آخر 10 مشاركات
471 - فرصة العمر الأخيرة - جاكي براون - أحلام الجديدة ( كتابة / كاملة )* (الكاتـب : * فوفو * - )           »          روزان (الكاتـب : نورهان عبدالحميد - )           »          هذه دُنيايْ ┃ * مميزة *مكتمله* (الكاتـب : Aurora - )           »          وَ بِكَ أَتَهَجَأْ .. أَبْجَدِيَتيِ * مميزة * (الكاتـب : حلمْ يُعآنقْ السمَآء - )           »          490 - رقصة تحت ضوء القمر - روبين دونالد (عدد جديد) (الكاتـب : Breathless - )           »          ابرياء حتى تثبت ادانتهم ، للكاتبة الرائعة حلم يعانق السماء ، عراقيـة (مميزة) (مكتملة) (الكاتـب : *انفاس المطر* - )           »          312-الطرف الثالث -روايات دار الحسام (الكاتـب : Just Faith - )           »          353 - رياح الجمر - ريبيكا ونترز (الكاتـب : حنا - )           »          صقور تخشى الحب (1) *مميزة ومكتملة* سلسلة الوطن و الحب (الكاتـب : bella snow - )           »          التقينـا فأشــرق الفـــؤاد *سلسلة إشراقة الفؤاد* مميزة ومكتملة * (الكاتـب : سما صافية - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

Like Tree508Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 28-03-20, 09:38 PM   #11

منال سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية منال سالم

? العضوٌ??? » 358950
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 1,488
?  مُ?إني » بورسعيد - مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » منال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك max
?? ??? ~
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
?? ??? ~
My Mms ~
Rewitysmile9 الفصل الثامن






الفصل الثامن





كوعاءٍ موضوعٍ على موقد مشتعل ويحوي مياه تغلي حتى تقطعت اندفعت صاعدة إلى منزلها وكلماتها الحانقة تخرج من بين شفتيها، احتقنت نظراتها أكثر، واِربد وجهها بعلامات الغضب المحموم، وقفت "حمدية" أمام باب منزلها تفتش عن مفتاحها في محفظة يدها، تصاعد غضبها أكثر مع تذكر إهانة تلك المستفزة لها، همست قائلة وهي تكز على أسنانها

-والله لأولعها حريقة، وهانشوف مين هايضحك في الآخر يا بنات "آمنة"!

جال ببالها أن تشوه الحقائق وتختلق الأكاذيب، برقت عيناها بوهجٍ شيطاني لئيم، تحولت في لحظة لأفعى ماكرة تحيك المؤامرات لتوغر الصدور وتزرع الفتن، حاولت أن تستعيد أي ذكريات حزينة في رأسها لتساعدها على استدعاء عبراتها، ثم بدأت في النواح وهي تدس المفتاح في قفله، انفتح الباب فرفعت صوتها المنتحب قائلة بنبرة أقرب للتحسر:

-بقى دي آخرتها، أه ياني يامه، مكنش العشم!

رفع "خليل" أنظاره عن الأوراق المفرودة على الطاولة أمامه والتي بدا منهمكًا في دراستها ليتطلع إليها باستغرابٍ، ضاقت نظراته متسائلاً بفتورٍ محسوس:

-مالك يا "حمدية"؟

ألقت بجسدها على الأريكة ثم أحنت رأسها على صدرها لتخبئ وجهها خلف يدها، وواصلت نحيبها بنبرة كانت إلى حد ما مفتعلة، ضجر زوجها من مماطلتها فصاح بها بنفاذ صبرٍ:

-يا ولية في إيه؟

ادعت مسحها لدموع التماسيح الزائفة، وقالت له بندمٍ أثار حفيظته:

-شايف يا أخويا بنات أختك عملوا فيا إيه؟ كله بسبب طيبتي وحنية قلبي!

مل من ثرثرتها الزائدة عن الحد والتفافها حول أساس المشكلة، لذا هدر بها بتذمرٍ:

-ما تنطقي عملوا إيه الطواعين دول؟

جاوبت ما طرحه بمزيد من الغموض المستفز له:

-لأ وأنا اللي زي الهبلة نزلت أخد بخاطرهم وأقولهم يطلعوا يصالحوك والمياه ترجع لمجاريها

نفخ في استياءٍ من طريقتها الملتوية في الإشارة للأمور، حاول السيطرة على أعصابه ليسألها من جديد:

-أنا مش فاهم حاجة، وضحي كلامك.

تنحنحت قائلة بنبرة متقطعة متوسلة إياه:

-هاقولك يا "خليل"، بس بالله عليك ما تعملهم حاجة، هي غلطتي من الأول.

-ماشي

تركزت عيناه عليها وهي تسرد أكذوبتها المقنعة بما يجعلها في موضع المجني عليها وليس المتطفلة الخبيثة، حيث ادعت كذبًا أنها ذهبت للحديث مع ابنتي أخته لإعادة روابط الود بينهما وبين خالهما، لكن عاملت الاثنتان إياها بأسلوب فظٍ ووقح وتتطاولتا عليها بكلماتٍ مهينة مما أحرجها للغاية، استشاطت نظراته حنقًا مما سمعه، ببساطةٍ شديدة نجحت في استفزازه واستثارة أعصابه المتوترة .. ضرب بيده بعصبيةٍ على الطاولة لتهتز بما عليها صائحًا وقد هب واقفًا:

-أما بنات قليلة الأدب بصحيح متربوش ولا عرفوا تربية، عاوزين قطم رقبتهم..

أخفت عينيها الماكرتين وهي تكمل:

-ما هو لو كانوا بيعملولك حساب، كانوا احترموك وقدروا نزلة مراتك ليهم

حقًا كانت ماهرة في انتقاء الأسوأ من التعبيرات لتنشر الحقد والكراهية بين النفوس، تقدم نحوها "خليل" ليربت على كتفها وكأنه يهدئها، بدا صوته متهدجًا منفعلاً وهو يقول لها:

-معلش يا "حمدية"، حقك عليا..

أغاظتها تلك الكلمات التي أوحت لها بسلبيته تجاه الموقف، تضاعف إحساسها بالضيق منه، خشيت أن يخذلها ويقف كالمشاهد تاركًا إياها تحترق بغيرتها وحقدها، لهذا عمدتٍ إلى زيادة الطين بلة بالاسترسال قائلة:

-كله من أختك، لو كانت وقفتلهم ومنعتهم من المسخرة دي كانوا اتلموا، بس نقول إيه؟ هي اللي مشجعاهم على الفُجر ده، أل وعملالي متمسكنة وغلبانة، ياما تحت السواهي دواهي!!

عكست نظراته نحوها كراهية بائنة بعد أن تلفظت بتلك الجمل المليئة بالبغضاء، وجهه المشبع بغضبه ازداد تقلصًا، حملق فيها قائلاً:

-اصبري عليا بس أخلص مراجعة الجرد السنوي للمخازن وحسابات الموظفين وأفوقلهم...

التقط أنفاسه ليضيف بقسوةٍ متوعدة:

-وساعتها هاجيبهم تحت رجليكي يعتذرولك!

زمت شفتيها لتقول في عدم اقتناعٍ ونظرة ساخطة تظهر على تعبيراتها بوضوحٍ جلي:

-أما أشوف ...

...........................................

نفخ الهواء الذي استنشقه دفعة واحدة حينما وقف أمام أعتاب المنزل ليستعد نفسيًا لتلك المواجهة مع "خلود"، خطيبته التي تعشقه بكل جوارحها، تمنى أن تكون والدته قد عالجت الموقف الذي لا ناقة له فيه أو جمل سوى أنه وجد تلك الأشياء واحتفظ بها دون أن يعرف صاحبتها .. رفع "تميم" يده للأعلى ليقرع الجرس، تنفس بعمقٍ ورسم تلك البسمة الثقيلة الباردة على محياه ليبدو لطيفًا حينما ينفتح الباب، تأهبت حواسه وقد أطلت خالته منه ترمقه بنظرة عبرت عن امتعاضها، لاحظ تجمد نظراتها على الكدمة التي تزين وجهه، بدت كما لو كانت سعيدة لذلك، وبتكشيرة ظاهرة على جانب شفتيها سألته:

-إزيك يا ابن أختي؟

رد مرحبًا بها:

-الحمدلله، أخبارك إيه يا خالتي؟

تنهيدة بطيئة خرجت من جوفها قبل أن تقول:

-نحمده على كل حال..

سألها في لباقةٍ بعد أن لاحظ أنها تسد الطريق عليه لتمنعه من الدخول للمنزل بشكلٍ غير مباشر:

-مش هاتقوليلي اتفضل؟

تنحت ببطءٍ للجانب ليمر بجوارها ووجهها ما زال محتفظًا بتعابيره المزعوجة، التفت برأسه نحوها يسألها:

-"خلود" صاحية؟

أجابت في سخط:

-وهي من امتى بتنام الميعاد ده؟!

تصنع "تميم" الابتسام كبديلٍ عن الرد عليها، اتجه تلقائيًا للصالون حيث اعتاد الجلوس به حينما يلتقي بها، تبعته وكأنها ظله ثم جلست في مواجهته مسلطة عينيها عليه وهي تسأله مباشرة:

-قولي بقى، إنت ورا لوية بوزها؟

انزعج منها، ومع ذلك رد عليها متسائلاً بما يشبه المراوغة حتى لا يُشبع فضولها:

-هي قالتلك كده؟

هزت رأسها بالنفي وهي تجاوبه:

-لأ .. بس أنا خمنت.

استقام في جلسته واشتد كتفاه معقبًا عليها:

-طالما مقالتش يبقى متصدقيش كل حاجة تشوفيها يا خالتي!

اختلج وجهها من جملته تلك فحذرته بلهجةٍ شديدة:

-شوف يا ابن "بدير"...

ظهر الضيق عليه لمناداته هكذا، بذل مجهودًا مضاعفًا ليبدو ثابت الملامح أمامها حتى لا يمنحها فرصة الاستمتاع بإزعاجه، في حين تابعت "بثينة" تهديدها الضمني بلهجة صريحة:

-اللي هيقرب من ولادي ولا يفكر يأذيهم هاقرقشه بسناني وأكل لحمه ني، واللي بس يمس شعرة منهم هيلاقيني واقفة في وشه، كفاية أوي خسارتي في أبوهم زمان بسببكم!

ظل كعادته رابط الجأش قبالتها حينما تشرع في الحديث عن الماضي وإلقاء التهم على الآخرين متغافلة عن قصدٍ عن حقائق الأمور، ثم رد عليها ببرودٍ وكامل عيناه مثبتة عليها:

-بلاش نفتح لبعض الدفاتر القديمة!

نهضت من أمامه تقول:

-أديني بأعرفك، زعل "خلود" مش هاسكت عليه!

رمقها بنظرة جافة وهو يؤكد لها:

-اطمني .. أنا مش من النوع ده، بس شكلك نسيتي مين ابن الحاج "بدير"!

تطلعت إليه بعينين حادتين، ما زال قادرًا على الاحتفاظ بكرامته دون مساس، بدا وكأنه قد سيطر على الموقف واستعاد قدرته على التحكم بمجريات الأمور مع كلماته الأخيرة تلك، اكتست خلجاتها بقليلٍ من الضيق وهو يضيف بوقاحةٍ:

-ومعلش ناديهالي، أصلي مش فاضي!

انصرفت منه أمامه لتستدعي ابنتها التي كانت مشغولة بإجراء مكالمة هاتفية مع ابنة خالتها، لوحت "خلود" بيدها لأمها كتعبير عن فهمها لإشارتها، تغيرت كليًا عن الصباح، كانت أكثر ارتياحًا وهدوئًا، حتى بكائها غير المفهوم قد تلاشى وكأن شيئًا لم يحدث .. وبيدها المتحررة ضبطت حجاب رأسها، وشدت فستانها على جسدها ليبدو مفرودًا، ثم دنت من "تميم" راسمة ابتسامة رقيقة على محياها وهي تنهي اتصالها بمرحٍ لطيف:

-ماشي يا "هاجر"، هنتكلم تاني، سلام يا حبيبتي.

كانت على وشك الترحيب بخطيبها الذي هب واقفًا ليسألها بخشونةٍ:

-ممكن أفهم في إيه؟

أطرقت رأسها معتذرة كطفلة صغيرة أخطأـ التصرف:

-أنا أسفة.

رد متسائلاً بوجهٍ جاد للغاية في تعبيراته:

-ده على إيه بالظبط؟

رفعت عينيها لتتطلع إلى في ندمٍ آسف، لكن ما لبث أن تحولت نظراتها للخوف وتعابيرها للقلق حينما رأت ما حل بوجهه، جُزع قلبها وهتفت تسأله في لوعةٍ وتلهفٍ:

-إنت مال وشك، حصلك إيه..

ضغط على شفتيه رافضًا الإجابة عليها، انخفضت عيناها لتنظر إلى كفه الملفوف بشاشٍ طبي، وضعت يدها على فمها تكتم شهقتها المذعورة، نظرت له مرددة بارتعابٍ:

-الله وإيدك كمان؟ طمني عليك يا حبيبي إنت كويس؟

-أيوه

-طب ده من إيه؟!

تجاهل الإجابة عن أسئلتها ليرد بضيقٍ:

-مش موضوعنا، احكيلي اللي حصل

أدركت "خلود" تفاقم المشكلة التي تسببت فيها دون داعٍ من خشونته معها، أطرقت رأسها من جديد في حرجٍ، واستطردت بربكةٍ ظاهرة في نبرتها:

-ده.. كان سوء تفاهم.. وخلاص اتحل..

شعر "تميم" بالارتياح يتخلله بعد أن فطن لنجاح خطة والدته في خداعها، لم يحبذ استخدام تلك الطريقة معها، فهي مناقضة لطبيعته، لكنها كانت الأمثل لتلافي تطور المشكلة، ومع ذلك حافظ على رسمية ملامحه متسائلاً ليبدو أكثر إقناعًا:

-قصدك على توكة "هاجر"؟

أومأت برأسها إيجابًا بدلاً من الرد عليه، ثم أضافت:

-أنا افتكرت إنها ...

لم يحبذ "تميم" التطرق أكثر في تلك المسألة السخيفة وإعطاها أكبر من حجمها، لذا قال بحسمٍ ومنهيًا الخلاف بينهما:

-"خلود"، أنا يوم ما أحب أعمل حاجة هاعملها في النور، مش أنا اللي أوعد واحدة بالجواز، وأمشي مع واحدة تانية!

ظهر الندم في عينيها جليًا خاصة حينما استفاض موضحًا:

-ولو مكونتش عاوزك يا بنت الحلال مكونتش كملت معاكي حتى لو مين أجبرني على ده، بس إنتي برضوه مش قادرة تفهميني..

كلمات كالسياط هبطت عليها فأوجعتها بشدة، أحست بغصة مريرة تؤلم حلقها وهي تبرر له تصرفها:

-قدر موقفي يا "تميم"..

غص صدرها بالبكاء مستعيدة ذلك المشهد في رأسها، أعادت وصفه قائلة:

-أنا.. لاقيت خالتي بتحكي عن حاجات واحدة تانية، وكأنها مني، وأنا معرفش عنها حاجة، تفتكر إيه اللي هايجي في بالي؟

رد عليها يسألها بما يشبه العتاب:

-طالما مش واثقة فيا، يبقى إزاي هنتجوز يا بنت الناس؟

اختنق نبرتها أكثر وتحولت للبكاء، كما تجمعت العبرات في عينيها بكثافةٍ وشكلت سحابة ضبابية حينما همست بما يشبه الاستجداء:

-"تميم" أنا بأحبك! مقدرش أتصور إنك بتفكر في غيري، أو حتى أقدر أعيش من غيرك ..

أوجعته صراحتها الصادقة، هي تعشقه حتى النخاع، متيمة به بجنون، لا ترى في حياتها سواه، ولا يوجد حدًا لعواطفها الجياشة نحوه، بينما مشاعره ناحيتها عادية لن تصل مطلقًا للهيام، لكن القليل من الاهتمام يرضيها، حدق فيها بشرودٍ حائر، فماذا إن استحالت الحياة بينهما بعد الزواج؟ استغلت صمته لتضغط عليه ورجته بنبرتها المستعطفة وعينيها الدامعة:

-حقك عليا، عشان خاطري سامحني، أنا عرفت غلطي.

ظلت تعابيره جامدة وهو يتطلع إليها، ثم استطرد ينصحها:

-عمومًا ابقي حكمي عقلك يا "خلود" قبل ما تحكمي عليا، ده لو عاوزة عيشتنا تمشي سوا!

ازدردت ريقها وهزت رأسها بإيماءات متكررة مؤكدة له:

-حاضر، مش هايحصل تاني

اكتفى بحركة بسيطة من رأسه وقال بعدها بجديةٍ:

-أنا ماشي

انتفضت من رحيله المفاجئ فهتفت مصدومة:

-إيه ده؟ مش هاتقعد معايا شوية؟

حرك رأسه نافيًا، اعترضت طريقه قائلة بإصرارٍ حينما همَّ بالرحيل:

-طب استنى أعملك حاجة سخنة تشربها

زفير مرهق خرج من جوفه قبل أن يعتذر:

-مرة تانية يا "خلود"، تعبان من الصبح، وإنتي شايفة شكلي عامل إزاي، ده غير إن لسه عندي شغل أد كده عاوز أخلصه.

قالت في رقة وقد استعادت حيويتها:

-ربنا يقويك يا حبيبي، لسه زعلان مني؟

تقوست شفتاه لتظهر ابتسامة صغيرة وهو يرد:

-لأ

تضرج وجهها بحمرة باهتة وقد تدللت لتقول له في نعومة:

-هتوحشني لحد ما أشوفك تاني، خد بالك من نفسك.

اكتسب صوته إيقاعًا هادئًا وهو يرد:

-إن شاء الله، عاوزة حاجة مني؟

-لأ يا حبيبي

قالتها بنعومة أكبر قبل أن تصحبه نحو باب المنزل، لوحت بيدها تودعه، وانتظرت للحظات حتى هبط الدرجات، أغلقت الباب بهدوءٍ، ثم استدارت بجسدها وعلى وجهها ابتسامة بشوشة، سريعًا ما اختفت وحل الانزعاج كبديل عنها وقد بدأت والدتها في تعنيفها، فقالت لها:

-أنا مش عارفة إنتي مدلوقة عليه كده ليه؟

ردت بعبوسٍ:

-عشان بأحبه

نظرت لها شزرًا وهي تكمل:

-يا بت اجمدي كده واتقلي عليه بدل ما يبيع ويشتري فيكي،!

اتخذت الصمت سبيلاً أمام كلامها الذي لا تعتد به حينما يخص حبيب قلبها، سارت في اتجاه غرفتها ووالدتها تتبعها مكملة تحذيراتها الجادة:

-اللي زي "تميم" ده نمرود، مش هايقدر اللي بتعمليه عشانه، بكرة يتفرعن عليكي

التفتت ترد بعنادٍ:

-برضوه هاحبه، القلب وما يريد يامه، وأنا مش عاوزة إلا هو!

علقت عليها في استنكارٍ:

-بكرة يوريكي النجوم في عز الضهر.

-مش هايحصل

-خلاص اسمعي كلامي وإنتي تكسبي

عضت على شفتها السفلى وتطلعت إلى والدتها بنظرات ساهمة، ثم عقبت عليها:

-أنا عاوزة أسمع كلامه هو وبس

حدجتها "بثينة" بنظرة نارية حادة مستاءة من سذاجتها، ثم وبختها بانفعالٍ ظهر في صوتها وتعبيراتها:

-خايبة زي اللي خلفتك، بكرة تجيلي تعيطي، وساعتها هتعرفي إن الله هحق!

ألقت حديثها وراء ظهرها واكتفت بالسعادة التي احتلت روحها بعد تصالحها مع "تميم"، لم يتبقِ سوى القليل لتكون في عصمته، بضعة أيام وتصبح حرمه المصون، لكنها لم تكن تعلم أن بداية معاناتها الحقيقية ستبدأ بمجرد أن يصيرا زوجين.

.................................................. .............

لاحقًا، وبعد بضعة أيامٍ .. سدد نظرة عميقة متأملة لهيئته التي بدت غير مألوفة بالنسبة له في انعكاس وجهه بالمرآة بعد أن ارتدى بدلة عرسه، عدَّل من وضعية البابيون الذي يمزج بين اللونين الأبيض والأسود ليصبح في المنتصف، شعر بالغرابة والتوتر، وبالرغم من كونه على دراية بميعاد زواجه إلا أن حدوثه فعليًا كان مدعاة للقلق، لا يعرف كيف مرت الأيام سريعًا ليصل لليلة المنشودة، علل ذلك بكونه مشغولاً للأغلب الوقت فالتهى عن التفكير في تبعات الزواج.. زفرة طويلة بطيئة خرجت من صدره مستديرًا نحو المصفف ليكمل باقي عمله، ظهر "تميم" وسيمًا نوعًا ما بعد نجاح الأخير في العناية به وإظهاره بشكلٍ يليق بتلك الليلة المميزة؛ فحلق ذقنه النابتة، ورطب بشرته المتيبسة ببعض الكريمات المرطبة فأكسبها اللين، كذلك هذب خصلات شعره المتناثرة بأحد مستحضرات العناية بالشعر ليظل ثابتًا لأطول فترة ممكنة.. تساءل الأخير بابتسامة عملية قاصدًا مدح زبونه السخي:

-تمام كده يا ريس؟

هز "تميم" رأسه في استحسانٍ، وأجابه:

-زي الفل.

نثر المصفف مادة لامعة على طرفي ياقة بدلته السوداء كنوعٍ من منحة لمسة إضافية مختلفة ليبدو أكثر أناقة عن ذي قبل مع إفراطه في استخدام العطر الخاص ليزكم أنف عروسه برائحته الطيبة، أشار له "تميم" بيده ليتوقف فامتثل له، ثم دس يده في جيب بنطاله القماشي وأخرج منه حفنة من النقود وطواها في راحته، مد بها كفه نحوه يشكره:

-تعبتك معايا.

رد المصفف مهللاً بعد أن لمح المبلغ الكبير الذي أعطاه له:

-يا باشا ده إنت تؤمر.

ثم أفسح له المجال ليمر ويخرج من صالون الحلاقة حيث ينتظره "محرز" بجوار سيارة العائلة السوداء ذات الطراز القديم نسبيًا -بالرغم من كونها ماركة مرسيدس- والتي تستخدم في تنقلات أفراد الأسرة، ألقى عليه نظرة إعجاب يمتدحه بها وهو يصيح عاليًا:

-مبروك يا عريس.

اقترب منه "تميم" ليصافحه وعينيه تجوب على شرائط الزينة البيضاء التي تغطي جانبًا لا بأس به من زجاج السيارة الأمامي، لكن "محرز" جذبه من كفه نحوه ليحتضنه وربت على ظهره بخشونةٍ، ثم مازحه بسخافةٍ عكست تلميحًا خارجًا:

-عاوزينك ترفع راسنا النهاردة، ولا تحب أقولك تعمل إيه؟

رمقه "تميم" بنظرة قاتمة لا تقبل الهزل في مثل تلك الأمور الخاصة جدًا، وإن كانت على سبيل الدعابة والمزاح، لذا أحرجه قائلاً:

-مايخصكش.

تجاوز "محرز" عن رده الجاف ليقول بابتسامته اللزجة:

-طول عمرك جامد يا "تميم"

رد عليه بانزعاجٍ:

-إنت هتؤر عليا ولا إيه؟

افتعل الضحك معلقًا عليه:

-على رأيك، ما يحسد المال إلا أصحابه، وإنت مال وحسب ونسب وهيبة و...

قاطعه منهيًا الحوار:

-ارحمني، أنا مش ناقص

قال ببرودٍ سمج:

-ماشي يا عريس، كلنا كنا زيك كده، وكله بيعدي في الآخر

حاول "تميم" أن يتمالك أعصابه حتى لا تنفلت، اتجه إلى السيارة ليجلس كعادته في الأمام لكن استوقفه "محرز" صائحًا:

-عندك يا عريس، ده أنا اللي هاوصلك بنفسي

أشار بيده معترضًا:

-البيت هنا، مش حكاية هي!

حاول احتلال المقعد الأمامي ليقول بضحكة مصطنعة:

-والله ما يحصل، ده أنا نادرها.

غمغم "تميم" مع نفسه مرددًا في تأفف ممتعض وهو يطالعه بنظراته المزعوجة:

-ربنا يخلصني من الشبكة السودة دي على خير، هو أنا كنت ناقصه.

.................................................. ........

تصفيقات مصحوبة بالزغاريد العالية والضحكات المرتفعة الخليعة تخللت تلك الجلسة النسائية البحتة في غرفة نوم العروس بمنزل عائلتها كتعبير عن فرحة قريباتها وصديقاتها بتزويجها، بضعة نصائح هامسة عن أسرار السعادة الزوجية تناقلتها الألسن لتشجع تلك الفتاة الخجول على التعامل بجرأة ممزوجة بالحب والدلال مع زوجها حتى تضمن بقائه أسيرًا لرحيق عشقها، تلون وجهها بألوان الحياء وأشاحت ببصرها بعيدًا في خجلٍ أكبر مع كل تلميحٍ ذو دلالة، عجزت عن الرد أمام جراءتهن الوقحة، وطلبت منهن التوقف، لكنهن أبين الإصغاء واستمتعن فيما يفعلن .. وضعت خبيرة التجميل ذائعة الصيت اللمسة الأخيرة على وجهها بعد أن أصرت الأخيرة على تجميلها في المنزل، أتقنت الأولى تضخيم شفتي العروس بأحمر الشفاه لتبدو جذابة ولافتة، كذلك استخدمت فرشاتها لتضيف القليل من الحُمرة على وجنتيها فتخفي ذلك الشحوب والإرهاق فتظهر فاتنة، خاطفة للقلوب.

اشتعلت الأجواء حماسًا مع قيام أحداهن بالرقص والتمايل بميوعة واحترافية وكأنها ولدت هكذا، صفقت المتواجدات لها بحماسٍ لتزيد في رقصها، ثم جذبت أخرى لتشاركها تلك الوصلة المرحة، انتبهت "خلود" وسط ذلك الصخب الدائر لأصوات أبواق السيارات، قفز قلبها بين ضلوعها رهبةً وسعادة، استدارت تبحث بعينيها عن والدتها بين الجالسات، ثم أشارت لها بنظراتها لتأتي إليها، مالت "بثينة" ناحيتها فاشرأبت ابنتها بعنقها تسألها في تلهفٍ وصدرها يعلو ويهبط بشكلٍ ملحوظ

-هو "تميم" جه يا ماما؟

أجابتها مبتسمة:

-واقف تحت يا حبيبتي.

وضعت "خلود" يدها على صدرها النابض بقوةٍ تتحسسه، أحست بربكة عظيمة تجتاح كيانها، برقت عيناها وتصلب جسدها حينما أردفت أمها تسألها:

-ها أشاورله يطلع؟

ردت على الفور:

-أيوه...

لكن ما لبث أن سيطر عليها التردد الخائف فتراجعت قائلة:

-ولا أقولك استني.

نظرت لها "بثينة" في استغرابٍ، في حين ألقت "خلود" نظرة مدققة على هيئتها المختلفة في ثوب العروس تتأمل كل تفصيلة فيها، بدءًا بوجهها ومساحيق التجميل التي تغطيه، ومرورًا على حجابها الأبيض الذي يزين رأسها، وانتهاءً بثوبها البراق المرصع بالقطع الكبيرة اللامعة عند صدره فقط لينسدل على جسدها بانتفاخٍ ملحوظ بسبب طبقات القماش المتراكمة فوق بعضها البعض، شعرت بالرضا عن حالها، ومع ذلك سألت والدتها لتمنحها ثقة أكبر:

-ها كده شكلي حلو؟

طمأنتها والدتها بتفاخرٍ وزهو:

-زي البدر في تمامه.

عادت لتتساءل بارتباكٍ وقد زاغت أنظارها:

-تفتكري هاعجبه ولا ...؟

وضعت "بثينة" قبضتيها على كتفي ابنتها، شددت من ضغطها عليهما وهي تقول لها بجدية بعد أن اكتسب وجهها تلك اللمحة الصارمة:

-خليكي واثقة في نفسك، إنتي زي القمر، هو كان يطول يتجوز واحدة زيك أصلاً؟

أطرقت رأسها وهي تصغي لباقي حديث والدتها الجاف:

-ده إنتي ضيعتي مستقبلك عشانه! يعني المفروض يحمد ربنا..

حملقت "خلود" بنظرة مستنكرة مندهشة وقد باحت والدتها علنًا وعن قصدٍ:

-وفي الآخر هيتقال اتجوزت واحد سوابق وخريج اللومان! فخليني ساكتة أحسن!

عاجلتها ابنتها قائلة باستهجانٍ حتى لا تتمادى معها:

-بلاش يا ماما تنكدي عليا في اليوم ده!

ردت بوجهٍ امتلأ بالوجوم:

-إنتي اللي بتخليني أتكلم، وأنا مش ناقصة أصلاً.

