شبكة روايتي الثقافية

شبكة روايتي الثقافية (https://www.rewity.com/forum/index.php)
-   الروايات الطويلة المكتملة ضمن سلاسل (وحي الاعضاء) (https://www.rewity.com/forum/f394/)
-   -   صك غفران (2) .. سلسلة وصال النهرين *مميزة ومكتملة * (https://www.rewity.com/forum/t459009.html)

وفاء حمدان 05-10-19 09:52 PM

صك غفران (2) .. سلسلة وصال النهرين *مميزة ومكتملة *
 

https://upload.rewity.com/uploads/154089255098181.gif

صك غفران
https://upload.rewity.com/uploads/157045537603011.jpg



بسم الله الرحمن الرحيم
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمدلله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه أجمعين
سعيدة بعودتي لمشاركتكم الجزء الثاني من سلسلة وصال النهرين و اللي هايكون بعنوان "صك غفران" بإذن الله.. احنا ارتحلنا بالجزء الأول " سهام عشق" مع سهام و أمجد و نزار و أحمد و إيمان و صار لازم نكمل الحكاية.. أتمنى لكم متابعة ممتعة عزيزاتي...


بحب أنوه إن الفصول هاتكون يومي الاحد و الخميس في الثامنة مساء بتوقيت القاهرة بإذن الله..


روابط الفصول

الفصل الأول .... المشاركة التالية
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر والخامس عشر نفس الصفحة
الفصل السادس عشر
الفصل السابع عشر
الفصل الثامن عشر
الفصل التاسع عشر
الفصل العشرون والحادي والعشرون نفس الصفحة
الفصل الثاني والعشرون
الفصل 23، 24 نفس الصفحة
الفصل الخامس والعشرون
الفصل السادس والعشرون
الفصل السابع والعشرون
الفصل الثامن والعشرون
الفصل التاسع والعشرون
الفصل الثلاثون
الفصل الحادي والثلاثون
الفصل الأخير



وفاء حمدان 05-10-19 09:54 PM

الفصل الأول
 

الفصل الأول:
نفضت لحافها عن جسدها المتعرق وجلاً لتنهض عن السرير و تتجه نحو النافذة فتفتحها على وسعها تعبُ من نسيم الليل الساكن و قد أمعن في دجنته.. ارتكزت بمرفقيها على حافة النافذة السفلية تتطلع للقمر و النجوم و السيارات المركونة في الأسفل.. لا يوجد بشر إلا القلة في هذا التوقيت.. لا شيء يرقى لأن يلهيها عن أفكارها، يجافيها النوم منذ أن بدأ ذاك الحلم ينغص سباتها حتى باتت تخشى النوم جزعاً من رؤياه.. تشعر به كما أنياب الذئب التي تنهش عقلها المغيب تحرمه سلوى الراحة.. في صغرها كلما جزعت من كابوس تذهب لوالدتها فتقصص عليها الأمر لينقطع عنها.. استطاعت والدتها أن تطرد الأحلام التي تزعجها ( فكرت متفكهة في نفسها ) لكن ما معنى هذا الحلم و لما يأتيها بتلك الصورة الواقعية حتى تشعر أنها تعيشه بالفعل؟ إن صدق الحلم و كان بالفعل رؤيا فهذا يعني أنها على شفير حدث سيقلب موازين استقرارها و يهد الأعمدة التي تسند حياتها الموحشة ( و هل يضير؟ ) تساءلت.. في أحيان قد يكون علينا أن نقلب حياتنا رأساً على عقب و نهد المعبد فوق رأسنا كما يقولون و بأيدينا كي نشعر بأننا نعيش و لسنا مجرد أرواح باهتة تعيش داخل أجساد تعمل بآلية مقيتة، تنهدت بسأم من تصارع الأفكار داخل رأسها و تمددت بجذعها على السرير تحاول استجلاب خدر النوم لعلَها تنام فيرتاح الفكر الهنيهة.

" بسم الله الرحمن الرحيم.. الحمدلله رب العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يوم الدين * إياك نعبد و إياك نستعين * إهدنا الصراط المستقيم * صراط الذين أنعمت عليهم * غير المغضوب عليهم * ولا الضالين ".
مسحت وجهها براحتيها قبل أن تنحني و تستند بركبتيها على التراب لتنظف بيديها الحشائش الضارة و تغرس بعض شتلات الورد الزاهي و لسانها يلهج لهما بالدعاء بالرحمة و المغفرة.. ليس لهما الآن إلا الولد الصالح ليدعو لهما، جلست في المسافة الضيقة الفاصلة بين القبرين و هي تنفث أنفاسها الحارة بأسى.. قد أعيتها الوحدة.. و أسقمها التوق.. ليس لها للبكاء من سبيل فقد جفت المآقي منذ سنة كريتة و قبلها سنة اعتصرت عيناها كل ما فيها من دمع.. سنتان قد انقضيتا على فراق الأب و الحامي و الصديق.. سنتان كظيمتان تدثرت فيهن بدثار الحزن لا تخلعه.. كيف لها بنفضه عنها و قد استحالت حياتها لصحراء جرداء ممتدة لا غيث فيها و لا فيء.. هي لم تعي وفاة والدتها إذ كانت من العمر القصير لئلا تتذكر أي من تفاصيلها.. مع هذا كانت تأتي لقبرها كل حين تدعو لها و تحادثها و تخبرها كيف مضت عليها الأيام.. أما الآن فهي تكاد أن تحرث طريق المقبرة من كثر زياراتها.. لا تقوى على الفراق و لا على البعد.. كما كان يقول لها والدها دوما
" إن في الاشتياق شقاء " و قد صدق، شرعت تحدثهما و تخبرهما تفاصيل أيامها من آخر زيارة لها منذ أيام.. سردت و اشتكت.. تنهدت و هزأت ثم خصت والدتها بالحديث و هي تحدثها عن الحلم الذي يشج مأمن منامها منذ عدة ليال مضت و كل ليلة من حينها.. تأمل أن يحدث ما حدث كما السابق و ينقطع الحلم ما أن تسرده على والدتها..تحدثت حتى أنهكها الحديث فآثرت أن تشارك القبور صمتها، لم تعي على نفسها حتى التقطت عيناها حارس المقبرة لتوقن أن الشمس قد أوشكت على المغيب.. هذه عادته يتركها تختلي بالأموات حتى يقترب الغسق فيظهر نفسه بإشارة أن قد حان وقت المضي، نهضت عن مقامها و نفضت ثوبها لتتجه إليه و خيال ابتسامة يتشكل على ثغرها.. تشكره اهتمامه و تنقده بعض المال ليبالغ في الاعتناء بالزرع حول القبرين.. فالأموات يسلمون بالزرع.

قادت سيارتها باتجاه سكن الطالبات الذي تقيم فيه منذ سنة و نصف.. صمدت ستة أشهر في منزلها مع ذكرياتها و والدها و قاومت و حاربت وساوس الحزن دون جدوى و بالرغم من إلحاح عمها نزار للإقامة لديهم لكنها رفضت بشكل قاطع.. لن تكون عبئاً على أحد.. تعلم أن صديق والدها و أخيه في الدنيا لن يعدها عبئاً لكنها لم تكن لتستطيع أن تشعر بشعور أهل الدار لا الضيف.. مهما كان لن يكون بيتها و هو لا يربطه بها رابط الدم حتى لو كانت متهدلة في زمننا هذا.. فاختارت المكوث في إحدى الشقق السكنية لدى بناية الطالبات المغتربات كحل مهادن، ترجلت من سيارتها لتلج من مدخل البناية و منها إلى المصعد فشقتها المتواضعة.. أغلقت الباب بإحكام قبل أن ترمي المفاتيح بلا مبالاة للمنضدة المجاورة للباب و من ثم كان الاستحمام هو أجمل الحلول لنفض غبار الوهن عن جسدها.
استقرت على فراشها الوثير و هي تموضع الحاسب المحمول على ساقيها الممدودتان و شرعت تقلب بالصفحات على شبكة التواصل الاجتماعي ( الفيس بوك ) بسأم حتى التقطت عيناها صفحة مخصصة للمشاكل الاجتماعية و التي يسرد فيها الشخص مشكلته بشكل سري دون إظهار شخصيته الحقيقية و للمفارقة فقد كانت الصفحة تختص بالغالب بمشاكل الشعب المصري.. أمضت قرابة الثلاث ساعات و هي تقلب بالمشاكل تقرؤها بصمت تارة و بتعليق لاذع أو مواسٍ تارة أخرى حتى أكل منها التعب مأكله لتحرك رقبتها تفك تشنجها المقيء قبل أن ترمي برأسها للخلف ساندةً إياه على وسادتها الموضوعة بشكل قائم و شرعت تفكر بحياتها و وحدتها مرة أخرى.. دخولها لهذه الصفحة ما كان إلا اشتياقاً لحياة و عائلة لم تعرفهم قط.. هم من تبقى من أهلها لكن... و آآآه من تلك الـ لكن.. هناك جدران عازلة و سياج صاعقة تمنعها من الاقتراب من تلك المنطقة المحرمة " أهل والدتها " الذين تنكروا لوالدتها بعد أن اختارت أن تعيش.. فقط تعيش.
عادت تحدق بشاشة الحاسب و هي تبث المزيد من مشاكل الأعضاء تقرؤها بشرود و فكرة واحدة تلوح بأعلامها في ذهنها.. و في لحظة شجاعة منها أجلت رهبتها و ارتدت عباءة الإقدام لتنقر بأناملها على الحروف مشكلة منها مشاركة على تلك الصفحة.



