كان هناك شيء ما بداخل عقلها يعمل
إ
حساس ما استيقظ بداخلها وهي تبذل جهدها لتتخطاه
حتى لا تلتفت له
ولا تريد أن تعطيه أقل جزء من وقتها لتفكر به
لكنه الآن موجود وبقوة تفوق القوة التي تبذلها لتخطيه
كما أن صورة عمار مرسومة أمام ناظريها
وهو يضحك , ويتلوى لما تدغدغه
وهو يفرك إحدى عينيه بينما ينظر لها بالعين الأخرى ليراقب ردة فعلها على طلبه أن تسمح له أن ينام فوق سريرها
وهو ينتظر في استسلام الأطفال ما ستفعله به لأنه خالف بعض أوامرها
هذا الانفصال عن الواقع بتلك الذكرى جعل الوقت يمر وسخونة كوب القهوة تغادره إلى غير رجعة وصوت عبلة يتبدد في الهواء دون أن تسمعه حتى ألحت عليها في النداء
رفعت نظرها لتجد عبلة السكرتيرة تنظر لها بصرامة
عبلة : هيه , ما بك ؟ هل أنت بخير ؟؟
سحر : أجل
عبلة : إذن أظنك قد سمعت النداء الموجه لك ؟؟؟!!!!!
سحر تقطب بين حاجبيها
عبلة : ألم تسمعي الرئيس ؟
سحر : أي رئيس ؟
عبلة : يبدو أنك غير مستعدة بعد لأداء المهمة , لكن لو قمت بها أنا مكانك فإحدانا ستغادر هذه الشركة دون رجعة وربما كلتينا
عبلة تواصل : لقد عملت مكبرات الصوت وطلب منك إحضار هذا
ومدت لها يدها بلمف جديد
قامت سحر على مضض
وتوجهت لمكتب عبلة
تناولت الملف منها وهي ما تزال واجمة
تفكر
شبه منقطعة عن العالم من حولها
تسبح في أفكارها التي تسيطر عليها بفعل ذلك الحدس
واستدارت إلى الناحية الأخرى التي عليها أن تتوجه نحوها لتؤدي العمل الذي طلب منها أداءه
وعندما توجهت بها خطواتها المثقلة نحو ذلك الباب بدأت في صراع داخلي عميق مع نفسها
هذه هي المرة الأولى التي ستدخل فيها حجرة رئيس مجلس إدارة الشركة العربية المتحدة للإنشاء والتعمير
الشركة التي أخبرها مديرها أن اسمها قد تم وضعه بدل من سعاد الموظفة الأكثر كفاءة منها والأكثر لباقة وقدرة
لتعمل مع السكرتيرة الشخصية لرئيس مجلس الإدارة اللطيفة
السيدة التي أعلمتها أنه طُلب منها وضعها هنا في هذا الموقع
وهذا المنصب
لتعمل معها وقريبًا من هذه الحجرة
الحجرة التي فتحتها نفس السكرتيرة أمامها قبل ذلك ورأت بعض محتوياتها وأدهشها ما رأت
لكن
سيطرة ذلك الحدس الذي بداخلها عاد يقوى
فصارت تحاول ـــــ على الأقل ــ أن توازن بين تلكما القوتين لقهر ما بداخلها
تريد أن تؤكد لنفسها أن ما ستراه بداخل الحجرة سيدهشها حقًا وسيجعلها تنبهر
الانبهار
إنه شيء من زمان فقدت حق أن تعرف معناه
من يوم ما عقدت صفقة مع كل شيء فيها كي تعيش بسلام
فقط كانت تريد أن تتمكن أن تعيش حتى تنقل هذا الإحساس ( السلام ) لذلك الكائن الذي نما بداخلها ثم خرج منها إنسانًا كاملًا له حق أن يحيا في هذه الحياة
لذلك لا الانبهار ولا الدهشة ولا الفرح بقوة ولا حتى الحزن بعمق بأمور تؤثر فيها مطلقًا
يأتي الفرح مثله مثل الحزن مثله مثل الإعجاب مثله مثل الدهشة
كل شيء , كل شيء بلا استثناء هو بلون واحد
على وتيرة واحدة
بمظهر واحد
بطعم واحد
بإحساس واحد
إلا عمار
عمار ابنها فقط هو مصدر كل تلك الأشياء التي منعت أن يكون مصدرها العالم الخارجي
سيضحكها عمار
سيحزنها عمار
سيبهرها عمار
سيسعدها عمار
وسيحزنها عمار
ووصلت قدمها حتى ذلك الباب الأبنوسي الخشبي الضخم
كانت تشعر بقدميها ثقيلة وكأنها هي التي تحمل قدميها على كتفيها وليست قدماها هما اللتان تحملانها