قالت لها معتذرة:

-أنا غلطانة، حقك عليا، ممكن يامه مانفتحش السيرة دي تاني

أومأت برأسها مرددة على مضضٍ:

-طيب

تضرعت "خلود" في نفسها وقد بدأت الهواجس تطاردها بعد ذلك الانزعاج الرافض الذي لامسته في حديث والدتها:

-يا رب عدي اليوم على خير، أنا مش مصدقة فعلاً إني هاتجوزه!

.................................................. ....

انتفضت، وتوترت، وارتعشت كل أطرافها مع سماعها لصوته الذي تعشقه يصدح خرج غرفتها، تجمدت في مكانها مستشعرة تلك الرجفة اللذيذة الفرحة التي أصابت حواسها، حاولت أن تضبط إيقاع قلبها السريع لكنها فشلت، فكل ذرة فيها تتمناه وتريده بالأمسِ قبل اليوم، خلت الضوضاء المحيطة بها إلا من نبرته المميزة، أسرتها فبدت كالمسحورة وهي تحت تأثيرها القوي، جذبتها والدتها من ذراعها برفقٍ لتحثها على الخروج من غرفتها وهي تصيح عاليًا:

-طلي على عريسك يا عروسة، ماتسمعونا زغرودة يا حبايب!

انطلقت الزغاريد من الخلف وقد خطت "خلود" في الردهة لتتقدم نحو الصالة حيث يتواجد "تميم"، نظرة خاطفة اقتنصتها نحو وجهه لتجده محدقًا بها بنظرات مطولة، سؤسعًا أخفضت عينيها ولم تجرؤ على النظر إليه مجددًا من فرط خجلها المختلط بحماسها؛ إنها ليلة زفافها الحالمة. توقفت عن السير حينما أصبحت قبالته، رفعت عينيها لتطالعه بنظراتها الهائمة الناعسة، بادلها نظرات لطيفة تعكس إعجابه بها، تنحنح في خفوت قبل أن يهنئها:

-مبروك.

ردت بخجلٍ كبير وهي تتحاشى النظر إليه:

-الله يبارك فيك.

وقف إلى جوارها حتى تتأبط ذراعه، شعر برجفتها وهي تستند عليه، ابتسم في هدوءٍ ولاذ بالصمت مكتفيًا بالإيماء برأسه وهو يتلقى التهنئات ممن حوله. توترت "خلود" من سكوته فاعتقدت في وجود خطب ما ربما لم يعجبه يخص ثوبها أو زينتها، لذا استدرجته في الحديث تسأله قبل أن يتجها لخارج المنزل:

-مقولتليش الفستان عجبك؟

رد باقتضابٍ وقد كان وجهه غير مقروء التعبيرات:

-أه حلو.

تلك التعابير الغامضة أزعجتها، فعبرت عما تشعر به قائلة:

-حساك مش مبسوط يا "تميم"

التفت ناحيتها يجيبها:

-مين قال كده؟

-مش باين عليك!

قال وهو يصطنع الابتسام ليخفي عدم ارتياحه:

-أنا بس ما بأعرفش اتكلم قصاد حد.

بدت غير راضية عن رده الأخير فأوجزت معه وقالت:

-طيب.

حاول ألا يفسد الأجواء بينهما فبادر يمدحها:

-بس إنتي طالعة حلوة أوي، متوقعتش كده!

وكأنه أعاد لها بهجة الحياة وسرورها فأشرقت تعبيراتها لتستفيض موضحة له:

-حبيبي، تعرف أنا مردتش أخلي الكوافيرة تحطلي حاجات أوفر، يعني كل اللي إنت شايفة طبيعي

هز رأسه في استحسانٍ وهو يعقب عليها:

-كده كويس

همست له ببسمتها الناعمة:

-أنا حاسة إني بأحلم، ياه .. أخيرًا اليوم ده جه ..

-الحمدلله.

-لحد دلوقتي مش مصدقة!

نظر لها متأملاً فرحتها الجلية عليها، بينما تابعت معبرة بتلقائية عن مشاعرها الجياشة:

-تعرف، أنا قلبي بيدق جامد، حاسة إني في حلم جميل مش عاوزة أفوق منه أبدًا!

حذرها بلطافة وابتسامة بسيطة تزين شفتاه، ولكن اكتسب وجهه تعبيرًا جادًا:

-لأ اهدي شوية، الليلة لسه في أولها.

أسبلت عينيها نحوه وأردفت قائلة بتنهيدة عميقة غير عابئة بمن حولها:

-أنا بأحبك أوي يا "تميم".

ضاقت نظراته قائلاً بجدية:

-ماينفعش الكلام ده كده قصاد الناس يا "خلود"...

قاطعته بشغف بائن في مقلتيها:

-مش فارق معايا أي حد، إنت وبس اللي تهمني!

هز رأسه بطريقة آلية مجاملاً:

-حبيبتي، ربنا يخليكي ليا.

-ومايحرمنيش منك يا عمري كله.

شدد "تميم" من ضمه لذراعها ليسحبها بتؤدة نحو (بَسطة) السلم حتى لا تتعثر في ثوبها الثقيل، كفت "خلود" عن حديثها الهامس معه رغمًا عنها إلى أن تختلي به، حينها فقط ستستفيض في إظهار مشاعرها المدفونة، ومع ذلك نطقت نظراتها بما عجز اللسان عن البوح به. توقف كلاهما عند أعتاب باب المنزل تمهيدًا لصعود قائد الزفة الشعبية التي أتت قبل قليل، بدأ بتحية العروسين والمباركة لهما كتمهيدٍ متبع قبل أن يبدأ فقراته الغنائية، دس "تميم" يده في جيب بنطال بدلته وأعطاه نفحة إضافية من النقود ليتحمس الرجل كثيرًا، استدار بجسده للخلف ليشير بذراعه لأفراد فرقته بيده فصدح صوت المزمار عاليًا وجلجل بقوة وهز جدران المنزل .. انتفضت أجساد الحاضرون في طربٍ على دق الطبول المختلفة في أحجامها، وبدأوا في التصفيق بحرارة، كما انطلقت الزغاريد من حول العروسين فضاعفت من تحفيز المتواجدين للمشاركة، وما هي إلا لحظات واندمجوا جميعًا مع ذلك الإيقاع الراقص المصحوب بأصوات المزامير العالية لتلك الزفة الشعبية التي احتلت المدخل والطوابق الأولى للاحتفال بالعروسين على الطريقة التقليدية السائدة من خلال ترديد الأغاني الشهيرة الخاصة بالأفراح لتزداد الأجواء بهجةً وحماسة ............................................. !!

.................................................. .........




منال سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
[rainbow]وفوق كل ذي علم عليم[/rainbow]
ign]






رد مع اقتباس
قديم 28-03-20, 09:39 PM   #12

منال سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية منال سالم

? العضوٌ??? » 358950
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 1,488
?  مُ?إني » بورسعيد - مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » منال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك max
?? ??? ~
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
?? ??? ~
My Mms ~
Rewitysmile9 الفصل التاسع





الفصل التاسع




تأنقت كلتاهما بثيابٍ أنيقة شبه رسمية مع احتفاظها بالذوق الشبابي لكنها ليست كأثواب الأفراح، فهناك عمل ينتظرهما عند الكورنيش، حيث تتواجد عربة الطعام والتي وضعت هناك قبل وقت سابق، وبمجرد إنهاء تلك الزيارة غير الضرورية ستتوجهان إليها، ذهابهما فقط جاء بناءً على رغبة والدتهما. وقفت "همسة" أمام توأمتها تعقد لها أنشوطة بلوزتها النبيذية اللون والمصنوعة من قماش الستان التي ارتدتها أسفل الجاكيت الثقيل، تأكدت من إحكامها حتى لا تنحل عقدتها، في حين تذمرت "فيروزة" من ذهابها لذلك العرس قائلة:

-مش فاهمة لازمتها إيه نروح؟ عندنا شغل والنهاردة الويك إند، ده غير إن في حاجات كتير لازم تتعمل.

تنهدت مبررة ذهاب ثلاثتهن:

-ما إنتي عارفة ماما محكمة رأيها، بتقولك جيرانها وعِشرة زمان و...

توقفت للحظة عن متابعة جملتها لتقلد نبرتها، ثم استطردت قائلة محاكية إياها في حركة جسدها وإشارات حاجبها:

-لازمًا وحتمًا نعمل الواجب، إنتو عاوزين الناس تاكل وشي؟

ضحكة صغيرة ارتسمت على شفتي "فيروزة" من طرفة أختها .. التفتت الاثنتان نحو والدتهما حينما صاحت من الخارج:

-أنا جهزت خلاص يا بنات، إنتو خلصتوا؟

-أيوه يا ماما

قالتها "همسة" أولاً وهي تتحرك إلى الخارج بعد أن نفضت شعرها خلف ظهرها لينسدل عليه كنوع من تغيير مظهرها، في حين عقصته "فيروزة" كعكة وزينته بمنديل رأس قرمزي اللون غير ذاك الذي فقدته لكنه يحمل ذات النقوش مما منحها رونقًا آخاذًا، تبعتهما في هدوءٍ .. أدارت "آمنة" رأسها نحو ابنتيها تسألهما:

-قفلتوا الشبابيك كويس؟ ومحبس الغاز فصلتوه و....

قاطعتها "همسة" مؤكدة:

-عملنا كل حاجة يا ماما، متقلقيش

ردت مبتسمة:

-خير .. يالا بينا، توكلنا عليك يا رب

جلست "فيروزة" على المقعد المجاور لباب المنزل لترتدي حذائها ذو الرقبة العالية، رفعت رأسها نحو والدتها تسألها في فضولٍ وعيناها مرتكزتان عليها:

-هو خالي جاي؟

أجابت "آمنة" بوجه به مسحة ضيق:

-معرفش، ومسألتوش

عقبت عليها بنظرات متنمرة:

-يا رب ما يجي، مش ناقصين عكننة..

وما لبث أن انخفض صوتها وهي تكمل:

-وخصوصًا الحرباية مراته!

ردت عليها "همسة" تؤيدها:

-معاكي في ده!

حدجتهما "آمنة" بنظرات محذرة وهي تعاتبهما:

-عيب يا بنات، مايصحش تتكلموا عنها وحش، مهما كان دي بردك مرات خالكم

انزعجت "فيروزة" من طيبتها العفوية نحوها، فنعتتها قائلة بنبرة غاضبة:

-دي كتلة شر ماشية على الأرض!

ردت غير مبالية:

-هي حرة، واحنا مالناش دعوة بيها، ربنا وحده قادر يهديها.

أطبقت على شفتيها غيظًا وحاولت ألا تنفعل حتى لا تعكر الأجواء بسبب تلك المرأة الحقود، انتظرت حتى خرجت والدتها من البيت ومالت على أختها تهمس لها:

-أمك دي سهل أي حد ياكل بعقلها حلاوة، مصدقة إن الحرباية دي ملاك! دي شيطان اقسم بالله.

ردت "همسة" بصوت خفيض:

-أنا مصدقاكي، بس هنعمل إيه، خلينا بعيد عنها أحسن.

-وتفتكري هي هتسيبنا في حالنا؟ ماتبقاش العقربة "حمدية"!

توقفت كلتاهما عن الهمس حينما صاحت والدتهما متسائلة:

-بترغوا في إيه يا بنات؟ هنتأخر.

ردت عليها "همسة" بارتباكٍ طفيف:

-ولا حاجة يا ماما، احنا نازلين وراكي أهوو.

تأكدت "فيروزة" من غلق باب المنزل بالمفتاح وخطت نحو الدرج ونظراتها تتجول على الطابق العلوي، حدسها ينبئها أن تلك الأفعى تحيك أمرًا في الخفاء، فكما عاهدتها هي ليست من أولئك الذين يتنازلون بسهولة عن الانتقام، ولكونها قد فازت عليها بالجولة الأولى في معركتها معها، لذا لن تتوانى "حمدية" عن الرد وبقسوة، تنهدت محدثة نفسها بنبرة عازمة:

-هتلاقيني وقفالك بالمرصــاد!

.................................................. ...........

اقتطع جزء من الشارع الرئيسي ليُقام فيه العرس الكبير، وتولى أحد محال (الفِراشة) تجهيز المكان ليصلح لتلك المناسبة في مثل ذلك الطقس البارد، حيث وُضعت السجاجيد بالطرقات ورُصت فوقها المقاعد الخشبية وبعض الطاولات الدائرية، وأقيم عند المقدمة مسرحًا صغيرًا لتجلس عليه الفرقة الموسيقية التي ستشدوا بالأغاني الطربية والشعبية، كما تم تجهيز (كوشة) لافتة للأنظار مُزدانة بالإنارات البراقة عند أقصى يمين المسرح، ولم يغفل منظمو الحفل عن الاستعانة بمتخصصين في خدمة الضيوف وتوزيع الطعام والمشروبات عليهم.

ومع حلول المساء بدأ المدعوون في الحضور واتخاذ مقاعدهم في الصفوف الأولى إلى أن امتلأ المكان تقريبًا، والموسيقى الصاخبة تشدو حولهم .. بعد برهة ارتفعت أصوات الزغاريد والتهليلات الذكورية كإعلان عن اعتلاء العروسين للكوشة واستقرارهما به، وبحركة مجاملة لوح "تميم" بيده لضيوفه يشكرهم على حضورهم، بينما وزعت "خلود" ابتسامات سعيدة مشرقة على من تعرفهم، لا تصدق أنها اليوم ترتدي ثوب عرسها وستزف إلى فارس أحلامها الوحيد، بدأت الفقرات الغنائية، والكل يتسابق في إظهار فرحته، بدا وكأن كل شيء يسير على ما يرامٍ إلى أن ظهر "محرز" ومعه ضيفٍ غير مرحب به، هنا تبدلت ملامح "تميم" للوجوم، كان كمن أُجبر على ابتلاع شيئًا يمقته بشدة، تقدم الأول نحوه وابتسامته اللزجة تعلو محياه مهللاً وكأنه أحرز انتصارًا لا مثيل له:

-إيه رأيك في المفاجأة دي؟

رمقه بنظرة عبرت عن انزعاجه -بالإضافة لرفضه- لتصرفه غير المقبول تحت أي ظرف، كانت قسمات وجهه تنطق عنه، بذل الكثير من الجهد ليسيطر على انفعالاته وهدوئه بالرغم من عروقه المشدودة ونظراته القاتلة، خاصة وأن "سراج" الذي أتى بصحبة "محرز" كان يبدو متحفزًا، مستعدًا لافتعال أي مشاجرة، أخرجه من تحديقه الناري به صوت الحاج "لطفي" القائل:

-السلامو عليكم يا حاج "بدير".

تحولت نظراته نحو والده الذي جاء ليرحب بالضيوف، بادله التحية وهو يصافحه بحرارةٍ:

-وعليكم السلام، إزيك يا حاج "لطفي"؟

أجابه ببسمة هادئة:

-في نعمة والحمدلله.

رد مجاملاً بودٍ زائد:

-شرفتنا النهاردة، المكان نور.

قال له بنبرة عميقة:

-بأصحابه يا حاج.

تقدم "محرز" خطوتين للأمام وهو يتصنع الضحك ليقف في المنتصف بينهما، ثم أضاف بعدها، وكأنه يفرض نفسه على المتواجدين:

-أنا قولت ماينفعش في الليلة الحلوة دي النفوس تكون شايلة من بعض، وإلا إيه معلم "سراج"؟

تنحنح الأخير معقبًا بخشونةٍ وبوجهٍ مقلوب:

-مظبوط.

احتدت نظرات "تميم" بشدة، كانت كراهيته لـ "سراج" قد بلغت منتهاها، لكن الظرف لا يسمح لإتخاذ أي قرارٍ طارئ.. مد الحاج "لطفي" يده لمصافحة العريس الذي نهض لاستقباله يهنئه:

-مبروك يا "تميم"، بالرفاء والبنين إن شاءالله.

حاول أن يضبط إيقاع نبرته وهو يرد مبادلاً إياه المصافحة، لكن نظراته اتجهت ناحية غريمه:

-الله يبارك فيك يا حاج.

استطرد الحاج "لطفي" ممهدًا بأسلوبه الجاد الذي يمزج بين الوقار والاحترام:

-احنا كلنا أخوات، ومش عاوزين المشاكل ترجع تفرق بينا، مصالحنا كلنا واحدة، ولا إيه؟

رد عليه "تميم" بضيقٍ بائن وعيناه لا تحيدان عن "سراج":

-كلامك على عيني وراسي، بس ...

تدخل "محرز" في الحوار مقاطعًا بسماجة ثقيلة:

-خلاص بقى يا "تميم"، ده الرجالة جايين لحد عندك، هاتكسفهم ولا إيه؟

رمقه بنظرة ضيقة تعبر عن رفضه القاطع لفرض الأمور عليه هكذا، علق والده ليقول بدبلوماسية محنكة راجعة لسنوات خبرته الطويلة حتى ينهي ذلك النزاع:

-جيتكم فوق دماغنا، وأكيد كلنا بنسعى للخير، بس لا ده وقته ولا ده مكانه، وبعدين مايصحش الحاج "سلطان" يبقى موجود ومحدش يسلم عليه، ولا إيه؟

هتف "محرز" قائلاً وضحكته السمجة تلازمه:

-ده أبونا كلنا قبل ما يكون كبير السوق كله، بينا يا رجالة تاخدوا واجبكم هناك.

تطلع إليه "تميم" بنظرات مطولة مغتاظة، فقد استفزته طريقته المهترئة لإظهار أنه صاحب القول الأخير، إنه ينتمي لذلك النوع من البشر الذي يحاول تسلق الآخرين ليظهر وجوده، تحامل على نفسه كي يتغاضى عن الأمر ويتجاوزه، احترامًا فقط لرجاء والده الذي ظهر من خلال نظراته وإيماءات وجهه فاعتبرها إشارة ضمنية لإنهاء الجدل، ولولا ذلك لفعل ما يستوجب لإيقاف كل شخص عند حده، خاصة السمج "محرز".

.................................................. ........

مررت "فيروزة" عينيها على المكان باحثة بتمعنٍ ودقة عن مقاعد شاغرة لتجلس عليها مع أختها ووالدتها بعد أن ازدحم المكان بمئات البشر، وقعت نظراتها على تلك المقاعد الموجودة بالزاوية المنزوية والتي تبدو إلى حد ما مترامية الأطراف عن الصخب الدائر، اعتقدت أنها بقعة جيدة للجلوس فيها لتكون ثلاثتهن بُعاد عن الزحام والأعين الفضولية المتلصصة، أشارت لهما لتتبعاها، وبتأنٍ وتؤدة اجتزن أجساد البشر المتمايلة ليصلن إلى وجهتهن، وقبل أن تجلس "آمنة" انحنت على ابنتيها تخبرهما:

-هاروح أسلم على الحاجة "ونيسة" والجماعة قدام ورجعالكم!

هزت "همسة" رأسها ترد عليها:

-خدي راحتك يا ماما.

ابتعدت عنهما لتتجه صوب الطاولات الأمامية حتى تلقي التحية على أهل العريس، في حين حركت "فيروزة" جسدها نحو أختها لتبدو قريبة منها وهي تتحدث إليها .. كانت الرؤية محجوبة عنهما لينظرا إلى العروسين بسبب تكتل الأجساد أمامهما، تساءلت بفضولٍ وهي ترى مظاهر الثراء والبذخ من خلال الإعلان عن أسماء مانحي (النقوط) عبر الميكروفون:

-الصرف باين يا أختي

ردت عليها "همسة" مبتسمة:

-كلها مجاملات، الفرح النهاردة عندي، بكرة عندك، والفلوس رايحة جاية بينهم.

-تحسي إنها تجارة مش جوازة!

-أكيد

-بس يا ترى النوع ده من الجوازات بيستمر؟!

-الله أعلم

خف الزحام قليلاً فأصبحت الرؤية متاحة، اشرأبت "فيروزة" بعنقها لتتطلع إلى وجه العريس، تعقد حاجباها بشكلٍ ملحوظ، لم تكن ملامحه بالغريبة عليها، خُيل إليها أنها رأته من قبل، لكنها لا تذكر أين ومتى، تابعت قائلة ونظراتها مرتكزة على وجهه:

-حاسة إن العريس وشه مش غريب عليا، زي ما يكون شوفته قبل كده أو اتكلمت معاه!

ما لبثت أن تحولت عيناها نحو العروس لتضيف:

-والعروسة كمان، برضوه مش غريبة.

لم تكن زاوية الرؤية واضحة من جهة "همسة"، فقالت غير مبالية وهي تحيد بنظراتها عنهما لتتطلع إلى عموم المدعوين:

-طبيعي يكونوا معروفين، ما إحنا كلنا عايشين في منطقة واحدة وبنتقابل مع أغلب الناس كل يوم حتى لو مش بنتكلم.

عادت "فيروزة" لتسألها بابتسامة سطحية فاترة:

-بس إيه رأيك في الفستان؟

أجابت بتلقائية:

-حلو وبسيط، وحتى الميك آب بتاعها رقيق وهادي.

وافقتها الرأي قائلة:

-على رأيك.. أول مرة نلاقي عروسة مش حاطة طن بوهية على وشها

علقت ساخرة:

-تتحسد والله، لازم تبخر نفسها.

-أنا هاعمل كده في فرحي، مش هاحط ميك آب أوفر.

-وأنا زيك يا "فيروزة".

استمرت كلتاهما في ثرثرتهما عما يحدث في الفرح، خاصة بعد أن أشعل أحد المطربين الشعبيين الحفل بأغانيه الصاخبة فهلل عليها الحاضرون ورددوا بسعادة ما يحفظونه من كلماتٍ عن ظهر قلب ..

..............................................

هب "حمص" واقفًا من مكانه، ثم صعد على المسرح ممسكًا بعصاه الخشبية ليرقص باحترافية مُزيدًا من حماس المتواجدين كنوع من مجاملة سيده الجديد الذي كان كريمًا معه مؤخرًا، شاركه رفيقه "شيكاغو" التمايل بالطريقة الذكورية المستعرضة في رقص المهرجانات ليعلو التصفيق أكثر، نجح كلاهما في لفت الأنظار بالصياح العالي:

-مبرووووك يا كبيرنا، عقبال البكاري يا ريس

نالا نظرات الرضا من "تميم" الذي أشار بعينيه لأحد أتباعه ليهتم بهما بعد أن ينهيا حركاتهما الراقصة فابتهجا على الأخير .. في تلك الأثناء كان "هيثم" يجلس بهدوءٍ لا يتفق مع شخصيته الهوجاء يميل بين الحين والآخر بجسده نحو رفيقه "نوح" الجالس في المقعد الخشبي الملاصق له، لم يتواقفا عن الحديث الهامس وكأن هناك خطب ما، حتى أنه لم يشارك في أي فقرة تضم الشباب المتحمس، بدت ملامحه جادة للغاية، ونظراته قلقة مُرتابة، حتى صوته كان أقرب للفحيح حينما همس يحث صديقه:

-عاوزك تراقبلي الجو كويس وتفتح عينيك

أومأ "نوح" برأسه معلقًا عليه ودخان سيجارته المشتعلة يتطاير في الهواء:

-ماشي هاقفلك ناضورجي ...

ثم غمز له بطرف عينه يؤكد عليه بنبرة ذات مغزى حتى لا يغفل عنه لاحقًا:

-بس ماتنسانيش لما الدنيا تزهزه معاك.

رد عليه بامتعاضٍ:

-ماتقلقش، المهم تركز

-عينيا

مرر "هيثم" نظراته على الأوجه لمرة أخيرة، وخاصة على زوج خالته المشغول مع ضيوفه، قبل أن يتسلل خلسة منسحبًا من الحفل للقيام بما خطط له؛ فالفرصة مواتية للإقدام على السرقة دون أن تحوم الشكوك حوله اعتقادًا منه أنه يفعل ذلك ليأخذ حقه المسلوب والذي ضاع بمقتل والده في ذاك الحادث المشؤوم، حيث تُرك يتيمًا يعاني من مرارة البؤس ،وألم الحرمان، والعوزة والشقاء.

.................................................. ......

تصبب عرقًا غزيرًا باردًا وهو يدور بتوترٍ حول البناية ليضمن عدم اكتشاف أمره حينما يصعد للأعلى لينفذ سرقته، رفع عينيه للأعلى يجوب ببطءٍ على الشرفات، كانت أغلب النوافذ مغلقة، والإضاءة معتمة، مما بعث القليل من الطمأنينة على نفسه المتوترة، سحب نفسًا عميقًا يثبط به الأدرينالين المتدفق بقوةٍ في عروقه، كان كل شيءٍ هادئًا ومشجعًا للقيام بالأمر، اتجه "هيثم" إلى مدخل البناية وهو يتلفت حوله، صعد الدرجات عدوًا لكنه تجمد في مكانه حينما سمع تلك الخرفشات الخافتة، أحس بالدماء تهرب من عروقه، انزوى في بقعة معتمة ملصقًا جسده بالحائط، حبس أنفاسه مترقبًا وقد ظن أن أحدهم سيراه، عاد السكون ليغلف المكان فهدأت دقاته المتلاحقة كقرع الطبول، وبحذرٍ شديد تقدم خطوة للأمام رافعًا رأسه للأعلى، أحس بالهدوء يتسرب إلى صدره الناهج مع استمرار السكون، انخفضت عيناه تدور على نوافذ المنور الجانبية، نظر مليًا بتمعنٍ مسلطًا نظراته على شرفات المطبخ الصغيرة قليلة الاستخدام التي تطل على ذلك المنور تحديدًا، فتلك الموجودة بالطابق الأول ستسهل عليه المسألة كثيرًا لكونها الأقرب لوجهته، حيث ستساعده على الصعود للأعلى، ومن ثَمَ الولوج للشقة من خلال دفع باب الشرفة بقليلٍ من الجهد فيصبح فعليًا بالداخل.

ســار كل شيءٍ بسلاسة وفق خطته الجهنمية وكما رسم في عقله الشيطاني، تحرك بخفة ودقة على حافة الشرفة الخاصة بالطابق الأول، ثم شحذ كامل قواه ليدفع جسده للأعلى ممسكًا بـ (منشر) الغسيل، تمايل جسده في الهواء ووجد صعوبة في الاحتفاظ بتوازنه، كادت أصابعه تنزلق لولا تلك الدفعة الأخيرة التي استنزف معها ما تبقى من قوته فمكنته من الصعود .. أصبح "هيثم" بداخل الشرفة الضيقة، كانت مزدحمة بالكراكيب القديمة وأدوات الطهي غير المستخدمة، وضع يديه أمام عينيه ليحصل على قليلٍ من الظلمة حتى تتمكن نظراته من اختراق المكان بالتطلع عبر الزجاج المغبر بالأتربة وبواقي زيت الطهي، شعر بالانتشاء لكون المكان ساكنًا، تحرك في اتجاه الباب الجانبي، وبدفعة قوية نسبيًا من كتفه تمكن من فتح الباب الصدئ في مفاصله واقتحم المنزل.

رغبة عارمة بالسعادة المنتشية سيطرت على أوصاله، حلمه بالثراء السريع على وشك التحقق، خطا "هيثم" على أطراف أصابعه نحو الردهة، كان يحفظ المكان جيدًا، وبالتالي لم يشعر بالتخبط وهو يتجول في أرجاء المنزل الخالي من قاطنيه .. انتفض فزعًا واتسعت عيناه في ذعر حينما رن هاتفه فجأة، شعر بأن قلبه على وشك التوقف من فرط الارتعاد، التقط أنفاسه اللاهثة، ثم نظر إلى المتصل وسباب نابي يتردد بين شفتيه، وضع الهاتف على أذنه بعد أن ضغط على زر الإيجاب هامسًا بنبرةٍ تحولت للحنق:

-في إيه؟ في حاجة جدت؟

أجابه رفيقه ببرود:

-لأ!!

صاح به بغضبٍ رغم همسه:

-أومال بتتصل ليه دلوقت؟

رد عليه "نوح":

-بأطمن عليك.

كز "هيثم" على أسنانه يوبخه:

-مش أنا قايلك ما تكلمنيش إلا لو حاجة حصلت؟ هو إنت مابتفهمش؟!

حذره الأخير:

-بلاش الغلط يا عمنا!

برر حنقه بعد أن تنفس بعمق ليكبح غضبه:

-ما هو مش وقته بصراحة.

استطاع أن يسمع زفيره قبل أن يعقب عليه:

-ماشي يا سيدنا، على العموم كله في التمام..

قال موجزًا معه المكالمة:

-طيب.. كويس، وخليك مركز.. سلام

ثم ردد بوجهه الممتقع وقد أنهى اتصاله معه:

-هو أنا كنت ناقصك!

سحب شهيقًا عميقًا يهدئ به صدره المضطرب، لحظاتٍ واستعاد ثباته، ثم واصل سيره متجهًا إلى غرفة زوج خالته، فتحها ووطأ بقدميه داخلها مستخدمًا إضاءة هاتفه المحمول .. كانت عيناه تعرفان إلى أين تنظر تحديدًا، ابتسامة زهو وانتصار تشكلت على ثغره وقد بات قاب قوسين أو أدنى من الظفر بسرقته، على الفور تحرك في اتجاه (الشُوفنيرة) ينظر لها بعينين تبرقان بقوة، مد يده ليفتح الدرج لكنه كان موصدًا، غمغم بسبةٍ بذيئة محدثًا نفسه بحسمٍ:

-والعمل إيه دلوقتي؟ ما هو أنا مش هامشي من هنا إلا والفلوس معايا!

