كان كعب حذائها عاليا جدا . تأملته كارمن وهي تقف في ركن هادئ من الحديقة هاربة من الضجيج والزحام .. وتمنت لو تستطيع أن تخلعه وتمشي بقدميها الحافيتين على العشب الرطب .. لكنها نفضت تلك الفكرة فورا عن رأسها خوفا من أن تقبض عليها والدتها شويكار هانم متلبسة بالجرم المشهود وهو خرق قواعد الإتيكيت العريقة !.
تأملت الأنوار البعيدة في هذا الوقت من المساء من خلال سور الحديقة المنخفض .. وسحبت الهواء المنعش لتملأ به صدرها علها تشحن بعضا من الطاقة لتعود مرة أخرى وتنضم للحفل .. رفعت نظرها للسماء تتأمل النجوم اللامعة تحسدها على ذلك الهدوء والصفاء اللاتي تسبحن فيه .. متمنية لو كانت واحدة منهم .. نجمة تسبح في السماء .. تسبح في فلك سرمدي .. فكثيرا ما شعرت بأنها تشبه تلك النجوم.. وهو شعور يحزنها لسبب تجهله.
تفحصت هاتفها لربما أرسل لها لؤي ولو حتى رسالة .. لكنها لم تجد شيئا .. فتنهدت تنوي العودة للحفل .. فتحركت برشاقة بكعب حذائها الرفيع اللامع تفرد قامتها في ذلك الفستان الذي يبرز أنوثتها متغلبة على أنين قدميها وظهرها وعلى اجهادها من التفاعل مع عدد كبير من الناس دفعة واحدة .. لترسم على وجهها ابتسامة تتقنها جيدا لتبدو أمام الأعين رائعة الجمال .. ..كما عليها أن تكون دائما ! ..
لمحت أمها شويكار هانم تقف مع إحدى الضيفات تشرح لها أمرا بملامح متباهية كعادتها .. فتقدمت نحوها تسيطر بمهارة على عضلاتها المتشنجة لتبدو في أحسن صورة أمام تلك الضيفة التي تعتزم والدتها أن تعرفها عليها كما خمنت ..
حين اقتربت كارمن صاحت شويكار مهللة " صفاء .. أعرفك على ابنتي كارمن "
ابتسمت كارمن لصفاء هانم ولمحت في عينيها الإعجاب بها فشعرت بالراحة بأن نجحت في ترك انطباعات جيدة لدى ضيفة والدتها وإلا لحزنت شويكار هانم وهي لا تحب أن تحزنها .
بعد تبادل حديث قصير مع الضيفة تخللته العديد من الكلمات الفرنسية والانجليزية ..استأذنت الأخيرة تاركة كارمن ووالدتها ترحبان بباقي الضيوف وانضمت لصاحبتها تقول وهي ترفع هاتفها أمامها " رائعة هذه الفتاة سألتقط لها صورة وأرسلها لأبن أخي فهو يبحث عن عروس .. ولن يجد أحسن منها.. إنها رائعة الجمال .. هادئة وعلى خلق ومتعلمة في افضل الجامعات الأجنبية .. وتتقن أكثر من لغة كما أخبرتني شويكار منذ قليل " ردت صديقتها بلهجة متهكمة " رائعة لكن مُفلِسَة"
جحظت عينا صفاء بصدمة وانزلت الهاتف لتسأل صاحبتها باندهاش " من المفلسة يا سامية ؟؟؟؟" ردت سامية بهدوء " عائلة السيوفي على وشك الإعلان عن افلاسها قريبا .. هم يتكتمون على الخبر لكني أعرفه من مصادر موثوق بها" وضعت صفاء يدها على فمها مصعوقة فأكملت سامية " أنتِ لا تعرفين شيئا لأنك عدت منذ أيام للوطن .. لكن للأسف تلك هي الحقيقة "
نظرت صفاء حولها تتفحص تفاصيل الحفل المقام بمناسبة عيد ميلاد شويكار الشبكشي وما يتضمنه من مظاهر مكلفة ببذخ.. فأكملت سامية كلامها وكأنها قرأت أفكارها " لا يغرك ما ترينه في هذا الحفل من تكلف .. فهذه هي شويكار كما تركتيها لم تتغير .. مازالت عاشقة للمظاهر متفاخرة بأصولها العريقة وبجدها عبد الفتاح باشا الشبكشي .. وما ترينه هو محاولة أخيرة منها لإنكار ما هم مقبلون عليه .. لكن ما أعلمه من مصادري الخاصة أنه اسرع مما تتخيل شويكار نفسها " ردت صفاء شاعرة بالحزن " لا حول ولا قوة الا بالله! .. لن تتحمل شويكار صدمة مثل هذه .. "