مضت الأيام بروتينية معتادة بين دوامها في المصرف و اعتزالها الأنام في الركن الصغير في شقتها الذي خصصته لكتبها.. تقرأ و تنهم الكلمات و الأفكار.. تجد فيها خلاصة الحياة و ارتقاء الروح.. ثم تحادث صديقتها بيان و التي هي بمنزلة الأخت وقد ابتدأت صداقتهما في المرحلة الإعدادية لتمتد و تشتد كما الوتد حتى أنهوا المرحلة الجامعية سوية و قد تخرجا من نفس التخصص.. علاقة أخوة لا تتكرر كثيرا في هذا الزمن و هي تحمد ربها دوما على وجودها في حياتها.. و كما هي العادة هاتفت نور صديقتها تبثها حزنها و تقصص عليها ما فعلت في تلك الليلة أمام شاشة الحاسب و بالتالي قرارها الذي اتخذته لتؤازرها بيان بالرغم من بعض الخوف و التوجس لكنها تعلم أن صديقتها لابد لها أن تهزم أشباح الماضي و تحاول التعرف على أهلها ففي نهاية المطاف هذه هي الحقيقة الساطعة كما الشمس.. هم أهلها، و كعادة كل يوم جمعة هاي هي ترتشف كوب الشاي في منزل عمها نزار بعد وجبة غداء عامرة من صنع يدي زوجته سارة.
يناظرها بتحسر.. فتاة في عمر الزهر تذوي أمام عينيه دون حول منه لانتشالها من عزلتها و هوان روحها عليها.. روحها التي جفت و احترقت بعد وفاة والدها و من قبله جديها لتذروها الرياح رماداً في كل اتجاه.. تنهد يستجمع قوته ليعيد على مسامعها نفس السؤال المكرر:
- لمتى يا نور حبيبتي؟
رفعت كلا حاجبيها و ابتسامة متعبة شكلتها شفتيها لتجيب سؤاله بسؤال:
- ما مليت من هالسؤال عمي؟
حافظ على ثبات قسمات وجهه و نظراته و هو يجيبها بحزم:
- ما راح أمل يا نور.. هاي وصية أبوكي إلك إنك ما تغرقي بالحزن.. إنتي هيك بتعذبيه بقبره مش معنى إنه الأموات مش عنا بطلوا يحسوا فينا.. أقل ما فيها أوفي بوصيته و ما تدفني حالك بالحزن، بعدين تعالي جاي.. إنتي حتى جيزة رافضة تتجوزي و الأسبوع الماضي رفضتي العريس اللي أبصر شو رقمه.. لمتى يعني هالحالة؟
أسندت كوب الشاي إلى المنضدة و همت أن ترد على هجومه ليقاطعها بإشاحة باترة من يده مردفاً:
- لا تعيديلي اسطوانتك المحروقة إنه لو همي متعبك و الا لو متضايق من وجودي بحياتك ببعد و الخرابيط هاي.. إنتي بنتي و بخاف عليك زي ما بخاف على أولادي.. فالله يرضى عليك يا بنتي هونيها و افتحي قلبك خلي النور يدخله.
أسندت رأسها للخلف تناظر السقف بشرود و لم تشعر بسارة التي جاورتهم بجلستهم و بعد ثوانٍ صامتة نطقت بآخر شيء توقع في جحيم كوابيسه أن تنطق به:
- بصراحة انا صارلي مدة بفكر أروح أزور أهل أمي في مصر.
هب نزار واقفا و عيناه قد جحظتا بشكل مخيف ليهدر بها موبخاً:
- انتي انجنيتي.. أنا بقولك إعقلي و شوفي حياتك اتزوجي و جيبي أولاد و عيشي حياة طبيعية و بالأخير جاي تقولي بدي أروح عند اهل أمي؟!! إنتي بتعرفي إنهم أهدروا دم أمك و اتبروا منها.. كيف بدك تروحيلهم و شو متوقعة تلاقي عندهم غير الطرد و قلة القيمة.
ضرب الكف بالكف و هو يتلفظ بكلمات تدل على قلة حيلته و طلبه العون من الله لإقامة عقل صغيرته الذي حاد عن طريق التعقل، التفت إليها بعينين ترسلان شرارات اسودت من شدة احتراقها ليقول محتدا:
- بتعرفي يا نور انتي عاملة زي شو؟ عاملة زي اللي كفر بالنعمة.. جحد بالجنة بعد ما نفسه سولتله إنه بالضفة التانية في جنة أجمل و هو عارف إنه في احتمال جدا قوي ما يلاقي غير الجحيم لكن شو بدك تقولي بنفس البني آدم.. ما بيرضى بنصيبه!!
عقدت حاجبيها و هي تنظر له باستنكار من الهجوم الذي شنه عليها لتقول بتأنيب:
- أنا كافرة بالنعيم يا عمي؟؟ هاد رأيك فيي!! لعلمك مرات الصبر على النعيم بيكون أشد و أصعب من الصبر على القحط.. ثانيا شو هاد النعيم اللي بتحكي عنه؟! أنا بدي يكون إلي أهل و عزوة ليش أحرم حالي منهم و هم موجودين .. المنطق بيحكي انه الواحد المفروض يخوض التجربة حتى لو فشل فيها بالأخير مشان يطلع من خطية حاله و لا إنه يمضي فيه العمر لحد ما يتمنى يرجع فيه و يعمل اللي كان نفسه فيه...و ما تفهمني غلط يا عمي إنت بمقام الوالد صحيح بس كمان في حسرة بقلبي إنه إلي أهل و مش قادرة أقرب منهم.. اللي إنت خايف منه اندفن من زمان و الزمن كفيل إنه ينسي الناس أحقادهم و أنا عم براهن على هاد الإشي.
لم تخبره عن مشاركتها قصتها ضمن صفحة مشاكل على الفيس بوك.. ببساطة هو لن يفهم.. هي بحاجة لمشورة موضوعية من أناس خارج إطار الصورة أما عمها نزار فشهادته ستكون مجروحة و ضغائنه القديمة هي ما ستحركه لتحجب عنه رؤيا تصدع روحها الجافة و التي تبتغي ارتواءً لن يكون هو أهل له للأسف، قد قصت عليهم الحكاية ابتداءً من والدتها و اجبارها على الزواج الذي هربت منه لحياة من اختيارها و أنهتها بتعبيرها عن مشاعر الوحدة التي تتلبسها لتأتيها أغلب الردود أن إذهبي لأهلك حتى لو صدوكِ أول مرة و ثاني مرة.. هم أهلك أولا و آخرا و انت دمهم و عرضهم.. بالنهاية سيرضون و لا تتخاذلي حتى يمضي بك العمر و تتمنين لو أنك أخذتي تلك الخطوة من قبل و تندمين على الوقت الذي فات دونهم بالنهاية لست أنت الملامة على ما حدث بالماضي، إلا أن بعض الردود كانت تجحم عزيمتها و هم يحذرونها من الذهاب فقد يقتصون من فعلة والدتها بشخصها هي و حتى إن لم يفعلوا.. هم لن يتقبلوها أبداً لكن بالنهاية هي حسمت أمرها.. هي مستعدة للمجازفة و دخول غمار الحرب لتقتنص حقها في حياة سوية في كنف عائلتها ، كانت غارقة في تفكيرها غافلة عن نزار الذي يراقب توتر خلجات وجهها ليجفلها من سرحانها بقوله:
- شكلك مبيتة الموضوع من زمان و ماخدة قرارك .. طب لشو جاي تساليني؟ و الا بتبلغيني رفع عتب؟!
نظرت بحب ترافقها ابتسامة حنونة لتقول تحاول استدرار عطفه:
- ما عشت و لا كنت يا عمي.. إنت تاج فوق راسي و كلمتك سيف على رقبتي.. بس بدي تفهمني أنا في جواتي شوق مش قادرة أفسره لأي شي من ريحة أمي.. بحياة والدي فتحت الموضوع مرة معه و كان رده رادع شديد اللهجة بس الموضوع ما غادر بالي و لهلأ و هي أمنية حابة أحققها بغض النظر عن نتائجها.
كان التدخل هذه المرة من نصيب سارة التي قالت من وجهة نظر موضوعية غير متحيزة:
- و الله يا حبيبتي أنا بقدر أستوعب اللي بتحكيه و إذا هالموضوع عم بيلف و يدور براسك خلص روحي و جربي مشان يرتاح بالك و نقلع هالموضوع من شروشه.. و يا عالم يمكن فعلا يتقبلوك و يعوضوا فيكي فراق بنتهم.
قالت كلماتها و هي تنظر لزوجها ترسل له رسالة مخفية " أن لا تخسرها بتعنتك ".. زفر نزار أنفاسه بصوت مسموع قبل أن يتسغفر ربه و يلتفت لنور و يقول ببتر:
- " خلص حبيبتي.. إذا إنك مصممة بنروح أنا و اياكي على مصر و بنزور أهلك و بنشوف شو ميتهم ( مياههم ) بس ( شدد على الكلمة ) مشان يرتاح مخك من التفكير و بلكن تغيرت نفسيتك و طلعتي من جو الحزن اللي دافنيتلي حالك فيه.
ابتسمت نور باتساع و هي تغمزه بشقاوة قبل أن تلتقط طبق الحلويات من أمامها و تقطع منه بالشوكة و تقدمها لعمها ليحرك رأسه للجانبين بقلة حيلة مفوضاً الأمر لله قبل أن يتلقف اللقمة بفمه.. و ما أن تأكدت نور أن فمه أصبح ممتلئاً .. ألقت بما تبقى في جعبتها:
- عمي أنا بدي أروح لحالي.. مش حابة يحسوا إني متخوفة منهم فجبت وصي علي.. غير هيك أنا بعرفك راسك حامي و ما راح تتحمل منهم كلمة لكن انا بالي واسع.. فتوكل على الله و خلي المركب يمشي.
انتابته نوبة سعال بعد أن كاد أن يغص بلقمته لتسارع نحوه زوجته بكأس من الماء و تنحني بجذعها مقربةً شفتيها من أذنه تسرَه :
- شوي شوي عالبنت ما صدقنا متى بلشت تبتسم و تحكي من قلبها.. خلص خليها براحتها و احكي مع احمد يتابعها.
غمزت له ليبتسم لها بحب و امتنان.. يشكر الله دوما أنه رزقه حبها و السكن إليها.. زوجته قرة عينه و المنارة التي ترشده سواء السبيل حين يشعر أنه على أعتاب أرض الظلمات.
وزع نظراته بين وردتيه قبل أن يثبتها على الوردة الذابلة ليقول قوله الأخير:
- ماشي أنا مش راح أضغط عليكي.. بس مش معناته إني أتهاون كثير يعني من الآخر إذا بدك تروحي على مصر بتروحي بالأول عند عمك أحمد هناك و بتقعدي عندهم و أنا بحكي معه مشان يجيبلك عنوان أهلك و بخليه يتابعك .. و بالله عليكي يا بنتي إسمعي كلمته و ما تشتغلي من شور راسك أي حركة بدك تعمليها بتبلغينا فيها بالأول و بتشاورينا.. و هاد آخر حكي عندي.
طوال حديثه كانت تكتم هي ضحكاتها من حمائيته الشديدة عليها.. ليته كان عمها بحق لكانت ارتمت في التو في أحضانه تنشد حنانه الوافر.. أومأت له بركازة و هي تشير بإبهامها على عينيها برسالة ( من عيوني ) ثم وضعت كفها على رأسها لتختم بـ ( كلامك على راسي من فوق ).
و بهذا قد كان لها ما أرادت.

قبل رحيلها توجهت بزيارة وعد باللقاء لقبري والديها.. وعدت والدها بالحكمة و الصبر و تأسفت لكسر وصيته بالابتعاد عن ذاك الطريق وتأملت تفهمه كما سابق عهدها به.. لتنقل بصرها لقبر والدتها و هي تعدها أن توصل سلامها و حنينها الذي استمر معها لآخر نفس في صدرها.

تجلس في المقهى المخصص للمغادرين في المطار بانتظار إقلاع الطائرة للأراضي المصرية.. تبتسم كل حين حتى بدت كمن مسه طيف من الجنون للناظرين و هي تتذكر تمسك عمها نزار بيدها لا يبتغي إفلاتها حتى اضطر إبنه أمجد و الذي يصغرها بعامين أن يفك تشابك الأيدي بالقوة ليتسنى لها المغادرة.. تذكر توصياته و كلماته المحذرة و نصائحه و تأكيده أن تتصل به لدى أي مشكلة تواجهها ليحجز على أول طائرة مغادرة إليها على الفور.. كم هي محظوظة بوجودهم في حياتها.. بالرغم أن لا صلة دم تجمعهم لكن وصل الأرواح و الزمن المشترك مع أبيها أكثر غلظة من وصل الدم.. قد كان " أخ دنيا " بحق لوالدها.
ارتشفت القليل من مشروب النسكافيه الذي طلبته و أخذت تقلب بصفحات دفتر قديم بين يديها " مذكرات والدتها " كانت والدتها حريصة أن تكتب كل تفاصيل حياتها بعد ان اكتشفت مرضها.. و أصرت أن تنهي معظمه قبل أن يشتد سقمها فلا يتبقى لها من كتابة سوى خطوط النهاية.. أخبرتها عن طفولتها.. بلدتها .. أهلها .. جامعتها.. لقاؤها بوالدها و رسائله إليها التي أودعتها داخل المذكرات يحتضنها شريط قرمزي باهي اللون وقتما لم يكن يمثل لوالدتها سوى عاشق مجهول.. حبهما السرمدي الذي تحدى المستحيل ليثمر عنها " نور".. أمها انتقت الإسم لتكون طفلتهما منارة لوالدها و هي متيقنة أنه سيخطو نحو الظلام ليلفه السواد برحيلها و قد أكد لها ذلك بأكثر من مناسبة حين كان يحثها أن تحارب لتبقى من أجله معترفاً أنه و بكل فخر أناني في حبها.. لكن ليس لنا من أمر الله شيء فلتكن ابنتهما النور الذي ينتشله من هلاك الروح قبل الجسد.
أسندت خدها على قبضتها المضمومة و كوع ذراعها يستند إلى الطاولة و الذكريات تسحبها للبعيد.. لسنوات عمرها الأربع و العشرون أو لنقل من الوقت الذي بدأت تعي فيه الأمور من حولها و تختزن بذاكرتها مشاهد الحياة.. طفولتها في كنف والدها و جديها رحمهم الله.. كم كانوا رحماء بها و أغدقوا عليها بالحب و الدلال.. أباها الذي اعتزل النساء و فكرة الزواج من بعد والدتها مكتفيا بذكراها تؤنسه في لياليه الموحشة.. كدَ و اجتهد حتى أصبح من أرقى جراحي الدماغ و الأعصاب في الأردن.. حياته كانت طفلته و والداه و عمله.. حتى اختارهما الله تباعاً كأن قدر فراق الأحبة هو نصيبه من الدنيا.. لكنها كانت هناك تشد عضده و تقيم هامته ما أن تلحظ انحناءها.. تشتاقه و لا تعلم كيف ستمضي بعزيمة رغم نصل التوق المغروس في فؤادها.. هطلت عبراتها برقة من عينيها الزرقاوين كما والدها و هي تتذكر كيف كان دوما يناكفها في صغرها بأنها قد سرقت عيناه فيركض خلفها مرعباً إياها أنه سيسترد عيناه منها لتتلقفها احضان جدتها الرؤوم و هي تنهر ولدها عن إخافته إياها.. تنهدت بحسرة على أيام لن تعود.. فالحمدلله على الذكرى لتكون ونيسنا حين يشتد صقيع الحزن بقلوبنا.
تفاصيل الحلم عادت تهاجم وعيها بضراوة.. تقف على حافة هاوية سحيقة تنظر للأسفل المظلم لتخطو بكامل إرادتها لما بعد الحافة و من بعدها يأتي السقوط الذي لا يكتمل و تلك اليد تقبض على كفها تبتغي انتشالها دون أن تتبين صاحبها.. استغفرت ربها بسرها تحاول نفض ذكرى الحلم عن ذهنها لما يتركه من أثر قاسٍ في روحها، هل يعقل أنها رؤيا لما هو قادم و ما ينتظرها لدى اهلها في مصر؟! أليس قد مات ما فات؟ ربما لا ( فكرت مستهزئة ببراءة أفكارها ) السواد الأعظم من البشر لو ماتوا مئة مرة فكل مرة يبعثون فيها سينقبون خلف أحقادهم الآزلة.. ينشدون الثأر و يطلبون القصاص لا يقربهم طيف النسيان.. صدق من قال (الأسى لا ينتسى) يتشدق البشر بالرحمة و يمننون بها و يستسهلون القسوة و يغالون بها.
هل تعيب أو تلوم والدتها على فعلتها.. تتذبذب بين الصوتين.. صوت يخبرها أنها قد خانت عهدها مع أهلها و دفست رؤوسهم في التراب كما النعام لا يرجون من بعد مقترفها ضياء شمس.. و صوت يصر أن أحيانا في الهروب الخلاص.. الهروب قد يحتاج إلى شجاعة تفوق المواجهة بمرات.. ألا يقولون ( الهريبة ثلثين المراجل ) خاصة و هي كانت بين خيارين أحلاهما علقم و الآخر شوك من زقوم.. أن تطأطئ رأسها و هي تقف على حافة البئر السحيق تنتظر أهلها و عزوتها ليركلوها لغياهب الجب أم تختض و تزأر نافضةً عباءة الخنوع و ثوب الجواري لتبعد الجميع عن دربها و تطلق ساقيها للريح العتية تبتغي حياة كريمة حتى لو انتقصت منها قرب أهلها.. ربما لو كانت مكانها لمضت في نفس الدرب و لو كان فيها فراق الأهل.. لا تعلم ربما!!
أمامها مهمة مستحيلة.. لا تعلم لأي حال أصبح جدها.. هل ما زال حيا.. فظاً غليظ القلب كما سمعت عنه أم قد طوعت قلبه السنون ليشق نور الرأفة عنفوانه؟! الله المستعان على ما هو آت.