تلفت برأسه يبحث بالإضاءة الضعيفة للهاتف عما يمكن أن يستخدمه في فتح الدرج، سلط هاتفه على أرجاء الغرفة وهو يفكر في عجالة وبتوترٍ، فالثواني تشكل فارقًا كبيرًا معه، لمح المقص الموضوع على التسريحة فاعتقد أنها وسيلة مناسبة، لذا التقطه واستدار عائدًا إلى الشُوفنيرة، حاول بنصل المقص الحاد تحريك القفل، ونجح بعد عناءٍ عضلي في إزاحته من مكانه في ذلك، لهث هامسًا بصدر ينهج:

-أخيرًا..

قام "هيثم" بفتح الدرج، اتسعت نظراته في حبور عظيم وقد أبصر رزم النقود المرصوصة بعناية بداخله، هلل رغم همسه:

-يا دين النبي، كل دي فلوس!

توهجت عيناه على الأخير واكتست بلمعانها الجهنمي، وعلى الفور -ودون تراجعٍ أو ندم- سرق كل ما يحويه الدرج، ثم دسهم في جيوب سترته ومسح بكمه البصمات من على قفل الدرج والمقص، فإن فكر زوج خالته في اللجوء للشرطة لا يجد أفرادها من التحقيق الجنائي ما قد يدينه. ومثلما تسلل خلسة انسحب بخفة من المكان ومن حيث جاء مُعيدًا كل شيء لطبيعته، لكن تلك المرة جيوبه ممتلئة بما ليس له.

.................................................. .....

ضجرت "فيروزة" من إضاعة وقتها دون أدنى فائدة تعود عليها لمجرد الالتزام بما أسمته والدتها (واجب الجيرة) والجلوس للنهاية، أي حتى انتهاء مظاهر الاحتفال وانطفاء الأضواء، بل والبدء في جمع المقاعد، أرادت أن تنهض وتعود إلى عملها لتستفيد بالحركة الرائجة للأهالي في منطقة الكورنيش وما حولها من محال قبل أن يسرقهم الوقت ويقل الزحام، أرجأت مفاتحتها في الأمر لبضعة دقائق حتى تنتهي من حديثها مع إحدى المدعوات بالرغم من التوتر البادي على ملامحها، إلى أن لمحت "حمدية" وخالها وأطفالهما قادمون من على بعدٍ، هنا زادت تعابيرها انزعاجًا وظهرت تكشيرة صريحة عليها، رأت البغض جليًا في نظرات الأولى نحوها، حقدها يكاد يكون مرئيًا للعيان، حتى وجهها عكس مقتها، بادلتها نظرات كارهة لها عاقدة العزم في نفسها أنها لن تجلس في مكان يجمعها بها، حتى لو فيه إزهاق روحها، هكذا حدثت نفسها، لذا أحنت رأسها نحو والدتها تقول لها بنبرة عازمة وهي تلملم أشيائها:

-بيتهيألي كفاية كده، عاوزين نشوف اللي ورانا يا ماما.

زوت "آمنة" حاجبيها محتجة في اندهاش متعجب:

-ده لسه بدري، الحاجة "ونيسة" قالتلي في عشا و....

قاطعتها بإصرارٍ متذمر وقد تقلص وجهها:

-هو احنا ناقصين أكل يا ماما؟

طالعتها أمها باستغرابٍ، حاولت "فيروزة" أن تبدو هادئة فتصنعت الابتسام لتضيف ساخرة حتى لا تثير الريبة فيها:

-دي آخر حاجة نفكر فيها ولا إيه رأيك يا "همسة"؟

بدت "آمنة" غير راضية عن تصرفها فعاجلتها قائلة:

-بس يا "فيروزة" الناس هتزعل مني، وأنا محبش حد يشيل مني أو....

قاطعتها في تهكمٍ:

-صدقيني وجودنا مش هيفرق معاهم، هما ملبوخين بالبشر اللي مالي الفرح.

عفويًا أدارت والدتها عينيها في المكان وقد ظهر التردد عليها، في حين همَّت "همسة" بالنهوض وأيدت أختها في رغبتها قائلة بابتسامتها الرقيقة علها تقتنع بالأسباب:

-خلاص يا ماما، برضوه عشان مانضيعش وقتنا، والحاجة اللي معمولة ماتبوظش، وكمان مانتأخرش.

أضافت "فيروزة" مُمازحة لتبدو مرحة معها:

-ودي ساعة رزق كمان!

علقت عليها والدتها بجدية:

-بقيتي بتتكلمي زي بتوع السوق!!

قالت لها مبتسمة وكأن ما تفعله وسام يزين صدرها:

-ما احنا بقينا منهم، والشغل مش عيب.

تحركت "آمنة" ببطءٍ وقد استسلمت أمام إلحاح ابنتيها، لكنها اشترطت عليها بتنهيدة مرهقة:

-أمري لله، بس هانروح نسلم على الجماعة قدام!

استاءت من ذاك الاهتمام الزائد بجيرانها الذين لا تعرف عنهم شيئًا، ضغطت على شفتيها متسائلة بتذمرٍ:

-هو لازم يعني؟

ردت عليها بحسمٍ ونظراتها الجادة تملأ وجهها:

-اللي يعمل حاجة بيكملها للآخر، وبعدين ماضمنش الحاجة "ونيسة" ولا جوزها الحاج "بدير" يسألوا عليا، مش هاسيبهم يشغلوا بالهم بيا.

نفذت كل محاولاتها للتملص من تلك المجاملة المبالغ فيها والتي تعدها أقرب للنفاق عن أداء الواجب، حاولت "فيروزة" أن تبدو هادئة لتقلل من أمارات الاعتراض البائنة على خلجاتها، تلمست منديل رأسها بلزمة لا إرادية لتتأكد من وجوده في مكانه، نفخت أولاً، ثم تهدل كتفاها في يأس لتقول لها بعدها في ضيقٍ عبر عن كون الفكرة غير مستساغة بالنسبة لها:

-حاضر، اللي يريحك ............................................. !!!

.................................................. ............................




منال سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
[rainbow]وفوق كل ذي علم عليم[/rainbow]
ign]






رد مع اقتباس
قديم 28-03-20, 09:43 PM   #13

منال سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية منال سالم

? العضوٌ??? » 358950
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 1,488
?  مُ?إني » بورسعيد - مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » منال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك max
?? ??? ~
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
?? ??? ~
My Mms ~
Rewitysmile9 الفصل العاشر

محتوى مخفي يجب عليك الرد لرؤية النص المخفي


منال سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
[rainbow]وفوق كل ذي علم عليم[/rainbow]
ign]






رد مع اقتباس
قديم 28-03-20, 09:46 PM   #14

منال سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية منال سالم

? العضوٌ??? » 358950
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 1,488
?  مُ?إني » بورسعيد - مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » منال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك max
?? ??? ~
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
?? ??? ~
My Mms ~
Rewitysmile9 الفصل الحادي عشر - الجزء الأول



الفصل الحادي عشر (الجزء الأول)



رمشت بعينيها في بطءٍ وهي تتطلع إلى أختها التي باغتتها بسؤالها ذلك وقد اعتقدت أنها تناسته في خضم تلك المشادة الأخيرة، عقدت المفاجأة لسانها، أحست بجفاف شديد في حلقها، بخوفٍ ممتزج بالتوتر يتسلل تحت جلدها، بالعرق البارد يصيب أنحاء متفرقة من جسدها .. كانت حيرتها جلية على قسماتها؛ فإن تفوهت بما حدث مسبقًا لربما دفعت "فيروزة" للعودة إلى العرس والتشاجر من جديد معه، وهذا ما ترفضه قطعيًا، لأنه سيزج بها في مشاكل جمة لن تُحل بسهولة .. وإن أخفت الأمر عنها لربما غضبت منها إن شاءت الأقدار وتكرر الصدام معه أثناء عملهما بالعربة، أصاب "همسة" الوجوم الشديد، حتى أن ملامحها بهتت ونظراتها زاغت .. طال صمتها مما زاد من غريزة الفضول لدى أختها، استغرقت بلا وعيٍ في أفكارها المتخبطة حتى انتبهت على صوت "فيروزة" حينما ألحت عليها تسألها:

-إيه يا بنتي؟ إنتي نسيتي كنتي عاوزة تقولي إيه عنه؟

لعقت "همسة" شفتيها تجيبها في تلعثم:

-لأ.. ولا حاجة، كنت .. آآآ.....

جفاف أكبر أصاب جوفها مما زاد من طعم المرارة به، ازدردت ريقها الهارب وتابعت كذبًا:

-كنت مفكراه شبه .. ممثل كده، وحتى كنت .. هسألك لو تعرفيه.

ثم حملقت في "فيروزة" تراقب بأعصابٍ مشدودة ردة فعلها، ورغم سذاجة إجابتها إلا أنها كانت كافية لتمنحها فرصة للتفكير مليًا في حجةٍ أكثر إقناعًا إن استمرت في التحقيق معها وحاصرتها بأسئلتها، تنفست "همسة" الصعداء حينما ردت عليها بما يشبه التهكم:

-والله إنتي فايقة ورايقة، ممثل إيه بس!

خرجت ضحكة متكلفة من جوفها وكأنها تضحك على كلماتها فقط لتخفي الاضطراب الذي اعتلاها، تحركت "فيروزة" للداخل دون أن تتفوه بكلمة أخرى وقد بدأت زخات المطر في الهطول، أحست "همسة" بالارتياح لانصرافها، وتمتمت مع نفسها في تضرع:

-الحمدلله يا رب، عدت على خير.

تركت للمطر مهمة تبريد تلك السخونة التي انتشرت في بشرتها بفعل الأدرينالين والانفعال، أغمضت عينيها ورفعت رأسها للأعلى مستمتعة بذلك الإحساس المنعش، ثم تنفست بعمق حتى تتأكد من انتظام دقات قلبها، رفعت "همسة" يدها لتمسح المطر العالق بأهدابها، واشرأبت بعنقها لتنظر إلى ما تفعله "فيروزة" بجوار السلم، فوجدتها تفتح الحجرة المخصصة لتخزين العربة لتجمع صناديق الطعام الصغيرة، تبعتها في صمتٍ لتساعدها وهي تردد كلمات أغنية علقت في ذهنها مما جعل الأخيرة تضحك على صوتها المريع وهي تنظر لها من طرف عينها، ثم بدأت في مشاركتها الغناء بصوتٍ لا يقل عنها نشازًا.

.................................................. .............

تراصت السيارات أمام البناية المشابهة لأغلب عمارات المنطقة في ارتفاعها الذي لا يتجاوز الأربع طوابق -والمملوكة لعائلة "سلطان"- لتصدح بعدها أصوات الأبواق كإعلانٍ صريح عن وصول العروسين لمسكن الزوجية، وبالرغم من كون ذلك قد أحدث صخبًا وجلبة عالية إلا أنه لم يشكو أحدهم من هذا، فما زالت تلك هي الطريقة التقليدية المتبعة في الأفراح .. ترجل "تميم" أولاً من السيارة واستدار بجسده للخلف لينظر إلى والده الذي ترجل من سيارة أخرى، تحرك الأول في اتجاهه وامتدت ذراعاه لتحتضنه وتشكره على مساندته طوال الساعات الماضية، ثم أطل برأسه من زجاج النافذة ليمسك بكف جده، رفعه إلى فمه وقبله احترامًا وتبجيلاً. اعتدل في وقفته ليجد والدته تربت على جانب ذراعه ووجهها البشوش يلمع بعبرات الفرح، مسحت بأناملها دمعاتها المنسابة وهي تدعو له:

-ربنا يرزقك يا ابني بالسعادة وراحة البال.. إنت تعبت واتظلمت كتير، وعروستك طيبة وتستاهلك

أحنى رأسه على جبينها يقبله في امتنانٍ يشكرها:

-ربنا يخليكي ليا يامه، أنا من غير دعواتك ولا حاجة

نظرت له بحبٍ، وقالت:

-حبيبي يا ابني ....

ثم ابتسمت له قبل أن تستأنف جملتها:

-وبعدين يا ضنايا البت "خلود" طلعالي، وتربية إيدي، يعني هتريحك في كل حاجة

رد ممازحًا:

-يا ريت يامه تبقى شبهك، بس إنتي بردك مافيش زيك يا ست الكل.

علقت عليه بنبرة ذات مغزى وهي تشير بحاجبيها:

-روح لعروستك بقى، مايصحش تسيبها كده مستنياك..

التفت برأسه عفويًا في الاتجاه الذي أشــارت إليه فوجد "خلود" قد ترجلت من السيارة، وتتبادل الحديث مع والدتها التي حتمًا كانت تُملي عليها الوصايا العشر لتفرض سيطرتها على المنزل، هكذا خمن في نفسه، خاصة وأنها كانت ملتصقة بها بطريقة غير طبيعية وزائدة عن الحد منذ بداية العرس وحتى نهايته، تقدم نحوهما متنحنحًا في خشونة، ثم هتف عاليًا لتنتبه "بثينة" له:

-هــا يا حماتي، خلصتي مع مراتي ولا لسه قدامك شوية؟

نظرت له خالته في استهجانٍ قبل أن تجيبه بشفاه مقلوبة وبما يشبه التهكم:

-أديني واقفة معاها لحد ما تخلص إنت، ولا عاوزني أسيبها لواحدها لحد ما سيادتك تفضى؟

حدجها بنظرة حادة عكست ضيقه، واستطرد يحرجها بكلماته القوية:

-ما هو أنا واقف مع أهلي اللي هما برضوه أهلها، مش برده احنا بينا دم واحد؟ ولا الظاهر إنك بقيتي بتنسي كتير الأيام دي يا .. حماتي!

استشاطت غيظًا منه فصاحت تهاجمه في قسوة:

-أنا خالتك قبل ما أكون حماتك، يعني في مقام أمك!!!

رد مبتسمًا بغطرسة ليشعل غيظها أكثر:

-أنا ماليش إلا أم واحدة!

أطبقت "بثينة" على شفتيها في حنقٍ واضح للحظات، ثم هتفت تحذره بنبرة أقرب للتهديد:

-طيب أحسنلك تاخد بالك من "خلود"، وإياك تزعلها! هتلاقيني في ضهرها ووقفالك!

ظهر عرق نابض في جيبنه بسبب ضيقه من أسلوبها غير المستساغ في التوجيه، استنشق الهواء البارد ليثبط به دمائه التي زاد احتقانها، وزفره دفعة واحدة ليضيف بعدها ضاغطًا على كلمات جملته الأولى:

-اطمني يا .. حماتي، أنا عارف إزاي أعامل أهل بيتي، مش مستني حد ينصحني، و...

ثم سلط أنظاره على أبويه متابعًا في تفاخرٍ وغرور:

-وكفاية إني تربية الحاج "بدير"، ومن قبله جدي "سلطان"، ده غير أخلاق أمي اللي مغروسة فيا، فمتقلقيش...

وما لبث أن تحولت لهجته للقوة ونظراته للصرامة عندما تابع بنبرة خفيضة نسبيًا وقد مال نحوها برأسه:

-إنتي بس ريحي نفسك والدنيا هتمشي!

زمت "بثينة" شفتيها في امتعاضٍ مستنكر وهي ترمقه بنظرة نارية مغتاظة، ثم تقدم "تميم" خطوة للأمام ليتجاوزها ويقف قبالة عروسه التي تضرج وجهها بحمرة نضرة، ثني ذراعه وهو يبتسم لها، فمدت "خلود" يدها لتتأبطه وقد أسبلت عينيها بخجلٍ، التفتت للجانب برأسها قليلاً لتلوح بيدها الأخرى لعائلتها تودعهم، ثم تطلعت أمامها وأكملت سيرها بحذرٍ رافعة طرف ثوب عرسها وكذلك واضعة طرحتها الطويلة على مرفقها حتى لا تتسخ بفعل الأرض المبتلة بزخات المطر، اتجهت مع زوجها نحو مدخل العمارة الذي تم طلائه حديثًا باللونين الأبيض والرمادي الفاتح ليخفي التشققات الناتجة عن الرطوبة المستمرة والظاهرة على الجدران. دق قلبها في حماسٍ وخوف، كما تواترت مشاعرها في تلك اللحظات المصيرية، واضطرب وجدانها مع اقتراب تحقيق حلمها الوحيد.

تراقصت أحلامها الوردية بتمضية ليالٍ رومانسية ناعمة ودافئة في مخليتها وهي تزف إليه بعد صبر طويل وعزيمة قوية، لم تنسَ "خلود" لحظات اليأس التي كادت أن تتملك منها وتفقدها الأمل، ولكن في تلك الليلة تلاشت مخاوفها وتبددت أحزانها، وباتت تنتظر بشغفٍ تذوق رحيق الحب مع معشوق قلبها وفارس أحلامها الوحيد.

أخرجها "تميم" من سرحانها المُشوق بأن يجمعهما سقف واحد حينما استوقفها عند بداية الدرج ليحملها بغتةً بين ذراعيه، خفق قلبها بقوةٍ، وتلبكت من حركته التي هزت كيانها وحفزت مشاعر الحب بداخلها، أخفضت عينيها في استحياءٍ، لكن تأثير أحاسيس الحب عليها بدا ملموسًا، واضحًا، ولا حاجة به إلى برهان، واصل تسلق الدرجات بها في خفةٍ وكأنها لا تزن شيئًا حتى وصل إلى الطابق الثاني حيث تتواجد شقتهما، أنزلها لتقف على قدميها، ثم دس يده في جيب سترته ليخرج المفتاح منه، دسه في مكان القفل وفتح الباب بدفعة خفيفة لينفتح على مصراعيه، عــاد ليحملها من جديد ليزيد من مشاعر الشوق والرغبة بداخلها، وتلك المرة تجرأت على تطويق عنقه بذراعيها، واختلست النظرات نحو وجهه الذي كان قريبًا منها للغاية، كانت تشعر بحرارة أنفاسه اللاهثة، بالإيماءات الحذرة المتشكلة على جانبي شفتيه، انفصلت عن محيطها الواقعي لتبقى أسيرة تلك الهالة الساحرة التي تحاوطه.

وعلى عكسها كان "تميم" مشغولاً بالانتباه إلى خطواته بداخل الشقة التي كانت كبيرة في مساحتها، وبالتالي لم تكن هناك أي صعوبة في شراء الأثاث كبير الحجم أو حتى رصه، بل تبقت زوايا خالية تحتاج للمزيد من اللمسات الأنثوية لملئها، نظرة سريعة في البهو تبعتها أخرى نحو الردهة، ثم تقدم بها في اتجاه غرفة النوم، هناك أنزلها على قدميها بكل رقة ورمقها بابتسامة دافئة قبل أن يستهل حديثه مُبارِكًا:

-نورتي بيتك يا عروسة.

أسبلت عينيها في خجل رقيق، وعضت على شفتها السفلى وهي ترى نظراته المتأملة له، أولته ظهرها لتنظر إلى الفراش الذي تم ترتيبه بشكل منمق ليليق بليلة كتلك، جابت عيناها ثياب كليهما الموضوعة بانتظام على طرفي الفراش، استدارت لتتطلع إلى زوجها وهي تقول بأنفاسٍ شبه متهدجة من فرط فرحتها:

-أنا مش مصدقة نفسي لحد دلوقتي! أنا وإنت في بيت واحد..

رد مبتسمًا وقد دس يديه في جيبي بنطاله:

-لأ صدقي.

اقتربت بغنجٍ متدلل خطوة منه حتى أصبحت المسافة بينهما ضئيلة للغاية، حركت كتفها بإغراء وعذوبة، ثم رفرفت بعينيها وهي تتمعن النظر فيه عن قرب، لاحت ابتسامة رقيقة مغرية على شفتيها الممتلئتين حينما همست بنعومة:

-أنا بأحبك أوي.

وكأي شخص طبيعي تتأثر مشاعره الأكثر صلابة بفعل المغريات اللذيذة المؤججة للمشاعر الذكورية الحميمة أحنى "تميم" رأسه على زوجته بعد أن احتضن وجهها براحتيه ليختطف منها أول قبلة مطولة انحبست فيها الأنفاس واهتز معها الوجدان.

.................................................. ................

استضافته بترحابٍ فرح للغاية بعد أن جاء إلى زيارتها تنفيذًا للوعد الذي قطعه علنًا أمام الحاج "بدير" قبيل انتهاء العرس، لم تبخل على شقيقها بشيء، تناست خصومتها معه فور أن وطأ أعتاب منزلها، وكأن شيئًا لم يكن، في قرارة نفسها كانت تتلهف لإعادة روابط الود بينهما، أعدت له الأصناف الشهية من الحلويات وملأت الكؤوس والفناجين بالمشروبات الباردة والدافئة، حتى أنها ضيفت زوجته بلطفٍ زائد لتنسيها أي خلاف مما استفز ابنتها الجالستين بالداخل، وخاصة "فيروزة" التي كانت ناقمة على الاثنين لكونهما مخادعين، تلصصت كلتاهما على الحوار الدائر في الصالة معلقتين بهمسات مزعوجة وساخطة، تردد أصداء صوت "خليل" الذي كان عاليًا عاليًا وهو يستطرد مبررًا:

-بردك ياختي أنا خايف عليكي، واللي عملته ده كان عشان مصلحة البنات، ما أنا زي أبوهم.

ردت عليه "آمنة" بإيماءة موافقة من رأسها:

-طبعًا يا "خليل".

في حين علقت "حمدية" بحماسٍ مريب مستخدمة يدها في الإشارة:

-ومهما كان اللي حصل الدم عمره ما يبقى مياه، ولا إيه يا "أبو العيال"؟

أيدها الرأي قائلاً:

-مظبوط .. ومسيرنا كنا هنتصالح.

تحفزت "حمدية" في جلستها، ومالت نحو أخت زوجها تؤكد بقوةٍ وكأنها صاحبة الفضل في فض الخصام بينهما:

-أيوه، هو إنتو ليكو إلا بعض ياختي؟ ربنا يبعد عنكم الشيطان.

ابتسمت لها في امتنانٍ، ثم أدارت رأسها في اتجاه شقيقها تشكره:

-ربنا يخليك ليا ياخويا، ومايحرمنيش منك أبدًا.

أضافت "حمدية" في خبثٍ وابتسامة سخيفة باردة متشكلة على شفتيها:

-وإن كانوا البنات غلطوا فيا، فأنا مسامحة في حقي، دول زي إخواتي الصغيرين، مش هاقول عيالي عشان أنا لسه صغيرة ..

ثم أطلقت ضحكة لزجة وكأنها قالت دعابة من المفترض أن يكركر عليها الجميع بهيسترية، لكن لم يضحك أحدهما، فأطبقت على شفتيها لاوية ثغرها قليلاً. تنهد "خليل" معلقًا بعد أن تنحنح:

-طول عمر قلبك طيب يا "آمنة"، زي أمنا الله يرحمها، كانت بتحب الناس كلها وعمرها ما شالت من حد.

لمعت عيناها نوعًا ما تأثرًا بذكراها العطرة، ورددت بخفوتٍ في تضرعٍ راجٍ:

-الله يرحمها ويجعلها في الفردوس الأعلى.

تناول "خليل" رشفة أخرى من فنجان قهوته، ثم تركه على الطاولة البيضاوية التي تنتصف الغرفة ليهب واقفًا وهو يختم تلك الزيارة اللطيفة الودية:

-لو عوزتي حاجة ياختي تعاليلي في أي وقت، بابي مفتوحلك

نهضت واقفة تحملق فيه بعينين مليئتين بالحنو والمحبة، وردت عليه قائلة:

-تعيشلي يا رب، ده إنت اللي باقي لي من الحبايب.

ربت على كتفها برفقٍ وهو يودعها بالمزيد من العبارات المستهلكة على الأذن، لكن لها مفعولها العجيب على النفس، شعر "خليل" بالانتشاء يغمره، وارتسمت ابتسامة انتصارٍ على محياه اللثيم، حيث أدت طريقته الجديدة لنتائج باهرة ونجح في استقطابها إلى جبهته لتغدو مرة أخرى طوع بنانه وتحت إمرته، حتى إن أمعن لاحقًا في الضغط عليها للموافقة على أحد الأمور لأظهرت استجابتها الفورية له ولم تقاوم رغباته الطامعة.

.................................................. ........................

نوبة حب رائعة عاشتها خلال تلك اللحظات المحدودة انتقلت فيها لعالم مشبع بالمشاعر الدفينة التي تحتاج ليد الخبير لإظهارها على السطح، أرخى قبضتيه عن وجهها فتحررت من حصاره الحابس للأنفاس، لكن بقيت آثار أصابعه على وجنتيها اللاتين تضرجتا بحمرة ساخنة، أخفض "تميم" ذراعه ليمسك بـ "خلود" من كفها، جذبها برفق نحو الفراش وأجلسها على طرفه، ثم جلس إلى جوارها، شهيق طويل سحبه إلى صدره ثم لفظه بتمهلٍ، وكأنه بذلك يستحضر ما سيقوله بعد ذلك. اكتسبت نبرته عمقًا عكس جدية ما قاله حينما استطرد:

-شوفي يا بنت خالتي، قبل ما نبدأ حياتنا سوا، عاوزين نتفق على كام حاجة عشان حياتنا تمشي من غير مشاكل

هزت رأسها بالإيجاب وهي تنصت له باهتمامٍ، فتابع:

-أنا طول عمري دوغري في كل حاجة، لا بأحب اللف ولا الدوران، ولا كلام الضحك على الدقون، كلمتي زي السيف مع أي حد، وحتى مع أهل بيتي، اللي إنتي بقيتي دلوقتي منهم

-تمام.

شدد عليه بلهجته الجادة ودون أن يرف له جفن ليبدو صارمًا نوعًا ما فيما يقوله:

-أي حاجة تحصل بينا هنا، حلوة أو وحشة، مشاكل أو اتفاقات، يا ريت تفضل بينا ما تطلعش برا!

أجابت دون تفكير:

-حاضر يا حبيبي.

تابع في لهجة جمعت بين الصرامة والنصح:

-أنا عاوزك تكوني الأمان بالنسبالي، وزي ما أنا مش هاسمح لحاجة تضايقك، إنتي كمان بلاش تخلي حاجة تزعلني منك.

هتفت تعقب عليه دون ترددٍ:

-أنا مش هاعمل غير اللي يسعدك وبس.

ابتسم لها بعذوبة، ثم أكمل بنبرة عقلانية حتى تتضح الصورة كاملة:

-وارد يحصل بينا مشاكل، أتمنى ساعتها محدش يعرف بيها، وخصوصًا أمي وأمك.

كان شاغله الأكبر خالته الثرثارة، التي لا تتوانى أبدًا عن خلق المشكلات من توافه الأمور وتعظيمها، وخاصة أنها تقف الند بالند له ولعائلته بسبب هاجسها الخاطئ، خشي أن تنزعج "خلود" من طلبه، أو حتى تعارضه، لكنها خالفت توقعاته حينما أكدت عليه بصدرٍ رحب:

-حاضر، وعشان تبقى عارف أنا مش نقالة للكلام!

صحح لها جملته حتى لا تسيء فهمه:

-وأنا مقولتش كده، أنا بس مابحبش حد يتدخل في حياتي أو يفرض عليا رأيه، أو حتى أبرر تصرفاتي ليه.

هزت رأسها ترد:

-معاك حق، محدش كمان بيسيب حد في حاله يا حبيبي.

أوضح "تميم" أكثر وهو يومئ برأسه:

-بالظبط، والموضوع الصغير هايكبر ويبقى حكاية، واحنا في غنى عن ده كله

ابتسامة رقيقة احتلت صفحة وجهها الناعم وهي تقول له عن طيب خاطر وبمحبة لا حدود لها:

-خلاص يا حبيبي، كل اللي إنت عاوزه أنا هاعمله وأنا مغمضة عينيا.

وضع "تميم" إصبعيه على طرف ذقنها يداعبه في رقة قائلاً لها بنبرة عميقة عبرت عن شخصيته الرجولية وشهامته الكبيرة:

-ربنا يخليكي يا حبيبتي، وليكي عليا أعاملك بما يرضي الله، لا هاقل أدبي، ولا هامد إيدي عليكي، بس إنتي راعي ربنا فيا.

مالت برأسها للجانب لتستند بوجنتها على راحة يده، ثم همست له بدلالٍ:

-ده إنت أغلى ما في حياتي.

ابتسم لها ممازحًا:

-أنا عاوزك كده على طول، رقيقة وهادية، بلاش تقفشي ولا أشوف جنان البنات

ردت بوجه مدعي العبوس:

-أنا مش مجنونة، أنا بأغير بس عليك

-ماشي يا ستي، وبالله عليكي ماتحاوليش تضايقني وأنا متعصب، سبيني أهدى وبعدين نتكلم

ردت وضحكة عابثة تتلاعب على شفتيها

-عندك حق في دي، لأحسن زعلك وحش أوي، وأنا مش أد

قال مؤكدًا:

-أيوه، ببقى غبي بجد!