سمعت أصوات قديمة لصرخات خرجت منها في المستشفى حيث لم يكن معها أحد إلا الله عز وجل ثم تلك الصديقة الرائعة التي اسمها بنان
كانت آلامها هناك خليط عجيب ومر من عدة آلام
آلام فقدك لوالديك مرة واحدة
آلام لتخلي أقرب الناس إليك عنك دون إبداء الأسباب
آلام لغدرات الزمان وتهكمات الدنيا منك
والآم لأنك وحدك الذي سيواجه كل ذلك
سمعت صوت الممرضة البغيض وهي تصرخ بها : أنت ينبغي أن تساعديني وإلا ستموتي
هنا اختصرت لها الدنيا بكل ما فيها من مساحات شاسعة كانت تتمنى زيارتها ومن أنهار وبحار وغابات وصحاري ومجاهيل لا تعرف عنها شيئًا
اختصرت لها الدنيا بكل ما فيها من بشر مختلفون فيهم الطيب والخبيث , فيهم الصالح والطالح , فيهم السليم القلب والخبيث , فيهم الجميل والقبيح , فيهم الأبيض والأسود , فيهم الرائع في روعته وجماله , وفيهم الذي تمكن منه القبح والخبث كل التمكن , اختصرت لها في صرخة صغيرة مكتومة لمخلوق صغير تاقت نفسها لتراه بعد كل الذي عانته وكابدته وحدها لأجل أن يأتي للدنيا
وأعطوها ابنها لتحمله بعدما أعلنت الممرضة والقابلة التي أشرفت عليها بانتشاء النجاح قولها : ولد
حملته
لأول مرة تحمل طفلًا صغيرًا ويكون هذا الطفل الصغير في التو واللحظة قد خرج للدنيا وهو ابنها
أرجعته لصدرها رغم تعبها وساعدتها الممرضة الطيبة لتفعل ذلك
وذرفت عيناها الدموع
وتذكرت عصام
الذي كان قبل مدة زوجها
عند ذلك أصدرت كل الالام التي شعرت بها قرارها
هذا الطفل هو ابنها
ملكها
ملكها وحدها
ولن تقدر قوة في هذا الكون بعد مشيئة الله عز وجل على انتزاعه منها
ترددت هذه الأصوات على مسامعها مختلطة بأصوات هسيس الباب وهو يسحب
أزاحت الباب على نفس الطريقة التي فعلت مثلها عبلة
انسحب الباب ودخل في الجدار
س س س س س س س س س س س س س س تك
وبدأت أصوات الرجال بالداخل تصلها
أحست بثقل في قدميها مرة ثانية لا تعرف سره
وبثقل في يديها مصدره الملف الضخم الذي تحمله
صوت يقول : وإذا نظرنا سعادتك للعرض المقدم منهم سنجد أنها فرصة جيدة , لو انتهزناها لن نخسر شيئًا إذا لم نربح
صوت ثاني يقول : أنا أتفق مع الأستاذ طارق , إن لم نربح شيئًا ماديًا منهم سنكون قد ربحنا خبرة نكسبها لبعض موظفينا
صوت ثالث يقول : نعم وسيأتي الملف الخاص بهم بعد قليل كما أمرت سيادتك , وسنرى الورقة ونتأكد من المعلومات والحثيثيات التي فيها
كانت طاولة خشبية بلون بني غامق أقرب ما يكون للون البندقي المحروق
هو أقل من اللون البندقي بدرجة ونصف
تلك الطاولة هي التي يجلس عليها أولئك الرجال
كانت طويلة جدًا في استطالتها
لامعة
مصقولة
تبدو لمعة دهان الورنيش القوية بجلاء عليها والتي تعكس لمعتها الإضاءة القوية المسلطة عليها والموجودة في المكان
يرتد عليها عدد من الكراسي لن تتمكن من معرفة عددها إلا بالعد واحدًا واحدًا
يجلس على طرفها البعيد الممتد الذي هناك عدد من الرجال
نفس الرجال الذين هجموا على المكان دفعة واحدة
يحجب رأس كل واحد منهم وشعره رأس الآخر
تمكنت من رؤية وجوه الرجال الذين يجلسون على الطاولة من جهة يسارها
لكن الآخرون استطاعت رؤية ظهورهم فقط
وكلهم تتوجه رقابهم ووجوههم لهناك
للجهة التي على حافة مستطيل الطاولة
يتحدثون مع شخص
يجلس هناك
حيث لا يمكنها من مكانها هذا أن تراه
