آخر 10 مشاركات
غريب الروح * مميزة ومكتملة * (الكاتـب : Heba aly g - )           »          ليلة مع زوجها المنسي (166) للكاتبة : Annie West .. كاملة (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          جددي فيني حياتي باللقاء *مميزة ومكتملة* (الكاتـب : وديمه العطا - )           »          لحظات صعبة (17) للكاتبة: Lucy Monroe *كاملة+روابط* (الكاتـب : ميقات - )           »          نيران الجوى (2) .. * متميزه ومكتملة * سلسلة قلوب شائكه (الكاتـب : hadeer mansour - )           »          الانتقام المرير - ليليان بيك (الكاتـب : سيرينا - )           »          المتمردة الصغيرة (25) للكاتبة: Violet Winspear *كاملة+روابط* (الكاتـب : monaaa - )           »          القليل من الحب (81) للكاتبة Joss Wood .. كاملة مع الرابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          جنون المطر (الجزء الثاني)،للكاتبة الرااااائعة/ برد المشاعر،ليبية فصحى"مميزة " (الكاتـب : فيتامين سي - )           »          شموخ لا ينحني -قلوب شرقي(خليجي)-للمبدعة: منى الليلي(أم حمدة) *مكتملة & الروابط* (الكاتـب : أم حمدة - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى الروايات والقصص المنقولة > روايات اللغة العربية الفصحى المنقولة

Like Tree1Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 02-05-22, 02:52 AM   #11

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي



(9)

أبو الجدايل الملك !!


في طفولته ، وحين أخرجه ابو الجدايل الأب من المدرسة ليرعى قطيع المعز والنعاج الذي يملكه ، لم يمانع محمود أبو الجدايل على الإطلاق ، فقد كان معقدا من الرياضيات ، عقدة أوجدها معلم سادي للرياضيات في السنين الثلاث الثانية للدراسة ، كانت حزمة العصي تسبقه إلى درس الرياضيات ، ليكسرها على ظهور الأطفال ومؤخراتهم ، فكان محمود أبو الجدايل يستأذن استاذ الدرس السابق لدرس الرياضيات ليخرج لقضاء حاجته ، ولا يعود إلا بعد انتهاء الدرس ، وهكذا أنهى المرحلة الإبتدائية دون أن يفهم من الرياضيات إلا جدول الضرب الذي ظل يحفظه طوال حياته دون أن ينساه ، وبالكاد حتى يتذكر الزائد والناقص والقسمة . ولم يتخلص من هذه العقدة إلا بعد قرابة عشرين عاما حين تعلم لعبة الشطرنج وأدمنها لبضعة أعوام، ولم يكن يهزم إلا نادرا ومن قبل بعض اللاعبين الجيدين . قبل محمود أبو الجدايل مهنة الرعي مع أنه لم يحلم ولو للحظة أن يكون راعيا . كان يحلم بأن يكون ملكا بعد أن تجاوز أحلام الطفولة الأولى بأن يكون معلما لتأثره ببعض المعلمين .. ورغم أنه كان يسترسل في أحلام اليقظة هذه ويقيم مملكته وينصب نفسه ملكا عليها ويركب أفراسا تطير ويتزوج من أجمل بنات البلدة : ( ثريا ) الراعية الصغيرة التي تحولت إلى ملكة في خياله ، إلا أنه كان يعي تماما أنه يحلم ، فيعود إلى واقعه مع القطيع حين يتطلب الأمر التوقف عن الأحلام والعودة إلى عالم الرعاة ، حتى لا يحدث له ما حدث لحسن الملك وأسعد حمدان ، وهما اثنان من رعاة البلدة جنّا بالملكية وحاولا ممارستها في الواقع ، فالأول راح يدعي أمام الناس أنه ملك ، وإذا ما خاطبه أحدهم بغير لقب الملكية كان يأخذ حجرا ويقذفه به ، إلى أن اعتاد الناس مخاطبته بالملك . لكن ، وبين فترة وأخرى كان يظهر من يهين الملك فيقذفه الملك بحجر فيرد الآخر بحجر أيضا أو يشكوالملك إلى أهله ، لينتهي مقيدا بالحبال وملقى في خرابة بئر لبضعة أيام ، يعود بعدها مرغما لممارسة حياة طبيعية إلى أن تأتيه النوبة ثانية لينتهي إلى الخرابة نفسها ، وهكذا دواليك .
المجنون الثاني كان نادرا ما يؤذي أحدا ، غير أنه كان كثيرا ما يترك القطيع فجأة ويعدو على غير هدى رافعا رأسه نحو السماء ، وعلى ذمة الطفل الملك أيضا حينذاك محمود أبو الجدايل
أن الملك أسعد حمدان كان يعدو ليلحق بفرج محبوبته حليمه المحلق في السماء ، وما أن يلحق به ويتملكه حتى يتوقف عن العدو ويعود إلى القطيع . لكن في إحدى المرات جاء الملك ضيوف كثر فنهض مستلا خنجره وشرع في ذبح كبش ليغدي ضيوفه . كان الضيوف في خياله أما ذبح الكبش فقد تم في الواقع . انتهى به الامر إلى الخرابة نفسها التي كان يتناوبها مع حسن الملك .
الأعوام الثمانية التي أمضاها محمود أبو الجدايل في المدرسة خلفت عنده أمرا جميلا وهو عشق القراءة مع القطيع . لم تكن عزبة أبو الجدايل الأب تحوي إلا القليل جدا من الكتب الصفراء القديمة التي احتواها في طفولته بعد أن تعلم القراءة عند شيخ بقرص جبنة وبيضتين وثلاثة أرغفة من خبز الطابون ، وهذا أغلى ثمن كان يدفع للشيخ مقابل قضاء وقت أطول في التدريس . وكان أبو الجدايل الجد يدفع هذا الثمن عن طيب خاطر لتدريس أبو الجدايل الإبن . كانت هذه الكتب (ملحوشة) في سحّارة قديمة مشلّخة . من ضمن هذه الكتب : تغريبة بني هلال . الزير سالم . سيف بن ذي يزن . محمد الغريب . ديوان أبو النواس . عبرات المنفلوطي . هضم محمود أبو الجدايل (الحفيد )هذه الكتب في بضعة أيام . وكاد ينسى الحلم بالملكية وهو يتمثل شخصية أبو زيد الهلالي . والحق أنه كان محيرا بين شخصية أبو زيد الهلالي وذياب بن غانم ، فتارة يكون هذا وتارة يكون ذاك . كما أن عشق عزيزة بنت الوهيدي ( أحد أمراء تونس ) ليونس ابن السلطان حسن الهلالي ، جعله يكون يونس لبضعة أيام ليغرق في هذا الجمال الخارق الذي تصوره عزيزة على لسانها:
أول كلامي من مديح المصطفى / الهاشمي سيد ولد عدناني
تقول عزيزة بنت الوهيدي / أبيات شعر نظمتها بمعاني
يونس لا تبكي بكاك ضرني/ غطّى على قلبي وعاق لساني
انظرصبيّة أصبحت بحظرتك / عرجون ثريّا حولة العشيراني
الراس منها مثل راس يمامة / والشعرمسبول على القمصانِ
والحاجبين كما قوس الرجا / سبحان ربّي كحل العينانِ
والأنف منها كالحسام مجرد / في يد فارس نازل الميدانِ
والثم منها خاتم من ذهب/ واسنانها لولو والشفف مرجانِ
والعنق عنق غزال جل الذي صنع يراعي الخُدّام في البروالوديانِ
والصدر صادر من تخت عنبر/ ونهودها رمّان على لغصانِ!
والسرّة منها كما فسقية / بالمسك والزبذ انحشت ألوانِ
من تحتها تلتقي جنينة هاوية / مفتاحها من داخل القمصانِ
يا بخت من كان ينفتح له بابها/ يقضي زمانه بالصفا غرقانِ
وكان محمود / يونس يفتح باب هذه الجنينة ليغرق في الصفا متمتعا بجمال عزيزة ليبلغ النشوة وهو يداعب ذكره إلى جانب صخرة والقطيع ينتشر من حوله. والحق إنّ أحدا من الرعاة أو الأولاد في بريّة القدس لم يكن قادرا على تخيّل نساء أو فتيات أجمل من النساء والفتيات اللواتي يتخيلهن محمود أبوالجدايل .. فقد كان معظمهم يتخيلون بعض بنات البلدة أوبعض نسائها ، ولم يكن هناك ما يثري مخيلاتهم سوى رؤية فتاة ترفع ثوبها عن ساقها ، خلال السير، أورؤية ركبتين وربما جزء من فخذ لامرأة تغسل ملابس إلى جانب البئر وقد حسرت ثوبها إلى ما فوق ركبتيها !
سعدة بنت الزناتي خليفه لم تدفعه لأن يكون مرعي ولم يتخيلها في أحلامه الجنسيّة وغير الجنسيّة . وحين قرأ سيف بن ذي يزن وجد فيه شخصية مؤثرة أكثر بأفعالها الخارقة فتقمصها لبضعة أيام إلى أن طردتها شخصية الزيرأبو ليلى المهلهل . غير أن اكتشافه لألف ليلة وليلة والغرق في قراءتها رسخ أحلامه بالملكيّة ولم يعد في الإمكان إزالتها من دماغه ، حتى بعد أن هجر القطيع على أثر ضربة بهراوة فأس من أبو الجدايل الأب ، وعمل في أعمال شتى : عتال . حفار . مساعد طاه . جرسون . فدائي . طالب حر من جديد ، ليدرس : الصحافة . اللغة الألمانية . اللغة الفرنسية . اللغة الإنكليزية (التي كان يعشقها وكان الأول فيها في المدرسة .) اللغة العربية . السكرتاريا وإدارة الأعمال . التصوير . السيناريو السينمائي .الرسم ، إضافة إلى مطالعاته الخاصة في الأدب والشعر والفلسفة والعقائد والأساطير وعلم النفس والتاريخ ، والسياسة والفكر ، وتحوله إلى كاتب ، ونشر العديد من المؤلفات ، رغم كل ذلك ، ظلّت أحلامه بالملكية التي رسخها ملوك وجن وعفاريت ألف ليلة وليلة ، راسخة في لا وعية ، وحين شرع في كتابة ملحمة ( الملك لقمان ) ، وجد نفسه يستنهض أحلام الطفولة ثانية دون أن يدري ..أدرك ذلك بعد أن قطع شوطا طويلا في كتابتها . ليجد نفسه ملكا وأي ملك ؟ الملك القادرعلى زلزلة الكون !! والحق أن الزلزلة لم تكن غايته ، كان يبحث عن الله ، ليضع نفسه بقربه ، أقصى حلم يمكن أن يتخيله إنسان أو يحلم به . والحق إنّ تأثره فيما بعد بشخصية النبي محمد على أثر قراءة سيرة ابن هشام ، وتأثره بالفكر الصوفي الإسلامي وخاصة كما هو في فهم ابن عربي ، قد دفعاه في هذا الإتجاه ، غير أن قراءته للفلسفة والعقائد والأساطيرالبشرية ومواكبته لتطورالعلوم ، ساهمت في عدم تحوله إلى متصوف وفيلسوف تقليدي ، فقد شكل فلسفته وتصوفه الخاصين به ، متخذا من مذهب وحدة الوجود لابن عربي مبدءأً لتصوفه ، دون أن يتجاهل العلم والدين ، أو المادة والروح ، لذلك كان يفضل أن يقال عن فلسفته أنها مادية روحية .وهذا ما دفعه إلى تجاوز الكثير من اطروحات ابن عربي التي لم ترق له أو لم يقتنع بها كمسائل الحساب والعقاب والجنة والنار ، فقد نزه الخالق عن العذاب وجعله محبة مطلقة .غير أن ابن عربي والنبي محمد ظلا يحتلان في نفسه مكانة سامية لم يبلغها أحد قط ، حتى ما بعد العقد الخامس من عمره ..
******
قرابة ثلاثة أعوام في الرعي استثمرها محمود أبو الجدايل أيضا في تعلم العزف على الناي والشبابة والمجوز والأرغول ، أتقن العزف إلى حد أنه كان يطوع الاغنام على عزفه ، فما أن تسمع رجع صدى أرغوله يتردد من أعماق الأودية حتى تتخلى عن اضطرابها وتستكين إلى الهدوء وتنتشر على السفوح بحثا عن الكلأ دون أن تبتعد عنه . وكان أخوه الأكبر منه (محمد ) يعجب بعزفه ويستمع إليه بين فترة وأخرى ، وحين عرف شغفه بالقراءة راح يستعير له كتبا من مكتبة المدرسة الرشيدية في القدس التي كان يدرس فيها . ، وكان أول كتاب أحضره له ، هو ألف ليلة وليلة . الذي جعله يحلق بعيدا في عالم الخيال ، ليفتح له آفاقا جديدة لم يكن خياله قادرا على تصورها قبل ذلك ، وهو ما رسخ أحلامه بالملكيّة. غير أنه لم يحلم بأن يكون شهريار أو هارون الرشيد أو أيا من ملوك الف ليلة الآخرين . لم يكن يعرف حينها في الواقع إلا ملكا واحدا ، فراح يتمثله ، ويتقمص شخصيته أحيانا ، أو يتقمص شخصية خارقة أحبها الملك . وكثيرا ما كان الملك يتنازل له عن العرش ، غير أن شهامته كانت تأبى ذلك ، فيضع نفسه في مكانة مقربة جدا منه..
حين شرع في كتابة الملك لقمان كان في الثامنة وأربعين من عمره ، وكان قد أصدر قبلها ثلاث روايات وثلاث مجموعات قصصية عدا كتبه الأخرى في الصحافة إضافة إلى العديد من المقالات والدراسات في النقد الأدبي والمخطوطات الأدبية التي منعت من النشر .. كان في حالة يأس عادية لا تشكل شيئا أمام الحال التي هو فيها الآن بعد اندلاع الثورة السورية . وكانت أوضاعه المادية البائسة قد دفعته إلى بيع البالة لأكثر من عامين . وحين وجد أن حياته تحولت إلى مجرد باحث عن لقمة العيش ، أشعل عود ثقاب وألقاه على مجموعة من فساتين النساء وراح يرقب احتراقها إلى أن أتت النارعليها كلها . فأشعل النار في دفعة أخرى من التنانير .. وهكذا راح يحرق الملابس دفعة دفعة ، إلى أن أجهز عليها كلها . أغلق المحل وعاد إلى البيت . أغلق الباب على نفسه في غرفة النوم واستلقى بطنا على السرير . ارتاح لدقائق ، ثم تناول من جانبه دفترا وقلما وشرع في الكتابة .
كان يفكر في عالم يريح نفسه، وبطل يعبرعمّا يدور في خياله، لا يريد أن يكتب انشاء، يريد بطلا يعشقه ويرى ذاته فيه . تخيل نفسه في شخصية أديب وفيلسوف أطلق عليه اسم لقمان ، ينوي الإنتحار قبل أن يغدو ملكا ، وهذه ( أل يغدو ) ربما تشير إلى أنه لم ينتحر ، ونأمل أن لا ينتحر محمود أبو الجدايل في زمن الثورة السورية المنكوبة، بهذا المسدس الذي ابتاعه فيما بعد لينتحر به . والحق إنّ قصصه مع الإنتحارالمتخيل وحالات اليأس كثيرة ، بعضها لا يمت له بصلة ، كإحدى رواياته التي أطلق عليها عنوان ( الهجرة إلى الجحيم ) وهي تسرد قصة يهودي بولندي هاجر مع طفليه إلى اسرائيل لينتهوا قتلى في حقل ألغام مع مجموعة من المقاتلين الفلسطينيين في جنوب لبنان . أما ما يمت له بصلة ، والمقصود أن يتخيل نفسه في البطل الذي يختاره ! فكان يأسه في إحدى ليالي رأس السنة من أواخر القرن الماضي ، حين لم يجد من يتذكره فيها ، ولم يكن معه ما يكفي من نقود حتى للإنتحار، فظهر له الشيطان ودعاه إلى حفل رأس السنة في بحر معلق في السماء !! أطلق على كتابه هذا ( غوايات شيطانية ، سهرة مع ابليس ) اعتبره الألمان حين ترجموه تأترا بفاوست غوته ! وهو في الحقيقة لم يكن كذلك ، وفي مرة أخرى حاول أن ينتحر بأن ألقى نفسه من سطح أعلى بناية في دمشق ، غير أنه وقبل أن يرتطم بالأرض فوجىء بيدين طريتين ناعمتين تتلقفانه ، لم تكونا إلا يدي ملاك الموت عزرائيل الذي أبلغه أن ساعته لم تحن بعد ، واصطحبة في رحلة ترفيهية إلى الجنة ليقنعه أنه لن يحظى بنعيمها إذا ما انتحر !
في روايته أو ملحمته هذه بتعبير أدق ( الملك لقمان ) لم يخطر بباله أنه سيغدو ملكا ، بعد أن قاد أديبه اليائس المحظورمن أبسط الحقوق الإنسانية حتى حقه في أن يفكر بحرية ، إلى الصحراء لينتحر فيها ، وفيما كان يحفر قبرا لنفسه عثر على قمقم من عهد الملك سليمان ، قشط التراب عنه وفتحه ليخرج له عمود من الدخان تجلى عن جني عملاق ليس إلا ملك ملوك ، سجنه الملك سليمان بعد أن وجده في وضع نكاحي مع إحدي نسائه الفلسطينيات ، قطع سليمان رأسها ودفنها إلى جواره :
( أمر مولاي العظيم لقمان محرر أرواح الجان ، عبدك المطيع ودرعك المنيع شمنهور الجبارملك ملوك الجن الحمر في سائر الاكوان والأمصار )
لم يصدق لقمان نفسه فهو وحتى حينه لم يكن مؤمنا إلى هذا الحد بوجود إله وجن وشياطين ، وإن كان مؤمنا بوجود خالق وخلق . وبعد حوار شبه عقلاني مع ملك الملوك ، عدل عن الإنتحار ، شريطة أن يصحبه الجني إلى السماء في رحلة بحث مضنية عن الله .
أعد له ملك الملوك مائدة طعام ملكية تحف بها حور العين الجنيات وسط حدائق خلابة ، وقدم له الحورية الملكة نورالسماء التي تزوج منها لقمان فيما بعد ، وتوج ملكا على ممالك الجن والشياطين قاطبة ، وبايعه هؤلاء جميعا حتى الشيطان ابليس نفسه الذي راح يشكو همومه مع الله له .
وكان اول طلب له من الجني ملك الملوك أن ينزع الاسلحة من كوكب الأرض دون أن يؤذي
أحدا .أقام ملك الملوك الدنيا وأقعدها وأرسل مليار جني إلى كافة جهات الارض ، لم يتركوا سلاحا إلا وقذفوا به على سطح القمر ، بحيث لم يعد القمر قادرا على تحمل هذا الثقل الهائل للأسلحة التي قذفت عليه . وضجت دول الأرض بالتساؤل عما يجري ، إلى أن وجه الملك لقمان من الفضاء رسالة سلمية إلى البشرية يدعوها فيها إلى السلم والسلام والمحبة والتعاون !!
طاف ملك الملوك بالملك لقمان على متن مركبة فضائية جنية ، أكوانا وكواكب كثيرة ،
رأى فيها لقمان عوالم عجيبة مختلفة ، وأسقط نظما دكتاتورية وأقام نظما علمانية ديمقراطية ، لكنه لم يعثر على الله ! إلى أن جاء إلى كوكب يحكمه طاغية يدعي الألوهة يسمى داجون . كانت مركبته تحلق فوق محيط من الحمم البركانية الملتهبة ، تجمعت في منخفض شاسع من جراء الأنهار البركانية التي كانت تنبعث من جبال وهضاب بعيدة مختلفة وتصب في هذا المنخفض لتجعل منه محيطا ملتهبا . وليجعل منه الطاغية جهنما يحرق فيها معارضيه والثائرين على طغيانه .
كانت مئات الأرتال والطوابير من المعذبين تصطف أعالي جروف صخرية ، وكان أعوان الطاغية يقطعون رؤوس بعضهم بالسيوف ويلقون بالأجساد في جهنم فيما يبعثون بالرؤوس إلى جبال الجماجم التي كانت مقامة على مسافة بضعة أميال من المحرقة . وكان هؤلاء محكومين بقطع الرؤوس، أما من حكموا بالإلقاء في المحرقة الجهنمية فلم تكن تقطع رؤوسهم ، كانوا يلقون أحياء .
أوقف الملك لقمان بمساعدة الجن أعمال القتل والتعذيب ، ونزل إلى الأرض برفقة الملكة نور السماء ، وراح يستعرض أرتال المعذبين والمعذبات ويسألهم عما ارتكبوه من أفعال حتى كان مصيرهم جهنم . كان معظمهم من الثائرين على الطاغية الإله أو من المتمردين على عبادته ،
أو الذين كانوا يطالبون بتخفيف طقوس العبادة ، كجعل الصلاة مرة واحدة في الأسبوع بدلا من ثلاث صلوات في اليوم .
أعاد الملك لقمان لهم صحتهم وعافيتهم وحممهم وألبسهم أجمل الملابس .
ما حير الملك لقمان وجود رتل لأطفال، فلا يمكن أن يكونوا قد ارتكبوا شيئا ، فبعضهم كانوا رضعا ، فماذا ارتكبوا ليحرقوا ؟ توقف الملك أمام الرتل وراح يتأمله ، لم يستطع أن يرى آخر الرتل الذي امتد لآلاف الأمتار . تقدم من طفلة فائقة الجمال في حدود الخامسة من عمرها كانت أختها الأكبر منها تحملها في حضنها وتنوء بثقلها . أخذها الملك لقمان وحملها عنها . ضمها إلى صدره وقبلها ، وراح يربت على ظهرها ليهدئ من روعها ويوقف نشيجها وتنشغها.
"خلص حبيبتي خلص ، يلعن أبوه داجون كان بده يحرقك في النار ؟"
أجابت الطفلة وهي تنشج وتنشغ :
" آه. آه .آه "
" خلص لا تبكِ . لن أدعه يحرقك حبيبتي "
أحست الطفلة بشيء من الطمأنينة فطوقت عنق الملك لقمان بيديها ، وأخذت تخفف من نشيجها . تساءل الملك لقمان :
" أين بابا وماما يا حبيبتي "
أجابت الطفلة بجملة قطعتها نشجة واحدة :
" رماهم داجون في النار "
كبت الملك لقمان انفعالاته بقوة خارقة :
" يلعن أبوه يا حبيبتي ليش رماهم في النار "
" لأنهم ما بحبوه " !!
هتف أحد السفاحين الموكلين بحرق الناس :
" هؤلاء يا مولاي أطفال الثائرين والمعارضين والكارهين للإله داجون ، الذين أحرقوا ، يحرقهم داجون حتى لا يثأروا لآبائهم حين يكبرون "
نزلت كلمات السفاح على قلب الملك لقمان كطعن السكاكين . كبت انفعالاته وطار محلّقا بالطفلة فوق الملايين من البشر والجن والمحيط الجهنمي ، وراح يخاطب الطفلة التي استكانت
إلى أحضانه وألقت رأسها على كتفه وهي ما تزال تنشج بين لحظة وأخرى :
" ماذا تريدين يا حبيبتي أن أحضر لك ، فأنا عندي هدايا كثيرة ، عندي خيول وحصن وحوريات وعرائس وغزلان وقطط وكلاب وخراف وسخال وقصور وكل شيء ، وكل شيء تطلبينه سأهديه لك "
راحت الطفلة تستعرض الهدايا في مخيلتها وهي تستكين إلى كتفه وتسهم بعينيها نحو حشود البشر تارة ونحو جهنم تارة أخرى لترقب فورانها وغليانها والبخار المتصاعد منها دون أن تجيب . تساءل الملك لقمان :
" لماذا لا تجيبين يا حبيبتي ؟ "
وما لبثت الطفلة " نسمة " ان هتفت بجملة قطعتها نشجة عميقة ونشغة أعمق ، وكأنها تعوض بهما عن كل الهدايا "
" ما بدي هدايا ، بدي بابا وماما "
احتواها الملك لقمان إلى حضنه وكأنه يريد أن يدخلها بين ضلوعه أو في قلبه ، وانفجر بالبكاء وهو يحلق بها عاليا ، وعيناه تجوبان عبر الدموع الجبال البركانية وأنهار وينابيع الحمم المتدفقة منها ، ثم المصبات الهادرة في المحيط الجهنمي ، وما لبث أن هتف صارخا في أعماقه مستنجدا بالله ، مستعينا بكل أصوات البشر والقوى الجنية التي لديه والتي يعرفها :
" إلهي ! ما قطعت ملايين السنين الضوئية بحثا عنك ، إلا ويحدوني أمل أنك موجود ، وأنك قادر ، فإن كنت موجودا وقادرا ، أتوسل إليك أن تعيد الحياة إلى كل من أحرق في جهنم هذه "
سمعت الملكة نور السماء . وسمع ملك الملوك . وسمع جميع الجن والشياطين صرخة الملك لقمان ، فصرخوا معه وتوسلوا إلى الله معه ، وهم يحتشدون في السماء من حول الملك لقمان والطفلة نسمة وأختها والملكة نورالسماء . ولم تمرإلا لحظات لتقوم القيامة . راحت البراكين والينابيع البركانية تقذف ماء باردا شكل أنهاراً تصب في المحيط ، وتفجرت من بعض الجبال أنهار تقذف ماء فراتا ، وزلزلت الأرض في كوكب داجون وهي تتفجر بالأنهارالعذبة التي راحت تطارد الحمم البركانية لتصب في جحيم داجون . ارتفع الدخان وعلا من جراء إطفاء الحمم الملتهبة ، واختلط بالضباب والسحب المنخفضة وتعالت أصوات الجن والبشر في كوكب داجون بالصراخ ، فيما الملك لقمان يحلق بالطفلة عاليا ، تتبعه الملكة نور السماء ضامة أختها إلى حضنها .هتفت نسمة :
" إلى اين تأخذني يا عماه "
رد عليها الملك لقمان بثقة عالية ومن خلال دموعه :
" إلى بابا وماما يا حبيبتي "
أخذ الدخان يتبدد ، والضباب يتلاشى وراح الماء العذب يتجمع في المحيط بعد أن أطفأ وجرف الحمم البركانية بعيدا ، ليرتفع إلى أعالي الجروف العالية المحيطة به . وشرع الملك لقمان في الهبوط محلقا فوق مياه المحيط ، وهو ما زال يتوسل في نفسه إلى الله .
وفيما كان يهتف ويحدق عبر دموعه إلى مياه المحيط الفسيح ، لمح بعض الأيدي البشرية تتخبط في الماء ، وما لبث أن شاهد بعض الرؤوس ، ثم مئات الأيدي ثم مئات الرؤوس ، ثم آلاف الأيدي ثم آلاف الرؤوس ، وأخذ المحيط يمتلئ بأيدي ورؤوس البشر ، والأجساد مقطوعة الرؤوس . آلاف آلاف الأجساد مقطوعة الرؤوس ، كانت تظهر للحظات ثم تختفي لتظهر ثانية . صرخ الملك لقمان بالجن أن يقفوا مع الله ويلقوا بجبال الجماجم إلى مياه المحيط .
هرع ملايين الجن وحملوا جبال الجماجم وألقوا بها ..أخذت أجسام بشرية كاملة تندفع عموديا من الماء وترتفع إلى أعلى وما تلبث أن تسقط لتحاول الصعود ثانية وهي تتخبط في الماء مقاومة الغرق . صرخ الملك لقمان بالجن لينقذوا البشر ويرفعوهم إلى الفضاء . اندفع ملايين الجن إلى مياه المحيط وهم يرددون اسم الله . وانطلقت أصوات الملايين من البشر تردد اسم الله ، لتعم الأصوات كوكب داجون كله .
أخذت ملايين الاجسام البشرية العارية تندفع من الماء بشكل عمودي إلى أعلى لتصعد إلى فضاء المحيط وتحلق فيه . أجسام أطفال ونساء ورجال وشباب وشابات وكهول اندفعت لتحلق في الفضاء . ملايين الأجساد اندفعت . وراحت تردد اسم الله . فيما الملكة نور السماء تخلع عليها أجمل الملابس .
هتف الملك لقمان لنسمة :
" الآن سنعثر على ماما وبابا يا حبيبتي ، ابحثي معي عنهما بين الناس "
رفعت نسمة رأسها عن كتفه وراحت تجوب بنظراتها بين الناس المحلقين ، وما لبثت أن اعتدلت وراحت تبحث بين المحلقين من أمام الملك وليس من خلفه . وشاءت الإرادة الإلهية ان لا يبحثا طويلا بين الناس ، فما لبثت نسمة أن شاهدت أمها فصرخت : ماما ، ثم شاهدت أباها ، فصرخت : بابا .
هرعت الأم متقدمة الأب ، ألقى الملك لقمان نسمة بين أحضانها ، فيما أسلمت الملكة نور السماء أختها إلى أحضان الأب .
هبط الملك لقمان على الفورإلى الأرض ، وجثا على ركبتيه لأول مرة في رحلته السماوية ،
واضعا يديه فوقهما ، شاخصا بعينيه إلى السماء ، فهبط خلفه الملايين من البشر والجن , على اختلاف مذاهبهم وأديانهم ، وجثوا مثله من حوله. وحين خفض بصره ، خفض الملايين أبصارهم ، وراحت العيون، كل العيون ، عيون الإنس والجن ، تنظر إليه آملة كلمة منه ، فهتف وعيناه تغرورقان بالدموع ، بجملة صعب على الكثيرين فهمها :
" حين لا يكون هناك إله فليس ثمة إلا الله " !!


******


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-05-22, 02:56 AM   #12

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

(10 )

الملك لقمان أبو الجدايل !!