انتهى "تميم" من فرض ما بدا أشبه بالتعليمات عليها قبل أن يهب واقفًا، تطلع إليها بنظرة مطولة تجوب على زينتها الرقيقة وجمال جسدها الممشوق في ثوب الزفاف، أشاح بوجهه قائلاً بنحنحة خفيفة:

-أنا هاغير هدومي برا وأسيبك هنا تلبسي براحتك.

شعرت "خلود" بتقلصات خفيفة تضرب معدتها بعد جملته تلك، لوهلةٍ أصابها الوجوم كما لو كانت قد تلقت صدمتها الأولى، لم يكن ذلك مثل ما خططت له في مخيلتها، أليس من المفترض أن يتلهف عليها ويحترق شوقًا لضمها إلى أحضانه وتأملها بما خف وقل من الثياب؟ أفاقت من دهشتها المؤقتة والمستنكرة حينما بادر مبررًا بابتسامة صغيرة قاصدًا أن يخفف من توترها الطبيعي في هذا الموقف الحرج وغير الاعتيادي:

-أنا عارف إن البنات بتتكسف في اليوم ده .. فعشان ماتتحرجيش مني وآ....

قاطعته بنبرة مختنقة نسبيًا وقد امتدت يدها لتقبض على معصمه حتى يظل واقفًا في مكانه:

-أنا عاوزاك معايا.. ماتسبنيش!

بدا صوتها أقرب للرجاء عن أي شيء آخر، تطلع إليها في اندهاش بعد أن تركزت أنظاره في البداية على كفها الممسك به، ثم تنهد قائلاً لها بهدوءٍ:

-لو ده اللي إنتي عاوزاه، فأنا معنديش مانع

عللت رغبتها في وجوده بعفويةٍ، وكأنها بذلك تزيح ثقلاً كئيبًا كان جاثمًا على صدرها:

-إنت مش متخيل أنا استنيت اليوم ده أد إيه، أكتر من 7 سنين يا "تميم" بأحلم إني أكون جمبك ومعاك، عيشت تفاصيل كل لحظة فيها بخيالي، وبقيت بأصبر نفسي إنك في النهاية هاتكون ليا.

مَسَّت كلماتها المفعمة بمشاعرها الصادقة قلبه، فرفع راحته ووضعها على وجنتها ليشعر بنعومتها المغرية على جلده، داعبها بإبهامه، وطالعها بنظرة ممتنة مليئة بالود والألفة، ثم دنا منها بشفتيه ليطبق على خاصتها وقبلها من جديد بقبلة أشد عمقًا ضاعفت من لهيب الشوق والرغبة، استسلمت لما يبثه فيها من مشاعر محفزة لتعيش معه أحد أهم أحلام يقظتها، ولكن على أرض الواقع .................................................. !!

.................................................. ..................






منال سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
[rainbow]وفوق كل ذي علم عليم[/rainbow]
ign]






رد مع اقتباس
قديم 28-03-20, 09:50 PM   #15

منال سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية منال سالم

? العضوٌ??? » 358950
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 1,488
?  مُ?إني » بورسعيد - مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » منال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك max
?? ??? ~
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
?? ??? ~
My Mms ~
Rewitysmile9 الفصل الحادي عشر - الجزء الثاني



الفصل الحادي عشر (الجزء الثاني)



أمسكت بفرشاة تنظيف الثياب الخشبية، ونفضت العالق من الأتربة والشوائب الصغيرة عن جلباب زوجها الذي ارتداه في تلك الليلة قبل أن تعلقه على الشماعة ليحصل على التهوية الجيدة ومن ثم تغسله حينما يتسنى لها الوقت لفعل ذلك لتعيده بعدها في مكانه بالدولاب. انحنت "ونيسة" بتمهلٍ لتمسك بالحذاء وتضعه في مكانه قائلة بفرحة صادقة وابتسامة عريضة تغزو صفحة وجهها الضاحك:

-أما كانت ليلة يا حاج، مافيش بعد كده! حاجة تِشرح القلب بصحيح!

هز "بدير" رأسه في استحسانٍ وهو يتمدد على الفراش ليريح جسده المنهك من عناء مجهود اليوم، ثنى ركبته اليمنى إلى صدره، وأراح ظهره للخلف، ثم قال لها:

-الحمدلله، المهم يكون الكل اتبسط ..

ردت بعبوسٍ زائف وقد وضعت يدها أعلى منتصف خاصرتها:

-هو حد يقدر يتكلم بعد اللي عملته يا حاج؟!

ثم ما لبث أن ارتخت ملامحها حينما أضافت بتفاخرٍ:

-ده ليلة "تميم" هيتحكى عنها لشهور قدام

رد باقتضابٍ:

-ربنا كريم

لانت نبرتها أكثر وهي تضيف ونظراتها مرتفعة للسماء:

-الحمدلله إنك مديت في عمري يا رب عشان أشوف ابني وهو بيتزف لعروسته.

استطرد مضيفًا بابتسامةٍ صغيرة:

-ده أبويا كان فرحان بيه أوي، تحسي إن الدموية ردت في وشه لما شافه

قالت بنبرة مزهوة:

-لازمًا يفرح بيه، مش حفيده البكري، ربنا يديه الصحة

-يا رب

التفتت "ونيسة" نحو الشفونيرة لترص ما طوته من ثياب نظيفة عليها، استرعى انتباهها الدرج العلوي المفتوح قليلاً، ضاقت نظراتها نحوه متفحصة إياه دون أن تلمسه، ورددت متسائلة في اندهاشٍ كبير، وكأنها تفكر بصوتٍ مسموع:

-هو إنت يا حاج نسيت الدرج ده مفتوح؟

استدار برأسه نحوها يسألها:

-أنهو درج؟

امتدت يدها لتشير إليه قائلة بتلقائية مما شد انتباهه بالكامل:

-الدرج ده يا حاج.

اعتدل "بدير" في جلسته المسترخية وأخفض ساقه ليقول نافيًا:

-محصلش.. وريني كده.

ثم هب واقفًا على قدميه واقترب من الشوفنيرة ليدقق النظر في الدرج بعد أن تنحت زوجته للجانب، اكتشف كسر القفل الخاص به، وهرع يفتحه ليجد مفاجأة صادمة في انتظاره، حيث كان خاليًا من الأموال التي احتفظ بها بداخله، حلت أمارات الحنق على تعابيره المجهدة، وغطى الغضب الجم نظراته كليًا، التفت كالمسلوع نحوها يسألها بحدةٍ:

-الفلوس اللي هنا راحت فين؟

على الفور هتفت "ونيسة" ترد لتدافع عن نفسها وتنفي تلك التهمة عنها:

-والله ما أعرف يا "بدير"! أنا مشوفتش حاجة، وإنت بنفسك اللي بترص فلوسك في الدرج.

صاح في عصبيةٍ شديدة وهو يعتصر ذهنه محاولاً التفكير فيما حدث لتلك النقود أو حتى أين أنفقها:

-أومال راحوا فين؟

هزت كتفيها تجيبه:

-معرفش

حك "بدير" رأسه في ضيق متعاظم، ولكن ما لبث أن تذكر شيئًا، الأموال الأخرى الموضوعة في الدرج السفلي، ذاك المبلغ الضخم الذي ما زال محتفظًا به ريثما يرسله للبنك، امتدت يده عفويًا لتسحب الدرج، لكنه وجده موصدًا فأشعره ذلك بالارتياح، زفر قائلاً بصوتٍ خفيض خفف بنسبة قليلة من حنقه:

-الحمدلله

التفت عائدًا للخلف ليمسك بمفاتيحه المسنودة على الكومود، وأسرع نحو الدرج وقام بفتحه، قليل من الارتياح تسرب إليه، ومع هذا هتف بصوته الأجش الحانق:

-الحرامي ابن الـ ..... مخدش باله من الدرج ده، كان فيه يجي فوق الـ 100 ألف جنية وأكتر محطوطين هنا.

شاركته التعليق:

-ألف حمد وشكر ليك يا رب

ثم غلف الخوف نبرتها وهي تُعاود سؤاله:

-بس مين هيتجرأ ويسرقنا يا حاج؟

تطلع إليها في حيرة قبل أن يجيبها:

-مش عارف!

رددتت "ونيسة" في ذعرٍ وهي تتلفت حولها بنظرات مرتعدة:

-لأحسن يكون الحرامي لسه مستخبي هنا ولا هنا.

وكأنها بعفويتها قد نبهت زوجها إلى خطورة ذلك، تحرك على الفور إلى خارج الغرفة بعد أن جذب عكازه ليستخدمه في الدفاع عن نفسه وضرب السارق إن وجده، جاب "بدير" غرف المنزل يفتش في كل زاوية وركن وأي مكان يحتمل أن يختبئ به، لكن لا أثر له، العجيب في الأمر أنه لم يعرف بعد كيف اقتحم المنزل، وكيف قام بالسرقة مما ضاعف من فضوله وتساؤلاته، حاول كذلك خلال بحثه عنه ألا يزعج والده الكهل الذي استغرق في نومه بعد مشقة اليوم إلى أن يحل الصباح فيطلعه على الأمر، ومع هذا تأكد من خلو غرفته منه.

ظلت أطراف "ونيسة" ترتجف بالرغم من بحث زوجها المتأني عن اللص، وبقي إحساس الخوف متغلغلاً في أعماقها، لحقت بـ "بدير" كظله ولازمته حتى توقف عن التفتيش، ابتلعت ريقها وقالت بصوت مهتز ينطق عن هلعها:

-أنا خايفة أوي يا حاج.. تفتكر الـ .. الحرامي ممكن يرجع تاني؟

علق في استهجانٍ شديد، ونظراته امتلأت بالغيظ:

-ده يبقى غبي أوي، هو خلاص خد النهيبة وخلع!

سألته مستفهمة:

-طب هتبلغ البوليس ولا هنتصل بـ "تميم" نعرفه؟

أجابها مستنكرًا آخر جملتها:

-وده كلام يا "ونيسة"؟ نتصل بابنك ليلة فرحه نقوله إلحق اتسرقنا؟ انسي الكلام ده خالص، "تميم" مش هايعرف دلوقتي، مفهوم

-طيب..

-خليني أفكر هاعمل إيه.

عادت لتسأله في إلحاحٍ:

-يعني هتكلم البوليس؟

رد نافيًا:

-لأ مش هاطلب أي حد!

اقترحت عليه بعفوية:

-طب وجوز بنتك؟

ردد بوجهٍ ممتعض:

-"محرز" ده لا بيحل ولا بيربط، هيعملي زيطة على الفاضي.

-أومال هتعمل إيه يا حاج؟

-لسه مش عارف.

قالت "ونيسة" بصوتها المرتجف:

-أديلنا زمن من يوم ما سكنا في الحتة ماحد عمره هوب ناحيتنا ولا فكر يسرقنا

أيدها الرأي قائلاً:

-معاكي حق.

-أول مرة تحصل الحكاية دي، الظاهر ولاد الحرام كانوا مراقبينا.

-الله أعلم.

انكمشت "ونيسة" على نفسها تقول له:

-بس أنا خايفة أوي يا حاج.

حاول طمأنتها فقال لها بهدوءٍ بالرغم من الثورة المستعرة بداخله جراء ما حدث:

-ماتخافيش يا "ونيسة"، أنا هتصرف..

أومأت برأسها عدة مراتٍ وتبعته أينما ذهب، ولم يعلق هو عليها، كان متفهمًا لخوفها الغريزي، إلا أنه كان عكسها يغلي من داخله، عاد ليفحص باب المنزل في دقةٍ عله يجد آثار الاقتحام، لكن لا شيء، انشغل تفكيره في اكتشاف طريقة دخول اللص للمنزل، امتلك "بدير" من الفراسة والخبرة الحياتية العريضة ما يجعله مؤهلاً لتحليل الأمور بشكلٍ منطقي، والوصول لنتائج واستنتاجات هامة. فرك طرف ذقنه في حركة ثابتة، وقال بصوتٍ خفيض:

-القفل مش مكسور، والباب زي ما هو.

علقت في سذاجة:

-يكونش الحرامي معاه مفتاح البيت؟

قال مستنكرًا محدودية تفكيرها:

-ليه كنت مديله نسخة وأنا مش دريان؟

زمت شفتيها معقبة عليه:

-أهوو اللي جه في بالي!

فكر "بدير" بعمقٍ مشاركًا زوجته ما يدور في رأسه:

-الحرامي ده عارف هيسرق إيه بالظبط، ولو كان دور كويس، كان شاف الفلوس التانية

-مظبوط

-أنا حاسس كده إن الموضوع ده مخرجش برا حد نعرفه.

سألته مستوضحة:

-قصدك مين؟

نظر لها بغموضٍ وقد بدا وجهه صارم التعبيرات، التزم الصمت رافضًا البوح بما يراود عقله من هواجس وشكوك تدفعه للتفكير في شخصٍ بعينه.

.................................................. .................

أخرجت تأويهة متألمة بعد أن نزعت حذائها الجديد عن قدميها بمجرد جلوسها على الأريكة، شعرت بوخزات حادة في أصابع قدميها التي بدت متورمة قليلاً جراء ارتدائها له لفترة طويلة، انحنت للأمام لتفركها في رفقٍ، ثم عادت بظهرها للخلف لتسترخي في جلستها. سمعت "بثينة" جلبةً تأتي من داخل غرفة ابنها فانتصب جسدها، أجبرت نفسها على النهوض واتجهت إليه بخطواتٍ متأنية .. وقفت عند أعتاب الغرفة تتأمل ما يفعله على عجالة، انخفضت نظراتها نحو الفراش لتجده واضعًا لحقيبة سفره عليه، حملقت فيه مجددًا فرأته يحشر ثيابه دون ترتيب فيها، ولجت للداخل وهي تعرج قليلاً، ثم سألته مباشرة ونظراتها موزعة بينه وبين حقيبة السفر الصغيرة:

-إنت بتعمل إيه؟

نظر لها في فتورٍ وكأن سؤالها لا يعنيه، ألحت عليه مكررة تساؤلها المستفهم:

-يا واد قولي بتعمل إيه؟ ولا رايح فين السعادي؟

رد بنبرة ساخطة تنم عن عزمه للأمر:

-بأوضب هدومي للسفر زي ما إنتي شايفة.

-يعني إنت مسافر؟

-أيوه، طالع أغير جو يومين كده مع أصحابي

هتفت مرددة في استغرابٍ مُبرر:

-في الجو ده يا "هيثم"؟ طب ليه؟

أجابها بزفيرٍ منزعج ووجهه مغطى بتعابير جامدة:

-مخنوق.

رفعت حاجبها للأعلى متسائلة:

-في حد ضايقك؟

أجابها بنظراته المتنمرة وتعابير أقرب للتزمت:

-هو في غيره

لم تكن بحاجة لامتلاك ذكاء خارق لتفطن إلى الإجابة الصحيحة لسؤاله، حيث علقت عليه بنظراتها الحادة:

-جوز خالتك "بدير"، صح؟

تابع معللاً سفره المفاجئ مستغلاً تلك الحجة الزائفة ليبدو جيدًا في إقناعه لها:

-ما هو لازم يسمم بدني بكلمتين بايخين من بتوعه، حتى لو كان ده فرح أختي

وقفت "بثينة" قبالته تقول له بتجهمٍ:

-معلش يا حبيبي، ولا تحرق دمك، هو كده غاوي ينكد على الناس، اطلع سافر وغير جو، وروق مزاجك، وأنا ليا لي كلام معاه و...

قاطعها في عصبيةٍ:

-يامه أنا مش عاوزك تتحشري في مشاكلي معاه كل مرة، بيمسكهالي ذلة ويعايرني بيكي

ردت بنبرة منفعلة:

-فشرت عينه، ده إنت راجل ابن راجل، هو نسى نفسه ولا إيه بتاع الجرجير ده؟!!

قال "هيثم" في عدم اكتراث وهو يجرجر حقيبة سفره خلفه بعد أن أنزلها من على الفراش:

-أديني هسيبهاله وهاغور من وشه، إياكش يرتاح

سارت خلفه محاولة تهدئته، فقالت:

-ولا تضايق نفسك، أنا هاعرف أجيبلك حقك منه

لم يكلف نفسه عناء الرد عليها، تابع سيره المتعجل متجهًا نحو الصالة، سألته باهتمامٍ مدللة إياه:

-ناقصك فلوس يا نور عيني؟

للحظة تجمد في مكانه وكأن صاعقة أصابت جسده، التفت نحوها ينظر لها بعينين غائمتين متذكرًا سطوه على منزل خالته في ظلام الليل وحصوله على مبلغ لا بأس به، بدت تعابيره غريبة نسبيًا ووالدته تتأمله، تدارك شروده السريع ليقول بتلعثم وهو يهرب من نظرات والدته:

-مـ.. مستورة

أصرت عليه قائلة:

-يا حبيبي ماتكسفش، هو إنت بتطلب من حد غريب، ده أنا أمك، وكل ما أملك ليك يا "هيثم"

استدار ناحيتها متصنعًا الابتسام، ثم شكرها وهو يحني رأسه نحو جبينها ليقبله:

-تعيشيلي يامه.

أوصته "بثينة" بنظراتها التي تبدلت للجدية:

-خد بالك من نفسك وكلمني كل شوية عشان أطمن، ماتسبنيش قلقانة

-طيب.

قالها وهو يدير مقبض الباب ليفتحه، اتجه للخارج في سرعة وهو يعد نفسه بسَفرةٍ ممتعة مع رفقاء السوء ينفق فيها ما حصل عليه من غنيمته الثمينة على شهواته دفعة واحدة، وكأنه بذلك يفرغ غضبه المكبوت في إضاعتها سدى مقنعًا نفسه بأن ما سرقه ليس إلا جزءًا ضئيلاً من حقه المسلوب.

.................................................. .....................

رفعت رأسها لتستند على كتفه بعد أن ذاب الجليد بينهما وغابا في لحظات حميمية مميزة تأكد فيها من عفتها، وشعرت فيها بتأثير أنوثتها عليه، استلقى "تميم" على الفراش وشبك ذراعيه خلف رأسه تاركًا إياه تداعب صدره بأناملها الرقيقة، أغمض عينيه ليغفو مما حمسها لتأمله عن كثب بعينين تشعان بهجة، بدت أنفاسها دافئة وهي تلطم صدغه حينما همست له بنعومةٍ:

-مش عاوزة أفوق من الحلم الجميل اللي أنا عايشة فيه معاك، نفسي نفضل كده على طول، أنا في حضنك، وإنت معايا مابتفارقنيش.

رد عليها بصوت يميل للنعاس، ودون أن يفتح جفنيه:

-بكرة تزهقي مني.

اكتسى وجهها بتعبير مزعوج، وقالت محتجة:

-استحالة يحصل ده، أنا ماليش إلا إنت وبس!

شعر بتلك القبلة الناعمة التي انطبعت على جانب وجهه ففتح عينيه ليجد "خلود" تكاد تلتصق به، وتتطلع إليه بنظرات هائمة مليئة بالعشق، بسمة عذبة ظهرت على شفتيه قبل أن يرفع رأسه نحوها ليطبق على خاصتها مبادلاً إياها قبلة ناعمة جعلت بشرتها تتضرج بحمرتها النضرة، تثاءب في تعبٍ وربت على كتفها، ثم أزاحها ليتقلب على جانبه وهو يقول لها بإرهاقٍ:

-تصبحي على خير يا "خلود"

اكفهرت قسماتها وردت متسائلة بتذمرٍ:

-إنت هتنام دلوقت؟ مش هانقعد مع بعض شوية؟

أجابها في ثقلٍ وقد انطبق جفناه على بعضهما البعض:

-معلش يا حبيبتي، أنا مش قادر خالص، جسمي كله مكسر، ومش شايف قدامي!

أحست "خلود" بقليل من الإهانة والتجاهل من خلال جملته تلك، فمن المفترض أن يقضي ليلته الأولى معها حتى الصباح، انزعجت من عدم اكتراثه بما يجيش في صدرها من ضيقٍ، واعتدلت في رقدتها لتكتف ساعديها أمام صدرها، تعمدت أن تنفخ بصوتٍ مسموع ليعبر عن استيائها، ثم رددت عاليًا:

-يعني هاسهر لوحدي؟ بقى ده ينفع؟ ده أنا نفسي أحكي معاك ومانمش خالص.

أدرك "تميم" أنها لن تتوقف عن التذمر والشكوى حتى ينهض، نفض النعاس عن جفنيه متخليًا عن رغبته الشديدة في الحصول على قسطٍ وافر من النوم، والتفت نحوها متسائلاً بخلجاتٍ عابسة:

-عاوزة تحكي في إيه يا "خلود"؟

شعرت بالزهو لنجاحها في اجتذابه إليها، تطلعت إليه بنظراتها الوالهة، ثم صمتت لتفكر فيما تريد الحديث عنه، طرأ ببالها سؤاله عن الندوب التي تحتل الجانب الأيمن من كتفه، بدت لها كآثار حروق قديمة، لكنها لا تعرف سببها مما استرعى فضولها، استندت بطرف ذقنها على مرفقها المسنود على الوسادة متسائلة في نشوةٍ وبابتسامتها الفاتنة:

-هو اللي في ضهرك ده جالك من إيه؟

وأشـارت بعينيها نحو جانب كتفه لتتحرك أنظاره عفويًا مع إيماءتها، ويا ليتها لم تتطرق إلى تلك الذكرى المؤلمة! فقد اشتدت تعابيره المسترخية قساوة واحتقنت نظراته، رمقها "تميم" بنظرة غريبة قاتمة هادرًا بها:

-ملكيش فيه!

انتفضت من صوته الأجش الذي جعلها تتخشب في مكانها وتحملق فيه في ذهول، تدلى فكها للأسفل وهو يتابع تحذيره القاسي:

-في حاجات مابحبش أحكي عنها ولا حتى أفتكرها، منها حروق ضهري! يا ريت تفهمي ده!

ارتجفت شفتاها، وشعرت بالاختناق يضرب صدرها من حدته معها، حاولت أن تتماسك حتى لا تبكي أمامه، ثم هتفت مبررة سؤالها البريء:

-أنا.. مقصدش يا "تميم"، إنت عارف إن أي حاجة تخصك تهمني، و.. معرفش إن سؤالي ده بالذات.. هـ.. هيضايقك

رد بشراسةٍ وقد غامت عيناه:

-وأديكي عرفتي، يا ريت ماتكرريهاش

-بس .. كده آ....

قاطعها بحسم وبلهجة ذات طابع رسمي جليدي وهو يوليها ظهره:

-تصبحي على خير.

تطلعت له في قهرٍ وحسرة، دمعة حزينة فرت من طرف عينها تأثرًا بموقفه الصارم معها، مسحتها بيدٍ مرتعشة، واستدارت للجهة المعاكسة ملقية برأسها على الوسادة، ضغطت على شفتيها لتمنع شهقة باكية من الخروج من جوفها لتفضحها بعد أن أشعرها بالخذلان، لم تستطع السيطرة على الرجفة الخفيفة التي سيطرت على جسدها، نهنهة تكاد تكون مسموعة انفلتت منها حينما أحست بذراعه تحاوطها من الأعلى، حاولت الابتعاد عنه لكنه رفض إفلاتها، أطبقت على جفنيها في قوة مقاومة تيار المشاعر الحزينة الذي غزاها، تردد صوته الهامس في أذنها معتذرًا:

-حقك عليا يا "خلود".

عاتبته بنحيبٍ:

-ليه دايمًا بتكسر بخاطري يا "تميم"؟ وأنا اللي بأحبك!

ندم الأخير لسوء تصرفه وقساوته غير المفهومة معها، فقال لها موضحًا أسبابه:

-والله ماقصدش، متزعليش مني، وبعدين ده أنا لسه مفهمك إن في حاجات بتضايقني، وإني عاوزك تصبري عليا لما أتعصب.

ردت في غير اقتناعٍ:

-وسؤالي عمل كل العصبية دي؟

تنفس بعمقٍ ليثبط انفعالاته كليًا، ثم لفظ الهواء في زفير بطيء قبل أن يجيبها بهدوءٍ يناقض عصبيته قبل لحظات:

-أكيد لأ.

تابعت متصنعة اللا مبالاة:

-عمومًا حصل خير

مرر "تميم" ذراعه الآخر أسفل جسدها لتصبح أسيرة ذراعيه، ثم سألها بصوتٍ رخيم:

-لسه زعلانة مني؟

هزت كتفيها تُجاوبه:

-عادي .. مش هاتفرق، ما أنا لسه غريبة عنك!

زادت كلماتها الأخيرة من إحساسه بالذنب، أراد "تميم" أن يعوضها عن ذلك، فشدد من ضمه لها لتشعر بحرارة جسده عليها، ارتجفت من لمساته التي تُجيد اللعب على أحاسيسها المرهفة، وتشعرها باحتلاله لوجدانها، لهيب أنفاسه الساخنة وترها أكثر، خاصة حينما لامست جانب عنقها وهو يستأنف همسه المعتذر:

-حقك عليا.

ردت بصوتٍ لان بدرجة كبيرة وقد استجمعت نفسها:

-خلاص يا حبيبي.

وبكل ودٍ ولطف أدارها إليه ليجثم فوقها وتصبح أسيرة نظراته التي تفتنها، ابتسم لها بطريقة ساحرة أشعلت جذوة الحب في كيانها، مال عليها يقول بنبرة ذات مغزى، وتلك العبثية المغرية تتراقص في حدقتيه:

-سبيني أصالحك على طريقتي!

تورد وجهها بالكامل وقد فطنت إلى تلميحه المتواري بمنحها المزيد من اللحظات الشغوفة التي حتمًا ستمحو تعاستها.

.................................................. ................

ليلة طويلة باردة انقضت عليه حتى سطع النهار وهو جالس في الصالة بمفرده رابط الجأش يفكر مليًا وبعمقٍ فيما حدث، كان المكان غارقًا في الهدوء مما ساعده كثيرًا ليصفو ذهنه وينشط ذاكرته، فقد تركته زوجته لتستسلم لسلطان النوم حينما تمكن منها التعب وغفت في غرفة ابنها بعد أن رفضت النوم في غرفة نومها كردة فعل طبيعية لتأثير الصدمة المرتعدة عليها. أطفأ "بدير" سيجارته العاشرة في منفضته التي امتلأت بأعقاب السجائر مُنشطًا ذاكرته بالأحداث التي يمكن أن تحفز ذلك اللص وتدفعه للتجرأ واقتحام منزله في غفلة منه، وكأنه يعرف جيدًا متى سيخلو البيت من ساكنيه لينفذ جريمته. كل الشواهد حامت حول شخص بعينه، ولا ينكر "بدير" أنه استعان هاتفيًا بأحد أصدقائه القدامى ممن يعملون بالسلك الشرطي ويحتلون منصبًا متقدمًا فيه، أفادته تلميحاته الدقيقة، ونصائحه الخبيرة مع محترفي الإجرام في إرشاده لضالته وتأكيد شكوكه التي اتجهت نحو "هيثم" تحديدًا .. نعم إنه أول من فكر فيه ليقوم بتلك الفعلة النكراء، خاصة وأنه الوحيد الذي تواجد مؤخرًا في غرفة نومه، وربما لمح الأموال مصادفة في الدرج العلوي، تبقى له فقط أن يتأكد من معلومة واحدة إجابتها لدى زوجته، فإن أعطته المال حقًا دون علمه وعرف أين يتواجد، فستكتمل الصورة في ذهنه. ضغط "بدير" على أصابعه في غيظٍ حتى ابيضت مفاصله، ثم ردد مع نفسه يتوعده بوجه لا يبشر بالخير:

-أه لو طلعت إنت! هاعلقك وأعرفك مين أنا يا ابن "بثينة"!

.................................................. ........................

ازدهرت الأعمال خلال الأيام التالية بعد أن تذوق معظم رواد منطقة الكورنيش السندوتشات الشهية، أصبح لديهما زبونهما الخاص ممن يفضلون الأطعمة المختلفة وذات المذاق المميز، وبدأت تتكون علاقات ودية وطيبة مع الكثير من العائلات التي تصادقت مع الشابتين وأمهما، تلك السيدة الوقورة صاحبة الملامح الوديعة، والقلب الحنون التي تعامل الجميع برحابة صدر ولطف محبب للجميع. وبالرغم من امتعاض "خليل" ورفضه لذلك العمل غير المجدي -من وجهة نظره- إلا أنه اتخذ موقفًا سلميًا وتابع بنفسه ما تقوم به الفتاتين، والحق يُقال أنهما كانتا مثالاً يحتذى به للأخلاق والجدية، التزمت كلتاهما في التعامل مع الجنس الآخر، وانشغلتا فقط بتأدية المطلوب منهما في سرعة ودقة..

إلى جواره، وعلى مقربة من العربة، جلست "حمدية" التي كانت أحشائها تحترق كمدًا من حيادية زوجها تتابع المشهد العبثي بنظراتها الناقمة؛ تارة تحدق في "خليل" شزرًا، وتارة أخرى تحملق في الاثنتين بسخطٍ متعاظم، نفخت متسائلة بنفاذ صبر وهي تهز ساقيها في عصبية:

-هو احنا هنفضل قاعدين الأعدة الهباب دي كده كتير؟

رد بفتورٍ دون أن يحيد بنظراته عن عربة الطعام:

-لو زهقتي روحي!