وصل لمسمعها التنبيه بالتوجه نحو البوابة المخصصة للمغادرين إلى جمهورية مصر العربية.. التقطت حقيبتها الصغيرة بيدها و بيدها الأخرى تقبض على ذكريات والدتها المخطوطة لتمضي نحو بوابة الطائرة بخطوات متحمسة و رهبة باردة تدغدغ حواسها فتشعر أنها على وشك أن تبدأ مغامرة من نوع جديد.. ربما بداية جديدة ستكتب في كتاب حياتها.. أو الأروع نهاية لحكاية غضب و حقد قديمة قد آن الوقت أن تكتب كلمات النهاية لها.



غدا يوم اخر 06-10-19 07:24 AM

تحمست علي القصه هل تقابل شخص يمنعها من الذهاب الي اهل والدها ام شخص يعتني بها وهي فاقده الذاكرة فالسواد حق مجهول
ومتشوقه لمتابعة التكمله

وفاء حمدان 06-10-19 08:14 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة غدا يوم اخر (المشاركة 14524560)
تحمست علي القصه هل تقابل شخص يمنعها من الذهاب الي اهل والدها ام شخص يعتني بها وهي فاقده الذاكرة فالسواد حق مجهول
ومتشوقه لمتابعة التكمله

حبيبتي ما هاتفقد الذاكرة.. الجزء الأول قصة والدة نور اللي هربت من اهلها بعد ما كانوا بدهم يزوجوا لوأد الثأر و اتزوجت اللي بتحبه الطالب الاردني و سافرت معه الاردن و اهلها اتبروا منها و حكوا انها ماتت.. بهاد الجزء هانشوف قصة بنتهم و كيف هاتوصل لأهل امها و شو العقبات.. جزيل الشكر عزيزتي

غدا يوم اخر 06-10-19 08:35 AM

اعرف ان سهام امها بس يمكن يصيرها حادث ويستغلها اهل امها مذا
والله الموقف صعب لما يقولو بنتهم ماتت وتطلع لها بنت بيطلع فضيحة في الصعيد

حنان الرزقي 06-10-19 08:57 AM

السلام عليكم احداث حزينة ومربكة ومشوقة للمتابعة ممكن رابط الجزء الاول من فضلك

وفاء حمدان 06-10-19 09:38 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة غدا يوم اخر (المشاركة 14524606)
اعرف ان سهام امها بس يمكن يصيرها حادث ويستغلها اهل امها مذا
والله الموقف صعب لما يقولو بنتهم ماتت وتطلع لها بنت بيطلع فضيحة في الصعيد

فعلا هاتكون فضيحة بس المشكلة ما هاتكون بس بالفضيحة.. انتظري المزيد من التشويق

وفاء حمدان 06-10-19 09:40 AM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة حنان الرزقي (المشاركة 14524623)
السلام عليكم احداث حزينة ومربكة ومشوقة للمتابعة ممكن رابط الجزء الاول من فضلك

من عيوني..
https://www.rewity.com/forum/t432532.html

modyblue 06-10-19 12:54 PM

في أحيان قد يكون علينا أن نقلب حياتنا رأساً على عقب و نهد المعبد فوق رأسنا كما يقولون و بأيدينا كي نشعر بأننا نعيش و لسنا مجرد أرواح باهتة تعيش داخل أجساد تعمل بآلية مقيتة،

modyblue 06-10-19 01:24 PM

إن في الاشتياق شقاء

modyblue 06-10-19 01:30 PM

مرات الصبر على النعيم بيكون أشد و أصعب من الصبر على القحط

modyblue 06-10-19 01:38 PM

فالحمدلله على الذكرى لتكون ونيسنا حين يشتد صقيع الحزن بقلوبنا.

modyblue 06-10-19 01:42 PM

شقاء القلب أن تُحِبّ، ولا تستطيع الاقتراب، ولا الابتعاد، ولا النسيان! ...

modyblue 06-10-19 01:45 PM

السواد الأعظم من البشر لو ماتوا مئة مرة فكل مرة يبعثون فيها سينقبون خلف أحقادهم الآزلة.. ينشدون الثأر و يطلبون القصاص لا يقربهم طيف النسيان.. صدق من قال (الأسى لا ينتسى) يتشدق البشر بالرحمة و يمننون بها و يستسهلون القسوة و يغالون بها.

modyblue 06-10-19 01:46 PM

أحيانا في الهروب الخلاص.. الهروب قد يحتاج إلى شجاعة تفوق المواجهة بمرات.. ألا يقولون ( الهريبة ثلثين المراجل )

modyblue 06-10-19 01:48 PM

لا تعلم لأي حال أصبح جدها.. هل ما زال حيا.. فظاً غليظ القلب كما سمعت عنه أم قد طوعت قلبه السنون


ليشق نور الرأفة عنفوانه؟! الله المستعان على ما هو آت.



. ربما بداية جديدة ستكتب في كتاب حياتها..

أو الأروع نهاية لحكاية غضب و حقد قديمة قد آن الوقت أن تكتب كلمات النهاية لها.

modyblue 06-10-19 01:51 PM

نور وصك الغفران
بداية جميلة مشوقه وعود احمد لمبدعتنا الجميله وحشتينا ومتشوقة جدا ل الجزء التاني من الرواية برغم حزن النهاية والبداية لدينا نور لتنير قلوب تحجرت وقست وتحصل من براثن الاحقاد عل صك غفران لامها
هل خطوة صحيحه ام لا سنعرف معك
الف مبرووووك البداية المتميزة ومنتظرينك بشوق
وفقك الله

modyblue 06-10-19 01:53 PM

‫الجري نص الجدعنه ‬‎
لو هتقلب عكننه الجرى نص الجدعنه .

ربنا يستر يا نور بقي
وخاثه مع جدك وخالك الجرى كل الجدعنة

ام زياد محمود 07-10-19 12:35 AM

الف مبروك نزول الجزء التانى ياحبيتى ربنا يوفقك يارب

البداية مشوقه جدا وفى شوق لمعرفة اللى هيحصل فى اللقاء بين نور وجدها
وهل هيقبلوا بدخولها حياتهم ولا هيرفضوها او يعاملوها معاملة سيئة

وفعلا رب اخ لك لم تلده امك ونزار كان نعم الاخ لأبو نور ونعم الحامى والمدافع عنها

بداية مشوقه جدا تسلم ايدك

hanin ahmad 07-10-19 02:08 AM

وبدأنا المشوار مع نور القوية الحكيمة رغم صغر سنها
ال ف مبروك يا فوفه الرواية من أجمل ما قريت 🌹🌹

هالة حمدي 07-10-19 01:29 PM

مبارك النشر يا فوفة...
بالتوفيق يا رب♥♥

وفاء حمدان 07-10-19 01:34 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة modyblue (المشاركة 14524887)
في أحيان قد يكون علينا أن نقلب حياتنا رأساً على عقب و نهد المعبد فوق رأسنا كما يقولون و بأيدينا كي نشعر بأننا نعيش و لسنا مجرد أرواح باهتة تعيش داخل أجساد تعمل بآلية مقيتة،

ليكي وحشة يا قلبي

وفاء حمدان 07-10-19 01:35 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة هالة حمدي (المشاركة 14526910)
مبارك النشر يا فوفة...
بالتوفيق يا رب♥♥

الله يبارك فيك يا قلبي.. ربي يسعدك و يوفقك

وفاء حمدان 07-10-19 01:38 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة modyblue (المشاركة 14524932)
مرات الصبر على النعيم بيكون أشد و أصعب من الصبر على القحط

حبيبتي مودي تسلميلي يا رب

وفاء حمدان 07-10-19 01:43 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة modyblue (المشاركة 14524965)
نور وصك الغفران
بداية جميلة مشوقه وعود احمد لمبدعتنا الجميله وحشتينا ومتشوقة جدا ل الجزء التاني من الرواية برغم حزن النهاية والبداية لدينا نور لتنير قلوب تحجرت وقست وتحصل من براثن الاحقاد عل صك غفران لامها
هل خطوة صحيحه ام لا سنعرف معك
الف مبرووووك البداية المتميزة ومنتظرينك بشوق
وفقك الله

حبيبتيييي مودي سعيدة انه البداية نالت اعجابك عزيزتي.. معلش سهام و امجد ما كان ينفع يضلوا معنا مشان تزبط الاحداث ههههه

وفاء حمدان 07-10-19 01:45 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ام زياد محمود (المشاركة 14526127)
الف مبروك نزول الجزء التانى ياحبيتى ربنا يوفقك يارب

البداية مشوقه جدا وفى شوق لمعرفة اللى هيحصل فى اللقاء بين نور وجدها
وهل هيقبلوا بدخولها حياتهم ولا هيرفضوها او يعاملوها معاملة سيئة

وفعلا رب اخ لك لم تلده امك ونزار كان نعم الاخ لأبو نور ونعم الحامى والمدافع عنها

بداية مشوقه جدا تسلم ايدك

عزيزتي ام زياد جزيل الشكر غاليتي.. فعلا علاقة أمجد و نزار و احمد علاقة جدا جدا رائعة من أجمل الروابط اللي كتبت عنها

وفاء حمدان 07-10-19 01:55 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة hanin ahmad (المشاركة 14526306)
وبدأنا المشوار مع نور القوية الحكيمة رغم صغر سنها
ال ف مبروك يا فوفه الرواية من أجمل ما قريت 🌹🌹

حبيبتي حنووون تسلميلي يا غالية ما انحرم منك

وفاء حمدان 10-10-19 08:32 PM

صبايا خلينا نتفق.. بدنا نوسع التفاعل شوي يعني لو شوية بوستات بجروب الفيس لوحي الاعضاء و تعليقات هون و انا مني هاقدم السبت مشان الاقي الاحد.. النشر هايكون تلات ايام بالاسبوع بإذن الله احد و ثلاثاء و خميس.. أسعدكم الله و الان اترككم مع الفصل الثاني

وفاء حمدان 10-10-19 08:34 PM

الفصل الثاني
 
الفصل الثاني:
" ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ "
" إن شاء الله آمنين " رددتها مرة أخرى علَ السكينة تستدل طريقها نحو قلبها في حين رياح الخوف و أمواج الرهبة المتخبطة تحيط به من كل صوب، قسمات وجهها متشنجة للغاية و هي لا تعلم بأي أرض خطت قدماها و إلى أي منتهى ستؤول حكايتها.. استنشقت نفساً عميقاً و زفرته على مهل قبل أن تهز رأسها كأنما تنفض أي وساوس تتلبسه لتتقدم بخطى ثابتة ساحبةً حقيبتها المدولبة خلفها و هي تجول بأنظارها بحثاً عن عمها أحمد.. هي لم تلتقيه شخصاً لكنها تعرفه من الصور التي احتفظ بها أبيها و كان يتفقدها كل حين ليتذكر حسب قوله أيام هدأة البال.
التقطته عيناها لتجد أن اعصابها المشدودة قد ارتخت فجأة لمرآه و شعور بالسلام العارم قد غزاها.. اتسع مبسمها و لوحت بيدها له و هي تهرول تحاول العبور عبر الجموع لتلتقي به.. احتضنها بعينيه عوضا عن ذراعيه.. ابنة أخيه و صاحب العمر:
- نورتي مصر يا حبيبتي.. الحمدلله على سلامتك
- الله يسلمك عمو.. شكرا كتير الك بصراحة مش عارفة كيف بدي أتشكرك.
تغضن جبينه بضيق مجيبا إياها بغضب هزلي:
- إيه الكلام اللي بتقوليه ده.. انتِ بنت أخويا ربنا يرحمه ... يا ريت كنت شفتك من زمان بدل الصور اللي ابوكي كان بيذلنا فيها.. بس هو كان منشف دماغه ما يخطيش مصر أبداً.
تنهد للذكرى باشتياق ليتمم حديثه بدعائه:
- ربنا يرحمه و يغفرله هو و امك.. أهم بقيوا مع بعض دلوقت زي ما كان بيتمنى.
استشعرت غصة علقت بجوفها.. فألم الفقد لم يبرأ بعد..عضت باطن خدها في محاولة بائسة لكبح دموعها المتراقصة في مقلتيها و التي لم تخفى عن أحمد.. ليتخطى الحواجز و يحيط كتفيها بذراعه و هو يؤكد عليها:
- صدقيني هم الاتنين مرتاحين دلوقت و مش عايزين حاجة غير انك تكوني مبسوطة بحياتك.
أومأت له بابتسامه باهتة ممتنة قبل أن يستقل كلاهما السيارة متجهين نحو منزل أحمد و إيمان.