لما أصدر الباب وهي تدفعه بداخل الجدار صوت التكة علامة وصول الباب لآخر حد له في الانفتاح التفتت لها بعض عيون عدد من الموظفين ممن هم على يسارها وتقدر أن ترى وجوههم
نظروا لها في جزء من الثانية ثم عادوا ينظروا للشخص الجالس على حافة المستطيل ولا تستطيع أن تراه
صرفوا نظرهم عنها بسرعة قوية
وهذا يعني أحد أمرين : إما أن الأمر الذي اجتمعوا حوله أكثر أهمية بكثير من قوة الفضول التي تأتي للمرء عندما يدخل شخص عين حديثًا للمكان الذي يتواجد فيه
أو أن سطوة مديرهم أقوى من قوة حب الاستطلاع والفضول لديهم
عاد صوت عمار يملأ أذنيها
ماما هل يمكن أن تسمحي لي اليوم بأن أكل حلوى كاندي
لا
ماما هل يمكن أن أذهب في الرحلة المدرسية فيما بعد مع الأبلة
لا وهي تحاول أن تمنع نفسها من إفراط الحزن عليه فهي لا تستطيع دفع رسوم الرحلة
هكذا هو الأمر وبكل بساطة
فيما بعد معناها عند عمار غدًا لكنه حتى اليوم لا يحسن التعبير عن الزمان بأقسامه المختلفة بأسماء تلك الأقسام المحددة فهو يسمي اليوم الآن وغدًا فيما بعد أما المستقبل فلا اسم له عنده
هل تكمل المهمة لأجل المستقبل
مستقبل ابنها
فلماذا إذن تشعر بهذا الثقل في قدميها ورغبة ملحة في الفرار من المكان ؟؟؟؟؟ !!!
كان اللغط مازال يتواصل وصوله إليها
وكان عليها أن تبت بأمرها الحاسم
وعندما التفتت مولية ظهرها لمن بداخل الحجرة لتغلق الباب رأت عبلة
كانت عبلة قد تركت كل عمل بين يديها وأخذت تراقب هذه الفتاة في تصرفاتها الغريبة
لقد أطالت وقت فتح الباب
أطالت وقت الوقوف في فتحة الباب
وهاهي تحمل قدمًا وتؤخر أخرى لتدخل
وهكذا نظرات عبلة الحائرة والصارمة حاصرتها
أسرعت تمد يدها لمقبض الباب لتسحبه
بينما تعاني يديها من قوة ثقل الملف الذي تحمله
وسحبت الباب لتغلقه
ومازال لغط الرجال مستمرًا
لم تكن تعرف سحر أنهم قد وصلوا لنقطة حيوية وحساسة في نقاشهم وذلك هو الذي صرف أذهانهم وانتباههم عنها اللهم إلا تلك النظرة السريعة والحاسمة من عيون بعضهم
أغلقت الباب
ولكن
وصل إلى مسامعها صوت صرخة قوية جدًا لم تع بنفسها وهي تخرج منها لما سمعت الخبر
مدام سحر سامي السليماني
سمعت ضربات قلبها القوية التي أصمت لها أذنيها وصوت اللهفة في كلماتها : أجل سيدي
يؤسفني أن أقول لك أن والديك قد وقع لها حادث
فترة صمت ثقيلة ثم واصل : ويبدو أنهما قد ماتا
لم تشعر بنفسها وهي تصرخ تلك الصرخة التي انطلقت منها بكل قوة يمتلكها كائن بشري على ظهر الأرض
لم تع بنفسها بالذي فعلته بعد ذلك ولا ما الذي حدث معها
كل الذي تذكره أنه لما استعادت وعيها وقف شخص آخر على رأسها
مدام سحر سامي السليماني
هزت رأسها وهي مسجاة على أريكة بيتهم لا تعرف ماالذي يحدث معها بينما بنان تحاول أن تبعد هذا الشخص
لكنه عبد مأمور ويريد أن يؤدي عمله وينتهي من مهمته
قال لها : لو سمحت هل يمكن أن توقعي هنا
كانت لا تعي شيئًا
لم يعد لديها قوة لفعل أي شيء
رحمتها بنان صديقتها كل تلك الرحمة التي خرجت منها وحملت القلم وساعدتها في الإمساك به
شخبطت عدة مرات على سجل ضخم لا تعرف ما هو
ناولها ذلك الرجل خطاب
كانت بنان لاترغب في فتح ذلك الخطاب
لكنها سمعت صوت سحر الذاهل وهي تريد فعل ذلك
ولما فتحت الخطاب
كانت ورقة طلاقها
سمعت صوت صرختها الثانية تتردد على مسامعها أقوى من كل لغط أولئك الرجال