قالت بنبرة مستهجنة ووجهها متجهم الملامح:

-وأقعد لوحدي بوزي في بوز العيال؟

زفر ببطءٍ قبل أن يعلق بإيجازٍ:

-هانت يا "حمدية".

تابعت الأخيرة شكواها فأكملت وهي تحكم لف شالها السميك المصنوع من الصوف حول كتفيها لتحصل على الدفء:

-ده البرد نخر في عضمي، معنتش قادرة من كتافي.

رد على مضضٍ:

-اصبري.

أضافت بحقدٍ وعيناها تبرقان في غيظٍ:

-لأ وبنات أختك معندهومش دم! إن مافي واحدة عزمت علينا بسندوتش ولا حتة فطيرة سخنة تطري علينا، وهما مولعينها من بدري، آل يعني اللقمة دي هاتخسر معاهم!

زجرها مرددًا في تهكمٍ ساخر:

-بطلي طفاسة يا "حمدية"!

شقهت تعنفه مستخدمة يدها في الإشارة:

-طفاسة؟ لأ عندك! ده أنا جاية من بيت شبع يا "خليل"، أكل إيه اللي أبصله وعيني فيه؟! حاسب على كلامك معايا!

رد بضحكة مستهزأة من إنكارها الزائف:

-ما هو باين.

زمت شفتيها في حركة متأففة وهي تدور بعينيها على المارة مغمغة بعبارات ناقمة لم يفهم معظمها "خليل" إلى أن ضجرت من انتظارها الممل، لذا قالت مرة أخرى وقد نفذ صبرها:

-مش ناوي تقوم معايا؟

أجابها معاتبًا:

-وأسيب أختي وبناتها لواحدهم في الشارع؟

ردت عليه بازدراءٍ ونظراتها الاحتقارية تجوب أوجه ثلاثتهن:

-يعني هيجرالهم إيه، ما الناس حواليهم أد كده زي الرز، مش هياكلهم البعبع ياخويا!

أصر على بقائه مشددًا:

-بردك مايصحش، أنا هافضل معاهم.

أومأت بحاجبها تسأله بنبرتها المتنمرة:

-ده إيه الحنية اللي نزلت على قلبك دي؟ من إمتي الحب ده كله يا "خليل"؟

جاوبها بضيقٍ وقد غلف تعابيره الانزعاج:

-يعني عاوزة الناس تاكل وشي بعد ما اتعرف إن بنات "آمنة" فاتحين عربية أكل وأنا مش واقف جمبهم؟!!

لم تصدق بالطبع مبرراته الواهية التي يختلقها ليظهر اهتمامه الزائف بعائلته، فقالت ساخرة منه بحدية أكبر:

-وهما لما يشوفوك أعدلهم كده هيشجعوك؟ ده مش بعيد يقولوا عليك طرطور، أو آ.... ولا بلاش تسمع مني كلام يوجعك، لأحسن تزعل!

قال لها في نفاذ صبرٍ:

-انزلي عن دماغي يا "حمدية"، أنا مش ناقصك.

تمتمت ترد عليه وهي تزم شفتيها:

-حِكَم!

تابع "خليل" مضيفًا مشاركًا إياها ما يدور في عقله:

-أما أنا في مخي ترتيب حلو، لو مشى زي ما أنا عاوز هنطلعلنا بمصلحة!

سألته بفضول وقد توهجت نظراتها:

-ترتيب إيه ده؟ ما تقولي عليه!

رمقها بنظرة مزعوجة قبل أن يقول على مضض:

-ما أنا خايف لتبرمي فيها وتفسد!

زجرته بعصبية وقد هبت واقفة على قدميها:

-ليه؟ حد قالك إني بومة؟ خلاص يا إدلعدي مش عاوزة أعرف!

أمسك بها من معصمها ليستوقفها، ثم جذبها منه ليجلسها في مكانها وهو يقول مرغمًا:

-هاقولك وربنا يستر!

ادعت عدم اكتراثها، وأشاحت بوجهها للجانب لتظهر ضيقها، فأكمل بحذرٍ عارضًا عليها فكرته الخبيثة:

-دلوقتي الحاج "بدير" عليه دين في رقبته لينا، عشان اللي حصل من قريبه مع أختي، أنا عاوز أستغل ده بقى وأخد منه قرشين كده ندفعهم عربون لدكان محندق حاطط عيني عليه بقالي فترة، أل يعني بحجة إننا بنساعد البنات اليتامى بدل وقفتهم في الشارع

انتبهت له وسألته مستوضحة:

-أها، وبعدين؟

قال بإيجازٍ مليء بالغموض:

-ولا قبلين، هاجيب الدكان وأشغله لحسابي

رددت في قلقٍ:

-طب وبنات أختك، هتعمل معاهم إيه؟

أجاب ببساطة وكأنه قد أعد الرد مسبقًا:

-هخليهم يبيعوا العربية دي وأخد فلوسها واحطها في الدكان وتوضيبه.

-طب ما جايز يشبطوا فيه وتخسر المصلحة كلها!!

-مش هايحصل، ما أنا هاعمل الورق كله باسمي ويبقوا يقابلوني لو طالوا مني حاجة

حذرته من جديد بلهجة مغلفة بالجدية:

-إنت ضامن الحكاية دي؟ بنت أختك "فيروزة" مش عبيطة، ولا سهل يضحك عليها

استطرد محتقرًا قدراتها:

-دي جعجاعة على الفاضي، قطتها جمل، ومش هاتقدر تعمل حاجة.

كانت غير راضية عن استهانته بها، فعادت لتحذره:

-أنا بأنبهك بس، هي مش سهلة!

تقوست شفتاه قليلاً وأظهرت ابتسامة مغترة عليهما حينما قال عن ثقة كاملة:

-متقلقيش، جوزين أقلام مني على وشها هيربوها!

نظرة مطولة منها إلى وجهه الخبيث، بدت كما لو كانت تدرسه، ثم تنهدت قائلة:

-هانشوف.

.................................................. ..........................

بابتسامة عملية بحتة وإيماءة رأسٍ بسيطة مدت يدها بكيسٍ ورقي مليء بالسندوتشات من نافذة العربة نحو أحد الأشخاص المنتظرين ليحصل على طلبه، تلقت "فيروزة" النقود من شخص آخر ودونت في ورقة صغيرة ما يريد، ثم استدارت نحو أختها تسألها بتلهفٍ:

-أوردر 36 خلص؟

أجابتها "همسة" بلهاثٍ وهي تدور حول نفسها لتنجز عملها في أسرع وقت:

-بأقفله أهوو.

أشارت الأولى بالورقة الصغيرة التي في يدها متابعة حديثها:

-طيب في أوردر تاني مستعجل

هزت رأسها بالإيجاب وهي ترد عليها ويداها مشغولتان في تغليف السندوتشات بطريقة جذابة:

-ماشي.. هاعمله بعد ده على طول

-أوكي

تطلعت "فيروزة" من النافذة مجددًا لتراقب وتقرأ ردات الفعل على أوجه الزبائن الذين لم يغادروا المكان بعد، وآثروا تناول السندوتشات على الكورنيش بجوارهم، رأت علامات التلذذ والاستحسان واضحة على محياهم، شعرت بالانتشاء والرضا لنجاحها في إرضاء جمهورها من الذواقة، استمرت في تحريك عينيها على باقي المنطقة إلى أن توقفت عند البقعة التي يجلس فيها خالها، لم تصدق بقائه حتى تلك الساعة، قالت في ذهول لاكزة أختها في جانب ذراعها لتنتبه لها:

-تصدقي يا "همسة" خالك لسه قاعد لحد دلوقتي!

رفعت الأخيرة عينيها لتنظر إلى الأمام باحثة عن مكانه وهي تقول:

-بتهزري!!

تابعت "فيروزة" جملتها بتأفف مشمئز:

-لأ والعقربة مراته لازقة فيه!

ردت عليها أختها تمازحها:

-تلاقيها مش رحمانا من كتر أرها علينا

أيدتها الرأي فاستطردت:

-ايوه، ربنا يستر من عينيها، ومن شر حاسد إذا حسد!

-يا رب، الأوردر جاهز للتسليم يا "فيرو".

قالتها وهي تناولها آخر ما أعدته من طعامٍ لتضعه في الكيس الورقي حتى يتسنى لها إعطائه لصاحبه، ولزمة معتادة منها مسحت كفيها في مريلة المطبخ التي تحاوط خصرها قبل أن تنظر مصادفة أمامها، وكأنها على موعد مع القدر، كانت أكثر إحساسًا بالتوتر والضياع، جحظت عيناها في ارتعابٍ منه حينما أبصرته أمامها يطالعها عن قصدٍ، جف حلقها وانتفضت عروقها خوفًا من قدومه المحمل حتمًا بالمشاكل، رددت مع نفسها في رجاءٍ كانت واثقة أنه لن يستجاب:

-شكل الليلة مش هاتعدي على خير، يا رب ما يجي هنا!

تراجعت تلقائيًا خطوة للخلف وقد بات بالفعل واقفًا أسفل نافذة العربة وكامل نظراته مرتكزة عليها أولاً قبل أن تتحول عيناها تلقائيًا وبشكلٍ آلي نحو "فيروزة" وقد هتف صائحًا بصوته الرجولي الأجش:

-سلامو عليكم ............................................... !!

.................................................. ......................




منال سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
[rainbow]وفوق كل ذي علم عليم[/rainbow]
ign]






رد مع اقتباس
قديم 28-03-20, 09:59 PM   #16

منال سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية منال سالم

? العضوٌ??? » 358950
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 1,488
?  مُ?إني » بورسعيد - مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » منال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك max
?? ??? ~
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي



الفصل الثاني عشر

بخطواتٍ متهادية بطيئة وحذرة اتجهت "هاجر" إلى الأريكة لتستلقي عليها وقد بدا بطنها المنتفخ متدليًا بشكلٍ لافت للأنظار، وضعت صحن الفاكهة الذي قطعت ثماره إلى قطعٍ صغيرة في حجرها، وبدأت في تناوله واحدة تلو الأخرى، شعرت بعدم الراحة لجلوسها هكذا وساقيها تتدلى، لذا ثنيت ساقها اليسرى ووضعتها أسفل منها، وتطلعت إلى والدتها بنظرات عادية قبل أن تقول لها بلومٍ وفمها ممتلئ بالفاكهة التي تلوكها:

-إنتي غلطانة في الحكاية دي يامه، كان لازم تبلغوا البوليس!

زمت "ونيسة" شفتيها قائلة في حيرة وضاربة بظهر كفها على الآخر:

-وأنا كنت هاعمل إيه وأبوكي مصمم على اللي في دماغه؟!

قالت وبقايا الطعام تتناثر من جوفها:

-كنتي تقوليلنا واحنا نتصرف.

بدت أمها كما لو لسعتها حية فانتفضت بجزعٍ تقول:

-إنتي عاوزاه يغضب عليا؟

ثم التقطت أنفاسها لتهدئ من حالتها المرتاعة لتضيف في ندم:

-بقى دي جزاتي إني حكيتلك؟

-لأ يامه، بس احنا خايفين عليكي.

ردت بصوتٍ متهدج متذكرة إحساسها الشديد بالارتعاب لمعايشة تلك الذكرى من جديد، حتى وإن كانت متجسدة في مخيلتها:

-متفكرنيش يا "هاجر"، ده أنا حالتي كانت حالة، ولسه وحياتك لحد دلوقتي!

تجشأ "محرز" بصوت مزعج بعد أن انتهى من تجرع زجاجة المشروب الغازي على دفعتين وهو يستدير في اتجاه حماته ليعلق بسخافةٍ، وكأن الأمر يعنيه حقًا:

-يا حاجة كده احنا ادينا الحرامي ده فرصة يعلم علينا، والكلام لو اتنتور واتعرف في الحتة شكلنا مش هايبقى حلو.

أدارت رأسها في اتجاهه لترد عليه:

-عمك الحاج هيتصرف

استطرد متسائلاً وهو ينظف ما بين أسنانه بظافر إصبعه الصغير:

-و"تميم" يعرف على كده؟

اتسعت عيناها تحذره بلهجةٍ جادة:

-بالله عليك ما تقوله يا "محرز"! احنا مش عاوزين نعكنن عليه وهو لسه عريس جديد بيشم نفسه مع مراته، مش هايبقى محطوط في مشاكل من أولها!

رد على مضضٍ:

-ما هو هيضايق لما يسمع من برا، ويجي يعتب علينا!

قالت مؤكدة عليه في نبرة أقرب للرجاء حتى لا يتسبب في إحداث مشكلة دون داعٍ:

-ما أنا قولتلك محدش يعرف، وإنت ماتقولوش خالص، ولا كأن في حاجة حصلت، ماشي يا ابني؟

بينما هتفت "هاجر" توصيه هي الأخرى ومدعمة لوالدتها في رغبتها:

-خلاص يا "محرز"، هما أدرى بمصلحتهم.

هز رأسه بإيماءة مستسلمة يقول لهما:

-ماشي يا حماتي، اللي يريحك.

نظرت له "ونيسة" في امتنانٍ بالرغم من القلق الذي اعتراها بعد أن أطلعتهما على ما حدث في المنزل من سرقةٍ قبل بضعة أيام، دعت الله في نفسها ألا يتفوه أحدهما ولو مصادفة بشيء لـ "تميم" أو والده فتتعرض هي للتوبيخ، أشاحت بعينيها بعيدًا عن وجه "محرز" لتنظر إلى ابنتها متسائلة في اهتمامٍ:

-هننزل امتى نشتري حاجات النونو؟

أجابها بتنهيدة متعبة:

-يومين كده ولا حاجة يامه، أكون بس شديت حيلتي شوية.

حركت رأسها في تفهم، وابتسمت تدعو لها:

-على خيرة الله، ربنا معاكي ويقويكي، ويرزقك بساعة سهلة من عنده.

.................................................. ............................

مسحت بمنديل ورقي اللوح الرخامي الممتد أمامها حتى تزيح أي بقايا لزجة عالقة به فور أن عبأت السندوتشات في الكيس الورقي لتكتمل مهمتها في تجهيز الطلب وإعداده للاستلام قبل أن ترفع رأسها وتنظر إلى ذاك الشخص المرابط أسفل نافذة العربة، دققت "فيروزة" النظر في ملامحه المألوفة، عرفته دون عناءٍ في التفكير، إنه العريس الذي دُعيت والدتها لحضور حفل زيجته منذ أيام، وبابتسامةٍ روتينية بحتة سألته:

-أيوه .. أؤمر حضرتك، إيه طلباتك؟!

انتصب "تميم" في وقفته الرجولية المهيبة يجوب بنظراته شكل العربة من داخلها وخارجها وكأنه مفتش من الصحة يبحث عن النواقص والعيوب قبل أن يكتب تقريره النهائي، تأملته "همسة" في خوفٍ مبرر، فسكوته ونظراته المريبة تؤكد لها وجود خطب ما، ناهيك عن معرفتها الجيدة بحمية أختها وتعصبها الزائد لما يخصها، تضرعت بتوسلٍ للمولى أن يمر الأمر على خير، خاصة أن اللقاء السابق معه لم يبشر بخير. أطاح "تميم" برجاواتها حينما هتف متسائلاً بوقاحةٍ منقطعة النظير مستخدمًا يده في الإشارة:

-إنتو بقى اللي مدورين الليلة دي كلها؟

وضعت "همسة" يدها على جوفها لتمنع شهقة مصدومة من الخروج عقب جملته الموحية تلك والتي حتمًا ستشعل جذوة الشجار، كانت مرتعدة من ردة فعل أختها التي لن تقبل بتلميح صريحٍ ومسيء كهذا، التفتت نحو "فيروزة" لتجدها قد جحظت بعينيها في ذهولٍ مستنكر لتلاعبه بالألفاظ والإشارة لكون الاثنتين تفعلان ما يشين، احتدت نظراتها نحوه ورمقه بنظرة عدائية شرسة قبل أن تصيح في وجهه بصوته مرتفع وغاضب:

-ما تحترم نفسك يا جدع إنت! إيه الكلام ده؟ يعني إيه مدورينها؟

أجابها ببرودٍ وقد قست نظراته هو الآخر:

-يعني زي ما فهمتي يا أبلة!

استشاطت حنقًا من اتهامه الباطل الذي يمس سمعتها دون وجه حق، فتشنج صوتها، ولوحت بذراعها وهي تهاجمه وقد انحنت من النافذة نحوه:

-اخرس، قطع لسانك إنت واللي زيك، إنت جاي تقل أدبك علينا هنا؟

بدا فجًا للغاية وهو يتابع وكامل نظراته المزدرية تدور في المكان بشكل ينم عن نفوره:

-أومال تسمي اللمة اللي هنا دي؟ دي معجنة! حريم على رجالة، والسايب في السايب.

اشتعل وجهها واربد بغضبه المستعر، اعتقدت أنه واحدًا من المتسكعين اللزجين الذين يظهرون وقاحتهم مع الناس لترتعد، ردت تحذره بحديةٍ حتى توقفه عند حده، فلا يتمادى معها:

-لأ عندك، أنا مسمحلكش!

ثم اتجهت إلى باب العربة دافعة أختها للجانب لتتنحى عن طريقها، توسلت لها الأخيرة باستماتة والرعب يشع من عينيها المذعورتين:

-بلاش يا "فيروزة"، خليكي معايا، ده شكله بلطجي!

ردت حاسمة أمرها ودون أن تلتفت لها:

-مش سيباه برضوه!

هبطت عن العربة لتغدو في مواجهته، لم تكن بصاحبة القامة القصيرة لتخشاه، بدت أقرب طولاً إليه، تطلعت إليه في عدائية بائنة، وهتفت مدافعة عن نفسها بقوةٍ وذراعها يلوح في الهواء:

-الكل واقف باحترامه هنا، محدش يجرؤ يعمل حاجة غلط، ولا حتى يقدر...

قست نظراتها أكثر نحوه حينما استأنفت جملتها قاصدة إهانته بشكلٍ فج يليق بتصرفه:

-بس في ناس تفكيرها قذر.. زيك كده .. مفكرة الكل مش مظبوطين!

نظر لها شزرًا وقد احتقنت عروقه بدمائه الثائرة، حدجها بنظرة احتقارية جابتها من رأسها لأخمص قدميها وهو يسألها بلهجةٍ ذات مغزى:

-وإنتي بقى اللي مظبوطة؟

صرخت فيه تهدده بسبابتها وعيناها تطقان شررًا:

-اخرس قطع لسانك، انسان مش محترم!

ثم ما لبث أن هددته بعدوانية يستحقها:

-اقسم بالله لو ما مشيت من هنا لأفرج عليك الناس وأمسح بكرامتك الكورنيش ده كله وألبسك مصيبة وقتي!

هتفت "همسة" لها من بعيد وقد تخلت عنها شجاعتها:

-سبيه يا "فيروزة".

لم تستدر نحوها وظلت تحملق فيه بقوة لا تعرف من أين أتتها، لكنها تخرج دومًا في الوقت الصحيح حينما يتم استفزازها، وبالرغم من استبسالها في الدفاع عن خاصتها إلا أنها كانت متوترة من ردة فعله المجهولة، وباتت هواجسها عن كونه أحد أولئك المتعاطين للمواد المخدرة كبيرة، فحينما يلعب المخدر برأس أحدهم يصبح في حالة جنونية وغير واعية، وبالتالي يفتعل المشاجرات مع الأبرياء من أجل مساومة حقيرة، أو فرض رسوم جباية لا حق لهم فيها ليحصل على الأموال التي يريدها بطريقة سريعة وغير شريفة. تحلت بشجاعتها وأخفت قلقها لتنظر له في تحدٍ وقوة، تقوست شفتا "تميم" قليلاً لتظهر بسمة تهكمية قبل أن يرد عليها عن ثقة مُربكة لها:

-هانشوف مين هايمشي، لأنك مش هاتفضلي هنا كتير.

لوحت بيدها في وجهه تصيح بنبرة مستهجنة:

-إنت مين أصلاً عشان تتكلم ولا تهددني؟

ثم أطلقت ضحكة ساخرة قبل أن تستهزأ به :

-أيوه صح، إنت عريس الغفلة!

هددها بسبابته وهو يكز على أسنانه:

-لمي نفسك معايا.

ردت غير مبالية:

-غلطان وبتبجح؟

لم تعبأ بمظهره الغاضب وتعابيره المحمومة ووقفت له الند بالند حتى لا يستضعفها، حانت منها نظرة سريعة خلف كتفه فرأت بعض الشباب مجتمع في الخلف، ربما إن تطور الأمر لرفعت نبرتها واستعانت بهم ليبعدوه، أشعرتها تلك الفكرة بالارتياح قليلاً، في حين أحس "تميم" بالمزيد من الغيظ يتعمق فيه مع كلماتها التي تنتقص من قدره، وتهينه بشكلٍ قاسٍ، أمعن النظر فيها والحيرة تداعب عقله، وخاصة فيما هو متعلق بجراءتها الأنثوية التي تناقض كليًا طبيعة زوجته الساهمة المستكينة التي تكاد تفني عمرها لأجل الحصول على ابتسامة صغيرة منه. عاد من شروده السريع على صوتها المكمل وقد استبد بها حنقها:

-أنا ورقي كله قانوني، وماشية سليم! ولو مفكر بالشبورة اللي إنت عاملها دي هخاف تبقى غلطان، أنا أد عشرة من عينتك! ويا ريت تبطل الهباب اللي بتشربه ده

ابتسم لها في استخفافٍ بعد آخر ما تلفظت به، يا للسخرية! هي تظنه متعاطيًا لأحد السموم البيضاء، اندلع غضبها أكثر منه، ولم تعد تتحمل استهانته بها، لذا وجدت "فيروزة" نفسها تتلفت حولها باحثة عما يمكن أن تستخدمه لتضربه بها حتى تزيحه عن طريقها، توقفت أنظارها عندما وجدت دلوًا مليئًا بمياه غسل أدوات الطهي، على الفور تحركت ناحيته لتحمله، ثم قذفته دون تفكير في وجهه لتغرقه به وهي تطرده:

-اتطرأ من هنا، السكة اللي تودي.

تفاجأ "تميم" بفعلتها غير المتوقعة تلك، وانتفض كليًا مع إغراق ثيابه بالمياه المتسخة، هدر بها في هياجٍ مبرر:

-إنتي اتجنني!!!!

لطمت "همسة" على صدغيها في هلع، وقد تفاجأت هي الأخرى بتصرفها، ارتدت خطوة للخلف تقول في نفسها أن حربًا ضروسًا اندلعت بينهما، ولن يوقفها أحد .. صاحت "فيروزة" وابتسامة انتصار ممتزجة بالشماتة تتراقص على محياها ودون أن يبدو عليها أدنى بادرة ضعفٍ أو تراجع:

-خلي المياه الوسخة تنضف الأشكال الضالة وتشيلها من هنا.

.................................................. ................

صعد معه الدرجات في تمهلٍ متبادلاً معه حديثًا مقتضبًا قبل أن يصل إلى الطابق الكائن به منزله، بدا ضيفه مشغولاً بدراسة المكان وفحص كل زاوية وركن بعناية فائقة، حتى أن هيئته كانت تعبر عن اشتغاله بوظيفة في جهاز حساس بالرغم من تقلده لبدلة عادية. دس "بدير" يده في جيبه ليخرج مفتاحه منه، ثم وضعه في القفل الخاص به ليديره وينفتح الباب، ثم تنحنح عاليًا بصوته المميز ليعلن عن وصوله قبل أن يبادر مرحبًا بضيفه:

-اتفضل يا باشا.

تأهبت حواس "ونيسة" مع سماعها لصوت زوجها، وعدلت من وضعية حجاب رأسها عليها، رسمت ابتسامة لبقة على شفتيها تقول في ودٍ وقد رأت اللواء "وفيق" يمرق للداخل:

-يا مرحب بالضيف الغالي، أديلنا زمن ماشوفنكش يا باشا

قال مجاملاً:

-إزيك يا حاجة، إنتي عارفة ورايا أشغال كتير، واللي زينا مالوش راحة.

دعت له بصدقٍ:

-ربنا يقويك وينصرك على مين يعاديك يا سعادت الباشا

تساءل "بدير" في اهتمامٍ وعيناه تمسحان المكان:

-أومال أبويا فين؟

جاوبته مسترسلة في ردها:

-صلى العشا ونام، و"هاجر" وجوزها كانوا هنا من شوية ونزلوا.

أومأ برأسه في تفهمٍ:

-طب تمام.

أضــاف "وفيق" يطلب منها وهو يمسح على شاربه الكث ليهندمه بلزمة التصقت به:

-معلش يا حاجة هنتعبك شوية، عاوزين فنجانين قهوة كده مظبوطين!

ردت على الفور:

-عينيا، دقيقة ويكونوا عندكم في الصالون، اتفضل ارتاح.

هز رأسه في تهذيبٍ واستدار متجهًا إلى غرفة الصالون حيث قام زوجها بإضاءة أنوارها ليجلس فيها بصحبته، دقائق وعادت زوجته ومعها فنجانين من القهوة وضعتها على المائدة الرخامية المستديرة التي تنتصف الأرائك، ثم انصرفت في هدوء ليبدأ بعدها "وفيق" في تناول خاصته وهو يستأذن بهدوءٍ يعكس جديته:

-عاوزك يا حاج "بدير" توريني أوضة النوم، محتاج أشوف الدرج اللي اتكسر وأعاين المكان.

وافق دون نفاش مشيرًا بيده:

-اتفضل، اعتبر البيت بيتك.

تناول رشفة أخرى من فنجان قهوته، واستند على مرفقيه لينهض من جلسته الاسترخائية ليسير عبر الردهة متجهًا إلى غرفة النوم، قــام بفحص الشفونيرة بتأنٍ وهو يسأل "بدير" بضعة أسئلة تحقيقية، وأجابه الأخير بكل ما يعرفه، وما إن فــرغ منها حتى طلب الذهاب إلى المطبخ للنظر إليه، فكعادة أغلب اللصوص دومًا يقتحمون المنازل من نوافذ المطابخ أو الحمامات، لأن تلك الأماكن مهملة إلى حد كبير من قبل سكان البيت، وتعد بمثابة نقطة الضعف التي يستغلها السارق للولوج للداخل. تساءل "وفيق" بلهجة اكتسبت طابعًا رسميًا وأنظاره مرتكزة على بقعة ما بالأسفل:

-في حد بيستخدم البلكونة دي؟

أجابه نافيًا:

-لأ معتقدش

مط فمه يفكر في أمر ما، ثم عاد يسأله:

-مين غريب بيجي عندك يا "بدير"؟

استغرقه الأمر لحظة ليجيبه مستفهمًا:

-زي مين يعني؟

أجابه ببساطة:

-واحدة بتيجي تنضف مثلاً، عامل بتبعته بطلبات البيت، آ..

أجابه مستفيضًا في الرد

-لأ مافيش، أنا اللي بأجيب الحاجة بنفسي، يا ابني "تميم" ببعته بالطلبات كل أسبوع، وحتى "أم علي" الست اللي بتيجي تساعد الحاجة "ونيسة" في تنضيف البيت كل فترة بتبقى الحاجَّة واقفة على إيدها لحد ما تخلص وتمشي.

هز رأسه معقبًا عليه:

-مفهوم.

سأله "بدير" ليطلع على ما يدور في رأسه من تفكير محلل للأحداث:

-رأيك ايه يا "وفيق" بيه؟

تنحنح مجيبًا إياه بعقلانية:

-واضح أوي من المعاينة يا "بدير" إن الحرامي دخل من هنا...

ثم أشار بيده نحو الزاوية المهمشة ليسير الاثنان نحوها بجوار الشرفة، تقدم "وفيق" أولاً ليقوم بفتحها بعد أن أزاح ما يعيقه، اعتلى ثغره ابتسامة ساخرة حينما رأى بقايا آثار أقدام موجودة في الأنحاء وتحدد بوضوح كيف جاء وانصرف اللص، وذلك بسبب تراكم الأتربة التي تحولت لطين بفعل الأمطار الغزيرة، أومأ بعينيه نحوها يقول:

-بيتهيألي إنت شايف اللي أنا شايفه، رجليه باينة إزاي هنا وهنا، وده معناه إنه طلع من المنور ونط لفوق عشان يوصل للبلكونة دي، ومنها دخل للشقة

علق في غيظٍ:

-ابن الأبلسة

التفت نحوه متابعًا تفسيراته الشرطية وقد بدا على وجهه علامات التفكير العميق:

-هو أكيد عارف المنطقة كويس عشان يقدر ينط من هنا ويوصل للي عايزه بدون ما يعمل قلق، أو حتى حد يشك فيه لو شافه طبعًا، ده غير إنه عارف كمان إن مافيش حد فيكم كان موجود السعادي في البيت.

-مظبوط.

-قولتلي إن الحاجة كانت إيدت قريبك اللي شاكك فيه فلوس؟

-أيوه، ده الوحيد اللي دخل الأوضة، وبعدها حصلت السرقة

-عارف إنت لو كنت بلغت عنه كان اتقبض عليه

رد على مضض وقد اربد وجهه بتعبيراتٍ متأففة:

-مكانش ينفع، بس أنا عارف أربيه إزاي!