تلقفتها إيمان بالأحضان و اخذت تقبل خديها و تعتصرها بين ذراعيها و هي تكرر ( و الله أحلى من الصور ) و تارة ( واخدة عينين أبوكي يا قمر ) حتى ضجر أحمد منها ليبعدها عن نور بغلظة مصطنعة و هو يهتف:
- ما خلاص يا إيمان كده خنقتي البت.. هاتتخض منك.
ضحكت نور ملئ شدقيها و هي تنفي بحركة من رأسها :
- لا و الله يا عمو.. انا من كتر ما بابا حكالي عنكوا جد حاسة حالي مو غريبة بينكوا.. تانيا تنساش إحنا كنا نحكي عالتلفون.
أنهت عبارتها بتفكه مقصود تحاول أن تضفي لمسة حميمية مع أصدقاء والدها، أمن أحمد على حديثها و هو يتخذ مجلسا على أحد المقاعد في غرفة الضيوف و إيمان تحث نور على الدخول للغرفة المخصصة لها كي تستريح قليلا من عناء السفر قبل وجبة الغداء.
في المساء كان الثلاثة مجتمعين و إيمان تقلب بألبوم صور يضم صور أحمد و أمجد و نزار من أيام الدراسة و صور زفافهم كما صور أبنائها و أحمد:
- شوفي يا نور دي بنتي الكبيرة علياء أول ما خلصت جامعة اتجوزت زميلها و سافرت اسكندرية مع جوزها عشان جاله شغل هناك و أهي حامل دلوقت بالشهر الرابع.
أنهت كلماتها لتلتفت نحو زوجها و هي تقر بحنان فياض:
- الولاد كبروك يا ابو أدهم و هاتبقى جدو خلاص.
أكمل ارتشاف الشاي و هو يتابع نشرة الأخبار على التلفاز ليرد عليها باستفزاز:
- الشباب شباب القلب يا روحي.. و يكونش هابقى جدو لوحدي ما انتي كمان هاتبقي تيتة.
- يا اخوي أنا على قلبي زي العسل.
ابتسمت نور لمشاكساتهم الودودة لتقول بتهذيب:
- الله يحفظهم و ان شاء الله تولد علياء بالسلامة و تفرحوا بالبيبي.
أمن كل من أحمد و إيمان على دعائها لتعود إيمان بأنظارها لألبوم الصور و هي تشير لشاب بهي الطلة قائلة:
- أما الواد الحليوة ده بقى إبني أدهم حبيب مامته.. هو تانية هندسة بس في جامعة اسكندرية.. مع إنه بعيد عن عيني بس مطمنة إنه قريب من اخته و أهي كل كام يوم بتشأر عليه و هو بيشأر عليها.
- ان شاء الله بتفرحي فيه هو كمان.
علقت نور بحبور.
لتستمر الأمسية بين حديث الذكريات و مناكفات أحمد لإيمان مع سمة التبسم الدائم من نور.

في صباح اليوم التالي و بعد أن تناول الجميع إفطاره الذي تفننت به إيمان بمساعدة نور.. انتبذت نور بعمها أحمد في غرفة المكتب ليبدء الحديث العصي:
- عمي أنا مش حابة أماطل بالموضوع اللي إجيت مشانه.. يعني زي ما بيحكوا اللي عليك عليك و وقوع البلاء و لا انتظاره.
اومأ لها أحمد بتفهم و هو يقول:
- ربنا ما يجيب بلاء يا حبيبتي.. شوفي أنا جبت عنوان الشركة بتاعة أهل والدتك و اللي عرفته إنه ابن خالك مصعب هو اللي ماسكها دلوقت و خوالك بيشأروا عليها كل فترة.. أما بالنسبة لعنوانهم في الصعيد فهو موجود لكن المسافة طويلة و مش سهل تسافري لهم و يرفضوا يستقبلوكي و وقتها كانك يا ابو زيد ما غزيت.. فلو عايزة رأيي و ده رأي نزار برضه إنك تروحي تقابلي إبن خالك و أنا هاكون معاكي و تعرفيه بنفسك و اطلبي منه إنك تقابلي أهلك.

لم تستسغ تلك الفكرة..فبالسيناريو الذي طرحه أحمد ستفقد عنصر المباغتة و تخشى ما تخشاه أن يرفضوها قبل حتى ان يسمحوا لها بمقابلتهم:
- معلش يا عمي بس أنا خايفة إنه ابن خالي هاد هو كمان يرفض وجودي و يقوم يبلغ أهلي و بالتالي ياخدوا احتياطاتهم اني ما أدخل بلدهم من الأساس.. أنا بفضل عنصر المباغتة.
وضع أحمد قبضته على فمه و هو يتمعن بكلماتها.. هي لديها وجهة نظر لكن ما تطلبه صعب التحقيق.. أن تذهب لعرين الأسد و تبادر بالهجوم يعتبر سفورا و رفعا لراية التحدي.. تنهد بصبر و أزاح قبضته عن شفتيه لينطق بتعقل:
- شوفي يا حبيبتي موضوع إنك تروحي تباغتيهم دي زي كإنك بتتحديهم و بلاش نضحك على نفسينا هم مش هايتقبلوا وجودك بسهولة.. المفروض إنك تاخدي الموضوع بهوادة و تكتيك.. فعشان كده خدي برأيي و رأي عمك نزار لعل و عسى تلاقي في ابن خالك ده الدعم اللي انتي محتاجاله.
أومأت له بموافقة غير منطوقة على الرغم من تحفظها.. بالنهاية هم لديهم خبرة أفضل منها بالحياة لذا سيكونون أعلم منها بدواخل البشر و جوانب التحدي الذي ينتظرها.

في الظهيرة كان كلاهما يستقلان سيارة أحمد باتجاه شركة آل التهامي.. ترجل أحمد من السيارة بعد أن ضبط اصطفافها أمام المبنى لتتباطأ نور بخروجها من السيارة و هي تتأمل الصرح المبهر المتمثل أمامها.. دقت طبول الرهبة في أحشائها و قد هجم عليها الفزع بغتة.. حانت منها التفاتة نحو أحمد الذي قابل نظرتها المرتعبة بأخرى مؤازرة من طرفه، اقتادها للداخل و أملى إسمه لموظف الاستقبال طالبا الإذن لمقابلة السيد جمال مصعب التهامي.. مرت دقيقتان من الانتظار المقيت و كلاهما يزجيان الوقت بتململ ليس من طول الانتظار بل من توقعاتهم الكثيرة لكيف سيؤول اللقاء حتى جاءهم الرد بأن يصعدوا للطابق الأخير حيث مكتب السيد جمال.

- تفضل يا فندم.. أنا واضح عندي إنه ما فيش موعد مسبق لكن حضرتك قلت إنه الموضوع عائلي مش كده؟
كانت تلك كلمات المساعدة الشخصية الخاصة بجمال و التي كانت تجول ببصرها عليهما تحاول أن تستشف ماهية مقصدهم من وجودهم هنا.. أكد أحمد على كلامها و هو يقول بنبرة دمثة رزينة:
- فعلا إحنا هنا عشان نقابل الاستاذ جمال عشان موضوع عائلي خاص.. فيا ريت تديله خبر و تبلغيه إنه الموضوع ضروري جداً.
عقدت المساعدة الشخصية حاجبيها من صيغة الجدية التي غلفت كلمات الرجل الماثل أمامها فلم يكن أمامها إلا أن تومئ بتفهم و هي تنهض عن مقعدها متجهةً بخطواتها نحو الباب الذي يفصلها عن مكتب مديرها جمال..
اختلج قلب نور و اختضت معدتها حتى شعرت بحاجة للتقيؤ من فرط التوتر و قد بات الهدف على مرمى يدها.. تراجعت خطوة للخلف لاحظها أحمد ليناظرها باستغراب و يقول بحسم:
- نور إحنا فيها لو انتي مش قد الدخلة دي قولي و نمشي دلوقت.. لكن بمجرد دخولك لابن خالك ما فيش تراجع.
أغمضت عينيها تذكر نفسها أنه حينما يتعارض الخوف مع الأمل.. على الأمل أن ينتصر و يمضي و على الخوف أن يتقهقر و يذوي.. تلك إحدى تعاليم والدها التي أرساها بداخلها.. حبست حينها أنفاسها و هي تفرق أجفانها لتلتمع نظرة التصميم بعينيها.. ألبست هيئتها الجمود و العزيمة و هي تقول:
- ما فيش تراجع بإذن الله.. ما في شي أخاف منه هو بس توتر بسيط من اللقاء الأول مع حدا من أهلي.
أومأ لها أحمد متفهما قبل أن تخرج لهم المساعدة الشخصية و هي تطلب منهم الولوج لمكتب السيد جمال.
استبقها أحمد للدخول مانحاً إياها السعة لتلملم شتات أعصابها لخوض المواجهة الأولى.. تنحنحت مجليةً حنجرتها بثبات و هي تخطوا بأثر خطوات عمها فتدخل المكتب و يطالعها شاب مهيب الطلة بوجه أسمر يحتضن عينان حادتان و شفتان لفتتا انتباهها لغلظتهما.. نزلت بنظراتها لجسده لتجده يرتدي بذلة رسمية ذات لون رمادي لم تخفي عضلاته المتناسقه و جسده الرياضي.
من اللحظة التي أخبرته به مساعدته الشخصية أن هنالك رجل و فتاة يبتغيان مقابلته لأمر عائلي طاله الفضول الغزير.. أرسى نظراته أولا على الرجل الوقور ليقف تباعا و يطل عليهما بطوله الفارع .. توجه نحو أحمد يصافحه ملقياً بعبارات الترحيب الرسمية.. حادت بعدها عيناه نحوها.. أمعن النظر فيها للحظة.. لحظة واحدة او لربما اثنتان لم يعلم.. لكنها كانت كافية ليستشعر اختلالا شاب دقات قلبه بغتة.. ابتسم بتوتر و هو يحييها بهزة من رأسه قبل أن يتدارك نفسه و يعود بأدراجه لمقعده خلف المكتب و هو يدعوهما للجلوس، استهل أحمد الحديث لقطع حبل التوتر الذي يقيد الأجواء:
- إحم.. أستاذ جمال إحنا جايينلك النهردة مخصوص بموضوع عائلي زي ما السكرتيرة بلغتك.
أومأ له جمال كدعوة للاستمرار و عيناه تطرف كل حين لتلك القابعة مقابله من جهة اليسار.. وضع أحمد الساق فوق الساق و شد هامته مع جلوسه ليقول بنبرة متوازنة باترة لا تحتمل العبث و هو يشير بيده نحو نور و أنظاره مثبته على جمال:
- أحب أعرفك.. نور أمجد الحسن بنت عمتك سهام عبدالعزيز التهامي.
انزوى ما بين حاجبيه و انفرج ما بين شفتيه و هو يطالع أحمد بذهول.. ارتحل بصره نحو التي تبين إسمها و الذي يليق بها دون إسم آخر ليبتسم بتفكه و هو يسبل كفيه و ينطق بسؤال من كلمتين:
- طب إزاي؟؟
هز أحمد رأسه بتفهم من حيرة جمال فقرر أن يدلو بدلو جعبته فشرع يشرح و يقص على أسماعه تفاصيل القصة التي عمرها ثمان و عشرون سنة، كان جمال ينصت له بتركيز شديد و تشكك أشد حتى أنهى أحمد حديثه ليدور جمال ببصره عليهما ثم يثبته على سطح المكتب الخشبي أمامه مفكرا مرتابا.. فلربما كان هؤلاء محتالان يحاولان الدخول لجوف عائلته ليسلبوا ما استطاعا من الغنائم بفعل هذه اللعبة.. لكن.. لربما الأمر حقا مثلما تلفظ الرجل أمامه.. هل من الممكن أن تنبثق من باطن الأرض فجاة ابنة لعمته و التي من المفترض أنها ماتت في زهر شبابها و هي بكر لم يسبق لها الزواج؟؟!!! .. لن يبوح بشيء البتة حتى يتحقق فقد تعلم في مضمار رجال الأعمال أن عليه التشكك بالمعلومة حتى يثبت صدقها من عدمه، رفع وجهه ذو التعابير الجامدة إليهم مفضياً:
- بصراحة الموضوع اللي قلتوه مش سهل و أنا ما اعرفش عنه حاجة فما أقدرش أصدقكوا و لا أكدبكوا قبل ما اتأكد.. لكن يفضل سؤال واحد..
و قبل أن ينطق بسؤاله قاطعته نور و قد غادرها التلجلج و عادت لها روح القتال قائلة:
- أنا هسأله عنك.. أنا ليش جاية هلأ و شو بدي؟؟ و اشمعنى هلأ اتذكرت إنه إلي أهل.. مش هيك؟؟
أومأ لها جمال و لمعة إعجاب تتألق بعينيه لتأخذ هي نفساً عميقا قبل أن تثبت أنظارها عليه و هي تعدد:
- أولا أنا شو بدي و ليش جاية فلإني حابة أتعرف على أهلي اللي عمري ما شفتهم.. ثانيا ليش هلأ فلإنه والدي توفى من فترة قصيرة و أيام حياته هو كان ممانع إني أقوم بهاي الخطوة خوفاً علي لكن أنا مصرة عليها و راح أمضي فيها بإذن الله خاصة إني ما لحقت أتعرف على أمي اللي توفت و أنا عمري سنتين بالسرطان بس هلأ بقدر إني أتعرف على أهلها اللي من ريحتها خصوصا إنه هلأ انا ما إلي أهل غيرهم.
قالت ما قالته برسالة بينة أنه حتى لو لم تكن عوناً لي سأجد طريقي نحو مأربي، طرق جمال بتتابع على مكتبه بالقلم الذهبي الذي تعانقه أصابعه و هو يدقق النظر فيها يحاول أن يستشف مدى صدقها و إن كان في ملامحها أي دلالة تدل على أنها من صلبهم.. لا شيء وجه مستدير ببشرة لؤلؤية صافية تزينها شامة فوق شفتها العليا من اليسار.. عينان بلون المحيط فشفتان زهريتان منتفختان بخفة كأنه تم تقبيلهما منذ برهة قصيرة .. انتبه لسير أفكاره فلعن نفسه سرا.. هل هو يبحث عن دليل في هيئتها أم يتأمل تفاصيلها بفجاجة.. استقام بوقفته و هو ينهي المقابلة ليحذو أحمد و نور حذوه فيصافح الرجلان بعضهما و يقوم أحمد بوضع ورقة عليها بيانات التواصل معه على المكتب على وعد من جمال أن لا يطول الانتظار بإذن المولى.