وهو يرقب آلاف النسور الضخمة تحمل الطاغية داجون وأعوأنه وتحلق بهم في سماء مدينة العرش الداجوني لينالوا بعض ما يستحقون من عقاب جراء ما اقترفوه من آثام ، تذكرالأديب الملك لقمان أبو الجدايل يوم مولده في حقل الحصاد كما روته له أمه ، وتذكر نبوءات الأفعى لأمه بأن وليدها سيكون ملكا عظيما يحكم الكون ! وهاهي النبوءة تتحقق ، فها هو يجلس على منصة العرش الداجوني ونسمة تستكين إلى حضنه وتعبث بشعر ذقنه فيما تجلس الملكة نور السماء وملك الملوك شمنهور الجبار إلى جانبيه ومن حولهم الملك ابليس ومئات ملوك وملكات الجن والشياطين وبعض أبناء الكوكب الداجوني . وهو الآن يملك من القدرات ما يمكنه من أن يتبوأ عرش الأكوان كلها .
كانت أمه تحصد في حقل القمح برفقة أبو الجدايل الأب وآخرين ، حين دهمها المخاض . وضعت يدها على بطنها وتأوهت وما لبثت أن انطرحت أرضا وراحت تزحر وموجات الطلق تدهمها واحدة إثر أخرى . اندفع الوليد من فرجها وراح يصرخ باكيا حين اصطدم رأسه بالأرض . أخذته أمه ومسحته وأرضعته من ثديها ولفعته . مددته على حذل بين غمور الحصاد ، وظللته بمنديل فرشته على عيدان نصبتها من القصب لتعمل له خصا يقيه حر القيظ ، ونهضت لمتابعة الحصاد .
حين هرعت لتطمئن عليه بعد فترة وجيزة ، وجدت أفعى في حذله . كانت الأفعى تلتف فوق رجليه وتتمدد لتلقي رأسها على صدره . لم تقدر على الصراخ أوعلى فعل أي شيء ، راحت تدور حول الخص حانية ظهرها والرعب يجتاح كيانها والصرخات تكبت في دخيلتها ، وما لبثت أن مدت يديها نحو الوليد وهي تتوسل إلى الأفعى مناشدة إياها " أستحلفك بالله القدير ، بالعذراء وإبراهيم الخليل ، بمحمد وموسى وابن الجليل ، ألا تفجعيني بمن في المهد صغير "
شرعت الأفعى في فك طيات جسدها وترك جسد الوليد ، لتنساب بين غمور الحصاد . أخذت الأم الوليد إلى حضنها ودارت به حول نفسها وهي تضمه إلى صدرها وتعانقه .
أقبل الحصادون في قيلولة الغداء .. لمحوا الأفعى تزحف متلوية بين غمور الحصاد ، شرعوا يطاردونها بالحجارة . لجأت الأفعى إلى غمر حصاد ودخلت تحته . ألقت الأم بالوليد وهرعت نحو الأفعى . ألقت نفسها فوق الغمر حيث الأفعى وهي تصرخ : لا تقتلوها ، لا تقتلوها ! وهيأ لها أن الأفعى تستجير بها هاتفة أجيريني أجيريني . أصابت الأم بعض الحجارة . لم تكترث لألمها . أخذت الأفعى بيديها ،وضمتها إلى حضنها وانطلقت بها إلى أطراف ألحقل ، وسط صراخ الحصادين وأبو الجدايل الأب ، الذين راحوا ينهالون عليها بالشتائم .
أطلقت الأم الأفعى لتذهب في حال سبيلها . انتصبت الأفعى واقفة على ذيلها وأطلقت نبوءتها
التي استعرضت فيها أهم محطات حياة محمود أبي الجدايل ، إلى أن أنهتها بأنه سيكون ملكا عظيما يحكم الأكوان كلها !!
تنبهت الملكة نور السماء إلى أن الملك لقمان قد سرح لبعض الوقت وهو يتأمل آلاف النسور المحلقة بانتظام مدهش في سماء مدينة العرش الداجوني ، حاملة بمخالبها الطاغية داجون والآلاف من أعوانه .
" هل سرحت يا حبيبي ؟ "
" قليلا حبيبتي .. تذكرت طفولتي ، وجبال القدس وتنبؤات الأفعى لأمي "
" هل ستترك النسور محلقة بداجون وأعوانه ؟ "
" سأجعل النسور تطوف بهم الكوكب ومن ثم تلقي بهم في جزيرة نائية غير مسكونة ، ليبدأوا الحياة من الصفر "
" لن تعدمهم ؟ "
" لا ! لن أعدمهم ، يكفيهم ما سيكابدونه من شظف العيش في الجزيرة "
" كم أنت رحيم يا حبيبي "
" رسالتي لا تحمل إلا الرحمة للبشرية "
" وهل ستخفف عنهم شظف العيش في المستقبل ؟ "
" سأترك الأمر لأبناء الكوكب وآمل أن يرأفوا بهم فيما بعد "
" هل أنت سعيد بما حققته حتى الآن ؟ "
" قليلا ، لكن سعادتي لن تكتمل إلا بلقاء الله "
" وإن لم تتمكن من لقائه ؟ "
" سألتقيه يا حبيبتي سألتقيه "
قبل الملك لقمان نسمه . وأنزلها إلى أرض المنصة وشرع في مصافحة الملوك والملكات وأبناء الكوكب مودعا ليتابع رحلته السماوية .
*******
أكثر من عام مر على إقامته في عمان قبل أن يبتاع المسدس الذي فكر بأن ينتحر به !. كان يخرج من شخصية الملك لقمان ويجوب شوارع اللويبده وجبل عمان بشخصية محمود أبو الجدايل الواقعية ، بحثا عمن يشتري لوحة منه . باع بعض اللوحات بأسعار بخسة ، وأقامت رابطة التشكيليين الأردنيين معرضا له باع لوحتين بمبلغ زهيد جدا .إحداهما أخذتها وزارة الثقافة . لم تقبل أي صالة تجارية أخرى أن تقيم معرضا له . تفاءل خيرا حين أجرى التلفزيون الأردني لقاء معه ، فقد يشهر وجوده في عمان مما قد يدفع بعض الناس الذين كانوا يبتاعون لوحاته من دمشق أن يبحثوا عنه ، ويدفع آخرين لابتياع لوحاته ، لكن التلفزيون حذف معظم ما جاء في المقابلة . الصحافة التي كانت تبحث عنه في دمشق لتجري حوارات معه لم تتعرف عليه هنا . لم يصدق ما يجري معه . أدرك أن نقوده ستنفد خلال عام أو أكثر قليلا، وإن لم يتدبرأمره سيواجه مصيرا سيئا .. خابر أم محمد في دمشق لتبعث له ما بقي من نقوده في البيت .أخبرها عن مكانها في الكتب على رفوف المكتبة . وتمكنت بمساعدة فريال من العثور عليها بسهولة . وفريال هذه فتاة كانت تعمل معه في معرضه بين فترة وأخرى . كانت تقيم مع اسرتها في الميدان ، وكان الميدان يتعرض لقصف شديد في اليوم الذي غادر فيه دمشق . وبعد أربعة أيام من وصوله إلى عمان ، اتصل بها ليطمئن عليهم . أجابته قائلة أن بيتهم قد طالته القذائف وأنهم يقفون على رصيف لا يعرفون أين يذهبون . أجابها على الفور بأن تذهب إلى أم محمد وأن تأخذ مفتاح بيته منها وتقيم مع اسرتها فيه إلى أن تفرج . واتصل بأم محمد لتعطيها المفتاح.
أرسلت أم محمد النقود له .حاول أن يستأجر محلا يعرض فيه لوحاته . كانت الأجرة باهظة والبيع غير مضمون فتخلى عن الفكرة . نصحه قريب له يعمل سفيرا للسلطة الفلسطينية أن يكتب رسالة للرئيس الفلسطيني ليخصص له تقاعدا بصفته خدم في حركة فتح أكثر من ربع قرن بين أعوام 68 و95 من القرن الماضي ، منها خمسة أعوام في مكتب الدراسات الذي كان الرئيس أبو مازن نفسه .
لم ترق الفكرة له ، شعر أنه يتسول ، غير أن "نمر" لم يوافقه مؤكدا أن هذا من حقه . وأصر على الموضوع . كتب رسالة على عجل موجهة إلى الرئيس الفلسطيني وأرسلها معه . بعد قرابة شهر فوجىء باتصال هاتفي من صديقه الروائي يحيى يخلف يسأله عن ماضيه في حركة فتح .
تفاءل خيرا بعد اتصال يحيى به وقرر أن يبتاع كل ما ينقص بيته الذي استأجره بعد أن ترك بيت ابنه، فابتاع تلفازا وكومبيوتر وخزانة وكنبات ومكتبة وأدوات مطبخ كاملة وكل ما يحتاجه بيت . واشترك في خدمة الإنترنت واستعاد صفحته على الفيس بوك التي فقدها بعد خروجه من دمشق .وراح يمضي أيامه ولياليه مع الألوان دون أن تفارق شخصية الملك لقمان مخيلته وهو يرسم ، محاولا قدر الإمكان أن يطرد من مخيلته الفظائع التي تجري في سورية ، غير أنه لم يعد قادرا على النوم إلا بالحبوب المنومة أو المهدئة. يتذكر أفعال ابنه معه "من أي طينة قد هذا الإبن ، من أين اكتسب كل هذا اللؤم والبخل والطمع ؟" يهرب من صورة ابنه لتمثل صورة بيته في مخيلته . يستعرض مئات اللوحات والمنحوتات ،غرفة المكتبة ، مؤلفاته ، مخطوطاته ،غرفة الكومبيوتر والملابس ، المطبخ ، التحف .. المتناثرة هنا وهناك . لا يصدق أنه سيعود إلى عالمه ذاك . يا ليته تمكن من إحضار مؤلفاته ومخطوطاته، وأرشيفه الفني . يقض القلق مضجعه ، ولا يجدي استحضار شخصية الملك لقمان ، ولا حتى النوم بين أحضان فاتنة، ولا العد من الواحد للمائة أو العكس ، أو الإستغراق في الشهيق والزفير دون جدوى ، أوتخيل مواقعة خرافية مع أحلى حورية مراهقة ! فيلجأ إلى أخذ حبتين من الحبوب المهدئة ، ومع ذلك لا ينام بسهولة . فهذه الحبوب التي يصرفونها له بمبلغ زهيد من مستوصف الدولة بعد أن اشترك في التأمين الصحي ، لا تنوم دجاجة ، فكيف بمن يحمل كل هذا القلق . حاول أن يبتاع حبوبا منومة من صيدليات السوق . لم تقبل أي صيدلية أن تبيعة فاستعان بصديق له وحصل عليها.
ازداد قلقه حين عرف أن أسراً أخرى من أقارب فريال لجأت إلى البيت . أحس أن كل شيء سيتكسرأو يسرق . كما أن أكثر من عشرة أشهر على مكالمة يحيى قد مرت دون أن يحدث شيء ، وحاول الأديب محمود شقير وبعض أدباء القدس وخاصة جميل السلحوت وابراهيم جوهر وبعض كتاب فلسطين والأردن السعي لدى أكثر من جهة مسؤولة في البلدين دون جدوى . في عمان قلبت الشاعرة زليخة أبو ريشة الدنيا وأقعدتها على صفحتها في الفيس بوك بعد أن عرض محمود أبو الجدايل لوحاته على رصيف أمام رابطة الكتاب الأردنيين.
أعاد محمود كتابة رسالة ثانية إلى الرئيس الفلسطيني يعرفه بنفسه ويذكره بها ، متطرقا إلى بعض المهام التي كلف بها من قبله ، ومقابلات صحفية أجراها معه ، ومؤلفات كتبها بتكليف من مكتب الدراسات . عدا عمله في أجهزة أخرى في فتح بدءا من انتمائه كمقاتل وانتهاء بعمله الصحفي والأدبي ، أرسل الرسالة إلى أكثر من شخص ، وحملها لأكثر من شخص ، على أمل أن تصل إلى أبو مازن . أرسلها إلى الأديب محمود شقير. وإلى الاديب يحيى وأصدقاء آخرين معظمهم أدباء . وحاول مقابلة السفير الفلسطيني في عمان ليترك نسخة معه للرئيس لكنه لم يفلح رغم محاولاته المتكررة .فمن هو ليتاح له مقابلة السفير ؟! بحث عن الرئيس على شبكة النت . وجد له صفحة على الفيس بوك . كتب له رسالة مقتضبة . وظل يترقب أن يراها الرئيس ، ومر أكثر من ثلاثة أشهر ومؤشر الفيس بوك يشير إلى عدم إطلاع الرئيس على الرسالة . فقرر أن ينساها .
توقف محمود أبو الجدايل عن الرسم ، حين أدرك أنه لن يبيع شيئا مما رسمه ، وشرع في كتابة مقالات نقدية عن الروايات التي قرأها ومعارض الرسم التي شاهدها . راسل العديد من الصحف الخليجية ولم تجبه أي صحيفة . اتصل بصديقه الكاتب ماجد كيالي الذي أرسل له مجموعة أسماء للاتصال بها بتوصية منه . أرسل مقالات لأكثر من جهة . منها ثلاثة مقالات إلى مجلة خليجية يكتب فيها بعض أشهر الكتاب العرب ، أحدها عن رواية لمحمود شقير " فرس العائلة " بعد بضعة أسابيع فوجىء بالشاعر نوري الجراح يتصل به من لندن ويسأله عما إذا أرسل له مقالا عن رواية فرس العائلة ، كما فوجيء بمحمود شقيرينشر رابط المقال نفسه في صفحته على الفيس بوك نقلا عن صحيفة تدعى البناء لم يسمع بها من قبل , وحين وضع عنوان المقال للبحث عنه في جوجل ، وجده منشورا أيضا في موقع على النت يدعى ميدل إيست أون لاين ! وموقع آخر يدعى صحفي . اتصل بمستلم البريد في المجلة فأجابه كاذبا بأن المجلة لا ترسل ما يصل إليها إلى أية جهة أخرى ! سأل نوري الجراح عن إيميل من أرسل له المقال ، وعد بالبحث ، لكن محمود لم يتلق منه أي شيء. اتصل بالجهات التي نشرت المقال ، لم ولن تجيب بالتأكيد .
المقالان الآخران عن الفن التشكيلي لم ينشرا ولا يعرف إن سرّبا لصحافة أخرى بتغيير عنوانيهما حتى لا يعثر عليهما بالبحث .
هناك مجلات رحبت بمقالاته لأنه يعرف بعض محرريها . أرسل لها . وبعد مرور قرابة ثلاثة أشهر لم ير شيئا .مجلة خليجية أخرى مرموقة أرسل لها مقالا وفصلين من رواية . أرسلت له ايميلا تخبره عن حوالة له بالسوري ، وحين ذهب إلى البنك وأعطاهم رقم الحوالة ، لم يتم العثور عليه . أخبر إدارة المجلة فأرسلت له حوالة ثانية بالدولار إنما برقم خطأ أيضا . راسلها ثانية ، أجابت سيجري البحث عن الخطأ ، ويبدوأنه سيظل جاريا إلى يوم القيامة ، وقد لا يستبعد أن ترسل حوالة وهمية ثالثة برقم خطأ لا يعثرعليه في حواسب البنوك والصرافين .أكثر من خمسة عشر مقالا أرسلها للصحافة أو لأصدقاء لينشروها ، ولم ير شيئا بعد قرابة ثلاثة أشهر .
الطريف أن شاعرا سوريا صديقا معارضا كاتبه لإرسال المزيد من المقالات فأجابه متسائلا
" ألا تنشرون المقالات التي لديكم أولا " يبدو أن المقالات تذهب إلى حيث يريدون فور استلامها . أما الأطرف فكان اتصال على الفيس بوك من صديق آخر في دمشق يطلب إجراء حوار معه إلى صحيفة للدولة !
لم يتلق ثمنا إلا عن بعض المقالات من مجلات تحترم نفسها . ك " نزوى" العمانية ، "وشؤون فلسطينية" و" أفكار الأردنية " و" مشارف مقدسية " وبعض الصحف . توقف عن الكتابة حين عرف واقع الحال في المجلات البائسة . حمل لوحاته وعرض بعضها أمام المدرج الروماني لعله يبيع شيئا .
اقترب سائح منه ليلقي نظرة على اللوحات .. هتف مرحبا به بالإنكليزية كما اعتاد أن يرحب بالسياح في معرضه في دمشق : " أهلا بكم في دمشق"!
فوجىء بالسائح يتوقف ويحدجه بدهشة ، ثم ينصرف متابعا طريقه بسرعة .
شعر أن السائح ارتاب منه فهرب . " لكن لماذا ؟"
جاءت سائحة أخرى . رحب بها " ولكم إن دمسكس" !
فوجيء أيضاً بالسائحة تفتح فمها وتهتف بدهشة وهي تبتعد متسائلة ( إن دمسكس ) ؟
" أوه " وأدرك السر في دهشة السياح .
أمضى قرابة ساعتين دون أن يبيع شيئا .. أعاد اللوحات إلى حقيبتها . وانصرف يجر شيخوخته وثقل أحزانه ولوحاته ، بخطى متهالكة ، وصوت يصرخ في دخيلته
"متى تدرك أنك مشرد في عمان ولم تعد في دمشق ، متى" ؟
******
صرخات بعض أدباء القدس وعمّان بل فلسطين والأردن حول الوضع الذي يتهدد محمود أبو الجدايل في تشرده من دمشق، وصلت أخيرا إلى بعض المسؤولين في السلطة الفلسطينية الذين يعنيهم الأمر ، فحاول الشاعر مراد السوداني أن يحصل له ولبعض المشردين من دمشق وغيرها على راتب من الصندوق القومي الفلسطيني ، غير أنّه لم ينجح سوى في تحصيل مبلغ 300 دولار شهرياً، ابتداء من عام 2015، ولم ينس مراد الأمر وظل يلح على المسؤولين ويتحدث عن دور الأدباء في الثقافة العربية ، إلى أن تم زيادة المبلغ إلى 500 دولار بداية عام 2018.. ومع ذلك لم تحل المشكلة ، فالحياة المقبولة في عمان تحتاج إلى ما لا يقل عن ألف دولار شهريا لشخص واحد وليس لأسرة . لأن أجرة البيت في عمان تبتلع نصف هذا المبلغ .. أي500 دولار تعادل 350 دينار .. ورغم أن أجرة بيت محمود أقل من هذا المبلغ ، إلّا أن أجرة البيت تبتلع ثلثيه.. وصاحب البيت يعد برفع الأجرة ..
الجهة الثانية التي وصلت إليها أصوات الصارخين. هي وزارة الثقافة الفلسطينية . فقد أقامت حفل تكريم شبه رسمي ( كونه غير موثق رسمياً) لمحمود في معرض الكتاب في عمان بحضور وزير الثقافة الدكتور إيهاب بسيسو ومندوب عن وزارة الثقافة الاردنية وبعض الكتاب والمثقفين . ابتاعت الوزارة 24 لوحة لمحمود بسعر لا يتجاوز (11) ألف دولار ، وهو أرخص سعر باع فيه محمود لوحاته لأن اللوحات ستذهب إلى فلسطين .. فهناك لوحتان قياس 50 ب 35 سم سعر الواحدة منهما ستة آلاف دولار في موقع الحوش على شبكة النت .. جعله ألف دولار فقط للوحة الواحدة. إحدى اللوحتين تحمل رسما لمسجد الصخرة بين امرأتين واقفتين ، والثانية لثلاث قديسات .. جميع اللوحات أل (24) مرسومة بتقنية الرسم والحفر والزخرفة ، وهي تقنية خاصة بمحمود .. دفع الوزير لمحمود مبلغ 3000 دولار كجزء من ثمن اللوحات ، ولم يتم دفع باقي الثمن بعد قرابة ثلاثة أعوام ، وتغير الوزير عام 2019 .. والأمل في الحصول على باقي المبلغ مفقود ، وحتى الأمل في استعادة باقي اللوحات مفقود أيضا .. وسبق للوزارة أن نشرت مجموعة قصص لمحمود قبل أكثر من عشرين عاما ، وما زال ينتظر حقوقه عنها !
مشكلة محمود إن كانت مشكلة ، هي كمشكلة كثيرين من الكتاب الفلسطينيين الذين يحملون الجنسية الأردنية ، فهم اردنيون وفلسطينيون في الوقت نفسه وأن لم يحملوا وثائق فلسطينية . وسبق لوزارة الثقافة الأردنية أن ساعدته في نشر أول كتاب له يصدر في عمان بعد قدومه من دمشق ، وهو " رسائل حب إلى ميلينا " كما ابتاعت لوحة بقيمة 500 دينار من أول معرض أقامه في رابطة التشكيليين الأردنيين . أمّا في هذه المرحلة فلم تفعل شيئا وإن وعدت بشراء لوحة له . قدّم محمود طلبا لشراء لوحة غير أن الموافقة لم تصدر. وتغيرت الوزيرة دون أن تصدر .. اكتفى وكيل الوزارة بالتذكير بأن الوزارة ابتاعت لوحة لمحمود من قبل وساعدته على نشر كتاب وتنشر مقالاته في مجلة أفكار الشهرية التي تصدر عن الوزارة !

الجهة الثالثة التي تحمست لتكريم محمود، هي رابطة الكتاب الأردنيين . ققد أقامت له حفل تكريم، إنما دون دفع أي نقود له ..

******



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-05-22, 02:57 AM   #13

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

(11)

أبو الجدايل الأول يكتشف النار المقدسة !!

لا يعترف الأديب محمود أبو الجدايل بأن البشرية ابتدأت بكائنين دعيا آدم وحواء! لذلك قد لا يعترف بكل الجدائليين الذين سبقوه من هذا النسل، رغم أنهم ينحدرون في أصولهم التاريخية من نسل قابيل بن آدم ، وأن تعدادهم يفوق الملايين ، وأن أفرادهم يتوزعون في كافة أرجاء الأرض ، ولا تكاد تخلو دولة في العالم من أسرة لا تعود في جذورها لهذه العائلة الجدائلية، فنوح نفسه وأولاده سام وحام ويافث ينتمون ، لهذه العائلة ، التي جاءت منها البشرية بعد الطوفان المهول الذي أغرق وأفنى البشر والحيوانات ولم ينج منها إلا اسرة نوح وما حملته السفينة العظيمة ! المؤسف أن محمود ابو الجدايل لا يعترف بنوح وأولاده ولا حتى بالطوفان المزعوم ، ويصر على أن هذا الأمر مجرد أساطير لا تستند إلى تاريخ موثق خارج النص التوراتي الاسطوري.
أبوالجدايل الأول الذي سبق نوح ببضعة أجداد ينتمي إلى الجيل الثالث والعشرين لأحفاد قابيل ، وهو أول آدمي ضفر شعره في جدائل دون أن يعرف اسم الجدائل حينذاك كونه لا يعرف لغة ، غير أنه وفيما كان جالسا في ظل صخرة على شاطيء الأردن ويعبث بشعره الطويل وجد نفسه يضفرخصلة من شعره في جديلة راقت له فراح يضفرشعره كله ، وحين شاهدته أم الجدايل الأولى بشعره المضفور، لولوت (لأنها لم تكن تعرف الزغردة ) ونزعت ورقة التين عن فرجها ودنت من أبي الجدايل حاثة إياه على مواقعتها لتكتمل البهجة . حناها أبوالجدايل في ظل الصخرة وواقعها وقوفا وهي تتفوه صارخة بأصوات عجيبة قاصدة أن ينكحها بعنف أشد !
تعلم أبناء القبيلة ضفر الشعر الذي انتشر في بلاد الشام كلها قبل أن ينتقل إلى آسيا وأوروبا وإفريقيا في أوقات متقاربه .
غير أن الإكتشاف الأهم لأبو الجدايل الأول لم يكن ضفر الشعر بل اكتشاف النار ! فبينما كان يطارد ظبيا بالحجارة الصوانية في منحدرات هضاب البحر الميت ، لمح دخانا ينبعث من كومة أعشاب جافة على أثر قذفه لحجر صوان أخطأ الظبي . توقف عن مطاردة الظبي واقترب من الدخان وراح يتأمله متفكرا . بدت له شعلة نار خفيفة راحت تنتشر في كومة العشب ، شعر بحرارتها فمد يده نحوها ليحس بالحرارة أكثر . أخذ من جانبه قليلا من العشب الجاف وألقاه فوق النار .انتابه فرح لا يعرف كنهه . " كيف حدث هذا ؟"
رأى الحجر الذي قذفة إلى جانب حجر آخر . راح يفكر ، لم يجد سببا إلا اصطدام الحجرين . وما لبث أن أخذ الحجر وضربه بالحجر الآخر. لم يحدث شيء، فالضربة لم تكن قوية بما يكفي لتحدث شررا . حمل الحجر المضروب بيسراه وحمل الآخر بيمناه وراح يضرب الآخر به . أحس بشرر خفيف ينبعث .وضع الحجر المضروب بين كومه من الأعشاب وراح يضربه بالآخر . رأى شررا خفيفا يصطدم بالعشب ويحدث شعلة دخانية صغيرة لا تلبث أن تنطفىء. أدرك أن طريقته في إحداث شرر من الحجرخطأ . راح يفكر في الطريقة التي قذف بها الحجر وكيفية اصطدامه بالحجر الآخر التي أحدثت شررا أشعل هذا الشيء . لم يكن ضوء النهار يساعده على مشاهدة الشرر . أخذ الحجر المضروب بيسراه وأخذ الآخر بيمناه وضرب به الآخر بطريقة قدحية وهو يقربه من كومة الأعشاب بحيث يخرج الشرر في اتجاهها. قدح مرة وثانية وثالثة وظل يقدح بكل ما اوتي من قوة إلى أن رأى النار تهب في كومة الأعشاب . تنفس للحظات جراء التعب الذي بذله في القدح وشرع في الضحك . ونهض وراح ينط ويقفز وهو يضحك بصوت مجلجل ويؤتي أصواتا عجيبة . سمعه أبناء القبيلة الذين كانو يتفرقون في الأخاديد والسفوح يطاردون الحيوانات . أدركوا أن في الأمر شيئا . وأقبلت أم الجدايل تركض منحدرة من سفح هضبة وضفائرها تلوح على كتفيها وظهرها ، فقد راحت تضفر شعرها بعد أن علمها أبو الجدايل ضفر الشعر ، فكانت أول امرأة في التاريخ تضفر شعرها .. وحين بلغت أبو الجدايل قبل أن يبلغه الآخرون انتابتها دهشة عجيبة وهي تنط وتتقافز حول النار، التي راح أبو الجدايل يغذيها ببعض الأغصان والجذوع الجافة . وحين وصل بعض أفراد القبيلة راحوا ينطون ويقفزون بدورهم سائلين بحركات انفعالية وأصوات جعجعية أبو الجدايل عن الطريقة التي أحدث بها هذا اللغز المحير . راح أبو الجدايل يزهو باكتشافه العظيم ويشير بيديه ويصوت من حنجرته طالبا إليهم أن يجمعوا أعشابا وحطبا ، وما لبث أن جثا على ركبتيه وراح يقدح الحجرين ببعضهما في قدحات سريعة متتالية نحو كومة العشب والحطب . هبت النار في العشب وراحت تتأجج .. تعالت صرخات أبناء وبنات الجدائليين وراحوا يتقافزون وينطون ، وتمايلت أم الجدايل في قفزها وحركاتها لتحدث نوعا من الرقص. راح الجدائليون يقلدونها.فتمايلت نهود الجدائليات واهتزت على صدورهن وسقطت أوراق التين والتوت عمن كن يضعنها . وتلوى الرجال بأجسادهم وهم يبتكرون حركات جديدة في تقافزهم ليغدو رقصا .
راح الجدائليون يبحثون عن حجارة تحدث شررا . ولم يكن الأمر سهلا ، فلم تكن الحجارة كلها
تحدث شررا يشعل نارا ، لكنهم تمكنوا في النهاية من العثور على الحجارة المطلوبة بحيث أصبح الجميع يملكونها .
أمضى أبو الجدايل الأيام الأولى لاكتشافه النار ، في الطريقة التي سيفيد بها من هذا الإكتشاف الهائل ، فكان هاجسه الأول أمنيا ، فكر بإشعال النار ليلا أمام الكهوف التي يلجأون إليها حتى لا تجرؤ الوحوش على مهاجمتهم وهم نيام . تعب بعض الشيء وهو يحاول افهام الجدائليين بأصوات خرساء وحركات إيحائية تمثيلية لا تخلو من تقليد لأصوات الوحوش حتى يفهمهم ما المقصود !
جمع الجدائليون أعشابا وأغصانا وحطبا وألقوها أمام كهوفهم وأشعلوها. ومارسوا الجنس فرادى وجماعات إلى جانب النار لأول مرة باطمئنان ، وخلدو إلى النوم باطمئنان ، غير أن أبو الجدايل الأول كان متكدرا بعض الشيء لأن أم الجدايل ضاجعت اثنين آخرين من أبناء القبيلة معه !
*********
أمضى أبو الجدايل الأول بضعة أسابيع يفكرفي كيفية استغلال النار في الصيد فاهتدى إلى فكرة رهيبة يقود بها عشرات وربما مئات الحيوانات إلى حتفها في النار .
جمع القبيلة وقادها إلى مكان يضيق فيه واد كبير ، وأشار ببناء جدارعال حول المضيق ، بحيث ينفرج مع اتساع المضيق ويضيق إلى حد الإغلاق في نهايته بحيث لا تستطيع الحيوانات تجاوزه .وأشاربجمع الحطب والأعشاب والأغصان وروث الحيوانات ووضعها في المضيق ليتم اشعالها عندما تتجمع الحيوانات فيه ، في حين يكون فيه أبناء القبيلة قد لاحقوا الحيوانات من كافة الإتجاهات ليحشروها في اتجاه الوادي فالمضيق لتقع في كمين النار. ولا تستطيع الخروج مهما حاولت ، فتحترق .
استغرق بناء الجدار بضعة أيام وشارك فيه قرابة خمسة آلاف من أبناء وبنات القبيلة . وفي اليوم الموعود جمعوا كمية هائلة من الحطب وكل ما هو جاف من الأغصان وروث الحيوانات والقوها في المضيق لتغطي مساحة كبيرة منه . وانتشر الالاف من أبناء القبيلة بعصيهم الطويلة والغليظة ، ليحيطوا بمنطقة شاسعة وراحوا يقتربون من كل الإتجاهات طاردين الحيوانات على مختلف أنواعها أمامهم .
وضع أبو الجدايل الأول بعض أبناء القبيلة في جوانب مختلفة من المضيق ليقوموا بإشعال النار من كل الإتجاهات حين تتوغل الحيوانات فيه . وشرعوا في اشعال نيران صغيرة خلف الجدران لتكون وقودا يشعل الأعشاب والحطب في المضيق .
رأى أبو الجدايل مجموعات من الظباء والوعول والتيوس والمعز والأرانب وغيرها من الحيوانات تهرع من أعالي الوادي ومن سفوحه .. تركها تقدم وتتوغل في عمق أكوام الحطب والأعشاب ، وهي تتقافزوتثب في محاولة لتجاوزها. جعر أبو الجدايل بأعلى صوته طالبا إلى رفاقه إلقاء أكوام من النارفوق الحطب ، وشرع بدوره في غرف كمية من الجمر الملتهب أمامه بيديه وألقاها بسرعة فائقة فوق الحطب خلف الجدار . أحس بيديه تحترقان . نفخ عليهما بضع نفخات ونفضهما وفركهما في محاولة لطرد الحرارة منهما ، وراح يكمل إلقاء النار في المضيق بأن أخذ حجرين مفلطحين كان قد حضرهما للغاية نفسها وراح يلقي بهما النار ، غير أنه في ذروة حماسه نسيهما وأخذ النار بيديه .
أحاطت النار بالحيوانات من كل الإتجاهات وراحت تتقدم نحوها فيما الحيوانات تتقوقع على نفسها وتنزوي في المنتصف مصوتة على طريقتها بأعلى أصواتها ، ليضج المضيق بصراخها ، وحين اجتاحتها النيران من كل الإتجاهات ، راحت تثب إلى أعلى وتقفز في محاولة لتخطي الجدران ، غير أنها كانت تصطدم بها وتقع في النار ، ومن أسعفته وثباته وقفزاته في العودة إلى الإتجاه المنفرج في المضيق واجهته عصي وحجارة الجدائليين الذين كانوا يملأون الوادي والسفوح بالآلاف .
تعالت صرخات الجدائليين وهم يرقبون احتراق الحيوانات في النار ومحاولاتها اليائسة للخروج منها دون جدوى ، فاختلطت صرخاتهم بصراخ الحيوانات ، التي راح بعضها يقع في النارمحركا قوائمه وهو يلفظ أنفاسه .
تمكن بعض الجدائليين من شحط الحيوانات التي كانت قريبة منهم بصعوبة ، بعد أن احتملوا الوطء فوق الجمر بأقدامهم الحافية .. وشرعوا في إطفاء النار التي كانت تشتعل بها ، غيرأن شحط الحيوانات التي كانت في عمق مساحة النار لم يكن سهلا ، فاضطروا إلى الوطء فوق الجمر مما أحرق أقدامهم .. صرخ بهم أبو الجدايل مجعجعا طالبا أن يستخدمو الحجارة والعصي في إزاحة النار من طريقهم للوصول إلى الحيوانات ..
شرعوا في استخدام الحجارة فيما جازف بعضهم بالقفز فوق الجمر ليختطف ظبيا تضطرم فيه
النار ليشحطه إلى خارج المحرقة وهو يصرخ ألما ..
نجح الجدائليون أخيرا في سحب الحيوانات من النار وشرعوا ينهشون لحمها محتملين الألم الذي أحدثته الحروق في أرجلهم وأيديهم .
فكر أبو الجدايل الأول في إيجاد حل لهذه المشكلة في المستقبل ، وفيما كان يلوك أول قضمة
من فخذ ظبي ، اكتشف طعما للحم لم يعرفه في اللحم النيء ، فراح يهئهئ ويجعجع للجدائليين
والجدائليات قاصدا أن الطعم لذيذ ، فهأهأوا وجعجعوا بدورهم .. وبذلك يكون أبو الجدايل الأول
قد اكتشف اكتشافا جديدا وهو الشواء . ولم تمر سوى أسابيع حتى راحت القبيلة تتفنن في الشواء ليكون مذاقه طيباً . وحين حل الشتاء راح الجدائليون يشعلون النار في كهوفهم ، فتمنحهم دفئا لم يعرفوه من قبل . ولم يكن مستغربا أن تحتل النار فيما بعد مكانة مقدسة لدى الجدائليين لما تركته من تأثير طيب في نفوسهم.
أما في يوم المحرقة هذا فما أن امتلأت البطون حتى دبت الشهوة في نفوس الجدات والأجداد ، فبادرت الجدات اللواتي لم يكن جميعهن جدات بل صبايا ، إلى ملاطفة الأجداد بأن هأهأن لهم وشرعن في تقبيلهم وملامسة أجسادهم والقبض على ما هو حساس فيها ، فهأهأوا لهن وقبلوهن وشرعو ا في ممارسة الجنس ، فكان أول حفل جنس جماعي في التاريخ ، ونكاية في أم الجدايل التي واقعت رجلين في حفل سابق مع أبي الجدايل ، واقع هومعها ثلاثا من أجمل الصبايا الجدائليات .
*****
أخذت النار تحتل مكانة قدسية في نفوس الجدائليين نظرا لما حققته لهم من فوائد في حياتهم
فراحوا يتعاملون معها باحترام شديد ، فكانوا حين يوقدونها للتدفئة يجلسون حولها بخشوع
ويتأملون وهجها ويتفكرون في الحرارة التي تبعثها وأثرها على كل شيء .
أما أبو الجدايل الأول فغدا ملكا غير متوج على القبيلة، تأتمر بأمره وتنفذ ما يطلبه ، فاحتل بذلك مكانة مرموقة لم يحتلها إلا النساء من قبل كونهن يقمن بفعل الحمل والإنجاب الذي لا يقدر عليه الرجال .
عاش أبو الجدايل بضعة أعوام بعد اكتشاف النار، حقق خلالها انجازات أخرى للقبيلة ، بأن راح يستخدم النارلصنع أوعية للطعام يصنعها من الطين ويحرقها في النار، قبل أن يموت متأثرا بعضات أسد ، فاجأه وهو يستلقي في ظلال جرف صخري ، ورغم أنه تمكن من مقاومة الأسد بل وقتله حين أولج عصاه الغليظة في جوفه وقلبه على ظهره وراح يضغظ بكل قوته على العصا حتى اختنق الأسد ولفظ أنفاسه ، غير أن ألجراح البليغة التي أحدثتها عضات الأسد في جسد أبو الجدايل ظلت تنزف بغزارة إلى أن أودت بحياته ..
بكت أم الجدايل بلوعة كونها أهم محظيات أبي الجدايل وشاركتها نساء القبيلة البكاء والعويل.
دفن أبو الجدايل في حفرة عميقة بعض الشيء في الجرف الذي مات فيه ، وأهيل التراب على جسده . ووضع على القبر بعض الحجارة بطريقة منتظمة ليعرف القبر في قادم الأيام والسنين . وثابرت أم الجدايل على زيارته باستمرار لتضيف بعض الحجارة إليه إلى أن علاه رجم كبير .
ليتحول إلى مزار للقبيلة تأتي إليه بين فترة وأخرى ، وتدفن موتاها حوله .




لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-05-22, 02:59 AM   #14

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

( 12 )

ابن الله !


يتأمل محمود أبو الجدايل اللوحات على الجدران من حوله ، لعله ينسى جحيم الأهوال الجارية في سوريا. قصف مدافع عشوائي، صواريخ تمطر المدن ، براميل متفجرة لا تفرق بين أحد إن كان طفلا أو امرأة أو مسلحا ، ولا بين مبنى إن كان سكناً أو مسجداً أوكنيسة أومدرسة أو مستشفى . قطع رؤوس ، أيدي ، أرجل ، جنون الجنون في حرب سريالية لم يرالتاريخ مثيلا لها . لايبدو الأمر ممتعاً له لكثرة ما تأمل لوحاته ، وأهوال القتل لا تغادر دماغه .وصورة الملك لقمان والملكة نور السماء لم ترغبا كما يبدو المثول في مخيلته. أعاد اللوحات منذ أيام من معرض أقامه في صالة عرض وعلقها على جدران بيته وأعلن على الفيس بوك عن افتتاح معرضه الدائم في مرسمه . لم يبع في الصالة إلا لوحة واحدة بثمن مقبول ، ابتاعتها الأديبة شهلا العجيلي . شعرأنه في حاجة لأن يمشي ، لعله ينسى أو يتناسى ما يحدث في سوريا ، لعله ينسى بيته الجميل في دمشق، البيت المتحف ، الأقرب إلى قلبه من كل بيوت العالم لما يحويه من فنون وتحف ومؤلفات ومكتبة زاخرة بالكتب القيمة .
ارتدى ملابسه وخرج .. صعد طلعة شارع الباعونية بخطى واثقة لا تنم عن كهولة ، هو في الحقيقة لا يحب السير المتمهل ، يسير دائما بسرعة ورشاقه حين يكون ذاهباً إلى عمل ما . نادرًا ما يسير بخطى متمهلة ، حين يكون في حال نفسية سيئة ، أو حين يعاني من مشكلة ما ، تمهل قليلاً في ساحة جامع الشريعة ، ليتبادل تواصله المعتاد مع صديقته الشمس . نظر نحوها رافعاً رأسه ، وما أن لامس شعاعها تجويفي أنفه حتى دهمه العطس . عطس مرتين ، ونظر نحو الشمس ثانية . عطس مرة ثالثة . ( شكرا أيتها الصديقة ) وأخرج منديلا ورقياً ناعماً وراح يمسح أنفه .
اتجه نحو حديقة المتحف الوطني للفنون الجميلة . صادفه طفل متسول يمد يده نحوه راجياً أن يساعده ، أخرج من محفظته نصف دينار أعطاه له .. راح الطفل يتمنى من الله أن يرزقه بعشرة أمثاله ..
ابتسم وتابع طريقة . هنا في المتحف شارك منذ أيام في معرض جماعي للفنانين الأردنيين ، بعد أن أقنع القائمين على المتحف بهويته الأردنية رغم ولادته المقدسية وإقامته الدمشقية ! شارك بلوحة صغيرة بعد أن رفض مدير المتحف عرض لوحتين له. في اللوحة ثلاث نساء بالزي التراثي المطرز، واحدة بحجاب عادي يكشف وجهها ، وواحدة بنقاب يكشف عينين ، وواحدة بنقاب يكشف عينا واحدة فقط ، وهو في العادة يضيف امرأة رابعة إلى النساء بنقاب لا يكشف من وجهها شيئاً .
افتتحت الملكة المعرض ليجد نفسه للمرة الأولى في حياته يصافح ملكة حقيقية وليست متخيلة
كالملكات اللواتي يستحضرهن في أدبه وفنه . لم يتحدث عن أحواله إلى الملكة بعد مصافحتها . اكتفى بالقول أنه هارب من جحيم سوريا وقد ترك كل شيء هناك ، واختصر شرحه للوحة حتى لا يطيل وقوف الملكة التي كانت مضطرة إلى مصافحة كل فنان والوقوف معه . قال إنها لوحة تراثية ، وأنه يتعامل في فنه مع التراث قديمه وحديثه ، والحق إن اللوحة تحمل ما هو أعمق من هذا التفسير ، فالمرأة ذات الوجه تشير إلى اسلام منفتح في بداياته ، وذات العينين تشير إلى إسلام بدأ ينغلق ، وذات العين الواحدة تشير إلى الإمعان في الإنغلاق ، أما المرأة الغائبة من اللوحة والتي لا يرى الناظر شيئا منها فهي تمثل حاضر المسلمين ! كان يقول هذا الشرح لمن يمكن أن يتقبله . وثمة شرح آخر هو رؤية كل امرأة للعالم من وجهة نظره هو ، كان يقوله لآخرين .. وهو في الغالب لم يكن يرغب في شرح لوحاته ، وللمشاهد أن يرى في اللوحة ما يشاء حسب رؤيته وفهمه .أكثر ما أثار دهشته في هذا المجال أن مشاهداً رأى في لوحة له يوم القيامة ، مع أنه لم يفكرفي ذلك حين رسمها ، لكنه كان منفعلاً وغاضباً على أثر مشاجرة له مع العائلة ، ورسم اللوحة تحت وطأة هذا الإحساس .
شكواه من وضعه البائس وصلت إلى وزير الثقافة ، غير أن الوزير تغير دون أن يقدم حلاً ناجعاً لوضعه ، سوى موافقة الوزارة على دعم نشر كتاب قصصي له .
فكر في أن يدخل إلى إدارة المتحف ليسلم على المديرالذي تعرف إليه في وقت سابق . غير أنه عدل عن الأمر ودخل إلى الحديقة .. انزوى في ركن من الحديقة وافترش العشب مستلقيا في ظلال شجرة كينا . خطرت السيجارة بباله ، كان قد قرر التخفيف من التدخين إلى خمس عشرة سيجارة في اليوم بدلا من قرابة أربعين ، في محاولة جادة لترك التدخين بعد أن أدمنه لما يقرب من خمسة وخمسين عاما . إنها المحاولة الأخيرة بعد عشرات المحاولات الفاشلة. أخرج سيجارة وأشعلها ، وهو يحاول أن يطلق العنان لخياله ، مستحضرا بعض ما يكتنزه عالمه الباطني .. هل يتابع رحلته في البحث عن الله مع الملك لقمان أم يطرق عالماً جديداً ؟
شعر أنه غير قادر على التوغل في أعماق فضائية مجهولة تتطلب خيالاً واسعاً ، فراح يستنهض رحلته مع الشيطان ليلة رأس السنة التي انتهت به إلى طفل في الثانية من عمره اختاره الله ليكون ابناً له!!
كان مفلساً تماماً وما يملكه من نقود لا يكفي حتى لمتطلبات انتحار يليق بأديب مثله ، كأن يشتري مسدساً ينتحر به حسب ما يفكر حالياً .. وليلة رأس السنة من عام 1995 أوشكت أن تبدأ دون أن يتذكره أحد ، ودون أن يدعوه أحد إلى سهرة ما . وفيما كان يستلقي في السرير ويقرأ كتاباً عن الجن ، فوجىء بشخص يشبهه تماماً يقف في مواجهته . سأله : من أنت ؟
ابتسم الرجل معتذراً عن تطفله عليه وأخبره أنه الشيطان وأنه رآه وحيداً حزيناً فحضر ليدعوه إلى حفل رأس السنة في قصره السماوي .
وافق الأديب محمود أبو الجدايل على الدعوة بعد حوارمطول مع الشيطان حول غايته من الدعوة وتعهده بأن لا يقوم بغوايته ويقوده في دروب الضلال .
أثبت له الشيطان أن لا غاية له سوى أن يشهد أمام الناس أنه محب لله ومخلص له ، إذا ما ثبت له ذلك خلال مرافقته له .
وهكذا صعد محمود أبو الجدايل إلى السماء برفقة الشيطان . تم الأمربلمح البصربعد أن حوله الشيطان إلى طاقة وهو يمني نفسه بالسهر مع كليوبترا وزنوبيا وهيلين الطروادية وحور العين الشيطانات ، غير أنه وجد نفسه في بحر معلق في السماء تمخره الحوريات الجميلات العاريات والدلافين والأسماك والظباء وأنواع كثيرة من الحيوانات . ووجد نفسه يتنفس تحت الماء وملابسه لا تبتل بالماء ، وموسيقى تصدح ، وأغان وتراتيل تنشد ، وسجاد أحمر يمد ، وملكات شيطانات خارقات الجمال بأجساد سباعية يصطففن لاستقبال الشيطان وضيفه الأديب ، بعد أن استعاد الشيطان هيئته الملائكية وارتدى زياً ملائكياً .
تعرف الأديب إلى ملكة سباعية الجسد ذات جمال أخاذ وقع أبو الجدايل في غرامها قبل النظرة المتمعنة الأولى ، قدمها الشيطان على أنها ملكة السماء وقد أصرت أن تستضيفهما في قصرها السماوي قبل أن يذهبا للحفل الذي أعده الشيطان .قادتهما إلى حفل أقيم في حدائق قصرها تحت الماء ، حضره الآلاف من الملكات الجنيات و الملوك الجن وبناتهم وأبنائهم .
كان كل شيء يجري تحت الماء دون أن يحس أحد بوجود الماء ، حتى شواء الظباء والخراف والأرانب والبط والدجاج والحمام والحجل والأسماك بأنواعها كان يتم تحت الماء ، وشرب الخمور تحت الماء ، وماء البحر لا يطفىء النار ولا يبلل الشواء ولا يدخل الكؤوس ، ففي عالم الشيطان تتآلف المتناقضات وتتعايش في علاقة لا يفهمها إلا الشيطان نفسه ، حتى الصحون والكؤوس والملاعق والسكاكين ، تتحرك وحدها ، دون أن يصطدم شيء بشىء ، فما أن يشتهي المرء شيئا ، ما عليه إلا أن ينظر إليه ، فحين اشتهى محمود أبو الجدايل قطعة من فخذ خروف كان يشوى على مقربة منه ، قطع الفخذ نفسه وطار ليتلقاه صحن كبير تحف به السكاكين والشوك والملاعق وقطع الخضار ، وحط نفسه أمام الأديب الذي كان جالسا بين الملكة والشيطان . وكانت الحال نفسها تتم مع الخمر .
كاد الأديب محمود أبو الجدايل أن يفقد عقله في عالم الشيطان ، وما أطار صوابه أكثر هو الجسد السباعي للملكة ، فهو لم يعد يعرف إن كان يجلس مع سبع ملكات أم مع ملكة واحدة .
وعبثا حاول أن يقنع نفسه أنه أمام ملكة واحدة بسبعة أجساد ، كل جسد يمكنه أن يطير عقول
مئات الرجال المؤمنين وغير المؤمنين ! وحين دعته الملكة إلى غرفة نومها أعلى قصرها الشاهق واعدة إياه بأن تنسيه همومه كلها ، راح يسألها عما إذا قبلها هل تحس الست الأخريات بالقبلة ؟ ولا يمكن لأحد أن يتصور مدى دهشته حين أخبرته الملكة بأنهن يحسسن بالقبلة لكن الأجمل أن تحيله إلى سبعة رجال كي يقبل السبع معاً !! رفض محمود أبو الجدايل مستنكرا هذا الجنون الشيطاني ، رغم توقه الشديد للهروب ونسيان العالم الأرضي الذي تركه خلفه ، وشعر أنه واقع في غواية شيطانية رهيبة خلاف ما وعده الشيطان ، فراح يتضرع إلى الله تذاهنا أن يقف معه وأن يقيه غواية الشيطان .
أحس الشيطان بتخوفه مما يجري معه فخاطبه تخاطرا من أعماق البحر مؤكداً له أن لا غواية في الأمر ، وأنه بإمكانه أن يعيده إلى الأرض إذا يشاء . أخبر الشيطان أن لا رغبة له في العودة إلى الأرض التي خلفها على بعد مئات السنين الضوئية ، غير أن الملكة تضعه أمام خيارات صعبة ليس في وسعه أن يرفضها وليس في وسعه أن يقبلها بسهولة ، وأخبر الملكة أنه يشعر بعطش فظيع ، فأشرعت نهدها وألقمته فمه وهي تهمس " اشرب يا حبيبي ارتوِ " راح يرضع سائلا لذيذاً لم يكن ماءً ولم يكن خمرًا ، سألها وهو يتوقف ليتنفس عما رضعه ، أخبرته أنه إكسير الحياة ، وراحت تهمس في أذنه مؤكدة أنه خمرغير مسكر من خمر الجنة ممزوج بالعسل وماء الورد من يتذوقه من نهودها السبع اليسرى يعيش مدى الحياة !
شهق محمود أبو الجدايل من أعماقه واحتوى نهدها بيده وراح يغب الإكسير غباً حتى ارتوى ،
وشرع يتنهد ملتذاً بما شرب ، معلناً عن سعادته التي لن تكتمل إلا بتحقيق كل رغبات الملكة حتى لو تطلب الأمر أن يحال إلى سبعة رجال !! ولم تمهله الملكة أكثر من ذلك فأشرعت نهدها الآخر وألقمته إياه . مج بضع مجات من سائل طعمه ألذ من الشهد ولا هو بالشهد أو الخمر أو الماء ، فهمس متسائلا " ما هذا يا حبيبتي ؟
ولا يمكن ولا بأي حال من الأحوال تصور مدى دهشته حين هامسته الملكة وهي تضم رأسه إلى نهدها " هذا ماء الكمال ، وهو ماء من ماء الجنة ، من تذوقه من نهودي السبع اليمنى بلغ الكمال المطلق " !!
تساءل بدهشة وهو يرفع نظره نحو وجهها " يا إلهي هل تقصدين أنني سأبلغ الكمال أل...!" ولم يجرؤ على لفظ الكلمة . ضمت الملكة شفتيها وأوقفت سبابتها عليهما وهي تهمس " هس "
وكأنها تريد أن تبقي الأمر سرأ بينهما ، ودفعت رأسه إلى مفرق نهديها لتقرب فمه منه ، لينبثق
منه حلمة جمالها أخاذ ، التهمها الأديب وراح يرضع ، وحين توقف بعض بضع مجات وهو يلعق شفتيه ملتذاً بما رضع ، لم تدعه الملكة يتساءل فهمست " هذا خمر الجنة من ارتوى منه من أجسادي السبعة ، فقد ذاكرته وغدا أسير حبي مدى الحياة ، ومن أدمن عليه ، فقد وعيه مدى الحياة إلا من حبي "
ونظراً لأنه كره كل أشكال الحياة الأرضية فقد غب الحلمة ثانية وراح يرضع دون أن يتساءل ، وحين توقف ،أخبرته أن ما يطمح إليه لن يتم ما لم يرضع من أجسادها السبعة .
همس بعد برهة صمت وهو يلقي رأسه بين أجمل نهدين أبدعهما الخلق " أحيليني إلى سبعة
رجال ، ودعيني أغرق في حبك وحده حتى الموت "
لم يكن يعرف أنه سيكون أمام مفاجأة جديدة حين قررت الملكة أن تستدرجه خطوة أخرى لتحيله إلى ما تطمح ، فقد همست :
" سأحيلك إلى سبعة رجال مختلفين "
كان حتى حينه يظن أنها ستحيله إلى سبعة رجال يشبهونه تماماً ، ولم يكن هيناً عليه أن يرى نفسه في سبعة رجال مختلفين ، والأهم أنها أخبرته ، أنه في مقدوره أن يغير هؤلاء السبعة
إلى سبعة آخرين إلى ما لا نهاية . وراحت توضح له ما هية الأشخاص الذين يمكن أن يتحول
إليهم .
مر في مخيلته صور بعض المشاهير في الأدب والفن والفلسفة يمكن أن يتحول إليهم : ثربانتس ، شكسبير ، دوستويفسكي ، جوته ، أفلاطون ، أرسطو ، سقراط ، بتهوفن ، فان كوخ ، دافنشي ! المتنبي !
راقت الفكرة كثيراً له.. سألها عما يمكنها أن تفعله من نفسها . لم يفاجأ حين قالت له أنه في مقدورها أن تحيل نفسها إلى أية امرأة يريدها حتى لو كانت كليوباترا ، أو زنوبيا ، أو هيلين الطروادية ، أو حتى لو كانت ربة مثل ، إنانا ، عناة ، أفروديت ، أو حتى لو لم تكن قد وجدت في ماضي الزمن أو حاضره ! وألقت ذلك شعراً عليه !

