير الأغاني التي سيشغلونها بعد قليل وهن يهمسن ببعض الكلمات للعروس بصوت خافت على سبيل المزاح لكن يبدو أنها لم تكن بريئة تماماً خاصة مع تورد وجه العروس الشديد
كانت تحاول أن تشغل نفسها عن التفكير في تلك الأخبار الأليمة التي علمتها من خالها خالد منذ قليل
تشعر بالحزن والشفقة على جدها منذ علمت بأنه فقدَ أربعة من أبنائه في حياته خلال وقت قصير ، بدأ الأمر بأمها وتلاه موت خاليها التوأمين 'محمد ، محمود' منذ عشر سنوات خلال نشوب نيران الثأر القديم بين عائلة الجبالي وعائلة الناصر ثم وفاة خالها 'مختار' لاحقاً بهما بعد عام واحد
تنهدت شمس بشجن وهي تتأمل العروس... 'زهراء' الابنة الثانية لخالها محمود
شابة في منتصف العشرينات ، طفولية جداً ، تهيم عشقا بالرسم والألوان ويعد ذلك بمثابة معشوقها الأول
ذات جمال هادئ ببشرتها البيضاء، وعينيها البنتين كفنجاني قهوة عميقين، وشعرها الناعم ذو اللون البني الذي يوازي عينيها قتامة ، حالمة وتمثل الفتاة الوردية عن جدارة وهذا أكثر ما يغيظ الجميع منها
ابتسمت شمس لها بلطف حينما تلاقت نظراتهما للحظة قبل أن تعود زهراء وتنشغل بالتهامس مع الفتيات من حولها
تلفتت شمس تتأمل ما حولها بحماس في تجربة جديدة عليها حتى وجدت في ركن قصي من الغرفة امرأة تجلس هناك تضاحك ابنتها الصغيرة
تلك المرأة كانت... 'حفصة' الابنة الكبرى لخالها محمود
شابة جميلة محجبة في أواخر العشرينيات ذات بشرة بيضاء وعينين واسعتين كبركتي من العسل الصافي وشعرها بني كما يبدو بتلك الخصلة التي فلتت من الحجاب دون أن تشعر
طيبة للغاية وحلوة المعشر ما إن تبتسم لك حتى تشعر وكأن الشمس قد سطعت بعد ظلام ليل موحش طويل
أما طفلتها الصغيرة... 'حلا' فيبدو أنها مصيبة صغيرة من مصائب الزمن
طفلة شقية للغاية بضحكتها الماكرة التي تفوق سنوات عمرها الخمس ، جميلة ببشرتها الخمرية وعينيها الخضراواتين وشعرها الأشقر مما يجعلها بعيدة الشبه تماما عن والدتها
انطلقت ضحكات حلا بشقاوة أكبر وهي تهرب من أمها راكضة نحو شابة أخرى رفعتها عالياً على طول ذراعها وهي تعبس في وجهها وعلى ما يبدو أنها تعنفها على شيء ما فتسبل حلا جفنيها ببراءة زائفة لم تصدقها تلك الشابة أبداً وقد ابتسمت لها ساخرة وهي مستمرة في الكلام معها
تلك الشابة هي... 'حياة' الابنة الكبرى لخالها محمد
تماثل حفصة في العمر وتختلف عنها قليلاً في الطباع، الاثنتين مقربتين جداً من بعضهما وكأنهما أختين
شابة مليحة الملامح ذات عينين بندقيتين مميزتين وبشرة خمرية أما أكثر ما يميزها هو شعرها ذو المزيج المختلف من اللونين البني القاتم والعسلي
رغم عبوسها الطفيف أحياناً وصرامتها حيناً آخر إلا إنها تملك نظرة حانية تدخرها لتطمئنك بها بدنو الفرج في أكثر اللحظات العسيرة التي قد تمر بها
كادت شمس أن تنهض من مكانها وتذهب إليهما لتشاكس الصغيرة حلا حينما وقعت عينيها على فتاة تتمايل راقصة على لحن ما ، كانت تسمعه بواسطة تلك السماعات الصغيرة المثبتة في اذنيها
ولم تكن تلك الفتاة المدللة سوا... 'ملك' الابنة الثانية خالها محمد
فتاة في الرابعة والعشرين تماثلها في العمر، جميلة ، بريئة الملامح ذات عينين بنيتين فاتحين وتمتلك نفس لون شعر أختها حياة لكنها ذات بشرة بيضاء
لا تعلم شمس لماذا لم تشعر بالراحة نحوها كما شعرت اتجاه الشابات الثلاث الأخريات؟..
شيء في نظرة ملك الناعسة وبراءة ملامحها تشعر شمس أنه زائف أو ربما هي باختصار كما وصفتها أختها حياة 'ملك فتاة مخادعة تجيد استخدام ما تملك لتحصل على ما تريد'
تلفتت شمس حولها فجأة تبحث عن آخر الفتيات في العائلة لكنها لم تجدها
فقطبت تفكر أين يمكن أن تكون تلك المشاكسة؟
ابتسمت وهي تتذكر العفوية والبساطة التي تعاملت بها ابنة خالها خالد معها وكأنها تعرفها منذ سنوات طوال
'فرح'... إسم يليق بصاحبته كثيراً بل لا يليق بها سواه
أتمت اليوم الثانية والعشرين من عمرها وتصر على الاحتفال بعيد مولدها إلى جانب حفل الحناء الخاص بزهراء
تحب العفوية والبساطة جداً ولا تميل لأي تعقيد ، مرحة الروح وخفيفة الظل
جميلة ذات بشرة خمرية وعينين بنيتين وشعر ذو لفائف بنية ناعمة
اتسعت ابتسامة شمس حينما دخلت فرح تصيح بمرحها الحلو " لقد أتيت يا أهل الدار هل شعرت إحداكن بالوحشة في غيابي خلال تلك الدقائق التي مضت؟ "
وجدت شمس نفسها تصيح بمرح مشابه " أنا كدت أبكي وأنا أبحث عنكِ دون أن أجدك ماما "
ضحكت النسوة عليهما بينما قالت حياة بمرح ساخر " لا مزيد من البكاء اليوم وإلا ستطردنا زهراء جميعاً فهي لا تحب الكآبة لذا فلتدخر كل واحدة منكما دموعها الغزيرة لوقت لاحق (ثم رفعت كفيها وهي تضيف) اللهم قد بلغت "
ضحكت شمس بعفوية وهي تشعر بينهن بالسكينة والسعادة وكأنها تعرفهن منذ زمن بعيد ليس منذ سويعات قليلة
أشارت لها فرح وهي تقول " هناك شاب يبحث عنكِ في الخارج .. اشفقت عليه وهو يتلفت حوله كالمجاذيب فقررت مساعدته في ايجادك وها أنا وجدتك الحمد لله فاذهبي إليه قبل أن تأكله رجال عائلتنا "
عبست شمس وهي ترد وقد عرفت أن فرح تقصد أنس فهي لا تعرف شاب سواه هنا قد يبحث عنها " لعلمك آنسة فرح أخي ليس مجذوب ولن يستطيع أحد أكله فهو ليس فتى صغير إنه شاب قوي "
ضحكت فرح وهي تقول مناكفة " حقاً! عجيبة والله .. حينما رأيته من بعيد وللوهلة الأولى ظننتني أنا الشاب ليس هو .. صدقيني سيأكلونه... ومعهم حق "
كتمت شمس ضحكتها بقوة وهي ترمق فرح ببرود زائف بينما تمر من جانبها قائلة " معهم حق أم إنهم متوحشون؟ "
كانت قد وصلت إلى الباب وفتحته كي تخرج في اللحظة التي قالت فرح بمناكفة " ومن يرى الحلو ولا يأكله؟ "
خرجت شمس بسرعة صافقة الباب خلفها قبل أن تنفجر ضاحكة وهي تقول " والله مجنونة ويبدو أن جزءًا من عقلها مفقود... (تلفتت حولها قليلاً وهي تتابع حديثها) وأين ذاك الحلو الآخر؟ .. أين ذهبت أنس؟ "
***

بعد قليل من البحث استطاعت شمس أن تجده في الحديقة الخلفية ، كان يقف شارداً بعدما يأس من ايجادها على ما يبدو على ملامحه الكئيبة
اقتربت منه وهي تناديه بابتسامتها الهادئة " ها قد وجدت حبيبي أخيراً "
انتشله صوتها من غياهب جب كاد يقع فيه في صحوه كما الحال معه في منامه
التفت لها بسرعة لم تتداركها ليضمها إلى صدره ويغمرها في عناق طويل بينما أخذ يتمتم " فيما انشغلت ونسيتني يا شمس؟ كدت أموت اختناقا وأنا لا أجدك من حولي "
شددت من طوق ذراعيها من حوله وهي تربت على ظهره بحنان بينما تتمتم برقة " أبعد الله عنك كل شر قد يصيبك يا حبيبي .. آسفة لأنني انشغلت عنك "
سكت أنس للحظات ثم حررها قليلاً وهو يقول بصوت هادئ " لم يتبقى على الحفل سوا ساعة على أقصى حد كما قال خالك "
اومأت برأسها دون رد فتابع هو ببعض التعجب والحيرة " الدار ممتلئة عن آخرها وكأن المدينة بأكملها هنا .. أكاد لا أجد مكان أقف فيه باتزان حتى "
ضحكت شمس من طرفته دون أن تعقب بينما تنهد أنس مضيفاً " خالك سليم أقترح عليّ أن أشارك أحد الشباب في المبيت بغرفته لأن غرف الضيوف مكتظة بأناس لا عدد لهم ما شاء الله "
استمرت شمس في الضحك وهي تقول " لم أتصور أنا الأخرى أن تكون عائلة ماما كثيرة العدد هكذا .. لكن لا بأس نحن مضطران لتقبل الوضع كما هو حالياً حتى ينقضي العرس على خير "
اومأ أنس برأسه مفكراً للحظات ثم سألها " وأنتِ أين ستبيتين؟ "
ابتسمت شمس وهي ترد " أنا لم يقترح أحد عليّ مشاركته غرفته لكنني سأشارك تلك المزعجة فرح رغماً عنها "
قطب أنس سائلاً " من فرح؟ "
ردت شمس بمكر " تلك الفتاة التي وجدتك وأنت تبحث عني كالمجاذيب فأشفقت عليك وقررت أن تساعدك "
رفع أنس حاجبيه بتعجب وهو يقول " كالمجاذيب! أنا؟ وهي أشفقت عليّ.. (ابتسم بإمتنان زائف وهو يقول) يا الله ما ألطفها .. كم أنا ممتن لها "
ضحكت شمس وهي تقول " وأخبرتني أن عليّ اللحاق بك قبل أن تأكلك رجال العائلة "
رفع حاجباً بذهول للحظة ثم عبس وهو يرد من بين أسنانه " معها حق فأنا أبدو كبسكوتة أليس كذلك؟ "
قهقهت شمس عالياً وهي ترد " لا تقل عن نفسك هذا أنت أحلى من البسكويت "
زمجر أنس غاضباً فكتمت ضحكتها وهي تقف أمامه بملامح بريئة تتمتم بخفوت " آسفة "
رد عابساً " حسناً تعالِ معي لنبحث عن تلك الغرفة التي سأبيت فيها فأنا بحاجة لحمام بارد ينعشني "
اومأت شمس برأسها وهي تؤيده " وأنا الأخرى .. سأحضر ملابسي وألحق بك .. انتظرني عند الدرج الداخلي "
ثم أنهت جملتها وتركته مهرولة للداخل
***

بعد بضعة دقائق
كانت شمس تجلس على طرف فراش ضخم في غرفة أحد أبناء أخوالها بينما أنس في الحمام وصوته يصلها من الداخل " لا تعبثي بالأغراض الموجودة في الغرفة يا شمس "
صاحت بأدب " حاضر "
بعد لحظات قليلة أتاها صوته من جديد يقول بمرح ساخر " ما رأيك في الغرفة؟ أليست خيالية؟ "
دارت حدقتيها في الغرفة وفهمت قصده حيث أن الغرفة بأثاثها وكل ما فيها عبارة عن قطعة من الفحم الأسود
صاحت بصوت عالٍ ليصل إليه بنفس مرحة الساخر " بلى إنها جميلة .. أشعر فيها بالدفء وكأنها غرفتي تماماً "
ضحك أنس متهكما وهو يقول " هنيئاً لكِ بها إذاً فقد قررت ألا أبقى فيها لدقيقة إضافية "
صاحت شمس ساخرة " والله وماذا تفعل إذاً حتى اللحظة؟ "
صاح أنس " استحم .. ألا ترين؟ "
هتفت شمس برجاء رقيق " ألم تنتهي بعد؟ أرجوك أنس أسرع قليلاً هكذا سنتأخر عليهم وأنا لا أريد تفويت أي لحظة من الحفل "
هتف أنس ضاحكاً " حسناً ابدئي العد حتى عشرة وستجديني أمامك ما إن تنتهين "
صاحت شمس عالياً " حسناً لقد بدأت .. واحد .. اثنان .. ثلاثة... "
بعد بضعة دقائق خرج أنس من الحمام وهو يدندن بلحن ما لكنه توقف حينما وقعت عينيه على شمس
كانت مختلفة قليلاً عما كانت، أقل ما قد يقال عنها أنها جميلة
كانت ترتدي عباءة من اللون الزهري ذات خيوط فضية تزين حواف الأكمام الواسعة وحافة العباءة من الأسفل مع حزام فضي على شكل ضفيرة مثبت على الخصر ومعقود بطريقة رائعة
ولأول مرة كانت شمس ترتدي حجاباً ، كان رائعاً عليها بلونه الزهري المتداخل مع الفضي والذي انعكس على بشرتها الخمرية فأضفى عليها سحر خاص
وقفت أمام أخيها كطالبة مذنبة تشبك أصابع كفيها خلف ظهرها وهي زامة شفتيها في إنتظار نطقه بالحكم عليها
أجفلها أنس وهو يصيح بإعجاب " تبدين رائعة يا شمسي "
وقبل أن ترد هي كان هو يغمز لها بطرف عينه مازحا " يبدو أن ابنة الباسل شبت عن الطوق وتريد الحصول على فارس الأحلام في أسرع وقت "
ضحكت شمس دون تعقيب على كلامه فتنهد أنس بطريقة مسرحية قائلاً " جئت بكِ ويبدو أنني سأرحل بدونك بعدما ازفك إلى عريس الهناء "
ابتسمت شمس وهي تدفعه ناحية الباب ليخرجا بينما تقول " لا تشغل بالك من تلك الناحية حينما يأتي الفارس فسأحرص على أن يكون من العاصمة حتى أظل إلى جوارك وبابا "
***

في مكان آخر / في نفس المدينة
أجفل كل من حوله من صرخته الغاضبة وهو يلقي بالكوب الزجاجي من يده ليصطدم بالحائط المقابل محدثاً دوي صاخب قبل أن يسقط على الأرض قطعاً متناثرة جارحة " إذن فعلها ابن الجبالي .. يظن نفسه نداً لي ويتحداني "
كان الصمت هو سيد الموقف، الجميع ينظر له في ترقب حذر بينما هو يكاد يصرخ من شدة القهر الذي يشعر به
وبعد لحظات هتف بكره " إنه لا يهاب أحد .. شوكته قوية لا تنكسر "
رمق كل واحد منهم الآخر بإرتباك بينما هو يتابع بغضب " أنا أعرفه جيداً .. لن يرتدع بسهولة إنه بحاجة لتأديب من نوع خاص حتى يحسب لي ألف حساب قبل أن يفكر... فقط مجرد التفكير بأن يعبث معي من جديد "
حاول أحدهم تهدئته بالقول " هو ليس أكثر من مجرد فتى محب للتظاهر بقوة وسلطة عائلته لكنه لا يستطيع الوصول إلى مكانتك ليتحداك "
كان الشر والكره يكمنان في نظرات فؤاد وهو يقول بغضب " ليست المرة الأولى التي يقف فيها ابن الجبالي في طريقي .. لقد مررت له الكثير من قبل "
قال آخر بتوتر " إن أمرت لنا احضرناه لك لتفعل به ما تشاء وتعاقبه كما تريد "
عبس بحدة وهو يرد " الكلام سهل لكن الفعل... صعب فابن الجبالي ليس فريسة سهلة المنال "
قال الأول بحماس محاولاً نيل رضى سيده " ونحن لسنا بأقل منه ولسنا ضعاف أأمرنا فقط وسنأتيك به "
رفع حاجباً وأخذ دقائق في التفكير مليًا ثم لمعت عينيه بمكر وهو يقول " حسناً .. لنرى حينها أي الخيارين سيضعه عبد الرحمن الجبالي في المقدمة (ابتسم بشر وهو يكمل) إقامة العرس أم... إقامة العزاء؟ "
أشار لهم بكفه حتى ينصرفوا وهو يقول بنبرته الآمرة " أخبروا سعد بأن يأتيني حالاً "
خرجوا مهرولين وهم يومؤون له بطاعة تامة وبعد لحظات قليلة دخل المدعو سعد
شاب في منتصف العقد الثالث من العمر ، متجهم الوجه ، ضخم الجثة وكأنه أحد المصارعين
" أمرك عماه "
ابتسم مراد بمكر وهو يقول " ألم تكن تنتظر اللحظة المناسبة لتأخذ بثأر أبيك؟ "
دون تردد أو تفكير صاح سعد بقوة " ولم يمنعني عنه سواك عماه وإلا لكنت نلت ثأري منهم منذ سنوات طويلة "
نهض فؤاد من مكانه قائلاً " وها قد حانت اللحظة المناسبة وأنا عند كلمتي لك (رفع حاجباً وقد التمعت عينيه بغل شديد وهو يتابع) لن يقطع رأسه ويلحقه بأخيه سواك "
قطب سعد وهو يقول " يبدو أن هناك ما فعله واغضبك منه حتى قررت بأن الوقت قد حان "
قطب فؤاد بغضب وهو يضرب بعصاه الأرض قائلاً بكره " لقد تمادى وتطاول على اسياده هذه المرة كثيراً .. ظننت موت أخيه وعميه أمام أنظاره سيخيفه لكن على ما يبدو أن ذلك زاده رعونة "
أصدر سعد صوتاً متهكماً لم يستطع كتمه وهو يقول " أخبرتك منذ اللحظة الأولى التي رأيته فيها صبياً بالكاد بلغ الخامسة عشر من عمره أنه ليس من يرتدع بسهولة يا عماه .. كان يجب قتله هو بدلاً من أخيه أو... (قبض على كفيه بشدة وهو يتابع بكره أعمى) أو قتلهما معاً كما فعلتم مع عميه "
هتف فؤاد بضيق " حينها كان الحق سيكون علينا وليس معنا .. قتلوا اثنين من عندنا ففعلنا المثل وكان يفترض بالأمر أن ينتهي عند ذلك الحد لكن... "
قاطعه سعد غاضباً " وماذا عن دم أبي؟ "
زفر فؤاد وهو يقول " أنت تعرف أننا لم نتأكد بعد أن القاتل من عندهم "
صرخ سعد بحدة " لا تقل لي أنك تفكر في التخاذل عن أخذ ثأر أبي فلو فعلت أقسم بالله أنني لن أفعل وإن كنت تخشى غضب ابن الجبالي فأنا لا أخشاه "
ضرب فؤاد بعصاه الأرض بغضب وهو يقول " هل جننت يا سعد؟ كيف تخاطبني بهذه الطريقة وترفع صوتك في وجهي؟ "
كظم سعد غضبه على مضض وهو يطرق برأسه قائلاً " العفو منك عماه لم أقصد ذلك لكن... "
قاطعه فؤاد وهو يقول بصوت جامد: " أنا لا أخشى غضب ابن الجبالي كما تظن وإلا ما كنت استدعيتك لأبلغك أن الوقت قد حان لتنال ثأرك رغم أنني وللمرة الثانية أخبرك أننا لسنا متأكدين أن القاتل من عندهم "
عبس سعد وهو يقول:" ومن غيرهم له فائدة من قتل أبي "
زفر فؤاد وهو يرد " أعدائنا كثيرين وإن كانت عائلة الجبالي واحدة منهم والأكثر خلافاً معنا فهذا لا يعني أنها وحدها من لها فائدة من قتل حسين رحمه الله "
قطب سعد بتفكير وهو يقول " إن لم تكن متأكد بعد من هوية القاتل يا عماه فكيف تريدني أن آخذ بثأري من عائلة الجبالي أو... (ضيق عينيه وهو ينظر إلى عيني فؤاد مباشرة بقوة بينما يتابع) من ابن الجبالي هذا تحديداً؟ "
ارتبك فؤاد للحظة فالتفت إلى كرسيه يجلس عليه وهو يرد بهدوء ولامبالاة زائفة " لم احدد هوية من ستأخذ بثأرك منه لكن... كنت أفكر أنه وبما أن ابن الجبالي يسبب لنا الكثير من المشاكل وفي نفس الوقت لدينا حق عندهم فلما لا نقتنص الفرصة ونضرب عصفورين بحجر واحد "
رفع سعد حاجباً مشدداً على كلامه " كيف يكون لنا حق عندهم ولم نتأكد أنهم هم القتلة بعد كما تقول يا عماه؟ "
قطب فؤاد بضيق وهو يقول " أصبحت تعلق على كل كلمة انطقها وتراجعني كثيراً يا سعد "
رد سعد بهدوء " أنا فقط افكر بصوت عالٍ يا عماه .. لا أحب أن أكون الأحمق الوحيد بين الجميع "
صمتا كليهما للحظات ثم ابتسم سعد ساخراً وهو يقول " أنا أعرف تمام المعرفة أن ابن الجبالي يشكل لك خطر كبير ويضر بمصالحك في العاصمة "
ارتبك فؤاد بشدة وهو يقول " أي... أي مصالح تقصد؟ "
اتسعت ابتسامة سعد وهو يرد بنفس النبرة " ألم أقل لك أنني لا أحب أن أكون الأحمق الوحيد يا عماه .. أنا أعرف كل الطرق التي تسلكها في تجارتك ال... مشبوهة أو لأكن أكثر تحضراً يمكنني تسميتها ب... الغير قانونية "
ضيق فؤاد عينيه قائلاً من بين أسنانه " يبدو أنك تبحث خلف الجميع يا سعد وليس خلف ثأرك فقط كما كنت أحسب "
رفع سعد حاجبيه وهو يدعي البراءة بينما يرد " أنا فقط أحاول معرفة من معي ومن ضدي يا عماه أليس هذا ما تعلمته على يديك؟ .. لا يجب أن أترك ثغرة للحظ "
حاول فؤاد فهم ما يفكر فيه ابن أخيه عبثاً حيث بدى سعد كاللوح الصلب لا يمكنك أن تستشف منه أي رد فعل أو خاطرة حتى
ابتسم فؤاد بمكر بعد لحظات وهو يقول " وأنا فخور بك فيبدو أن ما علمته لك يثمر نفعاً "
اومأ سعد وهو يقول ببرود " يبدو هذا يا عماه "
عاد الاثنين وصمتا من جديد فكان سعد اول من يقطع ذلك الصمت كعادته قليل الصبر " ألن تخبرني لماذا ابن الجبالي تحديداً؟ "
رد فؤاد ببساطة " ربما لأنه الأكثر خطراً على مصالحي كما تقول "
صمت لحظة ثم تابع بحيرة " رغم أني لا أصدق أن فتى مثله على هيئته الضعيفة تلك يكون هو سبب الخطر والضرر عليّ "
عبس سعد وهو يقول " وماذا سأستفيد أنا؟ على أي حال ليس هو القاتل "
قطب فؤاد وهو يرد بكره " أنت لا تفهم .. إنه أكثر أحفاد عبد الرحمن قرباً منه وبموته ستكون وجهت له ضربة قوية يمكنها أن تقضي عليه هو الآخر وهكذا اتخلص أنا من ابن الجبالي وأنت تكون نلت ثأرك "
قطب سعد مفكراً للحظات قليلة ثم زفر قائلاً " حسناً.. سأفعلها "
ابتسم فؤاد بنصر وهو يقول " جيد .. اجلس إذاً لأخبرك بطريقة التنفيذ... (ثم أكمل في نفسه) فأنا أريد الخلاص منه نهائياً وفي أسرع وقت "

إنتهى الفصل...
[/center][/left][/center][/center]

mansou 01-10-19 11:23 PM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .

Hend fayed 02-10-19 12:10 PM

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته..
 
اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة mansou (المشاركة 14516736)
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته موفق بإذن الله ... لك مني أجمل تحية .

شكرا عزيزتي، أتمنى أن أكون عند حسن ظنك.. تحياتي 🌹

Hend fayed 08-10-19 05:43 PM

سُلاف الفُؤاد
 
بسم الله الرحمن الرحيم أما بعد؛
|| الفصل الثالث ||

ليلة الحناء
في دار الجبالي
كانت شمس مستمتعة بتلك الأجواء الجديدة عليها إلى أبعد حد، جلست إلى جوار حفصة وحياة يصفقن مع النساء وهن يطالعن ملك التي كانت تتوسط الغرفة ومعها بضعة فتيات أخريات كن يرقصن بمهارة تامة جعلت شمس تنظر إليهن بانبهار طفولي فهي لا تجيد الرقص الشرقي
في حين كانت فرح تقف بجوار الفتاة التي تنسق الأغاني وهي تتمايل على الألحان بخفة دون أن يسمى هذا رقصاً مقارنة برقص ملك الاحترافي
كانت الغرفة عامرة بالنساء ورغم ذلك كانت فتيات آل الجبالي تشعرن بالأسى والحزن لغياب أهم شخص في حياة كل واحدة منهن
وكأنها لعنة وأصابت الجميع فلم تُبقي لأي واحدة منهن أمها على قيد الحياة لتشاركها لحظات سعادتها فتزيدها بهجة ولحظاتها الحزينة فتخفف عنها فيها
كانت كل واحدة منهن تغوص في بحر اشجانها متذكرة أمها..
شمس تذكرت أمها التي ماتت بعد ولادتها وكيف كانت لتكون سعيدة وهي تحضر زفاف ابنة أخاها وتشارك عائلتها في فرحتها
وزهراء تعلقت عينيها بأختها حفصة وكل منهما تعلم ما تفكر فيه الأخرى وما كانت تحتاجه في تلك اللحظة، تذكرتا أمهما التي توفيت منذ بضعة سنوات
أما حياة فقد نظرت إلى ملك التي تمرح غير واعية لمن حولها، تمنت لو كانت أمهما لازالت على قيد الحياة! لكان من الممكن حينها تقويم ملك واصلاحها ولكن الأوان على ما يبدو قد فات فلن يفلح معها تقويم ولن يفيد الإصلاح
في حين شردت فرح بحزن وهي تتذكر أمها التي توفيت منذ عامين فقط، أمها كانت كبرى نساء العائلة بعد جدتها التي توفيت قبل أن تولد فرح ببضعة أشهر
ابتسمت فرح بفخر مختلط بالشجن والحنين وهي تفكر بأن وجود أمها كان ليفرق الكثير ليس معها وحدها وإنما مع الجميع فهي كانت المسئولة عن كافة شئون العائلة وفي مناسبة كتلك بالطبع كانت ستتصدر الواجهة وتشرف على ترتيبات العرس بنفسها كما فعلت في عرس عاصم وحفصة من قبل
تنهدت شمس بأسى لحالها وحال بنات أخوالها وحمدت الله كثيرًا فهي تعد في نعمة فقدتها أخريات فعلى أي حال هي لازالت تمتلك أب حنون يرعاها ويحبها
دارت بعينيها بينهن فرأت نظرة الشرود الحزين في أعينهن، فهمت ما تفكرن فيه وللأسف لم يكن في يدها شيء لتخفف به عنهن فهي مثلهن تماماً، ورغم ذلك تمنت فقط مجرد أمنية لا محل لها من أن تصبح حقيقة أبداً.. تمنت لو أن أم إحداهن لازالت على قيد الحياة.. كانت حينها لتكون أم لهن جميعاً فتخفف عنهن وجع ومرارة اليتم
فقدان الأم فجيعة ومرارة لا تخفف منها مرور الأيام بل تزيدها وحشة في الروح وفجوة في القلب
قطبت شمس فجأة وقد خطر في بالها أن الوحيدة التي لا تعلم كيف توفيت هي زوجة خالها سليم، لم تذكر إحداهن عنها أي شيء ولو مجرد ذكرى عابرة عنها وكأنها لم يكن لها وجود من الأساس وكانت ليطول بها التفكير في ذلك الأمر لولا أن العمة فاطمة المسئولة عن رسم الحناء للعروس هتفت بابتسامة مشجعة: " من التالية؟ "
حينها نهضت حفصة واقتربت منها تقول بصوت خافت ونبرة خجولة: " أنا أريد رسم إسم زوجي فقط "
ابتسمت لها فاطمة بلطف وربتت بجوارها لكي تجلس حفصة وهي تقول: " نفس طلبك ليلة الحناء الخاصة بكِ.. لازلت اتذكر جيداً "
ابتسمت حفصة بخجل وهي ترد عليها بعدما جلست إلى جوارها: " أجل نفسه "
ابتسمت شمس برقة وهي تطالع المرأة الكبيرة سنا ومكانة على ما يبدو فقد أخبرتها فرح أن العمة فاطمة تمتلك مكانة خاصة في قلوب جميع أبناء مدينتهم وعلى رأسهم بالطبع عائلة الجبالي من صغيرها إلى كبيرها
هي ليست مجرد زوجة للشيخ الراحل عبد الله إمام وخطيب أكبر مسجد في المدينة الجبلية بل يضعها الجميع في منزلة الأم والأخت والصديقة وهي وللحق استحقت تلك المنزلة وبجدارة حين لم تبخل على أحد لا بالمشورة أو اغداق حنانها وعطفها عليهم بلا قيود
لطالما قصد بيتها الكثيرين حتى بعد وفاة زوجها رحمه الله وظل الجميع قائما على ودها وطلب مشورتها وخاصة أبناء عبد الرحمن الجبالي التي ساهمت في رعاية شؤونهم خلال مرحلة ما في حياتهم بعد أن توطدت علاقتهم بها وبزوجها قبل وفاته بسنوات قليلة
ظلت شمس تطالعها بينما بدأت فاطمة في رسم الحناء على باطن كف حفصة فاقتربت الفتيات لتشاهدن ومن ضمنهن فرح التي هتفت بحماس: " وأنا الأخرى أريد رسم الحناء على يدي مثل حفصة "
حينها قالت حياة بمكر: " وهل أخترتِ الإسم الذي سترسمه لكِ العمة فاطمة أم اساعدكِ في اختياره؟ "
عبست فرح بطفولية وهي تقول: " ليس شرطاً اختيار إسم "
قالت حياة ببراءة زائفة: " ظننتك تقصدين نفس طريقة رسم حفصة "
ردت فرح بنفس العبوس المضحك: " في الحقيقة أجل أريد مثل رسم حفصة.. حسناً أظنني سأختار إسم أبي (جلست إلى جوار حفصة وقالت بمرح تقصد العمة فاطمة) أريد رسم إسم خالد في كفيّ الإثنين يا عمتي "
ضحكت فاطمة وهي تناكفها: " أتركي واحد لإسم عريس المستقبل "
ضحكت فرح بابتهاج وهي ترد: " حينما يأتي سأرسم إسمه على ذراعي كله.. فقط يأتي وسأفعل حينها المعجزات باسمه "
ضحكت النساء على مشاكستها بينما صاحت ملك فجأة: " وأنا سأرسم إسم ياسين بنفس الطريقة التي رسمتِ بها لحفصة يا عمتي "
قطبت العمة فاطمة بغير رضا لكنها لم تعقب في حين شهقت الفتيات بصدمة من وقاحة ملك المستفزة
أما حياة فقد جحظت عينيها من شدة غضبها من أختها ومما تفوهت به ورغم ذلك لم تتراجع ملك عن حديثها بل زادته وقاحة وهي تقول مبتسمة بلامبالاة: " تماماً كما رسمتيه لي ليلة حناء حفصة "
لم تستطع حياة تمالك أعصابها أكثر فهبت من مكانها وهي تنوي صفعها على قلة حيائها لكن شمس منعتها وهي تمسك بمعصمها بينما تقول بخفوت: " اهدئي حياة.. لا داعي لذلك فقد سبق السيف العزل هي قالت والجميع سمع ولا تملكي إعادة الزمن للوراء لتسكتيها فمرري الأمر ولو مؤقتاً لأجل زهراء حتى لا تخرب ليلتها "
ظلت حياة متشنجة في وقفتها للحظات وهي تطالع أختها بغضب كاد أن يحرق ملك لولا أنها استدارت بلامبالاة تكمل رقصها دون أن تبدي ولو لمحة من الأسف أو الندم مما زاد غضب حياة لكنها في النهاية رضخت لنصيحة شمس وكبحت انفعالها لأجل زهراء
حاولت فاطمة تخفيف حدة التوتر الذي ساد على إثر حديث ملك فقالت مبتسمة تقصد حياة: " وأنتِ يا حياة ألن تجددي رسم حنائكِ؟ "
زفرت حياة بضيق ثم ما لبثت أن ابتسمت بشجن وهي تقول: " بلى سأفعل عمتي.. لقد إشتقت لرؤية اسم أبي مطبوعا على كفي "
ابتسمت فاطمة وهي تنظر إلى شمس وقالت: " وماذا عنكِ بنيتي؟ ألا تريدين رسم الحناء على يديكِ أنتِ الأخرى؟ "
رمشت شمس بدهشة وهي تقول: " أنا... اممم لا أعرف "
شاكستها فرح تقول: " لو رسمتي إسم أخاكِ الحلو أظنه سيسعد كثيراً "
عبست شمس في وجهها بطفولية وهي ترد: " بالطبع سأرسمه لم أكن بحاجة لرأيكِ من الأساس "
زمت فرح شفتيها وهي ترد: " طفلة "
ردت شمس ببرود: " موتي بغيظك "
ضحكت النساء على مناكفتهما الطفولية وخلال لحظات زال التوتر وعادت حماستهن وهن يتابعن فقرات الحفل النسائي بمرح بينما فاطمة انشغلت برسم الحناء للفتيات
***

في باحة الدار الأمامية
كان عبد الرحمن ومن جواره أبناءه يستقبلون التهاني والمباركات من الأهل والأقارب بعدما قاما بدمج ليلتي حناء العروسين في ليلة واحدة كعادة تخص عائلة الجبالي منذ الأزل خاصة وهم لا يتزوجون من خارج العائلة كقاعدة ثابتة غير قابلة للتغيير مما يجعل دمج الليلتين معا زيادة للفرحة أكبر، وعلى الناحية الأخرى وقف العريس ومن حوله أبناء عمومته
كان حمزة يرسم على وجهه ابتسامة بسيطة وهو يحيي المهنئين بإيماءة من رأسه بينما قاسم يغمغم بحنق: " متى ستنتهي مدة تلك العقوبة؟ لقد مللت "
ضحك ياسين وهو يقول: " أشكر ربك واحمده على أن جدك لم يجبرك على الجلوس بجانبه لكنت حينها علمت كيف يكون الملل على حق؟ "
رفع عاصم حاجبيه وهو يرد على ابن عمه: " أنتما تبالغان جداً.. الحفل ممتع "
قطب قاسم متمتما: " وأنا لا أحب الحفلات بنوعيها لا الممتعة ولا المملة "
بينما زفر حمزة وهو يقول: " أكرمنا بصمتك يا قاسم بالله عليك أنا لن أحتمل شحناتك السالبة أنت الآخر تكفيني ما أمتلكها "
تأفف قاسم وهو يرفع رأسه إلى السماء مغمغماً بحنق بكلمات غير مفهومة بينما عبس حمزة وهو يدور بحدقتيه في المكان: " أين زيد؟ "
أشار عاصم إلى ركن قصي على بعد قليل منهم وقال: " إنه هناك.. منذ بضعة دقائق وهو يراسل أحدهم "
،،،

كان زيد يقطب بشدة وهو يكتب على هاتفه بغيظ
*يا بني آدم أفهم.. ما تطلبه جنون*
وصله رد الطرف الآخر بإيجاز مغيظ
**أعلم**
عبس زيد وهو يغمغم في نفسه 'الصبر من عندك يارب' تزامنا مع حركة أصابعه على شاشة الهاتف وهو يكتب
*ومع ذلك تصر على طلبك*
وصله رد مُراسله بعجرفة
**هذا ليس طلبا وإنما هو أمر**
كاد زيد يصرخ عالياً وهو يضغط على الهاتف يكاد يحطمه في قبضته بينما يكتب بعصبية
*تباً لك*
كان يعلم أن تعابير وجه مُراسله تحولت إلى باردة لامبالية في تلك اللحظة التي وصله رده يقول
**احترم نفسك يا زيد فقلة أدبك تلك لن تمنعك من تنفيذ أمري**
تأفف زيد وهو ينظر إلى السماء للحظات ثم عاد ببصره إلى شاشة هاتفه التي ومضت برسالة جديدة
**هل الجميع سعداء؟**
اعتلت ملامحه الكآبة والحزن وهو يرد
*الأكثر سعادة هنا اظنهن الفتيات وبالطبع جدى وأبي وعمي خالد أما نحن فلا أظن أن مزاج قاسم العصبي يخفى عليك*
وصله الرد بعد لحظات طويلة
**أجل أعلم أنه يكره كل أنواع الحفلات.. ماذا عنك؟**
كتب زيد ساخراً
*حقاً تسأل؟*
لم يصله رد من الطرف الآخر فتنهد وهو يكتب من جديد
*هلا أخذت حذرك أكثر وقمعت بعضاً من تهورك الذي لا أعلم من أين أمتلكه من الأساس فأنت أبداً لم تكن بهذا الشكل من صغرك؟*
اجابه الطرف الآخر
**لا شيء يظل على حاله مهما طال الزمن.. كل شيء قابل للتغيير حتى طباع البشر وعامة لا تخف عليّ أنا لا أفعل شيء أو أقدم على خطوة قبل أن أحسب لها حسابها جيداً**
عبس زيد بضيق وهو يكتب
*هذا واضح فبخلاف صوتك الذي تغير كطباعك يبدو أنك مرتاح جداً حيث أنت والأمر راق لك*
وصله الرد في الحال بطريقة جعلته واثقاً أن الطرف الآخر يحطم كل ما حوله في تلك اللحظة بعد أن استفزه بهذا الغباء ككل مرة
**ليتك أمامي اللحظة لأريك حجم راحتي في ذلك المنفى.. أنسيت سيادتك أنك من عرضت تلك الفكرة الغبية وأنا مجبراً اضطررت إلى تنفيذها؟**
تنهد زيد دون أن يرسل شيء في حين أتته رسالة أخرى بلهجة صارمة
**موعدنا بعد عشرة دقائق من اللحظة**
وهكذا إنتهت المراسلة بينهما بأمر صارم من الطرف الآخر لابد أن ينفذه زيد صاغراً كالعادة
***