رمى بنفسه على الأريكة المتموضعة في مكتبه بعد أن غادره الضيفان.. ألقى برأسه للخلف و الأفكار و الذكريات تتصارع داخل رأسه.. لا يذكر شيء غير القصة المعتمدة من قبل أهله!! إذا ما الذي حدث قبل قليل؟ اعتدل بجلسته و هو يتناول هاتفه النقال من جيبه يتلمسه يبحث عن إسم بعينه.. هو فقط من يستطيع التحاور معه عكس والده سريع الاشتعال.. أتاه صوت الرنين ثم صوت رجولي رخيم قائلاً:
- يا أهلا بولد اخوي.. لحقت تشتاق و أنا سايبك من يومين؟
----------------------------------------
لم تتفوه بحرف طوال رحلة العودة للمنزل و هو أعطاها مساحتها الخاصة.. لم يرد أن يزيد الضغط عليها.. خرج من السيارة و انتبه أنها تهيم بعالم آخر فلم تلحظ أنهما قد وصلا وجهتهما.. طرق بالمفتاح على شباكها بعد أن التف حول السيارة لينبهها من غفلتها فاضطربت للحظة قبل ان تهدئ أوصالها فتبتسم له باعتذار و هي تترجل من السيارة.
اعتذرت عن طعام الغداء فشهيتها قد عاندتها و فراشات التوتر تغزوا معدتها.. فضلت الصلاة و دعاء الله بتيسير ما هو خير لها.. و فعلت، و من بعدها استلقت على سريرها لتلفها غمامة النوم فتستقبلها بخدر الأوصال.
------------------------------------------
جلس مقابلاً لعمه مستنداً بكوعيه على فخذيه و تعتلي عينيه تقطيبة تدل على انغماسه في التفكير.. قاطع سالم أفكاره بتأفف قائلاً:
- انت جايبني على ملا وشي عشان ترسملي صورة و الا ايه يا ولد اخوي؟؟
رفع بصره إليه دون ان يعدل من وضعيته لينطق بجمود:
- بصراحة يا عمي في حاجة غريبة حصلت معايا النهردة و خلت مية سؤال يدور بنافوخي و مش عارف إيه السؤال الصح اللي لازم أسأله.
تعجب سالم من عبارة ابن أخيه المبهمة ليقطب حاجبيه متسائلا:
- حاجة إيه ديه اللي حصلت معاك؟
- عمتي سهام ماتت إزاي يا عمي؟
ارتعد جسد سالم و جحظت عيناه بصدمة.. لم يتوقع بأحلك أفكاره ان يكون سؤاله عن سهام.. لما الآن؟ و ما الذي حدث كي تنبش جثة الفاجعة القديمة بعد أن ووريت الثرى و أهلوا عليها التراب بأيديهم!! ابتلع ريقه و قد كاد أن يختنق به ليشيح بوجهه عن مرمى بصر إبن أخيه قائلا بصوت قاتم:
- و إيه اللي فكرك بعمتك دلوقت؟ و جاي تسأل ليه و انت عارف الحكاية ! عمتك جالها عيا واعر و سفرناها بلاد برا تتعالج لكن قدر الله إنها تموت هناك و رجعناها و دفناها بالبلد..
- و الكلام اللي سمعته النهردة؟
اهتاج سالم من مناورات جمال فضرب المنضدة القابعة امامه بقبضة يده و هو يهدر صارخاً:
- ما تتكلم يا ولد المركوب إيه اللي حوصل؟
غادر جمال جلسته و اتجه نحو النافذة العريضة المطلة على الشارع و التي تحتل ثلثي الحائط يناظر الأفق.. و بانقباضة تشق طريقها لصدره سرد:
- جاتلي بنت و معاها دكتور بيقول انه صاحب أبوها.. البنت قالت إنها بنت عمتي سهام و هي جاية دلوقت عايزة تتعرف علينا.. على أهلها.
حانت منه التفاتة لعمه الذي استحال وجهه للسواد القاتم فتفاقمت الشكوك بصدر جمال تجاه الرواية القديمة ليقول متصيدا:
- إيه رأيك في اللي حصل يا عمي؟ و هل البنت دي صادقة و الا كدابة؟
- بنت سهام !!!
قالها سالم بتيه و توق و غفلة عن الذي كان يقتنص خلجاته بالتفصيل، اقترب جمال من عمه لينحني بهامته مقربا الوجه من الوجه و يثبت عينيه بعيني سالم متسائلا بحرقة:
- اللي انا شايفه بعيونك ده يا عمي صح؟؟ نبرة صوتك و انت بتقول ( بنت سهام ) كافية إني اقتنع انها فعلا كده.. رسيني على الحوار القديم كله يا عمي لإني فاضلي شعرة و أتجنن.
أزاح سالم ابن إخيه من طريقه بظهر يده ليقف و يتجه نحو الثلاجة القابعة بزاوية الحجرة و يستل زجاجة المياه فيتجرع منها ما يلين حلقه الذي أحس كما أن الأشواك قد نبتت به.. أسند الزجاجة على المكتب و قال دون ان يتلفت لجمال:
- جدك ما يعرفش حاجة واصل عن اللي حوصل النهردة .. مفهوم؟
- لاء.
نطقها جمال بتحدٍ سافر استدعى سالم ان يلتفت إليه و ملامح الاستهجان تغزو صفحة وجهه فيصيح به مؤنباً:
- يعني إيه لاء؟! جدك مش حمل خبر زي إكده و هو في العمر ديه.. و البت دي تفهمها إنها ما الهاش أهل إهنه و تروح تدور بمكان تاني.
- مش هايحصل يا عمي.. أنا لازم أفهم كل حاجة.
ضرب سالم الكف بالكف من صلابة رأس ابن اخيه ليجابهه بوقفته و يجيبه بنفاذ صبر:
- حاضر.. حاضر يا ابن اخوي.. و الله و جيه اليوم اللي تتحداني و تنزل كلمتي الأرض.
لم تهتز خلجة من جمال لتقريع عمه بل بقي على ثباته بإشارة انه لن يتنازل حتى يعلم الحقيقة بجلها ليدرك سالم تعنت ابن اخيه فيهديه ما أراد بكلمات كأنها شوك نُثر في درب ظنوه مزروعا بالياسمين:
- ماشي يا جمال باشا.. أكيد البت و اللي معاها قالولك اللي حوصل.. سهام حبت زميلها في الجامعة.. واد مغترب من الأردن جاي يدرس طب اهنه و جيه و خطبها من جدك لكن جدك وقتها قاله إنه سهام مخطوبة و مقرية فاتحتها على جاسر حرب.
برزت مقلتي جمال من محجريهما و هو يطالع عمه لينطق بذهول مكررا الإسم:
- جاسر حرب!!
تنهد سالم للذكرى و هو يهز رأسه بنعم و تابع:
- أيوة جاسر.. انا ما كنتش أعرف و اتفاجأت زيهم و بعد ما مشيوا جدك رسانا عالحوار إنه عشان نقطع سلسال الدم لازم يكون فيه نسب.. و طبعا كلمة جدك مالهاش رادع لكن عمتك ما رضيتش بالحال ديه و هربت في عتمة الليل و راحت مصر عشان تتجوز زميلها و سافروا سوا الأردن.. روحنالها الأردن عشان نرجعها بس جوزها كان حويط و مرتب أموره و احنا رجعنا قفانا يقمر عيش.. فقلنا للناس انها مرضت و ماتت من المرض عشان نخلص من لساناتهم و من لسان عيلة حرب و بعد اكده جاسر حرب نزل انتخابات مجلس الشعب فنسي حوار التار عشان ما يجراش عليه لبش و يخرب عليه بالانتخابات و من وقتها و الموضوع اندفن.
عقَب جمال و تلك الغشاوة الضالَة التي كانت تحجب الضياء عن بصيرته آلت إلى انقشاع :
- يعني عيشتونا طول السنين اللي فاتت ديه بوهم؟؟ أنا صح ما اعرفهاش لإن اللي اعرفه أو اللي انتوا فهمتوني إياه إنها ماتت و أنا عمري سنتين.. بس ازاي حصل كده و ما حدش عرف حاجة وقتها و لا انكشفت لعبتكوا؟!! و طب و بنتها اللي جاتني ديه هارد عليها بإيه و هي مستنية مني رد؟
التف رأس سالم صوب جمال بسرعة كما الطلقة ليصيح بغلظة يكاد يبصق كلماته:
- و هي جاية عايزة إيه بنت المركوب ديه؟؟ أبوها هو السبب باللي حوصل.. هو اللي لعب بعقل عمتك عشان تهج و تهرب و اياه و تحط روسنا بالأرض.
ناظره جمال بخواء و عقدة الجبين التي لم تنحل ما زالت مرتسمة ليرد بنبرة يأس:
- مش عارف يا عمي مين السبب باللي جرى.. يمكن ده قدر و مكتوب، و بالنسبة لبنت عمتي ( قالها مشددا على المسمى يحاول إقحامه لعقل عمه ) فهي جاية و ناوية تقابل جدي و كل أهلها و من كلامها فهمت إنها مش هاتستسلم لحد ما تنول اللي في بالها.
- إقصر الشر يا ابن اخوي و انسى إن ديه يحصل.. البت ديه ما تعتبش البلد عندينا واصل و ديه آخر كلام عندي.
قال قوله الأخير و هو يتوجه كالإعصار نحو باب المكتب مغادرا إياه و صافقا الباب خلفه بغلظة.. ليزفر جمال أنفاسه الحارة و يمسح وجهه براحتيه و هو يدعو الله أن يلهمه القرار السوي.




عيون نملة 11-10-19 07:57 PM

شكرا ع الرواية اول مرة اقرأها

وفاء حمدان 11-10-19 08:52 PM

اقتباس:

المشاركة الأصلية كتبت بواسطة عيون نملة (المشاركة 14535173)
شكرا ع الرواية اول مرة اقرأها

حبيبتي تسلميلي سعيدة انها نالت اعجابك

وفاء حمدان 11-10-19 08:55 PM

الجزء الأول لرواية صك غفران بعنوان " سهام عشق" للي ما قرأها
https://www.rewity.com/forum/t432532.html

وفاء حمدان 13-10-19 07:47 PM

الفصل الثالث
 
الفصل الثالث:
ممدداً جسده على السرير و جذعه العلوي يستند إلى ظهر السرير بأنفاس محسوبة و حدقتين مثبتتين على اللاشيء.. لا يعلم بما يفكر أو كيف يفكر.. بطاحونة الوهم التي كانت تقلِب حيواتهم طوال تلك السنين تسقي شجرة العائلة من نبع الخديعة، أم يفكر بعمته التي شقَت نفسها عن عباءة العائلة و العادات لترتحل تنشد حبها؟ هل لو لم يجبروها على الزواج بغية دحر الثأر ما كانت لتهرب؟ لا يعلم .. كيف له العلم بالمجهول.. بالماضي و لعناته.. يقر هو أنه لم تطاله اللعنة و لم تطل أياً من الجيل الجديد.. أجاد جده دفن الماضي و مواراته عنهم و الناس.. رباااه صداع عنيف يفتك برأسه يوشك أن يفجره ناثراً أشلاءه في المكان.
حادت أفكاره نحو ابنة عمته ليجد نفسه لأول مرة من صباح اليوم يبتسم.. سحقاً هل كان يجب أن تكون بهذا الجمال.. عيناها الزرقاوان كما المحيط يود لو يرتحل فيهما دون أن ينشد لنفسه مرسى.. ( أصبحت شاعرا يا جمال من لقاء واحد ) فكر متفكهاً.. بالنهاية هي ليس لها ذنب بندوب الماضي.. لا ناقة لها و لا جمل فيما حصل و ما تطلبه حقٌ لها لكنه حق مكلف و باهظ الثمن.. كيف سيفسر أهله للناس و لعائلة حرب بالخصوص وجودها بينهم على أنها ابنة سهام؟! و بالرغم من هذا السد يفكر أن يعاند عمه و يحقق أمنيتها.. هو بكل بساطة لن يستطيع أن يدير لها ظهره و هي من دمه و لحمه.. لا أخلاقه و لا مروءته تبيح له أن يكون من الممترين و لعلَ قلب جده العجوز يلين لمرآها و يثلج قلب جدته بعناقها.. أما عن نفسه فلتهنئ روحه بقربها المؤقت.