*********
راح محمود أبو الجداليل يمعن خياله في قدرات الملكة الخارقة ، وبعد اطراقة وجيزة بينه وبين نفسه جزم خلالها من وجود الله في قلبه ، قرر أن يغامر ويجعلها تحيله في البداية إلى سبعة مثلاء يشبهونه تماماً !
ضمته الملكة إلى حضنها وأ لقت رأسه ثانية عند منبع الخمر بين نهديها ، وفيما كان يتلذذ بنكهة الخمر همست له " انتهى يا حبيبي ، انظر إلى نفسك " !
لم يجرؤ على رفع رأسه من بين نهديها خوفاً مما سيراه ، لكنه أحس قبل أن يرفعه أنه أصبح انساناً بسبعة أجساد وسبعة عقول وسبعة أرواح ، وسرت رعشة منعشة في جسده . رفع رأسه
ليرى نفسه في سبعة مثلاء يعانقون الملكة في الوضع ذاته ، وقد تحلقت أجسادهما على السرير
الدائري لترسم دائرة انعكست في المرآة الماسية من سقف القبة القوسي لغرفة نوم الملكة !
بدا للأديب والفنان محمود أبو الجدايل أنه في عالم مدهش يفوق الخيال ، ابتسم كطفل يرى نفسه في المرآة للمرة الأولى ، فابتسم مثلاؤه الإبتسامة ذاتها !!
احتوى نهد إكسير الحياة ومج جرعة ، أحس بطعم ونكهة سبع جرعات ، وسرت نشوة لذيذة في جسده ، توسل إلى الله أن ينسيه كل ما في ذاكرته من ماض أرضي ليتوحد مع هذا العالم الرباني !
فوجىء بالملكة تهمس له مرشدة :
" يجب أن تفرّد أكثر مما توحد يا حبيبي "
لم يفهم ( الأحمق ) ما تقصده الملكة ، فتساءل فهمست له :
" أنت الآن جسد ليس له بداية وليس له نهاية وقد خرجت من سلطتي المباشرة "
ولم يفهم ( الأحمق أيضاً ) خاصة وأن الملكة عقدت الأمور أكثر حين قالت له :
" أنت الآن المطلق والعدم ، وما قبل العدم وما بعد المطلق ، إلى ما لا نهاية من الإيغال في ما قبل العدم وما بعد المطلق " !!
شعر أن الملكة تقوده إلى متاهات فلسفية بينما هو في حاجة إلى معرفة لغة واحدة فقط هي لغة الجسد ، فرجاها أن تخاطبه بها فهمست :
" يا حبيبي ، بدلا من أن تجعل مثلاءك يرضعون من نهد واحد من نهدي السباعيين ، وزع أفعالهم ،كأن يرضع أحدهم من نهد الكمال ، وآخر من نهد الحياة ، وآخر يجترع من خمر الجنة ، وآخر يرتشف من رحيق شفتي ، وآخر يداعب بطني وفخذي ، وآخر يلثم فرجي الصغير الجميل الذي لا يعرف البول والدم والإنجاب ، وآخر يقبل ردفي اللذين لم تفح من بينهما إلا رائحة المسك والعنبر " !!
صعق الأديب بما لم يكن يعرفه رغم أنه أدرك أبعاد إرشادات الملكة ، فتساءل عما إذا كانت الملكة لا تتبول ولا تتبرز ، فأجابته مؤكدة :
" لا يا حبيبي هل سمعت عن حورية تتبول وتتبرز مثل الإنسيات ؟"
أجاب بأنه حقا لم يسمع وحاول أن يفرّد كما أشارت الملكة ، غير أنها فاجأته من جديد حين همست :
" وكل هذا التفرّد ليس إلا البداية يا حبيبي "
" ماذا هناك أيضا يا حبيبتي "
" كمال التوحد في كمال التعدد ، وكمال الحقيقة في كمال التحول ، والجوهر هو الجوهر الواحد الذي لا يتغير ، في تحوله وتجليه وتعدده وصيرورته وتوحده ، إنه الحق إنه ألله " !!
ضاع محمود أبو الجدايل في فلسفة الملكة . رجاها أن تعيده إلى لغة الجسد لعله يعرف إلى أين تقوده ، وأعلن أنه غدا مهيئاً إلى التعدد مهما كان شكله ، همست :
" بالتأكيد يا حبيبي ليس من كمال التعدد أن تبقي نفسك في سبعة أشخاص يشبهونك ، ولهم نفس عضوك وكل أعضاء جسدك ، فالأجمل أن يكون لك سبعة أعضاء مختلفة الحجم ، أما الأكثر كمالاً أن لا تبقي على شكل هؤلاء الأشخاص ثابتاً ، بل متغيرا ، فتغيرهم إلى سبعة آخرين بأجسام وألوان وأشكال وأعضاء مختلفة ، وهكذا إلى ما لا نهاية "
وراح محمود أبو الجدايل يردد في سره ، مع أن الملكة تعرف ما يدور في سره :
" يا إلهي يا إلهي يا إلهي ، هل ما تزال في قلبي يا إلهي "
فوجئ بالملكة تهمس له "
" لقد حلت روح الله في قلبك يا حبيبي فاطمئن ولا تخف " !!
أقنع نفسه بأن روح الله لم تكن في قلبه من قبل ! فأسلم أمره له .
************
حين أدركت الملكة أن الأديب أصبح طوع يديها راحت تنشد مغنية :
" الآن الآن يا حبيبي طاب المرام ، فارتشف من طل شفاهي قطرا ،وتذوق من رحيق ألسني شهد السماء ، واجرع من خمر نهودي كؤوس الثمالة ،والثم عيونا هي السحر هامت بالغرام "
رد عليها من قلب أثقلته صروف الدهر وراح يغرق جاهدا ليهيم بجمالها :
" دعيني يا حبيبتي أطهر جسدي من أرجاس كوكبي، وأغتسل بماء سمائك ، قبل الشروع في تجرع شهد المدام "
وخلال لحظات وجد الأديب محمود أبو الجدايل نفسه يحمل على أكف سبع ملكات ليمددنه في حمام واسع من الألماس ،ويشرعن في غسل جسده بروح الند والنارنج والنردن ، ويدلكنه ، بشذا الفل والياسمين ، ويمسّجن أصابع يديه وقدميه بعطر الزنبق والقرنفل ، ويضمخنه ، بالمسك والعنبر والنسرين .
أحس الأديب بجسده يكاد يطير وروحه تهيم محلقة في مطلق المتعة ، فتساءل :
" يا حبيبتي هل أنا الآن بين أيد ملكية أم بين أيدي الله أم بين أيدي حور العين "
أجابت الملكة :
" كل الأيادي يا حبيبي التي تحاكي جسدك وتدب بأناملها على عنقك وظهرك وكتفيك ،وتدلك صدرك وبطنك وفخذيك ، وتسحب أصابع يديك ، وتطقطق أصابع قدميك ، وتناغي مسامات جلدك ، هي أيادي محبوبتك فاتنة السموات ومليكتها ومليكة حور العين "
" يا حبيبتي ، أستحلفك بمن أوجد الكائنات ، أأنا في حلم أم يقين ؟"
" يا حبيبي ، وهل يثمل من يرتشف من شهد شفاهي ويتجرع من خمر نهودي في المنام ؟ "
" يا حبيبتي ، أنا لا أصدق نفسي من هول فرحي ، وفرط سعادتي ، بكل هذا البهاء وطيب الغرام "
" صدق يا حبيبي لتحيا بجمال الخالق والخلق ، وتحلق كما النشيد ، وتسمو إلى العلا ، وتغرق بكليتك في لجة الهيام "
" أخاف يا حبيبتي أن لا أنسى أوجاعاً ، حملتها معي من كوكب الإنس، فلا يتاح لي أن أسمو بكمال التوحد وروعة الإنسجام "
" سأنسيك يا حبيبي أفراحك وأتراحك وكل صورة حوتها ذاكرتك منذ ما قبل خلق الأنام " !
" خذيني يا حبيبتي إلى سريرك الملكي ، ودعيني اغرق في بحور هواك "
" تعال يا حبيبي إلى صدور أشرعت لضم الرؤوس وأجساد تاقت إلى طيب الوصال "
احتوينه واحتواهن ليغرقوا كلهم مع كلهن في الإحتواء :
يرضع هو ( وهم ) من ماء الكمال ، ومن إكسير الحياة ، ويجترع من خمر الجنة ، ويرتشف من رحيق الألسن ، وقطر الشفاه الوردية ، ويقبل سحر العيون والوجنات ، والشعور الحريرية ، ويلثم السرر المضوعة بالمسك ، والبراعم الفستقية العابقة بالندّ، وأصابع الأحلام ، والركب الساحرات ، ويحبو على الأرداف الزبدية المفوّحة بالعنبر، والأفخاذ الديباجية ، والسيقان الماحقات ، فيما هي (وهن ) يفرّدن ويعددن أفعالهن ليداعبن أجساده من قمم رؤوسها حتى أخماص أقدامها .
شرعا في الهمس التذاهني وهما يحاولان الغرق في متعة الوصال السباعي المتعدد المتوحد . همس الأديب :
" ساعديني يا حبيبتي لأنسى ما في ذاكرتي لأتوحد بطيب وصالك "
" اجرع من خمر الجنة وابدأ بمحو الظواهر الخارجية من خيالك يا حبيبي " !
" هل أبدأ بمحو الوجود " ؟
" أجل يا حبيبي ، انس الوجود ، وكل ما في الوجود ، انس الشمس والقمر ، النجوم والكواكب ، الفضاء والغمام ، الرعود والبروق ، الأمطار والوان قوس قزح ، الزلازل والبراكين ، السديم والسراب والندى . انس القارات والبحار والمحيطات ، الأنهار والينابيع ،الجبال والهضاب ، الجزر والشلالات ، الصحاري والغابات ، الوحوش والحيوانات ، الحقول والكروم ، الثمار والفواكه ، الورود والحبوب . إنس الثلج والماء ، البر والربيع والسهوب . انس الدلافين والأسماك والحيتان ، انس البلاد ! انس المجازر والحروب ، المدافع والصواريخ والطائرات ، الدبابات والمصفحات . انس السيوف والرماح والدروع والسهام . انس الجيوش والشرطة والمخابرات ، البوارج والطوربيدات ! السفن والغواصات وحاملات الطائرات .. انس يا حبيبي المدن والعواصم . انس التاريخ ! انس الأدب . انس الفن .انس الشعر! انس الكتب ، وكل ما قرأته فيها "
" يا حبيبتي عقلي مثقل بألاف الأسماء وألاف الكتب وألاف الأبطال ،ومئات الشعراء والأدباء والفلاسفة والعلماء والمتصوفين والحكماء والآلهة والأرباب والحكايات والأساطير "
" انس الأسماء .. إجرع من خمر الجنة وانس "
" أخاف أن لا ينسيني خمر نهودك ولا يسكرني "
" بل يسكر وينسي يا حبيبي ، لكني خائفة على عقلك أن يضيع "
" ليذهب عقلي إلى الجحيم إلا منك يا حبيبتي ، فدعيني أسكر بخمر نهودك حتى الثمالة "
" اجرع وانس يا حبيبي اجرع وانس "
" من هذه الملتهبة بين أحضاني يا حبيبتي ؟"
" أنا سارانيو يا سورياي وإندراي "
" آه يا حبيبتي ، أشم كل عبق الهند وجمال أشعار طاغور وروح الفيدا والأوبانيشاد من بين نهديك "
" انس يا حبيبي ! اجرع من خمر نهدي وانس "
راح الأديب يغرق في التحوّل والتعدد والنسيان ، وكلما ذكرت له الملكة اسماً نسيه ، وكلما تذكر هو شيئاّ نسيه ، إلا ما أرادا أن يتمتعا به ، فكانا يبقيانه إلى أن ينتهيا منه .
اختفت سارانيو من بين أحضانه ليجد نفسه يعانق هيلين الطروادية وليتحول خلال ومضة إلى باريس ويشرع في عناقها . ومع جسد ثان من أجساده السبعة ظهرت حورية راحت تلهب جسده بالقبل وهي تردد "يا حبيبي يا شمشوني " فأدرك أنها دليلة الفلسطينية ، فأبى أن يكون شمشوناً ، وهتف لها مصححا " بل أنا كنعان وجليات وعناق يادليلتي " وراح يغرق في بحر جسدها إلى أن رآها تنطفئ بين يديه لتظهر بعدها انثى خارقة الجمال راحت تصهل هائجة تحته كمهرة قطعت أعنتها . سألها من أنت ، فأجابت " أنا استير يا احشويروشي " فصرخ " آه آه يقتلني صهيلك تحتي ، دعيني اتروّض برضع فرات نهديك ورشف رضاب شفتيك "
راحا يغرقان في هذا التحوّل والتعدد غير المـتناهي ، فقد تحولت الملكة إلى كليوباترا ونفرتيـتي وإيزيس وزنوبيا ، وإنانا وعشتاروعناة ، وأفروديت ، وتحول هو إلى العديد من الملوك والقادة والآلهة الذين أنهاهم برع وأخناتون ، ليغرقا في لجة الغرام . وفيما كانا يتعانقان ويتقلبان على السرير الفسيح بأجسادهما المتعددة مرت في مخيلة الاديب شخصيته الأخرى الممثلة في الملك لقمان فاستحضرها في الحال بكل قدراتها الخارقة وخلال ومضة من الزمن كان ينهي تعدده وتعدد الملكة ليظهرها ليس في شخصية زوجته الملكة نور السماء ، بل في شخصية من بنات خياله ، هي ربة الجمال المخلوقة من مسك وعنبر وفل وقرنفل وزعفران وكافور ، والتي يبدو الماء من روحها وتبدو عظامها من خلال مائة ثوب من الحرير ! همس لها :
" يا حبيبتي يا ربة الجمال ، أخاف على رقتك ، أخاف على شفافيتك ، أخاف على جمالك أن يخدشه وصالي " أجابته :
" لا تخف يا حبيبي فوصلك نسيم وجسدي الظلال "
" آه لجمالك وكمالك وطيب طيب وصالك "
*********
شعر أنه بدأ يتخفف من عبء ما تحويه ذاكرته ولم يبق فيها إلا بعض صور الموسيقى والغناء . فأخذ بضع جرعات من خمر الجنة .
همست الملكة له متسائلة عما بقي في ذاكرته، أجاب أنه لا يستطيع أن ينسى الحزن ووجه أمه، ألقمته الملكة نهداً وهي تهمس " انس كل الظواهر المحسوسة والمجردة ، المرئية والمدركة من وعيك يا حبيبيي ، وارتد بذهنك وشعورك وكل حواسك إلى ظلماء دخيلتك وإلى أغوار نفسك "
" لكني أخاف أن أنسى جسدك الجميل يا حبيبتي "
" لن تتوحد تمام التوحد بجمال جسدي إلا إذا نسيت كل الظواهريا حبيبي ، وتوحدت بكل أحاسيسك وإدراكك مع نفسك "
" أنا هارب من نفسي يا حبيبتي وأنت تريدين أن توحديني معها؟"
" انس الكلام ، انس اللغة ، لتدرك ما هي النفس يا حبيبيي" !!
" وكيف سأذاهنك يا حبيبتي إذا ما نسيت الكلام ؟! "
" التذاهن الأكمل يا حبيبي لا يتم بتصدير صور الكلام من العقل إلى العقل "
" كيف إذن يتم يا حبيبتي " ؟
" ألم تر إلى الأطباق في البحر كيف كانت تلبي رغباتنا من الطعام بمجرد إحساسها برغبتنا
دون أن نصدر لها أية صور كلامية ، فهي لا تعرف لغة "؟ ! " " هيا يا حبيبي حاول أن تتوحد مع نفسك لتتوحد معي "!!
" هل تقصدين أن ألغي حواسي وعقلي " ؟
" إذا استطعت ذلك يا حبيبي أصبحت مثل الله ، فهو الوحيد القادر على أن يكون فوق الحواس والعقول ، وأنا لا أريدك أن تفقد عقلك الإنسي تماماً يا حبيبي" !!
" ليذهب عقلي والإنس جميعا إلى الجحيم يا حبيبتي "
" جرعت كثيراً ورضعت كثيراً يا حبيبي . مهلا يا حبيبي "
" ما زلت أدرك وجودي وأعرف بعض الكلمات يا حبيبتي "
" اجرع من خمر الجنة وارضع من ماء الكمال وإكسير الحياة .. رضعك فيه حياة ، فيه ألم ، فيه عذاب ، فيه عشقُ عشقِ العشقِ، آه آه يا حبيبي "
********
لم يعد الأديب يحس بنفسه وحتى مجرد وجوده الذي شعر أنه أخف من الريشة ! وقد فقد كل شيء حوته ذاكرته ليغدو أقرب إلى اللا شيء . وحين ذاهنته الملكة سائلة "من أنت يا حبيبي " أجاب تذاهنا " أنا العدم يا حبيبتي " !!
شعرت الملكة أنه بلغ حالة من الإنطفاء في الذات الكلية ربما لم يبلغها إنس ولا جان من قبل . وكانت متخوفة عليه من خمر الجنة الذي رضع منه كثيرا ، والذي لا تدري ما هي عواقبه على من يشربه ، خاصة وأنه الإنسي الأول الذي يثمل من خمرنهودها . وتخوفت من أن يدخل الأديب في تحولات قد لا تكون قادرة على التكيف معها ومواجهتها . سألته بعد أن رضع بضع رضعات ورفعت رأسه عن صدرها : " والآن من أنت يا حبيبي " ؟!
أوحى لها تذاهناً ببضعة أحرف أفادت معنى " أنا الرب "
ضمت رأسه إلى صدرها جاهدة قدرالإمكان أن تخفي دهشتها .وراحت تقبّل جبينه وعينيه ، وهي تهتف " ما أجملك ، ما أكملك يا حبيبي "
سألته بعد أن اجترع بضع جرعات أخرى " والآن من أنت يا حبيبي ؟"
ذاهنها كما في السابق بما معناه " أنا الحق "!!
ضمت رأسه بشدة إلى صدرها وفرحة عارمة تجتاحها واغرورقت عيناها بدموع ما لبثت أن انزلقت على وجنتيها ، وهي تدرك تمام الإدراك أنه راح يتوغل عميقا في التوحد مع الذات الإلهية .
كان يرضع لاهيا عما حوله وهي تملس براحة يدها على رأسه وتتغنى بجماله . .وتنبهت إلى أن وجهه تحول إلى جمال أخاذ تحيط به هالة نورانية . همست له " والآن من أنت يا حبيبي ؟ "
ذاهنها بثقة مطلقة " أنا الله " !!
احتوته بكل محبتها ، بكل أنوثتها ، بكل أحاسيسها ، بكل خلجات نفسها ، ودموع الفرح تنزلق مدرارا على وجنتيها . ولم تجد نفسها إلا وهي تتغنى بالجمال الإلهي "
" يا لجمالك وكمالك وكمالِ كمالِ الله يا حبيبي
يا لجمالِ جمالك وجمالِ جمالِ الله يا حبيبي
يا لكمالِ كمالك وكمالِ كمالِ الله يا حبيبي
الآن الآن يا حبيبي يا حبيبي طاب المدامُ المدامُ
ومدامُ مدامُ المدامِ !
طاب الغرامُ الغرامُ وغرامُ غرامِ الغرامِ
طاب العشقُ العشقُ العشقُ وعشقُ عشقِ العشقِ
طاب الهيامُ الهيامُ وهيامُ هيامِ الهيامِ
طاب التوحّدُ باللهِ وبجمالِ كمالِ اللهِ
يا لجمالك وكمالك وجمالِ كمالِ اللهِ يا حبيبي
*********
غرقت الملكة في ما يشبه الغيبوبة وهي تتوحد مع الأديب في ذروة الغرام وتتغنى بالجمال الإلهي ، وحين حاولت أن تستعيد وعيها وتتمالك نفسها ، وجدت نفسها فجأة أمام طفل ملائكي لا يتجاوز الثانية من عمره يرفل بثياب من السندس والإستبرق ويحتضن نهدها بيديه ويرضع إكسير الحياة بكل براءة الأطفال ، راسما على شفتيه ابتسامة وادعة ساحرة وهالة نورانية تحيط برأسه ، مضفية نورا أخاذا على وجهه .ندت عنها صرخة خافتة وهي تحدق إليه ثم إلى الحجرة الماسية بدهشة بالغة . احتضنت رأسها بيديها وراحت تستجمع شتات ذهنها . أدركت أنها كانت تتوحد معه في شبه غيبوبة وهي تتغنى بجماله الإلهي وتغرق معه في لجة الهيام ولم تعرف ماذا جرى بعد ذلك . ماذا صارا ، ماذا كانا ، وماذا حدث ، لا تعرف ، وعبثا حاولت أن تعرف . أدركت أن الأمور خرجت عن يديها وعن طاقتها ، كما خرجت عن طاقة الملك ابليس نفسه . ، وأن الإرادة الإلهية تدخلت في الأمر . لم تعرف ما إذا كان عليها أن تضحك فرحة أم تصرخ باكية ، فمن كان حبيبها صار الآن ابنها . لم تجد إلا أن تحدق إلى الطفل وإلى جمال الطفل وإلى ابتسامته الربّانية ، وإلى الوداعة والبراءة اللتين يحتضن بهما نهدها ، وإلى فرحته بهذا النهد .
راحت تتأمل ابتسامته وقد عم شذاها أرجاء الحجرة الماسية ناثرا الإبتسامات على السقوف والجدران القوسية ، على الرسومات والمنحوتات والأيقونات والتحف ، على الورود والمقاعد والمناضد والنوافذ ، على الثريات المتدلية من سقف الحجرة .وشعرت بها تتسرب عبر النوافذ إلى الفضاء لتعم كل شيء ، حتى الأقمار والنجوم . وفجأة ظهرت مجموعة من النوارس محلقة حول القصر مقتربة من نوافذ الحجرة القابعة في الاعالي . تجرأت ملكة النوارس ودخلت الحجرة عبر النافذة وراحت ترفرف بجناحيها فوق رأس الطفل . ابتسم الطفل ومد يداً ملائكية إلى ملكة النوارس . حطت الملكة على كتفه . ملس بيده على رأسها وهو يرضع ويبتسم . ملست النورسة بطرف جناحها خد الطفل . أشار بيده لها أن " روحي يا نورسة " طارت ملكة النوارس لتخرج عبر النافذة وتنضم إلى أسراب النوارس المحلقة لتقود تحليقها حول العرش الملكي ، فيما كانت أسراب من كافة أنواع الطيور تهرع عبر الفضاء لتحلق بانتظام حول القصر ، تبعها أسراب من الخيول والظباء والدلافين والأسماك وكافة أنواع الحيوانات وراحت تحلق بانتظام حول القصر السامق في الأعالي . وأقبلت من الجهات أسراب من الورود والأشجار والنباتات ، وأسراب من العنب والبرتقال والتفاح ، وأسراب من الخضار ، وراحت تحلق بانتظام حول القصر وحول العرش .. وأقبلت أسراب من الحجارة والأطباق والصخور ، وأسراب من اللجين والزمرد والياقوت ،وأسراب من الشموع المتقدة وشعل النيران ، وأسراب من الندى والضباب والسحاب ، وأسراب من المنحوتات والأيقونات ، وأسراب من الألوان والإبتسامات ،وأسراب من الدموع والفراشات . وأسراب من اللغات والألحان . وأسراب من الرجع والظلال ، وأسراب من الصهيل والهديل والغناء ، وأسراب من الحروف والأشعار ، وأسراب من الرائحة والذوق والإحساس والشعور ، وأسراب من أضغاث الأحلام ، وأسراب من العدم والسراب والأماني ، وراحت كلها تحلق بانتظام حول القصر احتفالا بمن أختير ليكون ابنا للسماء !!!
**********
اندفعت ملكة اليمام حاملة بمنقارها نرجسة بيضاء وراحت ترفرف فوق الطفل والملكة الذاهلة الحائرة . ابتسم الطفل لملكة اليمام ومد لها يده الصغيرة . ألقت بالنرجسة على خده وحطت على كتف الملكة ومدت رأسها . ملس الطفل عليه بأنامله دون أن تفارق الإبتسامة شفتيه ، ودون أن يفلت حلمة النهد ، وروعة البراءة . رفرفت اليمامة ولامست بطرف جناحها جبين الطفل. أشار لها الطفل أن "روحي يا يمامة " رفرفت ملكة اليمام بجناحيها وطارت عبر النافذة لتحلق مع سربها ومع الكائنات حول العرش السامق في الأعالي .
اختلج الفرح في قلب الملكة وابتسمت ، فيما كانت ترقب من النوافذ فرح الكائنات المحلقة حول العرش ، ومدت يديها لتحضن الطفل ، وما لبثت أن دمعت ، ليمتزج فرحها بالحزن ، وليتساوى فرحها مع الحزن ، كما يتساوى في مملكتها السماوية الليل مع النهار ، والنور مع الظلام !!
أفلت الطفل النهد من فمه واندفع على صدر الملكة مشرعا يديه ليعانقها . احتوته بأن ضمته إلى روحها بكل الوله ، وكل الفرح الحزن ، وكل الحنان ، واحتواها بأن طوق عنقها بيديه ، بكل البراءة ، وكل المحبة ، وكل عشق الأمومة ، وكل فرح الطفولة ، وكل الألوهة ، وكل ما لن تعبر عنه الكلمات ولا الأغاني .
اندفعت كوكبة من الورود الجورية والياسمينية والندية والنردية عبر النافذة ، وراحت تحلق راقصة في فضاء المخدع الملكي . رفع الطفل رأسه عن عنق الملكة وابتسم للورود ، ومد يده ملوحا لها .هبطت نحوه باقة جورية حمراء ، مد الطفل أصابعه ليلامسها ، فلان الشوك الجوري وانثنى أمام أصابعه ، وأحنت الورود زهورها وذاهنته هاتفة " عليك يا ابن الله السلام "
لم تدرك الملكة تذاهن الورود مع الطفل ، غير أنها أحست من بهجة الكائنات أن من كان حبيبها وصار الآن ابنها ، غدا ابناً لله وحبيبا للسماء .
************
ذاهنها الملك ابليس من أعماق البحر غاضباً :
" ماذا فعلت بابن الإنس أيتها الملكة ؟ "
ذاهنته بكل الحزن الفرح :
" لا أعرف يا مليكي اقسم بإلهي الحبيب إنني لا أعرف ، فقد فقدت السيطرة على نفسي، وغبت عن الوعي حين بلغ ابن الإنس كمال كمال الكمال وصار الله دون إرادتي ، ليغرقني في بحر حبه ، ويوحدني مع بهاء كماله ، قبل أن يصيره الله طفلا ملائكياً "
أجاب الملك بلوعة :
" يا حسرتي ، فهل أفرح أنا أيضا أم أبكي ، جئت بابن الإنس ليشهد على براءتي من الغواية أمام الإنس ، فأغواه سحر جمالك ، وأعاده خمر الجنة المتدفق من صدرك إلى طفل لا يفقه ولا يدري "
" بل مشيئة الله يا مليكي من أعادته طفلا وليس خمر الجنة ولا ماء الكمال ولا إكسير الحياة ولا سحر جمالي ، فلا تقنط من مشيئة الله جل جلاله السامي "
" أستغفره وأتوب إليه ، سبحانه . أدرك ذلك أيتها الملكة ، لكنه لم يكن ليحدث ، لو لم آت بابن الإنس من الأرض ، ولم أعرفه عليك ، وأتيح لك أن تصحبيه إلى عرشك السامق في الأعالي "
" كانت رغبته يا مليكي ، اقسم أنها كانت رغبته في أن ينسى الأرض وينسى الإنس ، وينسى القتل ، وينسى الهموم والأحزان ، فمن الله عليه بأن أراه نفسه ،وصيره مثلها ، ثم أعاده إلى الطفولة ، ليحيا ثانية الفرح الطفولي وعشق الأمومة والأمان "
" يا حسرتي ! من سيشهد على براءتي عند الإنس ، لعلهم يكفون عن لعني وشتمي ورجمي ، هل أنتظر إلى أن يرأب ابن الإنس ثانية ويطوي سني الأرض أو أيام السماء "؟!
" لا يا مليكي . لا أظن أن ابن الإنس سيعود إلى وعيه الإنسي حين يكبر ، تكفيك محبة الله وكائناته فلا تنقصك محبة الإنس الذين أفسدوا في الأرض وعاثوا فسادا "
" بل تنقصني أيتها الملكة ، فأنا لا أحتمل أن يكرهني خلق من مخلوقات الله "
" يا مليكي لا تقنط من رحمة الله وانتظر أن يأتيك الله بآياته ، وانظر إلي وارأف بحالي ، فماذا تفعل من هي مثلي وقد فقدت تعددها وصار حبيبها ابنها ، وعليها أن ترضعه من ثدييها وتكون له أما رؤوما دون ان تفقد املها بالله أكبر الرؤومين والرؤفاء ؟"
غير أن الملك ابليس لم يحتمل وطأة الإنتظار ، وحاول أن يقنع نفسه بالفرح ،وأن يخلد إلى الطمأنينة ، فقد راح يشعر في قرارة نفسه أنه غرر بالأديب محمود أبو الجدايل حين صعد به من الأرض ليشهد على براءته من غواية الإنس ، فلم يجد إلا أن يشرع في البكاء ،ويلغي الإحتفال برأس السنة ، لتحزن له في ممالكه كلها ، الكائنات ، لكن دون أن تفقد فرحها ، فقد تساوى فيها الحزن والفرح . وحده ابليس كان حزيناً ، دون أن يجد الفرح إلى نفسه سبيلاً.
انتقل بلمح البصر من أعماق بحره المعلق في السماء ، إلى حجرة الملكة ، ليظهر إلى جانب السرير، ويمد يديه ليأخذ الطفل ،ويحدق إليه ملياً ، ويهتف بحزن وألم والدموع تنحدر على وجنتيه :
" معذرة أيها الأديب . اقسم لك بالله أن لا شأن لي في ما حدث ، فهل تصدقني القول ؟"
ابتسم الطفل ومد يده وشرع يمسح دموع الملك . تفجر الحزن في قلب الملك وخالج شفتيه طيف ابتسامة ارتسم عبر الدموع ،وضم الطفل إلى عنقه ،واحتواه بكل ما في قلبه من محبة لله ومخلوقاته .
همس إلى الملكة وهو يضم الطفل :
" لو أعرف أني أرضي وجه الله لحاولت بقدراتي أن أعيد الطفل إلى رجولته وحالته الإنسية "
هتفت الملكة بخشية من الله وريبة في النفس :
" لا يا مليكي أرجوك ، أتوسل إليك ، أن لا تقف ضد مشيئة الله رب الأنام "
" لن أقف أيتها الملكة ، لن أقف ضد مشيئة الله ، فصبر جميل والله المستعان "
ازدحم الفضاء حول القصر بآلاف النوارس واليمام والقطا ، وآلاف الكائنات المختلفة وراحت تحلق بانتظام حول القصر احتفاء بطفل السماء .
أشرع الطفل يديه نحو النافذة وهو يرقب جانبا من الطيور المحلقة .هتفت الملكة إلى الملك :
" أطلق يا مليكي الطفل إلى الكائنات لتزفه "
قبل الملك الطفل على خده وأطلقه في فضاء الحجرة الماسية .
طار الطفل محلقاً واجتاز النافذة .. أفسحت له النوارس واليمامات والطيور ممرًا بينها في الفضاء ، فاندفع عبره يحف به الكون والكائنات وراحت كلها تزغرد للطفل وتقيم له معراجاً لولبيا في السماء .
طارت الملكة عن السرير محلقة بثياب من السندس الأخضر الأبيض الموشى بالسواد ، واندفعت خلف الطفل ، فانفع معها الملك محلقاً بذات الثياب . وارتدى الملائكة والحوريات والجنيات ذات الثياب ، إيذانا ببدء الفرح الحداد ، ليتساوى في مملكة السماء الحزن مع الفرح كما يتساوى الليل مع النهار ، والنور مع الظلام .
دار الكون ، كل الكون ، في الفضاء ، حول القصر السامق في الأعالي ، محتفيا بابن السماء .
تتبعه الملكة والملك وتحف به ملكات حوريات الماء وحوريات السماء ,وملكات الكائنات .وسط صدح الموسيقى السديمية ورجع زغاريد السماء وشدو الكون بالأغاني وتموجات الألوان .
أفردت ملكة النوارس جناحيها للطفل فامتطاها .. وطوق عنقها بيديه وراح يضحك يضحك يضحك .. فضحك الكون والكائنات ..
مدت ملكة اليمام جناحين من حرير موشى بألوان الفرح الحداد وذاهنت ملكة النوارس راجية أن تتيح لها الإحتفاء بابن السماء .
انزلقت ملكة النوارس من تحت جسد الطفل ليحط على ظهر ملكة اليمام ويملس بيده على رأسها
المموج بريش من السندس الأخضر الأبيض الموشى بالسواد .
تشكلت ملكة الورد في جسد حورية لها أجنحة من قرنفل وزنبق وياسمين . ودع الطفل ملكة اليمام وألقى نفسه بين أحضان ملكة الورد ، ضمته إليها وقبلته على اليدِّ ،وذاهنته راجية قبلة منه ، فقبلها على شامة في الخدِّ .
استبقت ملكة الضفائر المعراج وأشرعت أجنحة من ذؤابات وخصل وضفائر ، وأشرعت أحضانها للطفل . ودع الطفل ملكة الورد واستكان إلى حنان الضفائر . لثمت الذؤابات جبينه فلثم أهداب الذؤابات .
هفهف النسيم محلقاً بأجنحة من الطلّ ليتمرغ الطفل بأحضان النسيم ، قبله النسيم على خده فقبل خد النسيم . غارت من النسيم الظلال فتشكلت في جسد حورية من ظلال ، وذاهنت ملكة النسيم أن تمنحها ابن السماء . أفلتت ملكة النسيم الطفل وتنحت ، لتحتضن الطفل الظلال ، وتغمره بقبلات من ظلال .
أفردت ملكة العشب جسدها بساطا ربيعيا مزهراً لموكب المعراح السماوي . تدحرج الطفل عليه محفوفا ببحور الشعر ، والقوافي ترف عليه ، والألحان تناغيه ، والأشعار تداريه ، وتمطر خديه بقبل القوافي ، فطفق هو يلثم حروف القوافي ، لتغرق ملكة الشعر في الفرح ،وترقص ملكة العشب ابتهاجا ، ولتحلق ملكة الألحان بالألحان لتلف الكون والمعراح.
ذاهنت ملكة الألوان الملك راجية أن يتيح لها نزع ألوان الحداد ، لتصبغ المعراج لبرهة بالألوان . أذن الملك لها بالبرهة كرمى لابن السماء ، أشارت بحركة من يدها وشمخت برأسها وارتعشت ، فأضفت على المعراج كل الألوان . تضرج الكون ، كل الكون ، وتلألأ بالألوان الألوان ، وراح يلثم عيني الطفل ، فلثم الطفل عيون الألوان .
أبرقت ملكة السراب من أفق عانقت فيه السماء كثبان الصحراء ، فبدت وكأنها بحر سطعت عليه أشعة وضاء ،حسرت الألوان ألوانها ليلف المعراج السراب بألوان الحداد ، قهقه الطفل ، والسراب يدغدغه ، فقهقه الكون والمعراج .
انتفضت ملكة السديم وذاهنت السديم .احتشد السديم مزغرداً من كل فج ، وشكل هودجا للطفل يقله براق ، وتحف به فراشات من سديم مهاق ، اعتلى الطفل الهودج باسما فانطلق البراق . ضحك الطفل ولوح للكائنات بيد مهراق !
طفح الكيل من السديم بالينابيع والشلالات والأنهار ، فصبت على جانبي طريق المعراج مطرا هراق . تمايل سنا أسراب شعل النيران وتراقصت حوريات الماء في ماء رقراق ، وحلقت في سماء المعراج أسراب القاق ، فضجت القلوب والحروف والقوافي والأطباق بالقافات ، فضج الكون والكائنات بالمرح والجنون والقيق والقاق ، وبين السديم وطفل السماء طاب في الهودج على أحنحة البراق العناق .
هاجت في الأكوان المحيطات ، وثارت الدلافين والأسماك ،وتلاطمت على الصخور الأمواج ،والتجت مياه البحار، ومخرت الحيتان العباب ،وفاضت على رمال الشطآن اللجاج ، ومارت في الأفلاك أقمار ، واضطربت في السموات كواكب ونجوم ، والتمعت بروق وقصفت رعود وناحت كلاب وعوت ذئاب وثغت معز وماءت قطط وحنًت نوق ورغت نعاج ، وتذاهنت وحوش مع طيور ونباتات مع خيول ، وماد في الكواكب أديم واصطخبت حول القصر أصوات عجعاج ، وأقبلت من المشارق أعاصير وهطل من المعصرات مطر ثجاج ، وسفت الريح في الصحاري الرمال ، فعلت في الفضاء عواصف وارتفع العجاج ، وتأججت في السماء شعل النيران ، فاضطرم الأجاج ، وهدلت حول العرش أسراب اليمام ونعق البوم ونعب الغراب ، وشدت النوارس والحداء ،وغضب العنب والبرتقال ، وانفجر العدم بالبكاء وتصدع في مرايا النفوس الزجاج . وهامت في كواكب الإنس أرواح وانتفض في الأجداث رميم العظام ، وأطل على الأكوان نور نبي وأشرق في السحاب وجه يسوع وخيم على السماء جلال العذراء ، وهتفت باسم دمشق الجراحات ، وأشرعت للطفل حضنها سيناء ، وأحنت لبوذا أغصانها الأشجار ، وكبر لاوتسه باسم التاو ،ولاح في الغيهب السحيق وجه براهمان ،وسبح باسم أهورا مازدا وإندرا ، مترا وأهرمان وزرادشت والنار ، وأّنّ في أعماق الأرض تراب الشيرازي والكندي وابن العربي وابن الفارض والجيلي والخيام ، وصرخ باسم الله رفات الحلاج . فالتعجت في جروح دمشق اللواعج واعتلج في قلوب الملحدين المؤمنين والمؤمنين الملحدين اللعاج ، وذرف جبريل والملائكة عدا اسرافيل في عرش الله الدموع وازدحمت في مملكة السحر الكائنات ، ليعم الكون الإحتجاج ، فتلجلج في طريق الموكب السماوي المعراج !!
تذاهنت الكائنات في كل ممالك الملك إذعاناً للمشيئة الإلهية آبية الفرح الحزن ، وثائرة على ألوان الحداد ، فتذاهنت مع الكائنات الأكوان ، ليطرق التذاهن الكوني أذهان الملكات . أسرت الملكات بالتذاهن إلى مليكة السماء وفاتنة السماوات . خاطرت الملكة الملك متوسلة :
" لب يا مليكي رغبة الكائنات في إلغاء الحداد إلى الأبد ، فهي لم تعتد الفرح الحزن ولم تعرف ألوان الفرح الحداد !وأوقف يا مليكي الزمن لثانيتين سماويتين والغ حدود الأمكنة ، وقارب بقدرة الله الممنوحة لك ما بين المسافات والمسافات ، لتشهد الفرح بابن السماء كل الأكوان السماوية والكائنات ..
اختلجت شفتا الملك بابتسامة واغرورقت عيناه بدمع وأوحى إلى الكون والكائنات ، من قلب لم يعرف الكره يوما ،ولم يخفق إلا بمحبة الله ومخلوقاته والآيات :
" بسم إلهي الحبيب ، الواحد الأحد ، الصامد الصمد ، الذي لم يولد ولم يلد ، ولن يكون له كفوا أحد : ليقف الزمن ! ولتلغ حدود الأمكنة ، ولتقرب المسافات ، ولتخفض الشموس حرارتها ، ولتهمد الزلازل ، ولتخمد البراكين ، ولتهدأ العواصف ، ولتسكن الريح إلى الظلال ، والنسيم إلى السراب ، وليعم الفرح وحده الكون والكائنات "
نهضت من أسافل الكون أراض ، ودنت كواكب من كواكب ،وفضاءات من فضاءات ، وشموس من شموس ، وأقمار من نجوم ، وشهب من مذنبات ، وهبطت السماوات ، سماء اثر سماء ، لتهبط السبع السماوات ! وارتفعت مياه البحار والمحيطات والأنهار ، ليلف الكون الماء ، وليختلط الفضاء باليابسة والبحار ، وليختلط الجن بالملائكة ، وحور العين بالجنيات ، ومخلوقات البر بمخلوقات البحر ، والطيور بالنباتات والورود بالقبرات ، وأديم الأعماق بسديم الفضاء ، لتختلط كل الكائنات بكل الكائنات ، وليقف الزمن ، وتقرب المسافات ، وتهدأ العواصف ، وتخمد البراكين ، وتخلد الريح إلى الظلال ،والنسيم إلى السراب ، والحروف إلى الكلام ، والنور إلى الظلام .. ليفرح الكون ، كل الكون ، والأحلام والإدراك ، والندى والضباب ، والبنات والشباب ، والآباء والامهات ، والأجداد والجدات ، والصغار والصغيرات ، وأبناء الأرضين وأبناء السماوات ، لتغرق كل الكائنات ، بكل الكائنات ! في مكان ليس مكاناً ، خارج الزمن ، وبلا حدود ،حول المعراج ، في السماء ، تحت الماء ، وبين قناديل من نجوم ، وأقمار سابحات ، وبصحبة النار ، والنور والظلام ، ترعاها عيون الله ، مبدع الخلق والمخلوقات .

*********


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-05-22, 03:00 AM   #15

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

(13)

قط جائع!