كان الجو مشحونا بالتوتر بعد الصرخة المكتومة التي أطلقتها العمة فاطمة منذ لحظات
الأغاني توقفت فجأة والكل شخصت أبصارهن ينظرن إليها في ترقب وحيرة بينما هي كانت تمسك بكف شمس التي انتهت للتو من رسم الحناء عليه، تنظر له جاحظة العينين والدموع متجمعة في مقلتيها بغزارة
قطبت شمس بتوتر وهي تنظر إلى فاطمة دون أن تجد كلمات مناسبة تقولها خاصة وهي لا تعرف ماذا حدث حين كانت منشغلة بالحديث مع فرح عن احتفالات الزفاف في العاصمة وكيف أنها مختلفة عن الاحتفالات هنا حتى أجفلت على صرخة العمة فاطمة المكتومة
اقتربت حفصة من العمة فاطمة وقالت بهدوء لا يخلو من القلق: " ما بكِ عمتي؟ ماذا حدث؟ "
نظرت لها فاطمة للحظة ثم عادت تحدق في كف شمس وقالت بصوت متحشرج: " اخبرتكن أنني لم أعد أريد رسم الحناء من بعدها لكنكن اصررتن عليّ "
قطبت حفصة بعدم فهم لكن حياة كان المعنى قد وصلها فقالت بتوتر حاولت أن تخفيه: " هل فعلتيها يا عمتي؟ ألم نتفق أن... "
قاطعتها فاطمة وهي تصرخ باكية: " لقد كان دورها.. كان من المفترض بها أن تكون... (واشارت على شمس وهي تكمل) بدلاً منها.. لقد شردت فيها ونسيت أنها ليست هي من تجلس أمامي لأرسم لها الحناء "
كانت شمس ترمش بحيرة وذهول وهي تنظر إلى فاطمة التي انهارت في البكاء والجميع يطالعها بشفقة
حاولت شمس سحب كفها من يد فاطمة لكن الأخيرة ظلت متشبثة به بشدة آلمتها وزادت من حيرتها عندما نظرت إلى فرح تريد منها فهم ما يحدث لكن كل ما فعلته فرح أن أشاحت بوجهها عنها ولم يخفى عن شمس أنها هي الأخرى كانت تبكي
رفعت يدها الحرة وربتت على كتف فاطمة تقول: " لا تبكي عمتي.. أنا لا أفهم ماذا حدث؟ لكنني لا أريدك أن تبكي (ثم ابتسمت بمناكفة تقول) انظري حولكِ لقد ابكيتِ الجميع حتى العروس "
نظرت فاطمة إلى زهراء بأسف قابلته الأخيرة بابتسامة حنونة متفهمة وهي تقول: " نحن نشتاق لهم جميعاً يا عمتي "
نكست فاطمة رأسها بصمت للحظات ثم تركت يد شمس ببطء بعدما نظرت لها طويلاً ونهضت وهي تقول: " أراكن في الغد على خير "
هتفت حفصة بحزن: " ابقي معنا قليلاً بعد يا عمتي لازلنا في بداية الليلة "
تنهدت فاطمة بشجن وهي ترد بينما تفقد السيطرة على دموعها فتسيل غزيرة كالمطر: " ليتها كانت هنا لكنت بقيت معكن حتى طلوع الشمس لكنها ليست هنا (شهقت قليلاً وهي تبكي ثم عادت تقول) الحبيبة ليست هنا يا حفصة "
وخرجت من المجلس باكية وهي تغمغم بأسى وحسرة: " أخذك الموت منا بغتة يا صغيرتي.. يا وجع قلبي عليكِ.. ليتكِ هنا يا حبيبة... ليتكِ هنا "
ظلت عيني شمس معلقتين بالباب الذي خرجت العمة فاطمة منه للتو حتى شعرت بالعبرات الساخنة تسيل على وجنتيها فرمشت وهي ترفع يدها بعفوية لتمسح تلك العبرات لكن يدها تسمرت في الهواء وهي تحدق في كفها بعينين متسعتين على أقصى مدى
لاحظ الجميع ذهولها فبادرت حياة وقد فهمت ما يحدث منذ البداية: " لا تقلقي سيزول الرسم بعد فترة وإن غسلتِ يدكِ الآن بالماء ستخف درجة الحناء كثيراً "
لم ترد شمس بل ظلت تحدق في كفها ثم رفعت كفها الآخر وأخذت تنظر في كل واحد منهما تارة حتى هتفت بحيرة دون أن تبعد عينيها عن كفيها المرسومين بالحناء: " هذا اسم أبي وأخي لكن (ونظرت إلى كفها الأيسر تقول) إسم من هذا؟ "
أقترب الجميع منها بفضول ليرون الرسم وحينها هتفت فرح بيأس: " الحمد لله أنها لم تشرد منذ البداية لكان الآن كفكِ الأيمن يزينه إسم عمي سليم وليس إسميّ والدكِ وأخاكِ "
قطبت شمس بعدم فهم بينما تناظرت حفصة وحياة فيما بينهما للحظات حتى قالت الاخيرة تقصد شمس: " تعالِ معي... سأغسل يدكِ "
عبست شمس بطفولية وهي تقول: " ليس قبل أن أعرف إسم من هذا؟ "
ردت ملك ببرود: " ألم تقابلي أبناء عمومتك بعد؟ "
نظرت لها شمس بهدوء ظاهري تقول: " لا.. منذ جئت وهم منشغلون فلم أستطع مقابلتهم بعد "
خطت ملك مبتعدة وهي ترد بنفس البرود: " إذن ستعرفين إجابة سؤالك ما إن تلتقين بهم "
***

بضعة دقائق قليلة وكانت شمس تخرج من الغرفة وهي تكاد تصرخ غيظاً من ملك، أخذت تتلفت حولها تبحث عن أنس دون جدوى
الدار مكتظا بالناس كما قال أنس لا يكاد المرء يستطيع الوقوف باتزان حتى من كثرتهم
عبست قليلاً وهي تفكر بالخروج إلى الحديقة لكنها خشيت أن يكون ذلك خطأ خاصة مع وجود الكثير من الرجال في الخارج فاتجهت إلى المطبخ
وقفت شمس بصمت تنظر حولها حتى وقعت عينيها على الصغيرة حلا وهي تسرق الحلوى وتضعها في طبق كبير بالكاد تستطيع حمله فأبتسمت بمرح وهي تتجه نحوها
تصنعت شمس الحزم وهي تقول: " ماذا تفعلين؟ "
أجفلت حلا قليلاً ثم عادت إلى هدوئها وهي ترد ببساطة: " أفعل ما ترينه.. أسرق الحلوى "
قطبت شمس وهي تقول: " ولماذا تسرقينها؟ تستطيعين أخذ ما تشائين منها "
زمت حلا شفتيها بغيظ وهي ترد: " بابا أخبرني أن تناول الكثير من الحلوى ضار بالصحة وبالأسنان "
ابتسمت شمس بحنان وهي تقول: " بابا معه حق "
عبست حلا وهي ترمق شمس بطرف عينها مردفة بترقب: " وتزيد الوزن كثيراً "
ضحكت شمس وهي تسألها بمرح: " وهل تخشين آنسة حلا أن يزداد وزنكِ؟ "
رفعت حلا عينيها تنظر بذهول إلى شمس وكان الأمر بديهي بينما تجيبها: " بالطبع.. فأنا أريد أن أكون رشيقة "
ضحكت شمس باستمتاع وهي ترد: " حقاً اممم... لكنكِ تبدين رشيقة بالفعل "
ضيقت حلا عينيها قليلاً وهي تسألها: " ألا تحبين الحلوى؟ "
ابتسمت شمس بسعادة طفولية وهي ترد: " أعشقها "
قطبت حلا وهي تقول: " لكنكِ رشيقة رغم ذلك "
ابتسمت شمس دون رد فقالت حلا بغيظ: " هذه المرة فقط ولن آكل حلوى بعد ذلك حتى لا أصبح بدينة "
كتمت شمس ضحكتها وتذكرت ما جاءت للسؤال عنه فقالت: " حلا ألا تعلمين أين يمكنني أن أجد أنس؟ "
استدارت حلا بكليتها تنظر إلى شمس بفرح طفولي وهي تقول: " هل تقصدين أخاكِ؟ "
ابتسمت شمس وهي ترد: " أجل أقصد أخي "
وضعت حلا طبق الحلوى على الطاولة المجاورة وامسكت بمعصم شمس تسحبها خلفها للخارج وهي تصيح بفرح: " أخيراً سأكلمه.. إنه جميل جداً "
قطبت شمس وهي تجبرها على التمهل في سيرها قائلة: " انتظري حلا عليّ غسل يديّ أولاً ثم أن... (إلتفتت حلا تنظر لها حينما قطعت حديثها فتابعت شمس حينئذ بابتسامة مرحة) الشاب نقول عنه وسيم وليس جميل فهي كلمة تخص الإناث "
قطبت حلا قليلاً وهي تحاول استيعاب كلام شمس ثم ما لبثت أن ابتسمت بسعادة تقول: " حسناً هو وسيم جداً.. أنا أحببته "
ضحكت شمس وهي ترد بفخر: " ومن يراه ولا يحبه.. إنه محبوب الجماهير "
***

كان أنس يقف وحيداً في إحدى الزوايا المظلمة في الحديقة، يضع يديه في جيبي بنطاله ويرفع رأسه إلى السماء يتأمل ضوء قرص القمر المكتمل ببهاء
استدار أنس بحدة مجفلاً قليلاً حينما سمع صوت الخطوات المقتربة منه لكنه سرعان ما استكان في لحظة حينما رآها من أمامه وهي تطالعه بابتسامتها الحنونة التي تخصه بها وكأنه طفلها
عبست شمس وهي تقول بغيظ طفولي: " ألا يمكنك البقاء في مكان واحد؟ لقد بحثت عنك كثيراً حتى دلتني حلا على مكانك "
رمق أنس الصغيرة حلا بطرف عينه ثم تجاهلها عن قصد وهو يقول: " ربما كنت اختبئ من أحدهم "
رمشت شمس لوهلة وهي تردد كلمته: " تختبئ "
عاد أنس ينظر إلى حلا بلامبالاة وهو يقول: " صدقاً لا أعلم مشكلة الفتيات هنا معي.. جميعهن تحاولن الالتصاق بي طيلة الوقت وكأنهن هررة تتوددن بكل الطرق لصاحبها "
كتمت شمس ضحكتها وقد فهمت ما يرمي إليه فجارته في حديثه تقول: " لا ينبغي أن تنزعج من أمر كهذا يفترض به أن يغذي غرورك ويزيد من ثقتك بنفسك "
هتفت حلا فجأة بضيق: " من تلك التي تتردد إليه كالهرة؟ ألا تنظر لنفسك في المرآة؟ "
رفع أنس حاجبيه بتعجب بينما حلا تكمل: " ما الذي سيعجب الفتيات فيك؟ اعمامي كلهم أجمل منك... "
قاطعتها شمس وهي تقول: " ماذا قلنا بشأن هذا؟ "
قطبت حلا بجدية مجيبة: " لا أعلم كيف أقولها؟ "
ابتسمت شمس ترد عليها: " نقول أوسم أو أكثر وسامة "
اومأت حلا برأسها متفهمة وهي تكمل حديثها بجدية تفوق سنوات عمرها المعدودة على أصابع اليد الواحدة: " حسناً.. اعمامي كلهم أكثر منك وسامة حتى عمي قاسم رغم عبوسه فإنه وسيم جدا أما أنت (ورفعت سبابتها تشير إليه) مشعث الشعر.. بالله عليك ألا تمتلك فرشاة لتمشط شعرك؟ "
إلتفتت بعد ذلك تغادر وهي تغمغم: " عليّ اللحاق بطبق الحلوى قبل أن يراني أحد ويشي بي إلى أبي على الأقل لا يضيع مني هو الآخر "
رفع أنس حاجبيه ذاهلا وهو يقول: " ما هذه الوصلة الطويلة؟ هل شتمتني تلك ال... ال... "
قاطعته ضحكات شمس وهي ترد: " لقد مرغت غرورك في التراب "
عبس أنس قائلا: " أشعر بذلك لأنه يئنّ "
ضحكت شمس من جديد باستمتاع وهي تقول: " هل تصدق أن عمرها خمس سنوات؟ "
رد أنس بنفس العبوس: " يبدو أنها أكبر عمراً من ذلك لكن ربما حدثت فجوة زمنية جعلتها تبقى في حجمها الطفولي للأبد "
كتمت شمس ضحكتها وهي تقول بمناكفة: " إنها طفلة جميلة "
صرخ أنس بغيظ حقيقي: " بل هي عجوز شمطاء "
أطلقت شمس العنان لقهقهتها من جديد فأخذ أنس يتأملها باسما وهو يقول: " ما أجمل ضحكتك يا شمس! "
وضعت شمس كفها على فمها وهي تكتم ضحكاتها قائلة: " لماذا لا تشاركهم في الاحتفال؟ "
حرك أنس كتفيه وهو يرد: " لا أريد أن أفسد عليهم حفلهم تعرفين مزاجي العصبي ونزقي من كل شيء "
صمت لحظة ثم تابع بمرارة: " يبدو أنني ورثتهما من السيدة الفاضلة مروة الباسل "
قطبت شمس وهي تقول: " لا تقل عن نفسك ما ليس فيك يا أنس.. أنت لست نزق ولا ذو مزاج عصبي "
تنهد بصمت فأبتسمت فجأة تقول: " تعال لتساعدني في التعرف عليهم فأنا لم اقابلهم حتى اللحظة "
قطب أنس يسألها: " من تقصدين؟ "
ردت شمس ببساطة: " أبناء اخوالي "
اومأ أنس برأسه بينما يقول بتفهم: " لا أظن من المسموح لكِ بمقابلتهم الآن خاصة وهم يجلسون بين الرجال.. انتظري حتى ينتهي الحفل "
اومأت شمس بطاعة ولم تضيف عن كلمة: " حسناً "
***

بعد ربع ساعة
كان يقف عند أسطبل الخيول يديه في جيبي بنطاله، مولياً ظهره لمن يدخل بينما حدقتيه مثبتتان على جواد بني يخص زيد وفرس من نفس اللون، كان يطالع الفرس بإهتمام ممتزج بالحنان ويده تلقائيا ترتفع لتربت على رأسها وهو يبلغها عن طريق نظراته برسالة هامة من.. صاحبها وفارسها
بعد لحظات قليلة حضر زيد.. يحث الخطى بسبب الظلام الدامس المسيطر على المكان وفجأة توقف مكانه بثبات حينما وصله صوت قوي من أمامه مباشرة يقول: " توقف مكانك وإلا ستصطدم بي بعد خطوة خرقاء أخرى منك "
عبس زيد قائلاً: " تعرف أنني لا أحب الظلام "
رد عليه الصوت القوي ببساطة: " ومن يحبه؟ "
تنهد زيد يسأله: " ها أنا جئت كما أمرتني.. ماذا تريد؟ "
رد الآخر بهدوء: " العم عمران يحتاج إلى رعاية صحية "
هتف زيد بذهول غاضب: " لا تقل لي أنك زرته.. لقد اتفقنا ألا تتدخل أنت في هذا الأمر وتتركه لي أتصرف فيه بطريقتي "
رد الآخر بنفس الهدوء الظاهري: " لا لم أزره ليس بعد على الأقل... "
قاطعه زيد بحدة: " ولا لاحقاً حتى "
تابع الآخر كلامه كما لو أن زيد لم يقاطعه: " لكنني سأفعل في يوم قريب.. كل ما أنتظره هو الفرصة المناسبة "
زفر زيد وهو يقول من بين أسنانه: " هل جئت بي إلى هنا حتى ترفع ضغطي؟ "
أتاه رد الآخر ساخراً: " لم أكن أعرف أنك أصبحت نزقا لهذا الحد "
صاح زيد بغيظ: " ومن يسمع حديثك هذا ولا يكون نزقا؟ "
بعد صمت طويل بينهما قال زيد باستسلام: " تفضل أخبرني اوامرك "
رد الآخر بجدية: " أريدك أن تأتي له بطبيب حتى يعاينه لكن هناك مشكلة "
قطب زيد بجدية يقول: " وما هي؟ "
تنهد الآخر وهو يقول: " أنسيت أن لا أحد على علم بمكان العم عمران؟ وأن عائلة الناصر بالتأكيد تبحث عنه الآن "
قال زيد بترقب: " إذن؟ "
عاد الصمت بينهما من جديد حتى قال الشاب ذو الصوت القوي بنبرة آمرة: " أبحث عن طبيب يعاين حالته وفي نفس الوقت لابد أن تكون متأكدا من أنه لن يخبر أحد عن الأمر "
رد زيد بانزعاج: " ومن أين سآتي به؟ أنت تعلم أن ضمائر البشر أصبحت تشترى بالمال ولا أظن أن هناك طبيب واحد سيتكتم على الأمر مهما اعطيناه بل سيهرول إلى عائلة الناصر يشي بنا عندهم لأجل الحصول على المزيد منهم "
رد الآخر بنبرة قوية: " تصرف زيد.. تصرف فمهما بلغ الفساد مبلغه إلا أن الخير موجود وعائلة الجبالي ذات شأن كبير فلا تستهين بها.. كل ما عليك أن تبحث عن طبيب في أسرع وقت ثم أخبرني عن هويته وأترك مهمة ولائه عليّ "
عاد الصمت يكتنفهما من جديد حتى تحرك زيد بتوتر متململا في مكانه فقال الآخر وقد اتضح في صوته التهكم: " أ لازلت تخشى الظلام حتى وأنت تقف مع رفقة؟ "
تنحنح زيد بحرج وهو يرد: " أنت توليني ظهرك ولا تريد أن تنظر لي "
قال الآخر بتعجب: " وهل لو نظرت إليك سيشكل الأمر فارقاً عندك؟ "
هتف زيد بأمل: " بالطبع فأنت حينما تنظر إليّ أشعر بأنني في أمان من كل شيء.. أمان تسكنه عينيك وتشي به نظراتك إليّ فاطمئن "
أغمض عينيه بقوة يخشى الإستسلام إلى الرجاء الخالص في صوت زيد فيلتفت إليه حينها قد الكثير من الأمور التي لا يجب آت تتضح في الوقت الحالي
لا يريد أن يتهور بعد تلك السنوات التي قضاها أسير ماضيه.. سيتحرر يوماً ويحرر معه شخص آخر يعاني مثله لكن.. ليس اليوم
حينما طال صمته علم زيد أن لا فائدة من رجائه فاطرق برأسه يقول بأمل يأبى أن يغادر روحه: " ألن تمنحني طمأنينة نفسي؟ "
رد الآخر بصوت جامد: " ليس اليوم لأنني لا أملك ما تحتاجه "
هتف زيد بيأس: " إذن متى؟ "
ظل صامتا للحظات أعقبها بصوت جامد: " علىّ أن أعود "
تنهد زيد بقهر وهو يقول: " ابقى قليلاً بعد أنا... "
قاطعه الآخر بنفس الجمود: " لا.. يجب أن أعود وأنت عُد إلى حمزة أظنه بحاجتك الآن ليتخلص من قاسم "
تنهد زيد من جديد وهو يتراجع للخلف وفجأة تذكر شيء فقال: " لقد حضرت ابنة عمتنا رقية "
رد الآخر بدون مبالاة: " جيد "
ازدرد زيد ريقه وهو يتنحنح ليجلي صوته بينما يضيف: " هل أرسل لك صورتها حتى تراها؟ "
رد الآخر بتهكم: " حينما تراها أنت أولاً "
زفر زيد وهو يتصنع الضيق قائلاً: " بسبب اوامرك التي لا تنتهي وطلبات زهراء هانم الكثيرة وكأنني خادمها لم أتمكن من رؤيتها حتى الآن "
همهم الآخر بتململ فقال زيد: " أخاها غير الشقيق يبدو مسالما وهادئاً جداً "
رد الآخر ساخراً: " لا أظنها ستكون مسالمة هي الأخرى فدماء الجبالية حارة "
رفع زيد حاجبيه يقول: " تتحدث مثل جدي.. حتى هو يصر على أن عائلتها الأولى والأخيرة هي الجبالي لاغيا تماماً أن الفتاة من آل الباسل "
رد الآخر بهدوء جاد: " إنه يحاول التشبث بها لأنها ما تبقى له من ابنته.. لقد تحمل الكثير في السنوات القليلة الماضية فقدان ابن وراء الآخر ليس بالهين عليه لذا فهو معذور "
ابتسم زيد يقول: " أحب تحليلك للأمور "
رد الآخر بسخرية: " بدأت أشك فيك وفي نواياك تجاهي صراحة.. ما تحبه بي أصبح كثيراً "
ضحك زيد بمرح وهو يرد بمناكفة: " ومن يراك ولا يحب فيك كل شيء "
تنهد الآخر قائلاً: " إذن عليّ الرحيل قبل أن يتطور الأمر بيننا أكثر فأنا ميولي تختلف عنك "
وبالفعل ما إن أنهى حديثه حتى غادر من الباب الخلفي للحديقة كما دخل تاركاً زيد من خلفه مطرق الرأس بأسى وقلب مهموم
***

بعد بضعة دقائق
كان ياسين يقف في الحديقة الخلفية يتلفت حوله بتوتر وهو يغمغم بضيق: " تباً لكِ يا ملك.. ستوقعيننا في كارثة بسبب رعونتكِ "
أجفل على تربيته خفيفة على كتفه فاستدار بإرتباك ليجد شاغلة أفكاره تتمثل أمامه في أحلى طلاتها وأكثرها فتنة
ترتدي ثوب طويل لامع بلونها المفضل الأحمر الناري، كان الثوب يخفي جسدها كله لكنه لا يترك مجال للمخيلة لا بلونه الصارخ أو تفصيلته التي تحدد قوامها كما لو أن لا شيء يسترها، أما شعرها فكان مجدولاً ومستريحا على كتفها الأيمن
رفع حاجبيه بذهول وهو ينظر إلى وجهها ليس لأنها تضع مساحيق التجميل لأول مرة بهذه الطريقة المفرطة وإنما للون الذي صبغت به شفتيها
وجد لسانه بغير شعور منه يترجم افكاره: " من تريدين أن تشعلي بهذا اللون الصارخ يا مجنونة؟ "
تلون ثغرها بابتسامة مغوية وهي تقول: " هل أعجبك؟ "
فغر فاهه ببلاهة وهو يتمتم: " ها! "
اتسعت ابتسامتها برضا وهي تضع كفها على كتفه قائلة برقة: " ما رأيك؟ "
قطب بحيرة يقول: " رأيي في ماذا؟ "
تلونت ابتسامتها ببراءة زائفة وهي ترد: " في مظهري الليلة؟ "
ازدرد ريقه وهو يرمقها بنظراته من رأسها حتى اخمص قدميها ليعود وتتسمر نظراته على شفتيها بلونهما الصارخ كلون ثوبها فيجد نفسه يرد بصوت أجش وكأنه مسلوب الإرادة: " تبدين كشعلة من نار "
فلتت منها ضحكة صغيرة بعبث وهي تحرك أناملها بخفة على كتفه بينما تهمس له: " ألا تخشى على نفسك مني أن احرقك؟ "
رفع عينيه إلى عينيها بصمت فتابعت بنعومة: " أم إنك ترحب بي وتريد... "
قاطعها ببرود: " على رسلكِ يا ابنة عمي فلا أظنني طلبت منكِ أي شيء من قبل وحتى اللحظة "
قطبت بإحباط مصطنع وهي ترد: " ظننتك تحبني لكن يبدو أنني كنت اتوهم ذلك "
لم يكن خافيا عليه طريقتها المغوية في الحديث معه أو استعراض نفسها أمام عينيه دون حياء ورغم أنه يرى عيوبها جلية أمامه إلا إنه لا يملك سوا أن يغرق فيها أكثر لكن ذلك لم يجعله يوماً ذليلاً أمامها أو ضعيفاً
عليها أن تفهم وتعي أنه لن يسمح لها بالتهور وجلب المصائب لهما حتى ولو كان المقابل البعد عنها لكي يحميها ويحافظ عليها من نفسها
هو ينتظر اليوم الذي ستصبح فيه حلاله أمام الجميع لذا لا يريد أن يجتمعا على معصية وتلك الغبية لا تفهم ذلك، تخطو نحوه بسرعة كبيرة خطوات مجنونة دون حساب
زفر بملل يقول: " ملك لا داعٍ لنكرر نفس الحديث مجدداً حقاً سئمت "
رفعت له عينيها تطالعه بحنق فأردف: " تعلمين جيداً أنني أحبك وأريدك معي طوال الوقت لكن ذلك كما أخبرتكِ لن يتم بأي طريقة سوا الزواج.. إنه الوسيلة الوحيدة التي يمكنها أن تجمعنا معاً حتى آخر العمر لكن... (تهربت من نظراته فتنهد يكمل) لا أعلم سبب رفضكِ.. في كل مرة أخبركِ أنني سأتحدث مع جدي واطلبكِ منه ترفضين "
ازدردت ريقها وهي تجيبه بكذب: " أخبرتك من قبل أنني لا أريد الزواج قبل إتمام دراستي "
رفع حاجباً وهو يقول بتهكم: " والآن ما الحجة الجديدة التي ستتحججين بها؟ لقد أنهيتِ دراستكِ منذ عامين كاملين ولازلتِ على نفس رفضكِ "
هتفت بحنق: " أنا لا اتحجج.. أنا فقط... "
صمتت فهتف هو في المقابل بنفس الحنق: " أنتِ ماذا يا ملك؟ ماذا؟ أخبريني سبب مقنع... سبب واحد وأقسم لن أتحدث معكِ في هذا الموضوع حتى تأتين إليّ وتخبرينني أنكِ راضية "
أشاحت بوجهها عنه ولم ترد فقطب بجمود وهو يقول: " حينما تملكين الرد أخبريني لننتهي من هذا الموضوع الذي طال وسخف وحتى ذلك الحين... "
رفعت عينيها إليه بترقب فتابع بنفس الجمود: " لا أريدكِ أن تهاتفيني يا ملك وأي مكان أتواجد فيه لا أريدكِ أن تشاركينني فيه وإياكِ أن تكرري حماقتكِ السابقة وتأتي إلى غرفتي "
قالت بإرتباك: " أنا... "
لم يسمح لها بالكلام فقاطعها بحزم يقول: " في المرة الماضية أكتفيت بتحذيركِ لكن إن فعلتِها مجدداً أقسم سأخبر جدي "
ما إن انتهى من حديثه حتى تركها ورحل فضربت الأرض بقدمها وهي تتمتم بضيق: " غبي "
اجفلها صوت خافت ساخر من خلف إحدى الأشجار الضخمة يقول: " لا يبدو لي غبياً بل شابا على خلق يريدكِ في الحلال لكن السؤال هنا هو.. ماذا تريدين أنتِ منه؟ "
تسمرت ملك في مكانها بخوف ولم تنطق بكلمة وهي تتلفت حولها تبحث عن مصدر الصوت الساخر الذي تابع: " الغريب أنكِ لا تريدين الزواج به حاليا على الأقل.. لكنه يبدو السبيل الوحيد أمامكِ لكي... "
سكت دون أن يكمل جملته فازدردت ملك ريقها لتسمعه يقول بعد لحظات: " لماذا تحاولين بخس قدر نفسكِ بتلك الطريقة الوقحة المبتذلة؟ لماذا تشوهين صورة الملاك فيكِ وتسعين لتحويلها إلى صورة مشوهة رخيصة؟ "
شهقت بصدمة من قسوة كلماته وجحظت عينيها وهو يتابع: " هل تتخيلين أن تنزلق قدميه في علاقة محرمة معكِ؟ هل هكذا تخططين لأجل تحقيق حلمكِ؟ "
صرخت دون وعي منها، دون أن تفطن لأن من تحدثه شخص لا تعلم هويته حتى: " أنا لست رخيصة كما تصورني ولا تتحدث عن حلمي.. ماذا تعلم أنت عن حلمي.. ها؟ "
أتاها صوته بارداً مستخفا وهو يجيبها: " أ ليست الهجرة والسفر للخارج هي حلمكِ السخيف الذي تسعين لتحقيقه بأي وسيلة؟ "
تسارعت أنفاسها وهي تتراجع للخلف بخوف.. ما قاله صحيح هي لا تتمنى شيء أكثر من الرحيل والهجرة للخارج بعيداً عن العائلة والماضي
لا تتمنى سوا الفرار من ثأر يعكر صفو حياتها ويحتل منامها بضراوة مهددا سلامها ومغلقا في وجهها كل سبل الأمان
لا تتمنى إلا نيل فرصة واحدة في التحليق بعيدا وحينها ابدا لن تفكر في العودة ولو كلفها ذلك كل ما تملك ولو كان السبيل الوحيد للبعد هو خسارة من تحب.. خسارة ياسين
عاد صوته بعد لحظة بنفس النبرة ولكن غلفها بقسوة ارعبتها: " إن تجرأتِ وكررتِ ذهابكِ إلى غرفة ياسين أقسم بالله سأجعلكِ تبكين ندما يا ملك وإن ظننتِ أنه غر لدرجة أن تحاولي استغلاله لتحقيق أحلامكِ فأنتِ واهمة إذن.. إياكِ أن تنسِ كيف يكون غضب رجال آل الجبالي إن مس أحد بكرامتهم وكبريائهم.. هيا اذهبي ولا تنسِ أن تفكري جيدًا في كلامي "
وكأنها كانت في إنتظار الأمر منه لتتحرك ما إن سمح لها بعد أن كان هدير صوته يجمدها في مكانها، أطلقت لقدميها الريح دون أن تسأله حتى عن هويته وكيف توصل لتلك المعلومات التي لم تخبر عنها أحد من قبل إلا إحدى زميلاتها في الجامعة ذات يوم من باب الثرثرة لا أكثر
كانت تركض بسرعة وكأنه سيلاحقها وما إن وصلت إلى غرفتها واوصدت الباب بالمفتاح حتى تهاوت على الأرض وظلت جامدة لثواني معدودة ثم وفجأة اجهشت في البكاء
كانت تبكي بحرقة ومرارة وعاد صوته يصدح من حولها وكأنه تتبعها إلى غرفتها وأخذ يكرر كلامه من جديد
' لماذا تحاولين بخس قدر نفسكِ بتلك الطريقة الوقحة المبتذلة؟ '
' لماذا تشوهين صورة الملاك فيكِ وتسعين إلى تحويلها إلى صورة مشوهة رخيصة؟ '
' هل تتخيلين أن تنزلق قدميه معكِ في علاقة محرمة؟ هل هكذا تخطيط لأجل تحقيق حلمكِ؟ '

شهقت بصدمة وجزع من أفكارها وأفعالها، هل كانت تسعى حقاً لإيقاع ياسين في هذا الفخ الرخيص
هل فسر ياسين ما فعلته بهذه الطريقة؟ هل أصبح يراها بهذه الصورة الوقحة؟ هل سيكرهها؟
بالطبع سيفعل فما الذي سيجبره على البقاء على حب فتاة أهانت نفسها بتلك الطريقة المبتذلة
عاد عقلها يصرخ من جديد 'لا هذا ليس تفسير ياسين وليس كلامه وإنما كلام... كلام من؟؟؟؟'
الشبح!
سخرت من نفسها فالصوت الذي سمعته واهانها لم يكن صوت خاوي لشبح بل صوت... صوت انسان غاضب، أجل كان غاضباً نبرته القاسية لم يكن سببها سوا الغضب ولكن من هو ليغضب منها؟ وماذا فعلت له ليغضب؟ هي حتى لا تعرفه
هتفت بحرقة: " غبية يا ملك.. غبية كشفتِ نفسكِ أمامه وأنتِ حتى لا تعرفين من هو؟ "
صرخ عقلها من جديد أنها لم تكشف نفسها بل هو من فعل.. هو كان يعرف كل شيء وليس في حاجة لأن تخبره
شهقت وهي تفكر بخوف واضطراب: " ترى من يكون؟ وماذا إن أخبر ياسين عما يعرفه؟ "
***

أما هو وبعد أن تأكد من رحيلها تنهد بوجوم وهو يتمتم: " تماديتِ كثيراً يا ملك.. أكثر من اللازم وحان وقت ايقافكِ عند حدكِ"
قطب وهو يطالع الغصن الصغير بين أصابعه قبل أن ينهض من مكانه قائلاً: " لنرى من التالي؟ (وضع الغصن بيت أسنانه وهو يفتح هاتفه ويبحث عن شيء ما ثم أكمل حديثه) حياة! اممم يبدو أنها ليلة الأختان العنيدتان والأخان المعذبان "
***

خرجت حفصة وحياة من غرفة زهراء وهما تضحكان على شيء ما لتقول حياة: " لك الله يا حمزة.. من ابتلاك يرحمك يا ابن عمي "
ضحكت حفصة من جديد وهي ترد: " معكِ حق.. مسكين حمزة والله "
كادت حياة تتكلم لكن رؤيتها لقاسم وهو يصعد الدرج جعلتها تسكت فتنحنحت حفصة تقول: " سوف اذهب لأبحث عن حلا "
وانسحبت بعدها وهي تدعو الله أن يستغل قاسم الفرصة ويتحدث مع حياة
لم تعيره حياة أي إهتمام وخطت نحو غرفتها بهدوء فتبعها بصمت حتى فتحت الباب فاستوقفها وهو يقول: " حتى متي؟ "
استدارت له وردت ببرود ووضوح دون أن تتصنع عدم الفهم: " حتى أشعر بالسلام "
قطب وهو يقول: " مرت سنوات وطال الأمر وصبري يكاد ينفذ "
رفعت حاجباً باستخفاف وهي ترد: " هل تهددني يا ابن عمي؟ "
قبض قاسم على أصابعه وهو يقول بصوت خافت متصلب: " ما عاش ولا كان من يهددكِ يا ابنة عمي "
شعرت بالتوتر فجأة فتهربت من نظراته القوية وهي تقول: " ماذا تريد مني يا قاسم؟ "
تنهد بقوة وهو يشيح بوجهه عنها بينما يرد: " وماذا سيريد منكِ مسكين مثلي؟ "
نظرت له بذهول فهي لم تعتد منه هذا الرفق في الحديث ولا تلك الرقة والاستسلام في نبرته فقالت بخفوت: " لا أفهم ماذا تريد؟ "
تلاقت نظراتهما للحظة بسكون قبل أن يرد قاسم بصوت أجش قوي: " أريدكِ أنتِ يا حياة "
توترت حياة فقالت: " قاسم أنا... "
قاطعها بصلابة وهو يقول: " حياة أنا أجدد طلبي واكرره ثانية بل للمرة الألف وربما أكثر فقد توقفت عن العد منذ وقت طويل.. سأطلبكِ من جدي بعد إنتهاء عرس حمزة وزهراء "
" لا "
رفع حاجبيه وهو يكرر رفضها القاطع الذي نطقت به دون تفكير: " لا! "
قطبت حياة بصلابة توازي خاصته وهي تقول: " لا تفعل يا قاسم "
قطب يقول: " لماذا؟ "
ردت حياة بضيق: " لا أحب أن يضعني أحد أمام الأمر الواقع "
بدت عليه الحيرة وهو يقول: " أنا لا أجبركِ على الموافقة بل أخيركِ "
ضربت الأرض بقدمها بطفولية وهي تصيح: " لكنك لو فعلت وطلبتني من جدي لن استطيع الرفض.. مستحيل أن أرفض طلبك يا قاسم.. لن أستطيع أن أردك فارغ اليدين وأنت تعلم ذلك "
تنهد وهو يقول: " إذن لا ترفضي "
هزت رأسها سلبا وهي تقول ببؤس: " لا أستطيع.. أريد قول نعم لكنني لا أستطيع "
عبس دون أن يرد فتابعت برجاء: " لا تفعل يا قاسم.. أرجوك لا تفعل "
أشاح بوجهه عنها مجددا قبل أن يقول بصوت جامد: " لا تترجيني حياة.. أوامركِ مطاعة يا ابنة عمي.. لن أفعل وأيضاً لن... (نظر لها ببرود وهو يكمل) لن أعيد طلبي... أبداً.. تصبحين على خير "
اختفى من أمامها سريعاً وتركها خلفه متسمرة في مكانها وسالت من عينها دمعة وحيدة وكلمته تصدح مراراً وتكراراً
قاسم قال أنه لن يعيد طلبه.. أبداً
تعلم أنه يفعل ما ينطق به وإن قال أنه لن يكرر طلبه فقد عنى الكلمة وسينفذها
وبخت نفسها: " لماذا تبكين؟ لماذا تتحسرين الآن؟ أ لستِ من طلبتِ منه ألا يخبر جدكِ؟ "
دلفت لغرفتها وأغلقت الباب تستند عليه وهي تترك العنان للمزيد من العبرات تسيل بينما تقول: " كيف اتزوج وأسعد في حياتي وأبي دمه لازال مهدورا وحقه لازال ضائعا؟ "
شهقت باكية وهي تضيف: " لازال الطريق شائك يا قاسم.. بيني وبينك سور عالٍ لا أظنك بقادر على اختراقه ولا أظنني أملك الطاقة الكافية حتى أهدمه لأجلك "
تحركت اتجاه الفراش وهي تتمتم بقهر: " والله يوجعني قلبي في كل مرة أردك مخذولاً لكني لا أملك الحل.. سامحني يا قاسم "
كان هذا ما قالته قبل أن تهوى على الفراش وتجهش في البكاء حالها كحال أختها وليس بأفضل منها
***

كانت فرح تقف أمام النافذة وتنظر للأسفل بحيرة وهي تقول: " ماذا يفعل أخاكِ وحده حتى اللحظة؟ "
عبست شمس وهي تقول: " هل لازال في الحديقة الخلفية؟ "
اومأت فرح إيجاباً وهي تسألها: " هل يدخن؟ "
ردت شمس بنفس العبوس: " حينما يكون غاضباً من شيء "
استدارت فرح تنظر إلى شمس بإهتمام بالغ وهي تقول: " ومما هو غاضب؟ هل أساء أحد من عائلتنا إليه؟ "
عقدت شمس ساعديها أمام صدرها وهي ترد: " هو غاضب بسبب شخص آخر لا تعرفينه "
ابتسمت فرح وهي تناكفها: " كم هو شرير إذن هذا الشخص.. كيف استطاع ازعاج كائن بوسامته تلك؟ "
تنهدت شمس ببؤس ولم ترد فألتفتت فرح إلى النافذة من جديد وصرخت بذهول: " ماذا يفعل؟ "
هبت شمس من جلستها واقتربت من النافذة تنظر حيث أشارت فرح فقطبت بكآبة على خلاف فرح المصدومة والتي عادت تهتف بدهشة: " هل ستتركينه يفعل هذا الجنون؟ "
ردت شمس ببؤس: " لا سأشاركه جنونه "
خلال ثوان كانت شمس تغادر الغرفة بينما فرح ظلت على وقفتها تنظر إلى أنس الذي افترش الأرض ونام
***