في صبيحة اليوم التالي كان جالسا إلى مكتبه في العمل و هو يقلب ورقة صغيرة بين أصابعه يناظرها بشرود قطعه بغتة و هو يستل هاتفه من جيبه و يطلب الأرقام المدونة على الورقة.. كان يطرق بسبابته على ظهر المكتب بتوتر حتى أتاه الصوت مرحباً ليقول دون سلام:
- دكتور أحمد انا محتاج أأقابل بنت عمتي من بعد إذنك؟
---------------------------
تشاركهم وجبة الفطور بفتور و مجاملة.. ليس الأمر بالغريب عليها فمذ أن كانت طفلة كلما توترت تنقبض معدتها و ترتجف لتزهد بالتغذية.. صدح رنين الهاتف النقال لأحمد لتنظر إليه بلهفة ممنيةً نفسها باحتمالية أن يكون ابن خالها.. نظر أحمد لشاشة الهاتف ليجد أن الرقم غريب.. قبِل الاتصال بالرغم من جهله لهوية المتصل متأملاً هو الآخر أن يكون المتصل هو جمال.. أجاب احمد بعملية معتادة:
- السلام عليكم ... مين معايا؟
فأتاه الصوت محتداً بعفوية يشوبها القلق:
- دكتور أحمد انا محتاج أأقابل بنت عمتي من بعد إذنك؟

هكذا دون سلام و لا ترحاب.. رفع أحمد انظاره سريعاً لنور التي اتسعت ابتسامتها فقد فطنت لهوية المتصل..
عرض عليها لقاءً ثنائياً في مقهى لترفض الاقتراح كونها لا تحبذ فكرة انفرادها و إياه و هي لا تعلم دواخله و نيته تجاهها بعد لكنها لم تصرح له بسبب الرفض بل زايدت على اقتراحه بأن يكون اجتماعهم في منزل الدكتور أحمد ليرسو الأمر بالنهاية على هذا.

قرع جرس المنزل مساءً ليفتح الباب أحمد مرحباً به ترحيباً حارا خلافاً لسمة التوتر للقائهم الأسبق.. اقتاده أحمد لغرفة الضيوف و استأذن ليستدعي نور و قبل أن يغادر الغرفة استوقفه طلب جمال بالانفراد بابنة عمته ليوافقه بهزة من رأسه أعقبتها خطواته تجاه غرفة نور.
تهادت بخطواتها نحوه و عيناه تتابعانها لا تفارق محياها البهي.. قدهها كما غصن البان و عيناها المحروسة برموش كثيفة كلما رمشت بها أحس بنفسه يرتد للخلف من العاصفة التي خلفتها بوجدانه.. أجلى حنجرته ليرد تحيتها التي ألقتها ما أن استقرت بجلستها أمامه و ما أن هم بالحديث حتى قاطعته حركتها و هي تضع كتيب صغير باللون الأزرق على الطاولة أمامه.. التقى حاجبيه باستغراب لتجيب سؤاله غير المنطوق:
- توقعت إنك تأكدت من صحة الرواية اللي حكيتلك اياها و هلأ بدك تتأكد إذا أنا فعلا بنت سهام.. الدفتر هاد هو دفتر العائلة تاعنا و فيه كل بياناتي و بينات والدي و والدتي.
كان يطالعها مقطبا و هو يفكر أنها ليست بالأنثى السهلة و مضمار عقلها ليس باليسير الالتفاف حوله.. فهذا بالفعل كان الجزء الأول من سبب قدومه.. لم يعقب على كلامها فقط أكتفى ان التقط الدفتر ليقلب صفحاته فتخمد نيران شكوكه لتصبح رماداً نفثها بزفره لم يعلم أهي مرتاحة أم متوجسة مما هو قادم و قد ثبتت الرؤيا، أعاد الدفتر لمكانه و رفع أنظاره المتفحصة إليها لتزحف لبشرة وجهها حمرة طفيفة من تمعنه بقسماتها و خلجاتها..إلا أن نظراتها قد استحالت للجليد فجأة و هي تسأله:
- هلأ شو؟
رفع كفيه دلالة العاجز ليقول بمنطقية:
- أنا كلمت عمي سالم بالموضوع و هو رفض طلبك لكن أنا ناوي بإذن الله أساعدك و هاخدك لبيت العيلة في الصعيد و هتلاقيني بضهرك مهما كان ردهم بالنهاية إنتِ بنت عمتي و بما إنه ما فضلش حد من أهلك في الأردن فالأولى إنك تفضلي معانا.
ابتسمت بتفهم و هي تومئ برأسها.. هي أتت لأرض مصر متوقعة الرفض و ابن خالها قد قدم لها ما كانت تبتغي منذ البداية ألا و هو عنصر المباغتة و أضاف له الدعم و السند.

في اليوم التالي ودعت عمها أحمد و حوريته إيمان كما يلقبها دوما بعد أن رفضت و بإصرار أن يصطحبها هو لبلدة أهلها مع الوعد أن تحادثه كل حين ليطمئن عليها.. تريد أن تخوض غمار المعركة وحدها.. ليست بحاجة لحامٍ سوى الله و استحلفته بالله ان يتفهمها و ألا يخبر عمها نزار كي لا يأتي ( فارع دارع ) إلى مصر محطماً كل شيء في طريقه إليها.. قاد جمال السيارة بهما قاصدين إحدى قرى الصعيد المصري حيث توجد جذور عائلة التهامي.. الطريق كان طويلا و متعبا.. خلاله توقفا مرة ليبتاع جمال بعض العصائر المنعشة و المقرمشات لها و له لتشاركه أيضاً الشطائر التي أصرت إيمان أن تأخذها معها.
حين وصلا حدود البلدة كان الظهر قد شد رحاله و العصر قد أزف..تباطأت السيارة في المسير بسبب الطرق غير الممهدة لتشعر بمعدتها تختض من عسر الطريق إلى جانب توترها الذي دوما ما يفتك بمعدتها، شُرِعت أمام ناظريها أبواب قصر منيف أبهر عينيها و حبس أنفاسها و قد زين للناظرين.. لم تتوقع أن تتواجد مثل تلك القصور في هذه المناطق أو القرى للتخصيص و إن دلَ هذا على شيء فهو الثراء الفاحش الذي تتمتع به عائلة والدتها و الذي بالرغم منه لم يقبلوا أن ينتقلوا للمدينة و يهجروا مسقط رأسهم و الأرض التي تضرب بها جذورهم.. هذا كان استنتاجها.
أطفأ جمال محرك السيارة ليلتفت إليها قائلاً قوله العسير على روحها:
- يالله بينا.
ناظرته بتيه و قد غادر السيارة و خطى ليقف بجانب باب السيارة من جهتها بكامل هيبته الجلية للعيان يطالعها و ينتظر التحاقها به.. إلا أنها كانت قد تجمدت بمقعدها كما تجمدت الدماء في عروقها.. لا لم تتجمد دماؤها فها هي تنسل رويدا رويدا من صفحة وجهها لتتركها مصفرة كصورة احترافية تمثل الرعب.. لاحظ هو تلكؤها و رمشها البطيء لأهدابها فتيقن انها قد استوعبت الآن هول ما ينتظرها..زفر أنفاسه بإرهاق و هو يتقدم نحوها فيفتح باب السيارة و ينحني بهامته ينظر إليها و هي تنظر بتشتت للقصر.. وضع كفه على كتفها ينتشلها من غياهب الفزع الذي استسلمت له لتلفت له و هي تبتلع ريقها بمشقة و عبارة واحدة تتردد في ذهنها ( ما الذي أفعله هنا ؟! ).. تفهم هو جزعها فشد من ضغط يده على كتفها بمبادرة للمؤازرة و هو يقول برزانة يحاول بث الطمأنينة لنفسها:
- ما تخافيش.. انتِ ما الكيش ذنب في أي حاجة حصلت زمان.. انتي هنا عشان تشوفي أهلك و تديهم فرصة يعرفوكي و انا هاكون في ضهرك فخليكي مركزة في اللي قدامك.
ابتسمت له ابتسامة ممتنة و بوادر دموع تهدد بالتداعي من مقلتيها.. تحركت في مقعدها بغية المغادرة ليبتعد هو بجسده مفسحا لها المجال لتنزل من السيارة و يغلقها هو بالقفل الالكتروني و يسير نحو بوابة القصر و هي تتخلف عنه بخطوتين.
كانت تعيد السيناريوهات التي تجهزت لها.. تكرر المرافعات الدفاعية التي أعدتها.. تذكِر نفسها ألا تذرف دموعها حين يأتي النبذ.. و هي تعلم أن آت لا محالة، تخطو تجاه البوابة الداخلية للقصر كمن يخطو عبر البرزخ و لا يدري إلى أين ستوديه خطواته.. إلى النعيم أم إلى سعير الجحيم.. الله فقط من يعلم فلينزل بها رحمته، قرع جمال جرس الباب المهيب لينتظرا بضع ثوان كانت كما الدهر ليُفتح أخيرا و تطل عليهم فتاة صغيرة بالسن و التي ما أن رأت جمال هللت و رحبت بعودته لتقفز متراجعة للخلف و هي تهرول تبتغي إخطار كبير العائلة الحاج عبدالعزيز بقدومه.
قهقه جمال بخفة على تصرفات الخادمة الرعناء ليلتفت و هو يشير للجامدة خلفه بأن تلتحق به نحو غرفة المعيشة.. دقائق أمضتها و هي تدور في الغرفة تطالع الوجوه المتموضعة في الصور المنتشرة في الغرفة.. لم تجد لأمها أي أثر في صورهم و كم أسقط الأمر في نفسها حزنا، بينما هو كان يتأملها و يتابع التفاتة رأسها كل حين و زرقتيها التي كانت تتمعن بكل صورة تأتي عليها حتى أنه لاحظ وشحة حزن زينتهما دون أن يعلم لأي سبب من كثرتها.
- إزيك ياجمال وحشتنا قوي.. طب مش كنت تقول إنك جاي عشان نعمل الواجب.
أنهت صاحبة الصوت الانثوي الرقيق كلماتها بابتسامة جذلة خصتها لجمال الذي ابتسم بحنان و هو يرد عليها:
- معلش يا سمر جت حاجة كدة فجأة و كان لازم آجي و مش ضروري كل مرة تغلبوا نفسكوا بالمحمر و المشمر دا انا حتى بقيت ما احبش أجي عشان ما اغلبكوش.
كادت أن تجيبه بتدله أن تعبها لراحته لهو كمال الهناء لها غير أن التفاتة نور إليها بابتسامة مهذبة ارتسمت على شفتيها جعلها تبتلع كلماتها قبل أن تغادر فاهها.. حدقت بها باستغراب.. في البداية لم يكن استغرابا من هويتها و سبب وجودها بل استغرابا من سحر جمالها الذي جمدها و هي تناظرها بتفحص.. تحول بعدها الذهول لتساؤل عن هويتها و الذي قرأه جمال بعينيها ليقرر أن الإفصاح و البوح يجب أن يكون مبتدئا بوجود كبير العائلة فهو لا يريد أن يتكرر مشهد الصدمة لأكثر من مرة.. و من هذا المنطلق أتت كلماته تبتغي تشتيت انتباه سمر الواجمة عن تلك المبتسمة بما تعتقده تهذيب لكنه في الواقع بلاهة لمن يعي للعواصف التي تميج بداخلها:
- سمر معلش هاغلبك معايا ممكن تندهي على جدي و جدتي.. أنا شفت حسنية ( من استقبلتهم على الباب ) راحت تندهلهم بس معلش روحي أكدي عليهم اني عايز أأقابلهم ضروري و دلوقت.
اختض قلبها لطلبه و بوادر انهيار جسدها على أرضية الرخام قد لاحت في الأفق ليس لوعي أحد سواها.. السيناريو الوحيد الذي ضرب صميم عقلها أنه قد وجد نصفه الآخر..هل تحققت أحلك كوابيسها و أبشعها؟ هل هذه الهيفاء هي من اختارها قلبه مالكة له و من اختارها هو شريكة لحياته و قد أتى بها كي يعرفها بهم و يعرفهم بها؟!! لم تترجم مخاوفها لكلمات متسائلة ناشدة النفي بل اكتفت بهزة من رأسها يرافقها زيغان عينيها و هي تنسحب بتثاقل نحو الطابق الثاني ملبيةً مطلبه.
- ليش ما عرفتني عليها؟؟
خرج السؤال من نور متشككاً تناظره بعقدة ترتسم على جبينها.. ارتاح جمال في جلسته أكثر و هو يعيد ظهره للخلف مسنداً إياه لظهر الأريكة و ساقه تعانق الأخرى ليتحسس ذقنه بإبهامه و هو يجيبها بإيجاز:
- عايز المواجهة تكون مرة واحدة و مع جدي.
لم تعلق و لم يظهر عليها أي تعبير حركي.. قد أصاب برأيه.. إضرب الرأس يتهالك الجسد بأكمله و دعك من الأطراف.