نهض محمود ابو الجدايل من استلقائه جاهدا قدر الامكان لأن يستعيد واقعه من عالم الخيال، رغم كرهه الشديد لهذا الواقع . لم يشعر يرغبة في الذهاب إلى أي مكان غير البيت ، رغم أن رابطتي الكتاب والتشكيليين ليستا بعيدتين كثيرا عن الشقة التي استأجرها .
وهو ينزل درج البناية التي يقطن فيها واجهه قط يصعد الدرج .. أبطأ سيره وتنحى إلى جانب الدرج كي لا يخيف القط الذي بدا مذعورا منه، وراح يهتف للقط " لا تخف " . تجاوزه القط بما لا يزيد على ثلاث درجات وتوقف حين اطمأن إليه، وأطلق مواء ينم عن حزن.. خاطبه " ما بك ؟ " ماء القط ثانية " لعله جائع ؟" وتابع سيره نازلا الدرج . فوجىء بالقط يتبعه ويموء.: لك حبيبي ليش لحقتني ؟ روح " توقف القط مطلقا موأته االمشوبة بحزن ما . أشار له أن ينصرف . استدار القط ببطء وشرع في صعود الدرج بينما تابع محمود نزول الدرج إلى الطابق الأرضي حيث يقيم ، دون أن يلتفت خلفه . وهو يفتح الباب ويهم بالدخول فوجىء بالقط يتبعه دون أن يموء. دخل وأطبق الباب خلفه . ألقى جسده على أريكة في الصالون وهو يفكر في القط . أدرك أن القط جائع وأنه لم يجد أحدا يتوسل إليه غيره . لم يرغب في اطعامه خوفا من أن يألفه ويقيم عنده . هو يحب القطط والكلاب والأغنام كثيرا ، وله قصص أكثر من أن تحصى معها ، لكنه يمر في ظروف لا تتيح له أن يوفر لها العناية الممكنة ، كما أنه يريد أن يعمل .
جاءه مواء القط من خلف الباب وقد ازداد حزنا .. حاول أن يتجاهل الأمر .. وبعد دقائق لم يعد يسمع مواء. أدرك أن القط انصرف . جاهد لأن ينساه لكنه لم ينجح . شعر بضميره يؤنبه .. فكر في أن يبحث له عن طعام ويخرج يبحث عنه لعله يتخلص من الشعور بالذنب! . نهض إلى المطبخ . فتح البراد . ثمة بقايا طبخة فروج مع البطاطا .. وثمة جبن أصفر وبيض مسلوق ومرتديلا وزبدة . أحضر طبق كرتون . قشر بيضة وبعض قطع الجبن ووضعها في الطبق. وأضاف بعض قطع المرتديلا.. وأخرج فخذ دجاج من الطبخة . فكر فيما إذا كان هذا الطبق يكفي لقط جائع جدا " قد لا يكفي " وأخرج قطعة خبز ودهنها بالزبدة دون أن يفكر فيما إذا كانت القطط تأكل الخبز.. " الجائع قد يأكل أي شيء " أقنع نفسه بذلك . حمل الطبق وخرج يبحث عن القط .
اختفى القط . لم يره على الدرج . هل يخرج إلى الشارع يبحث عنه . وهل سيجده ؟ ولم يعرف كيف خطر بباله أن يناديه كإنسان . هتف بصوت عال " وينك ؟ وين رحت؟ " لم يصدق حين جاءه مواء القط من الطابق الرابع في البناية . لا شك أنه صعد يموء خلف الأبواب لعل أحدا يتصدق عليه . هتف " تعال " وسمع مواء القط وهو ينزل الدرج جريا إليه .. ابتسم وهو يدرك أن القط يفهم اللغة وقد عرف صوته مع أنه لم يتكلم معه إلا بضع كلمات . وضع له الطبق أمام باب شقته . هجم القط على الطبق وشرع يلتهم الطعام بشراهة .
دخل الشقة وأغلق الباب خلفه . كان متخوفا من أن يواظب القط على القدوم إليه . كما حدث مع قطة في دمشق عشقته إلى حد غير معقول لمجرد أنه داعبها ذات مرة ، غير أنه لم يرالقط بعد ذلك اليوم على الإطلاق .
كان هذا سلوك القط ، أمّا سلوك بعض الناس مع محمود أبو الجدايل فكان أمرا مختلفا .. فكثيرا ما تعرض لعمليات نصب واحتيال وابتزازحتى ممن كان يعتبرهم أصدقاء. عدا ما كان يتعرض له من الجيران. جيرانه في الطابق الذي يعلوه في دمشق .. كانوا يشطفون البلاط كثيرا .. وكانت المياه تدلف عليه من أكثرمن مكان في السقف ، فيضطر إلى وضع أوعية ليسقط الدلف فيها .. وينتظر إلى أن يفرغوا من الشطف..تقشر سقف البيت كله وبعض الجدران دون أن ينبه الجيران إلى ما جرى في بيته .
جاره الذي يسكن في طابق أسفل طابقه خرج إليه بصحبة بعض سكان البناية وهو يصرخ بغضب وانفعال شديدين لأن محمود أبو الجدايل خرًب بيته ، مهددا بطلب الشرطة إذا لم يقم محمود بإصلاح التمديدات الصحية في بيته . نزل محمود بصحبة المرافقين إلى البيت ، دخل مع الجار إلى الحمام .. أشار الجار إلى نقطة ماء جافة على الحائط أصغر من دمعة طفل، وشرع يصرخ " شايف شو عملت في الحمّام ؟ خربت بيتي ، هذا الدهان مكلف مصاري؟ " لم يكن في الحمام شيء غير هذه النقطة الصغيرة الجافة مما يدل على انها حدثت من زمان ولم يعد ينزل ماء غيرها ..وليس بالضرورة أن تكون قادمة من تمديدات بيت محمود ، فيمكن للماء أن يتسرّب من أي طابق وعبرأي منفذ ، كما أن محمود يكنس بيته ويمسح الأرض بمنشفة ولا يستخدم الشطف بالماء.. ومع ذلك وافق محمود على إعادة تركيب مجاري الحمام لديه . ودفع مبلغ خمسة عشر ألف لذلك . الجار نفسه كانت القطط تصعد من كوّة قرميد في سقف شرفته إلى بيت محمود وتدخل إلى المطبخ ، وطلب إليه محمود أن يغلقها، وعد أمام وفد البناية أن يغلقها في اليوم التالي ،وبعد خمسة أعوام لم يغلقها ، وغادر محمود دمشق قبل أن يغلقها ، مع أن غلقها لا يكلف سوى إعادة القرميدة المنزوعة إلى مكانها.
في عمّان وفق محمود أبو الجدايل في استئجار بيت في بناية في حي اللويبدة . المؤجّر رجل نبيل كما يبدو، وغير طمّاع كبعض أصحاب البيوت والبنايات في عمان . فالبيت واسع نسبيا ، يمكّن محمود من عرض بعض لوحاته فيه ، وأجرته مقبولة نسبيا رغم أنه الطابق الثاني من تسوية في سفح الجبل المطل على ساحة العبدلي . وهذه الأجرة ( 200 دينار شهريا ) تبتلع قرابة ثلثي دخل محمود الشهري الثابت .. المؤجر لا يتدخل بأي إصلاحات لأعطال تحدث في البيت ، ويندر أن يمر شهر دون عطب ما في البيت سواء ما يتعلق منه بالماء أو الكهرباء ، لقدم التمديدات في البيت ..
المشكلات الأكثر هي مع بعض الجيران كما في دمشق . ففي دمشق وفي بيت آخر قبل أن يمتلك محمود بيتا، كان المؤجر يرمي بالجراذين الميتة إلى داخل فناء بيت محمود ليرغمه على الرحيل .. وجارآخر يسكن في الطابق الأرضي في بيته الأخير( المُلك ) لديه حديقه يزرع فيها أشجار ونباتات ، يتسلق بعضها البناية ليغطي الشبابيك ويدخل إلى داخل الغرف ويحجب الشمس ، يرفض أن يقلم نباتاته حتى لا تصل إلى نوافذ الآخرين وتحجب الشمس عنها . هذا الجار نفسه وهو موظف في السلطة وحزب البعث اقتحم بيت محمود ليلا ذات يوم بصحبة رجل آخر ، بمجرد أن فتح محمود الباب ، دون أن يطلب أي اذن وكأنه داخل إلى خان عام ، وراح يبحث عن تسرب ماء من بيت محمود إلى بيته ، رغم أن طابقا أسفل بيت محمود يفصل بين بيته وبيته .. وجار آخر مسؤول في الحزب نفسه كان يقذف بفضلات بيته من الطابق السادس إلى الأرض ليسقط بعضها على شرفة محمود .. القاء الفضلات والقمامة من شرفات الطوابق االعلوية مسألة عادية في دمشق ، يشكو منها معظم السكان .ولا يستغرب أن تجد انسانا يشكو من سقوط كيس قمامة على رأسه وهو مار في شارع ما .
هذه المسائل يعاني منها محمود في بيت عمان فجاره الأرضي ، يشغله طوال العام في قص النباتات حين تتسلق على النوافذ التي يرى منها الشمس ، ونظرا لوجود شبك سلكي على النوافذ لمنع دخول الحشرات فقد اضطر محمود إلى شق الشبك ليتمكن من تقليم النباتات عن النافذة .
أما القاء بعض النفايات على الدرج الخارجي المؤدي إلى بيت محمود فمسألة لم يجد لها محمود حلا غير القيام بتنظيف الدرج بين فترة وأخرى ، وخاصة في الشتاء ، حتى لا تغلق مياه الشتاء مصرف الماء الوحيد أسفل الدرج ، ففي هذه الحال ستتجمع بركة من الماء وتندفع إلى بيت محمود . والعجيب لدى سكان عمان أنهم يعتقدون أن إلقاء القمامة إلى جانب مدخل البناء مسألة في منتهى الأخلاق .. وعادة ما تأتي القطط وتفض أكياس القمامة بحثاً عما يدرأ جوعها ، فتتبعثر القمامة أمام المدخل إلى أن يأتي موظف البلدية ويجمعها . لا يكلف الناس أنفسهم في وضع القمامة في الحاويات البعيدة نسبيا عن بعض الأحياء ، ولا يبحثون عن مكان مناسب لوضعها فيه . محمود أبو الجدايل يختلف عن هؤلاء الناس بأنه يحمل قمامته معه حين يكون خارجا من البيت ليضعها في الحاوية المخصصة لذلك التي تبعد قرابة مائتي متر عن البناء ، وحين لا يكون خارجا يحملها إلى خرابة بين عمارتين يضع فيها بعض الناس هناك القمامة .. أو يعلّق الكيس على وتد مدقوق في يسار جدارخرابة مواجه له ، أسفل شجرة تين مزروعة على رصيف الشارع ، حيث يضع سكان بنايتين مواجهتين قمامتهم. الطريف في الأمر أن محمود تعرّض لانتقادات كثيرة من قبل بعضهم وبعضهن لأنه لا يضع قمامته أمام بنائه ، اعتقادا منهم أنه يسيء لهم بعدم وضع قمامته أمام مدخل بنائه ! ولم يفكر أحدهم في أنه يسعى إلى المكان الأفضل لوضع القمامة فيه . فقد اعتادوا على وضع القمامة أمام مدخل بناياتهم ، اعتقادا منهم أن هذه أفضل الوسائل للتخلص منها ، وكل من لا يفعل ذلك هو في الغالب بدون أخلاق !! ترى لو أنه طُلب للسكان الأردنيين فرز القمامة قبل التخلص منها ، بوضع البلاستيك في كيس والورق في كيس والزجاج في كيس ، وباقي النفايات في كيس ، كما يحدث في اوروبا ، والتقيّد بإلقاء القمامة في الحاويات المخصصة لها .. كم من الأردنيين الذين سينفذون ذلك ؟!
إضافة إلى ذلك ثمة من يسطو على خزان مائه أحيانا ليبقيه دون ماء إلى أن يأتي الماء مرة في الاسبوع في عمان ، وكان بعض المستآجرين قد سطوا على خزان آخر لديه حين فكّه ليصلحه ، ليبقى بخزان صغير وحيد يسطى عليه من قبل من ينفذ ماؤهم قبل يوم قدوم الماء، وهو يوم الأربعاء .. حيث ينشغل الأردنيون بالإستحمام والغسيل في هذا اليوم .. وهذا ما يفعله محمود أيضا ، لكنه يضطر في الصيف إلى الاقتصاد أكثر في الماء لحاجته إلى الاستحمام مرتين على الأقل في الاسبوع ، فيلجا إلى استخدام مياه الغسيل والجلي للتواليت لتوفير أكبر قدر من المياه في الخزان . وثمة أطفال يلعبون كرة القدم تحت نافذة بيته مما يحرمه من قيلولة الأصيل، أو حتى النوم في النهار، فقد اعتاد طوال عمره أن يعمل في الليل وينام في النهار، ويشعر بكرة القدم هذه تخبط في رأسه كلما خبطها أحد الأولاد بقدمه. أما عن مفرقعات الأفراح والأعياد والنجاح في الامتحانات المدرسية فحدث ولا حرج ، فهذا قدرلا مفر منه ..أما ما يغيظه أكثر فهو هذا الذي لا يجد مكانا يبرّز فيه كلبه سوى أمام باب بيته كونه واقعا أسفل الدرج .. كتب له لافته على الحائط بخط عريض تقول " يا صاحب الكلب ، هل أنت بلا أخلاق ؟ " وأضاف أسفلها بيت شعر لشوقي " إنما الأمم الأخلاق ما بقيت / فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا " ولم يكف صاحب الكلب عن فعله ، ربما لأنه لا ينزل مع الكلب إلى أسفل الدرج ليرى اللافتة ! كثيرا ما صادف محمود أطفالا أسفل الدرج ، وخاصة في الظهيرة أوالمساء .. راح محمود يشك في أنهم يمارسون مراهقتهم فيها .. أما الأكثر مأساوية ، فهو أسرة ذهب معيلها إلى سوريا ربما مع جماعة داعشية ولم يعد . لم تجد الأم سوى ممارسة الدعارة . ونظرا لأن في البيت أطفالا كبار ، فقد كانت تؤجل استقبال الزبائن إلى وقت متأخر من الليل كما يبدو، لكي يكون الأطفال نائمين ، ولا يعرف محمود كيف اهتدت إلى أسفل الدرج أيضا لتقود الزبائن إليها لممارسة الجنس وقوفا وعلى عجل، ربما معها أومع ابنتها الكبيرة . كان محمود يفاجأ بكم من المناديل الورقية الناعمة أمام الباب وعلى الدرج .. فيشرع في كنسها وإلقائها في القمامة دون أن يخبرصاحب البناية . غيرأنه أخبر جاره المخرج التلفزيوني في الطابق الذي يعلوه ، فوعد بوضع كاميرا لمعرفة الفاعلين ، غير أنه رحل من الشقّة دون أن يفعل ، كما رحلت الأسرة من البناء ربما بعد أن انكشف أمرها لصاحب البناية أو لم تعد قادرة على دفع أجرة البيت.
أطرف الوقائع في البناء هي محاولة انتحار لعاشق . كانت فتاة فرنسية تدرس العربية تقيم في الطابق الثالث، ويبدو أنها دعت العاشق إلى غرفتها لكن ليس بقصد الغرام ، مما فاجأ العاشق ، فهدد بالانتحار إذا لم تنفذ رغبته. ويبدو أنها لم تنفذها ، كان ثملا ، فنهض وألقى بنفسه من نافذة منور البناية . سمع محمود سقوطه وخبطته بأرض المنور ثم صرخة هائلة تنبعث منه ليتابع الصراخ .. كان الوقت بعيد منتصف الليل .. هرع محمود إلى نافذة المنور وفتحها ليرى الشاب مطروحا على طوله ويصرخ ، وقد هرع بعض سكان البناء إلى نوافذ المنور ليروا ماذا جرى .. كان الشاب يشتم ببذاءة كل من يقول عنه أنه لص ، ويتابع صراخه حين يهم للنهوض ، فلا يستطيع لأن ساقه قد كسرت .. طلب بعض السكان الاسعاف فحضر بعد قرابة نصف ساعة كما حضرت الشرطة التي راحت تحقق في الأمر..
ومن أطرف الحوادث أيضا أن اسرة ميسورة سكنت البناية ولديها أغراض كثيرة، راحت تضع بعضها على الأدراج وعلى مدخل البناية حيث يوجد درج عام خارجي أيضا ، وضعت عليه بعض المناضد والخزائن الخشبية التي تحوي أشياء مختلفة كمطربانات المخلل.. بعض الفقراء ممن يدورون في الأحياء باحثين عن أشياء مستهلكة ، ظنوا أن هذه الأشياء مكبوبة لخرابها أو لقدمها ، فأخذوها لبيعها ، والعجيب في الأمر أن الأسرة اتهمت محمود أبو الجدايل بإحضار هؤلاء وبيع الأشياء لهم ! قال مخاطبا من اتهمه " تلقون بأشيائكم في أماكن عامّة وتتهمون الناس بأنهم سرقوها أو باعوها ، هل سنقف لكم حرّاسا عليها "؟
على أية حال تبقى حال محمود أبوالجدايل في عمان مع الجيران والأصدقاء أفضل منها في دمشق . وهذا لا يعني أنه لا يوجد في دمشق أصدقاء وصديقات طيبون، وهم كثر، لكن الحديث عنهم يحتاج إلى رواية غيرهذه كما يرى . في عمان لم يدن نقودا إلا لفنان تشكيلي ومترجم وكاتب . وهو يدرك تماما أنهم لن يسددوا .. الطريف أن الفنان التشكيلي الذي أدانه مائة دينار اتصل بعد أكثرمن ستة أعوام ليهديه لوحة مقابل الدين ! وحتى كتابة هذه السطور لم يأت باللوحة ! مع أن محمود ليس في حاجة إلى لوحاته .
في دمشق حين أدان ابن جيران في الحارة بما يعادل 400 دولار أنكرها فيما بعد وادعى بكل وقاحة أمام القضاء أنه هو من أدان محمود أبو الجدايل 400 دولار. لم يرفع محمود دعوى إلا بعد أن اكتشف أن الشاب ىسلب بعض لوحاته إضافة إلى خط الانترنت. بدأت القصة حين استدعاه ليفرمت له الكومبيوتر. كان الشاب وسيما ويتحدث بمنتهى الدماثة والأدب بحيث ترك انطباعا لدى محمود أنه يتمتع بأخلاق عالية ، أعطاه أجرة الفرمته كما طلب وأهداه لوحتين صغيرتين أيضا لذلك حين طلب منه نقود ليبتاع كومبيوتر أدانه على الفور . بعد بضعة أيام جاء ومعه جهاز الكومبيوتر وطلب أن يجلس في مكتب محمود ليفرمت الجهاز ويختبره ، وطلب إلى محمود أن يفتح له خط النت .. ضرب محمود الرقم السري لخط النت وفتحه له . دون أن يفكر في أنه سيحتفظ بالرقم السري في جهازه ، وانصرف إلى الصالون ليكمل لوحة كان يرسمها . حين كان محمود بعد تلك الليلة يحاول فتح النت فلا يفتح معه ، كان يظن أن ثمة مشكلة من الشركة ، وهي شركة تابعة للدولة .
ولم تمر سوى بضعة أيام أيضا، حين زاره مساء في المعرض قبل أن يغلقه . كان محمود بصحبة صديقه المودي وهو فنان تعبيري رحل عن الدنيا فيما بعد على أثر نوبة قلبية، كان قد دعاه ليسهرعنده تلك الليلة.
أغلق محمود المعرض قبيل العاشرة ليلا وانصرف ثلاثتهم إلى البيت .. وهم يهمون لدخول البناية حيث يقطن محمود . فوجئ بابن الجيران (سامح ) يصفع وجهه براحة يده ويتوقف هاتفا ( أف )!
- شو القصة ؟ قال محمو د مندهشا.
- نسيت هاتفي الجوال في المعرض !
- أيه بسيطة بتوخذه بكره الصبح .
- لا ! ما فيه أستغني عنه !
- أف ! شو بدك فيه في هالليل ؟
- عندي اتصالات لازم أجريها .. أعطيني المفتاح !
وأمام اصرار الشاب اضطر محمود أن يعطيه مفتاح المعرض .
صعد هو والمودي إلى البيت . تساءل المودي بعد أن جلسا :
- هل تثق به إلى حد أن تعطيه المفتاح ؟
- يبدو أنه شاب طيب . لم أر شيئا سيئا منه حتى الآن .
- هل يوجد نقود في المحل ؟
- مجرد فراطة قليلة .
- واللوحات هل تعرف عددها ؟
- لأ طبعا .. في المعرض أكثر من 300 لوحة ، وبعضها مكدس على الرفوف في مجموعات ! لا أعتقد أنه سيسرق لوحات، لقد بدأت تثير قلقي .
- يا صديقي أنت طيب أكثر من اللازم ! تفقد لوحاتك جيدا غدا !
تأخر سامح بعض الوقت إلى أن عاد بالمفتاح بعد أكثر من ساعة من انصرافه . جلس بضع دقائق معهما واستأذن طالبا الانصراف .
*****
تفقد محمود أبو الجدايل اللوحات في اليوم التالي . ليس من السهل عليه تذكر بعض اللوحات الصغيرة غير المعلقة على الجدران .. اللوحات الكبيرة وبعض المعلقات فقط ما يمكن تذكره . وإذا كان سامح قد اختلس عشر لوحات صغيره أو أكثر فلن يكتشف ذلك .
جلس على الكومبيوتر ليلا بعد أن تناول عشاءه في وقت متأخر كعادته . حاول فتح النت. لم يفتح معه . لم يهمل الأمر كالعادة. اضطرأن يتصل بالشركة فقد يكون هناك موظف مناوب . اتصل . كان هناك موظف بالفعل . وحين أخبره عن الأمر، رد عليه الموظف ليخبره أن خطه على النت مشغول من الرقم كذا ! وأعطاه رقم الهاتف.. طلب إليه محمود أن يقطع النت عنه فورا وأن يعطيه رقما سريّا جديدا ..
لم يصدق محمود أبو الجدايل نفسه فمن يعرف الرقم السري لخطه حتى يسرقه . اتصل برقم الهاتف المعطى له على الفور ، ليأتيه صوت سامح بكل وضوح . طار صوابه . هتف بانفعال :
- الله لا يسلمك هوه أنت إلي سارق خط النت وأنا أفكرمنذ قرابة شهر أن المشكلة من الشركة .
- أنا نايم !
- نايم وترد على الهاتف من أول رنّة ؟ هل أزعجك انقطاع النت عندك ؟ احتفظت بكلمة السر في جهازك ليلة أن فتحت الخط لك . استغبيتني ! ماذا سلبتني أيضا وأنا في غفلة من أمري ؟ أحضر ديني عليك من النقود وإلا سأرفع عليك دعوى .
****
لم يسدد سامح من الدين إلا ما يعادل قرابة عشرين دولارا .. اضطر محمود أن يرفع دعوى سرقة واحتيال ..لم يثبت عليه سوى سرقة خط النت . أما عن سرقة لوحات . فقد أحضر مراهقتين إحداهما أخته والأخرى ابنة خالته شهدتا بأنهما كانتا معه حين فتح المعرض وأخذ هاتفه ، وأنه لم يسرق شيئا. ورغم بعض الاختلاف في رواية الفتاتين المختلقة والملقنة من محامي المدعى عليه إلا أن القاضية قبلت شهادتهما ، ولم يقم المحامي بالطعن بالشهادتين..الدين اعتبرته القاضية دينا وليس احتيالا أو نصبا وأنه يحتاج إلى محكمة مختصة بالدين ، وخاصة حين انبرى سامح في المحكمة ليعلن بوقاحة شديدة أنه هو من أدان محمود أبو الجدايل نقودا ! محامي محمود أبو الجدايل لم يحضر الجلسة وهي الأخيرة قبل اصدار الحكم ، أرسل أحد الطلاب المتدربين عنده ، لم يتفوه بكلمة . وكانت المحكمة الابتدائية قد حكمت بتغريم سامح خمسين ألف ليرة عن سرقة لوحات ، بناء على دعوى محمود ومرافعته ، لكنه خسرها في الاستئناف بناء على شهادة المراهقتين !
صدر الحكم بتغريم سامح عشرة آلاف ليرة سورية، لثبوت سرقته لخط النت . لم يقبضها محمود ابو الجدايل حتى مغادرة سوريا عام 2012! تاركا خلفه الدين على سامح إضافة إلى قضية أخرى مع صاحب محل كان محمود أبو الجدايل قد استأجره ! وإضافة إلى ديون نقدية كثيرة على الأصدقاء وغير الأصدقاء.
*****
صاحب المحل هذا( اوضه باشا ) ينتمي إلى أسرة تركية بقيت في دمشق بعد هزيمة تركيا في الحرب العالمية الأولى وخروجها من بلاد الشام .. وبعد ثلاثة أعوام من تأجير المحل لمحمود جاء هذا الصاحب المستأجر بدوره من مالك المحل ، وطالب محمود أبو الجدايل بأن يعقد معه عقد شراكة ! فاجأه وهو يحضر معه نسختين من العقد ويطلب إليه التوقيع عليهما !
هتف محمود متسائلا :
- عقد شراكة يا أوضه ؟ اتق الله !
- وهل تعرف أنت الله ؟
- يا سيدي يكفي أن تعرفه أنت ، فالله ليس في حاجة إلي ! أنا أدفع لك أغلى أجرة في الحي (خمسة عشر ألفاً شهريا) وكل ثلاثة أشهر مقدما . ولم أتأخر عليك يوما في دفع الأجرة ، رغم عدم وجود عقد بيننا بناء على طلبك حين استأجرت . فما الذي جد في المسألة؟
- أريد أن أضمن حقي !
- وهل رأيت مني ما لا يضمن حقك ؟
- لا أعرف ماذا يحدث في المستقبل !
- نكتب عقد إيجار اذن لماذا عقد شراكه ؟ هل تريد أن تقاسمني ريع لوحاتي؟
- لا أحد يكتب عقود إيجار! وعقد الشراكة هو عقد شكلي .وسيبقى الأمر كما هو عليه .
- عقد شكلي ؟ هل هناك عقود شكلية ؟ العقد هو العقد وحسب ما ينص عليه .
حين استأجر محمود المحل لعرض لوحاته فيه كان هناك الكثير من المحلات غير المشغولة وخلال ثلاثة أعوام في المحل إضافة إلى ستة أعوام سابقة في المقاهي ومحل أخر، شجع محمود عشرات الفنانين لأن يستأجروا محالا ، فازدهر الحي ، وأصبحت دمشق القديمة تضج بالمعارض ومحلات بيع اللوحات ، حتى بائعوالشرقيات أصبحوا يهتمون بالفن التشكيلي .. وأوضه باشي يخطط لطرد محمود من المحل حين يحتاج إليه . ويعتقد أنه لا يستطيع اخراج محمود من المحل فيما لو شغله بعقد إيجار، وهذا غير صحيح ، والحال هذه تنطبق على معظم مؤجري المحلات في دمشق . كان اوضة باشا يخطط للأمرمن قبل ، فقد طالب محمود بأن يعيد إليه وصولات قبض الأجرة حتى لا يثبت محمود أنه كان مستأجرا من قبل ؟ لم يرد محمود حينها الدخول في صراعات مع أوضه باشا ، فأعاد له معظم الوصولات وأبقى على الأربعة الاولى منها مدعيا أنه لم يعثرعليها! فقد كان واضحا له أن اوضة يضمر نوايا سيئة !
رفض محمود التوقيع ، ورفض أوضة باشا الخروج من المحل ، وظل جالسا ! اضطر محمود أن يتصل بصديقه المودي ليحل الإشكال.
المشكلة أن المودي بدوره مستأجر لمحل وبعقد شراكه أيضا مع أنه مستأجر. لذلك قال " هذه عقود شكلية وأنها جارية في البلد بين المؤجرين والمستأجرين "
وافق محمود على التوقيع ودون أن يقرأ كلمة في العقد المؤلف من خمس صفحات " لن أقرأ عقدا كله كذب من ألفه إلى يائه " فما أن وضع أوضة باشا نسختي العقد أمامه حتى وقعهما . فوجئ باوضة باشا يخطف نسختي العقد بسرعة من أمامه وينصرف هارباً!
هتف محمود مخاطبا المودي :
- الحقه أخذ نسختي أيضا !
- ربما يريد أن يوثق العقد في المحافظة !
- ليوثق من نسخته ، لماذا أخذ نسختي؟
- سنرى ماذا سيفعل في اليومين القادمين !
أدرك محمود أبو الجدايل أنه وقع في حبائل الاوضه باشا ، متمنيا في سريرته أن لا تؤول هذه القضية إلى ما آلت إليه قضايا نصب واحتيال وابتزاز كثيرة أخرى ، في زمن الخراب هذا كما كان يطلق عليه .
مر يومان، ثلاثة، خمسة، اسبوع، ولم يطرأ أي جديد.. ذهب المودي إليه في محاولة يائسة للحصول على نسخة من العقد دون جدوى .. فقد تساءل اوضه عن حاجة أبو الجدايل لنسخة من عقد شكلي !؟
بحث محمود أبو الجدايل عن نسخة مشابهة للعقد ليرى ما فيه . عثر على نسخة من مستأجر آخر لمحل آخر من اوضة، تنص على شراكة بنصف الارباح !!
" نصف الأرباح ؟! أية بلطجة هذه برب الكائنات ؟!"
استشار محمود محاميه . كتب الآخربطاقة بريدية لأوضة يقول فيها أن موكله لا يعترف بعقد لم يحصل على نسخة منه !
" لكن هذا الكلام يشير إلى عقد تم ابرامه فعلا والمشكلة في عدم الحصول على نسخة منه .. وليس هناك ما يشير إلى عقد شكلي أو عقد بالارغام "
" هذا أفضل " قال المحامي .
أرسل محمود أبو الجدايل البطاقة البريدية لأوضة .
جاء رد أوضة بعد بضعة أيام عبر بطاقة بريدية أيضا :
" لقد حصل محمود أبو الجدايل على نسخة من العقد الذي وقع عليه وهو بكامل وعيه وأمام شهود ، وأن محاولته لإنكار ذلك ليست إلّا ذر للرماد في العيون ، وعليه تحمل كامل المسؤولية عما ينجم عن هذا الإنكار !"
" ما العمل أستاذ خضر "هتف محمود للمحامي .
" نرفع دعوى عدم الاعتراف بالعقد وتثبيتك في المحل كمستأجر بعقد أيجار"
" ليكن "
قام محمود أبو الجدايل بعمل وكالة رسمية للمحامي ودفع قرابة عشرين ألف ليرة على حساب الدعوى .
*****
بعد بضعة أيام من رفع الدعوى وتسلم اوضة باشا تبليغا من المحكمة بموعد الجلسة الأولى ، استيقظ محمود في الصباح على جرس الهاتف يرن إلى جانب سريره . أخذ السماعة ليأتيه صوت جاره في السوق:
" لوحاتك وكل أغراض محلك مقذوفة على الرصيف المقابل ، والمحل مستولى عليه من قبل اوضه باشا"
شعر بقلبه يهبط ! " شكراً أيمن " وأغلق الهاتف.
" اتخذت البلطجة شكلا أعنف وأنت لا قدرة لك عليها يا محمود ، تريد أن تكون انسانا في زمن الخراب ، أو زمن البلطجة إن شئت " فكر محمود بصمت !
ذهب إلى المحامي الذي رفع دعوى ثانية بكسر قفل المحل وسرقة محتوياته. أسرع محمود إلى القصر العدلي ليأخذ موافقة المدعي العام والإيعاز إلى مخفر شرطة للتحقق من الأمر ..
انتظر في الدور قرابة نصف ساعة إلى أن تمكن من المثول أمام المدعي العام .. أوعز المدعي إلى شرطة الحميدية ووقع الدعوى .
لم يكن محمود قد تناول شيئا في البيت سوى كآس شاي.. وحين وصل إلى مخفر الشرطة أحس أن فمه يجف من العطش. تجاهل الأمر ومثل أمام الضابط المناوب الذي سارع إلى تكليف شرطيين بالأمر، أحدهما مساعد.
انطلق الشرطيان برفقة محمود، الذي أكرم المساعد بألف ليرة مقابل الأتعاب التي سيبذلانها للتحقق من الأمر .
وصلوا إلى المحل . كان اوضه باشا يجلس فيه مع أربعة آخرين على كراس . وقد وضعوا على الرفوف بعض السلع الخفيفة كالمحارم الورقية والعلكة والملبس وغير ذلك . للإيحاء بأن المحل أصبح متجرا آخر.
تفرس المساعد ومرافقه وجوه الجالسين . سأل عن محتويات المحل السابقة . نهض اوضه وأشار بيده إلى الرصيف حيث اللوحات والمحتويات المقذوفة . وقدم كشفا للمساعد يحتوي على سجل لكل ما كان المحل يحتويه .أشار إلمساعد إليه بالابقاء عليه .
اتجهوا إلى الرصيف .. كانت المحتويات مركونة على حائط إلى جانب الرصيف ولا توحي أنها قذفت قذفا وإن وضعت بشكل عشوائي.
" هل بإمكانك أن تتأكد من أن شيئا لم يسرق ؟"
هتف المساعد سائلا محمود .
" كيف سأتأكد وهناك مئات اللوحات والأغراض التي كانت في المحل "
عادوا للوقوف أمام المحل .
سأل المساعد وهو يشير إلى قفل مشبوك في حلقة حديدية مثبتة في أرضية من الاسمنت:
" هل هذا قفل محلك ؟"
" لا " أجاب محمود.
أعطني مفتاح قفلك .
أخذ المساعد المفتاح وجربه على القفل الموجود . لم يدخل المفتاح فيه .
سأل أوضة باشا :
" أين القفل الأصلي للمحل "
" رميته في الخرابة"
شعر محمود أنه سيموت من العطش .. سارع إلى ابتياع عبوتي ماء وشرع يغب الماء وكأنه لم يشرب منذ أيام .
أنهى المساعد عمله . انطلق الجميع عائدين إلى المخفر بصحبة اوضه باشا دون أن تقيد يداه.
*****
مثل محمود وأوضة أمام الضابط المناوب .
سأل الضابط :
" لماذا استوليت على المحل يا اوضه ؟"
" إنه محلي يا سيدي ولم أستول عليه. المستأجرهو الذي يريد أن يستولي عليه "
راح محمود يهز رأسه مستنكرا !
" أيه هز راسك جايك دعوى نصب وتزوير على الطريق"
هتف اوضة!
" كمان نصب وتزوير يا اوضه ؟" تساءل محمود بدهشة!
*****
كان يجب انتظار استدعاء االقضاء ليمثل الاثنان أمامه . غير أن الدوام انتهى ولم يتم الاستدعاء.
اقتيد أوضة باشا إلى النظارة ليمضي باقي يومه وليلته في سجن المخفر. بينما عاد محمود إلى بيته يبتلع الماء بشراهة، مما يشير إلى مشكلة صحية قد تكون متعلقة بالسكر والضغط ..
في صباح اليوم التالي.. أرسل المحامي محاميا متدربا مع محمود ليمثل معه أمام القضاء حين استدعاء اوضه ، لإجراء تحقيق سريع معه ، يقرر القاضي على ضوئه ابقاء اوضة موقوفا رهن التحقيق أو الافراج عنه إلى أن يحين موعد المحاكمة . لكن الدوام أوشك على الانتهاء ولم يستدعى اوضة ..أعلن المحامي ( المتدرب) الذي اكتفى بخمسة آلاف ليرة أتعابا للمشوار والمرافقة ، أن اوضة لن يستدعى اليوم ! وانصرف ، لينصرف محمود بدوره . ليتناول طعام الغداء بصحبة صديقه المودي !
استدعي اوضة باشا بعد فترة وجيزة من انصراف محمود ومرافقه المحامي .. أطلق القاضي سبيله على ذمة التحقيق.. شوهد وهو يتجول في السوق عصر اليوم نفسه في محاولة لإثبات أن القضاء لم يوقفه كدليل على عدم ارتكابه ما يمكن أن يعتبر جرما؟
*******
بعد بضعة أيام فوجئ محمود أبوالجدايل بباب بيته في دمشق يقرع ليتسلم تبليغا بحضور جلسة دعوى تزوير أقامها المدعي اوضه باشا .
كانت الدعوى مضادة للدعوى التي اقامها محمود بتثبيت وضعه كمستأجر للمحل ـ فقد اعتبرها محامي اوضة تزويرا ونصبا ، وبدلا من الدفاع عنها أمام القضاء أقام المحامي دعوى مضادة يشير فيها إلى أن محمود ابو الجدايل يحاول الاستيلاء على المحل بالتزوير والنصب بإقامته لهذه الدعوى على اوضة ، مفترضا أن القضاء سيحكم لصالح محمود ! وطالب المحامي في الدعوى بتعويض موكله اوضة باشا مليون ليرة سورية مقابل الأضرار التي لحقت به !!
لم يكن العطش الشديد الذي لازم محمود لبضعة أيام قد توقف جيدا بعد حين شعر أنه سيعود إليه .. جلس على أريكة في بيته متعبا يزفر متأففا ، وهو يدرك أنه وقع فريسة لمجموعة من البلطجية والمحامين ! وأن المحاكم قد تستغرق أعواما وسيدفع الكثير للمحامين عدا وجع الرأس وضياع الوقت..
فكر في التصالح مع اوضه . طرح الأمر على أبي فراس وهو صاحب المحل الجديد الذي استأجره محمود بعد أن استولى اوضة على المحل السابق، اصطحبه إلى مختار الحارة . اتصل المختار بأوضة فحضر ..
- الأستاذ يريد الصلح معك رغم أنك استوليت على المحل . وسيسقط دعواه .
هتف المختار مخاطبا اوضة .
- لكن مختارنا أنا دفعت للمحامي 25 ألف ليرة مقدما !
أدار المختار يده إلى جيبة في حركة مسرحية وهو يهتف :
- بسيطة .. أنا سأتكفل بالموضوع !
وجد محمود ابو الجدايل نفسه في وضع محرج فوافق. أخرج 25 ألف ليرة من حقيبته وسلمها للمختار . الذي أخرج ورقة وقلما وشرع يكتب :
"نحن الموقعين أدناه فريق أول: محمود أبو الجدايل . فريق ثان اوضه باشا ، نعلن اتفاقنا على
الصلح وإسقاط الدعاوي المقامة بيننا وعدم رفع أية دعاو في المستقبل"
ووقع الطرفان إضافة إلى ثلاثة شهود .. ولم يذكرفي نص الصلح أنه تم بدفع مبلغ 25 ألف ليرة للفريق الثاني.. لم يتذكرها المختار بعد قرابة ثلاثة أعوام من المحاكم ، ففي صباح اليوم التالي في القصر العدلي حيث اتفق الطرفان على التنازل عن الدعويين .. فوجئ محمود بأوضة وقد تخلى عن الصلح بناء على طلب محاميه . كان محمود قد قدم تنازلا عن دعواه منذ أن دخل إلى القصر العدلي في الصباح الباكر وراح ينتظر أوضة ليحضر ويتنازل .
- لكن الدعوى لك أنت وليست للمحامي يا اوضة .. وأنا لدي محام أيضا ولم أستشره لا في الصلح ولا في اسقاط الدعوى .. وقد قمت بإسقاط دعواي .
- لقد تسرعت !
- والخمسة وعشرين ألف التي أخذتها ؟
- قد تدفع فوقها كثير !
- يبدو أنك تحلم بالمليون التي تطلبها في دعواك .
*****
"آه يا لهذا الزمن السخيف"يتأوه محمود ابو الجدايل من أعماقه كلما تذكر في سريره في عمان بعض ما جرى معه في المدينة التي أحبها . حتى محاميه وهو صديق قديم غضب حين علم بالصلح وطالب محمود بأن يدفع له بقدر ما دفع للمدعي، متجاهلا مبلغ عشرين ألفا أخذها مقدّما وقبل أن تعقد أي جلسة محكمة ..
استولى أوضه باشا على المحل أوائل عام 2009 وغادر محمود دمشق إلى عمان أواخر تموز 2012، وقد وصلت القضية إلى محكمة النقض. ففي المحكمة الابتدائية حكمت قاضية عظيمة على االمدعي اوضة باشا بتغريمه 200 ألف ليرة ، بناء على مرافعة خطها محمود بيده موضحا كل شيء، فلم تقنعه مرافعة محام ثان وكله محمود، اقتصرت على اعتبار الدعوى كيدية ،لأنه بإمكان اوضه أن يدافع عن نفسه أمام الدعوى المقامة عليه ..
استأنف محامي أوضة الحكم ليصدر بتغريم أوضة 50 ألف ليرة هذه المرة . ورغم أن المبلغ نقص كثيرا عن الحكم الابتدائي ، إلا أن محامي أوضة بات على قناعة أنه سيخسر القضية حتما إن رفعها إلى محكمة النقض ، فاتصل اوضه بمحمود مطالبا ب 25 ألف ليرة أخرى لإتمام الصلح . غير أن محمود رفض وراح يصرخ في وجه اوضة على الهاتف:
" يخرب بيتك خسران القضية في محكمتين وتطالب ب 25 ألف أخرى؟"
كان محمود قد تقدم بمرافعة ثانية أمام محكمة بداية الجزاء الثانية ونشرها على شبكة النت ليفاجأ بنشرها في موقع منتدى محامي سوريا كنموذج للمرافعات الأدبية الرفيعة التي ينبغي أن تقدم للمحاكم ،ومما جاء فيها : ،
السيد قاضي محكمة بداية الجزاء الثانية عشرة المحترم
تحية العدالة وبعد:
جئتكم سيدي مثخنا بأوجاع ثلاثة وستين عاما من العناء ،أمضيت معظمها منكبا على صفحات الورق ، بحثا عما يرقى بالإنسان إلى مراتب الفضيلة .
جئتكم سيدي لأمثل أمام عدالتكم من تهمة ملفقة ، ولا تستند إلى أية حقائق أو مراجع قانونية .
جئتكم سيدي سافرا دون أقنعة ، وأعزلا من كل شيء ، حتى دون محام ، ودون ) واسطة ) ودون أقارب ، ودون أصدقاء ، وحتى دون فضوليين وشامتين .
غير أنني جئت يا سيدي مسلحا بنبلي ، وبرسالة الأدب والفن والفكر والصحافة التي حملتها على كاهلي ، وبمبادىء الإتحادات والنقابات التي أنتمي إليها ، والتي يشرفني أن أصون مبادئها واتقيد بها ، وما لا يقل أهمية سيدي ، أنني جئتكم مسلحا بأملي الكبير بنزاهة عدالتكم ،وكلي ثقة بأنكم لن تخيبوا أملي ، فلا يقال أن قضاء دمشق ظلم أديبا عربيا مقدسيا ، أحب دمشق ، وفضل العيش فيها على أهم عواصم العالم ، معتبرا إياها أمه بالرضاعة ، حين لجأ إليها منذ قرابة أربعين عاما ، مداريا جراحه الدفينة ، فأشرعت له صدرها ، وأغدقت عليه حليب أمومتها ، وفيأته بظلالها الوارفة ، فاستكان إلى حضن أمومتها ، لينعم بالدفء والطمأنينة .
أجل سيدي ، جئتكم وأنا أمثل للمرة الثانية في حياتي أمام القضاء ، آملا حكما نزيها عادلا أشهره في وجه من دمر حياتي ، كما أشهرته منذ أسابيع فقط ، على يد السيدة الفاضلة ( لوسي جلبيان )، قاضية محكمة صلح الجزاء الأولى ، حين أدانت من سلبني - بعد جلستين فقط ، وخلال بضعة أسابيع - بما يستحق من حكم ، آخذة في الإعتبار الرحمة ، تلك الصفة الألوهية التي لا غنى لقاض عنها ، وهذا ما كنت أطمح إليه تجاه من ادعيت عليه . وإني لأنتهز هذه الفرصة لأقدم لها جزيل شكري ، على نزاهتها ورحمتها ، والسرعة التي حسمت بها القضية .
(وإني لأعتذر لسيادتها وسيادتكن إذا ما بخستكن حقكن بمخاطبتكن ) بصيغة المذكر ، فأنا لا أعرف ، فيما إذا كنت سأمثل أمام قاض أم قاضية ، لأنني أكتب مرافعتي مسبقا ، وقد فوجئت بهذا العدد من القاضيات ، ولا تعرف سيدي كم أفرحني ذلك ! وإني لآمل أن يأتي يوم نرى فيه جميع القضاة ، وفي كافة أنحاء العالم من النساء ، لعلنا ننعم بعالم عادل مختلف ، تعمه المحبة ، وليس البطش والجشع والكره والإستغلال ، كما هي حال عالمنا اليوم .
عذرا سيدي القاضي ، إذا ما كانت مرافعتي هذه أخلاقية ، بقدر ما تستند إلى وقائع مرجعية .
سيدي :
إذا كان القانون نبراس الأمم ، فإن القضاء تاجها ، وإذا ما فقدت أمة الثقة في قضائها ، فقدت أمنها واستقرارها وطمأنينتها . ولا أنكر ، أن بعض ما سمعته عن القضاء ومتاهاته ، وما سمعته عن المحامين وحقوقهم الباهظة ، إضافة إلى سعيي للراحة والهدوء ، هو ما دفعني إلى التنازل عن قضيتين رفعتهما على المدعي ، والسعي إلى التصالح ، الذي دفعت ثمنه من مالي ، وأنا صاحب الحق ، لأتفرغ لأدبي وفني وفكري ، بدلا من هدر وقتي في أروقة المحاكم .
سيدي :
حين يدرك المدعي أن حكم القضاء لن يكون في صالحه ، كما في دعوى التخمين المرفوعة ضده ، يلجأ إلى عضلاته وبلطته ، ضاربا بالقضاء عرض الحائط ،مستبقا حكمه ، فيكسر قفل المحل ويستولي عليه ، ليقذف مؤلفاتي ولوحاتي ومخطوطاتي وكتبي وأشيائي ، على بعد عشرة أمتار على الرصيف المقابل ، لتكون نهبة للمارة ، طوال ما يقرب من ثماني عشرة ساعة ، منها حوالي ست ساعات ليل.
وحين لا يجد المدعي وسيلة أخرى ليشفي غليله مني ، يلجأ إلى امتطاء ظهر القضاء في دعوى تزوير ملفقة ضدي ، ويطالب بتعويض مليون ليرة عما لحقه من ضرر ، وبإنزال أقصى عقوبة بي !
لعل المدعي يا سيدي يطمح في أن يمنحه القضاء مكافأة ووساما على ما فعلته يداه ، ولا أعرف على ماذا يعتمد ، رغم أنه ردد كلمتي ( الواسطة الثقيلة ) أكثر من مرة أمامي ، وربما يظن أن هذا ما دفعني إلى التصالح الذي تراجع عنه بعد توثيقه.
إن المدعي يمتطي ظهر القضاء حين يشاء ، ويدير له ظهره حين يشاء ، وكأنه ملك خاص له .
والمؤسف يا سيدي أن القضاء لم يوعز بإعادتي وأشيائي إلى المحل ، أو إغلاقه إلى أن يصدر حكمه ، وجعلني أتشرد في أحياء دمشق القديمة ، لأعرض لوحاتي وكتبي على الأرصفة ، ملبيا بذلك رغبة المدعي في أن يذلني .. إنه لأمر مؤسف جدا يا سيدي .
لقد بكيت من أعماقي يا سيدي لما واجهته من ألم ، وأنا أرى إلى أشلاء روحي ملقاة على الأرصفة ، وأنا أقف في حر الشمس ، لأعرض بعض لوحاتي على الرصيف ، حتى لا أحتاج أحدا ، قبل أن أعثر على محل ، والسواح الذين يعرفون مدى شهرتي لا يصدقون أنني أعرض لوحاتي على الرصيف وأنا المدون على صفحات الكتب السياحية العالمية التي يحملونها .
ما خفف من حزني يا سيدي هو تضامن الآلاف معي في الصحافة وعلى شبكة الإنترنت ، وتضامن بعض السياح الذين ابتاعوا لوحاتي من على الرصيف .
اورد هذه الوقائع سيدي للدلالة على الإستهتار من قبل المدعي ، ومن قبل بعض الناس ، بالقضاء ، وهيبة القضاء ، ونزاهة القضاء ، فلو كان المدعي يدرك أنه يعيش في دولة وليس في غاب ، وأن هناك قضاء لن يرحمه على أفعاله ، لما أقدم على ما أقدم عليه ، ولتم حل المشاكل كلها حتى خارج إطار القضاء ، عبر محكم ما نتفق عليه ونحتكم إليه . وكنت سأرضي طموح المدعي بأن أعطيه بدل ايجار أكثر ، علما أنني أدفع أغلى ايجار في الحي قياسا بحجم المحل الذي لا يتجاوز ثمانية أمتار حتى مع جزء من الرصيف !
يدعي المدعي يا سيدي أنه كانت تربطه بي علاقات تجارية ، فلماذا لا يقدم أية وثيقة تثبت ذلك
منذ بداية عام 2006 ؟! لعله استغل غفلتي ومرر ورقة ما في العقد الصوري المبرم بعد ثلاث سنوات ؟ كل حي القيمرية يا سيدي يعرف أنني مستأجر .
حين استأجرت المحل بداية عام 2006 اتفقنا على بدل إيجار مائة وخمسين ألفا في العام تدفع كل أربعة أشهر مقدما ، ورفض المدعي ابرام عقد ايجار مدعيا أنه غير ضروري ! وغضب علي المستأجرون الآخرون في الحي ، لأنني رفعت الأسعار إلى ما هو فوق طاقتهم ، علما أن أكثر من سبعة محلات في الحي كانت لا تجد من يستأجرها .
عام 2007 زاد الأجرة إلى مائة وثمانين ألفا .
عام 2008 زادها إلى مائتي ألف .
عام 2009 لم أوافقه على زيادة الأجرة لتصبح مائتين وأربعين ألفا ، وبعد أن تدخل السيد محمد المودي جعلناها مائتين وستة عشر ألفا على أن تصبح في عام 2010 مائتين وأربعين ألفا ، شريطة أن أوافق على العقد الصوري الملفق الذي أحضره ، (( عقد محاصصة ،للتغطية وهدر حقوقي ، والتهرب من الضرائب، ليس فيه أي ذكر على الإطلاق للمبالغ التي يتقاضاها المدعي مني )) والذي يحق له بناء عليه أن يخليني من المحل إذا لم أدفع له الأجرة التي يريد بعد انقضاء العامين . وبناء عليه تم ابرام العقد الذي لم يعطني نسخة منه لما يحويه من بنود غير أخلاقية كما يبدو ، فأنا لم أقرأه لمعرفتي أنه عقد تلفيق ، مدعيا أنه سيقوم بتوثيقه . وقد دفعت له فور توقيع العقد مبلغ أربعة وخمسين ألف ليرة عن الأشهر الثلاثة الأولى عبر السيد محمد المودي الذي قام بعدها وتسليمها له ، ليكتب سندا باستلامها ، دون أن يشير إلى أسباب الإستلام كالعادة ! وكم حاولت الحصول على نسخة من العقد دون جدوى ، فقد كان يرفض استقبالي أو حتى الرد على مكالماتي الهاتفية ، وقد أعلن فيما بعد - في بطاقة بريدية أرسلها ردا على بطاقة موجهة من محامي إليه بأنني لا أعترف بعقد لم أطلع على ما فيه ولم أستلم نسخة منه –أعلن فسخ العقد لإخلالي بشروطه حسب رأيه ، مدعيا أنني قرأت كل بند فيه ، ووقعت وبصمت على كل صفحة فيه ، وطالب بإخلاء المحل . وللحق إنني فعلا وقعت وبصمت لكن دون أن أقرأ ، ما عدا الفقرتين المتعلقتين باسمينا ومدة العقد التي ملأتها بنفسي ، علما أن العقد الذي وقع وبصم هو ليس العقد الذي وقع بحضور السيد محمد المودي ، فقد عاد بعد فترة من الزمن ليدعي أن ثمة أخطاء في العقد وأنه أحضر نسختين جديدتين ، وهاتان النسختان هما ما وقعت وبصمت على كل صفحة من صفحاتهما السبع ؛ وإذا ما تم تمرير أوراق غير أخلاقية أخرى ، فقد يكون مررها هنا ! لأنني لم أكن أرى غير ذيل الصفحة الذي كان هو يقوم برفعه لي وهو يرتجف ! لأوقع وأبصم .
يطمح المدعي يا سيدي في أن تصبح أجرة المحل أربعين ألفا في الشهر بعد عامين ، ويتخوف أن لا أدفع له هذا المبلغ حينئذ ، ولهذا أقدم على ابرام عقد صوري ، تحت التهديد بالطرد إن لم أوافق ، ليتسنى له إخلائي بعد ثلاثة أشهر ، وليس بعد عامين حسب العقد ، وهذا ما حصل ، وإن لم يكن بشكل قانوني . هناك محلات في الحارة أكبر من محلي لم تتجاوز أجرتها الأربعة عشر ألف ليرة شهريا حتى الآن . المحل معروض الآن ب ثلاثمائة ألف ليرة في العام ، تدفع كلها مقدما ، وبقرار قضائي يوجب الإخلاء بعد عام ! لهذا أقدم المدعي على الإستيلاء على المحل ، ويدعي أنه تضرر. عرضت عليه إعادتي إلى المحل بأن أدفع له مائتين وأربعة وستين ألفا عن عام كامل مقدما فأبى. سيدي القاضي :
أنا وبكل تواضع ، رجل نبيل كما أسلفت ، ومنزه عن كل ما يسيء إلى البشر والكائنات ، ولا أقبل أن أبيع نبلي بكنوز العالم كلها ، وما كنت أؤشر به أسفل المستندات لورثتي ، كوني أعيش وحيدا ، من أنها تسديد لأجرة المحل مقدما ، هي حقا كذلك ، وقد كتبتها لحفظ حقوق المدعي وحسب ، لأنه لم يكن يشير إلى سبب استلامها وحتى لا يطالبه أحد بها ، وليس لها أية علاقة بالتزوير لا من قريب ولا من بعيد ، والمدعي يعرف ذلك حين استعاد معظم هذه المستندات مني ، مع أنه من حقي أن أحتفظ بها وأرفض إعادتها إليه، غير أنه لم يعد يطالبني بالمستندات اللاحقة ، لاطمئنانه إلى حسن نواياي ، ولم يعترض حينئذ ، ولم يفكر إطلاقا في رفع دعوى ضدي ، مع أن بعض المستندات لديه منذ أكثر من عام ونصف ، ويستغل ما هو لدي منها مرفقا بدعوى التخمين لرفع دعوى انتقامية في مواجهتها ، ومواجهة دعوى كسر القفل والإستيلاء على المحل . ثم إن المستندات مكتوبة بخط يد المدعي وتوقيعه ، وشرحي عليها بخط يدي وتوقيعي أسفل المستند وليس ضمن نصه ، فأي تزوير يمكن أن يتم بهذه الطريقة ؟! إن المستند بحد ذاته كدفعات مالية محددة وعلى فترات منتظمة كل ثلاثة أو أربعة أشهر ، وطوال ثلاث سنوات وثلاثة أشهر، كاف بحد ذاته لإثبات أنه بدل ايجار وليس شراكة مثلا، دون شرحي عليه . هناك أحد عشر سندا ، وقد استعاد معظمها كما أسلفت ، وكان من حقي أن أرفض إعادتها إليه لأنها تخصني ، وكان بإمكاني أن أرفض كتابة عقد محاصصة ، بعد ثلاث سنوات ، وكنت رافضا بالفعل ، لولا أنه ضمن لي عامين مقبلين ، ويا ليته التزم بهما . ثم ما معنى رفع هذه الدعوى طالما أنه استولى على المحل موضوع الخلاف بالقوة وفسخ العقد من قبل ، وقدمت بدوري وثيقة التصالح إلى قضيتي ( الإثنتين ) واشترطت أن يقوم هو بإسقاط دعواه لأسقط دعويي .
سيدي :
إذا كان هناك من يستحق تعويض ضرر ، فهو أنا ، فأنا خسرت مئات الآلاف ، وخسرت المحل الذي كان يستر شيخوختي ،وإذا ما استمر الحال كما هو عليه ، ستكون خسارتي بالملايين، وتعرضت للإهانة والإذلال والتشرد ، وإذا كان هناك من يستحق العقوبة ، فهو المدعي يا سيدي ، وإني لآمل أن ترأفوا به وترحموه .. لأن إنسانيتي لا تبيح لي أن أطالب بإنزال أقصى العقوبة به . ولقد أمضيت عمري يا سيدي مستلب الحقوق ، كأديب وفنان ، وحتى كإنسان ، أعطي الآخرين أكثر من حقوقهم علي ، وآخذ منهم أقل من حقوقي عليهم ، وأسامح أوأغض الطرف عن كثيرين ممن سلبوني حقوقي في لوحاتي أو في أدبي ، أو سلبوا بعض مالي أو نصبوا علي .
إن المحل الجديد الذي استأجرته ( بعقد شراكة أخلاقي نوعا ما ) في شارع فرعي لا يكاد يعمل إلا ببعض الزبائن الذين يعرفونني من قبل ، وما يبتاعونه لا يغطي الأجرة البالغة خمسة عشر ألفا في الشهر . وكم أنا في حاجة للمحل الذي شقيت فيه طوال ثلاثة أعوام وثلاثة أشهر وستة أيام رغم صغره ، بعد أن جعلته معروفا في معظم أنحاء العالم ، ومدونا على خارطة دمشق القديمة ، إضا فة إلى نبذة عن أدبي وفني، وكان يدر علي ما لايقل عن ستين ألفا في الشهر ، أستر بها شيخوختي .
لقد وقعت والمدعي وثيقة تصالح ، بحضور وتوثيق وشهادة مختار القيمرية السيد عبد الرزاق الطويل ، ودفعت ثمن التصالح خمسة وعشرين ألفا ،( لم يذكر المبلغ في الوثيقة ،وقد سلم له من قبل المختار ) غير أن المدعي تراجع عن الصلح ، في محاولة لابتزازي أكثر ، حين توهم أنني ضعيف جدا ، لأنني لا أحمل بلطات ولا سكاكين !وأنه يمكن استغلالي أكثر ..
إن من يطالب تعويض ضرر مليون ليرة ، لا يمكنه أن يقبل صلحا ب خمسة وعشرين ألفا ، إذا كان واثقا أنه على حق ، وسلوك المدعي لا يدل على أنه متسامح لنقول أنه قبل نتيجة تسامحه .
سيدي :
لكل ما تقدم ، جئت وكلي أمل ، ملتمسا عدالتكم ، بتحقيق ما يلي :
1- اعلان براءتي المطلقة من تهمة التزوير الملفقة ضدي ، ومن كل ما يشوب سمعتي كأديب وفنان وصحافي .
2- عدم تعويض المدعي بأي مبلغ مهما كان عن أضرار ما ..
3- اعتبار الدعوى ملفقة ورفعت لاستغلال القضاء العام والتحايل عليه وهدر وقته في ما هو غير وجه حق ، ومعاقبته على ذلك بعقوبة الحد الأدنى ( !!) (أعرف أنه ليس من حقي المطالبة بذلك لأنه حق عام ، لكني أطلب له الرحمة إنسجاما مع مبادئي).
4- إرغام المدعي على دفع مبلغ مائتي ألف ليرة كحد أدنى ، تعويضا لي عما سببه من خسائر مالية فادحة وقلق فظيع لي ، طوال ما يقرب من أربعة أشهر ، تحت التهديد بالسجن لمدة عام ، ودفع غرامة .. ولما هدرته من وقت في أروقة المحاكم ،ومراجعة المحامين ، وكتابة المرافعات والإتصال بالصحافة وشبكة الإنترنت.
5- إعادة مبلغ أل 25000 ليرة التي دفعتها ثمنا للصلح من غير وجه حق ، طالما أنه تراجع عنه ، وإذا ليس في الإمكان القبول به .
ولا أعرف سيدي فيما إذا كان في مقدور محكمتكم الموقرة أن تجمع خيوط القضية الموزعة على ثلاث محاكم والعمل على حلها استنادا إلى كل ما تقدم ، وإيجاد حل يرضي الطرفين
أعود به إلى محلي الذي شقيت فيه والذي أعلق عليه أملا كبيرا لأمضي شيخوختي بسلام ، وسأسامح المدعي حينئذ عن كل ما سببه لي من آلام ، وأتنازل عن التعويض والعقوبة ، وغير ذلك علما أن المدعي غير مالك للمحل حسب ما أعرف. عذرا سيدي للإطالة ، وللأسلوب غير المعتاد في تقديم المرافعات .
وتفضلوا بقبول فائق احترامي ، سيدي .
المدعى عليه
محمود أبو الجدايل !
عضو اتحاد الكتاب العرب
واتحادات ونقابا ت سورية وعربية
أخرى .