وقفت شمس متخصرة تنظر إلى أنس الذي ينام على الأرض بسكون
كان ينام على ظهره، يرفع ساقاً فوق أخرى بعجرفة وكأنه ينام على بساط علاء الدين السحري لا على أرض ترابية بينما يتوسد أحد ذراعيه تحت رأسه والأخرى يضعها على وجهه يخفي بها عينيه
ظلت على صمتها حتى سمعته يقول بصوت هادئ حنون: " الجو بارد هنا.. اصعدي للأعلى يا شمس "
برمت شفتيها بطفولية وهي تقول: " ليس لي مكان في الأعلى فرح طردتني "
ضحك أنس وهو يقول: " أخبرتكِ من قبل أنكِ فاشلة في الكذب "
تنهدت بإحباط ترد: " هل هذا يعني أنك لن تسمح لي بالنوم إلى جوارك؟ "
رد دون أن ينظر إليها: " أكيد "
شعرت شمس بالغيظ فهتفت: " لكنني دوماً أسمح لك بالنوم إلى جواري "
ابتسم أنس وهو يرد باستفزاز: " ومن قال أنني احتاج لأن تسمحي لي.. أنا أفعل ما يحلو لي وما أريد "
ابتسمت بسخرية وهي تقول: " رحم الله أياماً كنت تتوسلني فيها لكي أسمح لك بالنوم في غرفتي "
رفع ذراعه عن وجهه ونظر لها مناكفاً يقول: " هل غضبت شمسي مني؟ "
عقدت ساعديها أمام صدرها واشاحت بوجهها عنه وهي ترد: " جداً "
ضحك أنس وهو يشير لها أن تقترب قائلاً: " تعالِ إذن لأصالحكِ "
نظرت له بطرف عينها تتصنع التمنع فأردف بمكر وهو لازال يضحك: " سأخبرك سر يخص تلك المغرور ابنة عمك "
نظرت له باهتمام جلي وهي تقترب منه سائلة بحماس: " تقصد ملك؟ أي سر؟ "
جلست الى جواره فسحبها بخفة وضمها إلى صدره وهو يقول: " نعم ملك.. هل لازالت تبكي؟ "
قطبت بعدم فهم تقول: " ملك تبكي! لماذا؟ "
تنهد وهو يرد: " لقد آلمها بكلامه جداً.. كان قاسياً معها لكن صدقاً الرجل معه الحق فيما قال.. تلك الفتاة كانت بحاجة لمن يوقفها عند حدها قبل أن تتهور وتجلب لنفسها ولابن عمها مصيبة "
كانت شمس حائرة لا تفهم شيء مما يقول فصاحت بحنق: " هلا تحدثت بوضوح أكثر أنا لا أفهم شيء؟ "
قطب أنس فجأة وهو يفكر بشرود في شيء ما طرأ في عقله فرد بعد لحظات بتفكير: " أتعلمين من الجيد أنكِ لا تفهمين لأنني لا نية لي في أخباركِ صراحة "
عبست وهي تهتف بغيظ: " أنت لئيم جداً "
تنهد أنس وهو يقول بلامبالاة: " أعلم "
***

في الأعلى
أغلقت فرح النافذة وهي تحدث نفسها بدهشة: " لقد ظننتها تمزح لكنها نامت إلى جواره حقاً في الحديقة.. ماذا لو رآهما أحد؟ "
ردت حلا وهي منشغلة بأكل الحلوى التي سرقتها دون إذن والديها: " إنهما أخوان لا مشكلة أن يناما معاً في الحديقة "
اومأت فرح برأسها وهي تجلس إلى جوارها على الفراش بينما تقول: " أعلم أن لا مشكلة في ذلك سواء كانا في الحديقة أو في أي مكان آخر لكن... لا يصح أن تنام شمس في مكان مكشوف هكذا إنها فتاة وفي الدار رجال كثيرين "
قطبت حلا وهي تفكر في كلام فرح ثم هتفت بعد لحظات: " هل سيعاقبها جدي إن علم؟ "
حركت فرح كتفيها وهي ترد: " لا أظن ذلك لكنه سينزعج إن رآها أحد في هذا الوضع "
عادت حلا تنشغل بتناول الحلوى بينما فرح تفكر في تلك العلاقة القوية التي تربط بين شمس وأنس
وبعد صمت طويل قالت حلا بحيرة: " لماذا ترسم شمس الحناء على يديها؟ "
ابتسمت فرح وهي ترد: " جميعنا فعلنا حتى أنا انظري(صاحبت كلامها بأن بسطت كفها أمام حلا تريها الحناء بينما تردف) لقد رسمت لي العمة فاطمة اسم أبي "
وضعت حلا قطعة من الحلوى في فمها وهي تقول بدهاء: " لكن شمس ترسم إسم عمي زيد "
قطبت فرح بحيرة تقول: " كيف عرفتِ؟ أنتِ لازلتِ تتعلمين حروف الهجاء "
ردت حلا ببساطة: " سمعت الجدة فاطمة وهي تخبر جدي سليم "
قطبت فرح بقلق وقالت: " وماذا كان رد فعل عمي سليم؟ "
فعبست حلا وهي تقول: " لقد أخبرها أن لا بأس لكن بعد أن رحلت سمعته يقول 'أن وقت فتح ذكريات الماضي لم يحن بعد' فماذا كان يقصد يا فرح؟ "
شردت فرح في تحليل تلك الكلمات وفي نفس اللحظة طرقت حفصة الباب ودخلت تقول بابتسامتها الحنونة: " هيا يا حلاي لندع فرح حتى تنام "
نهضت حلا وهي تخفي طبق الحلوى خلف ظهرها وترد بوداعة: " حاضر ماما "
نهضت فرح هي الأخرى تقول: " اذهبي أنتِ يا حلا فهناك ما أريد الحديث فيه مع ماما "
اومأت حلا برأسها وركضت إلى الخارج وهي سعيدة لأن أمها لم تكتشف سرقتها للحلوى بينما انشغلت حفصة بتعابير القلق التي بدت على فرح
قطبت حفصة بقلق تقول: " ما بكِ يا فرح؟ هل أنتِ مريضة؟ "
هزت فرح رأسها سلباً وهي ترد: " أنا بخير يا حفصة لكن هناك أمرا مهما أريد أن أحدثكِ فيه "
جلست حفصة أمام فرح في حين قالت الأخيرة: " أريد سؤالكِ عن شيء "
اومأت حفصة دون رد فتابعت فرح: " هل تعرفين السبب الذي جعل جدي يأمرنا بعدم الحديث أمام شمس عن العمة حبيبة رحمها الله؟ "
تنهدت حفصة وهي ترد: " بالطبع لا ومن أين سأعرف أنا؟ تعلمين جيداً يا فرح أن جدي كثيراً ما يصدر قراراته دون مشورة أحد وفي الغالب لا يكون أحد على إطلاع بها سوا عمنا خالد "
قطبت فرح وهي تفكر بصوت عالٍ: " هل تظنين أن أمره كان عاماً أي أنه لم يقصد شمس بعينها؟ "
قطبت حفصة بالمثل وهي ترد: " اممم هذا محتمل فعلاً.. من الممكن أن يكون جدي لا يريد منا أن نعيد فتح سيرة الماضي لهذا أمرنا ألا نتحدث معها أو نحكي لها عن العمة حبيبة رحمها الله "
نهضت فرح من مكانها وأخذت تتحرك في الغرفة جيئة وذهابا وهي تقول بحيرة: " لكن هناك شيء غريب ألم تلاحظي ذلك؟ "
مالت حفصة برأسها قليلاً وهي تنظر لها بعدم فهم قائلة: " أي شيء تقصدين؟ "
توقفت فرح مكانها ونظرت إلى حفصة تقول: " لكننا اخبرناها عن عمي محمد وعن والدكِ.. اخبرناها بشأن هذا الثأر القديم الذي كانا ضحيته لكننا في المقابل لم نخبرها شيء عن العمة حبيبة رغم أن وفاتها أيضاً متعلقة بهذا الثأر ولم نخبرها عن ابن عمنا سليم "
جلب حديث فرح العفوي عن ذلك الحادث المرارة إلى حفصة وهي تتذكر والدها الذي حرمت منه فترقرق الدمع في عينيها وهي تطرق برأسها للأرض دون أن ترد
شعرت فرح بالحزن والشفقة عليها فاقتربت منها حتى جثت على ركبتيها أرضاً أمامها وامسكت كفيها بحنان وهي تقول: " أنا آسفة يا حفصة.. لم أقصد أن أذكركِ بكل هذا "
تنهدت حفصة بحسرة وهي ترد: " لا بأس يا فرح فأنا لم أنساه من الأساس "
ابتسمت فرح بكآبة وهي تقول: " معكِ حق وكيف ننسى من يسكنون قلوبنا وأرواحنا؟ "
ران بينهما الصمت لدقائق طويلة حتى قالت حفصة بهدوء: " قد يكون السبب وراء ذلك هو سبب وفاة العمة حبيبة رحمها الله "
نظرت لها فرح بتعجب تقول: " تقصدين أن جدي يريد إخفاء حقيقة موت ابن عمنا سليم لكن لماذا؟ من حقها أن تعرف فهي ليست غريبة عنا "
تنهدت حفصة وهي تقول: " والله لا أعرف يا فرح.. هذا ما أظنه أنا ومع صعوبة الوصول إلى تفكير جدكِ فلا أجد تفسير آخر لهذا الأمر "
لم تعقب فرح على كلامها فنهضت حفصة من مكانها وربتت بحنان على رأس فرح وهي تقول: " لا ترهقي نفسكِ بالتفكير يا فرح ودعي الأمور تسير كما يخطط لها القدر فلا نعلم ما يخبئه الغد لنا "
اومأت فرح برأسها بصمت فأبتسمت حفصة وهي تردف: " هيا اخلدي للنوم مباشرة فلم تتبقى سوا ساعات قليلة حتى تشرق الشمس ويأتي الصباح بصخبه المرتقب "
اومأت فرح بطاعة وهي تبتسم لحفصة بامتنان صامت لتلك المعاملة الفريدة التي تنالها منها وكأنها ابنتها فتجد في ذلك تعويضاً كبيراً عن فقدان أمها
***

صباحا / في المستشفى
دخل يوسف الغرفة متعجبا من وجود صخر في هذه الساعة المبكرة وقد أخبره بالأمس أنه لن يتمكن من الحضور خلال ساعات النهار الأولى
أغلق الباب واقترب بخطى هادئة منه حيث ينام على الأريكة الجلدية يتوسد أحد ذراعيه تحت رأسه والآخر يغطي به عينيه
فتح يوسف فمه وقبل أن ينطق بحرف سبقه صخر بالقول: " لستُ نائما يا يوسف.. تعال أجلس "
تنهد يوسف وهو يسحب كرسي من أمام المكتب يقربه من الأريكة قبل أن يجلس قائلاً: " يبدو أنكَ هنا منذ زمن "
رد صخر دون أن يتحرك أو يغير من وضعيته: " لم أذهب للبيت بالأمس.. أنهيت بعض الأعمال ثم عُدت إلى المشفى مرة ثانية "
قطب يوسف بحيرة وهو يسأله بترقب: " عن أي أعمال تتحدث صخر؟ "
رد صخر بسؤال آخر: " أخبرني يوسف كيف يخطئ الأخ التعرف على أخاه؟ "
زادت تقطيبة يوسف بعدم فهم وهو يتمتم: " ماذا؟ "
تكلم صخر بعد لحظة وكأنه يحدث نفسه: " أنا شخصيا أتعرف بسهولة على أي شخص ألتقيته من قبل ولو لمرة ولو جمعتنا نظرة واحدة فقط.. مستحيل أن أخطئ التعرف عليه إن تقابلنا ثانية فكيف يخطئ الأخ التعرف على توأمه الذي هو من لحمه ودمه بل ما يربطهما أقوى من ذلك؟ "
عبس يوسف بغيظ من كلمات صخر التي تبدو له كأحجية لا يستطيع تفكيكها وهتف: " أنتَ يا دكتور أعتدل أولاً وأنتَ تكلمني وفسر كلامك فكما تعرف أنا جاهل في فك الشفرات وحل الألغاز والأحاجي المعقدة التي أنتَ بارع فيها "
تنهد صخر بعمق قبل أن يرد بمناكفة: " والله لا طاقة لي لأن أعتدل دكتور يوسف فأسمح لي بالهذر في وضعي هذا بدون أي تذمر منك رجاءً "
ابتسم يوسف وهو يلكزه في كتفه مازحا: " هل تحاول المراوغة حتى لا تخبرني مع أي فتاة قضيت ليلة أمس؟ "
رد صخر بنبرة تصنع فيها البراءة: " أوه يوسف.. دوماً هكذا تظن بي ظن السوء رغم أني شاب برئ النوايا ومستقيم الدرب "
رفع يوسف حاجبيه بذهول مصطنع وهو يقول: " معك حق دوماً أظلمك يا مسكين.. أستميحك عذرا أيها البرئ المستقيم "
تنهد صخر يرد بقلة حيلة: " لا أعرف والله كيف أتخلص من طيبة قلبي تلك التي تسبب لي المشاكل دائما لكن حسناً سأتنازل تلك المرة أيضًا وأسامحك "
ضحك يوسف بمرح قائلًا: " يبدو أن مزاجك ليس مكدرا كالعادة "
أزاح صخر ذراعه عن عينيه وهو يلتفت برأسه قليلا، ينظر إلى يوسف مجيبا بصوت كئيب: " بلى هو مكدر يا يوسف لكني أحاول تصفيته بقدر ما أستطيع "
قطب يوسف بقلق وهو يندر له بتدقيق سائلا: " صخر عينيك محتقنتين بشدة.. هل كنت تبكي؟ "
ازدرد صخر ريقه وهو يرد بإحباط: " كلا.. لكنني لم أنم لدقيقة حتى.. ليلة أمس استنفذت الكثير من طاقتي وجهدي "
سأل يوسف بإهتمام وهو ينظر لصخر بقوة: " أين كنت ليلة أمس يا صخر وأي عمل ذاك الذي انشغلت فيه دون أن تخبرني عنه؟ "
زفر صخر بقوة وهو يعتدل جالسا قبل أن يرد بصوت جامد ونبرة قاتمة: " كنت في مدينة الجبل "
هب يوسف من مكانه وهو يصرخ بإنفعال: " آخر مرة أتفقنا ألا تذهب إلى هناك وحدك.. لماذا خالفت الإتفاق الذي كان بيننا؟ "
قطب صخر وهو يرد ببرود: " أنا لم أتفق معك على شيء.. أنت من قررت وحدك وصمتي حينها لم يكن يعني موافقتي على ما تقول "
هتف يوسف بنفس الإنفعال: " كان يجدر بكَ أن تخبرني إذن طالما سيادتك لم توافق لا أن تدعني كالأحمق أثرثر بكلام ليس منه أي فائدة "
صاح صخر بحدة قائلا: " هل يمكنك أن تهدأ وتمنحني فرصة لكي أشرح لك سبب ذهابي إلى هناك دون إخبارك؟ "
تأفف يوسف بضجر فغمغم صخر بإقتضاب محاولا قدر الإمكان التحكم في أعصابه: " هلا جلست؟ "
رضخ يوسف لطلبه وجلس على كرسيه من جديد وهو يتمتم بغيظ: " ها قد جلست.. ما التالي؟ "
تنهد صخر بعمق وهو يحاول التماسك حتى لا يستسلم للصداع الشديد الذي يضرب جانبي رأسه بلا هوادة.. تكفيه أعصابه المتشنجة والمتوترة منذ ساعات لسبب يجهله شخصيا حتى اللحظة

بعد لحظات قال: " تعلم أن لي عيون في دار الناصر كما في دار الجبالي حتى أكون على إطلاع تام بكل ما يدور هناك "
نظر له يوسف بإهتمام فاستطرد صخر: " بعدما غادرت أنت بالأمس وصلتني رسالة من أحد الرجال التابعين لي يخبرني بأن فؤاد يخطط لقتل زيد "
هب يوسف من جلسته صارخا بصدمة: " ماذا؟ كيف؟ والله كنت قتلته إن حاول أن يمسه بمكروه "
صرخ صخر بنفاذ صبر: " أجلس يا بني آدم ودعني أنهي حديثي "
عاد يوسف إلى كرسيه والقلق قد عصف بكيانه بينما عبس صخر وهو يتابع حديثه: " لم أُرِد حينها أن أقلقك لخبر قد يكون مجرد كذبة ابتدعها فؤاد لسبب أو لآخر ففضلت أن اتأكد بنفسي من الأمر أولاً لذا ذهبت إلى هناك دون أن أخبرك "
سأل يوسف بخوف بدى جليا على ملامحه: " وماذا وجدت؟ كانت مجرد كذبة أليس كذلك؟ "
قطب صخر بجمود وهو يجيبه: " لا.. الخبر أكيد.. فؤاد يريد بالفعل التخلص من زيد "
شحب وجه يوسف وهو يطالع صخر بصدمة قائلا بخفوت وصوت متحشرج: " ما علاقته بزيد؟ ماذا فعل له زيد من الأساس حتى يخطط فؤاد لقتله؟ "
رد صخر بتهكم: " يظن أن زيد هو من يتسبب له في المشاكل التي تتوالى عليه تباعا من كل جانب "
عبس يوسف وهو يتمتم بعصبية: " ماذا؟ أحمق هو أم ماذا؟ كيف يظن هذا بزيد؟ "
حرك صخر كتفيه وهو يرد ساخرا: " وأنا والله كنت أتساءل أيضاً.. كيف ظن بزيد الفتى المدلل الذي بالكاد يمكنه الصراخ والسب أنه من يتسبب له في تلك الخسائر المتلاحقة؟ "
توسعت مقلتي يوسف فجأة وهو يهتف باستدراك متأخر: " من حقه أن يظن أن السبب في كل ما يحدث له هو زيد "
نظر له صخر بترقب وهو على يقين بما سيحدث في اللحظة التالية.. سينفعل يوسف ويفقد أعصابه مطلقا العنان للسانه متحدثا بدون تفكير وبالفعل هب الأخير من جلسته للمرة التي لا تعد وأخذ يلوح بيديه صارخا بإنفعال والكلمات تخرج من فمه متلاحقة: " تفعل أنتَ كل شيء.. تخطط، تقرر، تأمر، وتنفذ ومن ثم يقع هو ضحية لكل ما تقوم به "
ظل صخر على صمته يستمع إليه بهدوء ظاهري وملامح ساكنة لا تعبر عن شيء بينما يوسف تعلو نبرة صوته أكثر وأكثر وهو يضيف: " ألم تفكر للحظة بالعواقب التي قد تحدث بسبب ما تفعله؟ ألم يخطر بعقلك عدد الضحايا الذين قد يأخذهم الموت عقابا لهم على مساندتك ومشاركتك فيما تقوم به؟ "
حينما سكت يوسف بعد آخر كلمة قالها ولم يبدي أي رغبة في قول المزيد جاء دور صخر ليتكلم ببساطة مستفزة: " تابع يوسف.. كلامك أثار اهتمامي "
نظر له يوسف بغضب قبل أن يردف بتهور: " ألن تفكر للحظة فيمن حولك وما ينتابهم من قلق واضطراب بسببك؟ ألن تقدر خوفهم عليك وأنت تلقي بنفسك في الجحيم بكل غباء؟ ألن تتراجع عما تخطط له حتى ترى بعينيك صديق أو قريب لك يذهب ضحية لما تفعله؟ هل حينها ستتراجع صخر؟ "
جز صخر على أسنانه دون رد فتابع يوسف بصوت مخذول كئيب: " أخبرني صخر هل ستتراجع إن خسرتني أو خسرت أحد أفراد عائلتك؟ هل هذا ما سيجعلك تترك انتقامك وتحيا الحاضر والمستقبل دون شوائب الماضي التي تصر على أن تبقيها عالقة بك؟ "
هب صخر من مكانه بغضب تفجر في لحظة وهو يركل الكرسي الذي كان يجلس عليه يوسف بعنف قبل أن يصرخ بوحشية: " لا يوسف.. لن أتراجع ولن أستسلم ولن أترك انتقامي حتى الرمق الأخير، حتى النفس الأخير وحتى آخر قطرة دم في عروقي.. لن أتراجع عن ثأري وإن كانت روحي المقابل لأن أحقق غايتي وهدفي.. لن أتراجع وإن كان آخر ما سأفعله في حياتي هو قتل فؤاد ولكن أولاً سأجعله يندم على كل لحظة شعر فيها بالفرح والسعادة وأنا هنا ضائع أشعر بنفسي بلا هوية.. بلا أصل "
قطب يوسف بحيرة شديدة من آخر جملة نطقها صخر.. يعلم أن صخر يخفي عنه الكثير من الأمور حتى يحميه ولا يثير قلقه لكنه لا يفهم سبب تشبثه بهذا الثأر الذي يدعيه وما زاد حياته بخصوص الأمر هو آخر كلمات نطقها صخر
الأصل.. الهوية كلاهما في قبضتين صخر.. هو يمتلك الأصل الرفيع والهوية المعروفة لكن... لماذا يتحدث وكأنه شخص مشرد بلا نسب أو أهل؟..
كان صخر يلهث من فرط انفعاله وصراخه لكنه لم يسكت بل تابع بعصبية وهو يرفع سبابته في وجه يوسف: " حتى اللحظة لم يُصب إنسان أي مكروه بسببي أنا.. حتى اللحظة لم يتأذى إنسان عقابا على ما أفعله أنا.. حتى اللحظة لم يُضر إنسان في شيء نتيجة لمخططاتي الشريرة كما تشير.. وحتى اللحظة لم أكف أنا عن حماية الجميع من يخصني من قريب أو بعيد.. لماذا يا ترى؟ (قطب بوحشية وعينيه تعصفان بالجنون قبل أن يصرخ وهو يضرب على صدره موضع القلب بعنف) لأن هنا شقي مغلوب على أمره لا يَكُف عن التفكير في الجميع.. لا يَكُف عن قطع العهود بحماية الجميع ورعايتهم "
ازدرد ريقه الذي جف من الصراخ قبل أن يقول بصوت بدى مشروخا متصدعا من شدة حدته: " لربما أكون شريرا، مغرورا، متعجرفا إلى أقصى حد لكنني ورغم كل هذا أملك بعض الرحمة يا يوسف ولولاها لا أعرف ما كنت سأفعل بقوى الحقد والغل الكامنة بداخلي وإلى أي شخص سأوجهها؟ "
حاول يوسف الكلام فقاطعه صخر بقوة يردف: " ما كنت لأدع مخلوق كان بأن يؤذي زيد ليس حبا فيه فأنت تعلم أنني لا أحبه أبدا لسبب لا يعلمه سوا الله لكنني قطعت وعدا على نفسي بحمايته لأجلك أنت "
تنهد يوسف بإحباط متمتما: " صخر أنا آسف.. صدقني لم أقصد أن أتهمك بشيء لكن... أنت تعلمني وقت عصبيتي لا أدرك ما أقوله حينها وتتداخل عليّ الأمور فتشتتني "
أشاح صخر بوجهه عنه وهو يقول بصوت بارد فاقد للحياة: " الموضوع أنتهى قبل أن يبدأ حتى وزيد في أمان "
اقترب يوسف يقول بحرج: " صخر أنا... "
قاطعه صخر بنفس النبرة: " إذا سمحت يوسف غادر الآن فلست في مزاج يسمح لي بسماع كلمة أخرى من أي مخلوق "
أطرق يوسف رأسه بندم لما تفوه به في حق صخر لكنه لم يرد أن يضغط عليه فأطاع أمره وخرج من الغرفة تاركا الأخير وحده وحديث سبق وقاله له مختار يتردد في عقله ومن حوله بصخب.
' أخلع عنكَ ثوب البطل المغوار والفارس الهمام الذي تُصر عليه.. لا أقول هذا لأنه ليس لكَ ولكن لتمهل نفسك حتى ترتاح قليلاً وتستنشق بعضا من نسمات الهواء الصافية تماما من صخب أفكارك وضغوطات عملك ومشاعرك المختلطة.. أمهل نفسك حتى تجدد موازينها التي اختلت في خضم صراعاتك التي لا تنتهي سواء مع نفسك أو مع غيرك.. أمهل نفسك حتى ترى الدنيا بألوانها الكثيرة التي خلقها الله بها ولا تجبرها على رؤية لون واحد.. حاول أن ترى نفوس البشر من كل الاتجاهات وبكل النظرات والمفاهيم ولا تقصرها على رؤيتك وحدك لأنك هكذا تكون قد ارتكبت خطأ كبيرا في حق نفسك.. النفس البشرية مهما بلغ ايثارها لشخص أو لشيء لكنها نفس بشر في النهاية عند لحظة تجدها تُسقط الجميع وترفع نفسها.. حاول أن تخزن القليل من شجاعتك لنفسك لتحميها ممن حولك صديق كان أو غريب فلا أحد مؤتمن يا بني.. لا تهمل في حق نفسك فتهملك ولا تُحملها ما لا طاقة لها على تحمله فترهقك وفي لحظة تخذلك.. امنح نفسك راحة تحتاجها وتضني بها عليها وأترك أمر الجميع لوقت لاحق فليس الكل سيقدر عظيم الجهد والتضحية التي تبذلها لأجل رضاهم وراحتهم وليس الكل سيرى ما تفعله لأجلهم فيقابلها بنفس راضية شاكرة.. عليكَ أن تفكر قليلا بنفسك فهي أيضًا تستحق '
***

مساءً / ليلة العرس
وسط أجواء الحفل النسائي الصاخب دخلت فرح مهرولة بحماس وهي تهتف: " عمي مختار هنا "
نهضت حفصة على الفور تقول بدهشة: " لا أصدق.. هل أنتِ واثقة أنه هو بالفعل يا فرح؟ "
اومأت فرح بقوة وهي تبتسم بسعادة قائلة: " طبعا واثقة.. لقد رأيته بعيني وهو يسلم على أبي وجدي "
قطبت حياة بحيرة وهي توجه حديثها لحفصة: " إنها زيارته الأولى لنا منذ رحل عن مدينتنا قبل عشر سنوات كاملة حتى زفافك وعاصم لم يحضره "
ردت حفصة بسعادة تقول: " المهم أنه هنا.. أتمنى أن أراه "
ابتسمت حياة بلطف ترد: " بالطبع سترينه طالما جاء بنفسه فلا أظنه سيغادر قبل أن يقابلنا جميعا "
لم تمض بضعة دقائق حتى دخلت إحدى الخادمات تخبر حفصة بأن الدكتور مختار ينتظرهن في إحدى غرف الضيوف
خرجت الفتيات على الفور وهن يشعرن بالحماس والسعادة للقاء الضيف العزيز عليهن والذي طال غيابه عنهن لعشر سنوات كاملة
***

كان يجلس على إحدى الكراسي المنفردة واضعا ساقا فوق أخرى بأناقة وحينما رآهن يدخلن نهض بهدوء ليستقبلهن بابتسامته الجميلة الحنونة التي تشبه ابتسامة أخاه الراحل الشيخ عبد الله
اقتربت منه حياة تصافحه بحرارة وهي تقول: " أنرت الدار دكتور مختار لازلت على نفس اناقتك "
ابتسم مختار يناكفها قائلا: " وأنتِ لازلتِ جميلة.. كبرتِ يا حياة "
ابتسمت حياة وهي تومئ برأسها قائلة: " جميعنا كبرنا عماه.. قطار العمر لا ينتظر أحد "
اقتربت حفصة مبتسمة وهي تصافحه بالمثل متمتمة برقة: " وماذا عني عماه؟ "
اتسعت ابتسامة مختار وهو يربت على كتفها بحنان خاص مجيبا: " وأنتِ لازلتِ سيدة قلبي يا حفصة.. الحجاب زادك بهاءً بنيتي "
أطرقت برأسها خجلا وهي ترد: " شكرا عماه.. لقد اشتقنا إليكَ كثيرًا "
رد بتنهيد: " وأنا أيضا اشتقت إليكم وللمدينة ورائحتها وأناسها الطيبين "
ابتسمت فرح وهي تتدخل في الحديث قائلة بمرحها المعتاد: " صلوا على الحبيب المصطفى.. ما بكم يا جماعة جعلتم من اللحظة السعيدة مثال للكآبة؟ إن استمريتم في الحديث على هذا المنوال فسوف تبكونني لا محالة "
رددوا جميعا الصلاة على النبي ليهتف بعدها مختار وهو يبتسم بمشاكسة حلوة تجعله أصغر سنا: " لا أصدق بأن فرح القزمة باتت شابة حلوة تملأ العين "
عبست فرح بطفولية وهي تتمتم: " الجميع ازداد طولا ولست وحدي القصيرة حتى ملك كانت قزمة في طفولتها "
ضحك مختار بمرح وعينيه عفويا تبحثين عن ملك التي كانت تقف خلف حفصة منكسة الرأس وكأنها لا تريد أن تلقاه
اقترب هو منها مربتا على شعرها بحنان قائلا: " ألا تريد ملاك العائلة أن تسلم عليّ؟ "
رفعت وجهها إليه وما هي إلا لحظة حتى كانت ترتمي بين أحضانه مجهشة في البكاء بشدة فأخذ هو يربت على كتفها بحنان هامسا: " لا تبكي بنيتي.. دموعكِ غالية عليّ "
همهمت من بين بكائها: " أنا لست غالية لدي أحد.. حتى أنتَ رحلت وتركتنا في نفس اليوم الذي رحل فيه أبي.. كلاكما تركتماني وحدي "
قطب مختار بحزن للذكرى وهو يرد: " والله ما فعلتها عن أمري ولا رغبة مني في الرحيل عنكم ولكنها إرادة القدر بنيتي "
هتفت بحرقة وهي تبتعد عن أحضانه: " ولم تأتِ لزيارتنا ولا لمرة واحدة.. لم تطلب رؤيتي أبداً وأنتَ تعلم أنني... أنني بِت وحدي بلا أب أو أم "
قبل أن يرد كانت هي تكمل: " دومًا اعتبرتك في منزلة أبي.. بل رأيت فيكَ أبي رحمه الله بالفعل لكنك... لكنك رحلت وخذلتني "
اوجعته الكلمة وكأنها لطمته على وجهه بقسوة فتنهد بكآبة وهو يتمتم: " قلت لكِ ما فعلتها عن أمري.. لم أتعمد أن أخذلك يا ملك ما كنت لأفعلها بكِ لو خيرت في هذا "
أشاحت ملك بوجهها جانبا مكتفة الساعدين وهو تكتم شهقاتها المريرة وشعورها باليتم يجسم على صدرها بوحشية لا طاقة لها على مواجهتها أو صدها وكان ذلك الشعور البغيض كان ينتظر قدوم مختار ليعود مظهرا نفسه من جديد
أشار مختار خفية لحفصة فخرجت هي وحياة وفرح وتركاه وحده مع ملك التي ظلت مشيحة بوجهها عنه
اقترب منها بهدوء يمسح عبراتها المنهمرة وهو يقول بلطف: " لو كان الأمر بيدي لأخذتكِ معي وما كنت تركتكِ لحظة هنا لكن تعلمين أن هذا مستحيل "
قطبت بحرقة ترد: " جدي ما كان ليقبل بهذا حتى إنه يسعى لإبقاء ابنة عمتي رقية هنا.. يريدها أن تنتقل للعيش معنا "
تنهد مختار بشجن وهو يقول: " هو يريد أن يعوض حرمانه من رقية رحمها الله بأن تحيا ابنتها تحت كنفه وأمام عينيه "
لم تعقب بشيء فتابع هو بابتسامة ماكرة: " لا أستبعد أن يزوجها لأحد أحفاده كي يجبرها على البقاء هنا "
رفعت ملك رأسها بحدة تنظر لمختار بشراسة وهي تتمتم: " ليفعل ذلك ولكن بعيداً عن ياسين وإلا والله كنت قتلتها "
قهقه مختار بانشراح وهو يضربها على جانب رأسها بمشاكسة قائلا: " هذه هي ملاك التي اعرفها "
زمت شفتيها تغمغم بتملك: " ما كنت لأسمح لأحد كائن من كان بأن يسلبني ما أملك "
رفع حاجبا بمكر وهو يسألها: " وهل ياسين ضمن ما تملكين؟ "
نظرت له مقطبة فتابع بتمهل: " ما أعرفه جيداً عن رجال الجبالية هو أنه من الصعب امتلاكهم.. لكن من السهل عليهم أن يمتلكوا وحين يفعلون إما تسعدين معهم ويرفعونك إلى أعالي الجنان أو تشقين معهم ويكون مكانك هو أسفل الأرض حيث لا حياة "
ران عليها الشرود والكآبة فسألها مختار: " أخبريني ملك.. أتظنين جبلكِ رافعكِ أم خاسف بكِ الأرض؟ "
نكست رأسها بقهر وهي تتذكر ما فعلته بالأمس وخلافها مع ياسين الذي انتهى بتهديد صريح منه بألا تقترب من محيط تواجده
رفع مختار رأسها بلطف وهو يقول: " لم يفت أوان العودة يا ملك.. جميعنا نخطئ والذكي وحده من يرجع عن الخطأ ولا يتمادى فيه فيخسر نفسه ويضيع من بين يديه كل ما يملك في لحظة غباء منه "
زفرت بإحباط تصارحه: " لست متأكدة من تمسك ياسين بي بعد شجارنا الأخير بالأمس.. لقد... لقد أخطأت واعترف بذلك لكن... لكني كنت يائسة عماه ولا أدري أي طريق يجب أن أسلكه؟ "
ابتسم مختار وهو يقول: " ياسين يحبك ملك ولو لم يكن صادقا في عاطفته اتجاهكِ لما تحمل منكِ رعونتكِ التي لا تطاق "
عبست بحذر تسأله: " وما أدراك أنتَ برعونتي عماه؟ هل هو من أخبرك؟ "
هز رأسه سلبا يقول بتنهيد: " لا.. هو لم يكلمني في أي شيء يخصكِ لكنني أعرف"
زاد عبوسها وهي تقول: " كيف؟ "
شردت نظراته للحظة وهو يفكر في شيء ما.. هو بالطبع لن يخبرها أنه يتقصى أخبارهم بصعوبة من صخر الذي يذرع في دارهم أعين له ينقلون له الاخبار أولا بأول لسبب يجهله هو ويرفض صخر أن يبوح به
تنحنح قليلا وهو يجيبها بمراوغة: " يوما ما ستعلمين؟ "
قطبت ملك بحيرة وهي تتمتم: " أنا لا أفهم "
فابتسم مختار وهو يربت على وجنتها قائلاً: " لا تشغلي عقلكِ الجميل بشيء وحينما تأتي اللحظة المناسبة ستدركين وقتها أنكِ ما كنتِ وحدكِ أبداً وأن هناك الكثيرين يعنيهم أمركِ ويهتمون بكِ دون أن تدري "
لم تكد تفتح فمها تستفسر منه عما قاله حتى تفاجأ كل منهما بدخول زهراء وهي ترفع فستانها وتخطو نحو مختار عابسة بطريقة طفولية مضحكة ومن خلفها حفصة وحياة وفرح يطالعونها بعبوس واضح وهي تصيح: " لن أسامحك أبداً دكتور مختار.. هل يصح أن تطلب رؤية الجميع إلا أنا؟ "
اتسعت عينيه ذهولا وهو يتطلع في العروس التي تركت عرسها لأجله وسرعان ما أنفجر ضاحكا وهو يقول: " لازلتِ مجنونة يا زهرة.. لكَ الله يا حمزة "
تركت الفستان بغيظ وهي تكتف ساعديها متصنعة خصامه بينما يقترب هو منها كاتما بقية ضحكاته وهو يقول بمودة: " لم أنهي حديثي بعد.. نعم مجنونة لكنكِ عروس جميلة تأسر القلب والروح (مال يقبل جبينها قبل أن يكمل) مبارك عليكِ بنيتي "
ابتسمت برضا أخيرا وهي ترد: " بارك الله فيكَ عماه.. سعيدة بعودتك إلى مدينتنا من جديد "
تنحنح قليلا قبل أن يتكلم بهدوء: " في الحقيقة لقد أتيت لحضور عرسكِ وحمزة وسأعود إلى العاصمة بعد قليل "
صاحت ملك بيأس: " الليلة "
اومأ متنهدا: " نعم الليلة.. لابد أن أجري عملية لمريض لدي بعد بضعة ساعات ولولا ذلك لكنت بقيت الليلة بطولها معكم "
قالت حياة بلطف: " لماذا تتمسك بالعيش بعيدا عماه وأنتَ وحيداً؟ "
ابتسم مختار بفرح غامر وهو يرد: " لم أعد كذلك يا حياة "
توسعت عيني حياة بدهشة وهي تقول: " هل عُدت لزوجتك؟ "
اومأ إيجابا وهو يقول: " نعم.. منذ تسع سنوات "
ابتسمت حفصة برقة وهي تقول: " أنا سعيدة لأجلك عماه "
بينما هتفت فرح بحماس: " كم طفل لديك؟ "
ابتسم برضا وهو يرد: " لدي نبض "
صاحت زهراء بإعجاب: " واو.. ما أحلاه! إسم جميل عماه "
ابتسم مختار دون تعقيب فقالت حياة بابتسامة سعيدة: " كم عمرها؟ "
رد مختار بفخر: " ثمانية عشر "
تعالت همهمات الاستنكار منهن بينما سمع السؤال بنبرة استهجان بصوت غريب لا يعرفه من خلف حياة: " كيف هذا وأنتَ متزوج منذ تسع سنوات فحسب؟ "
قطب مختار يسأل بعدما ترآءت له شمس بوقفتها المتحفزة: " من تكون؟ "
اجابته حياة: " إنها شمس ابنة عمتنا رقية "
ابتسم لها بلطف وهو يحييها: " مرحبا بكِ بنيتي.. سعيد بلقائكِ "
عبست شمس في وجهه وهي تقول: " أجبني لو سمحت.. هل كانت لديك علاقة خارج إطار الشرع بزوجتك تلك قبل أن تعلنا زواجكما؟ "
شهقت الفتيات بصدمة من جرأة شمس التي وصلت إلى الوقاحة في نظرهن بينما رمش مختار بذهول يقول: " علاقة خارج إطار الشرع! أ هذا السؤال موجها لي أنا؟ "
رفعت حاجبا ببرود تقول: " بالطبع.. ومن سواك؟ "
صرخت ملك بحمائية وهي تقف أمام مختار في مواجهة شمس: " ألزمي حدودكِ وأنتِ تتحدثين مع عمي ثم ما دخلكِ أنتِ؟ "
ربت مختار على كتف ملك بحنان وهو ينظر إلى شمس قائلا: " لم يزعجني سؤالها يا ملك.. اهدئي بنيتي "
رمقتها ملك بشراسة وهي ترد بعناد: " ورغم ذلك ليس عليها حشر أنفها فيما لا يعنيها "
أرادت حياة إنهاء الأمر حتى لا يتطور إلى شجار فسألت بترقب: " جميعنا حائرين بالفعل عماه فهلا شرحت لنا كيف يكون عمر ابنتك أكثر من عدد سنوات زواجك؟ "
تنحنح مختار بحرج وهو يقول: " تعلمن أنني تزوجت قبل تسعة عشر سنة لكنني وزوجتي انفصلنا بعد بضعة أشهر قليلة "
زفر بضيق للذكرى الأكثر كرها بالنسبة له فتابعت حياة عنه: " نعم الجميع يعلم بالمشاحنات التي كانت بينكما خلال أشهر الزواج الأولى والتي انتهت بينكما بالطلاق "
تساءلت شمس بتحفز: " أي مشاحنات؟ "
رد مختار بهدوء: " أردت أن ننتقل للعيش هنا حيث كان أخي الأكبر قبل أن يتوفاه الله نظراً لارتباطي الشديد به لكنها رفضت وكانت هي فتاة صغيرة السن لم تنهي دراستها الجامعية بعد فأرادت البقاء في العاصمة حيث عائلتها "
قالت شمس بامتعاض: " هي محقة فأبسط حقوقها أن تكمل تعليمها وهنا لا توجد جامعات "
رد مختار ببساطة: " وأنا لم امنعها من متابعة دراستها كل ما أردته أن أكون إلى جوار أخي وهذا ما رفضته هي أو لأكون أكثر صراحة ما رفضته أختها مدعية أن العاصمة أكثر رقيا وهي لن تقبل بأن تسكن أختها في بلدة جاهلة بل وأصرت عليها حتى تطلب الطلاق "
قطبت شمس تسأله: " وهل نفذت كلام أختها بدون تفكير؟ ألم تكن تحبك لتتنازل قليلاً لأجلك؟ "
أشاح مختار بوجهه شاردا وهو يرد: " نعم كانت تحبني لكن ذلك الحب لم يستطع الصمود أمام جبروت أختها وتسلطها فرضخت لها وطلبت الطلاق "
رفعت حاجبيها تسأله بتعجب: " وببساطة طلقتها؟ "
تنهد مختار قبل أن يجيب: " نعم فعلت.. فأنا رغم ما تجدينني عليه من البساطة لكنني لست من يتنازل عن كبريائه لأي سبب كان "
ران عليهم الصمت للحظات قطعته حفصة وهي تقول بحيرة: " إذن من أين جاءت نبض؟ "
ضحك مختار متحرجا وهو يقول: " مني بالطبع.. لقد كانت مريم حاملا حينما طلقتها لكنها كما اخبرتكن كانت صغيرة السن جاهلة بتلك الأمور فلم تكتشف أنها حاملا إلا بعد طلاقنا بفترة "
هتفت ملك بغيظ: " وبالطبع أختها الشمطاء منعتها من أخبارك بكونها حامل؟ يا لها من حقيرة حقودة "
كتم مختار ضحكته وهو يضمها إلى صدره بمحبة خاصة قائلا بمناكفة: " لقد قررت منذ اللحظة أن أعينكِ الحارس الخاص بي يا فتاة "
ابتسمت ملك برقة وهي ترد بوداعة: " وأنا قبلت العمل لديك سيدي "
سألته حفصة بإهتمام: " ولماذا انتظرت لعام كامل حتى تعيدها إليك عماه؟ "
تنهد مختار وهو يرد: " حينما انتقلت إلى العاصمة كانت هي في أمريكا مع أختها وبمجرد أن عادت استغليت الفرصة وأعدتها إليّ وها نحن الآن أسعد أسرة في الوجود "
رددت حياة بذهول: " انتقلت إلى العاصمة! كيف؟ لقد أخبرنا جدي بأنك سافرت إلى أمريكا "
تنحنح متوترا من سؤالها وهو يرد بمراوغة: " بل سافرت للعاصمة لكنني على ما يبدو لم أخبره إلى أين سأسافر فظن هو أنني ذهبت إلى أمريكا حتى أستعيد مريم "
زمت زهراء شفتيها بطفولية تسأله: " إذن لما لم تحضرهما معك؟ كنت أتمنى لو قابلتهما قبل سفري "
ابتسم مختار بلطف يجيبها: " حينما تعودين بالسلامة أعدك بأنهما ستكونان في استقبالكِ إن شاء الله يا عروس "
***