يتناهى لمسامعنا أحيانا عبارة ( سقط قلبي بين قدماي ) لم تستغها أبدا.. لم تستشعرها أبداً، لكن في هذه اللحظة قد شهدت لها و آمنت بها و هي تشعر أن قفصها الصدري قد انشق ليتهاوى قلبها للأسفل مخلفاً فجوة بحجمه تعبث بها رياح الهلع.. أصخت سمعها بتركيز لصوت دقات قوية على الرخام تأتي كما خيل لها من تلامس عصا بسطح الأرض.. مع كل دقة فلتت منها رمشة لتبصر أخيرا و كما توقعت العصا العاجية الغليظة و هي تدخل عليهم بشموخ غالباً بهت عليها من صاحبها الذي لم تجرؤ حتى اللحظة أن ترفع بصرها إليه.
نهض جمال مرحباً بجده باذخاً بعبارات الشوق ليرد له جده عبارات مثلها تحكي شوقه هو الآخر و عتبه لغيابه الذي استطال.. انحسرت الأصوات فجأة لتعلم بحدسها أن الأنظار قد حادت لتشملها.. لتدعو الله بسرها أن يمدها بالقوة قبل أن ترفع بصرها إليه.. جدها والد والدتها.. رجل بأواخر الثمانينات عبثت و حفرت السنين بأهوالها و عثراتها حكاياتها على صفحة وجهه المجعدة.. رجل كما سمعت انحنت و تنحني له هامات أعتى الرجال في بلدته.. رجل أغدق على طفلته بحبه و عطفه و ميزها بحظوة حنانه عن بقية أشقائها.. و ميزها أيضاً بجوره و ظلمه ليكون لها النصيب الأشد منه.. جدها الذي من المفترض أن تكون له أعز من ابنته.. و هل كانت ابنته عزيزة عليه؟ (فكرت متحيرة ).
لاحظ جمودها و تأملها الحثيث لجده.. لم يعلم هل ترغب هي بالتعريف عن نفسها أم أنها تترك له شرف المهمة الاستشهادية، لم يتبين منها أي رد فعل لنظراته التي تحثها على الإتيان بأي حركة أو قول و بالتالي استشف أنه قد نال شرف إطلاق الرصاصة الأولى في الحرب المرتقبة.. قاطع حديث نفسه صوت جده الجهوري و الذي برغم سنواته عمره الوفيرة إلا أنه لم يزل قوياً هادراً و هو يقول:
- مش هاتعرفنا عالضيفة يا ولدي؟!
حانت من جمال التفاتة لتلك المتصلبة جسداً و ذهناً تناظر جده دون أن ترمش ليفقد الأمل تماما من أن تفضي بكلمة أو حتى همسة.. أشاح بوجهه عنها و قابل جده بمواجهة تشكك لها الحاج عبدالعزيز فنظرات التصميم التي كان يبثها جمال لم تحد فراسته.. لينطق أخيراً و كل كلمة كانت تخرج كما الرصاصة تدوي بصوتها الهادر :
- الضيفة يا جدي تبقى نور أمجد الحسن.. بنت عمتي سهام.
كلمات وصلت لمسامع عبدالعزيز ليشعر بها كما الصفعة.. لا بل كما الزلزال الذي لا يبقي و لا يذر.. اهتز كيانه دون جسده.. امتقع وجهه و جحظت عيناه و قد استحالت مقلتيه للسواد الشيطاني.. و صمت صمت القبور.. قد عاد الصندوق الأسود الذي قذف به إلى البحر يبتلعه ليجد الآن و بعد ثمان و عشرون سنة أن البحر ما ابتلعه إلى ليحفظه داخل جوفه كأمانة ليمضي الدهر و ينسى الناس ما فات و حينها يلفظه البحر من رحمه ليتجلى كشبح من الماضي يستل سيفه مقسماً أن يطال السيف كل من نسي و تناسى.. ظلم و تجبر و غض الطرف تخاذلاً أو عجزاً.
كانت جالسة كما الصنم تكاد تختنق من جزعها.. تأتيها سهام نظراته الملتهبة لتثير النيران في صدرها فتشعر بروحها تحترق كما الشمع.. بداخل مضغة صغيرة بقلبها تأملت و استبشرت القبول.. الأحضان و دموع الفرح باللقاء.. لكن هيهات.. فتلك أماني ساذجة لا تليق بحلكة الواقع و شرور نفوس البشر.. لدى هذا الخاطر تصفحت نظراتها بالتحدي فجأة فتستقبل نظراته الحارقة بصلافة المقاتلين.. قد عادت لها قوتها و عزيمتها فلا يهمها إن أيقظت شياطين الأرض و ما تحتها كافة.. ستمشي بأرضهم تدقها دقاً دون أن يرف لها جفن حتى تحظى بغنيمتها فمن قال أن من صمت نجا كان واهم.. فإن من صمت هلك و هلك معه الحق فلتجهر بالحق حتى لو كان فيه فناءها و هي لها في هذا البيت حق، أفاقها من جريان أفكارها صوته و هو يرعد بجدران الحجرة و قابعيها موجهاً غضبه نحو جمال الذي كان يتابع و يرصد تبدل خلجات الاثنان دون تدخل:
- إيه اللي بتقوله ديه يا غراب البين انت؟!! أنا ما عنديش بنات غير أحلام.. و ديه ( قالها مشيرا لنور ) أكيد نصابة جاية تضحك علينا و مالهاش عندي غير الطرد.
كاد أن يجيبه جمال بأن دفاتر الماضي المندثر قد أعيد فتحها و تكشَف عن أسرارها لكن قاطعته حركتها من على مقعدها لتنهض بشموخ و تتجه بخطوات متئدة نحو جدها دون أن تحيد بعيناها عن عينيه بتحد صريح.. و ما أن أصبحت بمواجهته قالت بصوتها الرقيق بنبرة حازمة:
- أنا كنت متوقعة ردة الفعل هاي يا جدي.. و اسمحلي أحكيلك يا جدي حتى لو انت اعترضت.. لكن جزء صغير جواتي كان متأمل إنك تكون نسيت اللي فات و تفتح معي صفحة جديدة.. أنا بنت بنتك سهام اللي جرتوا عليها ( ظلمتوها ) و مع هيك لآخر نفس فيها كانت بتدعي إنكوا تسامحوها و ترضوا عنها.. و أنا مش جاي أطلب منكوا أي شي غير حقي فيكوا حقي بأهلي اللي مرت سنين عمري من دون ما أعرفهم.. حقي إني أعيش بينكم حتى لو كنتوا كارهين.. و إذا كنتوا ما بدكوا تشوفوني و لا تعرفوني فأنا بعتذر أنا جاية و مصرة على طلبي لإنه بالنهاية بطل عندي شي أخسره.. كنت حابة ألاقي أهلي و أدخل بحضنهم بعد ما الله اختار انه ما يضل إلي أهل غيركوا.. انتوا ظلمتو أمي بحياتها و هتكتوا حدود الله بانكوا تغصبوا بنتكوا على زواج هي ما بترضاه و اللي عملته هي كان رد فعل طبيعي و قاسي بنفس الوقت على الطرفين.. هي اختارت الحياة اللي الله أمرنا نعيشها بكرامة مش حياة الجواري.. و أنا هلأ جاييتك و فاتحيتلك ذراعاتي و بحكيلك حط الشرط اللي بيرضيك بس لا تحرمني من العزوة.
أخفض عبدالعزيز بصره بوجل و نطق بنبرة ساهمة بآخر شيء قد يأتي لخاطرهم و قد لمع بريق حزن خافت بعينيه و كأنه لم يستمع لشيء من خطبة نور العصماء سوى أن:
- سهام ماتت؟!
ابتسم جمال بتهكم لاعتراف جده الساهي و هو لا يعلم هل يشفق عليه أم على عمته أم على الزهرة التي انشقت من جوف الصخرة الصلبة.. لتجيب نور تساؤل جدها بنبرة اكتساها الحنان و الحزن:
- ماتت بعد ما جابتني بسنتين.. صابها السرطان و هي حامل فيني و رفضت تنزلني مشان تتعالج و بعد ما ولدتني كان الوقت فات و السرطان انتشر حتى مع الاستئصال للأسف و ما صمدت مع العلاج أكتر من سنتين.
شهقة عالية قطعت عليهم الجو المشحون لتهرول صاحبتها ببنيتها الممتلئة و جسدها المتهدِم الذي مرَت عليه السنون و حرثت لتقبض على ذراعي نور و تتحدث بتشتت و وجهها قد أغرقته الدموع:
- انتي بت بتي؟؟ انتي بت سهام؟ سهام ماتت .. ماتت؟؟!!
افترشت الأرض و هي ما تزال متشبثة بذراعي نور التي انخفضت بجسدها تباعا و بادرت باحتضانها و دموعها قد سقطت هي الأخرى و قد هدأت ثورة روحها قليلا.. هي لم تراهن على جدها خيراً فهي تعلم بجبروته مما سمعته لكنها راهنت على جدتها مما وصلها عن حنانها و لوعتها على بُعد إبنتها، اجتمع أهل البيت على أصوات الصراخ و الجلبة في غرفة المعيشة ليفغروا أفواههم للمشهد الماثل أمامهم.. مصعب و ابنتيه.. أحلام و ابنتها و سمر و أبيها سالم الذي فطن لفحوى الأمر لتتركز نظراته التي تقطر حقداً و لوما على جمال و الذي كان بدوره يقابل نظراته بتحدي كأنما يقول ( ما أنا الذي يمر على الأمر مرور الجاحدين ).
أول من اخترق صوته أصوات المشهد هو مصعب الذي هرع نحو والدته يهدئ من روعها و يحاول أن يبعدها عن أحضان تلك الفتاة الغريبة دون جدوى.. فوالدته كانت كما المغيبة تنتحب و هي تشد من احتضان الفتاة كأنها تخاف ان تكون سراباً فيتسلل من بين ذراعيها فور ابتعادها ليرفع أنظاره لوالده الذي اسود وجهه و هو قابع على مقعده الذي تهالك عليه بعد أن انفرطت حبات العقد من بين يديه و أزيل الستار عن الغرفة المظلمة التي حرص أن تبقى مخفية طوال سنون ليتساءل مصعب بنبرة هلعة:
- في إيه يا ابوي؟؟ إيه اللي حوصل؟
و عندما لم يجد جوابا من والده وجه أنظاره المتشككة لإبنه ليعيد عليه السؤال بعينيه دون أن ينطق به ليجيبه جمال بإنهاك فالدقائق التي مرت قد استنزفتهم جميعا:
- اللي حصل يا ابوي إنه السر اللي دفنتوه من زمان انكشف.. و البنت دي ( قالها مشيرا لنور التي كانت تتطلع إليه بجمود و بقايا الدموع ما زالت تترقرق في مقلتيها ) تبقى بنت عمتي سهام اللي خبيتوا عنا حكايتها و نار التار اللي كنتوا عايزين ترموها فيها كقربان عشان تبقى رماد.
تصريح كان كما الصاعقة التي ضربت عقولهم فتركتهم في ذهول و غفلة لم يستفيقوا منها إلا على سالم الذي لم يشعروا باقترابه من جمال و هو يمسك بياقة قميصه يهزه و ينهره:
- عملتها و كسرت كلمتي.. جبتها حدانا عشان تفضحنا و تهد البيت على روسنا يا خسيس!!
نفض جمال قبضة عمه و هو يهدر بصوته غضباً:
- ما كنش ينفع أدير ضهري ليها.. دي بنت عمتي يعني عرضي و دمي و ان كنتم انتم مش عايزينها فأنا مش هاسيبها و اخبطوا راسكوا في الحيط.
ارتج الجمع على دوي الصفعة التي نزلت بوجنة جمال و قد كانت من الغلظة ان التف رأسه لها إلا أنه اعاد نظراته و قد اشتد سعير الجحيم فيها و هو يقبض على كفه يمنعها التطاول على عمه.. كانت العيون جاحظة و الألسنة قد ربط عليها.. ما القول و ما الفعل و هم لا يفتهمون..زوج من العيون كانت تذرف الدموع صمتاً بعد تصريح جمال الأخير فهي لم تستوعب بادئ الأمر إلا أن هذه الفتاة لم تكن مخطوبته كما توقعت ليرتاح قلبها و ينهرها عقلها على راحته و هناك مصاب جلل يتنزل بالعائلة .. لكن الآن و هو يعلنها صراحة أنه لن يتخلى عنها عادت تهاجمها الوساوس بشراسة أشد.. بينما بطلة المشهد ارتد رأسها للخلف من هول مشهد الصفعة و هي ما تزال تظن أنها تحتضن جدتها التي انسلت من بين ذراعيها لتنهض بثقل فرضه عليها عمرها المديد و هي تقول بهياج و صراخ:
- كله يحط لسانه في حلقه.. حرمتوني من بتي زمان و حرمتوني أجيب سيرتها أو حتى أبقى على صورة ليها أكحل عينيا بيها.. و دلوقت بعد ما لقيت ريحتها و حتة منيها عايزين تبعدوها عني تاني.. و الله لو فيها موتي و موتكوا كلاتكوا مش هاتبعدوها عني بعد ما بعدتوها عن حضني بالاول و دلوقت أعرف انه القبر خدها مني خالص ( ثم وجهت أنظارها المحتدة لزوجها و هي تنطق من بين أسنانها بغل ) بت بتي لو خرجت من إهنه أنا هاخرج و اياها.. و ما ليش عيش معاكوا واصل و أنا بقولهالكوا أهو أنا بايعاكوا كلاتكوا و اشتريت بتي.
ضرب عبدالعزيز الأرض بعصاه بغلظة و هو يهب على قدميه و قد قرر أن ينهي فقرة صمته فيصيح بزوجته ناهراً إياها:
- هي حصلت يا بت عمي.. بتتحديني و ترفعي صوتك في وشي؟! و الله عال تبيعينا عشان بتك الفلتانة اللي هربت مع عشيقها و حطت روسنا بالوحل.
- ما حصلش ( هدرت بها الأم و هي تحرك يديها بعصبية و أعقبت ) انتوا اللي عملتوا فيها اكده.. كنتوا عايزين تدبحوها بالحيا و انا كنت شايفة و ساكتة.. كنت خايفة منك بس خلاص زمن الخوف راح و اللي ما عملتوش زمان هاعمله دلوقت و زي ما قال ولدي جمال بتنا هاتفضل وسطينا و اللي مش عاجبه يخبط راسه في الحيط.
اقترب عبدالعزيز بخطواته المتهدلة نحو زوجته و قد بان الغضب جليا على محياه لتتقدم نور و تضع جسدها حاجزا بينهما و هي تتطلع إليه بحزن نافر من مقلتيها:
- معقول بعد كل هالسنين مش قادر تسامح و تغفر.. أمي سامحت و غفرت قبل موتها.. إنتوا غلطوا بحقها و هي قابلتكم بغلط ما كان في قدامها غيره.. مرات بتنحسر الخيارات لغلط و غلط اكبر منه و اللي بيفاضل بين الغلطين هو الإنسان نفسه.. مرات بفكر هل أمي غلطت؟ فكرت كتير لحد ما وصلت انه الطرفين غلطوا و الطرفين ظلموا بعض و بالنهاية ما في صلاح مطلق و لا شر مطلق.. دائما البريء إلا ما تشوب براءته بعض الشر اللي بيعكرها و الظالم ممكن تلاقي لظلمه سبب أكبر منه.. بالنهاية كلنا عايشين بالمنطقة الرمادية و بتمر علينا أوقات بنضطر نتصرف بغريزة البقاء و الحرية و هاد اللي صار بهاي الحكاية.. و الغفران مش موضوع سهل أنا عارفة لكن أنا شو ذنبي أعيش اللي باقي من عمري بدون أهل بالرغم إني إلي أهل و عزوة كبيرة؟!!
و ما ان أكملت كلماتها قاطعها عبدالعزيز بتشمت و استسخاف قائلاً:
- عايزة السماح و الغفران.. ( ليقهه باستهزاء قبل ان يكمل ) و ده ليه ان شاء الله مش احنا ظلمناها و احنا اللي جينا عليها.. يبقى ازاي احنا اللي نسامح ده احنا اللي المفروض نطلب السماح!
تجاهلت نبرة الاستهزاء بصوته الرخيم و نظرات الجمع المرتكزة عليها لتقول بإباء و براثن صداع تنشب برأسها تكاد تفتك به:
- ما بعرف مين الصح و مين الغلط.. مين الظالم و مين المظلوم! الحق تاه بينكم و بطل ينعرفله طريق بهالقصة و الله بس بيعرف طريقه.. و كل هاد ما بيهمني ( و أردفت و هي تشمل الجميع بنظراتها ) كل اللي بطلبه إنه ننسى و نفتح صفحة جديدة للعيلة و أنا اكون من حروفها.. معقول الزمن و الفراق و الدم اللي بيجمعنا ما يشفعلي و يشفع لأمي عندكوا.. و لا حتى قول الله ( فاعف عنهم و اصفح إن الله يحب المحسنين ).
تستجديهم.. نعم و لا بأس هي مستعدة لأن تتذلل و تقبل الأيادي فهؤلاء أهلها حتى لو نبذوها، شعرت بيد جدتها تزيحها من طريقها لتواجه زوجها قائلة:
- أنا عمري ما غضبت عليها.. زعلت عليها لكن قلبي رضيان عليها.. لكن إنت قلبك حجر يا عبدالعزيز و عمره ما حن.. مش دي سهام اللي كانت حبة القلب اللي ما ترفضلهاش طلب واصل ليه عملت فيها اكده؟ أنا من يومها و انا بقعد مع نفسي أسألها ليه عملت كده في بتك و ما قدرتش ألاقي جواب.
أشاح بوجهه غضباً و خطوات إحدى النساء المكلومات تتقدم نحو نور لتصبح قبالتها فترفع كفيها تتحسس بشرة وجهها و كتفيها نزولا لكفيها فتلتحم الأكفف.. لتقول بصوت متهدج و هي تقاوم سكب عينيها:
- هي قالتلك إنها سامحتني؟
عقدت نور بين حاجبيها لا تفتهم كأنما تطالب الاستفاضة بالحديث.. لتردف المرأة قائلة و هي تشير على صدرها بسبابتها:
- أنا اختها أحلام.. قالتلك إنها سامحتني؟ أنا جرت عليها كمان.. اخترت جوزي على خيتي.. بس ربنا خد حقها مني.. و جوزي اللي ضحيت بخيتي عشانه سابني و هج و راح اتجوز وحدة مصراوية عشان خلفة الصبيان.
قهقهت أحلام بسخرية تجلد نفسها التي سوَلت لها يوماً التضحية بأختها و هي تتابع كمن يهذي بتيه:
- أنا بدعي دايما بصلاتي انها تكون سامحتني..ذنبها محفور على رقبتي.. حتى لما هربت أنا وزيتهم يدوروا وراها و يجيبوها غصبن عنيها عشان أبو بناتي يعيش.
- سامحتك و سامحت الكل.
كانت تلك كلمات نور التي بثتها قدر ما استطاعت من الحنو.. لتنظر لها أحلام كمن يستجديها الصدق في القول ليأتيها التصديق بشكل إيماءة هادئة و ابتسامة دافئة من ابنة اختها، ربتت نور على كتف خالتها التي تجاهلت التربيتة و هي تسحبها نحوها بعناق ساحق لأضلعها.
الكل كان يتابع المشهد بين متأثر و حاقد و ناقم و حائر.. الكل حتى مصعب الذي عادت به الذكريات لتلك الفترة المشؤومة و هو من كان يرفع رأسه دوما زهوا و فخرا بين الخلائق انحنى رأسه حينها أو هكذا خيل إليه حتى لو لم يعلم الناس فعلم النفس تكفي.. نفسك هي الشاهد الأقوى و هي من تحرك عنفوانك للأعلى بزهو أو للأسفل بانكسار.. لم و لن يغفر لها حتى لو وارى التراب ثراها.. هي أجرمت بحقهم و ليس هو من يسامح، تحرك بخطوات بطيئة نحو نور التي كانت الآن تتوسط والدته و أخته الكبرى و هم يناظرونها بشوق لسهام التي تمثلت لهم الآن بابنتها الوقحة برأيه.. أبعد أخته بيده بغلظة ليقابل نور بنظرات مشمئزة و هو يقول:
- و جاية لوحدك ليه يا بت سهام؟ أمك و عرفنا انها غارت لكن أبوكي فين و سابك تيجينا برجليكي لوحدك ليه؟
تجهم وجهها و قد استحال للحمرة من شدة الغيظ فهو يذم والدتها في حضورها بكل صفاقة و يبدو أنه لم يكن قد استمع لجملتها العابرة و التي ألقتها على مسامع جدها بأن الله قد اختار أن لا يبقى لها أهل سواهم.. لتجيبه و هي تبتسم بتحدي بزاوية فمها:
- أبوي الله اختاره من سنتين الله يرحمه.. و جدي و جدتي كمان توفوا من سنين..
و قبل أن تكمل شرحها قاطعتها جدتها و هي تلطم على صدرها بلوعة و تقول:
- يعني وحدانية يا ضنايا؟ فضلتي وحدك سنتين و ليه ما جيتيش حدانا من وقتيها؟
تحولت نظراتها للرأفة و هي تلتفت لجدتها و تنطق:
- لحد ما طلعت من حالة الحزن على فراق أبوي و بعدها لما فكرت بموضوع جيتي هون بصراحة القرار كان صعب جدا.
لتأتيها كلمات خالها سالم المتهكمة بغل جلي و هو يقول:
- يا ريتها فضلت صعبة و ما استسهلتيهاش يا بت سهام.
قطبت حاجبيها بحيرة.. ليس من كرههم لها بل من اللقب الذي أطلقوه عليها " بت سهام " هي تفتخر بكونها ابنة سهام الأبية لكن رنة الحروف و هي تخرج من شفاههم تعلمها أنهم ما قالوها إلا ذماً.. هزت رأسها للجانبين بقنوط و قد أوشكت أن ترفع راية الاستسلام و هالة من الضعف تلبستها بعد أن استنزفت مشاعرها و قد جفت لتحيد نظراتها نحو جدها الذي عاد لجلسته على المقعد و هو يناظر الفراغ أمامه بحاجبين معقودين و كفيه تستقران أمامه فوق رأس عصاه و يبدو كأنه منفصلا عن المشهد ككل.. لتشيح بنظراتها و تنقلها لجدتها التي ما زالت دموعها تخضل وجنتيها و هي تبتسم لها كأنما تشحذها لخوض المعركة لنهايتها.. لا بأس فالمعارك فوز و خسارة و المهم هي الحرب و الحرب كر و فر، استقامت أكثر بوقفتها و هي تصلب كتفيها تشملهم جميعا بنظرة سريعة و هي تبتلع علقم نبذها بشموخ يحكي جلد كرامتها التي لا تنحني.. تهزء هي من نقضهم لدمائهم التي تجري بشرايينها فلا فصال هنا.. هي ابنتهم شاء من شاء و أبى من أبى.. لتقول كلمتها الأخيرة في هذه المعركة:
- مهما هجتوا و ثرتوا.. صرختوا و ضربتوا برجليكوا الأرض أنا راح أضل بنتكم و من دمكم و هاي حقيقة مستحيل تتغير..و إذا ما كنتوا بدكوا اياني ببيتكوا فانا راح أتأجر أي شقة هون بالبلد أسكن فيها لحتى الله يحلها من عنده و مش هاستسلم.. صدقوني ما تألمت و أنا بتخيل السيناريوهات اللي مرت ببالي زي ما تالمت هلأ.. أنا وحيدة الآن و ما الي عيلة تحضني فمشان هيك و من الآخر أنا ما هابعد عن ستي ( قالتها و هي تطالع جدتها ) طالما هي بدها اياني بحياتها و أي حدا بيرغب بوجودي بحياته انا راح أحارب أي حدا تاني بده يبعدني عنه.. أظن كلامي واضح.. مش راح أتخلى عن أنانيتي بحقي بالعائلة.