أوصــاه "رفيق" بلهجة يشوبها الجدية:

-عمومًا لازم تاخد بالك عشان مايتكررش الموضوع ده تاني معاك، وأمن المكان كويس

رد دون جدال وعيناه تجولان على وجهه:

-هيحصل إن شاء الله!

.................................................. ...............

دقائق غاب فيها من أجل شراء المثلجات لزوجته اللحوح حتى تكف عن تذمرها المستمر؛ والذي أصاب رأسه بالصداع. اصطحب معهما أخته كنوع من إظهار لطفه لها قبل أن يوصلهما للمنزل ليعود ويجد ذاك المشهد المتأزم نصب عينيه، سقط كوب المثلجات عن يده وتبعثرت محتوياته على الرصيف ليهرع بعدها نحو "فيروزة" التي على ما يبدو تتشاجر مع أحدهم، تساءل "خليل" بصوته العالي الذي سعى ليكون خشنًا متحشرجًا:

-في إيه بيحصل هنا؟

تسمرت قدماه وتصلب في مكانه مصدومًا وقد رأى وجه "تميم" الغاضب أمامه، كما تلاشى تفكيره لحظيًا، ابتلع "خليل" ريقه الذي جف وارتجفت أوصاله وقد جاء صوته مهددًا بقوةٍ:

-هتتحاسبي على ده.

انخفضت نظرات "خليل" نحو ثيابه المبتلة، أدرك أن ابنة أخته قد ارتكبت كارثة خطيرة، وعبثت مع من لا يجب المزاح معهم، اقترب منه محاولاً استرضائه وهو يعتذر منه لاعقًا شفتيه بصوته الذي كان يهتز توترًا منه:

-"تميم"، هو إنت؟ معلش يا ابن الكبير، حقك عليا أنا، ده اللي ما يعرفك يجهلك، وإنت سيد الناس.

اغتاظت "فيروزة" من وقوفه في صفه واعتذاره النادم منه دون أن يفهم حقيقة الأمر؛ وكأنها هي المخطئة، فهتفت تعاتبه بحدةٍ مشيرة بإصبعها في احتقار لـ "تميم":

-إنت هتعمل لده قيمة يا خالي؟

برزت حدقتاه خوفًا من بشاعة هجومها الضاري عليه، رمقها بنظرة حانقة يصرخ بها والخوف زاده توحشًا معها:

-يا بت اسكتي وابلعي لسانك! احنا هنروح في داهية كده!

قالت في احتقارٍ أكبر، وتلك النظرة المستهزأة تعلو وجهها:

-مع ده؟ ولا يقدر يعمل حاجة!

بقيت أنظارها النارية عليه وهي تتابع:

-ده أنا هوديه في داهية وهاعمله محضر عشان يتربى.

تمالك "تميم" أعصابه المحتقنة حتى لا ينفجر فيها ويحرق الأرض بمن عليها ليخمد ثورته، لم يستطع وصف مشاعره التي جمعت بين الكثير من التناقضات في نفس الآن بسبب تهورها الأرعن؛ خليطٌ عجيب من الذهول، والغضب، والمهانة، والانتقام. كتم غضبه قائلاً لها بما لا يدع مجالاً للشك أنه سينتقم وبقساوة:

-اللي عندك اعمليه!

تدخل "خليل" يرجوه:

-امسحها فيا أنا، دي بت غبية مابتفهمش.

نظر له "تميم" بعينين غائمتين تنذران بشررٍ مستطر، ولكن صوت "فيروزة" المرتفع أفسد محاولته البائسة لتحجيمه عندما رددت غير مكترثة بتبعات جريرتها:

-ماتعتذرلوش يا خالي؟ ده واحد بجح وشارب، جاي يقول شكل للبيع ويخانقنا ويقول هتتحاسبي وكلام فارغ مالوش معنى!

ثم وضعت يدها أعلى منتصف خصرها متابعة تحديها له:

-طب وريني هتعمل إيه يا سبع البورمبة! البلد فيها قانون يفرف يلم اللي زيك ويحطهم في السجن!

بذل "تميم" مجهودًا خارقًا ليحجم من غضبه الذي خرج عن السيطرة وانعكست بوادره في نظراته القاتمة، زجرها قائلاً وقد همَّ بالانصراف:

-الأيام بينا، وهتشوفي!

تحرك بعدها مبتعدًا عن ساحة الكورنيش التي امتلأت بعشرات المتابعين ونظرات "خليل" المذعورة تتبعه، التفت نحوها قابضًا على ذراعها يهزها منه بعنف وهو يصرخ عاليًا:

-إيه يا بت اللي عملتيه ده، احنا كده وقعنا في مشاكل مع عيلة "سلطان"!!

ردت غير مبالية وهي تنفض ذراعها لتتخلص من قبضته:

-يوريني، وأعلى ما في خيله يركبه!

ازدرد "خليل" لعابه بصعوبة وغمغم مع نفسه في ضعفٍ واضح أزعج "فيروزة":

-استر يا اللي بتستر، كل حاجة كده ضاعت!

استطردت ترد عليه:

-متقلقش منه، أنا ....

هدر في عصبيةٍ:

-بـــس، اسكتي خالص، إنتي مش عارفة النصيبة اللي وقعتينا فيها.

.................................................. ...............

-ايه اللي حصل هناك؟

تساءل "ناجي" في فضولٍ يأكله بعد أن رأى مقتطفات من المشاحنة التي دارت بين رفيقه وتلك الفتاة التي تعمل بالعربة دون أن تتضح الصورة لهن اتخذ موقفًا محايدًا حتى يعود إليه ويتقصى عن الأسباب، في البداية تجاهله "تميم" ولم يرد عليه واستمر في سيره المتعصب ليبتعد عن المنطقة قبل أن يستفزه أحدهم بتعليق مازح يجبره على الفتك به، وهو بالكاد قاب قوسين أو أدنى من التصرف برعونة ورد الصاع صاعين لمن يتجرأ على العبث معه. ألح عليه "ناجي" حتى يشبع رغبته في معرفة التفاصيل، لكن ثمة غمامة مخيفة بدت ظاهرة في صوت رفيقه وهو ينهره مقتضبًا في حديثه:

-قولتلك بعدين.

شعور مزعج راح يضرب كيانه فأصابه بالتخبط والانزعاج، لم يجد التفسير له، لكنه وضعه في حالة ذهنية غير تلك التي اعتاد عليها، ناهيك عن إحساسه المتقد بالغضب الأعمى. اقترح عليه صديقه بطيش حينما تأمل ما يجيش على وجهه من تعابير مخيفة:

-لو عاوزني أربي البت اللي قلت أدبها عليك دي، فأنا جاهز و.....

توقف "تميم" عن المشي ليدير رأسه في اتجاهه، ثم قاطعه بصوته المائل للتشنج ونظراته الصارمة مثبتة عليه:

-وأنا من إمتى بأخد حقي من الحريم يا "ناجي"؟!

رد عليه غير مبالٍ بما هو متبع في عُرفه الملتزم بالأصول:

-خلاص، سيبني أنا أتعامل بطريقتي، وملكش دعوة.

حذره بحزمٍ صريح وقد اشتدت نظراته قتامةً وشراسة:

-متدخلش يا "ناجي"! مفهوم؟

هز رأسه بغير اقتناعٍ ليرضيه مؤقتًا، لكنه كان عازمًا في قرارة نفسه على الاقتصاص له، ومع هذا قال له ليريحه:

-ماشي يا صاحبي.

-سلام، هاكلمك تاني

-مستنيك يا كبير.

كالبركان الثائر قطع "تميم" طريقه عدوًا ليتجه إلى منزل عائلته حتى يبدل ثيابه، فإن ذهب إلى زوجته وهو في تلك الحالة المريبة حتمًا لن يسلم من تساؤلاتها التي ستجدد غضبه وبقوة، وربما يضطر لصبه فيها وتصبح هي ضحية إفراغ شحنته المكبوتة، لذا الأسلم لها وله أن يأخذ فاصلاً بعيدًا عنها حتى يستعيد زمام أمره .................................................

.................................................. .....................





منال سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
[rainbow]وفوق كل ذي علم عليم[/rainbow]
ign]






رد مع اقتباس
قديم 28-03-20, 10:03 PM   #17

منال سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية منال سالم

? العضوٌ??? » 358950
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 1,488
?  مُ?إني » بورسعيد - مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » منال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك max
?? ??? ~
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
?? ??? ~
My Mms ~
Rewitysmile9 الفصل الثالث عشر

الفصل الثالث العاشر

ذهب إلى منزل أسرته ليبدل ثيابه بالقديم الموجود في دولابه حتى لا يعود إلى زوجته وهو بتلك الحالة الرثة فيثير فيها الشكوك والتساؤلات الكثيرة، وهو حاليًا في غنى عن تحقيقها المستفز الذي لن يجني منه سوى استثارة أعصابه من جديد وتذكيره بما يحاول تجاوزه. سحب "تميم" منشفة قطنية نظيفة مسح بها وجهه بعد أن غسله بالماء والصابون، ثم اتجه إلى غرفته لينزل ثيابه الخارجية، تبعته والدته تسأله بعد أن أعدت له مشروبًا دافئًا:

-حصلك ده من إيه يا ابني؟

أجابها في اقتضابٍ وتلك الملامح المتجهمة ما تزال مرسومة على وجهه:

-ولا حاجة يامه.

أسندت الصينية الصغيرة على طرف التسريحة، وسارت في اتجاه الفراش لتجلس على طرفه، رفعت رأسها تتطلع إليه وهي تسألها بفضولها الأمومي القلق على أحوال فلذة كبدها:

-اتخانقت مع "خلود"؟

جاوبها بما يشبه التهكم:

-يامه دي غلبانة ولا تقدر تهش دبانة!

صمتت لحظة تفكر مليًا في حيرة، فابنها عاد متأخرًا في تلك الساعة وثيابه في حالة يرثى لها، وعلى وجهه تعبيرات غاضبة، لم يتشاجر مع زوجته، إذًا الدافع شيء آخر تخشاه، وبكل عفوية ونزق هتفت ونظرات الخوف متشكلة في عينيها:

-بس! يبقى إنت اتخانقت تاني مع حد من بلطجية السوق! ده اللي حصل ومش عاوز تقولي

استدار نافيًا:

-لأ

ألحت عليه بإصرارٍ ونظراتها بالكامل مرتكزة عليه:

-أومال إيه اللي بهدلك كده؟ قولي يا "تميم" وطمني!

جلس إلى جوارها على طرف الفراش، انتصب بكتفيه وأجابها بابتسامة لطيفة:

-دي حاجة بسيطة يا أمي، ما تحطيش في دماغك.

ردت بغير اقتناعٍ وقد وضعت يدها على صدغه تتحسه:

-شكلك رجعت لشغل اللبش تاني والخناقات ومش عاوز تقولي.

أكد لها بصدقٍ:

-أبدًا والله.

سألته في عتابٍ:

-أومال ليه عاوزني تتعبني معاك ومش مريح قلبي؟ شكل في نصيبة حصلت وإنت مخبي عليا! ده أنا أمك وقلبي عليك، متزعلنيش يا ضنايا!

أدرك "تميم" أنها لن تكف عن ملاحقته بأسئلتها إلى أن يجاوبها بما يثلج صدره، تنفس ببطءٍ ثم أوضح لها بسلاسة ودون أن يتعمق في التفاصيل:

-يا ستي والله أنا كنت مع "ناجي" صاحبي، سهرانين شوية، بس مشكلة كده بسيطة حصلت، وخلاص اتحلت وكله تمام

تنهدت "ونيسة" في ارتياحٍ، ثم قالت له وهي تربت على فخذه:

-كملها بالستر معانا يا رب، ده أنا مصدقت إنك رجعت تاني لحضني وبقيت جمبي وسندي، مش هاستحمل حاجة تجرالك.

انحنى ابنها ليمسك بكف يدها المجعد، رفعه إلى فمه ليقبله، ونظر إليها يقول لها ببسمة صغيرة:

-اطمني يامه، مافيش أي حاجة تخوف.

ثم نهض من جوارها ليمسك بالمشروب الدافئ ليرتشفه، تجرعه على مرتين، وتركه في مكانه بالصينية ملتفتًا نحو والدته، سألها في اهتمامٍ:

-قوليلي يامه فين أبويا؟

أجابته بتلقائيةٍ:

-جه أعد شوية مع اللواء "وفيق"، وبعد كده لفوا في البيت ونزلوا.

استغرب كثيرًا من حضور ذلك الضيف الذي لا يأتي دومًا إلا عند حدوث مشكلة خطيرة، مثل قضيته قديمًا، كذلك كانت كلماتها الأخيرة مُدعاة للتساؤل والحيرة، فماذا تعني بقولها أخذ جولة بأنحاء المنزل؟ دقق النظر فيها متسائلاً:

-ليه؟

شهقة خافتة خرجت من جوفها بعد أن انتبهت لما تفوهت به، حاولت الهروب من أنظار ابنها المسلطة عليها، وأدارت وجهها للجانب الآخر لتدمدم بتلعثمٍ ملحوظ:

-هــه! مـ.. مافيش .. حاجة.

ساورته الريبة من طريقتها المكشوفة لتخفي عنه الأمور، سألها بجديةٍ وهو يدنو منها:

-إنتي مخبية عليا حاجة يامه؟

لعقت شفتيها مدعية كذبًا وقد شحب لون بشرتها:

-لا يا ابني.

تفحص وجهها المرتاب قائلاً لها بلهجته التي غلفها الجدية:

-شكلك بيقول غير كده، في إيه؟

لم تستطع النجاة من حصاره، فقالت في استسلام وهي توصيه بتلهفٍ خائف:

-أصل.. يعني .. بس بالله عليك ما تجيب سيرة لأبوك ولا تقوله إني عرفتك، أنا مش عاوزاه يضايقك

علق بنفاذِ صبرٍ:

-قولي يامه حصل إيه!

زاغت نظراتها قليلاً، حاولت أن تبدو جلدة، متماسكة، لكنها فشلت، فخوفها الغريزي ما زال موجودًا بها، لهذا أجابته بتردد وهي تزدري ريقها:

-يعني.. آ... من كام يوم كده واد ابن حرام .. سرقنا.

هتف في ذهولٍ غير مصدق ما تلفظت به:

-نعم، اتسرقتوا؟!

بررت له بصوتها المهتز:

-أيوه، بس أبوك مسكتش وتقريبًا عرف هو مين، بس مش عاوز يقول و...

اربد وجهه بحنقٍ شديد لإخفاء الأمر عليه، شعر بدمائه تثور عما كانت قبل قليل لمجرد تخيل اقتحام أحدهم للمنزل، وربما اعتدائه على من فيه بالقتل أو ما شابه، ثارت ثائرته، وقاطعها منفعلاً:

-وأنا كنت فين؟ وإزاي محدش قالي؟

نهضت من جلستها لتقف قبالته، طالعته بعينيها المتوترتين، وقالت له في يأس عل ثورته تخبو:

-بسيطة يا "تميم"، عدت على خير.

صرخ بها في هياجٍ مبررٍ له أسبابه:

-تتسرقوا وأنا ولا دريان وتقوليلي بسيطة يامه؟؟!!

نظرت له في صمتٍ عاجز، فله كامل الحق في أن يغضب ويعاتبها، نكست "ونيسة" رأسها في حرجٍ منه، بينما استأنف "تميم" صياحه الغاضب يسألها في لومٍ شديد:

-طب وكنتوا مستنين أعرف من برا؟ للدرجادي أنا غريب عنكم؟

لامست جملته الأخيرة قلبها وبدت كالخنجر المسموم فوخزتها بقسوةٍ فيه، رفعت رأسها تنظر إليه في إنكارٍ، ثم دافعت عن موقفها قائلة بنظرات تحتبس الدموع:

-متقولش كده يا ضنايا، غريب إيه بس، متوجعنيش بكلامك ده، إنت بس كنت ملبوخ مع عروستك واحنا محبناش نقلقك ولا نزعلك في شهر العسل.

زاد وجهه احمرارًا من غضبه المتعاظم بداخله، واستطرد مرددًا بصوته المتعصب:

-محروق الجواز، إنتو أهم عندي.

ربتت على كتفه تتوسله:

-اهدى طيب.

نفخ في غيظٍ، ثم سألها مستوضحًا حتى لا يبقى غافلاً عما يحدث من وراء ظهره:

-وبلغتوا البوليس ولا عملتوا ايه؟

أجابته على حسب عِلمها:

-أبوك قال هيتصرف!

نظر لها بعينين مخيفتين، كان غضبه قد بلغ ذروته، تكالبت المصائب على رأسه فجعلته شبه فاقد للسيطرة على انفعالاته، اندفع في عصبيةٍ إلى خارج الغرفة، تبعته والدته لتلحق بخطواته المتعجلة وهي تسألها:

-إنت رايح فين دلوقت؟

أجابها دون أن يستدير نحوها:

-هانزل أشوف أبويا وافهم منه اللي حصل

أمسكت به من ذراعه لتستوقفه وهي ترجوه:

-لا بلاش، ده موصيني مقولكش، وحتى أختك لما عرفت حلفتها ما تجبلكش سيرة

تطلع إليها في استنكارٍ، كان ما باحت به قد أذهله، غامت نظراته يعاتبها بخشونةٍ:

-يعني "هاجر" عرفت وأنا لأ.. وطبعًا النطع جوزها عارف بالحكاية، وأنا بقى اللي في الطراوة!

بدأت والدته في فاصلٍ من النواح، فقالت وهي تضرب على صدرها بكفيها:

-يعني دي غلطتي إني عرفتك؟ أعمل إيه بس يا ربي!

انزعج أكثر وساءت حالته المتشنجة من أسلوبها الباكي في استجدائه، ازدادت نبرته عصبيةٍ وهو يسألها:

-يامه يعني نسيب ابن الحرام ده يعلم علينا من غير ما نجيبه ونربيه؟!

ردت تجيبه عله يتراجع عما ينتوي فعله:

-وأبوك راح فين؟ ما هو مش ساكت، وقالب الدنيا

تقلص وجهه أكثر وهو يجاهد حتى يستعيد التحكم في انفعالاته الهائجة، أخرج زفيرًا بطيئًا من صدره قبل أن يسألها:

-والمبلغ اللي اتسرق كبير؟

هزت رأسها بالنفي وهي تجيبه:

-لأ، ربنا ستر.. كانت حاجة بسيطة.

قال في استهجانٍ:

-بسيطة ولا كتيرة، ابن الـ ..... لازم يتجاب من قفاه!

التف سائرًا بخطاه المائلة للعدو نحو باب المنزل، سألته والدته من خلفه في تلهفٍ مرتعد:

-إنت رايح فين دلوقتي؟ إنت وعدتني متعرفش أبوك!

توقفت يده على مقبض الباب، أدار رأسه نحوها يقول:

-خلاص يامه

استعطفته بعينين تتلألأ فيهما العبرات:

-بالله عليك ما تعمل حاجة، الموضوع خلص يا "تميم".

بدا مترددًا في حسم قراره النهائي، استغلت "ونيسة" الأمر وضغطت عليه بطريقتها الناعمة التي تلين القلوب وتوسلته:

-ماشي يا ضنايا، ارجع بيتك ربنا يرضى عليك، أنا معنديش إلا إنت، ومش عاوزة أخسرك.

لم يجد "تميم" جدوى من الاستمرار في الحديث مع والدته التي وضعته في موقفٍ لا يحق له الاعتراض فيه، تركته ينهي زيارته الخاطفة لها بعد أن وعدها بترك الأمر لوالده، لكن ثورته المستعرة بداخله لم تهدئ بعد.

.................................................. .

ذرع غرفة نومه جيئة وذهابًا ونظرات الغل والحنق تشع من عينيه؛ تارة يضرب كفه بالآخر، وتارة أخرى يسب بكلمات نابية، راقبته "حمدية" ببرودٍ ودون أن تتأثر بشيء، وكأن الأمر لا يعنيها حقًا، أمسكت بمبرد الأظافر تقلمهم بهدوءٍ وهي جالسة على أريكتها الموضوعة في زاوية الغرفة، ثم تطلعت إليه وتلك النظرة الجليدية تغطي صفحة وجهها، تنهدت تنصحه بسماجةٍ ضاعفت من عصبيته:

-بالراحة يا "خليل" ليطقلك عرق ولا تقع من طولك!

استشاط غيظًا من جمودها بعد أن سرد لها تفاصيل المشاجرة، فصب جام غضبه عليها يلومها:

-حبكت يعني أجيب أم الزفت الآيس كريم ده عشان تطفحيه!

زمت شفتيها في برودٍ أكبر، بينما تابع استرساله الحانق قائلاً:

-ما أنا لو كنت موجود، مكانش ده كله حصل، وكنت اتصرفت قبل ما المصيبة تكبر.

شهقت ترد في استنكارٍ وقد أخذتها حميتها:

-هو إنت هتلبسهالي؟ ما المحروسة بنت أختك هي السبب، أل مش قادر على الحمار بيتشطر على البردعة.

كور "خليل" أصابع يده ضاغطًا عليهم في عصبيةٍ وقوة حتى ابيضت مفاصلهم، ثم تمتم بنبرته المتحسرة:

-المصلحة كده طارت، وبقى ليهم عندنا حق!

أضافت "حمدية" بعدائية صريحة لتزيد من تعاظم غضبه:

-المزغودة في قلبها دي مالهاش كبير، ما إنت لو كنت واقفتلها وماسبتلهاش السايب في السايب من الأول وعرفتها إن الله حق مكانتش عملت كده.

نظر نحوها متسائلاً في حيرة:

-طب أعمل إيه دلوقتي؟ "تميم" مش هيسكت، وده قرصته والقبر!

بثقلٍ وتكاسلٍ استندت على مرفقي الأريكة لتنهض من مكانها، أحست بتنميلٍ طفيف أصاب ساقها، تحركت بحذرٍ نحو التسريحة لتضع مبرد الأظافر في مكانه بالكوب المعدني الذي ترص فيه أدوات التجميل، تغنجت بجسدها ومسحت عليه بيديها في تباهٍ، ثم سألت زوجها ونظراتها مثبتة على انعكاس صورته بالمرآة:

-أعملك العشا ولا هتنام خفيف؟

استبد به غضبه فزجرها قائلاً بصوته الحانق:

-وده وقت طفح؟ مش عاوز أتنيل أكل، سبيني في البلوى اللي أنا فيها دي.

ردت بعدم اكتراث وهي تضع أحمر الشفاه على فمها:

-ياخويا، بكرة تطلع الهلولة دي على الفاضي

انهار "خليل" جالسًا على الفراش وواضعًا رأسه بين كفيه، هتف مع نفسه بأنفاسٍ متهدجة من فرط انفعالاته الزائدة:

-دماغي هتنفجر، مش قادر أفكر، ده غير المأمورية اللي عندي من صباحية ربنا

وضعت "حمدية" يدها أعلى منتصف خصرها وهي تستدير نحوه، هزت ساقها تسأله بوجهها الغائم ونظراتها المتسلطة:

-بأقولك إيه إنت هتسافر وتسيبني أنا وعيالك؟!

رفع وجهه إليها يجاوبها في بنبرة مستهجنة:

-هاعمل إيه يعني؟ هو بمزاج أهلي؟!

قالت حاسمة أمرها ودون أن تمنحه الفرصة للنقاش معها:

-طب خلاص، اعمل حسابك يا "خليل" أنا هاروح البلد اليومين اللي إنت مسافر فيهم اقعد مع أهلي، ولما تخلص تعالى خدنا من هناك، ما هو بصراحة مضمنش يحصل إيه وإنت مش موجود.

تتطلع إليها باستياءٍ قبل أن تتحول نظراته نحو نقطة ما بالفراغ ليقول في نفسه بأسفٍ مختلط بالحسرة:

-ليه كده يا بنت "آمنة"، بوظتي الدنيا كلها!

..............................................

-ده إنتي ضربتي كرسي في الكلوب، أنا متوقعتش تعملي كده خالص!

رددت "همسة" تلك العبارة في إعجابٍ واضح على نظراتها وفي نبرتها وهي تسحب الغطاء على جسدها بعد أن ألقت بنفسها على الفراش لتستلقي عليه، نظرت لها "فيروزة" في زهو وغرور تستحقه بعد أن سحقت رجولة ذاك الغريب بجراءة وشجاعة تُحسد عليها، لاحت بسمة صغيرة متغطرسة على زاوية فمها وهي تقول لها:

-يعني كنت أسكتله بعد ما قل أدبه؟

ردت نافية:

-لأ.

لكن ما لبث أن غلف صوتها القليل من القلق وهي تكمل:

-بس أنا خايفة عليكي يا "فيرو".

علقت عليها بثقةٍ وقوة تؤكد شجاعتها:

-الأشكال دي ماينفعش معاها إلا كده، وبعدين يا "هموس" الواد البلطجي ده سوابق ورد سجون.

سألتها في فضولٍ بعد أن استرعت كلماتها الأخيرة اهتمامها:

-وإنتي عرفتي منين؟

أجابتها ببساطة:

-افتكرت لما أمك قابلت أبوه من فترة واحنا في السوق، ملخص الحوار إنه كان لسه خارج من السجن، يعني اللي زيه هيخاف يرجع الحبس تاني!

ما زال ذلك الإحساس المزعج بالقلق ينتابها كلما مر طيفه بمخيلتها، ابتلعت ريقها وحذرتها بتنهيدة متوترة:

-برضوه مش مطمنة، فخدي بالك.

قالت بلهجة يشوبها القوة وقد أراحت رأسها على الوسادة:

-سيبك منه، ولا يقدر يعملنا حاجة! كمان أنا أخو واحدة صاحبتي ظابط، يعني لو فكر يتعرضلنا هطيره.

سألتها "همسة" بفضولٍ حائر:

-طب وخالك هيسيبنا نكمل شغل بعد اللي حصل؟

زفرت "فيروزة" ببطءٍ قبل أن ترد:

-أنا قولتله مش هافتح العربية يومين كده لحد ما نشوف الجو.

تقلبت أختها على جانبها لتنظر لها عن قرب وهي تسألها:

-وإنتي هتعملي كده فعلاً؟

ضحكت تجاوبها في استخفاف ساخر:

-لأ طبعًا، إنتي عاوزانا نخسر زبونا

بدا على وجهها تعابير أكثر قلقًا عن ذي قبل، اعتدلت في نومتها متسائلة:

-أومال؟ هتتصرفي إزاي؟

أجابت في ارتياحٍ وهي تشبك ذراعيها خلف رأسها:

-ولا حاجة، خالك وسط برطمته وندب حظه قال إنه طالع مأمورية، وأنا فهمته بالمحسوس إني هستناه لما يرجع

-وصدقك؟

-معرفش، خالك ده جبان، قطه جمل، هيطلع يطلع وينزل على مافيش، يومين بس وهتلاقيه عادي.

-ربنا يعديها على خير

علقت عليها "فيروزة" في تفاؤل وهي تتقلب على جانبها لتوليها ظهرها:

-إن شاءالله هتعدي، واللي جاي أحسن.

طرأ ببال "همسة" شيء ما فهتفت تقوله بابتسامةٍ عريضة مستعيدة المشهد الساخر في عقلها:

-صحيح شوفتي العقربة مرات خالك كانت هتموت واحنا شغالين، عينها كانت بتبظ على الآخر

تثاءبت أختها وهي ترد عليها:

-ربنا يكفينا شر عينيها

قالت لها "همسة"، وكأن اقتراحها كان مطروحًا للتنفيذ:

-مش كنا إدينها أي سندوتش ولا حاجة

نظرت لها من طرف عينها في ضيقٍ، ثم عقبت بتأففٍ:

-خسارة فيها اللقمة، دي واحدة ما بيطمرش فيها المعروف

-بس ....

وقبل أن تكمل جملتها كانت والدتهما تطل برأسها من باب الغرفة تسألهما:

-إنتو لسه ساهرنين يا بنات؟

بادرت "همسة" بالرد وتلك الابتسامة الناعمة تزين وجهها:

-خلاص يا ماما هنام.

أومأت برأسها في حركة تلقائية، وقالت:

-طيب يا حبايبي، تصبحوا على خير

استرخت "همسة" على الفراش ترد عليها:

-وإنتي من أهله يا ماما

أغلقت "آمنة" الباب على كلتيهما بعد أن أطفأت الإضاءة، ســاد الصمت للحظات قبل أن تقطعه "فيروزة" بصوتها المائل للنعاس وهي مطبقة على جفنيها:

-بأقولك إيه، تبات نار تصبح رماد، كله بيتنسى، فمتحطيش في بالك.

تنهدت أختها في رجاءٍ وقلبها القلق يدعو:

-يا ريت.

.................................................. ..

لم يتجه مباشرةً إلى منزله، بل تجول في المناطق المجاورة بغير وجهة محددة حتى تمكن التعب من قدميه، تلفت حوله باحثًا عن مقهى ما زال يستقبل زبائنه، لكن أغلب المحال قد أغلقت أبوابها بسبب برودة الطقس الذي كان كالنسمات على وجهه المشتعل، تطلع "تميم" إلى ساعة يده، كان الوقت قد تأخر بالفعل، لم يجد بدًا من العودة إلى زوجته، تلكأ في خطواته، وأثناء صعوده الدرج معتقدًا أنها ربما تكون قد استغرقت في النوم. وما إن دس المفتاح في قفله وفتح الباب حتى وجدها في استقباله، نكس رأسه مرغمًا حتى لا يرى نظراتها المعاتبة، لكن صوتها المتلهف اخترق أذنيه وهي تسأله:

-إيه اللي أخرك يا حبيبي؟

كان "تميم" فاقدًا للرغبة في مسايرة ما تُعايشه من أحلام يقظة وردية، لذا رد بفتورٍ وتعب:

-عادي.