بعد قليل
حينما حان وقت مغادرته كانت ملك تمنع دموعها من الانهمار بصعوبة بالغة بينما كان هو منشغل في الحديث مع الشباب والتعرف على أنس
تفاجأت باقتراب ياسين منها يقول بإقتضاب: " لا تقفي هنا.. أما ترين نظرات الرجال المصوبة عليكِ؟ "
لم تكن في مزاج يسمح لها بمجادلته فهمهمت بطاعة: " حاضر سأدخل "
قطب هو بحيرة من سرعة تلبيتها لأمره فسألها بقلق: " ملك.. هل أنتِ بخير؟ "
أطرقت برأسها تشعر بالكآبة وهي ترد: " إن كنتَ أنتَ بخير فأنا كذلك "
ما إن خطت بضعة خطوات حتى سمعت صوت مختار يناديها بحنان: " ملاك "
إلتفتت له على الفور لتراه يتقدم نحوها بإبتسامة واسعة قائلًا: " لا أستطيع أن أغادر قبل أن يكون وجهكِ آخر ما أراه هنا "
انفجرت حينها باكية تغطي وجهها بكفيها فربت على كتفها بحنان وهو يقول: " لا تبكي ملك.. سأعود بنيتي.. لن أغيب عنكِ طويلًا مجدداً بإذن الله "
نظرت له برجاء قائلة: " عِدني عماه "
مسح عبراتها المنهمرة برقة، مبتسما بحنان وهو يقول: " أعدكِ بذلك ملاكي الجميل "
تنهدت ملك براحة وهي تقول بأمل: " إذن ستأتي لزيارتنا بعد عودة حمزة وزهراء من رحلتهما أليس كذلك؟ "
اومأ بخفة وهو يرد: " إن شاء الله "
طالعته بوداعة وهي تزدرد ريقها قبل أن تقول بابتسامة بالكاد تظهر على ثغرها وهي تكتم المزيد من الدموع التي لازالت تستعمر مقلتيها: " وستحضر معك نبض والعمة مريم لكي... لكي أتعرف عليهما؟ "
رد بإبتسامة واسعة: " بالطبع فسيكون من حسن حظهما أن تقابلان ملاكي الجميل "
كاد يتحرك فاستوقفته بلهفة تقول: " لا تنسني عماه.. سأنتظرك مهما غبت فعُد لأجلي أرجوك "
قطب بتوجع على حالها وهو يطالعها في هذه الحالة تبدو كطفلة صغيرة تهتف بجزع من تخشى فقد أباها
قبل جبينها وهو يقول بحنان عذب: " نعم هذا ما عليكِ فعله.. انتظريني بنيتي لأني سأعود إن شاء الله قريباً لأجلكِ "
اومأت بفرح وكأنها حصلت على جائزة ثمينة بينما تهتف: " سأفعل عماه.. سأنتظرك "
منحها ابتسامته الحنونة المطمئِنة وهو يقول قبل أن يخطو بعيدا: " استودعكِ عند من لا تضيع ودائعه بنيتي "
ظلت تقف مكانها تشيعه بنظراتها الحزينة من جديد والدموع تأبى أن تجف من مقلتيها ولسانها يتمتم بخفوت: " في أمان الله عماه.. في أمان الله "
***

اليوم التالي / الخامسة صباحاً
خرج من غرفة العمليات منهك الروح كما الجسد، لأول مرة يشعر بتلك المرارة والحرقة لأنه فشل في إنقاذ إحدى الحالات التي كان مسؤولا عنها
حاول البعض التخفيف عنه وتذكيره بأنها حينما وصلت إلى المشفى كانت حالة قلبها متدهورة للغاية ميؤوس منها وأن اللوم يقع على أهلها الذين تجاهلوا مرضها حتى وصل بها الحال لما آلت له لكن ذلك لم يخفف من شعوره المرير بالفشل
جلس على طرف الفراش في غرفة الاستراحة متهاويا بيأس احتل كيانه وهو يشرد متذكرا الحالة التي ترك ملك عليها في المدينة قبل بضعة ساعات
كلماتها أثرت فيه جلّ تأثير وتمسكها به كطفلة تتشبث بوجود أباها عن طريقه آلمه
ذكرته بحالته يوم أن تُوفِي أخاه الذي لم يره يوما أخا بل والده وراعيه ومثله الأعلى وقدوة له في كل شيء
ذكرته بنفسه وهو يتشبث في أخيه رافضا أن يغطوا وجهه ويخفونه عنه رافضا أن يسحبوه بعيدا عنه.. عن وجوده
فرت دمعة من عينه وهو يتذكر أيضا تلك الفتاة التي فشل في إنقاذها والذي استحال وجهها فجأة وهو في غرفة العمليات بعدما فارقت الحياة إلى وجه ابنته نبض
كانت الفتاة شاحبة الوجه ساكنة تماما لكن عينيها كانتا تطالعانه بكآبة تخبره دون مواراة أنه خذلها
وجد نفسه يلتقط هاتفه على عجلة يطلب رقم زوجته والتي ردت دون تأخير بصوتها الرقيق الحنون تقول: " السلام عليكم "
لم يستطع حينها سوا نطق اسمها ليأتيه صوتها قلق: " ما بكَ مختار؟ هل أنتَ بخير؟ "
حاول مرات أن يتكلم ويفشل حتى تمكن أخيرا من الحديث يقول بصوت متحشرج: " ماذا تفعلين؟ "
ردت بحنان: " لازلت على سجادة الصلاة منذ صليت الفجر وأنا أدعو لك.. ألم تخبرني أن لديك عملية ستجريها قبل بضعة ساعات؟ بالتأكيد أنهيتها و... "
قطع سيل كلماتها المتفائلة يقول بكآبة: " لقد فقدناها يا مريم.. لم أستطع إنقاذها وهي لم تساعد نفسها حتى تنجو كانت... أنا لا أحاول وضع اللوم والخطأ على كاهلها والله.. لكنها بالفعل كانت مستسلمة للموت وترفض الحياة.. ماذا كان بوسعي أن أفعل أخبريني؟ "
ردت مريم بحزن لحاله: " أهدأ حبيبي وأذكر الله إنها مشيئته وتدبيره.. أنت فعلت ما بوسعك لتنقذها لكنها لم تكن تملك المزيد من العمر لتقضيه "
نكس رأسه بقهر يتمتم: " إنها صغيرة.. في عمر نبض تقريباً "
ردت مريم بيقين راسخ: " وإن كانت أكبر أو أصغر وحان أجلها فما تملك أنت أن تمنحها من عمرك أو تستبقيها لتحيا هي المزيد من الوقت.. تعلم حبيبي أن لكل أجل موعد لا تستطيع أن تستقدمه ساعة أو تستأخره لحظة واحدة "
رد بإحباط تملك منه: " نعم.. لكل أجل موعد لا يُستقدم ولا يُستأخر.. لكل أجل كتاب "
شعرت مريم بالقلق من صوته الغريب فقالت: " أ أنتَ وحدك؟ ألم يكن صخر معك؟ "
رد بتنهيد: " نعم وحدي فصخر مشغول الآن بإجراء عملية أخرى لطفلة في العاشرة "
قطبت مريم وهي تتمتم بقلق: " يا رب سلم "
سألها بعد لحظة صمت: " أين نبض؟ "
فردت مريم بحنان تجيبه: " تستذكر بعض دروسها فاليوم آخر امتحان لها كما تعلم "
ران بينهما الصمت من جديد حتى قطعه مختار بصوت متخاذل خافت يقول: " أخبرتني الممرضة أن يوسف غادر منذ ساعتين تقريبا لذا سأنتظر صخر حتى ينتهي من عمله ليقلني معه فلا أشعر بأنني قادر على أن أقود السيارة بنفسي "
ردت هي بحنان تناكفه: " مضى وقت طويل لم نخرج لنزهة سويا دكتور فلما لا نستغل انشغال نبض اليوم ونقتنص بعض الوقت لنفسنا؟ "
تبسم بإرهاق يرد: " نزهة في تلك الساعة الباكرة! هل أنتِ مجنونة حبيبتي؟ "
ضحكت برقة تجيبه: " نعم مجنونة بكِ دكتور.. ولعلمك سنخرج فقد قررت وأنتهى الأمر "
تنهد بعمق قبل أن يجيبها باستسلام: " حسناً سأنتظركِ حبيبتي "
***

بعد مُضي بضعة ساعات وليتها ما مضت!
ليتنا نستطيع إيقاف عجلة الزمن لنستبقي ما نريد للوقت الذي نريد
ليتنا نملك التحكم في حركة xxxxب الساعة التي لا تتمهل أو تنتظر أحد
وليتنا نعلم أين يكمن الشر فنتجنبه؟ وأين يسكن الخير فنسعى إليه؟
وليتنا.. وليتنا، ويا ليت الليت يكن!
كانت دموعها تسيل مدراراً وهي ترى الجسدين المسجيين أمامها وكل واحد منهما مغطى بغطاء أبيض لا يظهر منه إنشا واحداً
كانت تقف أمام السريرين المتجاورين في حالة ذهول تامة تسيطر على كل خلاياها
سكن كل ما فيها وتمردت عيناها واقسمتا على أن تذرفان الدموع رثاء وحزنا على فراقهما
ساكنة هي في مكانها لا تشعر بشيء وكأن الكون توقف.. عند خبر موتيهما
توقف.. مع توقف انفاسهما ونبضيهما
توقف.. مع رحيليهما
توقف.. حينما أعلن قرار تيتمها جملة واحدة دون تفصيل
مرت لحظات حسبتها دهراً كاملاً وهي تنتظر.. تترقب فواقهما وكأنهما في غيبوبة مثلاً.. تنتظر بصبر أن يستيقظا حتى يعودا معها إلى البيت
مع تزاحم العبرات في عينيها كانت ترفرف بأهدابها الكثيفة بقوة فتنهمر شلالات الدموع على وجنتيها وهي تفكر؛ لطالما.. كانا هما نور حياتها الذي تهتدي به خطاها وتستقيم
لطالما.. كانا لها الحياة بكل ما فيها وما تحمله
تلفتت برأسها قليلاً تنظر لما حولها بضياع ورفعت كفيها تمسد على ذراعيها وقد بدأت البرودة الموحشة تستعمر خلاياها وتتمكن من جسدها
لازالت تتلفت حولها، ولازالت تنتظر والضياع يهاجمها بأبشع الصور
عادت تنظر إلى السريرين بأمل مستحيل..
ودموع غزيرة..
وقلب مفطور..
وروح هائمة منكسرة..
وبعد جهد ومحاولات اشفقت عليها أحبالها الصوتية وتعاطفت معها ووافقت أن تساعدها في إخراج القليل مما يعتمل بداخلها وحينها خرج صوتها مختنقا ضائعا مكسورا كصاحبته: " هل ستتركانني حقا أعود وحدي إلى البيت؟ "
دارت بعينيها حولها قليلاً وضياعها يزداد وألمها يتعمق إلى الصميم ثم عادت تتمتم: " هل أصبحت الآن وحدي؟ أصبحت ي... يتيمة! "
وكأن الكلمة غرست خنجرا مسموما في قلبها فجحظت عينيها بفزع تهتف: " أصبحت بلا أب.. بلا أم.. وحدي تمامًا "
شهقت بقوة وهي تتمتم بأنين يمزق القلب: " سأضيع هكذا ويتشتت نبضي س... (شهقت من جديد قبل أن تتابع بحرقة من بين شهقاتها العنيفة) سأفقد الطريق وحينما تتعثر خطاي لن... لن أجدكما من حولي تعدلان سيري "
رفعت قبضتها المضمومة ووضعتها على فمها تمنع شهقة أخرى من الخروج وهي تضيف: " لماذا عاهدتماني بما لا تملكان؟ ألم تعداني بالبقاء معي؟ اخبراني بالله عليكما لماذا؟ "
ومن خلفها في تلك اللحظة دخل هو إلى الغرفة مندفعاً بعد شجار حاد مع الطبيب والممرضات لسماحهم لها بالدخول إلى تلك الغرفة حيث يقبع والديها وقد أخرجها منها منذ دقائق وهي منهارة تماماً
تسمر مكانه فجأة وهو يسمعها تهمس بأنين أدمى قلبه: " وماذا عن المسكين يوسف؟ كيف تتركان الأمانة قبل أن تعيداها إلى أصحابها؟ وماذا عن صخر الذي كان يكف عن تهوره فقط لأجل رضاكما؟ "
تقدم منها بخطى بطيئة بينما قلبه وروحه ينزفان مع كل خطوة منه ناحيتها وهي تضيف: " سيضيع صخر هو الآخر ولن يجد من يصحح خطاه ويقوم نفسه الجامحة.. لازلنا بحاجتكما... لازلنا نريدكما.. مهمتكما لم تنتهِ بعد "
وقف خلفها تماماً لكنها لم تشعر به وهي تتابع بصوت محترق منكسر: " يا أبي! يا أمي أنا نبض.. صغيرتكما.. هل تسمعانني؟ لماذا لا تجيبانني؟ لماذا؟ "
همس بجوار أذنها بصوت تخنقه غصة البكاء: " لن تجدي إجابة لديهما فقد فقدا حق الكلام "
استدارت له ببطء شديد وهي على حالها تمسد ذراعيها ودموعها تنهمر بصمت ورفعت رأسها حتى تتمكن من النظر إليه بقامته المديدة
كانت العبرات تتراقص في عينيه لكنه يكبح لجامها بصلابة الجبال على عكسها وهي التي فقدت كل صلابتها وذهبت أدراج الرياح
دخل الطبيب في تلك اللحظة من خلفه متنحنحا يقول بصوت متأثر حزين: " خلال نصف ساعة ستكون كافة التصريحات قد انتهت وحينها سيكون بإمكانك تسلم الجثتين لدفنهما دكتور صخر "
اطبقت أجفانها بقوة وألم على صدى كلمة الطبيب 'الجثتين' وهي تشعر بنزيف داخلي شديد من وقع تلك الكلمة القاسية أما هو فرد بإيجاز على الطبيب دون أن يلتفت له أو يحيد بعينيه عن عينيها المغلقتين الدامعتين: " حسناً "
بعد لحظة كانت تفتح عينيها تنظر له من جديد فأشار لها بيده حتى تتقدمه للخارج دون كلمة فخطت خطوة ثم تسمرت مكانها ثانية وارادت أن تلتفت لكنه منعها حينما وقف خلفها وقال بحزم: " للخارج يا نبض "
رضخت قدميها لأمره دون روحها.. وخرجت
في الخارج أمام الغرفة كانت تقف على نفس حالتها من الضياع والتشتت، تنظر إلى الأرضية البيضاء بسكون أقرب إلى الجمود حتى سمعت صوته قريباً منها يقول: " ألم اترككِ هنا قبل ذهابي مع الطبيب واتفقنا ألا تدخلي للغرفة ثانية؟ "
رفعت رأسها تنظر إليه بعذاب وألم أدمياه وهي ترد بصوت خافت واهي: " أردت أن اودعهما للمرة الأخيرة.. اقتربت من فراشيهما وحاولت أن... أن أرفع الغطاء عن وجهيهما لكني جُبِنت ولم أستطع فعلها "
رمش لوهلة قبل أن يزدرد ريقه بصعوبة وهو يقول بصوت عميق يائس: " لستِ وحدكِ من جُبِن يا نبض.. أنا أيضاً لم أستطع فعلها "
سالت دمعة من عينه فرفعت نبض أناملها تمسحها فصدم صخر كونها المرة الأولى التي تلمسه فيها لكن صوتها الرقيق رغم ما يحمله من ألم وحرقة جعله ينتبه لها وهي تقول: " لا تبكي يا صخر.. احتاجك قوي كما أنت.. لم يعد لي أنا ويوسف سواك بعد ربي.. إن ضعفتَ فعلى من سأتكئ أنا وأرمي أحمالي وهمومي؟ وإلى من سيشكو يوسف أوجاعه؟ "
اشتد حزنه وشفقته عليها وهو يرى تلك الصبية التي دومًا كانا والديها يشبهانها بزهرة مُتفتحة قد ذبلت أوراقها وتساقطت قبل الأوان ورغم ذلك لم يرد أن يمنحها وعداً لا يملك تحقيقه والوفاء به، لا يريد أن يكذب عليها أو يجعلها تحيا في وهم تظنه منسوج من خيوط حريرية متينة لتفاجئ فيما بعد أنه كان هين وهن كخيوط العنكبوت لذا تلبس قناع الجمود الذي يجيده ورد: " لكما الله "
اومأت له بالإيجاب ودموعها تتقاطر بغزارة كزخات المطر وهي تقول: " نعم لنا الله فمن لنا سواه؟ لا أحد.. لا أحد غيره قادر على تهوين الألم القاتل الذي أشعر به "
تهاوت آخر قطرات كان يملكها من جموده وشجاعته أمام قوة كلماتها وكم الألم فيها، أراد أن يضمها إلى صدره ويحتويها لعله يخفف عنها ألمها أو ينتزعه ويحمله هو بداخله بدلاً منها
أراد أن يعطيها عهداً بالبقاء.. بالأمان لكنه تراجع فوراً وذكر نفسه بحقيقه أنه لا يملك من شعور الأمان ولو مقدار ذرة فكيف سيعدها بما لا يملك؟
تحرك بتخاذل ووقف مستندا بظهره على الحائط إلى جوارها وأطرق برأسه للأرض وشرد في تفكير عميق وألم الجرح والفقد بداخله يتعمق حتى الصميم وعلى الناحية الأخرى المقابلة له تماما كان يوسف يجلس على أحد المقاعد واضعا رأسه بين كفيه ولا يتبين من ينظر إليه أ يبكي أم فقط يخفي وجهه الناضحة ملامحه بالألم والحزن؟
***

بعد أيام / في شقة مختار
منذ حضرت وهي تشعر به يريد أن يحدثها في أمر ما لكن وجود نبض معهما يمنعه مما جعلها بعد قليل تقول: " اذهبي لتستريحي قليلاً فأنتِ لم تنامي منذ أيام حبيبتي "
تنهدت نبض بصمت ونهضت دون كلمة من مكانها واتجهت ناحية الباب وحينما وصلت إليه قالت بصوت خفيض متعب: " سأكون في غرفتي مستيقظة يا عمتي متى ما احتجتني ناديني "
ثم خرجت وحينها اعتدلت فاطمة في جلستها ونظرت إليه باهتمام جلل وهي تقول: " من الواضح أنها فهمت أن هناك ما تريد أن تخبرني به دون أن تسمعه هي.. خير يا بني... تكلم "
تنهد يوسف بعمق وهو يقول: " لا أريد أن أزيد همها لذلك لم أرد أن أتحدث أمامها فهي ليست في حالة تسمح لها بالنقاش الآن في أي أمر "
لم تشعر فاطمة بالراحة فقالت بحزم أمومي: " تكلم يا ولد.. ما الأمر؟ أي مصيبة جديدة حدثت؟ "
عبس بطفولية وهو يرد بترقب: " نبض تزوجت "
قطبت فاطمة بعدم فهم وهي تتمتم: " ماذا؟ من؟ "
رد بنفس العبوس وإن بدى في عينيه لمحة من الإرتباك: " صخر تزوج نبض "
شهقت فاطمة بجزع وهي تصيح: " يا مصيبتي.. كيف حدث هذا؟ والآن فقط بعد أن وقعت الكارثة تخبرني "
تزايد ارتباكه بشكل عجيب لم يسبق له أن مر به من قبل وهو يقول بتذمر: " اخفضي صوتكِ يا عمتي.. أي كارثة بالله عليكِ لقد تزوجها على سنة الله ورسوله فلما تصرخين كما لو أنني أخبرتكِ بأنه غرر بها؟ "
ضربته على كتفه بغيظ وهي تصرخ في وجهه بضيق: " أخرس يا ولد ولا تتواقح معي "
زفر بحنق والتزم الصمت لتبادر فاطمة بعد لحظات بصوت خافت مضطرب: " كيف تزوجها؟ ومتى؟ "
رمقها بنظرة مغتاظة دون أن يرد فلكزته في كتفه وهي تقول من بين أسنانها: " رد عليّ يا ولد ولا تمثل دور الفتى الكئيب المتذمر فليس هذا وقته "
رن جرس الباب فجأة مقاطعا حديثهما وبعد لحظة كان صخر يدخل بطوله الفارغ وملامحه الجامدة وبنظرة واحدة أدرك أن يوسف أخبر العمة فاطمة عن زواجه من نبض فقال هو دون مقدمات بصوت جاد: " تعلمين أنني من المستحيل أن أؤذيها أو أسمح لمخلوق بمسها بمكروه طالما في صدري نفس يتردد أليس كذلك عمتي؟ "
أشاحت بوجهها عنه وهي ترد بصوت ساخر رغم نبرة الحزن فيه: " طالما في صدرك نفس يتردد.. ما أكرمك والله وماذا ستفعل هي بعد أن... "
سكتت وقد اوجعتها الكلمة التي أرادت أن تنطق بها فلم يساعدها لسانها في التلفظ بها لكنه فهم مقصدها فأكمل جملتها ببساطة مقيتة: " بعد أن أموت "
نظرت له والعبرات تلتمع في مقلتيها بينما هو يتابع بنفس البساطة: " هذا ما لا أعلمه يا عمتي.. لكنني على يقين بأنها لن تضيع بعدي طالما أنتِ ويوسف بجانبها "
ردت فاطمة بكآبة: " وماذا إن مِتُ أنا قبلك أو حتى لحقت بكَ؟ ماذا ستفعل هي حينها؟ "
رفع حاجبيه يتصنع الذهول وهو يقول: " لا أصدق بأن هذا الكلام يصدر منكِ أنتِ يا عمتي.. لها الله من قبلي وقبلكِ ولا حاجة لها لمخلوق وهو معها "
صمتت فاطمة دون أن تعقب فتابع حديثه: " نبض فتاة ذكية وقوية تستطيع تدبير أمرها دون سؤال أحد ووجودنا معها ليس أصلاً في الصورة وإنما مجرد إضافة لها.. نحن كإطار لحياتها ليس أكثر وإن اختفى هذا الإطار يومًا لن يضيرها شيء ولن تتوقف الحياة عند ذلك الحد.. هكذا يحيا الجميع يا عمتي.. لا يموت إنسان لموت آخر ولا تتوقف دورة الحياة لأجل أحد "
هتفت فاطمة بإنفعال من بروده: " لا تتكلم هكذا عنها.. ليس الجميع مثلك متبلد المشاعر.. الفتاة ضعيفة هشة وأنت تعلم ذلك يقيناً فمن تريد أن تخدع بتلك الترهات التي تنطق بها؟ "
مرت سحابة ألم طفيفة في عينيه لكنها رحلت إلى حال سبيلها دون أن تقطر بزخة مطر واحدة وبدلاً من ذلك خلفت ورائها قسوة وجمود تجمع في مقلتيه ليحول لونهما البني إلى مرجلين قاتمين يغليان بعنف وهو يرد بابتسامة باردة تعلم فاطمة أن خلفها كم هائل من الألم والوجع: " لا تبالغي يا عمتي فهي مهما حدث لها لن تكون على ضعف وهشاشة حبيبتكِ "
شحب وجه يوسف وهو ينظر إلى صخر بينما ردت فاطمة بقوة: " بل هي نسخة منها "
أجفل يوسف بقوة وتشنجت أعصابه وهي تكمل موجهة حديثها إليه: " ألا تذكرك دموع نبض بلحظات حزن الحبيبة يا يوسف؟ ألا تراها فيها؟ "
أطرق يوسف برأسه للأرض بينما هي قالت بألم: " أنا لا أبالغ حينما أقول بأنها نسخة منها ولو... ولو كانت حبيبة حية الآن لكانت رأت في نبض نفسها.. نبض تحمل روح حبيبة هذا ما أؤمن أنا به حتى وإن رفض الجميع الاعتراف بذلك "
نهضت بعد أن أتمت جملتها وكادت تخرج لولا أن صخر استوقفها وهو يقول بصوت متصلب: " أنا لم اطلبها للزواج.. عمي مختار رحمه الله قبل وفاته هو من طلب مني أن اتزوجها وأنا إكراما للعشرة والصلة الطيبة بيننا وافقت "
ابتسمت بمرارة وهي تقول: " يبدو أنه ظن أنه بتزويجك من ابنته أنك ستهتدي وتترك الطريق الوعر الذي تخطو تجاهه بسرعة الصاروخ.. رحمك الله يا مختار لطالما كنت طيب القلب رحيماً لأقصى حد "
أولته ظهرها تهم بالخروج فاستوقفها ثانية وهو يقول: " كان ذلك بعد وصوله المشفى مباشرة.. كان... كانت حالته حرجة و.. "
قاطعته وهي تفكر بصوت عالٍ مهموم: " إذن كان يشعر بأنها النهاية.. ليته ما فعل... (التفتت تنظر له بحزن وهي تكمل) ظلمك مختار رحمه الله حين حملك تلك الأمانة وأنت... أنتَ لست أهلاً لها يا ولدي "
هب صخر من جلسته مجفلاً مجروحا من صراحة قولها وبدى الألم في عينيه قويا بينما هي أكملت ببؤس: " ستشقيها ولن تجد الأمان إلى جوارك ونبض لا تستطيع أن تحيا في ظل القلق والرعب الذي ترمي نفسك فيه "
حدجها يوسف بنظراته حتى تكف عن هذا الحديث لكن فاطمة لم توليه اهتماما وهي ترى صخر يقطب بقسوة فأطرقت برأسها تضيف: " لست لها يا صخر.. حررها يا ولدي قبل أن تمني نفسها بقربك فتصدمها بأنك سراب.. أطلق سراحها ودعها تبحث عمن يطيب جراحها في مكان آخر بعيدًا عنك فأنت وهي على النقيض.. طريقكما متوازيين لا يمكن أن يتقابلا في النهاية.. اتركها حتى تبحث عمن يعوضها ولو القليل مما فقدته "
لم يشعر بنفسه مع نهاية جملتها إلا وهو يصرخ بوحشية: " لا تقرني اسمها بأي رجل.. إنها زوجتي.. امرأتي أنا فكيف بالله عليكِ تطلبين مني إطلاق سراحها حتى تبحث عن رجل آخر؟ "
رفعت رأسها ببطء تنظر إليه و للحظات ظنت أنها توهمت سماع صوته وأنه لم يتحدث لكن لهاثه وتردد صدى أنفاسه والانفعال البادي على ملامحه اخبروها بأن ما سمعته صدر عنه بالفعل
كانت في حالة من الذهول بل الصدمة وهي تراه يظهر تمسكه بنبض بهذا الوضوح وهذه الصراحة فقالت بعد دقيقة كاملة من التفكير: " ماذا تعني؟ هل تقصد أنك لن تطلقها؟ بأنك ستكمل هذا الزواج؟ "
ضرب بقبضته على الطاولة أمامه وهو ينحني قليلاً بينما كان يصرخ بغضب: " لما كل هذا الذهول والصدمة يا عمتي؟ ألا أرقى لأن أكون زوجاً لها؟ "
قطبت بحيرة وهي تردد سؤالها: " هل تقصد أنك لن تطلقها؟ "
" نعم "
كان رده حاسماً قاطعاً، بنبرة واثقة انعكس صداها في عينيه ذات النظرة الوحشية وحاجبه المرفوع بتحدي وهو ينظر إلى فاطمة في انتظار كلمة اعتراض منها
وشعرت فاطمة في المقابل بأن قلبها ينبض بالسعادة لإصرار شاب بقوة وصلابة صخر على إبقاء نبض زوجة له لكنها خائفة، وتخشى أن يخفق في صون الأمانة فيضيعها ونبض ليست بالأمانة الهينة أبداً
عقدت ساعديها أمام صدرها وقالت بنبرة جادة: " ما فهمته أنا أن مختار رحمه الله من طلب منك أن تتزوجها "
اومأ دون رد فتابعت هي كلامها: " لم تطلبها أنت؟ "
اومأ من جديد فقالت بإقرار: " إذن ً الفكرة لم تكن في عقلك وضمن مخططاتك من الأساس فلما تظهر كل هذا التمسك بها؟ "
رمش بدهشة وهو يتمتم: " أي فكرة وأي مخطط يا عمتي؟ "
صمت بعدها وفغر فاهه للحظات بذهول ثم رفع يده يمرر أصابعه بين خصلات شعره وهو يقول بحيرة عجيبة وكأنه يحدث نفسه حتى أنه استدار وأولاهما ظهره: " نبض! نبض المهرة الصغيرة! كيف أفكر في الزواج منها وهي... هي طفلة.. يا إلهي! (استدار بجزع وهو يصيح كالمجنون) يا إلهي! نبض لازالت طفلة كيف وافقت عمي مختار على طلبه "
قطبت فاطمة وهي ترد بهدوء: " نبض ليست طفلة.. إنها آنسة... (رمقها باستنكار فأكملت بمهادنة) صغيرة.. هي آنسة صغيرة "
ردد كلمتيها بعبوس: " آنسة صغيرة (ثم ضرب بقبضته على الطاولة من جديد وهو يطرق برأسه للأرض بينما يصرخ) نبض طفلة ما كان عليّ أن أتزوجها كان يفترض بي أن... أن... "
سكت بعجز وقد داهمته الكثير من الأفكار فحثته فاطمة على المتابعة تقول: " أن... ماذا؟ "
رفع رأسه متنهداً وهو ينظر إليها بعذاب بينما يقول بصوت خفيض: " بدون الزواج لم يكن سيحق لي البقاء معها لحظة واحدة "
سألته فاطمة رغم أنها تعلم الإجابة: " لماذا؟ "
رد هو بيأس: " ما كانت لتسمح لي "
قطبت فاطمة تدعي الغباء وهي تسأله: " من؟ "
رد بنفس النبرة: " نبض يا عمتي وهل هناك غيرها "
رفعت فاطمة حاجباً باستخفاف وهي تقول بتهكم مبطن: " الطفلة "
حينها صاح بقنوط وهو يضرب على الطاولة من جديد بعنف أكبر: " نعم الطفلة.. أنتِ لا تعرفين كيف كانت تعاملني عن بعد وكأنني عدوى حتى الكلام لم تكن تسهب فيه معي "
قطع حديثه يتنهد بقوة ثم عاد يصيح ثانية: " إنها متحفظة جداً في التعامل معي "
قاطعته فاطمة ببرود زائف: " وكيف تريدها أن تتعامل مع الغرباء؟ "
هتف هو مبرراً في المقابل: " لم أكن غريبا عنها لهذه الدرجة التي تجعلها تتحاشى حتى النظر لعيني "
رفعت حاجبيها بذهول مصطنع وهي تقول: " حقاً وماذا كنت لها إذن؟ أباها، أخاها، زوجها، أم خطيبها مثلاً؟ "
عبس صخر وهو يغمغم: " هلا توقفتِ عن السخرية رجاءً؟ "
ابتسمت فاطمة بسخرية تقول: " ها قد توقفت.. هل ارتحت الآن؟ "
تنهد بقوة بعد لحظات بإرهاق وهو يطرق برأسه قائلاً: " أشعر بالضياع.. لا أعرف صدقا ماذا أريد بالضبط "
ران عليهم الصمت وقد اشفقت فاطمة على حاله، لم يسبق لها أن رأته بتلك الحالة البائسة الضائعة كما وصف نفسه
دوماً كان واثقا متزنا يعرف ما يريد ويسعى إليه بإصرار حتى يناله، لكنه الآن يبدو وكأنه فقد كل هذا
تنهدت فاطمة بأسى وهي تقول: " ماذا تريد من نبض يا صخر؟ "
ازدرد ريقه دون أن يرفع رأسه ليواجهها وظل على صمته لحظات قبل أن يرد بصوت تصنع فيه اللامبالاة حتى لا يظهر المزيد من التشتت والضياع الذي يشعر به ويأبى أن يظهره لأحد: " لا شيء.. أنا أحاول أن أرد المعروف الذي فعله والدها معي.. عليّ دين له وأحاول أن أرده له في ابنته "
صدمته فاطمة بالقول: " لكنك هكذا تظلمها "
رفع رأسه يطالعها بعدم فهم وهو يردد: " أظلمها! "
نهض يوسف من مكانه وقد فاض به الكيل، أراد أن يوقف الصراع الدائر بينهما عند هذا الحد لتصدمه فاطمة بردها على صخر وهي تقول: " نعم تظلمها.. كونك ترفض أن تطلقها فهذا ظلم لها.. ألم تفكر لحظة أنها يوماً ما ستحب شاب وستتمنى أن تكمل معه حياتها وتبني معه مستقبلها لكن زواجك منها سيقف حاجزاً دون ذلك؟ ألم تفكر لحظة أن من أبسط حقوقها أن تختار شريكها في الحياة وأن... "
قاطعها منفعلا: " كفى عمتي.. إلى هنا وكفى "
رفعت حاجباً ببرود وهي تقول: " أ تريد أن تكون أنانياً معها هي الأخرى؟ ما تحدده أنت وتختاره لها هو ما تنفذه هي بطاعة "
قطب بغضب وهو يرد: " أنا لست أنانياً.. ذلك ليس من طبعي "
كان غضبها حقيقياً تلك المرة وهي تقول: " حقاً! وبما تسمي ما تفعله مع من حولك؟ هل تعرف مقدار الرعب الذي يعيش فيه كل من له علاقة بك؟ هل تشعر ولو بقدر قليل من القلق الذي تسببه للجميع؟ "
نظر صخر إلى يوسف بوحشية لأنه بالتأكيد من أخبرها عن كل ما يفعله سرا وإلا كيف علمت وهي لا تعرفه عن قرب ولا تسكن معهم في العاصمة؟
رفع صوته صارخاً بغضب أهوج: " أنا لا أفعل شيء مع أحد ولا أسبب لأحد أي شعور بأي معنى.. أنا وحدي وليس معي أحد.. لا أشعر بأحد يطوف من حولي كما تصورين.. بل لا أشعر بأي شيء "
كان صدره يعلو ويهبط من حدة تنفسه بينما ملامحه على وشك التفتت من شدة توحشها
صمت لحظة ثم عاد يصرخ بشراسة وهو يبسط كفيه أمامه: " انظري جيداً إلى كفيّ (نظرت له بشفقة فقال) إنهما فارغين.. دوماً كانا كذلك والآن لم يتغير شيء فلازالا على حالهما فارغين تماماً (ثم لوح بيده مشيراً لما حوله وهو يقول) وانظري حولي.. انظري لما حولي، لحياتي لن تجدي فيها أحد.. إنها فارغة "
ردت فاطمة بمهادنة: " لا.. هي ليست فارغة وحتى لو اعتقدنا ذلك فرضا فالآن هي لم تعد كذلك.. أصبحت نبض فيها "
ببرود قاسي رد: " لا هي ليست فيها ولن تكون.. نبض واجب عليّ، معروف عليّ أن أؤديه على أكمل وجه، أمانة عليّ أن أصونها وأحافظ عليها كما يجب، دين يجب عليّ أن أقضيه لا أكثر ولا أقل من ذلك "
قطبت فاطمة بضيق وهي تقول: " معك حق.. لطالما كنت جاحدا وأنكرت وجود عائلتك التي تحبك وتخاف عليك فكيف ظننت أن نبض ستكون عندك ذات قيمة؟ "
أشاح بوجهه وهو يبتسم بمرارة رغم سخريته القاسية: " بالله عليكِ كفاكِ كلاما عما لا تعرفينه يا عمتي.. عن أي عائلة تتكلمين؟ أنا لا أشعر بنفسي ذا هوية من الأساس وكأني نبته سامة شقت طريقها في الأرض بنفسها دون أن تكون لها جذور تدعمها "
تجمد الموقف بينهما والكل منخرط في أفكاره الخاصة حتى تمتمت فاطمة بشجن بعد أن يأست من إيجاد طريقة لجعل صخر يلين: " لهف قلبي عليك يا ولدي.. وشم الألم روحك منذ زمان بعيد ورافق الوجع دربك وكأنهما لا يعرفان طريق إنسان غيرك "
***