*******




وكتب محمود مرافعة أخيرة اعتقد أنها لو قدمت لقضاء نزيه في محكمة النقض ، لقضى بتغريم اوضة ما لا يقل عن نصف مليون ليرة .. المؤسف أن محمود غادر دمشق قبل موعد جلسة المحكمة بأسبوع ، وبقيت المرافعة في البيت .. ويأمل محمود ان لا يكون الحكم قد صدر ضده ، ليفاجأ به إذا ما عاد إلى دمشق يوما ما ! وفيما يلي نص هذه المرافعة كما هي في الأرشيف:
المرافعة الثالثة أمام القضاء للروائي والفنان محمود أبو لجدايل....
*******

إلى مقام محكمة استئناف الجنح الثانية بدمشق الموقرة
مرافعة بشان الدعوى ملف 1738 . جلستها في 24/7/012
من المستأنف عليه بعد نقض الحكم محمود أبو الجدايل!
سادتي القضاة . سادتي المستشارين :
لن أخوض في المبررات التي حدت بمحكمتكم الموقرة إلى تخفيض تعويضي من مبلغ مائتي ألف ليرة ( حكمت بها محكمة بداية الجزاء الثانية عشرة ، مشكورة ) إلى مبلغ خمسين ألف ليرة فقط ، لأنني لا أعرفها أصلا ، فلم أحصل على نسخة من قرار الحكم . كما لن أخوض في قرار محكمة النقض بقبول النقض لأنني لم اطلع على حيثياته أيضا . لكن ما أعرفه جيدا يا سادتي هو :
1- إنني أتعرض منذ ثلاثة أعوام لعملية ابتزاز كان أخرها اتصال المدعي بي مطالبا خمسة وعشرين ألف ليرة كي لا ينقض الحكم ، متناسيا أنه ابتزني بمبلغ (25) ألفا ليقبل بالصلح الذي تم قبل أكثر من ثلاثة أعوام ، ووثق من قبل مختار حي القيمرية السيد عبد الرزاق الطويل .ولم يتقيد به المدعي ولم يعد النقود إلي . ومتناسياً خسارة قضيته في محكمتي الجزاء والإستئناف !
2- يدعي المدعي أنني أقمت دعوى التخمين لأختلس فروغ المحل وأستولي عليه . وهذا اتهام غير مباشر للمحكمة التي أقيمت أمامها القضية بأنها ستكون شريكة معي في الإختلاس فيما لو حكمت لصالحي بالعودة إلى المحل وتثبيت وضعي كمستأجر . كما أنه يشير إلى عدم ثقتة بالمحكمة ، لذلك أقام المدعي دعوى مضادة (تزوير) وتم قبولها للأسف ليتم بذلك هدر وقت القضاء في قضية كيدية لأكثر من ثلاثة أعوام .
3- يتناسى المدعي أنّه استولى على المحل عنوة بأن كسر القفل وألقى بلوحاتي ومؤلفاتي ومخطوطاتي على الرصيف بمجرد أن عرف بالدعوى التي اقيمت عليه . مديرا بذلك ظهره للعدالة بل وضارباً بها عرض الحائط ، وممتطيا متن القضاء في الوقت نفسه برفع دعوى مضادة ، وكأن القضاء طوع يديه ! هل يعقل يا سادتي أن لا يضع القضاء حدا للإستهتار به !
4- يرى المدعي أنه في مقدوري تحريك القضية التي شطبت منذ أكثر من ثلاثة أعوام بناء على الصلح ، ومجرد تحريكها فيما لو تم هو عودة للإختلاس كما يرى ، وكأن المحاكم مشرعة أمام المختلسين واللصوص لتثبت حقهم في اللصوصية والإختلاس .
5- لن أقوم بتحريك دعوى التخمين يا سادتي طالما لم أفعل ذلك طوال ثلاثة أعوام ، عدا أن تحريكها لم يعد ممكنا حسب اعتقادي . وكذلك لن أحرك دعوى الإستيلاء على المحل عنوة . لكني قد لا أتنازل عن حقوقي بالتعويض إذا لم تنصفني محكمتكم الموقرة ، لما عانيته وكابدته لأكثر من ثلاثة أعوام متنقلا بين المحامين وصالات المحاكم . عدا عن خسارتي للمحل الذي كنت أستر بدخله شيخوختي ، والذي فاقت خسارتي له المليون ليرة فعلا لا مجرد قول.
6- أي مزور أحمق هذا الذي يكتب ملاحظة أسفل سند ويوقع عليها ويكتب اسمه؟! علما أن المدعي استعاد سبع سندات مني ولم يبق لدي إلا الأربعة التي أرفقتها بدعواي .أرجو مراجعة مرافعتي السابقتين للإستفاضة إذا دعت الضرورة .
7- يتناسى المدعي أن عقد الشراكة الملفق قد تم بعد ثلاث سنوات من الإيجار حسب السند المؤرخفي 1/1 /2006 . وقد وقعته مرغماً كعقد شكلي لا علاقه له بالواقع ولم أعرف أنني أمام مكيدة لطردي من المحل بعد أن زادت أجرته . وأعترف بحماقتي بتوقيع العقد الذي رفض المدعي إعطائي نسخة منه كي لا أكشف التلفيق الذي فيه .
ختاما: أمضيت العمر يا سادتي بحثا عمّا يرقى بالإنسان إلى مراتب الفضيلة ، ولم أتصور يوماً أن أجد نفسي تسعى إلى الخلاص من براثن الرذيلة ، متمنيأ لو في مقدوري أن أستجمع أصوات البشرية لأصرخ بها : أين هي الفضيلة ؟ أين هي العدالة .
آمل من محكمتكم الموقرة أن تنصفني يا سادتي وتعوضني عن الخسارة الفادحة التي تعرضت لها فعلا لا قولا ، وعما تعرضت له من إهانات ومعاناة كادت أن تودي بحياتي .
مع فائق احترامي وتقديري .
محمود أبو الجدايل .


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-05-22, 03:02 AM   #16

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

(14)

ربما ثمة أمل !


كثيرة هي المرات التي كان يتعثر فيها مستقبل محمود أبو الجدايل ليجد نفسه يغرق في حاضر مظلم وأفق أكثر ظلمة ، منذ أن أخرجه أبوالجدايل الأب من المدرسة ليرعى قطيع الغنم إلى كارثة تشرده من سورية . قرابة ستة عقود من المعاناة. كان يصبر ويعمل بمثابرة ودأب لينهض من جديد ويواجه مصاعب الحياة. الكارثة الأخيرة كانت من أقسى الكوارث، بعد أن حقق نهوضا غير مسبوق، بوجود بيت ملك له، ودخل شهري لا يقل عن ثلاثة آلاف دولار، يجنيه من بيع لوحاته. كان هذا نهوضه الاخير بعد حرق البالة التي ورطه فيها صديق معلم مدرسة ، لا يكفيه دخله ؟ كان محمود قد حصل على ارث بقيمة الفي دينارمن قطعة أرض تعود ملكيتها لأبي الجدايل الأب . . لم يعرف محمود ماذا يفعل بها ، إلى أن جاءه المعلم وطلب النقود ليفتح محلاً لبيع الملابس المستعملة . على أن يكون الربح مناصفة . المعلم بعمله ومحمود بفلوسه . الشرط الوحيد لمحمود كان الاطلاع على حسابات المحل . فاجأ محمود المعلم بعد قرابة عشرة أيام من افتتاح المحل . لم يستقم تسويق أي سلعة في المحل . فما هو موجود في المحل لا يتناسب مع الكمية المشتراة وما بيع منها . فإذا كان سجل التنانير يحتوي على خمسين تنورة مشتراة وسجل المبيعات يحتوي على خمس وعشرين تنورة مباعة ، فهذا يعني أنه بقي في المحل خمس وعشرين تنورة أخرى. وإذا لم يكن في المحل إلا عشرتنانير ، فهذا يعني أن الشريك ابتلع ثمن خمس عشرة تنورة لم تدخل سجل المبيعات ..
لم يضبط محمود أبو الجدايل أي نوع من الملابس. كان ثمة اختلاس بنسب متفاوته من كل صنف مباع.
- الله يخرب بيتك ألم تجد أحدا غير صديقك لتسرقه! هل هذه مكافأتي على الثقة التي وضعتها بك ؟
أنكس فالح رأسه متجنبا النظر في عيني محمود في محاولة يائسة لإخفاء خزيه !
- لم أتمكن من تسجيل كامل المبيعات بعد ، وكنت سأفعل ذلك قريبا .
- نعم ؟! قريبا ؟! وهل ستتذكر سعر كل قطعة بعتها قريبا !؟ الله لا يسلمك يا شيخ . اسمع . سأترك المحل لك شريطة أن تعيد إلي نقودي خلال اسبوع . لا اريد شيئا مما بعته.
- سأحاول ايجاد شريك . تدبير مبلغ 150 ألف ليرة ليس أمرا سهلا .
- سنرى.. باي !
لم يتمكن فالح من ايجاد شريك ولم يحصل على المبلغ بعد عشرة أيام . حضر محمود في غياب فالح وكسر قفل المحل ووضع قفلا جديدا ، واستعاد محله ليبيع البالة لمدة عامين، ليستعيد نقوده ،إنما بتعب شديد ، وبالكاد كان يحصل من المحل على مصروف البيت دون أن يوفر قرشا ..
بعد قرابة عقدين من الزمن تذكر محمود ابو الجدايل وهو في عمان بعض أصدقائه في دمشق ، ومن بينهم فالح شماس.. بحث عنه على النت ليجد أن السرطان قد أودى بحياته.
******
قبل أن يحرق الباله عرف محمود ابو الجدايل فيها من الناس الطيببين والمستغلين وغيرهم.. وكانت نسبة الأخيرين غير قليلة ، فقد ترك البالة وله ديون على الناس بحوالي ألفي دولار، لم يحصل منها على شيء. هذا الامر دفعه للتفكير في من في استطاعته أن يحكم هذا النوع من البشر ذوي الميول المختلفة والمتعددة .. كان أحيانا يخلص إلى نتيجة مفادها أن بشرا كهؤلاء لن ينجح في حكمهم إلا دكتاتور ولو بالحد الأدنى من العدالة ! وأن إقامة مجتمع ديمقراطي بوجود هؤلاء مسألة شبه مستحيلة . لكنه كان يراجع نفسه كون رواد البالة من الطبقات الدنيا في المجتمع، الذين يفتقرون إلى ثقافة نوعية . " لكن من يحمل ثقافة نوعية يا محمود ؟ أليست الثقافة السائدة هي الثقافة البائدة والمستبدة منذ قرون وقرون .. هل تظن أن الناس مثلك يبحثون عن فهم جديد للقائم بالخلق والغاية من الوجود "؟!
يهرب محمود ابو الجدايل من الناس ومن أفكاره .. ويشرع في الكتابة بعد حرق البالة . ليكتب " الملك لقمان " و" غوايات شيطانية " دون أن يجد من ينشر له .
تطرق لتلك المرحلة في مقطع شعري من مطوّلة تدور أحداثها في السماء، وردت في " غوايات شيطانية " :
لا أريد العودة إلى بيع حثالات برلين
لأضيع نفسي
وليمتطي الفقراء
والأعدقاء
والسفهاء
رقة قلبي
وكرمي وشهامتي
وقناعتي
ويدعونني أغرق في جحيم الدين
والعوز
والليالي المجحفات ..
*****
لا أريد العودة أيها الملك
لأندم على شهامتي وكرمي
الذي فاضت به الموائد في دمشق
قبل أيام الجفاء
فأنا لا أحب الندم على الكرم
حتى لو كان على البخلاء والسفهاء
فأنا سليل أمة عريقة
عرفت ذات يوم
بالشهامة
والشجاعة
والأصالة
والسخاء
والكبرياء"
آه يا مليكة قلبي والسماء
أنا محتار بين لذة خمر نهديك وبين الفناء !
ولا أريد العودة إلى الأرض
لأتسلم من دانتي وهوميروس
ناصية الشعر
لأشدو على أوتار ليلي حزني الطويل
فأنا أمضيت عمري
ألوي أعنّة بحور الكلام
وألجم الشعر في دخيلتي
وأقدمه قربانا لروحي
على طبق القوافي
كي لا أهدم القصور والمعابد
وأزلزل عرش الله المستحيل.
*****
كتب محمود أبو الجدايل " الملك لقمان " و" غوايات شيطانية " في ظل تفاؤل كبير بأن نشرهما سيدر عليه مالا يقيه العوز . وحين فوجئ بعدم قبول أي دار للنشر نشرهما، شعر بتدمير أمله . ولم يعرف ما الذي قاده إلى الرسم ذات فجر وهو يتقلب في سريره أرقا .. لم يكن الرسم أكثر من هواية يمارسها بين فترة وأخرى. أمضى بضعة أشهر يرسم ليلا نهارا قبل أن يقيم معرضه الأول في المركز الثقافي الروسي .. لم يبع المعرض بأكثر من 500 دولار في الوقت الذي كان فيه ثمن الألوان والكرتون والبراويزوالريش والسكاكين أكثر من ثلاثة آلاف دولار معظمها دين عليه .. عانى قرابة ثلاثة أعوام إلى أن أصبح يبيع بشكل شبه يومي .. لكن بعد أن فقد في العالم قرابة 700 لوحة ..كان يعطي لوحات لكل من يدعي أن في مقدوره التسويق له ، وخاصة في الخليج وألمانيا .. أكثرما آلمه سيدة ألمانية ترك لديها أكثرمن مائة لوحة حين دعته جامعة ألمانية لتدريس طريقته في الرسم لطلاب من أوروبا أقامت الجامعة دورة لهم .. لم يقبل إقامة علاقة غرامية مع المرأة واقترح عليها أن يظلا صديقين ..فما كان منها إلا أن انتقمت منه بالإستيلاء على اللوحات .. حاول أن يستعين بمحام ألماني ابتاع منه لوحات في دمشق .. لم يستطع المحامي فعل شيء لعدم وجود عقد مع السيدة .. الأمر يكاد يكون نفسه مع سيدة فلسطينية أخذت منه قرابة مائة لوحة لتسويقها في الخليج .. لم تستقر أوضاع محمود مع الرسم إلا بعد أن أصبح لديه محل ، فمحلين ، ليشعر أنه نهض بقوة، بعد أن باع لوحات بعشرات آلاف الدولارات .. وجاءت الأزمة التي احدثتها الثورة السورية ليتدمر كل شيء، وليتشرد محمود أبو الجدايل من جديد ، دون أن يكون هناك أي أمل ممكن أن ينقذه هذه المرة . وخاصة إذا ما نفدت النقود التي جاءت معه من دمشق ، فما باعه من لوحات في عمان لم يدر عليه إلا القليل ،ولا ينذر المستقبل بما هو أفضل .
جاء الفرج النسبي بعد قرابة ثلاثة أعوام من الإقامة في عمان ، على يد رئيس اتحاد الكتاب الفلسطينيين مراد سوداني ، كما أسلفنا، الذي سعى له ولأربعة كتاب آخرين مشردين في عمان أو مشردين من سورية بينهم المترجم صالح علماني ، أحد أهم المترجمين للغة الاسبانية . كان المبلغ 300 دولار تدفع شهريا . وهو مبلغ يكفي لأجرة البيت . وقد زيد هذا المبلغ ليصبح 500 دولار بداية عام 2018.
قرابة سبعة أعوام أمضى محمود أبو الجدايل حتى اليوم في عمان . كان يظن أن أزمة سورية ستحل خلال عام أو عامين .. وها هي تستقبل عامها التاسع بعد أسابيع دون أي أمل في حل .. وحين وجد محمود أبو الجدايل أن لديه من اللوحات ما يكفي لأعوام قادمة ، تحول إلى الكتابة ليكمل مشروعه الثقافي وليبلور فلسفته للوجود ، وقد وجد من شبكة النت متنفسا له ..فنشر آلاف المقالات والمقولات،وبعض المؤلفات ، إضافة إلى ثلاث روايات ومجموعة قصصية وبحث نقدي مقارن، نشرت ورقيا . لم يجد ناشرا لروايتيه الفلسفيتين إلا صالح عباسي صاحب ومدير مكتبة كل شيء في حيفا . فرحته بنشر هذه الكتب أحيت الأمل لديه ، كما سبق للرسم أن أحياه ، وكذلك نشر الملك لقمان وغوايات شيطانية عامي 2008 و2009 في دمشق عن دار نينوى، بعد أن قبعا كمخطوطين في الدرج لما يقرب من خمسة عشر عاما.
حين تحول محمود أبو الجدايل إلى الرسم في دمشق ، اعتقد أنه لن يعود إلى الكتابة إلا لماما حتى ما بعد ظهور النت. لكن نشر مخطوطاته اللاحقة وتعثر الرسم أعاده إلى الكتابه وبقوة. يتمنى لو يحصل على مخطوطين روائيين بقيا في أرشيفه في بيت دمشق ، إضافة إلى مخطوطات أخرى غير مكتملة .
" آه يا محمود مخيلتك تضج بأشياء وأفكار كثيرة ولا تعرف أيا منها ستتناول.. وتكره أن تكتب عن الحياة الاجتماعية الواقعية رغم غنى حياتك في هذه المسألة ، من التشرد والشقاء إلى الكفاح وإلى النساء، من الجنس في الطفولة إلى سعاد الغجرية في دمشق وهي تترك برداية غرفة القياس في البالة مشقوقة للتتيح لك البصبصة على نهديها ومؤخرتها ، في أسخف محاولة للإغواء.! من يصدق أنك وصلت إلى حد القرف من هذا العالم بشقائه ونسائه ، وأنك تعشق وحدتك ولا يشغلك إلا العقل البشري والغاية من الوجود ، بعد أن استكانت البشرية إلى أفكارها العقائدية والفلسفية معتبرة إياها حقائق مطلقة ، دون أن تفكر في أن الحقيقة المطلقة لم يعرفها العقل البشري بعد ، وربما لن يعرفها بعد ملايين الأعوام ! وما تزال البشرية تخوض صراعاتها وتمارس حماقاتها ، وتضطهد امم أمما وشعوبا أخرى دون أن تدرك الغاية من وجودها، بتحقيق قيم الخير والعدل والمحبة والجمال وإقامة الحضارة الانسانية ليحيا البشر جميعا في ظلها"

*****



لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-05-22, 03:03 AM   #17

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

(15)

نصابون ظرفاء!