استنكرت "خلود" رده المقتضب معها، ومع ذلك اقتربت منه تمسح على ظهره برفقٍ وحنو، أراحت رأسها على كتفه، وابتسمت له قائلة:

-ولا يهمك يا حبيبي، المهم إنك رجعتلي.

ثم انخفضت نظراتها لتتأمل ثيابه التي بدت مختلفة، سألته والدهشة تعتريها:

-إيه ده؟ هو إنت غيرت هدومك؟ في حاجة حصلت يا "تميم" وأنا معرفهاش.

أجاب بغموضٍ أربكها:

-متقلقيش.

ثم حرر نفسه من ذراعها المحاوط لكتفه ليسير نحو غرفة النوم، مشت خلفه تسأله في ضيقٍ وقد فاض بها الكيل من تجاهله لها:

-ماتسبنيش كده على ناري، قولي في إيه؟

نفخ أولاً بزفيرٍ مسموعٍ قبل أن يجيبها مضطرًا حتى تكف عن أسئلتها السمجة:

-مافيش، اتبهدلت في حوار كده، وعديت على أمي أغير هدومي بدل ما أمشي بمنظري ده في الشارع.

سألته كأنها تحقق معه:

-هو إنت اتخانقت تاني؟

أجاب بضيقٍ:

-ولا خناقة ولا نيلة، كبري دماغك

سبقته في خطواته حتى اعترضت طريقه، سلطت أنظارها عليه وهتفت بإصرارٍ عنيد:

-لأ مش هاكبر، أنا....

صاح بها في قوةٍ وقد نفذت طاقته:

-"خلود"، كفاية، أنا مش ناقص خاوتة!

انتفضت من صوته المجلجل، حاولت أن تستخدم الرقة معه لتستنبط منه الحقيقة التي يخفيها عنه، اقتربت منه، ووضعت يدها على كتفه، تلمسته في رقةٍ حتى لامست أناملها جانب عنقه، أسبلت نظراتها الساهمة نحوه تقول له:

-أنا خايفة عليك يا "تميم"، لو حصلك حاجة هموت، وبعدين دلوقتي أنا مراتك، وليا لي حق عليك.

طالعها بنظرة غريبة ملتزمًا بصمته المريب، وكأن الكلمات تأبى الانصياع له ومجاراتها في مشاعرها المهتمة به، أولاها ظهره واستدار عائدًا نحو صالة المنزل، اندهشت من تصرفاته التي تدعو للاسترابة، لحقت به تسأله:

-إنت رايح فين دلوقتي؟

وجد نفسه يجيبها ودون أن يكلف نفسه عناء التطلع إليها:

-طالع السطح، مخنوق وهاقعد شوية لوحدي فوق

هتفت من خلفه بما يشبه اللوم:

-أنا مشوفتكش طول اليوم، وحتى الساعة اللي هانقعد فيها سوا هتسبني لوحدي؟!

أمسك بالمقبض يديره، ثم قال بنبرة عازمة:

-معلش، سامحيني المرادي، أنا على أخري!

ثم حانت منه التفاتة سريعة من رأسه وهو يعدها:

-وهاعوضك بعدين.

لوت ثغرها قائلة بتجهمٍ كبير وامتعاضٍ يعبر عن عدم رضائها عما يفعله:

-طيب براحتك.

أضاف بجمودٍ:

-ولو عاوزة تنامي فـ ...

قاطعته بما لا يدع مجالاً للنقاش:

-لأ هستناك، أنا مش جايلي نوم أصلاً.

هز رأسه في تفهمٍ وهو يرد:

-ماشي.

خرج "تميم" من المنزل صافقًا الباب بقوةٍ جعلت أطرافها تهتز لا إراديًا، وبنظرات غائمة ووجهٍ مكفهر حملقت "خلود" في شرودٍ، وذاك السؤال الحائر يتردد في عقلها:

-يا ترى إيه اللي حصل وشقلب كيانك كده يا "تميم"؟!

.................................................. ......

تراءى له بوضوحٍ ما يجب أن يفعله معه بعد أن اكتملت أجزاء الصورة الناقصة، خاصة وأن أحد رجاله قد أبلغه بعودته من السفر. وقف "بدير" أمام باب المنزل ينقر برأس عكازه عليه في قوةٍ، استقام في وقفته التي تعبر عن هيبته وسطوته منتظرًا مجيئتها لتفتحه له، وها قد صدق توقعه، ووجد "بثينة" تقف عند أعتابه تتأمله بنظراتها الناقمة على الحياة ومن فيها، وبكل غلظةٍ وخشونة سألها:

-المحروس ابنك شرف؟

نظرت له شزرًا قبل أن تجيبه:

-الناس بتقول سلامو عليكم الأول يا حاج "بدير"!

رفع عكازه أمامها ليشير به وليجبرها على التنحي للجانب حتى يمر، رمقها بنظرة غامضة وهو يرد عليها:

-لا سلام ولا كلام، ابنك البغل رجع من السفر؟

اغتاظت من شتمه له، وقالت على مضضٍ:

-أيوه، ونايم جوا يريح جتته من تعب السفر.

حدجها بنظرة أخرى عبرت عن ازدرائه لها، ثم اندفع نحو الردهةٍ مما استفزها، سألته من خلفه وهي تسابقه في خطواته:

-إنت رايح فين يا حاج؟

قال باقتضابٍ:

-هافوقه.

قطبت جبينها في اندهاشٍ حائر، لم تدع الفضول يأكلها فسألته بتعبيراتها الحادة:

-هو في إيه؟

تلك النظرة الاحتقارية التي تعلو وجهه كانت تستحقها، لم يرح بالها وأجابها بنفس الغموض المثير للأعصاب:

-ابنك عارف.

استاءت من تلاعبه معها فصاحت به:

-هو إنت هتكلمني بالألغاز، أنا لازم أفهم في إيه؟ جيتك السعادي مش طبيعية، وراها حاجة!

جلجل صوته وهو يحذرها:

-خليكي برا الليلة دي أحسن يا "بثينة"

-ليلة! يبقى الموضوع فيه إن!!

تمتمت بتلك العبارة والشكوك ملأت صدرها، فحضور زوج أختها في ذلك التوقيت الشاذ يوحي بكارثة وشيكة، لحقت به تراقب ما يفعله، وجدته يلكز ابنها المسجى على الفراش في جانب جسده بقسوةٍ مستخدمًا عكازه مما جعله ينتفض مذعورًا وغاضبًا في نفس الآن، خاصة وهو يهينه:

-اصحى يا حرامي

كان على وشك سب من تجرأ وأيقظه من غفلته، لكنه تدارك نفسه بعد أن حلت عليه الدهشة واختلطت مع مخاوفه، همس بصوته المهتز الثقيل:

-هــه.. جوز خالتي!!

نظر له "بدير" في احتقارٍ، ثم أهانه بغيظٍ وهو يكز على أسنانه:

-نايملي ومدلدل كرشك يا كلب، قوم واتعدلي كده

مسح "هيثم" لعابه المنساب من جانب فمه بظهر كفه، ثم فرك رأسه متسائلاً في توترٍ ورائحة أنفاسه الكريهة تكاد تصل إليه:

-في.. إيه يا جوز خالتي؟

تأفف منه وهو يتفحصه في دقةٍ مُلاحظًا تلك الحمرة المريبة التي تحتل حدقتيه، مع فقدانه للاتزان، وجه عكازه نحوه ليلكزه بعنفٍ في صدره وهو يأمره بصوته الأجش:

-اقف على حيلك وأنا بأكلمك!

سألته "بثينة" والاستغراب يعتري كامل ملامحها:

-في إيه يا "بدير"؟ عاوز من ابني إيه

التفت نحوها ينظر لها في حنقٍ، ثم أدار رأسه نحو "هيثم" يطالعه في غموضٍ قبل أن تمتد يده لتهوي على صدغه بصفعة قاسية مؤلمة تردد صداها في أركان الغرفة وجعلته يتأوه من شدة تأثيرها. هتفت "بثينة" في جزعٍ:

-ابني

اخشوشنت نبرة "بدير" وتحولت للشراسة وهو يوجه اتهامه نحوه:

-بتسرق بيت خالتك يا حرامي؟!

فرك "هيثم" جانب وجهه الذي تخدل من عنف الصفعة، وأنكر فعلته قائلاً بصوته الحانق:

-أنا مسرقتكش!

هدر به زوج خالته بقوةٍ:

-كداب.

تدخلت "بثينة" تدافع عن ابنها باستماتة وقد وقفت بجسدها تحول بينهما:

-إنت جاي تتبلى على ابني يا "بدير"؟ لأ وكمان بتضربه؟

أجابها بنفس الصوت الغاضب ونظراته المشمئزة مسلطة على "هيثم":

-هو عارف عمل إيه!

تفاجأت "بثينة" كليًا وشهقت مصدومة حينما قال ابنها بغتةٍ ومعترفًا بجريمته:

-أيوه عملت كده وسرقتك..

لطمت على صدغها تقول في دهشة وقد شخصت أبصارها:

-"هيثم"! إنت عملت إيه؟

أجابها صائحًا ورذاذ لعابه يتناثر في الهواء:

-أنا خدت حقي منه

رد عليه "بدير" مستنكرًا وقاحته:

-حقك؟ حق مين يا أبو حق؟

تابع "هيثم" هدره الناقم:

-حق أبويا اللي راح فداكم زمان!!!

للحظة توقف الزمن وعاد إلى الوراء، حيث تجلت المشاهد القديمة في ذهنه بوضوح مدهش، كان "غريب" والد ذلك الوقح لا يزال على قيد الحياة ويشكو مرارة العيش وصعوبة توفير النفقات، آنذاك جاء إليه يتوسله أن يقرضه المال لينفقه في إقامة مشروع صغير سيجني منه الأرباح ويسدد ديونه المتراكمة، واقترح عليه أن يفتتح محلاً لبيع الطلاء يكون مملوكًا له بعد سداد كامل قيمته، وفي المقابل يشاركه في الأرباح. وافق وقتها ومنحه كل الدعم المادي ليقف على قدميه، ولم يطالبه بسداد الأقساط المستحقة إكرامًا لرجاء زوجته بالوقوف إلى جواره ودعمه، لكن أطماع "غريب" ورغبته في الثراء السريع جعلته يغش في تجارته، استبدل الجيد من مواد الطلاء بأخرى قليلة الجودة، وبالرغم من نصائح "بدير" المستمرة له -وتهديداته أحيانًا بإنهاء العمل وفض الشراكة- إلا أنه لم يرتدع أو يصغِ إليه، وأصر على ما يفعله ضاربًا بكل تهديداته عرض الحائط حتى حدثت الفاجعة والتهمت النيران كل شيء، وهلك هو معها، لتحل الخسارة على جميع الأطراف.. عاد "بدير" من سرحانه في تلك الذكرى غير السارة وقد توحشت نظراته وكذلك نبرته حينما هدر:

-أبوك موت نفسه بسبب غشه وطمعه، مش بسببنا، وبلاش تخلط الأمور ببعض.

رد عليه يلومه:

-عاوز تبرأ نفسك من دمه؟

هتف موضحًا بصوتٍ يشبه الرعد في قوته:

-احنا عملنا اللي علينا زمان وساعدناه، وسيبناه يشتغل زي ما هو عاوز، بس أبوك كان غشاش، مصانش النعمة، وكان ماشي ورا شيطانه لحد ما ضيع نفسه ...

ثم تحولت نظراته نحو "بثينة" وهو يتابع:

-وأمك عارفة بكده، متقدرش تنكر!

أنكرت الحقيقة فادعت كذبًا:

-إنتو اللي عاوزين تاكلوا حقنا، و...

أخرسها على الفور "بدير" رافضًا منحها الفرصة لتلفيق الأكاذيب بأسلوبها المبتذل في التلاعب بالأمور مستخدمًا عكازه في التلويح المهدد:

-حقكم خدتوه تالت ومتلت! ولولا العِشرة وصلة الدم لكنت رميتلك ابنك يتعفن في السجن!

تطلعت إليه بعينين ناريتين عاجزة لوهلة عن الرد عليه وقد أوقظ ذكريات الماضي بكل ما فيها، دب الرعب في بدنها وجحظت عيناها الحانقتين حينما هدد ابنها وبركان غضبه يثور فيهما:

-وإنت يا حرامي! هاعتبر الفلوس اللي إنت سرقتها من ورايا فدا عيالي، بس قسمًا بالله لو اتكرر ده تاني هخليك تحصل أبوك، وأدفنك بالحيا، سامعني!

نظرة أخيرة محملة بالكراهية والشر رمقها لكليهما قبل أن يتركها وينصرف من الغرفة، التفتت "بثينة" نحو ابنها تعاتبه:

-ليه كده يا "هيثم"؟ ليه خليته يبيع ويشتري فينا؟

وبوقاحةٍ وعدم احترامٍ دفع "هيثم" والدته من كتفها ليزيحها عن طريقه ليندفع نحو الخارج صارخًا بها وغضبه المستعر يتجمع في عينيه بسرعة البرق:

-ابعدي عني يامه!

لم تتمكن من استبقائه في المنزل بعد أن أطاحت عاصفة "بدير" بكل شيء، وقفت في مكانها تلطم على صدغيها حتى التهبا وهي تنوح في حسرةٍ وسخط:

-منك لله يا "بدير"، هتخسرني الواد اللي حيلتي .................................. !!!

.................................................. ..........





منال سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
[rainbow]وفوق كل ذي علم عليم[/rainbow]
ign]






رد مع اقتباس
قديم 28-03-20, 10:07 PM   #18

منال سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية منال سالم

? العضوٌ??? » 358950
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 1,488
?  مُ?إني » بورسعيد - مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » منال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك max
?? ??? ~
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
?? ??? ~
My Mms ~
Rewitysmile9 الفصل الرابع عشر