كانت تقف أمام الباب المغلق منذ بضعة دقائق.. منذ وصلها صوت صخر الحاد وهو يصرخ عالياً
تقف ودموعها تنهمر كشلال غزير لا نهاية له وكلماته الباردة لازالت تتردد من حولها
' لا هي ليست فيها ولن تكون.. نبض واجب عليّ، معروف عليّ أن أؤديه على أكمل وجه، أمانة عليّ أن أصونها وأحافظ عليها كما يجب، دين يجب عليّ أن أقضيه لا أكثر ولا أقل من ذلك '
ثارت روحها الأبية من لامبالاته وكادت أن تهم بالدخول لتطلب منه أن يطلقها وترفع عنه الواجب الذي يشعر به ناحيتها لكن كلماته فيما بعد سمرتها في مكانها ليزداد وجعها وهي تستشعر قدر الألم والمرارة في صوته
شهقت باكية وهي تستدير مسرعة لتعود إلى غرفتها حينما انفتح الباب فجأة وفي لحظة كانت تسمع همساً خافتا من صخر: " لم أكن أعلم أن المهرة الخجول لديها صفة الفضول والتنصت من خلف الأبواب المغلقة "
رفعت يدها ووضعتها على فمها بصدمة وهي لا تعلم كيف شعر بها من الأساس ليخرج في تلك اللحظة وبدل من أن تهرب إلى غرفتها شعرت بالبلادة وهي تقف مكانها دون أي حركة فتدخل يوسف بمناكفة قائلا بغية تلطيف الجو المشحون: " أتمنى أن تكون ضمن صفاتكِ أيضاً إجادة الطهي لأنني جائع "
اتسعت عينيها ذهولا مع استمرار انهمار عبراتها ولم ترد فأضاف يوسف بنفس النبرة ولكن بتسلط طفولي: " أريد الكثير من الطعام.. لم أتناول أي طعام حقيقي منذ... اممم منذ... "
أكملت جملته التي قطعها: " منذ ثلاثة أيام تقريباً "
تنهد وهو يقول: " نعم.. تقريباً "
إلتفتت له تقول بإرتباك وتلعثم: " لكنني... أنا... في الحقيقة أنا لا أعلم كيف أعد أي نوع من الأكلات عدا السلطة "
عبس وهو يقول باستنكار: " السلطة! "
بينما قالت فاطمة بمزاح من خلفه وهي تمسح أثار دموعها: " وهل ترين أن السلطة وحدها كافية لسد جوع ماردين بهذا الحجم؟ "
شملتهم نبض بنظرة سريعة متوترة خجولة وهي تقول: " لا لن تكفي هما... هما ضخمان فعلاً "
ضحكت فاطمة فقالت نبض ببراءة: " ماذا يمكن أن نطعمهما حتى يشبعا؟ "
انفجرت فاطمة في الضحك بشدة وهي تجيبها بمرح: " يحتاجان إلى وجبة دسمة حتى نستطيع سد جوعهما وإلا أكلانا "
رمشت نبض وهي ترد ببراءة تامة: " لكنهم لا يبدوان من آكلي لحوم البشر "
قالت فاطمة بمناكفة: " حقاً لا يبدوان كذلك؟ "
حركت نبض رأسها سلباً وهي تقول: " بلى "
فضحكت فاطمة من جديد وهي تخرج من الغرفة متجه نحو المطبخ بينما تقول: " حسناً تعالي لنرى ما لدينا حتى نطعمهما "
استوقفها صخر يقول: " لا داعي لترهقي نفسكِ في إعداد الطعام يا عمتي فعلى أي حال أنا جائع جداً أنا الآخر لذا لا حاجة للانتظار "
استدارت فاطمة تنظر له بحيرة وهي تقول: " إذن لديك اقتراح أفضل؟ "
اومأ برأسه وهو يقول: " نعم.. سوف أطلب لنا وجبة غداء من الخارج ما عليكما سوا الاختيار هل أطلب الطعام من مطعم أسماك أم... "
قاطعته فاطمة بضيق وهي تقول: " مطعم! ولما كل هذا؟ أنتظر حتى أعد الطعام في البيت لن يضيرك أن تنتظر قليلاً بعد "
قطب بحيرة وهو يقول: " لو لم أكن أعلم عن كرمك وجودك لكنت ظننت أنكِ بخيلة لذلك لا تريدين مني أن أطلب الطعام من الخارج "
ردت نبض بدلاً من فاطمة التي عبست: " عمتي فاطمة لا تحب أن تأكل من الطعام الخارجي فمهما بلغت جودة وشهرة المطعم الذي ستطلب منه الطعام هي لن تمسه "
رفع حاجبيه بذهول وهو يقول: " ولما كل هذا؟ "
أولته فاطمة ظهرها وهي تتجه نحو المطبخ بينما ردت بصوت مشمئز: " لا أضمن مدى نظافة أو مصدر المأكولات التي تصنع خارج البيت ولو كان طعاماً آتيا من مطعم عالمي خصيصاً لأجلي فمستحيل أن أقترب منه أو أتذوقه حتى.. أجلس في أي مكان وحاول أن تلهو بأي شيء حتى أجهز الغداء "
زفر بغيظ وهو يردد كلمتها ناظرا ليوسف الذي يكتم ضحكاته بصعوبة: " ألهو! "
أرادت نبض أن تتبع فاطمة حتى تساعدها لكن صخر استوقفها ممسكا معصمها بلطف ورغم ذلك أجفلت وانتفضت بخوف وهي تسحب يدها من قبضته بقوة، حينها أنسحب يوسف بهدوء لاحقا بفاطمة في المطبخ تاركا لهما الساحة فارغة
لاحظت نظراته المستنكرة لها فقالت بكبرياء وهي لم تنس كلماته الباردة التي قالها منذ قليل: " إذا سمحت لا تعيدها ثانية.. أنا لا أحب أن يلمسني الغرباء "
قطب بغضب مكبوت من كلمتها الأخيرة وقال: " لكنني لست غريباً عنكِ كما تلمحين يا نبض "
بإرادة رفضت أن تنظر له وهو ترد بهدوء: " بلى أنت كذلك وذلك العقد الذي بحوزتك لا يعطيك أي حق عليّ مما يجعلك غريباً "
زمجر بضيق وهو يقول: " ظننتكِ واعية أكثر من هذا لتدركي أنني أملك الكثير من الحقوق عليكِ.. (ثم تابع بتهكم يقول) بذلك العقد الذي بحوزتي "
ردت عليه بنفس هدوئها الظاهري وإن شابته لمحة من الاستهزاء: " ظننتني واعية! لا أنت مخطئ فلا يجب أن تطلب من طفلة بأن تكون على قدر الوعي بتلك الحقوق التي تتحدث عنها لأنها بالتأكيد مهما حاولت أن تشرح لها لن يستوعب عقلها الطفولي الصغير ما تقول "
قطب بحنق وهو يدرك أنها تبلغه برسالة واضحة عن سماعها لحديثه عنها وأنها إن كانت طفلة من وجهة نظره كما قال فلا يجب أن يتغنى أمامها بحقوق بالطبع لن يطالها من.. طفلة
بعد لحظة من الصمت وتقدير الموقف من كافة النواحي من ناحيته كان يزفر قائلاً بإقتضاب: " حسناً نبض هذه هي وجهة نظري تجاهكِ وبما أنكِ سمعتِ فقد وفرتِ عليّ أن... "
قاطعته بأدب مضحك وهي ترفع سبابتها تطلب بصمت أن يسمح لها بالكلام وما إن زادت تقطيبته حتى نطقت هي بنفس نبرتها الهادئة: " أعلم أنني وفرت عليك الكثير ولا حاجة لي بأن تخبرني بذلك لأنني أعلم.. كما أنني شاكرة لشهامتك ونبل أخلاقك معي خلال الأيام الماضية وحتى اللحظة ولكن يا صخر هناك أمر هام يجب أن تعرفه حتى تضعه نصب عينيك وضمن حساباتك "
ظهر الترقب والحذر في عينيه وهو ينتظر بقلق معرفة ماهية هذا الأمر الهام لتتكلم نبض بعد لحظة بصوت هادئ ذو نبرة قوية أبهرته بها ولم يكن يعرفها فيها من قبل: " كما قلت لك قبل قليل لا حقوق لك عندي بذلك العقد الذي تملكه لأنني وببساطة أريدك أن تحررني منه كما أحررك أنت منه هذا أولاً أما ثانياً فهو أنني سأسافر إلى مدينة عمتي فاطمة حيث سأقيم معها هناك فلم يعد من اللائق أن أبقى هنا وحدي "
للوهلة الأولى ظنته لم يفهم أياً مما قالته خاصة مع سكونه التام لكنها كانت لحظة واحدة فقط وبعدها تتابعت الانفعالات على ملامحه وفي عينيه وهي بصلابة كانت تنتظر أن يصرخ فيها لترد عليه وتوضح له وجهة نظرها هي الأخرى
تكلم من بين اسنانه: " أرى أنكِ حسمتِ الأمر كله وحدكِ يا نبض دون حتى الرجوع إليّ "
ظلت على توجيه نظراتها بعيداً عنه وهي ترد بهدوء مستفز: " أخبرتك منذ قليل أن لا سلطة لك عليّ حتى أشركك في أمر يخصني.. إنه شأني وحدي "
رفع حاجبيه بدهشة، لا يصدق أن نبض المهرة الخجول التي كانت تتلعثم وتتلون من الخجل مائة مرة في الثانية الواحدة ما إن يوجه لها كلمة عادية هي نفسها التي تقف أمامه بكل هذا الترفع والكبرياء تخبره عن قراراتها بصلابة تحسدها عليها أعتى الرجال
ظنها ستبقى على حالتها الانطوائية وسكونها الدائم كما كانت وخاصة بعد مصابها الأليم الذي حل بها منذ بضعة أيام قليلة
لا يصدق أنها هي نفسها من أخبرته في المشفى بحاجتها إليه وأنها لم يعد لها غيره بعد فقدانها لوالديها
قطب بحيرة وهو يفكر ' هل أصيبت بفقدان الذاكرة أم ماذا؟ '
أخرجه صوتها الشجي من أفكاره وهي تقول بهدوء وأدب: " عمتي فاطمة لن تمكث هنا طويلاً لذا رجاءً حاول أن تنهي... "
قاطعها بحدة يقول: " تريدين الطلاق نبض؟ "
اومأت بصمت دون أن تتفوه بحرف فصرخ هو بعنف: " هل جننتِ؟ بالتأكيد فقدتِ عقلكِ وأنتِ تتفوهين بما تقولين "
عبست نبض وردت: " لا أظن ذلك فأنا حتى اللحظة أشعر بنفسي في كامل قواي العقلية "
أمسكها من مرفقها بخشونة وهو يصيح بغضب: " بل فقدتِ عقلك وتحتاجين إلى التأديب على وقاحتكِ وأنتِ تقفين أمامي بتلك الصفاقة تطلبين الطلاق "
رفعت رأسها بحدة تناظره بكم من الغضب لم تشعر به يوماً في حياتها اتجاه شخص من قبل
مضت لحظة صمت موحش بينهما قبل أن تنفض نبض ذراعها من بين قبضته وهي ترفع سبابتها في وجهه بتحذير عنيف: " إياك.. إياك وأن تعيدها مرة أخرى يا صخر.. هذا عن لمسي أما... أما عن حديثك عني بتلك الطريقة فأنا لا أقبله نهائياً لا تنس ابنة من أنا وكيف هي أخلاقي وتربيتي "
كان صدرها يعلو ويهبط من شدة انفعالها وانفاسها الحادة بينما هو سكن في مكانه وكأنه تحول إلى تمثال من الشمع لا معالم له ولا حياة فيه
وهناك على باب المطبخ كانت تقف فاطمة، وصلها الحديث الدائر بينهما منذ البداية ورغم ذلك لم تشأ أن تتدخل حتى أنها لم تسمح ليوسف بالتدخل هو الآخر، أرادت أن يتناقشا فيما يخصهما وحدهما حتى يصلا إلى نتيجة مرضية لكليهما ولكم تتمنى الآن وفي تلك اللحظة لو تدخلت منذ البداية قبل أن يتطور الأمر إلى تطاول من صخر وانفعال غير محسوب العواقب من نبض
فتحت فمها لتتدخل وتهدئ من احتدام الموقف بينهما لكن نبض سبقتها وهي تقول بصوت متصلب: " بعد ما قلت عني فقدت كل حق لك عليّ.. لن أقبل منك كلمة أخرى في حقي يا صخر.. دورك الذي لم يبدأ يوماً في حياتي أنت بيديك انهيته للتو لذا وبكل هدوء أرجوك أن تخرج حالا من بيتي ولا تفكر أبداً في العودة إليه لأنه لم يعد لك مكاناً فيه وقبل ذلك عليك أن... أن... أنت تعلم "
أولته ظهرها وقد بدأ قناع صلابتها وشجاعتها أمامه يتهاوى حينما صرخ بحدة: " لا يا نبض لا أعلم.. أنطقي بما تريدين حتى انفذه لكِ "
رفعت رأسها تنظر إلى فاطمة برجاء صامت ظهر في عينيها حتى تتدخل لكن الأخيرة تنهدت بأسى قبل أن تدلف إلى داخل المطبخ فنكست نبض رأسها بقهر وقد علمت أن فاطمة لن تساندها لأنها كما ظهر عليها لم تقبل بقرارها
ران صمت مطبق على كليهما للحظات طويلة حتى قطعتها هي بشجاعة تقول: " حسناً يا صخر تريدني أن أنطقها لتنفذها وأنا لن أتراجع (سحبت نفس عميق قبل أن تكمل جملتها بصلابة واهية) إذا سمحت صخر طلقني وأنهي الأمر قبل أن أسافر مع عمتي فاطمة "
لم تنتظر سماع رأيه بل خطت على الفور إلى غرفتها حتى تتحصن بها من الألم الذي تشعر به والذي تصرخ به مقلتيها
لحظات مرت والبيت ساكن لا صوت فيه ولا حياة لمن به حتى خرجت فاطمة من المطبخ لتجده لازال على نفس وقفته الجامدة فقالت ببؤس: " أخطأت فيما قلت يا صخر وخطأك كان في حق مختار ومريم رحمهما الله قبل أن يكون في حقها "
لم يرد عليها بل ظل على حالته فأكملت هي بأسى وكآبة: " هذا أكبر دليل على أنك لا تعلم عنها شيء.. أنت لا تعرف متى تكون نبض المهرة الخجول ومتى تكون الفرس الجامحة؟ أخبرتك أنك لا تصلح لها.. نبض ليست لكَ يا صخر.. حررها وتحرر منها يا بني هذا أفضل لكَ أنتَ قبلها "
أيضا لم تتغير ملامحه لكن الرفض القاطع ظهر بوضوح في مقلتيه وهو يؤكد رفضه بكلمة واحدة حاسمة " لا "
قطبت فاطمة بتساؤل تقول: " لا؟ "
لمع في عينيه بريق مخيف وحشي وهو يقول بصوت خفيض يشع عنفا: " لا لن أحررها مني، لا لن أحرر نفسي منها، لا لن أدعها تحلق بعيداً عني حتى لو اضطررت إلى قص أجنحتها حتى تظل إلى جواري، ولا لن تكن لرجل غيري حتى لو اجبرتها على ذلك وكسرت جموحها بيدي لتكون طوع بناني "
عبست فاطمة برفض لما يقول لكن وقبل أن تتفوه بحرف كان هو يضيف بنفس النبرة: " أقسم بالله إن نطقتها ثانية ولو في أحلامها لأجعلنها تبكي ندما مراراً وتكراراً وسفر معكِ هي لن تسافر ولتريني كيف ستفعلها دون إرادتي "
فتحت الباب بعنف وخرجت صارخة بقوة: " بلى سأسافر مع عمتي ورغماً عنك لو تطلب الأمر "
هدر هو مندفعا بنفس الغضب: " أقسم بالله أنكِ لن تسافرين يا نبض "
تقدمت منه بخطى سريعة كان انفعالها المكبوت هو ما يدفعها لفعل ذلك دون تفكير، أخذت تدفعه في صدره بخشونة وهي تصرخ بشراسة: " أخرج من بيتي ولا تعد ثانية.. لا أريد رؤية وجهك من جديد ولو عن طريق المصادفة حتى.. هيا أخرج وابتعد عن حياتي.. لا شأن لك بي.. ابتعد عني... هيا "
كان هو يتحرك للوراء، يجاريها بصمت رغم أن دفعاتها لم تكن لتحرك ساكناً به لو لم يقبل هو على التفاعل معها والرضوخ للتأثر بشراستها الغريبة حتى لا يغضبها أكثر
خلال ذلك كان يتمعن في النظر إلى عينيها العاصفتين بأمواج هادرة لا تقبل السكون، شعر بأنها على وشك الإنهيار ولم يخيب ظنه حينما توقفت عن دفعه فجأة وهي تميل لتستند بجبهتها على صدره بتعب وإرهاق بينما قبضتيها تتشبثان بقميصه بقوة
كل ذلك حدث وفاطمة ساكنة، صامتة لا تتدخل ويوسف يطالعهما ببؤس وكآبة أما هو فكان يتخبط بين أفكاره بحيرة بعدما زال غضبه منها في لحظة وهو يراها تستكين أمامه بضعف مس قلبه وصميم روحه
همست هي بنشيج مكتوم: " أرجوك صخر طلقني.. أنا لا أريد الزواج لا منك ولا من غيرك أنا... لازلت طفلة كما قلت فأرجوك حررني "
تقبضت يديه إلى جانبيه ونظر إلى فاطمة بجمود فأومأت له برأسها بأسى وكأنها تقول ' قلت لك سابقاً أنكَ لم تعرفها يوماً ولا تصلح لها '
وهو بذكاء استقبل نظراتها وفهم المغزى منها وبقى على جموده للحظات أخر قبل أن يقول بصوت بارد كالجليد: " ارفعي رأسكِ نبض وانظري إلى عيني وأنتِ تطلبين الطلاق "
شهقت ببكاء أليم وهي ترد: " لماذا لا تنفذ طلبي دون أن تتمادى في تعذيبي؟ ارحمني أرجوك "
بنفس جموده وبرود نبرته كان يأمرها: " قلت انظري لي "
حركت رأسها يميناً ويسارا برفض دون أن ترفع وجهها إليه وهي تقول: " لا أستطيع "
رد بغضب مكبوت: " هل أفهم من ذلك أنكِ تراجعت عن طلبكِ و... "
قاطعته بحدة وهي ترفع رأسها دفعة واحدة تنظر إلى عينيه دون شعور منها لأنها أطاعته ونفذت أمره بينما تقول: " لا لم أتراجع لازلت على قراري "
كانت عينيه كمرجلين يغليان بوحشية بدائية مخيفة ولم تبالغ هي حينما شهقت فزعاً وخوفا منه لترتد للخلف خطوة متنازلة عن التمسك به
كانت ترتعد وهي تشعر بالضياع، تشعر بأن أعصابها باتت على المحك وأصبحت قاب قوسين أو أدنى من الانهيار
في تلك اللحظة تدخلت فاطمة بحزم أمومي ومؤازرة لنبض بعدما رق قلبها لحالها البائس وهي تواجه صخر بصلابة بينما تقول بنبرة حاسمة: " نبض ستسافر معي غداً في الصباح الباكر "
لم تكد المسكينة نبض تتنهد براحة حتى أفزعها صراخ صخر العنيف وهو يقول: " لقد أقسمت عليها "
عبست فاطمة وهي ترد بنفس النبرة: " وهذا ما منعني من السفر اليوم وأخذها معي لذلك قررت أن أنتظر للغد "
رفع حاجباً بتهكم وهو يرد: " بهذه البساطة.. شكرا لكرمكِ عمتي.. يبدو أن قراركِ مُرضيا لقسمي فعلاً "
على غفلة منهما كانت نبض ترفع يدها تضعها على جبهتها بإعياء وهي تشعر بدوار يحطم ثباتها ويفتت توازنها بلا رحمة
ترنحت قليلاً وهي تشعر بنفسها على وشك السقوط بين أحضان تلك الهوة السوداء التي تجذبها نحوها بقوة في حين مدت يدها الأخرى ظنًا منها بأن هناك ما قد تتمسك به فيحول بينها وبين السقوط.. لكنها كانت مخطئة تماما فلم تمض لحظة أو اثنتين على أكثر تقدير حتى كانت الأرض الصلبة تستقبلها بين ذراعيها وترحب بجسدها الذي يئن ألماً في غياب وعي صاحبته
***

حينما استعادت وعيها واحساسها بنفسها وما يدور حولها بعد وقت لا تعلم قدره كان أول ما شعرت به هو تلك اليد الحنونة التي تمسك بكفها
أجفل جسدها للحظة قبل أن تستكين ثانية ما إن وصل إلى مسامعها تلك التمتمات العذبة بآيات القرآن الكريم التي أخذت العمة فاطمة في ترتيلها بخفوت ورغم راحتها من وجود فاطمة إلى جوارها إلى أن شعور بغيض بالثقل كان يجسم على صدرها
هناك ما يتسبب في منع وصول الهواء إلى رئتيها.. هناك ما يضيق من حولها الحصار لكنها لا تعلم كنهه
أرادت أن تفتح عينيها وتخبر فاطمة بأنها بخير حتى تطمئن لكن ذلك الصوت الذي سمعته فجأة اخرسها تماماً
" أظنني نسيت أن أخبركِ يا عمتي بأنه لو كان تمسكي بنبض ورفضي لتنفيذ طلبها وتحريرها مني يعد جحوداً فأنا جاحد بالفعل "
ظلت فاطمة ترتل القرآن للحظات طويلة دون أن تلتفت له أو ترد عليه حتى نهضت فجأة بهدوء بعدما قبلت جبين نبض بحنان
اقتربت منه وبحزم أمومي شديد كانت ترد: " بل ستنزل عن عرش غرورك وتنفذ لها طلبها شئت أم أبيت "
بصلف وغرور قال: " لا يستطيع أحد إجباري على فعل ما لا أريد "
ردت فاطمة بنفس النبرة: " وكما أنه لا يوجد من يستطيع اجبارك على شيء فأنت الآخر لا تستطيع اجبارها على شيء "
بحدة رد: " بلى أستطيع.. أنا زوجها ومن حقي عليها أن تطيعني فيما آمرها به "
لم تستطع فاطمة أن تتمالك أعصابها أمام نبرته المتعجرفة الفظة فضربته بقبضتها في كتفيه وهي تقول من بين أسنانها بصوت حاولت أن يكون خفيض حتى لا ييقظ نبض ظناً منها أنها لازالت نائمة: " أي نوع من الكائنات أنت؟ تريد أن تأمر فتُطاع.. لماذا؟ هل ظننت نفسك سيداً عليها وهي جاريتك؟ أم تراك نسيت من تكون هي؟ "
كبح عنفوانه ووحشيته بشدة وهو يشيح بوجهه عنها دون أن يرد بينما هي تابعت بغضب مع تتابع ضرباتها له: " أتظن نفسك امتلكتها بمجرد ورقة خُط عليها إسمك واسمها؟ "
رد من بين أنفاسه المتسارعة غضبا يحاول بشق الأنفس أن يكبته: " أنا لم اجبرها على الزواج مني هي من أعطت موافقتها لوالدها دون لحظة تردد واحدة فلا تضعي اللوم عليّ الآن "
ردت بغيظ متفاقم وهي تلكزه بسبابتها في صدره: " لا تتحاذق عليّ يا ولد.. أنت تعلم جيداً أنها فعلت ذلك لأجل إرضاء والدها وهو على فراش الموت ومختار رحمه الله نفسه ما كان ليزوجها لك إن منحه الله العمر والنجاة من ذلك الحادث البشع "
كانت تعلم أن ما تقوله يؤلمه ولكنها لأجل نبض لم تبالي فتابعت بقسوة: " تعلم علم اليقين أنه ما كان ليأتمنك على قرة عينه وابنته الوحيدة وأنت... وأنت أنتَ على ما أنتَ عليه من ظلام الروح وقساوة القلب.. ما كان ليقبل بكَ زوجا لها وإن كنت آخر رجال العالم ولا يوجد سواك على كوكب الأرض "
لم تخطئ فهم لمعة الألم التي ومضت في عينيه وهو يحيد بنظراته الجريحة بعيداً عنها دون أن يعقب على حديثها أو يدافع عن نفسه وفي المقابل كانت هي الأخرى تشعر بالألم عليه أضعاف ما يشعر لكنها تعلم أنها لو لم تقف في وجهه فلن تنجى المسكينة نبض من قبضته حتى يدمرها بظلامه ويزهق روحها الهشة بقسوته الوحشية التي لا طاقة لأحد على صدها وقد أخبرها يوسف الكثير عنها
تراجع خطوة للخلف وهم بأن يستدير ليرحل حينما استوقفه صوتها الحازم: " لديك من الوقت حتى الغد فقط وقبل أن أعود إلى المدينة أريد أن أعرف ردك إما بالموافقة على طلب نبض أو... (رفع عينيه بترقب حذر لها فصمتت برهة قبل أن تردف) ستعلم حينها الخيار الآخر والذي لا أظنه سيعجبك أبداً "

انتهى الفصل...

ليال الحنين 09-10-19 01:48 PM

الروايه جميله جدا وطريقه السرد روعه بنا انها اول روايه لك ولا لك روايات تانيه يا يتلو فيه روايات قوليلي الفصول طويله وحلوه مش ممله ابدا
صخر لسه حكايته مش بانت ولا هو معروف هو من عيله مين بس ممكن يكون من الناصر
يوسف مش فاهمه ايه الحكمه من ابعاده مع ان زيد برده كان معاه
نبض اسم جميل وغريب كنت الأول بقول انها ليوسف بس الأحداث اخذتنا لصخر وصهر شايف انها طفله وعندها ١٨ سنه ماشي هنشوف الطفله اظن انها هتشافر مع عمتهم طبعا تحت مراقبه صخر
زيد بجد دمه خفيف جدا وحساس وحنين ياريت تنزلي صور للأبطال ممكن ومتابعه معاك ان شاء الله

Hend fayed 15-10-19 05:51 PM

سُلاف الفُؤاد
 
ب
سم الله الرحمن الرحيم أما بعد؛
|| الفصل الرابع ||

في المدينة الجبلية
منذ أيام وهي على نفس الحال تتخذ من الأرجوحة التي رافقتها أثناء مرحلة طفولتها أنيسا لها فما إن تشرق الشمس حتى تهجر غرفتها وتأتي إلى الحديقة متخذه من تلك الأرجوحة مجلسا لها حتى الغروب وحينها تعود إلى غرفتها مرة ثانية مغلقة بابها على نفسها رافضة الحديث أو الطعام أو حتى التفاعل في أي شيء أو أي شخص
الجميع في الدار بلا إستثناء لاحظ حالتها الغريبة تلك والكثير منهم حاولوا التدخل إلا أنها كانت تلتزم الصمت غارقة في حالتها الشاردة دون أن تمنح أحدهم ردا مرضيا يريحه
على أطراف الحديقة في إحدى الزوايا البعيدة نسبيا عنها وقفت حياة إلى جوار ياسين تكلمه بخصوص أختها والقلق ينهشها عليها
" لا أعرف ما أصابها منذ ليلة العرس.. لكنني أظن بأن حالتها تلك قد تكون متعلقة بمجيئ عمي مختار "
قطب ياسين مفكرا وهو يؤيد حديثها: " معكِ حق أنا الآخر لاحظت التغيير الذي بدى على محياها حينما كانت تودعه قبل رحيله "
قالت حياة بقلق: " أخشى أن تكون مريضة ولا تخبر أحد وهي كما ترى لا تسمح لأحد بالحديث معها حتى نطمئن عليها على الأقل "
نظر ياسين إلى حياة بكآبة وهو يقول: " ومن منا ليس بمريض يا حياة؟ المرض لا يكون في الجسد وحده فكما تعلمين نحن عائلة ضُرِبَ بها المثل في علة الروح وشقاء القلب "
أشاحت حياة بوجهها عنه جانبا وهي تقول بوجع مكبوت: " وكأن ما بي لا يكفيني فأتيت أنتَ لتصب المزيد من الزيت على النار يا ابن عمي "
تنهد ياسين قائلا: " ما بكِ أنتِ وحدك صانعتيه يا حياة.. أنتِ من تتشبثين بالماضي وترفضين الحياة "
ابتسمت بمرارة ترد ساخرة: " ومن منا لا يفعل؟ الماضي ملاحقك أينما كنت وأنتَ تدري أن جزء من الماضي يمثل هويتنا فإن كنتَ أنتَ لا تحاول درء الماضي فلا تطلب مني أن أفعل فما فقدته أنا ضعف ما فقدته أنتَ "
همت بالرحيل ثم توقفت تقول بشجن وهي ترمق جلسة أختها البائسة: " لا تغادر لعملك قبل أن تحاول معها فحدسي يخبرني أنها لن ترفض الحديث معك "
غادرت حياة وتركته وحده يتطلع لملك بقلب يئن ألما على محبوبته التي لا يدري ما يوجعها لتبدو بهذا الضعف الذي لم يعهده فيها
تحرك نحوها بخطى هادئة وحينما وصل إليها جلس ببساطة إلى جوارها، كان ملتصقا بها ولولا ذلك لما تنبهت له وهي تبدو شاردة بعيدا جدا
أجفلت فجأة حتى أنها انتفضت في مكانها بطريقة أجفلته هو الآخر وفي اللحظة التالية كانت تلصق نفسها بأبعد زاوية في الأرجوحة بعيدا عنه فقطب يقول ببرود مصطنع: " أتظنيني آكلك؟ "
رمقته بطرف عينها دون أن ترد فقال هو ليستفزها كي تتكلم: " ما بكِ؟ تبدين بائسة هل حاولتِ الإيقاع بآخر بين شباككِ ولم تفلحي؟ "
لم تغضب منه فهي أكيدة من أنه لا يعني ما يقول فالتزمت الصمت ولم ترد أيضا ليقول هو ساخرا: " لا تخشي شيء أخبريني وإن كنت أعرفه فسوف أبذل جهدي لأوفق بينكما "
تمتمت أخيرا بخفوت متحشرج: " لا أحتاج مساعدتك فإن كان هناك آخر أريده لما جلست هنا وهو هناك "
ابتسم ساخرا يرد: " حقا! وماذا كنتِ ستفعلين معه؟ تقيدينه إلى جواركِ وحيث تكونين "
نظرت له بقوة وعينيها تلمعان ببريق غريب وهي تؤكد ما يقول: " نعم.. كنت لأقيده إلى جواري "
ارتجفت عضلة في فكه ورغما عنه غضب لأنها قد تكون تفكر في آخر بالفعل فقال ببرود حاول أن يفلح في رسمه: " وماذا عني؟ هل أصبحت من ماضيكِ؟ "
أشاحت بوجهها عنه متوجعة ترد بإحباط: " أنتَ لا يفلح معك التقييد فرجال الجبالي من الصعب أن يمتلكهم أحد "
أعاد وجهها إليه بحنان يقول: " لكنكِ فعلتِ يا ملاك "
هزت رأسها سلبا وهي ترد بصوت تخنقه غصة البكاء: " لا لم أفعل ولن أستطيع فأنت كالزئبق لم تفلح معك أي طريقة حاولت أن استخدمها معك "
ابتسم برقة يرد: " ربما لأنكِ لم تستخدمي الطريقة المُثلى أو الصحيحة بعد "
رمشت لوهلة فتحررت بضعة دمعات على وجنتيها مسحها هو بلطف وهي تقول بأمل: " أتظن ذلك؟ "
اومأ مبتسما، قائلا برفق: " لازلت أنتظر أن تدكي حصوني عما قريب يا ملاك وأعدكِ أن أدعها لأجلكِ مشرعة الأبواب "
شهقت فجأة باكية وهي تقول: " لكني أخشى عليك "
قطب متعجبا يسألها: " مما تخشين عليّ؟ "
أخفت وجهها بكفيها وهي تجهش في مزيد من البكاء قائلة: " أخشى عليكَ مني.. أنا فأل سيء.. كل من يقترب مني يتأذى وكل من أتعلق به يرحل ويتركني "
قطب بحيرة لا يعلم ما يقول ولا يفهم سر حالتها العجيبة تلك بينما أخذت هي تهذر بالمزيد من بين بكائها: " لو أنهم فقط لا يرحلون بدوني لما حزنت.. لو أنهم يأخذونني معهم حيثما يذهبون لما توجعت هكذا في غيابهم لما... لما شعرت بأنني جسد خاوي "
شحب وجه ياسين من الوصف الذي قالته وهي بدت في عالم آخر لا تشعر بوجوده إلى جوارها فقط تبكي بحرقة وتهذر بالكلام: " ماذا أفعل يا ربي حتى لا يفارقونني؟ ماذا بيدي لأستبقيهم معي؟ "
مسد على شعرها بحنان يناديها وهو يشعر بالخوف عليها: " ملاكي.. اهدئي حبيبتي لن أترككِ إن كان هذا ما يبكيكِ "
هزت رأسها سلبا وهي ترد بيأس: " ليتك تستطيع ياسين.. ليتك تستطيع لكنك... لكننا جميعا لا نملك من أمرنا شيء (ثم اجهشت في البكاء من جديد وهي تتمتم بحرقة) لكَ ربي الأمر من قبل ومن بعد "
قطب بألم وهو يشعر بنفسه على وشك البكاء هو الآخر ليفاجئ بطيف أخيه يقف على بعد قريب منهما يتابع ما يحدث مقطب الجبين دون أن يعقب بشيء
نظر له ياسين بضياع واستجداء يسأله الحل فتنهد قاسم وهو يشير له بطريقة ذات معنى حتى يتركها تبكي بقدر ما تشاء وبعد أن تنتهي أن يحاول سؤالها عن سبب حينها من جديد ثم استدار راحلا بقلب مكلوم ولسان حاله يردد: " يبدو أن الحزن قرر ملازمتنا فنزل زائرا عندنا لأجل غير مسمى "
***

في الداخل
كانت حفصة ترتب الفراش الذي سبق ورتبته قبل ساعات ثم تعود وتتحرك في الغرفة بتعثر تعدل هذا وتنقل هذا من مكان لآخر، بدت كئيبة كحال الجميع منذ سفر حمزة وزهراء
كان عاصم يجلس على كرسيه المريح إلى جوار النافذة يراجع عقد ما يخص العمل وبين الفينة والأخرى يرمقها بنظرة عابرة ليجدها على نفس حالتها
تنهد عاصم أخيرا وهو يقول: " اجلسي حبيبتي وارتاحي.. الغرفة نظيفة ومرتبة بل الجناح بأكمله مرتب "
توقفت مكانها إلى جوار الفراش وطالعته بنظرة شاردة دون أن ترد فقطب عاصم بقلق يسألها: " هل أنتِ بخير حفصة؟ "
اومأت برأسها وهي ترد: " نعم.. بخير "
وضع عاصم ما بيده من أوراق جانبا ونهض متوجها إليها وحين وصل أمسك وجهها بين كفيه برقة يقول: " إذن ما بكِ أميرتي؟ "
نظرت له ببؤس وهي ترد: " حال ملك لا يعجبني.. أشعر بالحزن لأجلها وزهراء اوحشتني جداً "
ابتسم بحنان يقول: " تعلمين حبيبتي أن ملك حالها يتقلب في اليوم الواحد ألف مرة.. قريبا إن شاء الله ستعود لحالتها الطبيعية فلا تحزني "
تنهدت بأسى تتمتم: " أتمنى هذا "
ضيق عينيه وهي يبتسم بشقاوة يناكفها قائلا: " أما عن زهراء فأظن بأنكِ تغارين منها لأنها ستقضي شهرين كاملين في فرنسا وأنتِ لم تحظي إلا بشهر واحد "
ابتسمت برقة وقد تبددت بعضا من كآبتها وهي تقول: " بالطبع لا.. أنا أتمنى لها كل السعادة "
رفع حاجبا بمكر وهو يسأل: " إذن أنتِ لا تريدين تذوق بعض العسل؟ "
كتمت ضحكتها الخجلة وهي تطرق ببصرها للأرض قائلة: " ألا يوجد عسل إلا في فرنسا؟ "
ضحك عاصم بمرح يرد: " اسألي أختكِ المجنونة التي كادت تصيب أخي المسكين بالجنون وهي تتشبث بالسفر إلى باريس على وجه الخصوص وكأنها مدينة العجائب وحياتها تتوقف على زيارتها "
ضحكت حفصة تقول: " تعلم أن زهراء مجنونة بالفطرة فلا يحق لكَ أن تلومها على خياراتها "
قهقه عاصم مستمتعا قبل أن يقول: " وما لي أنا وما لها من تزوجها هو المبتلى أما أنا.. (لمعت عينيه بحب وهو يكمل) حظيت بالعاقلة الرصينة.. بتوأم الروح والفؤاد "
ابتسمت حفصة بتورد وهي تتمتم بخفر: " ألن تتركني حتى أرى اشغالي فليس الجميع في إجازة اليوم مثلك سيد عاصم؟ "
تبسم عاصم بشقاوة وهو يرد: " ومن المستفيد من إجازة السيد عاصم؟ أ ليست حبيبته وأميرته؟ "
دفعته حفصة في صدره بلطف وقد زاد توردها مما فهمته من مغزى كلامه فقالت بإرتباك: " لا تمزح يا عاصم.. لست متفرغة.. اتركني بالله عليك قبل أن تقتحم حلا الغرفة في أي لحظة "
عبس عاصم ببؤس طفولي وهو يقول: " فلتفعل لأخبرها بتمنعكِ عليّ "
شهقت بخجل وهي تضربه في صدره بغيظ بينما تغمغم: " أ جُننت يا عاصم! والله إن فعلت هذا لتبيتن الليلة في غرفة ابنتك "
رفع حاجبيه بتعجب وهو يتركها ليقف أمامها متخصرا قائلا: " أهذا تهديد حفصة هانم؟ "
أشاحت بوجهها عنه جانبا متصنعة الجدية وهي ترد: " نعم.. هو كذلك تماما "
ابتسم بمكر وهو يهمس: " إن كانت نيتكِ سيئة تجاهي هكذا فمن الأفضل أن أحصن نفسي واختزن بعض العسل للمساء حتى إن طردتني من جنتكِ يكون لدي ما أواسي قلبي المسكين به "
قطبت بحيرة تردد: " ماذا؟ كيف؟ "
لم يمهلها قول المزيد وهجم عليها يعتقل خصرها بذراعيه وهو يضحك قائلا: " سأخبركِ تفصيلا كيف فالكلام في هذه الحالة من الأسئلة الصعبة لا يفيد "
أخذت تضربه على كتفيه وهي تحاول التحرر منه دون جدوى صارخة بغيظ: " أفلتني يا عاصم وإلا والله س... "
ضاع قسمها أدراج الرياح وهو يتلقف بقية جملتها بين شفتيه مانحا اياها الشرح الذي أخبرها عنه جملة وتفصيلا فاستكانت مستسلمة بين أحضانه في انتظار التقييم
***