لاااااااااااااااااااااااا ااااااااااااااااااااااااا ااااااااااااااااااااااااا اااااااااااااااااااااااا
عادت القسوة تهز لها قلبها بينما هي تقف لتحسم أمرها في هذا المكتب الغريب
ستكون قوية لأجل عمار وعمار وحده فقط
لكن
عاد الخور والضعف يهزان ساقيها
عادت تلك القوة الخفية للعمل
حدس قوي يشل حركتها
وكان ثقل الملف على ذراعها قد أتعبها
اقالت لنفسها : لماذا لا أضع هذا الملف هنا على طرف الطاولة القريب مني وأغادر المكان ؟؟؟
وعلمت أن ما تقوله هو أمر سيؤدي لطردها من العمل
وهكذا
صورة السكرتيرة عبلة وهي تنظر لها بحيرة وجدية
صوت ابنها الصغير
أصوات الصرخات التي أطلقتها في محطات حياتها شديدة الانحراف
كل ذلك جعلها تحمل قدمها الثقيلة للخطوة الثانية ثم تحمل القدم الأخرى للخطوة التالية
تقدمت خطوة صغيرة
وخطوة صغيرة أخرى
والتقطت عيناها أشكال جديدة وجزئية من المناظر في المكان
وبدأت أجزاء الصورة المحجوبة عنها تنكشف
ها هو الجزء المتوسط من الطاولة يظهر لعينيها وهي تتقدم بتلك الخطوات الصغيرة بتردد وحذر
وهاهي تتقدم خطوة صغيرة أخرى بعد
وجزء مما بعد منتصف الطاولة يتكشف
ووجوه رجال عن يمينها تنظر لها
وهي تتقدم خطوة صغيرة حذرة ومترددة أخرى
مازالت تحمل كل قدم بقوة وتحارب ذلك الثقل الذي تضغط به قدمها عليها
تقاومه
وتحمل القدم
وتضعها في خطوة جديدة
وتتقدم
وظهر لها آخر جزء من مقدم الطاولة
حيث تربض هناك كفان قويتان ذات أصابع طويلة مهندمة
في داخل كم بذلة رمادية
يغلقها كبك ذهبي لامع
واتسعت عيناها عن آخرهما
ورفعت نظرها رويدًا رويدًا
رأت طول ذراع تلك الكف
ثم رحلت العين للصدر
عريض بل وعريض جدًا
ثم
أعلى الصدر حيث قماش القميص الذي تحت جاكت البذلة النيلي الغامق
ثم
أعلى قليلًا
حيث رقبة طويلة
ثم
تبدأ أجزاء الوجه
وجه طويل بذقن مربعة كبيرة
تعرف ذقنًا مثلها
لأنف بعظمة كبيرة مستقيمة
تعرف عظمة مثلها
لعيون تـــــــــ
واتسعت عيناها لآخر اتساع يمكن لعيون آدمية أن تتسعه
وأخيرًا
اكتملت ملامح الوجه الذي يغطيه شعر الذقن الأسود الغرابي الحالك في كل مكان
تشوشت الصورة قليلًا
شوشها وجود شعر الذقن الغزير الذي يغطي الذقن كله في الوجه
لم يبق إلا
ورفعت نظرها للإلا المتبقي
الشعر
وكان هناك فوق الرأس شعر
أسود
غرابي
لامع
حالك
وها هي الصورة قد اقتربت أن تكتمل
تراجعت للوراء يلتقط عقلها الصورة كاملة
قد اتسعت عيناها عن آخرهما أكثر
توسع بؤبؤا تلكما العينان حتى أنها تشعر أن عينيها ستنفجران من كثرة الاتساع
وانفتح فمها في روع كامل ودهشة قتلت أي صوت سيخرج من حنجرتها ليعبر عما اعتراها تلك اللحظة
وسمعت صوتًا تحفظ كل طبقة صوتية لكل وتر فيه
...................... ضعي الملف هنا يا آنسة لو سمحت ولا تغادري حتى أأذن لك
لقد كان هو
عصام عبد العزيز عمار العمر زوجها السابق وأبو ابنها عمار هو الذي أصدر هذا الأمر
وهو أيضًا الرجل الذي يجلس على الطرف البعيد الحاد من طاولة الاجتماعات المستطيلة
وهو الذي تلتف رقاب أولئك الرجال الضخام ناحيته
وهو الذي يترأس هذا الاجتماع
وهو الذي يقول له أضخم رجل في هذا المكان سيادتك ويقول له آخر سعادتك
وهذا يعني أن عصام عبد العزيز عمار العمر زوجها السابق هو رئيس مجلس إدارة الشركة العربية المتحدة للإنشاء والتعمير ومالكها .
انتهى الفصل الخامس ويليه الفصل السادس بإذن الله تعالى