ليختم المشهد جمال و الذي كان للمفارقة مبتسماً طوال الوقت يتأمل تفاصيلها و خلجاتها التي تتبدل بوقت قياسي من التشنج للحنو للتحدي.. ليقترب منها بشموخ ورثه عن رجال عائلته الأشداء و يقول بصوت عال ليسمع الجمع:
- مش هاتتحركي خطوة من هنا يا بنت عمتي.. ما جبتكيش هنا عشان أخلي بيكي.. انتي مكانك هنا بينا و مش اي مكان تاني.
حانت منه التفاتة لجدته ليجدها ما زالت تذرف الدموع على فقيدتها التي لم يتسن لها تشييعها ولا وداعها:
- و الا إيه يا جدتي؟
لتخرج من شرودها الأليم و هي تقول بقوة مؤكدة:
- طبعا ما الهاش مكان غير بيت أهلها.. و أنا هاجهزلها أوضة سهام تعيش فيها بينا و وسطينا و اللي عاجبه يا أهلا و اللي مش عاجبه أهو الباب عنديه يفوت جمل.
لتخطو بثقل تجاه نور المبتسمة لها و تقبض على كفها توجهها لأعلى السلم تجاه غرفة والدتها حيث ذكريات طفولتها و صباها و أخيرا قهرها.






ام زياد محمود 13-10-19 11:42 PM

فصل مؤلم جدا ابكتينى بالمواجهة المرهقة دى

نور الشجاعه القوية انا حبيتها جدا وحبيت دفاعها عن حقها فى ان يكون ليها عيلة تتحامى فيها

للأسف ان اللى فتحوا دراعاتهم ليها غير جمال طبعا هما جدتها وخالتها الطرفين الاضعف فى العيلة وخدوا الموقف اللى المفروض يجى من رجال العيلة اللى كل همهم سمعتهم وشكلهم قدام الناس

ونسيوا ان نور بنت وسهل جدا انها تستغل من ناس حقيرة والمفروض يحموا عرضهم المتمثل فيها

ياترى سمر هتقبل وجودها وهى خايفه منها على جمال

وجدها واخوالها هيفضلوا على غبائهم وتعنتهم فى رفض وجودها

تسلم ايدك الفصل روعه

زهرة الغردينيا 14-10-19 01:18 AM

السلام عليكم ورحمة اللة وبركاته
بداية مشوقة ....
نور لم يعد لديها احد من عائلتها بعد وفاة والدها
لقد قررت السفر الى مصر لكى تتعرف
على عائلة والدتها ...
لقد اعتقدت انهم سوف يرحبون بها
لكنهم رفضوا وجودها معهم....
وحدة جمال ابن عمها هو من دافع عنها
وجدتها قررت ان تكون قوية وتدافع عن حقها
ب حفيدتها بعد ان حرموها من ابنتها...
تسلم ايدك حبيبتي ❤❤❤❤
بانتظار القادم بشوق

modyblue 14-10-19 07:38 AM

حينما يتعارض الخوف مع الأمل.. على الأمل أن ينتصر و يمضي و على الخوف أن يتقهقر و يذوي.

modyblue 14-10-19 08:19 AM

فارع دارع. عو يقال لمن يخرج بدون لباس كامل بسبب السرعه. فارع: مكشوف الرأس، دارع: مكشوف الصدر. س. المعنى: أنه قد يسمع صوت مشاجرة فيخرج

modyblue 14-10-19 08:19 AM

عيناها الزرقاوان كما المحيط يود لو يرتحل فيهما دون أن ينشد لنفسه مرسى

modyblue 14-10-19 08:28 AM

إضرب الرأس يتهالك الجسد بأكمله و دعك من الأطراف.

modyblue 14-10-19 08:35 AM

فمن قال أن من صمت نجا كان واهم.. فإن من صمت هلك و هلك معه الحق فلتجهر بالحق حتى لو كان فيه فناءها


الساعة الآن 08:24 AM

Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.