مساءً / في العاصمة
كانت تجلس إلى جوار خالتها بصمت تستمع إلى هذر من حولها دون تعقيب وكأن الأمر لا يعنيها رغم أن الحوار يدور من حولها ويخصها وحدها
عيناها كانتا مثبتتين على كفيها الممسكتين بهاتفها، لا تعرف ماذا تنتظر بالضبط؟ لكنها فقط تنتظر
تمر اللحظات والدقائق ولا تمل الإنتظار وكأن لا شاغل لها سوا ذلك، حتى افاقت من شرودها على صوت فاطمة وهي تقول: " ما رأيكِ بنيتي؟ هل ستسافرين مع خالتكِ منال؟ "
أجفلت من السؤال والتفتت تنظر إلى خالتها منال بدهشة وهي تردد: " أسافر معكِ خالتي! "
رفعت منال حاجبيها وهي تقول: " وهل لديكِ خيار آخر؟ "
شعرت نبض بالحيرة من نفسها، عقلها يخبرها أنه الإختيار الأمثل بعد وفاة والديها فالأقرب لها هي خالتها منال أما قلبها فيخبرها أنها بحاجة ماسة للبقاء مع فاطمة حيث تشعر بالسكينة والأمان
تنهدت بحيرة لا تعرف لها سببا فأجفلت من جديد وخالتها تهزها وتعيد عليها السؤال: " لم نسمع ردكِ بعد.. هل لديكِ إعتراض على السفر معي؟ "
كانت فاطمة هي من ردت بدلاً منها بعدما شعرت بحيرتها: " أظنها بحاجة لبعض الوقت للتفكير بصفاء في هذا الأمر فأنتِ تعلمين حالتها الآن والظروف الصعبة التي تمر بها وتشتت تركيزها "
برمت منال شفتيها ببرود وهي تغمغم: " لا أحد يفهم حالة ابنة أختي رحمها الله أكثر مني سيدة فاطمة "
شعرت فاطمة بالحرج فقالت: " آه بالطبع فأنتِ خالتها وبمثابة أمها "
ردت منال بنفس البرود: " أكيد "
عادت نبض تنظر إلى هاتفها من جديد في اللحظة التي تحدث فيها مروان يقول بلطف: " نحن نقدر خوفكِ على نبض واهتمامكِ بها يا خالة لكنني لا أريدكِ أن تخشي عليها بعد الآن فأنا أعدكِ بأنها ستكون في أمان وراحة معنا "
اومأت فاطمة بصمت دون أي تعقيب فأضاف مروان: " كما أن سفرها معنا للخارج فرصة جيدة لها حتى تستكمل دراستها الجامعية "
نظرت فاطمة بطرف عينها إلى نبض الواجمة قبل أن تقول: " معك حق بني.. فرصة التعليم في الخارج لا تسنح للجميع ونبض تستحق الأفضل بالطبع "
هنا تدخل إياد بابتسامته الماكرة وهو ينظر إلى نبض: " وقد تحب الاستقرار هناك بعد الانتهاء من الدراسة تماماً أو الأفضل.. أن تتزوج وتسعى لتأسيس أسرتها الخاصة "
رفعت نبض رأسها بحدة ونظرت إلى فاطمة بصدمة وهي تتمتم بصوت غير مسموع: " زواج، وأسرة.. يا إلهي! "
بينما قطبت فاطمة تحدث نفسها: " إن سمعه المجنون الآخر سيزهق روحه في الحال.. من أين تأتي هذه المصائب التي لا تنتهي يا الله؟ "
فجأة سمعوا الباب ينفتح فنهضت فاطمة على الفور وقبل أن تخرج كان يوسف وصخر يدخلان، وقف يوسف متوترا بينما صخر كانت ملامحه جامدة وكأنها نحتت من الجليد
هبت منال من مكانها وهي تشير ليوسف بسبابتها بينما تصيح بغضب: " ماذا تفعل هنا يا ولد؟ وكيف دخلت إلى البيت بهذه البساطة دون استئذان؟ "
رفع يوسف حاجباً بتهكم وهو يرد عليها: " لست في حاجة لأخذ الإذن من أحد قبل دخول بيتي "
صرخت منال بغيظ: " بيتك كيف؟ هل صدقت حقاً أنه بيتك؟ هذا بيت أختي وزوجها وأنت ليس لكَ فيه شيء هيا أخرج منه حالاً "
نهضت نبض من مكانها هي الأخرى وقالت: " خالتي أرجوكِ اهدئي.. لا داع لكل هذا "
قطبت منال بضيق وهي تقول: " ألم تسمعيه؟ "
ردت نبض بتنهيد: " بلى سمعته يا خالتي ولا أراه مخطئ فيما قال.. يوسف محق.. هذا بيته "
صرخت منال بحنق: " هل جننتِ يا نبض؟ هل شفقتكِ عليه وصلت بكِ لأن توهميه بما ليس من حقه؟ "
نظرت نبض إلى فاطمة برجاء حتى تتدخل فقالت الأخيرة في محاولة لتهدئة الموقف: " ما تقصده نبض أن مختار ومريم رحمهما الله طالما اعتبراه بمثابة ابن لهما فبالتأكيد بيتهما هو بيته أيضاً "
تدخل مروان يقول: " اهدئي أمي فكما قالت نبض لا داع لكل هذا فعلى أي حال هي لم تعد بحاجة للبيت "
ران التوتر على نبض وفاطمة في حين سأل صخر بصوت غامض: " لم تعد بحاجة للبيت.. ماذا يفترض بي أن أفهم من هذا الكلام؟ "
رد مروان بهدوء: " لقد قررنا أن تسافر نبض معنا إلى أمريكا "
ضيق عينيه قليلاً وهو يسأل مروان بهدوء ما قبل العاصفة: " هلا أخبرتني رجاءً من صاحب هذا القرار بالضبط؟ "
ردت منال بعجرفة: " أنا "
رمقها ببرود وهو يسأل: " بأي صفة؟ "
قطبت بضيق وهي تغمغم: " ماذا؟ "
وضع كفيه في جيبي بنطاله وهو ينظر لها بلامبالاة قائلاً: " قلت... بأي صفة تقررين أمر كهذا نيابة عنها؟ "
صاحت منال بإنفعال: " بصفتي خالتها وبمثابة أمها "
ابتسم بسخرية وهو يقول بهدوء مستفز: " للأسف فقدتِ هذا الحق بعدما انتقلت لي الأولوية "
نظرت له فاطمة بتحذير مبطن حتى لا يتمادى في الحديث وهي تقول: " الأمور لا يمكن مناقشتها بتلك الطريقة "
صاحت منال بضيق: " أي أمور تلك التي سأناقشها أنا مع هذا اللقيط؟ "
هتف مروان بحنق: " أمي ليس هكذا "
بينما نبض صرخت بصدمة: " صخر ليس لقيط خالتي.. صخر يمتلك عائلة راقية ذات نسب معروف "
أصدر إياد صوتاً ساخراً وهو يضع ساقا على الأخرى بينما يقول: " لا أصدق أنكِ لازلتِ كما أنتِ يا نبض.. الطفلة الساذجة بغباء التي تدافع عن الجميع دومًا "
أطرقت نبض وقد آلمها وصفه لها لكنها لم ترد عليه في حين زمجر صخر وكاد يذهب إليه ليحطم وجهه ويمحي عن شفتيه تلك الإبتسامة القميئة لولا يوسف دفعه بحزم وهو يهمس له: " أهدأ الوضع مضطرب بما فيه الكفاية "
ثبت مكانه بمعجزة وهو يقبض على كفيه بتشنج إلى جانبيه لكنه لم يستطع منع نفسه من الهمس بغل وحقد: " الحقير "
تنهد مروان يقول: " أرجوكم اجلسوا ودعونا نتفاهم بتحضر "
بعد لحظات كان الجميع يتصنع الهدوء على اختلاف مشاعرهم وأفكارهم الداخلية
بادر مروان بالكلام بأسلوبه الهادئ المعتاد: " هل لديك مانع يا يوسف في أن تسافر نبض معنا؟ "
غمغمت منال بغيظ: " وما دخله هو الآخر؟ لا حق له في الحكم عليها أو إبداء رأيه فيما يخصها حتى "
زفر مروان بنفاذ صبر يقول: " أرجوكِ أمي دعيه يتحدث ويخبرنا برأيه فهذا حقه "
زفرت منال وصمتت على مضض بينما رد يوسف بدبلوماسية: " قبل أن أخبركم أي شيء أريد أن أعرف رأي صاحبة هذا الشأن "
نظر الجميع إلى نبض بترقب بينما قالت منال وهي تربت على كتفها: " بالتأكيد هي موافقة إذ لا يصح أن تظل هنا وحدها بعد وفاة والديها.. بيت خالتها أولى بها من الوحدة "
صاح مروان بقلة حيلة: " يا أمي أرجوكِ (التفت بعدها إلى نبض يقول بلطف) ما رأيكِ نبض؟ هل أنتِ موافقة على السفر معنا إلى أمريكا؟ "
ردت منال بتعجب: " بالطبع موافقة وماذا تظن يا بني؟ هل سترفض وتبقى هنا وحدها لتنهشها الوحوش والبشر ممن لا ضمائر لهم.. لم يعد في هذا العالم أمان أبداً "
كاد صخر ينهض من مكانه لكن يوسف قبض على مرفقه يقول بخفوت: " أهدأ "
غمغم صخر بضجر: " اتركني يا يوسف بالله عليك.. سأقتلها فقط حتى نرتاح "
في حين هب مروان من جلسته يصيح بغيظ: " هذا ليس أسلوب للنقاش يا أمي.. أرجوكِ امنحيها فرصة فقط حتى تخبرنا عن رأيها "
تأففت منال بغيظ بينما قال إياد بسماجة: " أجلس أخي وأرح أعصابك فكما يبدو جليا أن القطة لم تأكل لسانها بعد "
زمجر صخر من جديد فتدخلت فاطمة بعجالة: " تكلمي بنيتي.. ما رأيكِ؟ "
نظرت نبض إلى فاطمة بضياع وهي تتمتم: " أنا.. لا.. أعرف "
هنا صاحت منال بانتصار وهي ترمق كلا من يوسف وصخر بطرف عينها: " إذن ستسافرين معنا فهذا القرار الصائب والأفضل لأجلكِ "
على عكس ما ظنت منال بأن صخر قد يثور ويغضب بناءً على حديثها إلا أن الأخير استرخى أكثر في جلسته وهو يضع ساقاً على الأخرى بعنجهية بينما يعقد ساعديه أمام صدره قائلاً باستفزاز: " سبحان الله! ما أراه أنا أفضل لها عكس هذا تماماً "
نظرت له منال ببرود تتمتم على مضض: " وما هذا الذي تراه أفضل لها؟ "
ابتسم ببرود يجيبها: " الأفضل لها أن تبقى هنا في بيتها.. (ثم نظر بقوة إلى نبض التي لم ترفع عينيها عن الأرض وأكمل بصوت جامد) ومع زوجها "
تعالت شهقات الاستنكار والصدمة من الجميع، وهب إياد من مكانه وهتف بغضب منفلت: " ماذا تقول أيها الحقير؟ "
قطب صخر بجمود وهو يرد: " الحقير هو من يتنازل ويرد على أمثالك "
اندفع إياد كالثور يريد أن يضربه لكن مروان وقف أمامه يمنعه عن الاقتراب من صخر وهو يقول: " أهدأ إياد.. علينا أن نفهم ما يقول أولاً "
صرخ إياد بغل: " ما هذا الذي تريد فهمه؟ هل تصدق ما يقوله هذا الحقير؟ إنه كاذب يريد الاستيلاء على الممتلكات التي تركها عمي مختار مستغلاً حماقة تلك الغبية الساذجة في المقابل "
هب صخر من جلسته هو الآخر وقبل أن ينطق سبقته نبض تصرخ بإنفعال: " كفى إياد.. إلى هنا وكفى.. لن أسمح لك بأن تضيف كلمة أخرى تسيء بها لصخر "
صرخ إياد بحقد: " هل تقفين في صف ذلك الحقير؟ هل تحالفينه ضدي أنا.. ابن خالتكِ؟ "
صرخت دون وعي منها: " وهو زوجي "
تعالت الشهقات المستنكرة من جديد حينها وعت نبض لما تفوهت به فلم تشعر بالندم بل بالقهر من الإهانات التي كان إياد يوجهها دون وجه حق إلى صخر فشمخت بذقنها وهي ترد باعتداد: " أجل زوجي.. صخر عقد عليّ قبل وفاة أبي بساعة تقريباً وكان هذا بناءً على رغبة أبي وليس وحده بل كانت هذه أمنية أمي أيضاً "
ران على الجميع الصمت وهم ينظرون لها بدون تصديق حتى قالت هي بصلابة تحسد عليها: " صخر معه حق.. أنا لا أستطيع أن أسافر معكم خالتي فالأولى بي بيت زوجي لذا فأنا... سأبقى هنا.. مع صخر... زوجي "
***

"نبض.. فيما شردتِ بنيتي أحدثكِ منذ وقت "
أجفلت نبض وهي تعود من ذكريات الساعات الماضية لتقول: " آسفة عمتي.. كنت أفكر فيما حدث "
سألتها فاطمة وهي تربت على رأسها: " هل أنتِ نادمة على قراركِ؟ "
ردت نبض بثقة: " بالطبع لا عمتي.. مكاني الصحيح هنا معكِ "
ابتسمت فاطمة تقول بمناكفة: " معي أم مع صخر... زوجكِ؟ "
توردت نبض بخجل وهي ترد: " قلت هذا حتى لا أسمح لهم بالإساءة إليه أكثر.. يكفي ما قالوه عنه "
تنهدت فاطمة تقول: " إياد ابن خالتكِ هذا ذو لسان سليط.. سامحه الله "
قطبت نبض بكآبة تتمتم: " والله أوجعتني اهانته لصخر وكأنه كان يعنيني أنا بكلامه هذا لا هو "
ضمتها فاطمة إلى صدرها وهي تقول بحنان: " نِعم الزوجة أنتِ حبيبتي "
هتفت نبض بتذمر طفولي: " يا عمتي لم أدافع عنه لأنني زوجته "
ضحكت فاطمة وهي تقول: " إذن لماذا؟ "
رمشت بخجل وهي تطرق برأسها هامسة: " لأنه... لأنه فعل لأجلي الكثير وأنا أعده في مكانة يوسف تماما "
طرق صخر الباب فاتجهت فاطمة لتفتح له وهي تكتم ضحكاتها على ما قالته نبض
سألها بعبوس: " هل نامت نبض؟ "
ردت عليه بإبتسامة حنونة: " لا.. لم تنم بعد "
تنحنح بحرج وهو يقول: " حسنا.. هلا تركتنا قليلاً وحدنا عمتي؟ هناك ما أريد مناقشتها به "
اومأت برأسها دون تعقيب وخرجت من الغرفة فدخل هو وأغلق الباب خلفه قبل أن يستند عليه بظهره وقبضتيه خلفه ممسكتان بمقبض الباب
نهضت نبض من جلستها على الفراش ونظرت له بذهول وهي تقول: " ماذا تفعل هنا.. في غرفتي؟ "
تنهد بعمق وهو يترك المقبض ويتقدم نحوها بخطى بطيئة شعرت معها وكأنه يخطو فوق بساط قلبها
توقف مباشرة على بعد خطوة واحدة وبسط كفه أمامها وهو يقول ببساطة: " هاتي يدكِ اليسرى "
نظرت لكفه بتوتر وهي تقول: " ل... لماذا؟ "
زفر بنفاذ صبر يأمرها: " يدكِ نبض "
مدت يدها له ببطء وتردد فسحب كفها بسرعة وخلال لحظة كان بنصرها الأيسر يزينه خاتم رقيق من الألماس، خطف بجمال بريقه أنفاسها فرفعت بصرها له تتمتم: " إنه رائع لكن... ما المناسبة؟ "
ببساطة رد وهو يوليها ظهره متجهاً إلى الباب: " لا تخلعيه أبداً.. إنه خاتم الزواج "
رددت بذهول وهي تنظر إلى الخاتم: " خاتم الزواج! (استوقفته قبل أن يفتح الباب وهي تقول بتعجب) أليس من المفترض أن يكون هناك محابس للزواج وليس خاتم؟ "
التفت برأسه ينظر لها بعينين لامعتين بنظرة غامضة لم تفهمها وهو يقول: " رأيت أنكِ مختلفة وتستحقين شيء مختلف والخاتم أنسب لكِ يا نبض "
اومأت دون فهم وهي تنظر للخاتم من جديد بينما تقول: " كما تشاء "
قطب بغموض يقول: " هل سلمتِ للأمر الواقع بهذه البساطة؟ "
قطبت بحيرة تسأله: " أي أمر؟ "
رد ببساطة: " زواجنا "
عبست وهي ترد بصلابة: " بالطبع لا.. لازلت عند قراري أنا وأنت لابد أن... "
قاطعها ببرود يقول: " تصبحين على خير يا... (وشدد على كلمته التالية ليخبرها أن ما سبق دخوله إليها من حديثها مع العمة فاطمة قد وصله) أخت نبض "
اتسعت عينيها بحرج وهي تشعر باشتعال وجنتيها وهو يفتح الباب لتسمعه قبل أن يخرج يتمتم: " رغم أن ما بدأت أشعر به ناحيتكِ لا يمس للأخوة بصلة "
وضعت كفها على فمها بسرعة تكتم شهقتها وهي تشعر بدقات قلبها تتعالى بطريقة موجعة في حين خرج هو ببساطة وكأنه لم يقل شيء وفي قرارة نفسه لا يعلم السبب الذي دفعه لأن يقول ما قال
هوت على الفراش بحيرة وخجل تفكر، ترى ما الذي بدأ يشعر به ناحيتها؟
دخول فاطمة قطع شرودها وهي تقول: " هيا بنيتي اخلدي للنوم ففي الصباح أمامنا الكثير من الأمور "
اومأت بطاعة دون تعقيب وهي تشعر بالتيه من أفكارها الكثيرة المتداخلة
***

بمجرد أن وصل إلى الفيلا اتجه نحو الدرج ينوي الصعود لغرفته ولكن بعد تسلقه لبضعة درجات لمح ضوء مكتب والده مشعل فقطب بحيرة وهو يعود أدراجه نازلا ومتجها ناحية المكتب
طرق الباب بخفة ودخل بعد أن تلقى الإذن من والده ليرتفع حاجبيه بتعجب وهو يرى جلسة أمه بجوار النافذة المطلة على الحديقة والتي بمجرد أن رأته هبت من جلستها تصيح بتحفز: " ها قد حضر صخر بك أخيراً "
قطب قليلا وهو يغلق الباب خلفه قبل أن يخطو اتجاه أمه قائلا بهدوء: " لم أكن على علم بأنكِ تنتظرينني "
صاحت بإنفعال: " وكيف ستعلم يا بك؟ ها! أخبرني كيف ستعلم وأنت لا تكاد تبقى في بيتك دقيقتين كاملتين.. تمر أيام دون أن أراك حتى "
نظر إلى والده بتساؤل صامت وهو يحاول السيطرة على انفعال أمه الغريب: " اهدئي أمي لا أرى داع لكل هذا الانفعال والصراخ.. متى ما أردت رؤيتي ليس عليكِ سوا أن تطلبيني فآتيكِ في الحال "
رفعت حاجبيها بسخرية تقول: " بهذه البساطة.. أطلبك فتأتيني "
اومأ إيجابا وهو يرد بصبر: " نعم أمي.. بهذه البساطة "
عاد ينظر إلى والده مقطبا يسأله بصمت عما يحدث لكن الأخير هز رأسه بيأس وأشاح ببصره إلى النافذة المفتوحة دون أن يمنحه إجابة واضحة
ومن بين أفكاره المتداخلة وحيرته أجفلته أمه وهي تصرخ بغضب: " قل لي صخر متى كنت ستخبرني عن تلك الزيجة التي أتممتها دون علمي؟ "
كز على أسنانه غيظا وهو يرمق والده بنظرة قاتمة لكن الأخير كان يوليه ظهره فلم يره
رد بعد لحظة بصوت حاول أن يكون هادئا: " في اللحظة المناسبة أمي "
اتسعت عينيها بذهول وهي تردد: " في اللحظة المناسبة! كيف في اللحظة المناسبة؟ لا أفهم "
حرك كتفيه بخفة وهو يرد: " ما الذي لا تفهمينه أمي؟ قلت كنت سأخبركِ في اللحظة المناسبة وبما أن الخبر وصلكِ بالفعل إذن فالأمر أنتهى ولم يعد هناك ما يخفى عليكِ "
صرخت بهياج وهي تضربه في كتفه: " هل أنت مجنون؟ ها! كيف تتكلم عن أمر بهذه الأهمية بتلك البساطة المقيتة؟ بل كيف تخفي عني أمر كهذا؟ "
أحنى رأسه بخفة للأمام وهو ينظر إلى عينيها مباشرة بنظرة قاتمة مشتعلة عكست جنون مشاعره في تلك اللحظة: " ولماذا لا أفعل أمي؟ لماذا لا أخفي بعض الأمور وأحتفظ بها لنفسي؟ هل الأمر حكر عليكِ وحدكِ؟ أنتِ فحسب من يمكنها إخفاء أي شيء لأجل غير مسمى وإما أن تقررين كشفه بعد فترة أو... أو تحكمين عليه بالإعدام حتى ينتهي أجله نهائيا ويظل في محله.. في الظلام ولا أعلم عنه شيء؟ "
تراجعت خطوة للخلف شاحبة الوجه وكلماته تنزل عليها كالسهام لا تكاد تدفع عنها واحدا حتى يصيبها آخر
أقترب منها بشراسة وهو يضيف المزيد بنبرة تنبض بقسوة جارحة وهو يخفض صوته: " أ يجب عقابي لأني تزوجت دون أخذ الإذن من ال 'ماما' خاصتي؟ لأني أخفيت عنها أمرا كبيرا كهذا بينما أنتِ حينما تقررين بأن تخفي عني هويتي وأصلي الحقيقيين فأحيا لسنوات كمغفل لا يعلم عن نفسه أبسط الأمور يتوجب عليّ حينها أن أمنحكِ وسام شكر وتقدير؟ "
قبضت ليال على كفيها إلى جانبيها تدعي الصلابة والتماسك وهي تجابه ابنها: " لقد أتفقنا سابقا على ألا نعيد فتح سيرة الماضي أبدا بكل ما يحمله من خير.. وشر؟ "
قطب ببراءة زائفة يقول: " خير! أوَ هناك نفحة من الخير في ذاك الماضي من الأساس وأنا لا أعرفها؟ "
هزت رأسها بعصبية تقول: " لا.. ليس فيه سوا الألم والألم فقط.. الكثير من الألم "
عض على شفته السفلى بقهر قبل أن يقول: " نعم الكثير يا أمي.. الكثير الذي لا ينضب على ما أظن وكما يبدو أنه لا نهاية له "
رمشت قليلا وهي تختنق بالبكاء الذي تكتمه قائلة بجمود: " لماذا تتطرف لهذا الموضوع كلما حاولت تأنيبك على خطأ فعلته؟ هل تحاول اسكاتي؟ "
رفع حاجبا بإستهزاء وهو يرد: " حاشا لله ليال هانم وهل يستطيع أحد إسكاتكِ عن شيء أشهرتِ ضده سلاحكِ؟ "
إلتفت معتز أخيرا متخليا عن صمته وتباعده قائلا بحزم: " تكلم مع أمك بأسلوب أفضل وأرقى من هذا يا صخر "
كز على أسنانه للحظات قبل أن يقول بغضب مكبوت: " حاضر.. هل من أوامر أخرى.. أبي؟ "
قطب معتز غير راضيا عن طريقة حديثه دون تعقيب فأشاح صخر بوجهه جانبا يحاول تنظيم أفكاره وتهدئة أعصابه وفجأة صدمته أمه بالقول: " طلقها صخر "
صرخ دون شعور منه: " ماذا؟ "
فغر معتز فاها من الصدمة وعلى ما يبدو لم يكن يعرف هو الآخر بهذا القرار الذي اتخذته ليال
جمد صخر مكانه وأخذ يحدق فيها بصمت قطعه صوت معتز مقتربا من ليال وهو يقول: " ما هذا الذي تقولينه ليال؟ "
تكتفت ليال ببرود وهي ترد: " ما سمعته معتز.. يجب أن يطلقها "
وقف معتز مقابلا لها مقطب بضيق وهو يقول: " أقدر غضبكِ منه لإخفاء أمر زواجه عنكِ رغم أني حاولت مرارا أن أشرح لكِ الظروف التي أجبرته على إتمام الأمر سريعا دون الرجوع لأحد لكن ما لا أفهمه هو سبب هذا الطلب الغريب الذي تطلبينه؟ "
بصلف كانت ترفع ذقنها وهي ترد: " ومن قال بأنه طلب؟ إنه أمر "
هتف معتز حانقا: " ليال! هل تمزحين؟ أ تظنين الأمر بهذه البساطة؟ إنه زواج أي مصير فتاة أرتبط بإبنكِ.. هذا الأمر ليس لعبة للتسلية "
ردت ليال بنفس البرود والصلف: " لهذا قلت له أن يطلقها.. هكذا سنكون قطعنا كل الخيوط التي تجمعهما ولن يكن مصيرها مرتبطا به ولحسن الحظ لم تمض على تلك الزيجة سوا بضعة أيام قلائل ولا أظن حدث بينهما شيء "
صرخ معتز منفعلا من حديثها: " ليال هل جُننتِ؟ بما تهذين أنتِ؟ "
صاحت هي في المقابل: " أنا لا أهذي يا معتز.. أنا أعلم جيدا ما أقوله وأدرك توابعه وما لا أفهمه أنا هو السبب الذي يجعلك تناصر هذه الزيجة البائسة؟ "
هتف معتز بغضب وهو يضرب بقبضته على سطح المكتب إلى جواره: " وكيف لا أناصرها؟ من تزوجها ابنكِ تكون نبض.. هل تعلمين من هي نبض؟ (ضرب على المكتب من جديد وهو يصيح بصوت أعلى وأشد انفعالا) إبنة مختار صديق عمري وأخي الذي لم تنجبه أمي.. إبنة الرجل الذي لم يتركني لحظة وحيدًا دون أن يقدم لي دعمه الكامل.. إبنة الرجل الذي ساعدني لأكون ما أنا عليه الآن "
صمت لحظة يلتقط أنفاسه قبل أن يتابع بنفس الصوت: " لم تنفعني نفوذي وثروتي وسلطة عائلتي في شيء حينما كنت أستقبل الحالات الواحدة تلو الأخرى وأتلبك أمامهم وأتلعثم كطفل صغير لا يفقه لغة الكلام.. لم يفيدني تدليل الجميع في شيء حينما كنت أستحل الحرام وأرتكب الخطأ تلو الآخر دون أن أجد من يوقفني عند حدي، من يجبرني على التراجع وإعادة التفكير في كل ما كنت أقوم به في حياتي "
هز رأسه بعصبية وهو يكمل: " لكن مختار رحمه الله فعل.. له الفضل بعد الله ورحمته بي لأصبح معتز الجياد الذي يقف أمامكِ الآن.. له الفضل في كل الصلاح وتقوى النفس التي تجدينني عليها.. له الفضل في تلك الثقة التي باتت تخرج مع كلماتي دون إرادة مني.. كانت لكلماته مفعول السحر عليّ لأستقيم وأتحول من شخص فاقد الثقة بنفسه إلى شخص يمنح الجميع دروسا في أهمية الثقة.. أصبحت مثالا يحتذى به بسبب مختار رحمه الله.. (رفع سبابته في وجهها يقول بصرامة) لذا لا أريدكِ أن تتفوهي بحرف واحد... فقط حرف يا ليال في حق ابنته.. نبض غالية عليّ كنغم تمامًا ومن سيحاول أو يفكر في إزعاجها أنا من سيقف له "
رغم احتقان مقلتيها بدموع الإهانة والغضب إلا إنها هتفت ببرود: " كل ما قلته لا يغير من كلامي مثقال ذرة.. صخر سيطلقها يا معتز "
كاد معتز يرد فبادرت هي تكمل بشراسة: " هل تريدني أن أخسر إبني بعد كل هذه السنوات التي عانيت فيها لأجل إبنة صاحبك؟ هل سترتاح حينما يضيع مني وأفقده؟ "
قطب معتز صارخا: " بالطبع لا.. هل جُننتِ لتفكري بهذه الطريقة؟ صخر إبني أنا الآخر ومحال أن أتسبب في خسارتكِ له أو أفعل ما قد يضيعه منكِ "
تشبثت بمرفقيه برجاء باك وهي تقول: " إذن أجبره على أن يطلقها.. أجعله يقطع صلته بها "
أغمض معتز عينيه يأسا وحيرة بينما انهمرت عبراتها بحرقة وهي تقول بانهيار غير واعية لسيل الكلمات التي تهذي بها: " سأموت بالله إن تركني ورحل.. ليس هو أيضاً.. يكفيني واحد هجرني لن أتحمل خسارة أخرى.. لم أشفى بعد.. سأموت "
فتح معتز عينيه جاحظا وقد سحبت الدماء من وجهه فبات شاحبا كالموتى وهو يردد بقهر ذاهل: " أ لازلتِ تحبينه بعد كل هذه السنوات يا ليال؟ بعد كل ما جرى وكان.. بعد ما فعله بكِ؟ أ لازلتِ تبكينه وتتحسرين على فراقه وهجره لكِ؟ "
شهقت ليال مصعوقة مما تفوهت به فكممت فمها بكفيها وهي تهز رأسها بعنف بينما العبرات تنهمر بغزارة ومعتز يتابع حديثه بوجع: " لازالت ذكراه تحتل كيانكِ، تؤرق منامكِ حتى وأنتِ إلى جواري! لازال هو الحبيب أما أنا... أنا البديل أليس كذلك؟ "
شهقت من جديد وهي تهمهم بقهر: " يا إلهي ماذا فعلت أنا؟ ماذا فعلت؟ والله لم أقصد هذا أبداً "
إبتسم معتز بألم وهو ينظر لها بعشق لا يستطيع دحره: " أتركي ابنكِ يشق طريقه وحده دون تدخل منا يا ليال عساه يحظى بما تمنيته أنا لسنوات ولم يرزقني ربي به.. أتركيه عل جراحه تطيب "
في ظل جدال والديه المحتدم والذي انتهى بفتح بعض صفحات الماضي التي يحاول الجميع نسيانها أو تناسيها لكنها كالمارد تقتنص اللحظة المناسبة لتظهر وتحشر نفسها بين أدق التفاصيل فتعكر صفوها ..كان هو جالسا على أحد الكراسي المنفردة قبالة المكتب واضعا رأسه بين كفيه مغمضا العينين والصداع يضربه من كل جانب ويكاد يفتك برأسه دون رأفة
أما في الخارج؛ كانت نغم تقف مستندة بظهرها على الجدار المجاور لباب المكتب المغلق عينيها تسيل بعبرات حارة غزيرة مصاحبة للكحل الأسود الذي كان يحدد عينيها السوداوتين كعادة لا تنفك عنها
كان وجهها مريعا بعدما لوثه الكحل المختلط بالدموع لكنها لم تبالي به أو بخفض صوت نشيجها، لا تبالي إن رآها أحد وهي تتنصت من خلف الباب، لا تبالي إن رآها أحد بهذا المظهر البشع، لا تبالي بأي شيء وهي في هذه اللحظة لم تكن تشعر بأي شيء سوا بألم شديد يكاد يفتك بها
لا تدري علام تبكي بالضبط؟
تبكي حظها التعيس الذي أوقعها في عائلة فاحشة الثراء فاحشة الكآبة والبؤس على حد سواء؟
أم تبكي تلك المصائب التي تتوالى عليهم فجأة ومن كل جانب؟
أم تبكي قهر والدها على محبوبة لا تُكِن له ما يُكنه لها رغم مرور سنوات طويلة بينهما لم تنسيها محبوبها الأول؟
أم تبكي مرارة الغدر التي لا تزال تقبض على روح أمها فتبقيها أسيرة الماضي رغما عنها؟
أم ربما تبكي حظ ذاك المسكين المُفتت من الداخل كما الخارج وقد ظلمه من سماه صخر؟
كتمت شهقة أخرى كادت أن تفلت منها وهي تشعر بأحدهم يقترب من الباب دون أن تجد القدرة أو الطاقة على الحركة من مكانها أو الإبتعاد
لحظة وفتح صخر الباب، أجفله وجودها وهيئتها الباكية المريعة لوهلة لكنه سرعان ما أستعاد جموده وهو يبتسم لها بسخرية قاتمة متمتما: " حمداً لله أنه لم يفُتكِ أي مشهد من الحلقة اليوم فقد كانت مثيرة وشيقة للغاية.. كوني دومًا بالقرب وترقبي المزيد (ثم غمز لها بطرف عينه مناكفا بمزاج سوداوي وهو يكمل) تصبحين على خير يا بشعة "
***

اليوم التالي (قرابة الظهيرة(
في المدينة الجبلية
كانت تدور في أرجاء البيت وهي تتأمله بإبتسامة رقيقة فأتت فاطمة من خلفها تقول: " ها! ما رأيكِ؟ "
استدارت نبض وهي ترد برقة: " إنه جميل ودافئ.. أشعر به وكأنه بيتي تماماً "
ربتت فاطمة على وجنتها بحنان تقول: " إنه كذلك بالفعل حبيبتي "
اتسعت ابتسامة نبض بينما اردفت فاطمة بحزم أموي: " هيا اذهبي إلى غرفتكِ.. رتبي اغراضكِ وملابسكِ في خزانتكِ حتى أنتهي من إعداد الغداء "
كتمت نبض ضحكتها وهي ترفع يدها تؤدي التحية العسكرية بينما تقول: " أمركِ سيدتي.. علم وينفذ في الحال "
***

بعد ساعة
خرجت من الحمام بعدما رتبت بقية اغراضها وهي تحدث نفسها: " سأبدل ملابسي سريعا وألحق بعمتي حتى أساعدها في... في... "
تسمرت قدميها في مكانها ولم تجد القدرة حتى على التفوه بحرف وهي تفلت الطوق المطاط الذي كانت على وشك ربط شعرها به ليسقط من يدها على الأرض
اتسعت عينيها بصدمة من وجوده في غرفتها ومن حيث لا تدري كانت دموعها تنهمر كالشلالات على وجنتيها
وهو لم ينطق بحرف في المقابل، كان يفترض به أن يشيح بوجهه عنها لكنه لم يستطع فعلها فظلت عينيه مثبتتين على خاصتها بدون إرادة منه
بعد لحظة تمتمت بغضب مكبوت وصوتها يختنق بغصة البكاء: " من سمح لك بدخول غرفتي دون إذني؟ "
رد هو ببرود مصطنع: " لست في حاجة لأخذ الإذن أنا... "
لم تدعه يكمل جملته وصرخت بشراسة: " أخرج حالاً.. لا أريد رؤيتك "
أتت فاطمة على صوت صرختها فطرقت الباب مرة واحدة قبل أن تفتحه لتشهق بصدمة من وجود صخر مع نبض في غرفة الأخيرة فلم تجد ما تقوله
كانت نبض تشهق وهي تنظر له بقهر بينما عادت تصرخ من جديد: " ألم تسمعني؟ قلت أخرج من غرفتي "
افاقت فاطمة من تسمرها واقتربت من صخر تدفعه للخارج وهي تتمتم بضيق: " ماذا فعلت يا أحمق؟ اخفتها منك أيها الفظ.. أخرج سامحك الله "
هوت نبض على الفراش تبكي بقهر وغضب منه وهي تقول: " ماذا أفعل يا ربي؟ ماذا أفعل؟ "
نهضت بعد لحظات وهي تمسح دموعها بعنف بينما تتمتم بصلابة: " تحلي بالقوة يا نبض فأنتِ بحاجة إليها الآن أكثر من أي وقت مضى.. لا شيء يستحق كل هذا البكاء فهو زوجكِ وعلى أي حال هو لم يرى سوا شعركِ فقط.. (عادت دموعها تنهمر من جديد فتابعت بصوت مختنق) رغم أنه ليس من حقه التهجم على خصوصياتكِ بهذه الطريقة إلا إنه يظل زوجكِ.. اهدئي "
***