قالت سامية بأسف " مشاكلهم المادية بدأت قبل خمس سنوات وتراكمت الديون والقروض .. ولأنكى من ذلك أن أعداء شويكار من الوسط النسائي كثيرات " سألت صفاء وقد تذكرت أمرا" هل مازالت تنافس ثريا الفالح؟؟!! "
لمحت سامية قبل أن ترد ثريا هانم الفالح تدخل بكامل زينتها وأناقتها من باب الحديقة متقدمة نحو صديقتها اللدود شويكار الشبكشي بمشية أرستقراطية متفاخرة فقالت سامية " وكأنها ظهرت على السيرة .. أجل مازالتا تتنافسان على كل شيء من أكبر شيء لأتفه شيء "
على بعد أمتار كانت تستقبل شويكار صديقتها اللدود ثريا الفالح .. التي حركت أنظارها بشكل متعمد تتفقد تفاصيل الحفل وابتسامة متهكمة تزين شفتيها قبل أن تقول بلهجة مجاملة " عيد ميلاد سعيد يا شوشو .. يبدو أن الحفل على مستوى عال " ردت شويكار بزهو " شكرا يا حبيبتي .. بالطبع الحفل على مستوى عال تعرفين ذوقي جيدا .. (ومالت عليها تقول ببعض الاغاظة الغير معلنة ) حفل يليق برئيسة أكبر جمعية خيرية في البلاد "
طالعتها ثريا بنظرات ساخرة ثم قالت وهي ترفع حاجبا رُسم بشكل احترافي " لبضعة اشهر فقط عزيزتي .. فلم يبق سوى بضعة أشهر وتنتهي فترة رئاستك وبعدها ( وصمتت قليلا تناظرها ببعض الغموض وقالت ) سنرى من منا ستفوز هذه المرة "
أخفت شويكار توترها وخوفها من انحصار شعبيتها بين عضوات الجمعية بسبب الوضع المالي المتردي الذي تعانيه أسرتها مؤخرا رغم أنها تنكره أمامهم .. وقالت بعد ضحكة عصبية سريعة " دورتين متتاليتين لرئاسة الجمعية وأتطلع أن تصبح ثلاثة " اقتربت كارمن منهما تحيي ثريا الفالح .. فطالعتها الأخيرة بنظرة متعالية استشعرتها كارمن جيدا .. لكنها سألتها بلهجة عادية تداري ضيقها " ألم يستطع لؤي الحضور معك ؟"
ردت ثريا بلهجة ذات مغزى وهي تعدل من وضع العقد الألماسي المبهر حول رقبتها والذي ارتدته خصيصا لهذا الحفل " أعتقد أنه على تواصل دائم معك .. ألم يخبرك بأنه مشغول ؟"
شعرت كارمن بالارتباك وحانت منها نظرة جانبية سريعة ناحية اليمين حيث تقف والدتها بجانبها ثم غمغمت " بلى اخبرني .. قصدت ربما غير رأيه .. ( وهمت بتركهما ) بعد اذنكما " فردت شويكار بسرعة " بالطبع عزيزتي هما على تواصل ألم يتربيا سويا.." تركتهما كارمن تبتعد شاعرة بالاختناق .. تركتهما تتنافسان وتتفاخران أمام بعضهما .. تركتهما تستعيدان مجد الأجداد القديم .. وتتصارعان على الانتصارات الحالية والمستقبلية .
وتحركت نحو ركن هادئ من زوايا الحديقة الكبيرة لفيلا والدها .. تشحن بعضا من الطاقة من جديد . انها ذلك الشخص الذي يفقد طاقته ويشعر بالإجهاد كلما احتك أو تعامل مع عدد كبير من البشر .. تفضل الوحدة وتشعر بالسعادة في عالمها الخاص ومحيطها الضيق وتفضل الابتعاد عن التجمعات والحفلات وما الى ذلك ..
لكن هذا للأسف عكس ما تريده والدتها .. المحبة للأضواء .. والتي تزداد طاقة بالتعامل مع الناس .. لذا لا تتوقف عن انتقادها وتوبيخها شاعرة بالإحباط من أن تكون ابنة شويكار الشبكشي وعاصم السيوفي منغلقة.. متحفظة .. تكره التجمعات والحفلات .. وتفضل جلسة هادئة في البيت و يا حبذا في غرفتها .. دائرة أمانها الوحيدة .. وسط كتبها واقراصها المدمجة وعالمها الخاص ..