يكره محمود أبو الجدايل الكتابة عن حياته اليومية ، ويكره التطرق إلى النصابين والمحتالين واللصوص وما أكثرهم في حياته ، مستثنيا الأصدقاء والصديقات الذين كان يدينهم بعض النقود وبسخاء أحيانا ولا يسددون ديونهم، وخاصة بعض الصديقات الجميلات اللواتي قد لا يبخلن عليه بليلة غرام في زمن مجدب من النساء! في عمان اكتشف نوعا جديدا من المحتالين لم يعرفه من قبل ، وإن كان أحدهم قد لطش منه أكثر من عشرة آلاف ليرة وبعض الدولارات بخفة يده ! تكمن مشكلة محمود في أنه لا يشك في نوايا من يتعامل معهم ، ولا يفكر على الإطلاق في أنه يتعامل مع محتالين ، فلا يعقل أن يكون جميع الناس محتالين ، فهؤلاء نادرون في المجتمعات بالتأكيد .. في دمشق دخل عليه رجلان ادعيا أنهما تركيان ، طلبا ابتياع رواية له مترجمة إلى التركية. كان سعرها 10 دولارات . أعطاه أحدهما ورقة نقدية من فئة المائة دولار . أخرج محمود من حقيبته بعض الدولارات وراح يبحث بينها عن تسعين دولار. فوجئ بأحد الرجلين يجعجع بكلمات غير مفهومة ويخطف الدولارات من يده ويفردها على طاولة وهو يجعجع .. لم يعرف محمود ماذا يريد هذا الكائن ، ولم يعد الاثنان يفهمان الانكليزية التي خاطبهما بها حين دخلا واختارا الكتاب . كان خاطف الدولارات يجعجع بينما الآخر يحاول أن يوضح ما يريده وبجعجعة أيضا لا تخلو من مفردات مشوهة بالانكليزية . فكان محمود ينتبه مرة إلى خاطف النقود ومرة إلى الموضّح ! للتتم السرقة . اعتقد محمود أنهما يريدان باقي المبلغ بالسوري . أعاد الخاطف الدولارات إلى محمود الذي أعادها إلى جيبة ، وأخرج مبلغا من العملة السورية . تكرر الأمر نفسه . خطف الخاطف النقود من يد محمود وفردها على الطاولة وهو يعبث بها ويجعجع ، دون أن يفهم محمود شيئا ، لا من المجعجع ولا من زميله الذي يجعجع للتوضيح . أعاد الخاطف المبلغ إلى محمود ، ومد الموضح يده وأخذ ورقة المائة الدولار( المزورة على الأغلب ) وعدلا عن شراء الكتاب وانصرفا ..
كعادته لا يدرك محمود ما يجري معه إلا بعد فوات الأوان .. تفقد نقوده ليجد أنها نقصت بما لا يقل عن خمسة عشر ألفا .. ولم يستطع تحديد المبلغ (الملطوش) بالضبط ، لأنه كن يحمل فلوسا كثيرة نسبيا إضافة إلى ما كان يبيعه ..
حين دخل في عمان إلى محل الكترونيات ليبتاع فلاشه للكومبيوتر، قدم إلى شاب في المحل ورقة نقد من فئة العشرين دينار، ليحسم الآخر منها ثمانية دنانير ثمن الفلاشة . أعاد له الشاب دينارين فقط . كان محمود يتفحص الفلاشة وحين رأى الدينارين ، قال للشاب أنه أعطاه عشرين دينارا . سارع الآخر إلى سحب درج النقود من الطاولة ووضعه أمامه ليريه أن كل ما فيه هو فئة العشرة دنانير، ولا يوجد فيه فئة العشرين ! مضيفا إلى كلماته عبارة " جل من لا يسهو" رددها أكثر من مرة ، في محاولة لإقناع محمود أنه سها ! وبدلا من أن يشك محمود في هذا البائع الشاب ، ويقول له أنه لم يضع الورقة النقدية في الدرج، راح يشك في نفسه ، أنه فعلا ربما سها ، ورأى العشرة عشرين ! انصرف من المحل وهو يحاول يائسا أن يقنع نفسه أنه أعطى الشاب عشرة دنانير وليس عشرين مع أنه لا يوجد في محفظته غيرها من هذه الفئة !
بعد يوم واحد فقط . وقف على الرصيف في وسط البلد، حاملا رزمة من الكرتون ابتاعها للرسم ، منتظرا أن يقله تكسي إلى بيته . توقف تكسي أمامه ونزل السائق منه حاملا رزمة صغيرة من النقود في يده ، وسار نحو محل لبيع الدهان ، ليعود بعد لحظات وهو يردد " ما حدا معه خمسين دينار " ثم خاطب محمود " معك خمسين قطعة وحدة ؟" يحمل محمود معه دائما ورقة نقدية من فئة الخمسين دينارعلى سبيل الاحتياط ليعود إليها إذا ما نفدت نقوده في السوق . قال للسائق " معي " وصعد السائق إلى حافلته ليصعد إلى جانبه . قال للسائق :
- الناس يبحثون عن الفراطة وأنت تبحث عن قطعة نقدية واحدة ، لماذا تريدها ؟
- أمي مريضة في المستشفى وتريد خمسين دينار شقفة وحده!
أوحى له السائق أن امه تعاني من مرض نفسي.
- أوكيه ! هات !
قدم له السائق خمسين دينارا كلها أوراق جديدة !
وضعها محمود في جيبه إلى جانب بعض النقود لديه .
كان يضع ورقة النقود الاحتياط في مغلف ويضعها في جيب خاص في حقيبته. فتح الجيب وأخرج المغلف وفتحه وأخرج قطعة النقود وقدمها للسائق ، وانصرف لإغلاق الجيب والحقيبة . ولم يكد ينتهي من الأمر حتى فوجئ بالسائق يمد يده بورقة نقدية من فئة الخمسة دنانير وهو يهتف " لكن هذه خمسة دنانير وليست خمسين " ؟!!
ثمة شبه ضئيل جدا بين فئة الخمسة دنانير والخمسين دينارا ، يتمثل في اللون الأحمر أساس القطعتين ، وإن كان متفاوتا في القطعتين ، كما أن فئة الخمسين أكبر من فئة الخمسة وليس من السهل أن يخطئ أحد فيهما ولا يميز بينهما في التعامل، وإن كان ممكنا إنما بشكل نادر جدا في حال لم يكن الشخص متنبها عند التعامل النقدي.
- نعم ؟! هتف محمود متسائلا.
الطيبة إلى حد السذاجة تدفع محمود إلى أن يشك في نفسه ولا يشك في الآخرين .
" معقول ؟ هل كنت أحمل خمسة دنانير بدلا من خمسين ؟"
" هذه هي "
- أيه هاتها !
أخذ محمود الخمسة دنانير وأعاد للسائق الخمسين دينارا !
المسافة الى البيت في حي اللويبدة قريبة . كان العداد أقل من دينار . تلكأ محمود قبل أن يخرح نقوده ليحاسب السائق، كان ما يزال يفكر في الخمسين دينارا فيما إذا كانت خمسة أم خمسين . وهذا ما دفع السائق إلى التخوف من أن يصحو محمود من صدمته ويجزم له أنه أعطاه خمسين دينارا وليس خمسة دنانير ، فسارع إلى مخاطبته :
" روح الله يسامحك ما بدي منك أجرة "
سارع محمود إلى النزول مصطحبا رزمة الكرتون ، فيما انصرف السائق مسرعا ..
منذ ذلك اليوم حاذر وهو يعطي قطعة نقود إلى بائع أن يقول له من أي فئة هي .. مثلا " هذه خمسة دنانير، هذه عشرة ، هذه عشرين ، هذه خمسين " ونأمل أن لا تأتيه السطوة في الأيام والسنين القادمة من باب يجهله !
بقال الحارة المتدين جدا، والذي يكاد أن يرفع الأسعار كل يوم على مزاجه ، انطلاقا من قاعدة يؤمن بها يجيزها له الإيمان الديني " التجارة شطارة " فمن حق التاجر أن يتشاطر في االبيع ليربح أكثر ، فهذا حق له ! كان يبيعه مرطبان العسل الاسترالي بخمسة دنانير، ليجد أن سعره في السوق دينارين وربع فقط ! قال له بعد أن أخبره محمود بقصص النصب عليه " خلال يومين انتصب علي مرتين ، مرة بخمسين دينار ومرّة بعشرة دنانير" ليجيبه الآخر على الفور:
" الأول أعطيته خمسين فأخفاها في غفلة منك وأخرج خمسة ، والثاني أعطيته ورقة العشرين فقال لك عشرة "
فوجىء محمود بالأمر :
" يا إلهي أنتم تعرفون كل شيء "
" بدك تدير بالك وتقول للبائع ماذا أعطيته ، والبائع النظيف يترك قطعة النقود أمامه إلى أن يعيد للزبون باقي نقوده "
بعد أيام ابتاع محمود بعض الفواكه من بائعين متجولين في شاحنة . مد أحد البائعين يده برزمة نقود وهو يهتف " معك خمسين شقفة وحده" ؟ كان محمود بملابس البيت ولم يحمل معه إلا مبلغا قليلا يفي بالغرض . هتف " لا " وتذكر بعد ذلك ما جرى معه فراح يخبر البائع بالأمر دون أن يشك اطلاقا في احتمال أن يكون هذا محتال أيضا !

*****


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-05-22, 03:05 AM   #18

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

( 16)

جدائليون أنبياء ومتصوفة!

يهرب محمود أبو الجدايل من عالمه الواقعي الكريه في " زمن الخراب " هذا، ليعيش مع أحلامه في عالم متخيل يريح نفسه وينسيه هذا العالم . أصبحت معظم كتاباته في العقود الأخيرة تدور في فانتازيا موغلة في الخيال المطلق ، دون أن تتجاهل البحث عن ماهية القائم بالخلق ، إن كان إلها، وعمّا إذا كان يعتبر نفسه كذلك ، سالكا بذلك طريق آلاف الأجداد من الأنبياء والمتصوفة وحتى المجانين من مدعيي الألوهة ، وكان عليه أن يحسم هذه المسألة بإيجاد طريق ثالث في الفلسفة لا يغفل العقل والعلم والمادة ولا يتجاهل الروح ، أسماه المادية الروحية ، دون أن يجزم بأن ما جاء به هو حقائق مطلقة حتى لا يقع في ما وقع فيه الأسلاف ، الذين اعتبروا كل ما جاءوا به حقائق مطلقة لا تقبل الجدل! فقد اعتبر أن فكره ليس أكثر من اجتهاد كغيرة من اجتهادات العقل البشري عبر التاريخ لمعرفة أسرار الوجود والغاية منه .
أحد الأجداد لم ير في عبادة النار والعبادات الطوطمية وعبادة الأجداد لدى بعض الشعوب أية آلهة ، ودعا إلى عبادة الكواكب ممثلة بالشمس والقمر والزهرة ، بعد أن أمضى عشرين عاما معتكفا في كهف في سفح جبل صخري في جبال اليمن ، متأملا الكواكب، ليقوده تأمله إلى أن عائلة الألوهة تكمن في الشمس الأم والقمرالأب والزهرة الابن . ولم يكن من الصعب عليه أن يجد أتباعا لعقيدته لما يتركه هذا الثالوث من أثر في الحياة اليومية للناس، فراح ينتشر في الجزيرة وبلاد الشام وبعض بقاع العراق وفارس ومصر.
أحد الأجداد البابليين ممن كانوا يعبدون الربة عشتار رفض هذه العقيدة بإصرار ، ما لم تتح له ممارسة طقوس الجنس المقدس في المعبد ، التي لم تكن كافية لإشباع رغباته ، فكان يقصد معبد عشتارعند طلوع الشمس ليحظى بافتضاض عذراء ممن ينهضن مبكرا ويحضرن ليجلسن أمام المعبد ليهبن عذريتهن للربة كقربان عبودية مع أول قادم إلى المعبد .
بعض أتباع عبادة مردوخ من البابليين ممن راحو يشكون في ألوهية مردوخ ، وإقدامه على شق جسد جدته ليجعل من النصف العلوي سماء والنصف السفلي أرضا ، آمنوا بهذه العقيدة ، غير أنهم أبقوا على فكرة خلق الإنسان المردوخية التي نصت على أن مردوخ خلق الإنسان بدمه .. لذلك نشأ صراع فكري بين البابليين الكلدانيين من أتباع مردوخ والمنشقين الذين اتبعوا عبادة الشمس. وظل الصراع قائما في حدود الفكر والاجتهاد دون سفك الدماء كما جرى في أزمان لاحقة وفي زمننا .
أقيم معابد للشمس في بعض البلدان مورست في بعضها طقوس العبادة والتي كان من ضمن بعضها ممارسة الجنس المقدس التي لم يكن من السهل التخلي عنها ، وخاصة من مؤيدي الألوهة الأنثوية الذي كانوا يرفضون بشدة الألوهة الذكورية من انليل وجلجامش إلى مردوخ وإيل ويهوة والله فيما بعد . كما أسمى كثيرون أنفسهم " عبد شمس" فيما أقام كثيرون أنصابا ترمزإلى هذه الألوهة ، كاللات والعزى ومناة ، ولم تكن عبادتها إلا تقربا للألوهة الممثلة في السماء بالشمس والقمر والزهرة .
هذا الأمر قاد محمود أبو الجدايل المعاصر للبحث في هذا الثالوث المقدس ليجد أن عقائد كثيرة تعود إليه ، فإنسان العصر الحديث المتدين يرى أن عقيدته هي التي جاءت بمفهوم التوحيد الصحيح مهما تعددت مظاهر ومفاهيم الألوهة ، وأن لا علاقة لها على الإطلاق بأية مفاهيم ومعتقدات قديمة بدائية .رغم أن الإسلام يعترف في بعض آيات القرآن بالمسيحية واليهودية وحتى بالصابئية. والمسيحية تعترف باليهودية حسب العهد الجديد. واليهودية لا تعترف بما قبلها من عقائد رغم أنها أخذت الكثير من المعتقدات الأقدم، الفرعونية والبابلية والكنعانية .
الإسلام ينفي تثليث الألوهة رغم اقترانها بشخص النبي محمد وجبريل (ناقل الوحي) مع الله ، فلا يذكر اسم النبي أوصفته إلا ويذكر اسم الله معه وفي الشهادة ينبغي ذكراسم النبي محمد مع الله .ونصف الشهادة لا يقبل فهوغير محمود كأن يقال " أشهد أن لا إله إلا الله " فقط . وإذا ما عدنا إلى ابن عربي وبعض المتصوفة سنجد أن الخلق جاء من الحقيقة المحمدية التي كانت في العماء الإلهي (الهيولى البدئية ) منذ الأزل !
وفي المسيحية لا تتم البسملة إلا باسم الآب والابن وروح القدس .
ثلاثة أقانيم في ذات إلهية واحدة أزلية .
في اليهودية ضاعت المفاهيم بين إيل وألوهيم ويهوة والرب والله وغيرهم ، وإن كانت قد استقرت على رب الجنود يهوة ! بنسبة كبيرة .
وقد استعرض محمود ابو الجدايل بعض هذه السلسلة من (الثالوثات والتعددات الإلهية ) بغض النظر عن كيفية تطورها وتناقلها من أمة إلى أمة ، متجاوزا المراحل الأولى للدين المتمثلة في السحر والطقوس السحرية والطوطمية، ومتجاوزا صراعات وتحولات وتعددات الآلهة بعد مظاهر الوجود البدئي :
العائلة الخالقة الأولى :أي الإله الواحد، في عقائد جنوب شبه جزيرة العرب ( اليمن ومحيطها):
القمر : الأب .
الشمس : الأم .
الزهرة : الإبن .
أقانيم ثلاثة تمثل الألوهة .
يرد القسم في القرآن بالشمس والقمر والنجوم وحتى بالتين والزيتون .
فما الذي يعنيه القسم بها إذا لم يكن لها علاقة بالوجود الإلهي ؟!
مرحلة لاحقة في شبه الجزيرة العربية :
يمكن أن تكون ممثلة في ثالوث إلهي :
أللات (الله ) العزى . مناة .
ومن ثم تعددت الأوثان التي ترمز إلى ألوهة
ممثلة في ذات إلهية واحدة ، وما الأوثان إلا للتقرب بها إلى هذه الذات ، التي بني لها العديد من المعابد (الكعبات). ثمة روايات ذكرت 23 كعبة . وحدت فيما بعد في كعبة واحدة ، توجها الإسلام بتحطيم الأوثان .
مراحل ما بعد الوثنية في الجزيرة : اليهودية . الصابئية . الحنيفية الابراهيمية . النصرانية ، الإسلامية.

العائلة الخالقة السومرية البدئية ( التكوين السومري البدئي :
آن . إله السماء . زوج كي . الأب .
كي . إلهة الأرض ، زوجة آن .الأم .
إنليل : إله الهواء . الإبن .

العائلة الخالقة البابلية :
ابسو : الماء العذب ( الله الأب(
تعامة : الإلهة الزوجة والأم . الماء المالح .
ممو : الإله الإبن . الأمواج المتلاطمة.

عائلة خالقة فرعونية :
رع : الشمس . الله .
جيب : إله الأرض زوج .
نوت : إلهة السماء . زوجة جيب .

العائلة الإيزيسية :
ايزيس الأم
أوزيريس الأخ والزوج !!
حورس الإبن
(ايزيس تحمل من خالق دون زوج كمريم العذراء )

عائلة فرعونية لاحقة آتونية ( شمسية ) اتفق المؤرخون على أنها من
وحد الألوهة ، ونحن نعتبرها مرحلة متطورة من التوحيد :
آتون : الشمس . الله .
أخناتون : الإبن !
نفرتيتي . زوجة أخناتون ابن الله !

مقطع من ترتيلة أخناتونية:

" يا آتون الحي الذي يظهر في السماء كل يوم
والذي ولد ابنه المبجل " وا- إن –رع " ( أخناتون ) على شاكلته .
ابن رع الذي يستمد من جماله .
أنا ابنك الذي يعمل لمرضاتك ويبجل اسمك

العائلة الخالقة الكنعانية :
إيل ( الله ) كبير الآلهة الكنعانية
عشيرة : الزوجة الأم .
يم : الابن .

عائلة كنعانية لاحقة :
بعل . الله . الزوج .
عناة : العذراء . الزوجة .
عشتاروت : الإبنة .

العائلة الخالقة اليهودية :
إيل . أيلوهيم . يهوة : ثلاثة أسماء لإله واحد .
آدم : بمثابة ابن .
حواء : بمثابة ابنه .
موسى : كليم الله . حامل وصاياه العشر . قائد بني اسرائيل .
مؤسس العقيدة اليهودية .نبي حسب المسلمين .

العائلة الخالقة الهندوسية :
براهمان : إله
فيشنو : إله مساعد
شيفا : إله مساعد
العائلة الخالقة الزرادشتية:
أهورا مازدا . إله الخير.
أهريمن. إله الشر
زرادشت ! من جاء بالعقيدة.

العائلة الخالقة النصرانية ( المسيحية) :
الروح القدس :الله الأب . الأزلي . روح الله .المبدع المجدد للحياة .وهو الأقنوم الثالث في العقيدة المسيحية الذي يحتوي ليس على الأقانيم الثلاثة فحسب لتصبح واحدا، بل على كل ما يتعلق بالخلق ( وهذه الأخيرة من اجتهادي ) يرمز له برموز كثيرة منها الحمامة البيضاء .
المسلمون يعتبرون الروح القدس جبريل
يسوع المسيح : الإله الإبن .
مريم العذراء : الأم المقدسة .
كل ما مر معنا من تثليث أو ثالوث إلهي في المفاهيم البشرية لا ينفي أن تكون الغاية هي فهم الألوهة بحد ذاتها : الغيب المجهول . القدرة الخالقة . الحقيقة المطلقة . الطاقة الكامنة ما وراء الكون والخلق . ويمكن اختصار كل ذلك بكلمة أوجدها البشربعد اختراع اللغات من زمن قريب مقارنة بعمر الوجود : ( الله )! والغاية من فهم الألوهة هي للتواصل معها والتقرب إليها بل والوجود فيها ! ومعرفة الغاية من الوجود كله.
ولا أشك في أن المعتقدين بوحدة الوجود هم الأقرب إلى الصواب في فهم الألوهة ، مهما تعددت مفاهيم ومظاهر الخلق . ( الكلام لمحمود أبو الجدايل ) فالعائلة الخالقة عند هؤلاء تتمثل في الوجود كله وليس بجزء منه أو فرد أو كائن فيه . ونحن أحد هؤلاء بالتأكيد ، غير أننا نختلف في فهم وحدة الوجود أيضا كما تختلف العقائد السالفة .
والآن إلى ترتيلة توحيدية من مصر الفرعونية القديمة تبدو وكأنها تتويج لما توصل إليه الفكر الديني في مصر، حتى بدت وكأنها فكر مادي وجودي حديث :
واحد ، ولا ثاني له ، واحد خالق كل شيء
قائم منذ البدء، عندما لم يكن حوله شيء
والموجودات خلقها بعد أن أظهر نفسه إلى الوجود
أبو البدايات ، أزلي أبدي ، دائم قائم
ويوغل النص في التجريد ليبدو وكأنه يتحدث عن الطاقة :
خفي لا يعرف له شكل وليس له من شبيه
هو الحقيقة . يحيا في الحقيقة .إنه ملك الحقيقة .
هو الحياة الأبدية به يحيا الانسان. ينفخ في أنفه نسمة الحياة .
هو الأب والأم . أبو الآباء وأم الأمهات !!
يلد ولم يولد
ينجب ولم ينجبه أحد
خالق ولم يخلقه أحد
صنع نفسه بنفسه
هو الوجود بذاته لا يزيد ولا ينقص
خالق الكون . صانع ماكان والذي يكون وما سيكون .
نص يعبر عن وحدة الوجود كما يعبرعنها الفكرالصوفي بعد قرابة ثلاثة آلاف عام . وحين يتطرق النص إلى أسماء هذا الإله يشير إلى سرية اسمه وعدم قدرة الإنسان على معرفتها رغم أن له أسماء كثيرة :
سر اسمه ولا يدري الإنسان كيف يعرفه
سر خفي اسمه وهو الكثير الأسماء!

*******
المفاهيم والإجتهادات تختلف لكن الغاية هي وحدها . ويا ليت البشرية تتفق على الغاية . لعل صراعات الأمم تقل ..
لا شك أن الثالوث المقدس جاء في مرحلة متأخرة نسبيا من تطور المعتقدات، بعد أن عرفت بعض الأمم آلهة كثيرة كالاغريق والرومان وشعوب المايا ، فكان هناك إله لكل عمل انساني كالزراعة والحب والحرب والخمر ، ولظواهرالطبيعة كالمطر والريح والصواعق والليل والنهار، وحتى للشمس والقمر والكواكب ...

************


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-05-22, 03:11 AM   #19

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

(17)

لمى!!


لم ينقذ التخيّل، الجدائلي محمود أبو الجدايل من وقائع زمن الخراب هذا ، بكل مافيه من قتل ونصب وسلب حريّات وجرائم ، فلم يكن في بعض الأحيان ينجح في تمثل عالم خياله أو استنهاض دخيلته إلّا لبضع دقائق ، ليجد نفسه بعد ذلك يغوص في الواقع من حوله ، فيجلس إلى حاسوبه ويشرع في الكتابة، إمّا عن الحال التي آل إليها العرب في مجتمعات ما تزال ترزح تحت نير التخلف والاضطهاد ، وإمّا عن رؤيته الفلسفية عن القائم بالخلق ، في أتعس محاولة لإنقاذ أمة لا تقرأ، من الجهل المحدق بها .
غير أن ما كتبه ذات يوم تحت عنوان (إشكالية العقل الديني بين المحلل والمحرم في الجنس والحب !) ونشره في بعض منتدياته المفضلة إضافة إلى صفحته على الفيس بوك، جرّعليه ما لم يكن يتوقعه على الاطلاق، ليس نقمة المتدينيين المتعصبين التي صاحبت معظم مقالاته وأقواله فحسب ، بل الغرق في مآسي بعض الفتيات والنساء ، اللواتي كن يرغبن في مساعدته للخروج من فظاعة واقعهن .
جاء في ذلك المقال :
" ما لا يصدقه عقل بشري أن تقتل فتاة أو زوجة لمجرد مشاهدتها تتحدث أو تجلس إلى شخص ما ، ليذهب عقل الرائي أو الواشي إلى ما هو أبعد من التحدث والجلوس ، يذهب فورا إلى الشرف الذي ربطه العقل الذكوري بفرج الأنثى دون ذَكر الرجل . فالأخير يبيح له المجتمع وحتى الدين ما لم يبحه للمرأة . وكم من رجل يفتخر بين أصدقائه بكم النساء اللواتي طارحهن الغرام ، وكم من شاب فعل الأمر نفسه بين أصدقائه وحتى أبويه ! والغريب والعجيب أن يقدم أحد هؤلاء (الدونجوانيين) على قتل أخته أو ابنته أو زوجته لمجرد الشك في أنها على علاقة ما بشخص ما ، متجاهلا أن النساء اللواتي عاشرهن بنات بشر لهم شرفهم أيضا ! والمأساة التي لا يتقبلها العقل أن يجد القاتل قانونا يحميه من العقاب الشديد ، ويطبق عليه عقابا مخففا قد لا يتجاوز السجن لبضعة أشهر في بعض الأحيان .
كم هي مظلومة المرأة في مجتمعاتنا ، لا أحد يرحمها وكأنها ليست إنسانة لها حقوق إنسانية ، بل الحد الأدنى من الشروط الإنسانية . ولو أننا أردنا أن نشرّح بنية هذا العقل لمعرفة الأسس التي قام عليها لوقعنا في حيرة من الأمر، بين ما هو مورّث ( بالخطأ ) من الدين ، وما هو مورث من المجتمع القبلي .
عُرف تعدد الزوجات والجواري منذ أقدم العصور ، إذ تروي التوراة عن سليمان ( الملك عند اليهود والنبي عند المسلمين ) أنه تزوج من 700 امرأة وكان لديه 300 جارية . وسليمان هو أبن داود من زوجته( بثشبع) المختطفة من زوجها اوريا الحثي ، التي رآها الملك داود تستحم على سطح بيتها، فاشتهاها، فأمر بأن يوضع زوجها في مقدمة الجيش لكي يقتل في الحرب ، ليحظى داود بجمالها !
ولو أننا ذهبنا إلى الإسلام لوجدنا أنه أباح الجنس وربما بما لم يبحه دين آخرعلى الإطلاق ، حتى أنه أجاز البغاء للفتاة :
" ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا " (النور 33) الآية تشير بشكل غير مباشرإلى حق الفتاة في البغاء إن أرادت ، وإلى حقها في التحصن ، وبالتأكيد إلى حقها في الحب الذي يعتبرأحد أهم شروط التحصن ! فليس هناك تحصن دون حب قد يتبعه زواج !
وقد يقول لنا معترض : إن الآية نزلت في جارية أرغمها مولاها على البغاء ليتكسب من ورائها . فهي تقتصر على الجواري، ولا تنطبق على بنات الناس ! لهذا المعترض نقول : وهل الجواري من الفتيات لسن بنات ناس ؟ ولماذا نصت الآية على فتيات ولم تنص على جوار؟ ثم كيف تتحصن جارية هي في الأساس منتهكة من قبل سيدها ، وإن كان حالها مع السيد أفضل من أن تكون عاهرة .
وثمة مصادر أكدت على وجود جنس في صدر الاسلام خلال موسم الحج اطلق عليه" متعة الحج " إضافة إلى زواج المتعة الذي ما يزال الشيعة يأخذون به . رغم تحريم هاتين المتعتين من قبل عمر بن الخطاب.
" قال عمران بن حصين : نزلت آية المتعة في كتاب اللّه ففعلناها مع رسول اللّه ـ صلَّى الله عليه و آله و سلَّم ـ و لم ينزل قرآن يحرمه ، و لم يَنْهَ عنها حتّى مات ، قال رجل برأيه ما شاء .
فزواج المتعة زواج شرعي صرح به القرآن الكريم و عمل به صحابة رسول الله صلى الله عليه و آله والمسلمون سنوات عديدة حتى نهى عن ذلك عمر بن الخطاب وعاقب عليها فخاف الناس وتركوها لا لنسخ".
وتحدث بعض الباحثين عن جبل عرفات ، ورأوا أن اسمه مقتبس من التعارف الجماعي في طقوس التعارف في الجاهلية، التي كانت تمارس عليه . فالجبل هو الوحيد بين جبال الدنيا الذي يمكن اعتباراسمه جمعا ( عرفه . عرفات ) ومن معاني عرفه في اللغة العربية هو المواقعة : عرف المرأة : واقعها ..