خرجت من غرفتها بعد قليل وقد ارتدت حجابها متوجهة إلى المطبخ حيث سمعت صوت فاطمة يأتي من هناك
كان هو يقف على الباب بوضع مائل وإحدى قدميه مرفوعة ومستندة على الحائط من خلفه بينما ساعديه معقودين أمام صدره
ما إن وصلت إلى الباب الذي كان هو يسده بضخامة جسده حتى توقفت خطواتها دون أن تتكلم وظنته سيفسح لها مكانا لتمر دون أن تطلب منه لكنه لم يفعل بل رمقها بنظرة شملتها من رأسها حتى اخمص قدميها قبل أن يشيح بوجهه عنها ويعود للحديث مع فاطمة دون أن يبالي بها
ظلت هي على وقوفها الصامت أمامه تتململ لكن دون أن تتفوه بحرف في حين انهمك هو في الكلام بجدية ويبدو أنه نساها من الأساس في خضم حديثه وحينما فتحت فمها لتطلب منه أن يبتعد لتدخل سمعت فاطمة تقول: " لا أحبذ وجودك هنا وخاصة في هذه الساعة.. تعلم أنه في أي لحظة قد يأتيني أحد "
ابتسم بتهكم وهو يقول: " بالطبع أعرف أن بيتكِ يعد ملجأ ومزار عام للجميع "
تنهدت فاطمة تقول: " ورغم ذلك لازلت هنا وقد أتفقنا ألا تأتي أبدا حتى لا يعلم أحد بزواجك من نبض إلى أن تقرر هي ذلك "
رد ببساطة مغيظة: " أنا جائع.. هل تريدينني أن أرحل قبل أن أتناول غدائي؟ "
إلتفتت له فاطمة وسألته بجدية ودون مواراة: " ما الذي جاء بكَ إلى هنا يا صخر؟ لقد كنت واضحة من البداية حينما رفضت بشكل قاطع أن تصاحبني ونبض لأفاجئ بعد وصولنا أنكَ هنا.. جئت دون أن تعطي لكلامي أي أهمية "
قطب صخر وهو يرد بغموض: " جئت لأطمئن على أمانتي.. ما كنت لأدعها تبتعد عني قبل أن أؤمن مكانها أولاً "
زفرت فاطمة تقول: " كم مرة عليّ أن أخبرك أن تطمئن لأنها ستكون في أمان معي.. ولا تخف إن حدث أمر يستدعي التدخل من أحد فسوف أخبر زيد أو أياً من أبناء الجبالية ليساعدنا "
صرخ صخر بوحشية: " وما فائدة وجودي في الحياة حينها إن كنتِ ستطلبين من آخر حماية زوجتي؟ "
إلتفتت عنه وأولته ظهرها وهي تتشاغل بإعداد الطعام بينما تتمتم ببرود مصطنع: " أصبحت كثير التغني بتلك الكلمة ألا ترى ذلك؟ "
اجفلتها ضربته العنيفة بقبضته على الباب وهو يهدر بغضب: " ولما لا أتغنى بها أليست صدقاً؟ "
ردت ببرود مستفز: " الفتاة لا تريدك.. وكما تعرف هي طلبت منكَ الطلاق قبل رحيلها من العاصمة إن كنت نسيت هذا "
نسى حقاً وقوفها إلى جواره بفعل استفزاز فاطمة له فهتف بوحشية: " أنا لا أبالي بها أو بما تطلبه من الأساس.. إنها لي من قبل أن تولد حتى.. فلتضرب رأسها بأول حائط يقابلها إن لم تفهم ما قلته لأنني في كل الحالات لن أطلقها أو أحررها مني ما دام في صدري نفسا يتردد.. ستبقى لي شاءت أم أبت "
كانت نبض ترتعد خوفاً من نبرته القاسية وحينما قررت الابتعاد من أمامه فاجئها بأن التفت لها وقبض على مرفقها وهو يقربها منه قائلاً بنبرة قاتمة وصوت مخيف: " لا تعيديها ثانية يا نبض.. قد أسامح في أي شيء من أي شخص لكنني أبداً.. أبداً لن أسامحكِ إن كان الخطأ منكِ أنتِ.. احذريني فأنا لا أريد ايذائكِ.. أنتِ دون البشر كافة لا أريد ايذائكِ فلا تجبرينني على ذلك.. هل فهمتِ؟ "
اومأت بسرعة وطاعة حتى تفلت من مواجهته وجسدها يختض بخوف وهي ترى بريق غامض مخيف في عينيه ولم ينجدها منه سوا صوت فاطمة الهادئ وهي تقول: " الغداء جاهز "
قطب صخر بجمود وهو يرد: " لقد شبعت (ثم خفض بصره إلى نبض وركز مقلتيه للحظات على خاصتيها التي تسبلهما بخجل ثم سحب كفها ورفعه إلى شفتيه مقبلاً باطنه برقة وهو يهمس بصوت أجش) اعتني بنفسكِ وكوني بخير.. لأجلي يا صغيرة "
ترك يدها بسرعة ودون إضافة المزيد كان يتحرك بخطى واسعة للخارج فاستدارت نبض تطالعه بذهول مما حدث لتفيق من صدمتها مع اختفائه من أمامها لتهتف بقلق: " يا مجنون انتظر "
ركضت خلفه حتى لحقت به فاستوقفته بسرعة تقول: " انتظر.. لا ترحل الآن "
توقف بالفعل واستدار لها يقول بحيرة: " هل تريدني أن أبقى معكِ؟ "
توردت نبض وشعرت بالحرج من سؤاله فردت بتلعثم: " لا.. أقصد نعم.. لا... لا أقصد ذلك "
تنهد صخر بعمق وهو يقول: " نعم أم لا؟ "
فركت نبض كفيها إليه بتوتر وهي ترد: " لا أريدك أن تذهب الآن ماذا إن رآك أحد؟ "
ابتسم صخر وهو يقول بمرارة تمكنت منه: " لا تخافي من تلك الناحية فعلى أي حال لا أحد يعرفني "
ردت بعبوس: " ورغم ذلك الحرص واجب.. لما لا تنتظر حتى المساء؟ "
تنهد صخر وهو يرد: " لأنني مشغول يا نبض.. هناك الكثير من الأعمال معطلة منذ بضعة أيام وعليّ انهائها اليوم "
عقدت ساعديها أمام صدرها لتقول بإقتضاب: " وهل هذه الأعمال متعلقة بعملك الأساسي دكتور صخر أم بعملك الغير أساسي والمتطرف؟ "
حاول صخر أن يتهرب من الإجابة بأن قال مناكفا إياها: " تبدين زوجة من الطراز التقليدي للأسف.. لم أظنكِ هكذا أبداً "
رفعت حاجباً ببرود تقول: " أنا لست زوجة أحد ولا انتمي لأي طراز.. أما عن سؤالي والذي تهربت من الرد عليه فلا داعي لأن تشغل عقلك به لأن الرد قد وصلني سيد صخر "
أولته ظهرها تهم بالعودة للبيت فأسرع خلفها حتى أمسك مرفقها يقول: " نبض أنا... "
قاطعته وهي تقول بضيق: " قلت لك سابقاً لا أحب أن يلمسني أحد.. أفلت يدي صخر "
لم يتمادى صخر في عنادها بل أفلت يدها بهدوء وهو يعود خطوة للخلف قائلاً بصوت بارد: " أدخلي نبض وكفي عن ملاحقتي "
عقدت ساعديها أمام صدرها وهي ترد بترفع وكبرياء: " ملاحقتك! يبدو أن هناك من الأمور ما اختلط عليك سيد صخر وليكن في علمك فقط أنا لا الأحق أحد "
أولته ظهرها تهم بالدخول فاستوقفها صوته وهو يسأل بإلحاح: " نبض.. لماذا تتهربين من النظر إلى عينيّ؟ "
تسمرت مكانها لوهلة وظنها لن تجيبه ليصله صوتها بعد لحظة أخرى مكتوما لا يعرف بغصة البكاء أم الغضب وهي تقول: " فعلت مرة ولم ينالني منهما سوا الخذلان إن كنت تذكر وأنا لستُ غبية لأعيد الكرة وجرحي لم يندمل بعد وفي داخلي نزيف يحتاج لدهر ربما حتى يتوقف "
ودون أن تمنحه فرصة ليستفسر منها عن قصدها كانت تهرول بعيداً عنه وبضعة دمعات تنفرط عقدتها كحبات اللآلئ على وجنتيها
أما هو فلم يكن في حاجة ليسألها عما تعنيه فقد وهبه الله عقل مهما مرت عليه من سنين وتعاقبت عليه الأحداث فإنه لا يفقد ولو لمحة بسيطة مما مر عليه يوماً وتذكر ما قصدته بجملتها الكئيبة وليته ما فعل
صباح العيد
كانت تدور حول نفسها كفراشة للتو اكتشفت أنها تملك أجمل جناحين يمكنانها من الطيران والتحليق بعيداً في الأفق الواسع الفسيح
كانت طيات فستانها المنفوش الذي حرصت أمها على اختياره كفساتين الأميرات تدور بتموج حول ساقيها فتتعالى على إثرها ضحكاتها السعيدة
شعرها الطويل الكث يتطاير معها ومن حولها فيشكل غمامة تحجب عنه ملامحها التي لم يعد يفعل شيء في الفترة الأخيرة سوا تأملها وتفحصها وكأنها أعظم إكتشاف على وجه الأرض
يحب رؤيتها سعيدة حتى يرى بريق عينيها الخاطف الذي يلمع كما النجوم في وسط السماء
كان شاردا في أفكاره وتأملاته التي تدور في فلكها حتى لاحظ فجأة أنها توقفت عن الدوران حول نفسها وباتت تقف أمامه وهي تشبك أصابع كفيها خلف ظهرها بينما تستطيل على أطراف قدميها وتنظر بطريقتها الخاصة التي لم يعتد عليها بعد
حينما تتحدث مع أحد فإنها تنظر إلى عمق عينيه وكأنها تريد اختراق دواخله لتتمكن من معرفة الصدق والكذب في حديثه
ولازال هو كلما نظرت له بتلك الطريقة يتلعثم في البداية ككل مرة حتى يتمكن في لحظة معينة من استجماع أعصابه والتحدث معها بطريقة سلسة هادئة
سألته بترقب: " ما رأيك في فستاني الجديد؟ "
اتسعت عينيه قليلاً وهو يرد بتوتر: " رأيي أنا؟ آه إنه جميل.. يبدو جميلا "
برمت شفتيها ببؤس وهي تقول: " يمكنك أن تخبرني أنه بشع لن أحزن لكن.. لا تكذب فهذا يحزنني أكثر "
فغر فاهه بذهول وهو يرى ترقرق العبرات في عينيها قبل أن توليه ظهرها وتخطو ناحية غرفتها دون إضافة المزيد وقد تهدل كتفيها ببؤس وكآبة
كاد يلحق بها حتى يراضيها ويخبرها أنها أجمل أميرة رآها في حياته لكن عمه مختار استوقفه يقول: " لقد ظهرت نتيجة الثانوية العامة "
بثقة بالغة رد: " ومتى ستذهب مع أبي لتسجلا أوراقي في كلية الطب عماه؟ "
قهقه مختار وهو يربت على كتفه قائلاً: " أحب ثقتك هذه يا ولد صدقا تمنحني الأمل "
ابتسم بصمت دون أن يعقب بشيء فقطب مختار يقول: " ولكني ظننت نبض أخبرتك "
سأل بدهشة: " نبض! هل تعلم نبض عن نتيجتي؟ "
اومأ مختار يقول ضاحكاً: " وماذا برأيك يكون سر سعادتها غير ذلك؟ "
فتح فمه ببلاهة وهو يقول: " ظننتها سعيدة بالفستان الجديد "
قطب مختار وهو يقول بصدق: " بل هي تكاد تطير من السعادة لأنك حققت حلمك حتى أنها أحضرت لكَ هدية وأخبرتني أنها ستعطيك إياها بعد قليل "
شعر بشعاع يضوي بداخله والحماسة تدب في اوصاله فجأة فاستأذن من مختار وهرول إلى غرفتها سعيداً
وجد الباب مفتوحا فدخل بهدوء وفي لحظة كانت سعادته تذهب أدراج الرياح حينما دخل ووجد وجهها المبلل بالدموع ولم يكن هذا سبب تبدل حاله بالكامل بل رؤيته ﻹياد.. ذلك السمج ابن خالتها كان يجلس إلى جوارها على الفراش ويحاول اضحاكها
تسمر في مكانه عند الباب دون أن يدخل أو يخرج ولم يلاحظه أياً منهما، وظل واقفاً ينظر إليها وهي تزم شفتيها ودموعها كشلالات تنهمر دون توقف وذلك ال 'إياد' يلقي عليها بنكاته وطرفه السمجة دون أن تلتفت له أو تضحك على ما يقول
بعد لحظات قليلة كان يصيح إياد بنزق: " أوف.. كفاكِ بكاءً نبض.. لا تكوني كئيبة هكذا.. كل هذا لأجل ذلك البغيض صخر لأن فستانكِ لم يعجبه؟ "
ردت عليه بصوت مختنق: " من قال هذا؟ لقد أعجبه فستاني وأخبرني أنه جميل "
ابتسم إياد بسخرية وهو يقول: " آه فعلاً.. لاحظت ذلك بنفسي "
أشاحت بوجهها عنه وهي تقول بنفس النبرة: " لا تتحدث هكذا عنه وإلا سأغضب منكَ إياد "
رد إياد بلامبالاة: " إنه لا يستحق أن تدافعين عنه "
نظرت له نبض بعبوس رغم براءة نبرتها: " بلى يستحق.. أنا أحبه "
ابتسم ببرود يقول: " لكنه لا يحبكِ يا مسكينة هو فقط يشفق عليكِ "
صرخت نبض بغيظ: " بالطبع لا يشفق عليّ! ولماذا سيفعل؟ إنه... "
لم تكمل حديثها حتى شهقت بتوجع حينما ضربها على جانب رأسها بخشونة وهو يصرخ في وجهها بحنق: " أيتها الغبية الحمقاء من أين لكِ بكل هذه البلاهة؟ ها! ألا ترين إهتمام الجميع به ومبالغتهم في رعايته حتى والديكِ يهملانكِ أنتِ وذلك اللقيط يوسف لأجله؟ لأنه مميز خبيث يعلم كيف يجمع الكل من حوله ويحركهم كالدمى كما يشاء "
كانت تنتفض وجسدها يختض في بكاء مكتوم وعينيها تلمعان بالخوف والرفض لما يقول وفي لحظة ما كانت تلتفت برأسها وتسلط أنظارها على الباب حيث يقف، نظرت له باستجداء وتوسل حتى يتكلم وينفي ما قاله إياد لكنه بدلاً من ذلك أشاح بوجهه عنها وخرج من الغرفة
خذلها ولم يدافع عن نفسه كما تمنت!
خذلها ولم يمنع عنها كلمات إياد الجارحة!
خذلها وما أبشع ألم الخذلان ممن تحب!..

***

صباح اليوم التالي
على مائدة الطعام المستطيلة التي تحمل مما لذ وطاب كانت العائلة تلتف حولها كل واحدا منهم متخذ مجلسه الذي لا يتغير
الجد على رأس المائدة ومن جواره على اليمين ابنه خالد يليه أولاده 'قاسم، ياسين، فرح' على الترتيب وإلى جوارها تجلس حياة تليها ملك
أما على الناحية الأخرى يساره يجلس سليم والى جواره ابنه زيد ثم يتبعه كرسي شاغر يحتله الفراغ ومن بعده يجلس عاصم ثم زوجته حفصة ويليها حمزة ثم زوجته زهراء
كان كل واحد منهم يتناول فطوره بصمت اعتاده الجميع أثناء تناول الطعام ليقطع عبد الرحمن ذلك الصمت على غير العادة ناظرا لحمزة وهو يقول بهدوء: " لازلت لا أفهم سبب عودتكما بتلك السرعة.. هل بينكما خلاف؟ "
نظر حمزة بطرف عينه إلى زوجته قبل أن يرد على جده بجمود: " لا تشغل بالك بنا يا جدي فخلافاتنا لا تنتهي "
قطب الجد يقول: " أفصح يا حمزة.. ماذا حدث؟ "
اشتدت قبضته تصلبا وهو يرد: " صدقني جدي الأمر تافه وسنحله سويا "
نظرت حياة لحفصة بتساؤل صامت ردت عليه الأخيرة بهزة بسيطة من رأسها علامة أنها لا تعرف
فجأة تكلمت ملك بكآبتها التي لم تزول منذ ما يقارب الأسبوع: " ومن منا خالي من الهموم والمشكلات؟ دعهما يا جدي يحلان مشاكلهما وحدهما فحينما نتدخل عادة نخرب الأمور ونزيدها سوءًا "
كاد عبد الرحمن أن يتكلم حينما سبقه دخول أحد حراس الدار يُهرول بتوتر ناحيته قبل أن يميل على أذنه يخبره بشيء تغيرت له ملامحه إلى الصدمة والحزن
بعدما خرج الحارس نهضت ملك من مكانها وهي تشعر بأن هناك أخبار سيئة في طريقها إليهم لكنها لم تكن في حالة تسمح لها بسماع أي شيء
سأل خالد والده في نفس اللحظة: " ما بكَ يا أبي؟ ماذا حدث؟ "
رد عبد الرحمن بحزن شديد: " الدكتور مختار توفى وزوجته في حادث سيارة صباح اليوم التالي لعرس حمزة وزهراء "
تسمرت ملك مكانها على بعد خطوات منهم بينما تعالت شهقات وهمهمات من حولها بالحوقلة والاسترجاع
شحوب تام اعتلى ملامح الجميع وتركهم موتى على قيد الحياة
إلتفتت ببطء تنظر إلى جدها تحاول بصعوبة أن تتماسك حتى تخرج منها الكلمات بشكل واضح ومفهوم: " عمن تتحدث بالضبط يا جدي؟ "
رد الجد بتنهيد حزين: " عن الدكتور مختار زين الدين أخا الشيخ عبد الله رحمه الله "
قال سليم بألم: " إنا لله وإنا إليه راجعون.. رحمة الله عليه "
بينما أطرق خالد برأسه يغمغم بوجوم: " انقطع آخر خيط يمده بالحياة والقوة.. من له الآن سواك يا الله؟ "
تعالت شهقات الفتيات بالبكاء وفجأة صرخت ملك بشراسة وهي تضرب بكفيها على المنضدة: " أسكتوا.. لا أحد يبكي فهذه كذبة.. عمي مختار لازال حي.. أخبرني أن أنتظره لأنه سيعود لأجلي "
نهضت حياة من مكانها تقترب منها قائلة من بين شهقاتها الحارقة: " لن يعود يا ملك.. لقد رحل "
رمشت ملك بذهول وتيه وهي تحدق في عيني أختها كمجنونة فقدت عقلها قبل أن تقول بحشرجة: " رحل.. تقصدين أنه تركني هو الآخر؟ "
اومأت حياة وهي تضمها بقوة مربتة على ظهرها تواسيها وتواسي نفسها: " لكل أجل كتاب يا ملك "
صرخت ملك بحرقة وهي تنهار باكية بين ذراعي أختها: " فقد آخر يا حياة.. شخص آخر خطفه الموت مني.. تيتمت ثانية يا حياة.. فقدت الأمل الأخير "
سقطت ملك على ركبتيها أرضا فنزلت معها حياة ولازالت تشدد على ضمها إليها بينما الأولى تهذى بمرارة: " كنت أشعر بأن تلك الغيوم التي تغطي السماء لن تنقشع إلا وإن أخذت معها عزيز لدي.. كنت أعلم أن وجع الفقد آتٍ لا محالة "
ضم قاسم زوجته يحاول أن يهدئها وفعل حمزة المثل مع زهراء بينما فرح ارتمت بين ذراعي أخوها ياسين الذي لم تفارق نظراته هيئة ملك المنهارة
هب قاسم من جلسته فجأة وتقدم من الأختين يجلس القرفصاء أمامهما وبهدوء مد يده يرفع وجه ملك إليه وهو يقول بحنان: " كيف تقولين أنكِ تيتمت يا ملاك؟ وما الفائدة من وجودنا حولك إذن؟ "
ردت ملك بلوعة: " لا أشعر بينكم بما أتمناه.. ومن وجدت ضالتي لديه رحل وتركني خلفه.. عدت فارغة اليدين.. عدت لنقطة الصفر من جديد يا قاسم "
قطب بألم نضحت به نظراته وهو ينظر إلى حياة التي تكتم شهقاتها ببسالة فهمس لها بوجع لحالها: " لا أراني الله فيكِ مكروه يا حياة الروح "
نهض زيد من مكانه بجمود وهو ينظر إلى والده مقطبا يسأله بصمت عما سيفعلونه لاحقا بعدما رحل مختار وأصبحت الأمانة بلا حامي فأشاح سليم بوجهه عنه دون رد وهو يشعر بالضياع
***

في المساء
كانت شمس تجلس حزينة في حديقة الفيلا وقد أنهت للتو الحديث مع فرح والتي أخبرتها عن الأحداث المأساوية التي حدثت
في تلك اللحظة دخل أنس وهو يدندن بلحن ما بينما يتلاعب بمفاتيحه بين أصابعه وحينما رآها من بعيد تجلس وحدها تحرك ناحيتها بإبتسامة واسعة بدأت تتقلص وهو يرى بضعة دمعات تنهمر على وجنتها
" ما بك حبيبتي؟ هل ازعجتكِ أمي مرة أخرى؟ "
اومأت سلبا وهي ترد بحشرجة بكاء مكتوم: " ليست عمتي مروة السبب يا أنس "
قطب بقلق وهو يجلس إلى جوارها، يسألها: " هل حدث شيء عند عائلة أمكِ؟ "
اومأت سلبا من جديد وهي تقول: " لا.. كلهم بخير "
تنهد بحيرة وهو يقول: " إذن لما البكاء يا شمس؟ "
شهقت قبل أن ترد: " الدكتور مختار توفى قبل أيام "
قطب بذهول يتمتم: " قبل أيام! كيف؟ لقد عرفني عليه قاسم ابن خالكِ ليلة عرس حمزة والتي لم يمض عليها أسبوع "
بكت شمس وهي ترد بحزن: " فرح أخبرتني أنه مات في حادث سيارة هو وزوجته صباح اليوم التالي للعرس "
تأوه أنس بحزن وهو يغمغم: " يا الله! لا حول ولا قوة إلا بالله.. إنا لله وإنا إليه راجعون "
ربت على شعرها بحنان وهو يقول: " رحمه الله.. حزنت جدا للخبر "
قالت من بين شهقات بكائها: " لديه ابنة تصغرني ببضعة سنوات.. المسكينة أصبحت وحيدة تماما يا أنس.. ليس لها بعد والديها أحد "
تنهد أنس بكآبة وهو يرد: " لها الله يا شمس "
رفعت رأسها تنظر له بكآبة مماثلة وهي تقول: " فرح أخبرتني أن ملك منهارة للغاية.. لقد كانت متعلقة به كثيرا وتعتبره بمثابة والدها "
رد أنس ببسمة صغيرة حزينة: " من حقها أن تتعلق به إذ كنتِ أنتِ تبكينه ولم ترينه من قبل سوا مرة وأنا أشعر بالحزن عليه وكأنني كنت أعرفه منذ زمن بعيد رغم أني لم أتكلم معه سوا لخمس دقائق فحسب "
نظرت له بأسى تقول: " ترى كيف حال نبض؟ "
قطب بعدم فهم يقول: " نبض! من نبض هذه؟ "
تنهدت شمس وهي تجيبه: " ابنته يا أنس "
هز رأسه بخفة وهو يرد: " لا أعلم ولكنني أتمنى أن تكون بخير.. فمصابها أليم "
***

وقفت نبض في شرفة الغرفة التي أصبحت ملكا لها منذ انتقلت مع العمة فاطمة إلى بيتها
كانت تمسك بحافة السور وهي ترفع رأسها تتطلع إلى قرص القمر المكتمل بانبهار
يتوسط السماء ببهاء فينير كل ظلام حوله ويبدد غيم كل ما يحيط به، يبعث السكينة والاطمئنان في كل نفس مكبلة بالمآسي والهموم
ابتسمت له برقة عذبة وهي تتحدث إليه: " لا تحزن لرحيل رفيقة دربك.. لن تكن وحيد من بعدها.. لن أدعك تضيع مثلما ضعت أنا وتيتمت من بعدها.. سأكون أنا لك منذ اليوم الرفيقة ما رأيك؟ "
مالت برأسها قليلا جانبا وهي تبتسم باتساع مستمرة في حديثها بحماس: " منذ اليوم سأشركك معي في كل لحظة أمر بها وكل فكرة تخطر لي.. سأحكي لك كل شيء كما كانت الملكة مريم تفعل.. سنفرح معا، ونضحك معا، ونتناقش سويا في كل شيء لكن اعذرني يا صديقي فهناك ما لن أستطيع أن أشاركك فيه معي "
انحسرت بسمتها قليلا وهي تقطب بكآبة وتطرق رأسها للأرض قائلة: " سأتحمل وحدي الألم وأحمله بداخلي في أبعد زاوية من زوايا روحي حتى أخفيه عن الجميع.. حتى لا يشاركني أحد فيه كما أعتدت أن أفعل "
رفعت رأسها بعد لحظات تطالعه ببسمة حزينة وهي تقول بشوق وقد فرت منها دمعة يتيمة كحالها: " إن قابلت طيفها أبلغها سلامي وأخبرها أنها رحلت عن أرضي لكنها ساطعة في سمائي، أخبرها أن تسلم لي على أبي وتقبله عني.. وأخبرها أني أنتظرها بشوق لتزور منامي "
***

غمرها عطره وهو يجلس إلى جوارها على تلك الأرجوحة التي ظلت محتفظة بمكانتها في الحديقة رغم اختلاف حال أشياء كثيرة بمرور الزمن تاركا مسافة بقدر بضعة سنتيمترات قليلة بينهما
كانت تحيط نفسها بذراعيها تستمد من ذاتها قوة تجعلها تبقى صامدة في وجه العواصف العاتية التي تضربها من كل صوب وناحية
أما هو فقد وضع كفيه في جيبي سترته رافعا رأسه يطالع القمر بصمت وصبر طويل
مرت قرابة النصف ساعة وهما على هذا الحال حتى إلتفتت برأسها إليه تنظر له بسكينة وهي تقول: " أنا أتألم "
تحركت عضلة في فكة بتصلب لوهلة قبل أن يرد بلامبالاة مقصودة: " الكل يملك نصيبه من الألم لستِ وحدكِ من تتألمين "
رمشت قليلا قبل أن ترد عليه بصوت متحشرج: " لكن الألم بداخلي كبير.. يحتلني حتى الصميم "
جمدت ملامحه وكأنه تحول لتمثال من الشمع بينما يرد ببرود قاس: " لا تبالغي حياة فتلك الصورة الضعيفة التي ترسمينها لنفسكِ لا تليق بكِ "
زمت شفتيها بقوة تمنع نفسها من الصراخ فيه حتى تكلمت بعد لحظات بحرقة: " وهل لو أخبرتك بأن قلبي يحترق ستصدقني حينها؟ "
قطب بشدة وهو يكز على أسنانه بصورة واضحة فتابعت حياة بغصة بكاء في صوتها: " نعم يحترق.. أشعر بالدم في عروقي يغلي حسرة ومرارة وليس غضبا هذه المرة.. أشعر بأن تلك الضربة التي تلقيتها صباحا حطمت ما تبقى لي من قوة وأهدرت كل تماسكي الذي ظللت لسنوات أبنيه "
نظر لعمق عينيها البندقيتين وهو يقول بحدة من بين أسنانه: " لأنكِ غبية.. ظللتِ لسنوات تحبسين نفسكِ في قمقم، تقيدين يديكِ إلى جانبيكِ وتغطين عينيكِ، تمنعين نفسكِ عن... عن... اللعنة يا حياة.. إن بقيت معكِ للحظة أخرى فإما سأقتلكِ أو سأقتل نفسي "
هب من جلسته بغضب فهرعت خلفه تتشبث بذراعه كطفلة صغيرة وهي تقول باكية: " نعم أعترف أنني غبية، حمقاء وأي شيء آخر تراه لكن... لكن يا قاسم والله لم أتعمد هذا وإنما فعلته مرغمة "
نظر لها بغضب دون تعقيب فتابعت وهي تهز رأسها بعصبية تشهق بالبكاء بينما تقول: " نعم مرغمة.. سجنت نفسي في قمقم حتى لا أصل إلى قلعتك وقيدت يدي إلى جانبي حتى لا أمسك يدك وغطيت عيني عن رؤيتك حتى لا أضعف.. أنت لا تفهم يا قاسم أنني لأجل أن أفعل هذا أخسر الكثير.. لأجل أن أظهر أمامك بهذا التماسك واللامبالاة أبذل جهد مضاعف يستنزف من طاقتي الكثير "
صرخ قاسم فيها بشراسة: " ومن طلب منكِ فعل كل هذا؟ من طلب منكِ الظهور بشخصية ليست لكِ؟ "
صرخت هي الأخرى بإنفعال والدموع تنهمر من عينيها كشلالات لا تنضب: " لا أستطيع أن أحيا سعيدة ونار قلبي لم تنطفئ بعد.. لا أستطيع أن أحيا بسلام وأنا أشعر بالخوف من نفسي ومن كل شيء يحيط بي.. لا أستطيع أن أحبك أكثر لأنني... لأنني جبانة تخاف على نفسها من حبك "
قطب بصدمة وهو يتمتم: " تخافين مني أنا يا حياة؟ من حبي لكِ؟ "
اومأت بعصبية وهي ترد: " نعم أخاف من حبك لأنه طوفان يا قاسم.. حبك طوفان.. إن فتحت له أبوابي سيطفئ ناري وأنا أريدها مشتعلة حتى آخذ بثأر أبي "
صرخ بغضب: " لقد جُننتِ يا حياة "
صرخت هي الأخرى: " نعم جُننت.. جُننت منذ زمن بعيد ولا أريد أن أتعافى من جنوني هذا حتى أحصل على ما أريد "
قال بعنف من بين أسنانه: " والثأر هو ما تريدينه؟ "
ردت بشراسة وهي تكتم شهقتها: " نعم هذا ما أريده وسأحصل عليه يا قاسم عاجلا أو آجلا "
أنهت جملتها وتركته خلفها يسب ويلعن ودخلت هي إلى الدار راكضة، تكتم بقية شهقاتها بكفها
وقف قاسم عاقد الجبين يصر على أسنانه من الغضب وقبضتيه متشنجتين إلى جانبيه وهو يقول بصوت متصلب: " تحتاجين لصعقة كهربائية عالية حتى تعودين إلى رشدكِ وتتراجعين عن تفكيركِ المسموم هذا يا حياة ورغم أنني سأتضرر قبلكِ إلا أنني سأفعلها لأجلكِ وليكن ما سيكون بعدها "
***

حينما عاد في ساعة متأخرة من المستشفى كان منهوك القوى بالكاد يستطيع تحريك أصابع يده وهو يفتح باب الشقة وحينما سمع صوت مفتاحه يعلن بترحيب فتح الباب ندت عنه تنهيدة راحة طويلة
لم يكد يخطو بقدميه إلى الداخل حتى كان يستدير شاهقا مجفلا من تلك الأصابع النحيلة التي ربتت بخفة على كتفه
لتجحظ عينيه بصدمة أكبر من أي شعور قد يخالطه في تلك اللحظة وهو يراها تقف أمامه بهيئتها المخيفة وهي تتشح بالسواد وتحدد عينيها بكحل أسود ثقيل
رمش عدة مرات ظانا أنه يتوهم وجودها لكن صورتها التي ظلت أمام عينيه دون أن تتحرك أو تتلاشى أكدت له حقيقة وجودها بالفعل
فتح فمه ببلاهة لتسبقه هي مبادرة بالكلام وهي تحييه ببساطة: " مرحبا "
قطب وشعور الصدمة والذهول لم يغادره بعد: " كم الساعة الآن؟ "
رآها ببساطة تخفض بصرها متطلعة في شاشة هاتفها الذي أضاءته للتو قبل أن ترفع رأسها تجيبه بنفس البساطة: " الثانية عشر "
قال بتقرير: " منتصف الليل "
اومأت برأسها وهي تبتسم قائلة بتهكم: " ألا تستضيف لديك أي زوار بعد التاسعة مثلا؟ "
تنحنح بحرج وهو يحاول أن يجلي عنه أي فكرة الآن حتى يفهم سبب وجودها هنا في هذه الساعة
سألها بهدوء وهو يتحاشى النظر لعينيها: " ليس هذا ما قصدته ولكن الوقت تأخر بالفعل "
حركت كتفيها بخفة وهي ترد: " ليس بعد.. لا تبالغ "
قطب بحيرة وهو ينظر إليها سائلا بتهذيب: " هلا أخبرتني إذا سمحتِ عن سر زيارتكِ لي في هذا الوقت؟ "
ردت بسؤال آخر: " هنا! على الباب؟ ألن تسمح لي حتى بالدخول وتقدم لي أي مشروب من باب الذوق واللباقة؟ "
هتف رغما عنه باستنكار: " ذوق! هل تتحدثين جديا عن اللباقة؟ "
قطبت قليلا دون أن ترد فتابع هو ببعض الضيق الذي ظهر في نبرته: " وأين هي اللباقة في زيارتكِ لشاب غريب عنكِ في شقته منتصف الليل؟ "
ضيقت عينيها وهو تكز على أسنانها بقوة متمتمة ببضعة كلمات باللغة التركية فنظر لها بغيظ وهو يقول: " ماذا تقولين؟ تعرفين أنني لا أجيد التركية "
ردت ببرود: " كنت أقول أنكَ فظ وغليظ "
صرخ بحنق يقول: " أنا؟ "
تلفتت حولها قليلا قبل أن تجيبه بنفس البرود الساخر: " لا أرى غيرك أمامي لذا وبعد التفكير واستفتاء عقلي فالإجابة هي... نعم... أنت "
أشاح بوجهه عنها زاما شفتيه بقوة كيلا يرد عليها بما يليق بها في تلك اللحظة وكم ود لو أخبرها القليل مما يلح لسانه على البوح به ليوقف تلك المتعجرفة المتبجحة عند حدها
أشفقت عليه وهي تلاحظ الهالات السوداء التي تحيط بعينيه فتجعلان بركتي العسل عميقتين جدا وجذابتين جدا
قالت بهدوء: " جئت لأقدم لك واجب التعزية "
نظر لها بعبوس يقول: " رغم أن الوقت ليس مناسبا لأن تقدمي لي أي شيء لكن حسنا... شكرا لكِ.. إلى اللقاء "
عبست في وجهه بالمثل وهي تقول: " هل تطردني؟ "
تمتم من بين أسنانه المطبقة وهو يخفض صوته خوف أن يشعر بهما أو يسمعهما أحد الجيران: " نعم أطردكِ وأحمدي ربكِ أنني أمنع نفسي عن صفعكِ "
شمخت بذقنها وهو تقول بجمود: " كنت لأكسر يدك قبل أن تمسني "
هز رأسه بعصبية وهو يخرج هاتفه من جيبه قائلا بضيق: " لن أطيل معكِ الحديث في أمر منتهي بالنسبة لي.. سأهاتف أخاك إن لم ترحلي حالا... "
قطع حديثه صوت قوي تعلوه نبرة الغضب وهو يقول: " ليس هناك داعٍ لتهاتفني.. ها أنا ذا "
إلتفتت خلفها بذهول وهي تحدق في عينيه متوحشتي النظرات بينما تقول: " ألم تخبرنا أنك خارج العاصمة وستعود في نهاية الأسبوع؟ "
رد بخفوت ينذر بعاصفة قادمة: " عدت فور أن شعرت بأن هناك ما يحدث من خلف ظهري.. تعرفيني لا أحب أن أكون مغفلا "
تنحنح يوسف بحرج وهو يقول: " لنتحدث في الداخل يا جماعة فوقوفنا بهذا الشكل على السلم غير لائق "
تكلم صخر من بين أسنانه بغضب مكتوم: " الشيء الوحيد الغير لائق هو وقوفها معك بهذا الشكل.. وفي هذه الساعة "
قطب يوسف يقول: " صخر يبدو أنك فهمت الموضوع بصورة خاطئة نحن كنا... "
هدر صخر بإنفعال: " لا أريد سماع صوت أحدكما.. (ثم نظر إلى أخته بجمود يقول) ألحقي بي "
نزل بسرعة وكأن الشياطين تلاحقه ودون لحظة تأخير واحدة كانت نغم تلحق به
بمجرد أن وصلت له فتح لها الباب المجاور لمقعد السائق دون أن يوجه لها كلمة واحدة وحينما استقلت السيارة صفع الباب بقوة قبل أن يدور حول السيارة متخذا مقعده بنفس الصمت وفي لحظة كانت السيارة تنهب الطريق بسرعة إلى الفيلا
حاولت أكثر من مرة أن توضح له أنها هي المخطئة وأن يوسف لا دخل له في الأمر فكان رده الوحيد أن صرخ فيها: " أخرسي نغم.. حسابنا في البيت "
وصلا بعد دقائق وجيزة فترجلت من السيارة بغيظ ليستوقفها آمراً: " أعطي مفاتيح السيارة لمصطفى حتى يحضرها لكِ غدا "
نظرت إلى مصطفى بضيق فوجدته يكتم ضحكة متشفية وهو يطرق برأسه للأرض فتقدمت نحوه تعطيه المفتاح وهي تتمتم بخفوت شرس لم يصل لصخر: " أعلم أنك تراقبني طوال الوقت وأنك من وشيت بي له "
فتنحنح مصطفى يقول ببلاهة متجاهلا حديثها: " حاضر يا هانم سأحافظ عليها ولن أصيبها ولو بخدش بسيط.. لا تقلقي على السيارة سأضعها في عيني حتى أسلمها لكِ بنفسي في الغد إن شاء الله "
غمغمت بحقد مكبوت وهي تبتعد عنه: " أيها الحقير "
سمعها فأبتسم بسماجة زادت غيظها منه أكثر
أنتظر صخر حتى ابتعدت قليلا عنهم قبل أن يلحق بها بعدما قال بنبرة آمرة حازمة: " أعدا الجلسة في الحديقة الخلفية وأشعلا النيران.. سأغتسل وأوافيكما بعد نصف ساعة بالضبط "
رد سيف على الفور بطاعة: " أوامرك صخر باشا "
***

بعد ربع ساعة
دون أخذ الإذن كانت نغم تقتحم غرفته والغيظ يتآكلها من صمته وهي لا تعرف ما ينوي فعله مع يوسف
في نفس اللحظة كان هو يخرج من الحمام الملحق بجناحه والمياه تتقاطر من خصلات شعره الحريرية الندية كما جذعه العضلي الذي يظهر بوضوح وهو لا يرتدي سوا بنطال أسود
اشتعلت عينيه بلهب حارق وهو يراها أمامه تتكتف بوقاحة وحدقتيها تمران سريعا على جذعه قبل أن تعودا وتستقرا في عمق عينيه
رمى تلك المنشفة الصغيرة التي كانت في يده بغل على الأرض وهو يتقدم ناحيتها بخطوات تعكس الغضب الذي يحمله صاحبها بداخله في هذه اللحظة
حتى قبض على مرفقها بقسوة وهو يهدر: " كم مرة نبهت عليكِ ألا تدخلي جناحي بدون إذن مني؟ "
ردت بوقاحة وعجرفة: " أنا لا آخذ إذن من أحد قبل أن أدخل لأي مكان في بيتي "
أفلت ذراعها بخشونة فتراجعت خطوة للخلف بينما هو يهدر بغضب: " ليس وقتكِ.. لدي اللحظة ما هو أهم منكِ ومن أفكاركِ الأنانية المغرورة "
أشار إلى باب الجناح وهو يتابع بشراسة: " أقسم بالله يا نغم إن وطأت قدميكِ جناحي ثانية دون أن أأذن لكِ لترين مني ما لم تريه يومًا ولا أنصحكِ بأن تتحامقي وتجبريني على فعله بكِ "
وما هي إلا لحظة وكان يصرخ بوحشية: " أخرجي "
شهقت نغم مفزوعة دون أن تستطع تمالك نفسها كعادتها أمامه، أسرعت بالخروج تحاشيا له ولما قد يفعله بها اللحظة وهو يبدو فاقدا لأعصابه وهدوئه الغامض الذي اعتادته منه دائمًا
بينما هو رفع كفيه يتخلل خصلات شعره بوحشية، يكاد يقتلعها من جذورها وصدى آخر جملة نطقت بها نبض لازال يأبى أن يفارق عقله وذاكرته
'فعلت مرة ولم ينالني منهما سوا الخذلان إن كنت تذكر، وأنا لستُ غبية لأعيد الكرة وجرحي لم يندمل بعد وفي داخلي نزيف يحتاج لدهر ربما حتى يتوقف'
إلتفت حوله يبحث عن شيء لا يعرف ما هو بالضبط وصدى صوتها يعلو أكثر وأكثر فيشوش عليه تركيزه ويجعله يفقد المزيد من هدوء نفسه وحُلمه
بداخله وحوش استيقظت وأخذت تعوي وتزأر بوحشية تطالبه بما يشعر بأنه لا يستطيع المضي قدما نحوه
جلس على طرف الفراش وهو يلهث من شدة انفعاله والأفكار تموج بداخله بين مد وجزر فيشعر بالجمود فجأة وكأنه فقد الخيط الذي كان دومًا يمسكه بحزم وذكاء بين يديه محتفظا بكل الأطراف في قبضة قوية لا تقهر
ينوي النهوض ليلحق بسيف ومصطفى كما أخبرهما فيعود صوتها يتردد أعلى وأعلى وكأنه يخبره أنه لم يفارقه بعد ولم يتلاشى
فيعود التقهقر للخلف ويغلبه شعور موحش بغيض بالعجز
صغيرته لازالت تعاني من ألم ظنه غير موجود.. ألم لجرح قديم لم ينتبه له من قبل وقد أنشغل لسنوات مضت بأمور أخرى أكثر تعقيدا من الإلتفات لتلك الذكرى التي تركت أثرها جليا في روح صغيرته
غلبته غصة مؤلمة استحكمت حلقه وهو يفكر بما يخفيه عنها والكارثة أن ما خفى أعظم بكثير!..
إن كانت تدفعه بعيدا عنها لأجل أنه خذلها لشيء بسيط فيما مضى فماذا ستفعل حينما تعلم أنه ليس هو؟
أن صخر الذي عرفته لسنوات ليس نفسه الذي يعرفه هو؟
أن من يقف أمامها في كل مرة يحمل هوية غير التي تعرفها
أن أصله الحقيقي ليس الظاهر أمامها وإنما أصله يعود لجذور لم يكن يعرف عنها شيء حتى...
تكلم بمرارة ساخرا وهو يحدث نفسه: " حتى ماذا يا صخر؟ حتى وصلت لسن السابعة عشر وأنت تنتمي لكيان ليس لك وهوية ليست من حقك! "
اه من تلك الدوامة التي تحيط به وتجيد لف حبائلها من حوله في أكثر لحظات ضعفه.. تتمكن منه فتزيده عجزا وضياعا
أطرق رأسه يمسكها بين كفيه مغمض العينين بقوة وهو يفكر في خاطره بأن أقل ما سيحدث حينما تعرف كل شيء ويتضح لها ما يخفيه عنها أنه.. سيخسرها
ضربته الكلمة في مقتل وهي مجرد فكرة في سماء الخيال فماذا سيحل به حينما تنزل لأرض الواقع؟
هب من جلسته المتخاذلة فجأة وهو يقرر تأجيل التفكير في هذا الموضوع حتى ينتهي من الأفعى السامة المتمثلة في شخص فؤاد الناصر أولاً
***