لكنها ككارمن تحسنت مهاراتها الاجتماعية كثيرا بعد أن بذلت مجهودا لتخفي ذلك الشخص المنطوي العاشق للوحدة حتى تُسعد والدتها.. فيكفيها أنها لم تكن أبدا تلك الابنة التي تمنتها والدتها وترقى لطموحها .. إنها تحتاج للابتعاد لتنزوي في ركن هادئ تتنفس قليلا ثم تعود ترسم الابتسامة على وجهها من جديد ..
طالعت النجوم في السماء مجددا وفتحت هاتفها لتسمع بعضا من الموسيقى الهادئة متمنية أن تنتهي الساعتين الباقيتين من الحفل سريعا حتى تعود لغرفتها .. فتحظى بحمام ساخن يفكك عضلاتها المتشنجة وخاصة قدميها .. وترتدي ملابس قطنية ناعمة ومرنة وفضفاضة .. ثم تغوص في سريرها .
بعد ثوان اخترق صوت مواء قطة انغام الموسيقى الهادئة في أذنيها فنزعت السماعات لتتأكد من أنها تسمع صوت قطة صغيرة .. فحركت أنظارها في الحديقة ذات السور المنخفض لكنها لم تجد شيئا .. لتخرج من بوابة الفيلا بخطواتها الرشيقة محدثة صوت طقطقة بكعب حذائها الرفيع على أسفلت الشارع وهي تستدير حول سور الفيلا مائلة بجذعها تحدق في الأرض .. حتى وجدتها .. صغيرة منكوشة وجائعة .
تملكت الشفقة قلب كارمن نحو القطة الصغيرة ولملمت فستانها لتجلس على عقبيها تتأملها بتعاطف .. ولم تلحظ تلك السيارة ذات الزجاج الأسود التي ترابط منذ مدة على بعد أمتار من فيلا والدها .
استقامت كارمن وتحركت لداخل الفيلا تخترق الجموع وتحي هذا وتلك بابتسامة مجاملة حتى دخلت لمبنى الفيلا الداخلي متجهة نحو المطبخ .. لتخرج بعد دقائق من البوابة إلى تلك البقعة التي تنكمش فيها القطة وعادت لتجلس على عقبيها مجددا واضعة أمامها صحنا من الحليب .. وأخذت تراقبها بحنان وهي تلعقه بجوع فغمغمت بلهجة رقيقة " اشربي يا حلوتي .. ما أجملك !.. اشربي الحليب ولا تخبري شويكار هانم بأني اقتربت من قطة شوارع وإلا لحصلت على التوبيخ المتين " من خلف النافذة في السيارة الرابطة بالقرب منها راقبها في جلستها أمام القطة.. وراقب حركتها المتكررة وهي ترفع شعرها الناعم من على وجهها إلى خلف أذنيها لكنه يأبى أن يبقى ليعود لينسدل مجددا على وجهها المائل تحدق بما خمنه من هذا البعد بأنها قطة .. ثم نظر للهاتف في يده الخشنة مترددا هل يضغط على زر الأرسال أم لا .
بعد دقيقة اهتز هاتف كارمن في يدها منبها فتركت مراقبة القطة لتنظر فيه.. ثم تغيرت ملامحها للصدمة.. واستقامت تحدق في الهاتف بعدم استيعاب لبعض الدقائق وتحرك صورا أمامها بإصبعها تطالعها مصعوقة .. ليهتز الهاتف مرة أخرى وتجد رسالة أخرى تحتوي على عنوان .. فلم تشعر بنفسها إلا وهي تتجه نحو الداخل لتعود بعد دقيقة تحمل حقيبة يدها وتسرع الخطى بخطوات عصبية يصدرها كعب حذائها الرفيع حتى وصلت لأول الشارع وأوقفت سيارة أجرة .
في السيارة ذات الزجاج الأسود تكلم أحدهم من المقعد الامامي بجوار السائق موجها الحديث للمقعد الخلفي قائلا " هل نذهب وراءها فارس باشا ؟ " رد فارس بصوت رخيم غامض " أجل " ثم حدق مجددا بهاتفه ليقبض عليه بقوة كادت أن تحطمه بينما انطلقت سيارته تتبع سيارة الأجرة التي استقلتها كارمن .