النبي محمد رحل عن تسع نساء . وقد أباح النص الديني للنبي من النساء ما لم يبحه لرجل آخر قط ، حتى أنه حلل له مواقعة امرأة تهب نفسها له " يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ۗ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا" ( الأحزاب 50)
ثلاثة من الخلفاء الراشدين تزوجوا من تسع نساء ، غير الجواري بالتأكيد ، هم : عمر وعثمان وعلي. أبو بكر تزوج من أربع حسب بعض المصادر . وننوه هنا إلى أن العديد من أمراء وخلفاء المسلمين هم أبناء جوار .
هارون الرشيد اقتنى 300 جارية . حسب بعض المصادر وأكثر حسب مصادر أخرى .
المتوكل اقتنى 3000 جارية !
جواري سبايا الحروب في الإسلام بعشرات الآلاف ، وجميعهن مباحات للخلفاء وأمراء الحروب وبعض المحظيين من قادة الجند. تحدثت أبحاث عن مئات آلاف العذراوات والنساء من سبايا الحروب في المغرب والأندلس كن يسقن إلى مقر الخلافة في دمشق .. ولا نعرف متى كان يتسنّى للخلفاء مواقعة هذا الكم الهائل من الفتيات والنساء..
وحتى مسألة مثنى وثلاث ورباع حسب الإسلام وحسب ما ذكرنا أعلاه تبدو قابلة لتأويلات مختلفة : فالأرقام تشير إلى تسع نساء ، ولهذا نرى ثلاثا من الخلفاء الراشدين تزوجوا من تسع أو ماتوا عن تسع . وقد يحتمل النص تأويلا على سبيل الكثرة ( تزوج من اثنتين، ثلاث ، عشر، أومائة إن شئت ) شريطة أن تعدل ! وإلا فواحدة ! والحق إن أحدا لم يعدل ولم يكتف بواحدة !
ولو أننا ذهبنا إلى آيات حد الزنى في النص الديني لما وجدنا إطلاقا آية تشير إلى رجم الزانية أو قتلها. نجد آية تشير إلى جلد المحصنة مائة جلدة وغير المحصنة إلى نصف العدد. وقد اشترط النص الديني أربعة شهود لإثبات فاحشة الزنى ، وإذا لم يأت الواشي بهذا الإثبات فسيقام عليه الحد بأن يجلد ثمانين جلدة "
"والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة "( النور4) ومن يستطيع أن يأتي بأربعة شهداء شهدوا واقعة الزنى ؟ حتى في بيت دعارة قد لا يحدث هذا الأمر . فماذا نقول لقاتلي أخواتهم أو زوجاتهم في زمننا . هل أنتم مع الدين أم ضده ؟ وإذا كنتم تتصرفون حسب أعراف اجتماعية قبلية ، فلماذا الدين إذن ؟
صحيح أن الدين أباح للرجل ما لم يبحه للمرأة ، لكنه لم يقتلها ، كما أنه أباح لها الحق في الحب لكي تصون نفسها وتحصنها ، وإن كان ذلك بشكل غير مباشر .
نحن بالتأكيد أمام اشكالية عقل مبني على فهم خطأ للدين ومفاهيم قبلية خاطئة لا يتقبلها العقل المعاصر .
ولا يسعني في ختام هذه المقالة إلا أن أترحم على أرواح شهيدات الحب عبرالأزمان ، اللواتي قتلن ظلما وغدرا . تفيد المصارد في الأردن أن 35 فتاة وسيدة قتلن في الأشهرالعشرة الأولى من العام الماضي ، رميا بالرصاص أو طعنا بالسكاكين أو ضربا أو حتى حرقا ! يا للفظاعة !"
*******
" لمى " احدى صديقات محمود أبو الجدايل على الفيس بوك .. اللواتي يتابعن كل ما يكتبه وكل ما ينشره على صفحته في الفيس. ويؤيدن بمحبة كل مقالاته .. ورغم أن بعضهن يقمن في عمان إلا أنهن لم يسعين إلى لقائه . وكن يكتفين بإطلاعه على القليل من مشاكلهن على الشات .. لمى من هؤلاء اللواتي يقمن في عمان ، لم تسع إلى لقائه . ولم يسع هو بدوره .. وقليلا ما تحدثا على الشات عن مشاكل الحياة رغم أن محمود كان ينشر بعض ما يواجهه مع الناس من نصب واحتيال وغير ذلك.. إلى أن جاء يوم كتبت إليه راجية أن تلتقيه .. وافق على الامر ببساطة شديدة ..
التقيا في بيته. رحب بها محمود بالكلمات المعتادة " أهلا يا لمى " دون أن يخفي مفاجأته حين وجد أنّه أمام شابة جميلة ، تبدو في حدود الثلاثين من عمرها أو أكثر قليلا، ترتدي لباسا محتشما ، وتضع على رأسها شالا أبيض، تنزلق منه خصلة شعر على جبينها كلما حنت رأسها ، فتسارع إلى رد الخصلة عن وجهها حتى لا تغطي عينها ..
انبهرت في كم اللوحات المعروضة على جدران الغرف والصالون والممرات ، وشرعت في النظر إليها قبل أن تجلس، غير أن محمود رأى العكس :
- اتركي الفرجة الآن واجلسي .
- أهلا وسهلا ..
- أهلا بك . لم أتوقع أن ألقاك يوما .
- أف ! أنا انسان بسيط ومتواضع ولقائي أسهل ما يمكن ، وإن كنت في أحلامي المتخيلة أهرب إلى شخصيات غير موجودة في الواقع ، في محاولة للهروب من الواقع الذي لا أحبه. وآمل أن لا أصاب بانفصام الشخصية في الأعوام القادمة!
- سلامتك من الانفصام استاذ . في الحقيقة أن فكرك لا يشير إلى أنك انسان بسيط !
- اتركي الفكر في حاله . صورتك على الفيس لا توحي أنك على هذا القدر من الجمال.
- أشكرك استاذ.
- لو انني أعود شابا ولو في منتصف العمر لسعيت إلى حبك !
- أنت تحبني كما أعرف من حواراتنا القليلة ومن متابعتي لما تنشر على الفيس وفي المنتديات..
- أقصد حبا يرافقه عشق وليس حباً أبوياً !
اومأت لمى برأسها وهي ترسم ابتسامة طفيفة خالجها حزن ما ، فيما انزلقت خصلة الشعر على جبينها لتغطي عينها اليسرى .. وما لبثت أن رفعت رأسها وهي تنزع الشال وتترك شعرها ينساب على عنقها وظهرها وكأنها تريد مقاومة ما يعتلج في دخيلتها ، مبدية الفرح .
- أنا سعيدة بالتعرف إليك وبلقائك ويمكنك أن تحبني كما تشاء !
- أشكرك . ماذا تشربين ؟
- لا أريد أن أتعبك ..
- ليس في الأمر ما يتعب .
- اذن سأعمل أنا . ماذا لديك ؟
- كل شيء !
- ماذا تعني بكل شيء؟
- كل شيء من المشروبات النباتية غير الكحولية .
- مثلا ..
- شاي أخضر وأحمر وقهوة وكاكاو وزعتر وبابونح وزهورات وميرمية وزنجبيل ويانسون وقرفة وخزامى وكمون وحصى البان وإكليل الجبل وكركديه وشوفان وحلبة، وربما هناك أشياء أخرى !
راحت لمى تضحك ببراءة مخفية طيف الحزن الذي رافق ابتسامتها عند حديث محمود عن الحب الأبوي.
- يا إلهي كيف اقتنيت كل هذه الأعشاب وحفظت أسماءها ؟
- كثرة استخدام بعضها أتاح لي حفظ أسمائها .
- سأشرب ما تحب أن تشربه أنت الآن !
- لكن أنا أفضل القهوة في هذا الوقت .
- وأنا كذلك .
- سأنهض لإعداد القهوة ، وبإمكانك أن تتأملي بعض اللوحات الآن أو أفتح لك التلفاز .
- سأتأمل اللوحات .. لا أحب التلفاز لأستمع لأخبار القتل و أرى الدمار..
- نحن في زمن الخراب يا عزيزتي.. أنا أيضا أهرب كثيرا من هذا الزمن إلى الخيال وأعيش فيه . وأتخوف أحيانا كما أسلفت من أن تتلبسني إحدى هذه الشخصيات التي أتمثلها في خيالي ، وأصورها في أدبي ، ولا أستطيع الخروج منها . سنكمل حديثنا على القهوة .. هيا ..
يصب محمود القهوة في كأسين صغيرين ، فقد وظف جميع الفناجين التي لديه لوضع الشموع فيها .. فتكسر معظمها لكثرة ما أشعل الشموع فيها .. ينهض إلى المكتبة ويحضر آخر كتابين له . رواية وبحث نقدي ..
يكتب الإهداء عليهما ويقدمهما لها قائلا " للأسف لم يبق من كتبي للإهداء إلا من هذين الكتابين .
- هذا تكريم منك وشرف لي أن أقتني بعض كتبك . أتسمح لي أن أقبلك ؟
ومدت رأسها نحو محمود دون أن تنتظر اجابته. تعانقا للحظات . وهما يضمان رأسيهما برفق .
أخرج محمود سيجارة ودعاها إلى التدخين . أخذت سيجارة . أشعل محمود لها وله .
- أنا أدخن بايب لكني لجأت إلى السيجارة في محاولة بائسة للتوقف عن التدخين الذي أفشل دائما في تركه، رغم أنني أتوقف عنه لشهرأوأكثرأحيانا .. أشعر أنني قادرعلى تركه لكنني لا أريد ذلك .. فهو إلى جانب الشطرنج ، يشكلان متعتين لي يبدو أنه يصعب علي فراقهما .. ألجأ إلى الشطرنج حين لا أجد رغبة في الكتابة أو الرسم ثم إنه ينسيني السيجارة لبعض الوقت لحاجتى إلى التنبه والتفكير المتواصل معه .
- هل تلعب مع أحد ؟
- لا ألعب مع الكومبيوتر. كل الذين لعبت معهم ليسوا من مستواي فابتعدوا حتى عن زيارتي تخوفا من اللعب معي .. الانسان يحب الفوز دائما ولا يحب الخسارة ، ومشكلة الشطرنج لا تكمن في الخسارة فحسب ، بل في مستوى تفكير اللاعب ، وما يتمتع به من أخلاق ، وقدرته على ضبط أعصابه. معظم الناس ذوي التفكير العادي يقدمون على اللعب مع الآخرين بفوقية شديدة مستهترين بخوصمهم ، وحين يهزمون تنكشف أنفسهم على حقيقتها.
- هل تعرفين لعبة الشطرنج ؟
- أعرفها ومارستها قليلا في حياتي .. أعتقد أنني ضعيفة جدا فيها .
- وأنا ضعيف أيضا ، مقارنة بأصحاب العقول النابغة في الشطرنج ، فمستواي فوق الوسط بقليل ، ولست نابغة .. ألاعب الكومبيوتر على هذا المستوى وهو الخامس بين ثمانية مستويات في البرنامج الذي ألعب معه . أغلبه بصعوبة على هذا المستوى ويمكن القول إنني أتفوق عليه مهما حاول معي .. وأبتعد عن المستوى السادس فما فوق ، لأن هذه المستويات تحتاج إلى متفرغ أو محترف للشطرنج وليس هاوياً. كما أنها تحتاج إلى وقت أطول.. حين آخذ لعبة منه من ثلاث جولات على المستوى السادس أشعر أنني حققت انجازا .. فهو يطور برنامجه بشكل مستمر حسب من يلعبون معه .
لنترك الشطرنج والتدخين ماذا لديك لتحدثيني عنه .
- لا أريد أن اثقل عليك بهمومي.. لدي الآن أسئلة حول لوحاتك .
- ماذا رأيت فيها ؟
- كلها جميلة . ثمة لوحات تعطي نفسها بسهولة كلوحات الأساطير والأيقونات والوجوه والأشخاص ، وثمة لوحات تجريدية تبهرني ألوانها وتشكيلاتها المتناسقة أحيانا والمتنافرة أحيانا أخرى دون أن أصل إلى سبر أغوارها .. أشعر أنها تعبر عن عمق فكرك ، الجمال هو ما نلمسه من النظرة الأولى للوحات ، وهو ما يدعونا إلى تأمله والذهاب بعيدا فيه لنتلمس حدود الكمال .. إنه جمال غير مألوف كذاك الذي يصل إلينا بسهولة من مجرد النظر إلى لوحة واقعية لامرأة مثلا . هنا مهما تأملت في جمال بعض اللوحات تشعر أنك في حاجة إلى المزيد من التأمل .
- أشكرك عزيزتي لهذا الذوق الرفيع للجمال .. ثمة لوحات أحبها وثمة لوحات أرسمها بسرعة لأتسلى . ليس كل ما يرسمه الفنان يعجبه، مع أنه يعجب بعض الناس وليس كل الناس . والأمر نفسه ينطبق على الكتابة .. الكمال عندي غير موجود حتى في عملية الخلق نفسها .. الوجود ما يزال يحبو لبلوغ كمال ما يسعى إليه القائم بالخلق .
- سأهديك لوحة أو لوحتين منها ..
- أشكرك أنا أستطيع أن أشتري..
- في هذه الحال ستزداد الهدية ، كنت في دمشق أهدي لوحة لكل من يشتري مني .
- هذا كرم منك .. سنعود إلى حديثنا .. فهمك للألوهة والغاية من الوجود هو ما أعجبني وأحببني فيك . وهو من أجمل ما أقرأه على الفيس بوك والمنتديات .. معظم الكتاب والمفكرين يسعون إلى نقد الديانات والمعتقدات والفلسفات دون أن يقدموا فهما جديدا للخلق والخالق أوالقائم بالخلق . فمعظمهم إمَا أن يقودونا إلى الإلحاد أو إلى الطبيعة . أنت تركز على الفهم البديل وإن تطرقت إلى بعض السلبيات في النصوص المختلفة من عقائدية وفلسفية كنقدك للمحرك الثابت غير المتحرك عند أرسطو. ولم تلغ احتمال وجود ألوهة كما لم تلغ العلم والمنطق ، من فهمك ، وإن عبرت عنهما بتعابير أو مفردات مختلفة .
- أشكرك أنت تفهمينني بشكل جيد . ولا مانع لدي أن يكون القائم بالخلق إلها أوأنه يعتبر نفسه كذلك ، وكثيرا ما أستخدم مفردات الله والألوهة ، المهم عندي ما هو جوهر الله ، وهل هو خارج المادة والطاقة ؟ هذا هو المهم ، وحين يتفق العقل البشري على هذا المبدأ ، قد يسهل تطوير المفاهيم للوصول إلى غايات انسانية تحقق قيم الخير والجمال وتبني حضارة انسانية .
توقف محمود ، غير أن لمى رجته أن يتابع ، فهي لم تحضر إلا للإستماع إليه حسب قولها..
- آه يا عزيزتي .. لقد ظلم العقل البشري الألوهة حين عزا حسابا وعقابا إليها ، فلا يعقل أن يكون بعض البشر مثلا في زمننا، أكثر رحمة ورأفة بالناس من الله ؟ ! لقد ألغت بعض دول العالم ( أوروبا بشكل خاص ) عقوبة الاعدام ، مهما كانت جريمة الفاعل ، بينما ما تزال بعض الدول تمارس هذه العقوبة ، إضافة إلى القتل الفظيع . فالاعدامات في بعض البلدان أصبحت بالجملة ، والقتل والدمار اللذين يحدثان في سورية وبعض البلدان العربية وغير العربية أكثر من فظيع . الآلهة في المعتقدات البشرية تمارس عقوبتها بأشكال مختلفة ، كما صورها العقل البشري، وقد يكون المعتقد الإسلامي هو أكثرمن ظلم الله حين أوغل في تصوير العقوبة عندالله بأن جعله يستبدل جلود المعذبين بعد حرقها بجلود أخرى ليتم حرقهم بشكل دائم ، كما أوغل العقل الإسلامي في تصوير عذاب المرأة بما لا يمكن لعقل أن يتصوره ، حين جعل دماغها يغلي وهي معلقة من شعرها في الجحيم ! ولعل العقل الإسلامي لم يفكر في أن تصوير الله على هذه الشاكلة يتناقض بشكل مطلق مع وصف الله بالرحمن الرحيم ، الذي تبدأ به جميع آيات القرآن .
- وماذا عن المعتقدات الأخرى؟
في الهندوسية يبدو العقل الهندي أقل ظلما بكثير للإله ( براهمان ) فليس هناك عقوبة تؤدي إلى الموت أو العذاب الدائم عند براهمان . كل ما هنالك أن يجعل براهمان روحه تخرج من جسد الميت لتذهب إلى كائن آخر حسب أعمال الميت في الحياة ، فإذا كانت أعماله صالحه تحل روحه في كائن انساني ذي مرتبة أرقى من السابق، وإن كانت سيئة تحل روح براهمان فيه في كائن ذي مرتبة أدنى كأن يكون انسانا بمرتبة أدنى أو جرذا أوأي شيئ آخر . لذلك نرى اخواننا الهنود يقدسون الكائنات مهما كانت ، من الجرذان إلى البقر، ويقدمون الحليب للجراذين لأنهم يعتقدمون أن روح براهمان تحل فيها .. براهمان إله طبقي بامتياز، ويعاقب البشرية حسب هذا المبدأ.
وثمة معتقدات أنصفت القائم بالخلق إلى حد ما ، فاخواننا الصينيين ليس لديهم إله كما في التاو ، وإن كان بفعل هذا ( التاو) يتم كل شيئ ، بدءا بالخلق وانتهاء بالموت . وليس هناك لا حساب ولا عقاب ولا عذاب ..
اخواننا البوذيون لم يحسموا مسألة وجود إله أيضا ولخصوا الأمر بالتوحد مع الوجود بغض النظر إن كان هناك إله أو لم يكن !
أخواننا الشنتويون حسب عقيدة الشنتو في اليابان يقدسون كل شيء لاعتقادهم أن ثمة خالقا يكمن في كل شيء في الوجود.. وليس لديهم حساب وعقاب.. وحسب فراس سواح أن عالما امريكيا سأل راهبا شنتويا بما معناه : لقد زرت معابدكم وشاهدت طقوسكم ولم أعرف شيئا عن دينكم . فقال الراهب : نحن نرقص ! وللإنسان أن يدرك كم ينطوي الرقص على جمال ومحبة وابداع وسعادة ..
اختلفت عقائد البشرية في اجتهادات عقول مبدعيها عبر التاريخ في التفكير في الوجود والقائم به والغاية منه ، فتوصلت إلى ما توصلت إليه من آلاف العقائد دون أن تبلغ الحقيقة المطلقة للوجود والغاية منه . وإن كان المنطق والعلم يقولان حسب اعتقادي" أنّ القائم بالخلق ، هو محبة مطلقة وخير مطلق وجمال مطلق وعدل مطلق ، وطاقة خالقة مطلقة، ويسري بطاقته الخالقة في الوجود كله ، من أبعد نقطة في الكون إلى أصغر خلية في أجسادنا، وبالتأكيد يسمو فوق العذاب والحساب ، وأن غايته من الوجود هي تحقيق قيم الخير والمحبة والعدل والجمال وبناء الحضارة الإنسانية ..
في النصوص الدينية لا يخلو كتاب مقدس من عبارات تدعو إلى العمل والمحبة كما في الاسلام مثلا " وقل اعملوا فسيرى الله عملكم ورسوله والمؤمنون " وبالتأكيد المقصود من هذا الكلام الجميل عمل الخير وليس ( جهاد ) القتل .
ظلم البشر الله ولم يرحموه ، ولم يجتهدوا في أن يرتقوا بأنفسهم وسلوكهم إلى الألوهة العظيمة السارية في أجسادهم والمتمثلة فيها ، لأنهم لا يدركون ذلك. فالله في حاجة إلى البشرية بقدر حاجتها إليه . ولن ترقى البشرية وتحقق حضارة انسانية ما لم تتفق على مفاهيم قريبة من جدا من هذا الفهم ، وتسعى إلى تنفيذها .

*****


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-05-22, 03:22 AM   #20

لامارا

مراقبة عامة ومشرفة منتدى الروايات المنقولة وعضو فريق التصميم و كاتبة في قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية لامارا

? العضوٌ??? » 216
?  التسِجيلٌ » Dec 2007
? مشَارَ?اتْي » 87,659
?  نُقآطِيْ » لامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond reputeلامارا has a reputation beyond repute
افتراضي

(18)

الخوف من البوح بما يعتمل في النفس!


تحاول لمى أن تبدو منشرحة ، غير أن أحزانا دفينة في نفسها تفضح هذا الانشراح ، فحتى ابتساماتها أمام محمود يخالجها حزن ما خفي ودفين ، لا تفلح لمى في الخلاص منه ، إلى حد أن محمود لاحظ ذلك .
- ملامح وجهك تخفي حزنا ما ، حتى أنه يخالط ابتساماتك ، وتقولين أنك لا تريدين أن تثقلي علي بهمومك .. ربما أنت محقة . ليس هناك انسان يخلو مما لا يمكن البوح به . فالنفس الانسانية رغبات وأهواء تفلت من عقالها بين فينة واخرى ، متجاوزة كل الحدود الاجتماعية والمعتقدات الدينية ، وحتى النظم الأخلاقية . خاصة إذا ما مارس الانسان هذه الرغبات بينه وبين نفسه دون أن يسيئ إلى أحد واقعيا .
جهدت لتناسي جراحها التي لامس حديث محمود عمقها. تساءلت :
- ماذا تقصد بذلك ؟
- مسائل كثيرة قد لا يمكن تحديدها.
- مثلا ؟
- كممارسة العادة السرية مع كائن يحبه الانسان !
- هذا أمر عادي ربما يمارسه الناس جميعا ، وخاصة من لديهم القدرة على التخيل ، كالأدباء والشعراء والمفكرين وغيرهم .
- صحيح ، لكن لا أحد يبوح بما يتخيله حتى لو كان أمراً عاديّاً، وحتى البوح بمجرد ممارسة العادة السرية يندر أن يعترف به أحد.
- رغم أنها قد تساعد المرء على تعويض نقص ما يعاني منه في المسألة الجنسية .
- تساعد أو لا تساعد المسألة تتعلق بالبوح أو الاعتراف.
صمتت هنيهة وهي تود لو أنها تجرؤ على أن تسأل محمود عما إذا كان يمارس العادة السريّة ، خاصة وأنه يعيش وحيدا .. قرأ محمود ما هو خلف صمتها، فتطرق إلى الأمر بشكل شبه مباشر:
- الخيال في جانبه الجنسي المتعلق بالآخر يعوض المرء عما يفتقر إليه كما أشرتِ، وخاصة في المجتمعات المتزمتة وغير المتحررة، فيلجأ إليه ويحقق فيه ما هو خارق للعادة، وقد يشعره بمتعة شديدة !
- يا ألله وكأنك تقرأ أفكاري؟
- أنا أتخيل نساء من عالم الأرض أو من عالم السماء ! كنت في الماضي أتخيل بعض الصديقات الجميلات اللواتي لم أستطع الوصول إلى قلوبهن، غير أنني مللت من نساء الأرض، فألجأ في أحيان كثيرة إلى نساء من عالم السماء حتى مع ربّات وملائكيات وحوريّات!
شرعت لمى في الضحك وهي تتساءل:
- يا الله حتى مع ربّات ؟
- الحب مع مع الرّبات مسألة خارقة وإن احتاجت إلى خيال مغرق في الفانتازيا وما وراء الطبيعة ! لقد كتبت عن حبيبتي المتخيلة شعرا ، مع أنني لست شاعرا ولا أعتبر نفسي كذلك رغم قدرتي على كتابة الشعر .
- بجد؟
- طبعا .
- هل تحفظه ؟
- أحفظ بعضه .. هل تحبين أن تسمعي ؟
- بكل سرور!
- أوكيه ! آمل أن تسعفني الذاكرة حتى لا أبحث عن القصيدة في أرشيفي! عنوان القصيدة :
ملكة السماء تنشد سحر جمالها للأديب !
- وأنا يا حبيبي
ستجدني واحدة في سبع
وسأتحول من السبع
إلى سبع أُخريات
ومن السبع الأخريات
إلى سبع أخريات.
سأكون يا حبيبي
كل الحورياتِ
وكل الإنسياتْ
كل السمرِ
وكل البيضِ
وكل القمحياتْ
سأكون الظبية والمهرة
والملكة والملائكية
وسأكونُ ربة الرباتْ
سأكونُ يا حبيبي
كل العاشقاتْ
***
سأكون كل من خطفت قلبك
عبر السنين الموحشة
وضاعت في غيهب الزمن
أو زحمة الطرقاتْ
***
وسأكون يا حبيبي
بكل الشُّعور الخالباتْ:
بشعرٍ حريريٍّ هادلٍ
أو خلاسيٍ عاصفٍ
أسود بدويٍ
أو أشقر روسيٍ
بنيٍ هنديٍ
أو أسمر غجري
ينهمرُ كشلالٍ
أو يتلوى كأفعوان
أو يكتسحُ السهوبَ كما
الظلالِ الغارباتْ
*
يتدلى في خُصَلٍ
أو ينضفرُ بحنانٍ
أو يمورُ كما السنابل في
الحقولِ المخصباتْ
*
يتثنى بدلالٍ
أو يلوح مع الريح
أو يفيضُ على الشطآنِ
كموج البحارِ
الغاضباتْ
*
يُهفهف مع النسيمِ
أو يَفِرُّ كأسرابِ اليمام
الجافلاتْ
*
يحلق في الغمامِ
أو ينداحُ مع العواصف العاتياتْ.
***
وسأكون يا حبيبي بكل العيون:
العيون السود الهائماتْ
والعيون الخضر الساحراتْ
والعيون الزرق الغاوياتْ
والعيون الصُّفر العاسلات
والعيون المكحلة بالألوانِ
المائجاتْ
سأكونُ بعيونِ عيونِ
كل الغجرياتْ
***
وسأكون يا حبيبي
بكل الأعناقِ
الظبيانية والزرافيةِ
والبضة والماسيةِ
وكل الأعناقِ
القاتلاتْ
***
وسأكونُ يا حبيبي
بنهدين:
جَدَّاءينِ أو إجاصينِ
برتقاليينِ أو تُفاحيينِ
وديعينِ كحمامتينِ
أو حائرينِ كبومينِ
صغيرينِ كظلف الرشا
أو كبيرينِ كبازينِ
وسأكون يا حبيبي:
بنهودٍ كاعباتٍ
حانياتٍ كقطوفٍ دانياتْ
وحنوناتٍ كأمهاتٍ هاوياتْ
ناهداتٍ دافقاتٍ جامحاتٍ عابثاتْ
***
سأكون يا حبيبي:
ببطنٍ للتماري
وسُرّةٍ تتضوّع بالمسكِ
وأفخاذٍ أملسَ من الديباجِ
وفمٍ أصغرَ من حبة الكرز
وشفاهٍ كالورود
اليانِعاتْ
*
وبرعمٍ بحجم حبة الفستُقِ
تعبّق بالنَّدِّ
وحُقٍ مُتناهٍ في الصغر
تفوّحَ بالعنبرْ
وخدودٍ بالقبلِ
مغرماتْ
*
ووجناتٍ ناعسةٍ
وخصورٍ ناحلةٍ
ورموشٍ
سابلاتْ
وأردافٍ كالزُّبدِ
وركبٍ ساحرةٍ
وأيادٍ كما الأحلامِ
وسيقانٍ
ماحقاتْ
وأقدامٍ ملائكيةٍ
وأصابع كما الألحانِ
وقدودٍ
مائساتْ
وعظامٍ لشفافية جلدي
بائناتْ
***
سأكون يا حبيبي
كل جميلةٍ:
مرت في التاريخِ
أو خطرت في الخيالِ
أو رسمتها الـرِّيش
أو صقلتها الأزاميلُ
أو خطتها الأقلامُ
على الصفحات

*
إن كانت إنسيةً
أو كانت جنيةً
ملائكيةً أو ربّةً
عذراء أو ثيّباً
من تكوينِ الخالقِ
أو من بدَعِ
المخلوقاتْ
*
سأكونُ يا حبيبي يا حبيبي
سا سا سأكون سأكون:
عشتارَ، وإيزيسَ
دليلة وأستيرْ
ليلى وسارانيو
أثينا وممتاز محل
وحواء
وسموراماتْ

*
سونيا وجرتشن
أمَلَ ‍‍!! والموناليزا
ناتاشا!! ودُلثينا
المجدلية وراحاب
واوروبا
وأُفرودايت
*
هيلانة وبلقيس
كليوباترا وزنوبيا
إلزا وبياترتشي
وإنانا
وعناتْ
***

سأكون يا حبيبي:
كلَّ جميلةٍ كانت
وكلَّ جميلةٍ لم تكنْ
وكلَّ جميلة يمكن
أن تكون
سأكون يا حبيبي
الجنونْ
سأكونُ الأجملَ والأكملَ
منذُ خلق
الكائناتْ
*
لنتوحد يا حبيبي
أنا وأنتَ
وأنتَ وأنا
ونحنُ ونحنُ
مع الوجودِ
ونندغم في خضمِّ
الرعش الكوني
ونشوة الروح
والمكانِ الأبديِّ
والأزمنةِ
الخالداتْ
******
توقف محمود وراح يزفر متنفسا في محاولة للراحة، والخروج من الحالة التي ألقى بها القصيدة فيما لمى تردد :
" يا الله هذا شعر يجنن ، لم أسمع شعرا بهذا الجمال من قبل ، وإن شعرت أمامه أن جمالي وجمال نساء الأرض كلهن ليس شيئا يذكر أمامه !
" تشكري عزيزتي .. إنه جمال المرأة في بعض أهم رموزها التاريخية في الأدب والأسطورة والمعتقدات والحياة .. في الحقيقة ثمة بعض التناص والتأثر في هذا الشعر ببعض الشعراء ممن قرأت لهم أو استمعت إليهم في حياتي، وثمة تأثر حتى بالنص القرآني ، ومع ذلك تبقى خصوصيتي وثقافتي الصوفية المختلفة .. ويا ليتني أستطيع العودة إلى هذه النصوص لأرى إلى أي حد تأثرت بها وماذا أضفت إليها أو أخذت منها "
" الشعراء يؤثرون في بعضهم في العادة ، ربما تأثرت بنزار قباني أكثر من غيره "
" تأثرت بالقليل من أشعار نزار، لكن التأثير الأغلب لشاعر صديق كان يسمعني معظم ما يكتبه من أشعار.. ولا أعرف إن نشر كل ما سمعته منه . لأننا افترقنا ، وثمة تأثر بآخرين كدرويش وأدونيس، ومع ذلك تظل خصوصيتي المغرقة في الخيال والتصوف والفهم المختلف، ماثلة في القصيدة . هناك أشعار لي لا أظن أن فيها تأثرا بأحد . المشكلة أنني لست شاعرا ولا أريد أن أكون رغم إحساسي بحاجتي إلى الشعر في بعض الأحيان ، ما دفعني لكتابة بعض الأشعار.. مثلا، استفزني محمود درويش ذات يوم ، فشرعت في نقد بعض شعره شعراً "
" يا ألله كم أحب أن أسمع هذا الشعر، خاصة وأنه نقد لشعر شاعرعملاق بحجم محمود درويش"
" هل قرأت درويش؟ "
" قليلا "
" وعرفتِ من هذا القليل أنه شاعر عملاق؟ "
" للأسف لا .. عرفت من تركيز الاعلام عليه "
" إن أردت رأيي . يمكنني القول إنه شاعر كبير، لكنه ليس عملاقا ، ليس بحجم الجواهري مثلا ، وليس بحجم المتنبي ، وليس بحجم عشرات من أمثال هؤلاء ، سواء في زمننا أو الزمن الماضي.. وفي الساحة الفلسطينية والعربية ثمة شعراء لا يقلون أهمية عن درويش ،وربما يتفوق بعضهم عليه في بعض قصائدهم .. المشكلة في الاعلام الذي يكرس في العادة ما هو مكرس ، أو ساعدته الظروف لأن يعرف ويبرزأكثر من غيره " في الساحة الفلسطينية كرس اثنان فقط " محمود درويش كشاعر وغسان كنفاني كروائي . وإن لمعت بعض الأسماء الأخرى فهي لمعت بجهدها وجلدها ومثابرتها كابراهيم نصر الله مثلا ، وليس بفعل ظروف معينة ساعدت على الأمر."
" دخلنا في موضوع آخر غير قصيدتك "
" صحيح . يمكن أن أقرأ لك بعض أشعاري عن شعر درويش في مناسبة أخرى . هل وصل إليك خلاصة الفكر في القصيدة ، ما الذي أرادت أن تقوله أو تصل إليه ؟"
" شعرت انني أمام قصيدة صوفية تمثل المرأة عبر التاريح من الإنسانة إلى الربّة كما أشرت أنت .. وأن الحب الذي تنشده رغم كل هذا التعدد الأنثوي هو حب صوفي يقود إلى التوحد بالوجود، أو بالذات الخالقة الإلهية ، ليبقى إلى الأبد"
" صحيح ! أنت فهمت القصيدة بشكل جيد "
" أشكرك هذا يعني أن دراستي لم تذهب سدى "
" يبدو ذلك . ثم إن الموضوع الأساسي الذي خرجنا عنه هو الحزن الذي ألمسه في ملامح وجهك ويرافق ابتساماتك ، وعدم رغبتك في أن تثقلي علي بهمومك ، مع أنني أعتقد أن زيارتك لي قد تكون إحدى الدوافع للبوح لي بما يقلقك مما قد يريح نفسك "
" أكيد . لكني أتخوف من ذلك ، لأن ما جرى معي وما زال هو فوق التصوّر .. ليس مجرد عادة سرية يمارسها البشر جميعا .. وآمل أن تأتي لحظة ما أجرؤ فيها على مصارحتك ، والبوح لك "
" على راحتك . لقد فاتنا وقت الغداء .. ألن تتغدي؟"
" بلى "
" ادعوك لنتناول الغداء معا "
" أشكرك"
ودخل إلى غرفة النوم ليأتي بلوحة ويكتب عليها اهداء ويقدمها لها .
" أنت تخجلني بكرمك "
" هه ! هذا ليس كرماً .. إنه لا شيء. هيا لنبحث عن مطعم قريب في اللويبدة "

*****


لامارا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:21 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.