جلس على البساط المفروش أرضا أمامهما.. هو على مقربة من النيران المشتعلة المتوهجة بينما هما بعيدين قليلا عنها تجنبا للهبها الحار
سأل بجمود وعينيه محدقتين في لهب النيران المرتفعة: " ما الجديد؟ "
نظر سيف إلى مصطفى لوهلة حتى عبس الأخير فتكلم سيف بهدوء يقول: " حدث الكثير يا باشا في الفترة الماضية التي انشغلت فيها عن المتابعة بعض الأخبار سارة والبعض الآخر سيء... جدا على ما أظن "
رد صخر بنفس الجمود: " الكل سواء "
قطب مصطفى وهو يقول: " ما بكَ يا باشا؟ تبدو منزعجا من شيء ما "
رد صخر بصوت غريب: " لست منزعجا فقط يا مصطفى بل غاضبا.. غاضبا جدا من نفسي .. أهم جولة سباق في حياتي تم إعلان نتيجتها قبل أوانها بالكثير ولقد... خسرتها "
سأل مصطفى بعفوية: " ماذا خسرت؟ "
قطب صخر بألم يقول: " بل قل من يا مصطفى؟ سأخسر أو لأكن أكثر صراحة فقد خسرت شخص غالي جدا عليّ وليس مجرد شيء "
كاد مصطفى يسأل المزيد لكن صخر قاطعه وهو يعود لحالة الجمود ثانية قائلا: " لقد قُتِلَ ماهر قبل ثلاثة أيام.. أعلم أن الحقير فؤاد من فعلها بعدما اختلفا على تقسيم مكسب آخر صفقة بيع آثار لهما وقد هدده ماهر بفضحه فلجأ لقتله حتى يضمن إسكاته للأبد "
نظر سيف له بدهشة يقول: " نعم هذا بالضبط ما علمناه لاحقا "
قطب صخر وهو يتابع: " هكذا تكون الصفقة أُلغيت فلا قيمة لها بعد موت ماهر "
رد مصطفى بتمهل: " هل سنبحث عن آخر نصل من خلاله إلى الإيقاع بفؤاد يا باشا؟ "
هز صخر رأسه سلبا وهو يرد: " لا.. لا مزيد من التورط مع أي نوع دنئ من البشر.. تكفي تجربة واحدة "
قال سيف بترقب: " إذن ما التالي صخر باشا؟ "
قبل أن يرد صخر على سؤال سيف تذكر شيء ما فقال: " آدم عاد ومن الجيد انشغاله مع عائلته لفترة حتى أقرر ما سأفعله مع ذاك الآخر "
عبس مصطفى بحنق يقول: " لازلت لا أجد سببا يجعلك تساعد ذاك المدعو سعد في كشف حقيقة فؤاد يا باشا فهو لا يقل حقارة عن عمه؟ "
قطب صخر بجدية مجيبا: " لربما كان مغفلا أعمى البصيرة لكنه ليس حقيرا يا مصطفى.. لقد عاهدت نفسي أن أنير بصيرته تلك للحق وأجعله يصل بنفسه لحقيقة هوية قاتل والده "
تدخل سيف يقول بحيرة: " لكنه كاد يقتل زيد لولا تدخلك في اللحظة المناسبة يا باشا.. أرى أنه يخطو متعجلا في طريق النهاية "
تنهد صخر وصمت للحظات مفكرا قبل أن يرد: " معك حق يا سيف وهذا هو عيبه الوحيد أنه ضخم الجسد صغير العقل.. سريعا ما يقتنع بهزر عمه وينفذه "
ران عليهم صمت طويل لدقائق قطعه مصطفى وهو يقول بتعجب: " ألا تريد أن تعرف بقية الأخبار صخر باشا؟ "
تكلم صخر بصوت متعب يقول: " ماذا هناك أيضا غير موضوع تلك الصفقة ومحاولة قتل زيد؟ "
رد مصطفى: " هذا ما كان لدي أنا أما سيف فأظن لديه خبر سار لأجلك يا باشا "
نظر صخر إلى سيف بإهتمام يقول: " تكلم سيف بما لديك جملة دون تفصيل "
كتم سيف بسمته وهو يرد: " لقد سرق مصطفى جواز سفر الآنسة نبض "
حدجه صخر بغيظ وهو يقول: " آنسة! أتراني ظلا أمامك أم ماذا؟ "
تنحنح سيف بحرج من السهو الذي وقع فيه فقال بتوتر: " أعتذر صخر باشا لكن... أنا لم أعتد اللقب بعد "
أشاح صخر بوجهه إلى النيران مرة أخرى وهو يتمتم بمرارة: " لا ترهق نفسك باعتياده فعلى أي حال صاحبة اللقب لن تبقى بالقرب طويلا "
قطب سيف والتزم الصمت بينما غمغم مصطفى متصنعا اللامبالاة: " لا أصدق أن فتاة صغيرة كتلك تعصى عليك يا باشا وقد روضت قبلها العشرات من الرجال فماذا عن فتاة صغيرة؟ "
رمش صخر بذهول لوهلة قبل أن يصرخ بغيظ وغيرة حارقة وهو يقذفه بثمرة تفاح لا يعرف كيف جاءت إلى هنا: " هل تتحدث عن زوجتي أمامي بتلك الوقاحة يا مصطفى؟ ما دخلك أنت إن عصت عليّ أم سلمتني زمام أمرها؟ هل طلبت منكَ النصيحة؟ "
تلقف مصطفى التفاحة بإبتسامة واسعة مغيظة وهو يرد ببراءة مصطنعة: " العيب عليّ أني أريد مصلحتك يا باشا "
هدر صخر بضيق: " مصطفى "
رفع مصطفى يديه باستسلام وهو يقول: " حسناً يا باشا أنا أعتذر.. لكن لو تسمع مني ستجد عندي حلا لمعضلتك بإذن الله "
هَمّ صخر بأن ينهض من مكانه مزمجرا لكن مصطفى هب من جلسته مبتعدا بسرعة وهو يتمتم: " أنت الخاسر يا باشا "
كتم سيف ضحكته وهو ينظر إلى طيف مصطفى الذي يبتعد بينما هدر صخر بحنق: " ذاك المستفز لا أطيقه لخمس دقائق حتى فكيف تتحمله أنت طوال الوقت؟ "
ابتسم سيف بحنان وهو يرد: " إنه أخي ومن الطبيعي أن أحتمله أكثر من الآخرين "
قطب صخر يقول: " لستما من نفس الأب ورغم ذلك تبدوان شقيقين تمامًا.. لم أراكما يوما متشاحنين "
رد سيف بنفس الإبتسامة: " لن أخفي عليك يا باشا فأنت تعلم أن مصطفى شخص لا يطاق أبداً لكنه رجل بكل ما تحمله الكلمة من معنى يتكلم كثيرا لكنه يخفي الكثير أيضا.. لا يغرنك مزاجه الساخر الذي يتمسك في الظهور به فهو أعتاد التعبير عما يحمله في داخله بهذه الطريقة وعليّ أنا حل ألغازه تلك حتى أصل لسبب ما يزعجه في كل مرة "
زفر صخر بغيظ تبدد وتلاشى وهو يحدق في ألسنة النيران المرتفعة من جديد
دومًا يجلس أمامها حتى يستمد منها التركيز كلما تكالبت عليه الأفكار والأمور وتشتت عقله
دومًا شعر أمامها بأنها انعكاس له، ترسم هيئته من الداخل.. توضح صورة مختصرة لما يطمره بداخله من جحيم ووحوش
كانت صورة النيران تنعكس في عينيه وتتراقص على صفحة حدقتيه فتزيدها قتامة ووحشية وغموضا
يعلم علم اليقين أنه سيحترق يوماً في تلك النيران التي يشعلها كل مرة بيديه
يعلم أنه وحده المتضرر والمتأذي لكنه بحمق وغباء منقطع النظير يستمر في طريقه الشائك غير مباليا بقدميه اللتين تخطوان فوق الأشواك فتُجرح ولا بقلبه الذي بدأت قواه تستنزف وروحه التي باتت صرخات استنجادها تعوي كذئاب جائعة لا تجد فريسة تسد حاجتها وتشبعها
ومن خلف ألسنة النيران التي تزأر كوحش مقيد ظهرت عينين زرقاوين تتراقص فيهما رقة تذيب أعتى الجبال
ارتسم فوق العينين حاجبين أنيقين بلون بني يعكس لون خصلات شعر صاحبته تلاه أنف صغير لا ينحني أبداً بل يقف بشموخ ثم أخيرا وبدقة تامة رُسم فم صغير ككل شيء آخر في صاحبته.. فم شهي بشفتين حمراوين بالفطرة دون أن يعكرهما أي لون دخيل عليهما
كانت تلكما الشفتين كحبتي كرز ناضجتين تترقبان بصبر لحظة قطافهما!
وحول ذاك الوجه لُفَ حجاب أبيض ملائكي ناعم يعكس لون بشرتها البيضاء والتي نافست الحجاب في ملمسه الناعم
تبسمت له بخجل رقيق وهي ترمش بأهدابها الكثيفة كما يحب فتلمع زرقاوتيها وكأنها نجوم براقة تتوسط كبد السماء في ليلة معتمة كحيلة تتناثر على صفحة الليل كحبات لؤلؤ لامع
رآها تسبل عينيها فكاد يطلب منها ألا تكف عن النظر إليه لكنه سكت مذهولا وهو يرى كيف بدأت عيناها تمطران بحبات ندى غزيرة أخذت تطفئ النيران.. وكلما ارتفع وهج النيران بغضب وهي تأبى أن تتلاشى زادت غزارة حبات الندى بإصرار وهي تحاربها وبين مد وجزر وصولات وجولات ربحت أخيرا قطرات الندى وخسرت ألسنة النيران الرهان
تلاشى من أمامه كل شيء ولم يتبقى سوا الوجه الحبيب الملائكي وابتسامة صغيرة حانية كانت آخر ما رآه صخر قبل أن يتلاشى ذاك الوجه إلى العدم من حيث أتى لينتبه فجأة مجفلا من شروده الطويل وخيالاته العميقة على صوت سيف وهو يقول: " ماذا سنفعل الآن صخر باشا؟ "
رد صخر بصوت عميق غامض بدى آتيا من زاوية بعيدة جدا: " سنفعل ما كان يجب أن نفعله منذ وقت طويل يا سيف.. سنعيد الأمور لنصابها الصحيح لينال كل ذي حق حقه فما عاد الصبر يفيد "
***

في الصباح
كان الجد يتباحث ويتناقش في عدة أمور تخص شئون العائلة مع ولديه واحفاده في وجود صديقه صالح
بعد قليل انتهى حديثه ليصمت الكل مفكرين في ما قيل وفجأة قطع الجد هذا الصمت وهو يقول: " كيف حال حفيدتي ابنة البواسل؟ "
بدى عبد الرحمن وكأنه غير راضيا عن اللقب الذي يرافق إسم شمس وهو ينطقه على مضض فأبتسم صالح دون تعقيب بينما رد سليم: " إنها بخير يا أبي كنت قد كلمتها قبل يومين وكانت في أحسن حال "
اومأ الجد بإبهام وهو يفكر في شيء ما قبل أن يقول: " متى ستأتي لزيارتنا؟ "
رد سليم بهدوء ناظرا لأبيه ببعض الحيرة: " أظن بأنها ستأتي خلال أيام حتى تبارك عودة العروسين من شهر العسل "
ابتسم حمزة بسخرية وهو يفكر في شهر عسله، أقصر شهر عسل حصل عليه عروسين في الوجود
ثلاثة أيام لا أكثر وفي الرابع كان ينشب بينهما شجار حاد انتهى بعودتهما في اليوم التالي متخاصمين وكل منهما يبيت في غرفة منفصلة حتى اليوم
سأل الجد فجأة بغموض مخرجا الجميع من شروده الخاص: " ومتى ستكون فردا مقيما في دار الجبالي وليست ضيفة؟ "
قطب سليم بعدم فهم بينما اتسعت إبتسامة صالح وهو ينظر إلى صديق عمره قائلا بتمهل: " فيما تفكر يا أبا خالد؟ "
نظر عبد الرحمن إلى صالح قائلا: " تعرف ما أفكر فيه يا أبا آدم فما حاجتك للسؤال؟ "
رد صالح بنفس إبتسامته: " لكن ولديك وأحفادك لا يعرفون "
قطب عبد الرحمن وهو ينظر إلى أحفاده قائلا بتقرير ما يفكر فيه: " لن يسعد قلبي ويرتاح قبل أن تكون أحفادي جميعهم أمام ناظري وفي داري "
لم يحاول خالد أو سليم حتى التدخل رغم أن خالد كان لديه علم مسبق بأن ولديه لن يعطيا للأمر بالاً فقلبيهما مشغولان منذ أمد بعيد
سأل زيد بحيرة وهو ينظر إلى جده: " هل تريدها أن تأتي لتقيم عندنا يا جدي.. لكن كيف؟ لا أظن عمي أكرم سيقبل بهذا "
رفع عبد الرحمن حاجبا بترفع وهو يرد: " وكيف سيرفض؟ أليس أبا ويوما ستأتي تلك اللحظة التي يسلم فيها ابنته بيديه إلى زوجها فتنتقل معه إلى داره بعيدا عن كنف أبيها؟ "
تناظر الأحفاد فيما بينهم بذهول من تفكير جدهم وقد اتضحت الصورة أخيرا أمامهم فقال حمزة: " وهل ستقبل هي؟ "
رد الجد بصلابة: " ستقبل برضاها وإلا فستفعل رغما عنها "
وجه قاسم بصره ناحية النافذة المفتوحة التي تطل على الحديقة الخلفية بلامبالاة وكأن الأمر لا يعنيه متأملا في الفراغ بصمت عميق
أما ياسين فقد أخرج هاتفه حينما أعلن عن وصول رسالة نصية له فقرأها وبدأ يرسل إلى محدثه هو الآخر بهدوء دون أن يبدي أي رد فعل أو سؤال في هذا الموضوع
بينما زيد أطرق برأسه للأرض يتأمل السجادة المفروشة بإهتمام وكأنه يبحث عن شيء ضاع منه وربما يكون متخفيا بين هذه الازهار الصغيرة التي تغطي نسيج السجادة
في حين قطب حمزة بعبوس وهو يعود إلى أفكاره الخاصة التي تدور حول فلك مجنونته التي تكاد تصيبه بعدوى من جنونها قبل مرور أسبوعين على زواجهما بعد
كتف خالد ساعديه أمام صدره وأخذ ينظر إلى كلا ولديه بتفكير وهو يمنع بسمته من الظهور بشق الأنفس وكان سليم يفعل نفس الشيء مع ابنه قبل أن يولي ولديّ أخاه كل إهتمامه
قطب الجد بضيق يقول: " لم أسمع كلمتكم بعد "
فرد حمزة بإحباط: " أنا خارج هذا الموضوع فقد تزوجت وأنتهى أمري "
ناكفه صالح بالقول: " وما لكَ تقولها وكأنك تلفظها؟ إن لم تكن مرتاحا مع زهرة العائلة فلا ضير من مثنى وثلاث ورباع "
رد حمزة بدفاع: " وهل فقدت عقلي لأفكر بأخرى غير زهرتي عماه؟ إنها زوجتي في الدنيا والآخرة بإذن الله ولا أريد سواها "
ضحك صالح وهو يقول: " إذن لا تجلس عابسا هكذا فأنت تسيء إلى سمعة الزواج وتجعل الشباب يفضلون العزوف عنه "
إبتسم حمزة وهو يقول مازحا ليخفي إحباطه وبؤسه: " ما ذنبي أنا؟ هل سيتخذونني حجة كي يهربوا من تأدية الواجب العسكري؟ "
ضحك سليم معقبا: " لو ظنوا هذا حقا فهم حمقي إذن فكما ترى جدك يعد لهم العدة ولن يتركهم ينعمون بحياة العزوبية طويلًا "
قطب الأحفاد الثلاثة المعنيين بالأمر في عبوس!
التفت قاسم مصوبا نظراته الجامدة على جده بينما رفع ياسين عينيه عن شاشة هاتفه إلى وجه جده وزيد رفع بصره عن السجادة ونظر لوالده أولا ثم إلى جده
سأل ياسين بتعجب: " أنا لم أفهم شيء.. هلا وضحت لي أكثر يا جدي؟ "
رد الجد بجدية لا تقبل النقاش: " أحد ثلاثتكم عليه أن يتزوج بابنة عمتكم رقية "
فغر ياسين فاهه ببلاهة بينما عبس زيد دون تعقيب
أما قاسم فرد ببرود: " لا أجد فيها حاجة نفسي التي أبحث عنها "
قال عبد الرحمن مقطبا: " كنت ارشحك أنت لها فأنت الأكبر سنا ولابد أن تتزوج أولا "
رد قاسم بنفس البرود: " نحن لا نتزوج باعتبار السن يا جدي وإلا ما كان حمزة تزوج قبلي فأنا أكبره بسنة وبضعة أشهر "
على الفور قال ياسين وكأنه يدفع البلاء عنه قبل أن يصيبه: " وأنا الآخر لا أصلح لها فقد سبق واخترت من أريدها زوجة لي "
رد عبد الرحمن متهكما: " بدليل أنك لم تتخلى عن كرسي الوحدة وتودع عزوبيتك بعد "
كز ياسين على أسنانه وهو يرد مطرق الرأس: " لم يحن دوري بعد يا جدي هذا كل ما في الأمر "
غمغم زيد بحنق وغيظ يحدث نفسه: " لم يتبق سواك يا بائس "
في نفس اللحظة وجه الجد حديثه له يقول: " وأنت ما حُجتك؟ "
عبس زيد وهو يقول: " ليست لدي حُجة لكن.. كيف سأتزوج فتاة لا أعرفها؟ "
رد الجد ببساطة: " لم يمنعك أحد من التعرف عليها "
قطب زيد بحنق يقول: " هل تريدني أن اشاغل ابنة عمتي يا جدي؟ "
زفر الجد وهو يقول: " أفعل ما تريد يا ابن سليم لكن تزوجها في أسرع وقت فأنا أريدها قريبا في دارنا "
غمغم زيد بضيق: " لما لا نتفق على عدد الذكور والإناث الذين سأنجبهم ونحدد موعد العرس أيضا؟ "
سمعه حمزة وصالح فكتما ضحكاتهما بينما زفر ياسين براحة لم يكد يحصل عليها حتى تلاشت وجده يقول بحزم: " آخر هذا الشهر أريد طلب واضح وصريح منكما وموافقة عن رضى وقناعة منهما وإلا لن يمر أول أسبوع في الشهر المقبل إلا وهما في بيتي زوجيهما بعيدا عن دار الجبالية "
نزل الكلام كمطارق من حديد على رأس ياسين بينما هب قاسم من جلسته يهتف بتهديد شرس: " كنت قتلتها قبل أن يقرن إسمها بإسم رجل غيري وقتلت من يفكر مجرد التفكير في أن تكون حياة الجبالي من نصيبه "
هب عبد الرحمن من جلسته هو الآخر غاضبا وهو يهتف في حفيده: " كيف ترفع صوتك في مجلسي وأمامي بهذه الوقاحة يا ولد؟ "
لم يتراجع قاسم وهو يرد بغضب يوازي غضب جده: " أدافع عن حقي "
صاح الجد بقسوة: " لا حق لكَ فيها يا ولد.. حياة لن... "
قاطعه ياسين ولم يستطع إلتزام الصمت أكثر فنهض بلهفة يقف أمام أخيه وكأنه يحميه بينما يقول " لا.. بالله عليك لا تفعل يا جدي.. قاسم لم يقصد شيء "
تدخل صالح وهو يرى استنجاد صامت في نظرات ياسين التي يوجهها له فقال: " أهدأ يا أبا خالد.. حفيدك حار الدماء ثار لأجل ابنة عمه التي نعلم أنه يريدها زوجة ولم يقصد بالطبع أن يرفع صوته في مجلسك أو يتطاول عليك كما قال ياسين "
كانت نظرات الجد وحفيده صلبه قوية لا تلين وكأن كل واحد منهما يتحدى الآخر حتى استدار ياسين إلى أخيه يهمس له برجاء يصل إلى حد التوسل: " أطلبها من جدي اللحظة يا قاسم (نظر له قاسم برفض متعنت فتابع ياسين بتوسل يمس القلب) بالله عليك أفعلها.. لا تحرق قلبي عليك يا قاسم أطلبها يا أخي وأجمع زمام الأمور في يديك قبل أن تنفرط من بين أناملك وتفطر معها فؤادك "
ظل قاسم على رفضه وهو يتذكر وعده لنفسه ولحياة بأنه لن يكرر طلبه ولن يعيد عرضه عليها حتى تأتيه هي بنفسها تخبره بموافقتها
كان يشعر بأنه مشطور لنصفين
حائر بين حكمة العقل وهوى القلب
همس ياسين برجاء من جديد: " أرجوك يا أخي.. أفعلها.. إنها حقك "
لم يشعر بنفسه وهو يقول لجده بصلابة ودون تردد أو تفكير وكأن آخر كلمات نطقها ياسين استفزت روح العاشق بداخله: " أنا أطلب حياة منكَ يا جدي.. أريدها زوجة لي اليوم قبل الغد "
دخلت حياة فجأة مبتسمة وكأنها كانت تشعر بأن هناك من يناديها
وضعت الصينية التي كانت تحملها على الطاولة الصغيرة المستطيلة وهي تقول: " أعددت القهوة بنفسي لأجل خاطرك يا جدي "
إبتسم صالح بلطف وهو يربت على يدها وهي تناوله فنجانه: " سلمت يداكِ يا ابنتي "
اعتدلت حياة بعدما ناولت عميها فنجاني قهوتيهما لتلاحظ لأول مرة الحالة الغريبة التي يبدو عليها البقية
ياسين يقف أمام أخيه ويبدو جسده متشنجا بينما الأخير كان جسده متصلبا كقبضتيه المشدتين إلى جانبيه
أما جدها فكان يقف يناظر قاسم بنظرات غامضة من بينها يشع فتيل غضب
شعرت أن هناك أمر جلل يحدث ففضلت الإنسحاب حتى لا تشاهد لحظة إحراج أيا منهما للآخر وحينما همت بالانصراف استوقفها جدها يقول: " انتظري حياة "
نظرت له بهدوء تقول: " نعم جدي "
تكلم عبد الرحمن بجمود مباشرة في الأمر: " إبن عمك طلب يدكِ مني قبل دخولكِ.. ما قولكِ؟ "
لم تكن في حاجة للسؤال عن أي ابن عم تقصد فهي تعرف أن قاسم هو المعني بالقول
شعرت بغصة الحسرة تعاودها من جديد وهي تعرف أن ردها سيوجعه لكنها لم تشأ أن تطيل في الأمر فقالت بهدوء ظاهري: " أنا لا أفكر حاليا في موضوع الزواج "
قال صالح بمهادنة: " لا بأس بنيتي يمكننا عقد خطبة طويلة وتأجيل عقد القرآن والعرس حتى تؤهلي نفسكِ وتستعدي "
ازدردت ريقها بمرارة وهي تنكس رأسها بقهر قائلة: " لا جدي.. أنا... أنا لا أريد الزواج.. هذا هو قراري وردي الأخير "
قال ياسين فجأة ببرود قاس أراد فيه أن يوجعها متعمدا: " حسنا يا ابنة عمي لا بأس.. سأبحث عن أخرى فعلى أي حال أنا متعجل وبنات حواء لم تفنى كلها بعد.. على العموم كانت مجرد فكرة عابرة "
تعجب الجميع مما يقول بينما شهقت حياة بصدمة وهي ترفع رأسها تنظر إلى ياسين قائلة: " ماذا تقصد؟ هل... هل أنت من طلبتني للزواج؟ "
تبسم ياسين بسخرية جارحة وهو يرد: " وهل كنتِ تنتظرين شخص معين؟ "
ازدردت ريقها بصعوبة وهي تهز رأسها سلبا ببطء بينما عينيها تحيدان بنظراتهما إلى عينيّ قاسم الجامدتين
قلبها يدوي بشدة وكأنه يلفظ آخر أنفاسه أما أنفاسها فكانت متسارعة بشكل مؤلم وهي ترى ألم يسكن نظرات قاسم رغم جموده الذي يبديه
لماذا يتألم هو إن كان ياسين من عرض عليها الزواج؟
لماذا تشعر أنه... أنه ينظر لها بخيبة وفقدان أمل؟
وهل منحته يومًا أي أمل في أن يكونا سويا؟
عادت تنظر إلى ياسين تسأله بصدمة لم تغادرها بعد: " وماذا عن ملك؟ "
رفع ياسين حاجبيه وهو يرد بلامبالاة: " ماذا عنها؟ هل يفترض بي أن أكرر طلبي على كل فتيات العائلة حتى ترضى عني إحداهن وتقبل الزواج بي؟ "
عبست حياة بشراسة وهي تقول بإنفعال: " إذن أنت لا تحبها؟ كنت تخدعها أليس كذلك؟ "
ود لو صفعها ليشفي غليله منها ومن عجرفتها التي كسرت بخاطر أخيه وود لو صرخ فيها بأنها أكبر حمقاء رآها في حياته
ود فعل الكثير لكنه تكلم بعكس ما أراد يقول: " لا تتدخلي فيما لا يعنيكِ يا ابنة عمي.. انظري لحالكِ وأشغلي نفسك بشئونكِ أفضل لكِ "
كان الجميع منشغلين بالنقاش الحاد الذي يدور بين ياسين وحياة غافلين عن قاسم الذي كادت الدماء أن تتفجر من عروقه النافرة وهو يقبض على كفيه بشدة حد الألم
لم ينتبه أحد لغلالة الدموع التي انسدلت على صفحة حدقتيه المثبتتان على حياة أو هكذا ظن هو أن لا أحد يشعر به أو ينتبه له قبل أن يوليها ظهره
غافلا هو الآخر عن ملك التي كانت قد دخلت خلف أختها حياة ببضعة لحظات لتحيي صالح وتسلم عليه قبل مغادرته
كانت تقف أمام الباب المفتوح صدرها يعلو ويهبط وهي تكتم شهقاتها ببسالة بينما الدموع تنهمر مدرارا على وجنتيها
كم شعرت في تلك اللحظة أنها تريد أن تضم قاسم إلى صدرها وتطيب بخاطره الكسير!
تمنت لو لديها رخصة تسمح لها بأن تربت على كتفه وتواسيه!
تمنت لو بيدها أن تخفف عنه وتخبره أن أختها الغبية هي الخاسرة، هي من ستندم كما تفعل في كل لحظة
وودت لو صفعت حياة بقوة حتى تفيقها من غفلتها التي طالت وغبائها الذي تعدى كل الحدود
ودت لو تستطيع أن تهزها بعنف لتعيد إليها الشعور الذي فقدته وتجبرها على الموافقة قبل أن تضيع منها فرصة قد لا تحظى بها من جديد
بفطنة لا تملكها حياة أو قد تكون صدمة الموقف هي من جعلتها لا تفطن لما فعله ياسين على خلاف ملك التي أدركت ببساطة أن ياسين ما قال ذلك إلا ليحفظ كرامة أخاه التي أهدرتها أختها بغباء رفضها له
أدركت أن ياسين أختار أن يكون هو العريس المفروض في نظر حياة لا أن يكون قاسم
وكم أسعدها ذلك وجعلها أكثر فخرا بحبيبها!
مسحت عبراتها بسرعة وهي تشمخ بذقنها تخطو للداخل فينتبه الجميع لها أخيرا وهي تبتسم برقة تقول: " مرحبا جدي.. كيف حالك؟ "
ابتسم صالح بمودة وحنان وهو يفتح ذراعيه لها قائلا: " بخير يا حبيبة جدكِ "
شعرت ملك أنها كانت في حاجة ماسة لعناق أبوي كهذا، كانت تريد دعم من أي شخص في هذه اللحظة وكان الله رحيما بها فمنحها ما تمنت
ابتعدت عنه بعد لحظة تقول بهدوء: " ماذا يحدث؟ "
رد سليم: " لا شيء بنيتي "
إلتفتت تنظر لأبناء عمومتها فلاحظت الشفقة في عينيّ حمزة فأبتسمت له وهي تقول: " أشعر بأنكم تريدون الإيقاع بأحد في فخ ما "
تنهد حمزة يقول بإحباط شديد: " يبدو أننا فشلنا في ذلك "
اتسعت إبتسامتها بشقاوة محببة طفولية وهي ترد عليه: " كم تدفع لي وأساعدكم في تحقيق مطلبكم؟ "
ابتسم حمزة رغما عنه وهو ينظر لعينيها اللتين كما يبدو أنهما بكيتا طويلا في وقت قريب كعادة حالها في الفترة الماضية: " ما تأمرين به ملك هانم "
اومأت ضاحكة تقول: " حسنا اتفقنا.. أخبرني في أي فخ تريدون الإيقاع بهذا الشخص؟ "
رد ببساطة: " فخ الزواج "
صفقت بيديها في جذل كالأطفال وهي تقول: " لدي شخص مناسب لهذا الفخ "
تدخل صالح يقول بمزاح: " إذن دِلينا عليه بسرعة "
نظرت إلى قاسم وهي تتقدم منه وبجرأة أمسكت يده وهي تجثو على الأرض على ركبة واحدة رافعة رأسها للأعلى تطالع عينيه الذاهلتين وهي تقول: " هل تقبل الزواج بي قاسم؟ "
جحظت عينيّ قاسم في صدمة وكأن أحدهم سكب عليه دلو من الماء المثلج فلم يستطع النطق بحرف
ترجته بدلال: " ها.. ما رأيك؟ صدقني لن تجد عروس جميلة، لطيفة، عاقلة مثلي "
رمش لوهلة وهو يكرر كلمة قالتها في نفسه بتعجب
هل قالت عاقلة؟!
متى تعقلت ملك من الأساس؟ ألم تولد مجنونة متهورة بالفطرة؟
شعر في تلك اللحظة بأنه يريد أن يضحك من كل قلبه على جنونها
أما حياة فشعرت بالغيرة الحارقة على قاسم والغيظ من أختها حتى تمنت لو تجرها من شعرها بعيدا عنه
تنهد بعمق وهو يرفعها عن الأرض قائلا بهمس حاني: " هل جننتِ يا ملاك؟ لستِ لي ولا أنا لكِ "
ردت عليه بهمس مماثل: " الغبية التي تحبها تكاد تحترق من الغيرة الآن.. (ثم تابعت بسخرية طفيفة) والبطل الذي أحبه يكاد يصفعني اللحظة وكلاهما غبيان يستحقان ما يشعران به "
عبس قاسم في وجهها وهو يتهكم بالقول: " وأنتِ ما شاء الله عليكِ قنبلة ذكاء متحركة "
غمزت له بطرف عينها بشقاوة وهي تسر إليه بالقول: " بالطبع وسأثبت لك ذلك حالا حينما تجدني أحصل على ما أريد بأقل جهد.. راقبني "
إلتفتت ملك وقد تبدلت ملامحها فجأة إلى البؤس وهي تتمتم: " لم أتخيل للحظة أن أكون سيئة لهذه الدرجة التي تجعل ابن عمي يرفضني "
ناكفها صالح: " أوَ لم تجدي غير قاسم يا ملاك؟ "
تنهدت بحزن وهي تقول: " ظننته سيجبر بخاطري الذي كسره أخاه برفضه لي "
شهق ياسين بذهول وهو يرد مشيرا إلى نفسه: " أنا! متى فعلت هذا؟ "
نظرت له بأسى وهي تقول: " أوَ لم تفعل؟ "
رد على الفور ودون تفكير: " لا طبعا.. كيف أرفضكِ هل أنا مجنون؟ "
رمشت بعينيها قليلا وهي تناظره برقة قائلة: " وماذا تنتظر إذن؟ "
قطب بغباء يقول: " ها! ماذا يفترض بي أن أفعل؟ "
ابتسمت بخجل وهي تقول مشيحة بوجهها عنه في حياء: " أطلبني للزواج من جدي "
فغر فاهه بذهول قبل أن يقول بشك: " حقا يا ملاك! "
اومأت وهي على نفس حالتها: " نعم "
دون تردد كان يتقدم من جده قائلا بحماس: " زوجني ملاك يا جدي "
انفجر الجميع في الضحك عدا قاسم الذي ابتسم إبتسامة صغيرة وحياة التي أخذت تنظر إلى أختها في ذهول وهي لا تكاد تفهم شيء مما يحدث
رد عبد الرحمن متهكما: " كنت تلعب منذ قليل دور البطل "
رد ياسين ببساطة: " ومن قال أنني أحب الأبطال؟ أنا شاب عادي ولا أفقه شيئا في مثل هذه الأمور "
قطب عبد الرحمن يرد: " كم وددت لو حرمتك منها لكن... (نظر إلى ملك التي لازالت تتشح بالسواد منذ علمت بخبر موت الدكتور مختار ثم تابع) لكني موافق.. لأجلها هي "
كاد ياسين يقفز من الفرح وهو يقول: " كم أحبك يا جدي "
إلتفتت ملك برأسها إلى قاسم تبتسم له بانتصار فأومأ لها بهزة بسيطة من رأسه وأبتسم لها بحنان وهو يقول: " ولتكن أول مباركة لكما مني.. (ثم أقترب من ياسين وضمه بمحبة وهو يتابع حديثه) مبارك أخي "
طالعه ياسين بأسى فربت قاسم على كتفه قبل أن يهمس له: " ليسعد أحدنا في حياته على الأقل.. حافظ عليها.. ملاك أصبحت أمانة عندك منذ اللحظة يا أخي فكن على قدر المسؤولية "
اومأ ياسين برأسه دون تعقيب وهو يشعر بالقهر والحرقة على أخيه
التفت قاسم متقدما من ملك باسما وهو يقول: " مبارك عليكِ يا ملاك.. ربحتِ يا فتاة "
ابتسمت بشقاوة وهي ترد: " نعم ربحت.. كانت من حظي الجائزة الكبرى "
توالت عليهما المباركات من الجميع بينما قاسم لم ينس أن ينظر إلى عينيّ حياة مباشرة وهو يخبرها بوضوح عن طريق نظراته أنها هذه المرة لم تكتفي بجرح قلبه فقط بل غرست سِكينها الثلم في صميم روحه حتى تركته من خلفها يلفظ آخر أنفاسه دون أن ترحمه كعادتها
خرج قاسم من المجلس يشعر بأن كل ما فيه ينزف خاصة كبريائه الذي أراقته حياة برفضها المتعنت الغبي
أقسم بداخله ومن صميم قهره أن يرد لها تلك الضربة حتى وإن كان فيها موته نهائيا
نعم سيتألم لألمها ويتوجع حزنا عليها لكنه لن يتراجع، تحتاج لضربة قوية تخرجها من ظلام جُبها الذي تغرق فيه بدون مقاومة وهو يعلم جيدا كيف سيوجه ضربته لها
لقد خسر كل شيء وأنتهى الأمر لذا سيفعلها وليكن ما سيكون!..

انتهى الفصل، واتمنى أن أكون وفِقت فيه وحظى على إعجابكم…

Hend fayed 15-10-19 06:43 PM

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
 
أولا ممنونة جدا لمتابعتك لفصول الرواية وتقييمك ليها يا جميلة🌹
ثانيا هرد على تساؤلاتك..
_ دي فعلا أول رواية ليا انشرها هنا في المنتدى واتمنى ألا تكون الأخيرة بإذن الله.
_سعيدة جدا إن الفصول مش مملة زي ما قولتي وإن السرد عجبك.
*ونيجي لأبطال الرواية بقى...
_بالنسبة لأمر زيد وتواجده مع يوسف يوم الحادث القديم.. حبيبتي لو لاحظتي هتلاقيني ذكرت إن يوسف كان هو اللي بيرد على فؤاد وبيتصدر له وإن هو برضو اللي اتحداه على عكس زيد اللي مظهره منه أي رد فعل يضايق فؤاد مثلا وعشان كدا فؤاد كان غاضب من يوسف مش زيد ودا اللي خلاه يشير للرجل بتاعه على يوسف عشان هو في نظره غلط في حقه ولازم يتعاقب.
_صخر شايف نبض طفلة لأنها من وجهة نظره صغيرة السن.. شايف إن من حقها عليه يراعيها وبس لكن مش يدخلها في متاهات كبيرة زي الزواج وهنعرف في الفصول الجاية السبب الأكبر وراء صدمة صخر المتأخرة بالنسبة لموضوع زواجه من نبض.. والسبب دا يعد هو مربط الفرس أو بمعنى أصح اول خيط يدل على هوية صخر.
_زيد شاب مدلل حنون إدارة أمر طبيعي نظرا للتربية اللي تلقاها من والديه وحب عيلته الكبير ليه وخصوصا بعد اختفاء يوسف.

*اتمنى اكون كدا قدرت اجاوبك عن استفساراتك بدون ما أحرق لك الأحداث القادمة.. ولا حرمني الله من تعليقاتك الحلوة❤
*أما عن صور الأبطال فبإذن الله هكلمك إحدى المشرفات بخصوص الأمر دا لإني بصراحة جديدة هنا مش عارفة ازاي انزلهم.. لكن ممكن انزلهم على صفحة الفيسبوك الخاصة بالمنتدى ولو أنتِ عضوة فيه عرفيني أعملك منشن على البوست لما ينزل بإذن الله.


الساعة الآن 05:04 PM

Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.