الفصل الرابع عشر
لا يعرف كم دخن من السجائر لينفث بها عن حنقه المكبوت والمشتعل في رأسه، ناهيك عن الأحاسيس الجديدة التي اُضطرمت بداخله وزادت من تأجج غضبه غير المفهوم، لم يكن السبب فقط موضوع السرقة الذي أُخفي عنه، بل إهانة تلك الفتاة الثائرة له. استثاره أنها لم تهابه، ولم ترتدع من سمعته التي ربما تجعل البعض يفكر مرتين قبل أن يقترب منه، كانت على النقيض من بني جنسها من النساء، أنثى قوية، شجاعة، لا تهتز بسهولة، وقادرة على الدفاع عن نفسها بشكلٍ يثير الإعجاب والفضول. أحس "تميم" بدبيب شيء ما يناوشه من بعيد، لكنه لم يفقه إليه بعد، ورغم ذلك ما زال حانقًا لعدم إفراغ غضبه .. كان وجهها المتشنج بنظراتها النارية لا يزال محتلاً لمخيلته، وكأنها طيف حي يزداد سطوعًا مع استمرار تفكيره فيها، قاوم تلك الأحاسيس الغامضة التي استحوذت عليه مستعيدًا موقفها الأخير بإلقاء الماء العكر في وجهه أمام الحاضرين، استغله ليقضي على تلك اللمحة المحيرة التي تشوش ذهنه وتجعله غير قادر على اتخاذ موقفًا صارمًا .. نفخ في غلٍ، ردد مع نفسه في استنكارٍ مستهجن وكأنه يُفكر بصوتٍ مسموع:
-مش أنا اللي يتعمل فيا كده، مين دي أصلاً؟!
قذف بقدمه حجرًا مهملاً كان موجودًا على مقربةٍ منه، ثم تقدم خطوة نحو السور المنخفض لسطح منزله، ورفع قدمه ليستند به عليه، تطلع بغير هدى في الفراغ المعتم أمامه بعينين تقدحان شررًا وقد أدرك أنه في حيرةٍ من أمره، فليس من شيمه أن يقتص لحقه من النساء، وإن كانت مذنبة، فهذا يناقض ما نشأ عليه، فلو كانت رجلاً لأبرحه ضربًا ولجعله عبرة لمن في المنطقة، لكنها امرأة! عاد ليفكر مليًا وبعمقٍ فيما فعلته مختلقًا لها الأعذار، ربما لم تكن كما اعتقد وأساء الظن بها، وما تطاولت به عليه كان دفاعًا مشروعًا عن حقها في الحصول على لقمة العيش، لكن ليس من المعتاد أن تمتهن النساء بتلك الأعمال المثيرة للريبة، خاصة وأنها تمتد لساعات متأخرة من الليل، كذلك هو رأى بعينه تجمعات مختلفة لمجموعات من الشباب الضاحك المحتشد بجوار عربتها، ناهيك عن وجود بدائل أخرى من الأعمال النسائية مما لا تثير الشبهات، عاد تفكيره ليدينها وقد ظن أن ذلك ربما يكون ستارًا خفيًا لاصطياد الرجال وارتكاب المحرمات تحت غطاء العوز والفقر، كور قبضة يده وضغط عليها بشدةٍ حتى ابيضت مفاصله، همس مع نفسه في ضيقٍ مزعجٍ:
-أنا كده متكتف، هاتصرف معاها إزاي؟
.................................................. ...........
في تلك الأثناء، ضجرت "خلود" من انتظارها غير المجدي بمفردها في المنزل تضرب أخماسًا في أسادسٍ تترقب عودة زوجها إليها، أحست بضرورة وجودها إلى جواره حتى وإن كان معترضًا، ومع تغلغل تلك الرغبة فيها فقدت آخر ذرات صبرها، لذا قررت الذهاب إليه متحملة تبعات تلك الخطوة، ربما تنجح بدلالها وغنجها الأنثوي في امتصاص عصبيته وتثبيطها، ومن ثمَ استدراجه ليبوح لها بأسراره .. لفت الوشاح الصوفي حول كتفيها، وأحكمت ربط حجاب رأسها ثم سحبت مفتاح المنزل ودسته في حافظتها الجلدية الصغيرة، أغلقت الباب خلفها واتجهت للدرج، كانت تعدو صعودًا بأنفاس متهدجة، وقفت عند مدخل السطح تتطلع إليه بعينيها الساهمتين، خُيل إليها أنه هدأ قليلاً بعد مكوثه لساعات بالأعلى، لكنها سمعته يهمهم بكلماتٍ غير مفهومة، دنت منه بهدوءٍ تام عل أذناها تلتقط ما يقوله، باتت على بعد خطوتين منه، ولم تستمع إلا لأصوات أنفاسه الغاضبة وسبابٍ حانق يلعن به أحدهم، سألته بتلقائيةٍ:
-إنت بتكلم نفسك يا حبيبي؟
انتبه لوجودها فتقلص وجهها الحانق أكثر، رمقها بنظرة لا تبشر بخيرٍ وهو يسألها في عصبيةٍ:
-"خلود"؟ بتعملي إيه هنا؟
ضبطت نبرة صوتها حتى لا تظهر قلقها عليه قبل أن تجيبه:
-جيت اطمن عليك يا حبيبي...
ثم أراحت رأسها على كتفه، وتابعت مُبدية اهتمامها به:
-الجو مش برد عليك؟
أبعد رأسها عنه وكأنها حية تلدغه، ثم أمرها بخشونة:
-انزلي الشقة وماتطلعيش تاني!
تطلعت إليه في انزعاجٍ واضح، لم تصغِ إليه وسألته بوجهٍ اكتسب ملامحًا جادة:
-مالك يا "تميم"؟ إيه اللي مغيرك؟
هدر بها بصوته المتشنج:
-يوووه، هو إنتي لازم تعصبيني كل شوية؟
انتفضت من صراخه بها وتراجعت لا إراديًا خطوة للخلف لتكون في مأمن من غضبته، ازدردت ريقها وهتفت بما يحمل العتاب:
-"تميم"، اهدى، في إيه لكل ده؟ أنا مراتك مش حد غريب!
لانت نبرتها قليلاً حينما أكملت موضحة:
-وبعدين أنا قلقت عليك وخوفت يجيلك برد فطلعت أشوفك، ما أجرمتش يعني؟
نظر لها بشكلٍ غامض، كانت محقة في أسباب قلقها. اختفت الجدية من صوت "خلود" ليحل الاختناق عليه وهي تلومه مستشعرة بقوةٍ أنه لا يبادلها أي نوعٍ من المشاعر المهتمة:
-ليه دايمًا بتحسسني إنك مُجبر عليا؟ وإني حد غريب عنك؟
رد بجمودٍ:
-أنا حابب أكون لوحدي، مش حكاية يا "خلود"!
-لأ يا "تميم" حكاية ورواية كمان!
وجدت صعوبة في إكمال جملتها بصلابةٍ، حتى كلماته لا تشفق عليها ولا تظهر أي نوعٍ من التعاطف معها، وكأنها مخلوق من حجر لا يتأثر ببرودة مشاعره، انسابت دموعها ونكست رأسها في خذلانٍ وهي تستطرد:
-أنا.. قولتلك من الأول.. لو مش عاوزني متكملش!
كالخنجر الحاد طعنته جملتها في صدره وأشعرته بتأنيب الضمير، لماذا وحدها تتحمل جرائر انفعالاته وهي التي تكاد تموت شوقًا لكلمة ناعمة منه؟ استنشق الهواء البارد حتى يستعيد انضباط أعصابه، عليه أن يصلح ما أفسده، تنهد بقنوطٍ، بدت حركة قدميه ثقيلة وهو يخطو ناحيتها ليعتذر منها:
-متزعليش.
تراجعت قبل أن يلمسها تصرخ فيه بمرارةٍ ووجهها أُغرق بالكامل بدموعها الحارقة:
-مش كل مرة كده، أنا بيصعب عليا نفسي وأنا بأحاول بكل الطرق أرضيك وإنت ...
انفجرت باكية فعجزت عن مواصلة الحديث، إحساسه بالذنب وخز وجدانه أكثر، خطا نحوها وامتدت ذراعه لتمسك بها من معصمها، وبحركة واحدة قوية جذبها إليه وخبأها في أحضانه، بكت "خلود" بشهقات متقطعة على صدره، في حين مسح برفقٍ على ظهرها وقبل أعلى جبينه متابعًا اعتذاره النادم:
-أسف يا "خلود"، معلش استحميلني شوية.
رفعت وجهها الباكي إليه، تطلعت إليه في ألمٍ، ثم ردت عليه:
-أنا معنديش مانع أصبر العمر كله، بس معاملتك تتغير معايا، أنا ماستهلش ده منك
وجد صعوبة في الابتسام وهو يقول:
-حاضر يا حبيبتي، كل اللي إنتي عاوزاه هيتنفذ، بس متعيطش!
تنفست بعمقٍ لتسيطر على نوبة بكائها، كذلك حاول "تميم" استرضائها بمنحها قبلة ناعمة على وجنتها، وداعب بإصبعه أنفها، نظرت له بحبٍ شغوف متناسية آلامها المعنوية، كفكفت بظهر كفها عبراتها وسألته:
-ها .. هتنزل معايا ولا آ...؟
أجابها دون تفكيرٍ:
-نازل يا ستي، مبسوطة
حركت كتفيها في غنجٍ، ثم عضت على شفتها السفلى وهي ترد :
-شوية.
حاوطها من ظهرها وضمها إليه وســار معها نحو باب السطح فأحست بالدفء يغلف جسدها، تنهدت في ارتياحٍ صامت، ونظرت له عن قرب وهي تهمس له ويدها تتلمس صدره النابض بقوة:
-ربنا يخليك ليا يا حبيبي.
ربت على جانب ذراعها دون أن ينبس بكلمةٍ آملاً في نفسه ألا يستبد به الغضب من جديد فلا ترى هي -أو غيرها- وجهه الخفي الذي يحاول كبحه.
.................................................. ........
سهرة ذكورية متأخرة أقامها أعلى سطح منزله الذي يقطن فيه بمفرده، ولكن بصحبة أتباعه ليقوموا بخدمته وتلبية احتياجاته من إحضار المشروبات الكحولية، وتجهيز نارجيلته كلما انطفأ حجرها. التزم "ناجي" الصمت أغلب الوقت -وكأنه يحيا في عالمٍ خاص به- مكتفيًا بإخراج سحب الدخان الكثيفة بعد أن تنتهي مهمتها في إحراق رئتيه من جوفه وفتحتي أنفه، لم يكن رائق المزاج أو كعادته المعروفة في إلقاء النكات السمجة أو القبيحة ليلهب الأجواء. جثا "شيكاغو" على إحدى ركبتيه ليضع الفحم المتقد في مكانه بالنارجيلة متسائلاً في فضولٍ وعيناه تجولان على وجهه:
-مالك يا ريسنا، في حاجة معكرة مزاجك؟
أجاب باقتضابٍ زاد من الفضول:
-يعني..
سأله مبتسمًا، وكأنه يملك عصًا سحرية قادرة على فعل المستحيل:
-طب إيه المطلوب ونعدل المزاج يا كبير؟
لوح له بخرطوم النارجيلة قبل أن يجيبه:
-مالوش لازمة!
ومن الخلف تساءل "حمص" في اهتمامٍ:
-أومال الريس "تميم" فين؟ مش هيسهر معانا ولا إيه؟
رد عليه "شيكاغو" بما يشبه المزاح:
-شكل الجواز هيجي على دماغنا.
علق عليهما "ناجي" بزفيرٍ ثقيل، وكأن شيء ما يجثم على صدره:
-لأ مش كده، بس انسوه خالص اليومين دول!
ارتفع حاجب "حمص" للأعلى متسائلاً:
-ليه بس؟
أجابه دون وعيٍ بعد أن لعب الدخان غير البريء برأسه فأصبح غير قادر على التحكم فيما يتفوه به:
-أصل شوية بنات شوارع عكننوا عليه مزاجوا، ومش طايق حد.
توهم "شيكاغو" أنه يتحدث عن مشاجرة شديدة ربما تكون قد وقعت بين "تميم" وإحدى الساقطات اللاتي يتخذن أماكن معينة في بعض المناطق من أجل الحصول على متعة غير شريفة في مقابل حفنة من النقود، فقال عارضًا خدماته:
-لأ دول معروف تمامهم إيه، إدينا بس الإشارة!
عقب عليه في فتور وقد شعر بالثقل يجتاح رأسه:
-بعدين، غيرلي الحجر لأحسن مش عاجبني!
تحول في لحظةٍ إلى التابع المطيع وهو يرد مبتسمًا بابتسامة سخيفة أظهرت اتساخ أسنانه:
-أوامرك يا كبير.
أجاد ما يفعله معه، واسترسل معه بمكرٍ عله يحصل على معلومات مفيدة ربما يوضفها لصالحه بعد أن طرأ بباله فكرة جهنمية، وما إن انتهى منه حتى تركه يستمتع بالتدخين ليعود إلى رفيقه الذي كان يبتلع الطعام بشكلٍ مقزز، مال عليه يسأله بصوتٍ خفيض:
-إيه رأيك ياض يا "حمص" لو خدنا بونط ووجبنا مع الريس "تميم"؟
رد متسائلاً والرذاذ المختلط باللعاب يتناثر من فمه:
-هنعمل إيه يعني؟
غمز له بطرف عينه، ثم لكزه وهو يرد بصوتٍ خفيض:
-هفهمك بعدين، بس أشوف ريسنا!
نهض من رقدته حاملاً طبقًا مليئًا بالسوداني وبعض المكسرات ليضعه بجوار "ناجي"، تأكد من عدم حاجته إليه ليرجع إلى صديقه، تبادل معه حوارًا هامسًا أطلعه فيه على ما يدور في رأسه بعد أن تشكلت فكرته العبقرية، حيث راودته فكرة السعي للانتقام لـ "تميم" والاقتصاص له بعد أن باح له "ناجي" في غير وعي منه عن حنق الأول مما صار معه ورغبته في إهانتها بعد أن عبثت بهيبته في مقابل نيل مبلغ مالي كبير يسد به كليهما عوزهما، ونجح بحنكته اللئيمة في أن يحصل على بعض المعلومات الأساسية عن تفاصيل المشاجرة مع الفتاة. رد عليه "حمص" بوجه تظهر عليه علامات التفكير:
-مالوش لازمة، بت إيه اللي هنتخانق عشانها؟ إنت شكلك لسعت!
رد عليه بعقلانية حتى يقنعه بالاشتراك معه في رسم تلك الخطة:
-ياض مايبقاش مخك ضلم، هنطلعلنا بقرشين كده منه، وهو فلوسه حلوة وكتيرة، خلينا نروق على نفسنا، والحكاية مش هتاخد مننا غلوة، احنا بس نفكر ونرتب هنعملها ازاي وامتى.
حك طرف ذقنه يفكر في العرض الشيطاني، ثم ما لبث أن سأله مستفهمًا وقد راقت الفكرة له:
-وهنعرف البت دي منين؟
جاوبه في انتشاءٍ مغتر:
-بسيطة، صاحبك معلم وبيعرف يجيب أرار أي حاجة!
هز رأسه في استحسانٍ متابعًا تعليقه عليه بما أكد له موافقته الصريحة على الاشتراك فيما يريد فعله، وتلك النظرة الغامضة الوضيعة تتوهج في حدقتيه:
-على رأيك، وأهوو نستفيد بأي حاجة بدل ما الدنيا مأشفرة على الآخر معانا، دوس يا برنس وأنا معاك!
.................................................. ...............
لوح بيده لأحد عماله ليكمل تعبئة الأقفاص بالخضروات الموضوعة في الأجولة، ثم استدار سائرًا نحو المكتب الخشبي ليسحب المقعد الجانبي، حمله "تميم" في خفةٍ وبيد واحدة ووضعه على مقربة من والده الجالس بالخارج ومنهمك في تناول قهوته ومطالعة الصحيفة، كنهج يتبعه يوميًا. جلس بجواره ونظراته المعاتبة تغطي وجهه، تنهد في ضيقٍ، وتطلع إليه بترددٍ ليقول مستهلاً حديثه معه:
-ينفع كده يا حاج، أبقى أنا آخر من يعلم بالسرقة اللي حصلت؟
في البداية لاذ "بدير" بالصمت، وسدد له نظرة غريبة قبل أن يقول بامتعاضٍ ظاهرٍ على قسماته:
-هي أمك برضوه انسحبت من لسانها وقالتلك؟
رد بهدوءٍ ادعاه:
-أنا اللي ضغطت عليها عشان تقولي، هي مالهاش ذنب يابا، بس كان المفروض تعرفوني وأنا هاتصرف!!
ترك "بدير" فنجان قهوته ليحتج بنبرة تميل للضيق، وقد تملك منه الانزعاج لانفلات لسان زوجته وإفشائها للسر:
-هو أنا مش مالي عينك؟!
لعق ابنه شفتيه وضبط صوته حتى يحافظ على هدوء نقاشهما حينما قال:
-لأ يابا، مش القصد، بس بردك آ.....
قاطعه والده بلهجته الصارمة منهيًا الحوار في ذلك الموضوع تحديدًا:
-خلاص يا "تميم"، موضوع وراح لحاله.
رفض ترك الأمر وسأله مستوضحًا بإلحاح عنيد:
-يعني إنت عرفت اللي سرقنا؟
لوى ثغره يجيبه بتحفزٍ:
-أيوه، وخد جزاته خلاص!
لم يرغب "بدير" في نبش تفاصيل السرقة حتى لا يوغر بينه وبين زوجته ويفسد علاقتهما بسبب أخطاء الغير، خاصة أن الأمر يمس شقيقها وأمها. وبخبرته الحياتية الطويلة عِمد إلى تغيير النقاش فيه فأمر ابنه بما لا يقبل المجادلة:
-انساه، وخلينا نشوف الطلبيات اللي ورانا، مش هانفضل نلُك كتير في حاجات مالهاش تلاتين لازمة!!
كان مدركًا لطبيعة والده في إنهاء النقاش حينما يحتدم، رد مستسلمًا بالرغم من تذمره الظاهر عليه:
-حاضر يابا، اللي يريحك.
نهض من مقعده واستعد لإعادته إلى مكانه حينما سمع صاحب الصوت الرجولي المألوف يهتف:
-سلامو عليكم.
التفت "تميم" برأسه للجانب ليجد أحد أصدقائه الأعزاء ممن جمعهم العمل في البداية بسبب الأباء قبل أن يتحول الأمر بين الأبناء إلى ود وصداقة أعمق بالرغم من سنوات الحبس، ترك المقعد، واتجه إليه ليصافحه وهو يرحب به بحرارةٍ شديدة:
-وعليكم السلام! منور الدكان والحتة كلها يا "منذر"!
(( "منذر طه حرب" هو أحد الشخصيات الرئيسية في رواية <الدكان>، والتي سبق نشرها الكترونيًا عام 2018، في ذلك المشهد يحل ضيفًا على عائلة "سلطان"، حيث تربطهما روابط الصداقة والعمل والتي تعود لجيل الأباء .. كذلك كانت زوجة "منذر" الأولى خلال تلك الأحداث متوفية، ولم يكن قد التقى بعد بـ "أسيف"؛ معشوقته))
بادله "منذر" المصافحة والحضن الرجولي رابتًا على ظهره بقوة قبل أن يبتعد عنه ليتابع باهتمامٍ:
-منور بأصحابه، وحسكم دايمًا فيه، إزيك يا حاج "بدير"؟ عامل إيه؟
رد عليه الأخير بلطفٍ وتلك الابتسامة الهادئة مرسومة على شفتيه:
-يا أهلاً وسهلاً بالغالي ابن الغالي، أنا الحمدلله في نعمة.
وقف "منذر" قبالته مكملاً ترحيبه المهتم وهو يمسح على كتفه بودٍ كنوعٍ من التوقير له:
-والحاج "سلطان" أخباره إيه؟
-بخير والحمد لله.
تلفت حوله باحثًا عنه وهو يسأله:
-هو فين يا حاج؟ أنا مش شايفه.
أجابه "بدير":
-شوية وهينزل الدكان يقعد معانا.
ابتسم معلقًا عليه:
-ربنا يديه الصحة، ده بركتنا كلنا.
دنا "تميم" من صديقه، وضع المقعد الخشبي أمامه ليدعوه للجلوس عليه، ثم استطرد متسائلاً:
-إيه يا ابن العم، جاي في مصلحة ولا زيارة؟
تنحنح "منذر" في خفوتٍ قبل أن يجيبه بنبرته القوية الرنانة:
-الاتنين، عندي شغل قريب منكم هنا، فقولت أعدي أسلم على الحبايب.
رد "بدير" في امتنانٍ وتقدير:
-الله يسلمك، ابن أصول وفيك الخير .. والحاج "طه" أخباره إيه؟ و"دياب"؟
تنهد وهو يرد:
-كلنا تمام وفي فضل من ربنا.
مال "بدير" نحوه يسأله وقد استند بكفيه على رأس عكازه:
-إيه مش ناوي تتجوز زي أخوك؟
بدت آثار المفاجأة السارة جلية على ملامحه، التفت في بهجة نحو رفيقه يهنئه بعد أن نهض من مكانه ليحتضنه مجددًا:
-مبرووك يا "تميم"، بالله ما أعرف، والله فرحتك أوي.
رد الأول مجاملاً:
-الله يبارك فيك يا صاحبي، مش ناوي تعملها إنت تاني؟
قال معترضًا على الفور وتلك النظرة المهمومة بائنة على تعابيره:
-لا يا سيدي، كفاية مرة، وأديك شايف لعنة الجواز عاملة فينا إيه!
علق عليه "بدير" بنبرته الرزينة:
-ربنا يصلح حال عباده، بكرة تقابل بنت الحلال اللي تستاهلك يا "منذر".
قال له بصوتٍ فيه مسحة من الأسى:
-أنا راضي بنصيبي بعد المرحومة.
أصر عليه:
-الله يرحمها، بس دي سنة الحياة، الأمر مايسلمش من واحدة تاخد بالها منك، تراعيك وتشوف شئونك، وتجيب عيال يشيلوا اسمك ويكونوا امتداد ليك.
ضغط "منذر" على شفتيه قليلاً، وقال:
-اللي فيه الخير يقدمه ربنا.
هتف "تميم" عاليًا ومستخدمًا يده في الإشارة:
-هاطلبلك شاي ولا تحب أجيب قهوة، ولا أقولك، نجيب فطار أجدع من ده كله و...
قاطعه معتذرًا في لباقةٍ:
-لا الله يكرمك، أنا تمام التمام، أنا بس جيت أرمي السلام وماشي.
رد مدهوشًا وقد تبدلت تعابيره للضيق قليلاً:
-هو إنت لحقت يا "منذر"؟
تنحنح يقول له بابتسامةٍ مهذبة:
-معلش يا صاحبي، ورايا مصالح كتير متعطلة، ويدوب الوقت يكفي، ده غير إن ورايا مشوار سفر طويل، خليها وقت تاني.
-طب عاوز أشوفك، هنتقابل إزاي؟
-على تليفون بقى، إن أنجزت بدري هاعدي عليكم.
أخرج زفيرًا بطيئًا من جوفه قبل أن يرد:
-ماشي يا ريس.
لوح "منذر" بيده يودعهما:
-أشوفكم على خير، مع السلامة!
-في حفظ الله!
راقبه "تميم" بعينيه حتى توارى عن أنظاره واختفى في الزحام، انتبه لجملة والده حينما استطرد يشكر مجيئه لزيارتهما:
-فيه الخير ابن "طه".
رد "تميم" يؤيده في مدحه والثناء عليه:
-عيلة "حرب" كلها ولاد أصول ويعرفوا في الواجب يابا.
-معاك حق.
رفع "تميم" يده ليضعها أعلى رأسه ليفركها بحركة دائرية وهو يقول بنبرة عازمة:
-طيب يابا، أنا هاروح أقف على إيد العمال، وأشوف الطلبية اتقفلت ولا لسه
أومأ برأسه يرد عليه:
-ماشي يا ابني.
.................................................. ................
مضى اليوم على كلتيهما بهدوءٍ ودون أن يعكر صفوه أي شيء، فخالهما "خليل" سافر في مأمورية عمل، وزوجته -الحشرية- غادرت أيضًا لتذهب في زيارة قصيرة لعائلتها بالبلدة، وبالتالي ترك لهما المجال والحرية لمزاولة عملهما بعربة الطعام، مع فارق بقاء والدتهما "آمنة" بالمنزل لشعورها بالإعياء. لم تجد الفتاتان أي وقت لإضاعته وعملتا بجدٍ لإرضاء الزبائن وتحصيل النقود، وضعت "فيروزة" السندوتش الآخر الذي انتهت من تغليفه في الكيس الورقي، وأضافت معه بعض المناشف الورقية لتدير رأسها في اتجاه أختها، ثم استطردت تقول بلهجةٍ جادة:
-بأقولك إيه عاوزين نقفل بدري شوية عشان نشوف ماما، شوفتي شكلها عامل إزاي النهاردة، طول اليوم مأريفة.
لم ترفع "همسة" عينيها إليها، بل بقي تركيزها منصبًا على قلي شطائر اللحم وهي ترد عليها:
-شكلها خدت دور برد.
عللت التعب الذي أصاب والدتها قائلة:
-ما ده الموسم بتاعه، وناس كتير تعبانة ...
توقفت للحظة عن الكلام لتسلم الطلب لزبونها وابتسامة عملية تزين وجهها، ثم تابعت بصيغة آمرة ويدها تمسح بمنشفة نظيفة الرخامة الملطخة ببقايا المسطردة:
-المهم خلصي اللي في إيدك عشان أسلمه ونرجع لماما
هزت رأسها وهي تقول:
-ماشي .. على طول.
لم تلاحظ إحداهما هذين الشابين المرابطين في نقطة تواجههما مباشرة، وكأنهما يتربصان بهما بشكلٍ مريب ويدعو للقلق. نفخة خفيفة لبقايا السيجارة الزهيدة الممسوكة بين إصبعيه قام بها "شيكاغو" قبل أن تتحول نظراته نحو "حمص" الذي سأله بتأهبٍ:
-هما دول؟
أجابه وهو يلفظ الدخان من بين شفتيه:
-على حسب كلام المعلم "ناجي" مافيش إلا هما في المنطقة.
سأله من جديد كإجراءٍ احترازي حتى لا يتسببا في إحداث الفوضى دون داعٍ:
-يعني إتأكدت منهم ولا هنعمل فورتينة (مشكلة) على الفاضي؟
قال بنفاذ صبرٍ وهو يلقي بعقب سيجارته ليدعسه تحت قدمه بحذائه القديم:
-يا ابني أنا لفيت الكورنيش كذا مرة ومافيش إلا هما، ده غير إني سألت كام واحد من اللي واقفين بيبيعوا بالمحسوس عن اللي حصل مع الريس "تميم"، وقالوا عن اللي شافوه، والكل قال هي البت دي.
توجهت نظراته نحو "فيروزة" التي تناول أحدهم كيسًا مليئًا بالطعام، فرك "حمص" كفيه معًا وقال بنبرة توحي باستعداده:
-مية مية، كده احنا في السليم، جاهز يا بونط؟
تبدلت نظرات "شيكاغو" للشراسة على نحو مخيف قبل أن ينطق:
-جاهز يا برنس، بينا.
.................................................. ............
وجهٌ قميء منفر رمقها بنظرة غريبة تعكس شرًا وخبثًا وهو يدنو من العربة حينما حدقت نحوه بتلقائية من النافذة أمامها، كان ممسكًا بعصاه غليظة؛ أو ما يطلق عليها "شومة". راودها شعورًا غير مريح تجاهه، فله تعابير شيطانية تبعث الانقباض، لم تستطع إبعاد أنظارها عنه، ولكن اكتسى وجهها بتعابيره الجادة حينما بات في مواجهتها مباشرة، وبرسمية بحتة بادرت "فيروزة" قائلة له:
-معلش احنا قفلنا الأوردرات و...
قاطعها "شيكاغو" بابتسامة وضيعة، وتلك النظرات الملبكة للأبدان تجتاح عينيه:
-احنا مش جايين في أوردر يا حلوة.
عبست ملامحها، وقطبت جبينها مرددة في استغرابٍ لا تنكر أنه وتَّرها:
-نعم؟
انتبهت "همسة" للكلام المريب الذي شحنت به الأجواء وقد كانت في البداية منهكمة في غسل أدوات الطهي، تحركت حدقتاها لتتجول على وجه الرجل الآخر الملاصق لذاك الفظ حينما استطرد:
-سمعتي عن المثل اللي بيقول اللي مالوش كبير بيشتريلوا كبير؟
نظرت "فيروزة" لكليهما شزرًا قبل أن ترد بلهجتها المزعوجة:
-أفندم؟! إنتو جايين تهزروا هنا؟
تجاهل عبارتها ليضيف بكلمات موحية بشرٍ قادم وهو يرفع عصاه عاليًا ليلوح به:
-وإنتو غلطتوا في كبيرنا!
كانت طريقته مستهلكة في بث الخوف، لكنها فعالة في التأثير على النفوس، وبالرغم من تلك الرجفة التي تسللت إليها إلا أنها قاومت شعورها بالخوف ووأدته في مهده قبل أن يتمكن منها لترد ببسالةٍ:
-كبيركم مين ده؟ هو احنا نعرفكم أصلاً؟!!!
قست نظراته عندما جاوبها:
-لأ متعرفوناش! بس احنا رجالته، واللي يمسه يمسنا.
استجمع جأشها وتغلبت عن خوفها الذي تضاعف قليلاً لترد بهدوءٍ حذر:
-طب امشي من هنا، والله يسهلك، احنا مش عاوزين مشاكل مع حد
أولته ظهرها لتستدير نحو أختها، ثم دمدمت بصوتٍ خفيض، وكأنها بذلك تطرد الخوف قبل أن يتمكن منها:
-هي ناقصة بلاوي على آخر الليل، شكلهم مبلبعين حاجة.
على عكسها كانت "همسة" تتطلع إليهما في ارتعابٍ، لعقت شفتيها مرددة بصوتٍ مهتزٍ:
-قلبي مقبوض يا "فيروزة"، حاسة إن ...
لم تكمل جملتها للأخير، فقد لمحت واحدًا منهما يرفع عصاه في الهواء ليضرب بها نافذة العربة، فتهشم زجاجها، وكردة فعل تلقائية مذعورة جذبت أختها نحوها وهي تصرخ منادية إياها في هلعٍ حتى لا تتناثر القطع الحادة على ظهرها:
-حاسبي يا "فيروزة"!
وبأعجوبة شديدة نجت الأخيرة من ضربة قاسية كادت أن تطالها من طرف العصا، استدارت "فيروزة" تنظر في حنق لذلك الوغد الذي شرع في تدمير حلمها بتحطيم واجهة العربة وتمزيق الإعلانات الملتصقة بها، انتابتها نوبة من الهياج فصرخت به لتذود بشراسة منقطعة النظير عن خاصتها:
-إنتو اتجننتوا، إيه اللي بتعملوه ده؟
على الفور ترجلت من العربة لتواجههما بمفردها وصرخات أختها المذعورة التي تتوسلها بالابتعاد عنهما تصدح من خلفها، كانت مغيبة فلم ترَ سوى تصرفهما الشنيع. انهال "حمص" بعصاه على جانب العربة ليُحدث التواءً جسيمًا ببدنها، حاولت إيقافه فاندفعت تلكم ظهره بقبضتيها وهي تلعنه، لكنه دفعها من كتفها بخشونة فارتدت للخلف وسقطت على ظهرها، جثت "همسة" على ركبتيها أمامها ترجوها باستماتة وهي تجاهد لمنعها من العودة إليه:
-لأ يا "فيروزة"، احنا مش أدهم!
صرخت بهيسترية:
-سبيني عليهم.
ردت ببكاءٍ مفزوع وصارخ:
-بلاش عشان خاطري، هيأذوكي
تفاجأ المتواجدون بالمكان بما يحدث من تخريب للعربة، حاول بعضهم التدخل لإيقافهما لكن تهديد "شيكاغو" شديد العدائية والمقترن بإشهار سلاحه الأبيض ذو النصل الحاد في يده الأخرى أجبر أشجع الرجال على التراجع بعد أن تلاشت بوادر الشجاعة، دار في المكان وهدد صائحًا بصوته الجهوري:
-محدش يتدخل لنجيب كرشه على الأرض!!!!!!
ولكونه ذائع الصيت في تصرفاته الإجرامية، لم يتجرأ أحدهم على إيقافه، وإلا لتحول لجثة هامدة، وتركوه يفعل ما يحلو له، صرخت "فيروزة" مستنجدة بمن حولها علها تجد من يتصدى لهما:
-الحقونا يا ناس، هاتسيبوهم كده؟
ولكن لا حياة لمن تنادي، الكل خذلها في لحظة، انعدمت الشجاعة في نفوسهم، واختفت المروءة فأداروا لها ظهورهم خوفًا على أعمارهم مما سحقها تمامًا، احتضنتها "همسة" بكل قوتها وجثمت عليها حتى لا تتحرر منها وتتورط بتهورها في تلك اللحظات المصيرية في كارثة قد تودي بحياتها، امتزجت أصوات صرخاتهما مع بكائهما المرير، وفي دقائق معدودة كانت النيران تضرم في العربة لتحترق روح "فيروزة" معها. وما إن انتهى "شيكاغو" من عمله حتى استدار نحوهما، رفع عصاه الغليظة أمام وجهيهما يلوح لهما بها وصوته الخشن يجلجل عاليًا لينذرهما:
-ده درسك ليكم عشان لما تتعاملوا مع أسيادكم تعرفوا مقامكم وتلزموا حدودكم!
وضع "حمص" يده على كتف رفيقه وهو يقول بنبرته المزهوة:
-الريس "تميم" مش هافية عشان شوية نسوان كسر تعلم عليه، لأ وراه رجالة ينسفوا اللي يقرب منه!
كركر "شيكاغو" ضاحكًا قبل أن يبتر ضحكته فجأة ليهينهما:
-سلام يا بياعين الكبدة!
رحل كلاهما تاركين ألسنة النيران تلتهم العربة وتقتلع روح "فيروزة" معها، رأت بأم عينيها ما سعت لتحقيقه يذهب سدى ويتحول إلى رماد، لم تتحمل قســاوة الأمر، كان لزامًا عليها أن تنتقم ممن أحرقها حية، دفعت أختها عنها بقوة مستخدمة كفيها، أسقطتها إلى جوارها ونهضت تركض في اتجاه الطريق، تأوهت "همسة" من الألم، وصرخت تناديها:
-رايحة فين يا "فيروزة"، استني عشان خاطري!
قاومت الألم الشديد ولحقت بها، اعترضت طريقها لتستوقفها، ورجتها بأنفاسٍ متهدجة:
-وحياة أغلى حاجة عندك تخليكي هنا!
كانت مدركة أن أختها حينما تنال منها عصبيتها العمياء تتحول للجنون، وتطيح بكل شيء خلال غضبها الأهوج، تملصت "فيروزة" منها صارخة بلا وعي، وغضبها يتعاظم في عينيها كحمم البركان الملتهبة:
-ابعدي عني، والله لأوريه "تميم" ده، قسمًا بالله لأحرق قلبه زي ما حرق عربيتي، مش هاسيبه إلا لما أرجعه السجن اللي جه منه!
كالمجذوبة، والفاقدة لأهليتها، اندفعت عبر الطريق غير عابئة بحركة السير فيه، قطعته عدوًا وبشكلٍ جنوني وسط أبواق السيارات المتذمرة لرعونتها، فشلت "همسة" في إيقافها، فما كان منها إلا اللحاق بها وهي تصيح بها كرجاء أخير بائس حتى بح صوتها:
-يا "فيروزة" استني!
.................................................. .............
ركضت في اتجاه دكان عائلة "سلطان" الذي يطل على ناصيتين؛ إحداهما للزقاق الجانبي، والآخر لطريق فرعي يصل في نهايته للشارع الرئيسي، كانت كامل نظراتها المحتقنة مسلطة على وجه "تميم"، وقفت قبالته وهو جالس أمام المدخل وصدرها ينهج علوًا وهبوطًا، مسحت بيدها عبراتها التي انسابت بلا توقفٍ، حدجته بنظرة مميتة خالية من الحياة، ثم نادته عاليًا بنبرة أقرب للصراخ بصوتها المجروح:
-إنت يا رد السجون، يا خريج اللومان!
تفاجأ "تميم" من النداء الأنثوي الفج وقد كان مشغولاً بمراجعة الفواتير مع والده، التفت برأسه نحو صاحبة الصوت ليتطلع لها في استنكارٍ وغضبه قد بدأ في الظهور على ملامحه، عرفها بمجرد التطلع إلى وجهها .. علامات الاستهجان غطت تعابيره .. كذلك ضاقت نظراته وهو يتأمل الحالة الفوضوية المسيطرة عليها، تبادل مع والده نظرات حائرة حينما كررت ندائها:
-إنت أطرش؟ رد عليا يا بلطجي!
كانت الحركة شبه هادئة في المنطقة في ذلك التوقيت الليلي بعد انصراف الأغلب ليعودوا إلى منازلهم، لكن بصوتها المرتفع والجلبة التي أحدثتها بدأ القليل في التجمع ليتابعوا بفضولٍ ما يدور. وبتشنجٍ وغيظ نهض "تميم" عن مقعده بعد إهانتها الوقحة التي تكررت على مسامعه، استدار متجهًا إليها ليصبح في مواجهتها، حدجها بنظرة شرسة، ثم سألها بشكلٍ مباشر:
-مين ده اللي بلطجي؟ إنتي بتكلميني أنا؟
لوحت بيدها مهينة إياه:
-أيوه إنت يا معدوم الرجولة! يا حيوان! بتحرقلي عربيتي ومفكرني هاسيبك؟
استقام "بدير" في وقفته لينظر إلى تلك الشابة بنظراته الدقيقة المتفحصة، تنشطت ذاكرته وعرفها دون عناء؛ إنها ابنة جارتهم القديمة "آمنة". انزعج من تطاولها على ابنه، ومع هذا سألها بصوته الرخيم وبهدوءٍ حذر حتى لا يقود ذاك الجدال المحتدم غير مفهوم الأسباب لمنحنى آخر:
-هو في إيه بالظبط؟
جاوبته بصراخٍ:
-اسأله الكلب ده!
نعتت "تميم" بما لا يليق فاستشاط غضبًا، ولولا وجود والده لكان له كلام آخر يردع به لسانها المنفلت، تساءل "بدير" بوجومٍ:
-إيه اللي بيحصل يا "تميم"؟
أجابه بحنقٍ وعروقه تنبض بدمائه التي طالها الهياج:
-مش عارف يابا، أهي بلاوي على آخر الليل!
خطوة جسورة تقدمت بها "فيروزة" نحوه شحذت معها قواها الغاضبة بالكامل، ودون سابق إنذارٍ رفعت يدها في الهواء لتهوى به على وجه "تميم" لتصفعه في غفلة منه قبل أن تتهمه علنًا:
-باعتلي شوية بلطجية يحرقوا عربيتي يا جبان، بتردهالي يا حشاش!
باغتته بصفعتها المهينة وعبثت برجولته، احمر وجهه واِربد بالمزيد من الغضب المحموم .. كما اندفعت الدماء الثائرة تغزي عروقه .. همَّ بالانقضاض عليها والإطباق عليها من عنقها ليخنقها وهو يهدر بها في عصبية مبررة:
-إنتي اتهبلتي يا بت!!!!
ولكن وبكل مهابةٍ وقوة ضرب "بدير" بعكازه الأرضية صائحًا في ابنه ليوقفه قبل أن يتهور ويبادلها صفعة حتمًا ستؤخذ عليه:
-عندك يا "تميم"!!!
لم يهتز لـ "فيروزة" جفن، ولم ترتعد أو تندم من فعلتها تلك، بل شعرت أنها شفيت جزءًا من غليلها بإيلامه هكذا بوقاحةٍ تليق به، وبالانتقاص من كرامته بإحراجه وإذلاله بذلك الشكل المهين. هدر "تميم" يقول لوالده بصوته اللاهث من الغضب وقد استبد به جنونه وسيطرت عليه انفعالاته الجامحة:
-دي بتمد إيدها عليا وسط الخلق وعاوزني أسكت؟
أنذره "بدير" بصياحه الآمر به ونظراته التي تعكس سطوته:
-ولا كلمة، وقفتي مش عجباك؟
كبخ غضبه مرغمًا ليرد:
-على دماغي يا حاج، بس آ.....
إشارة أخرى من عيني والده جعلته يصمت مضطرًا، وجه حديثه إلى "فيروزة" يعاتبها بلهجةٍ جمعت بين الشدة والحزم:
-مايصحش اللي عملتيه ده؟ لو ليكي حق عنده تعاليلي، لكن مافيش حُرمة بتمد إيدها على راجل و...
قاطعته متعمدة احتقار ابنه وإهانته بقساوة أكبر:
-ده لما يكون راجل أصلاً!!!!
استفزته عبارتها تلك وأخرجته عن شعوره، لذا صاح بها بعصبيةٍ جمة وهو يهددها بيده التي تكاد تطالها لتفتك بها وتحطم عظامها وعيناه تقدحان بالشرر المستطر:
-أنا راجل غصب عن اللي خلفوكي، ما تلمي نفسك يا بت إنتي وإلا هاقتلك!
ردت بجراءة تتحداه فيها معبرة عن غضبها المندلع وهي تلهث من فرط انفعالاتها الثائرة:
-مش خايفة منك يا قتال القتلة، وأنا والله ما سيباك، وخلي الناس دي كلها تشهد عليا، أنا هاحبسك تاني، ومش هتنازل عن حقي لو فيها موتي يا بلطجي!
ثم حدجته بنظرة نارية قبل أن تتركه يحترق كمدًا في مكانه، ارتبكت "فيروزة" في حقه -وهي في قمة غضبها- خطئًا جسيمًا لن يغفره، وقبل أن يتصرف برعونة أمسك به والده من ذراعه ليستوقفه قائلاً له بصرامةٍ:
-مكانك يا "تميم"!
هتف بتشنجٍ، وجسده ينتفض من شدة غضبه:
-مش سامع يابا بتغلط فيا إزاي وبترمي بلاها عليا بنت الـ ..... دي؟! أنا مش هاسيبها!
شدد أباه من قبضته عليه وجره رغمًا عنه إلى داخل الدكان وهو يقول له:
-سيبها دلوقتي
-إنت هتصدقها يابا وتسيبها تمشي كمان! ومين هايجبلي حقي منها بعد الجُرسة دي؟
رد حاسمًا الأمر:
-أيوه هاسيبها...
ثم تابع موضحًا أسبابه:
-ما هو مش طبيعي اللي عملته ده، أكيد في حاجة حصلت وإنت ليك يد فيها!
نظرة استنكارٍ كست وجهه عقب لومه المتواري، أحس بغليان يأكل جسده الذي تصلب وانتفض، ثم هتف مدافعًا عن نفسه بصوته الذي اكتسب نبرة هائجة:
-ده أنا جمبك طول اليوم يا حاج متنقلتش من مكاني!
غامت عينا "بدير" وهو يعقب عليه:
-يبقى الحكاية فيها إن! واهدى كده خلينا افهم إيه أصل الموضوع!
كور "تميم" قبضة يده وضرب بها الحائط في جنونٍ حتى لا ينفجر من شدة غيظه، شعر بأحشائه تحترق، بلهيب ساخن يندفع من عينيه، وبأنفاسٍ هادرة صاح يتوعدها وقد حل الإظلام على قسماته:
-وأنا مش هاسيبها .......................................... !!!
.................................................. ..............................


منال سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
[rainbow]وفوق كل ذي علم عليم[/rainbow]
ign]






رد مع اقتباس
قديم 28-03-20, 10:10 PM   #19

منال سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية منال سالم

? العضوٌ??? » 358950
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 1,488
?  مُ?إني » بورسعيد - مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » منال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك max
?? ??? ~
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
?? ??? ~
My Mms ~
Rewitysmile9 الفصل الخامس عشر



الفصل الخامس عشر



افتقرت إلى الشجاعة واختبأت خلف أحد الأكشاك المغلقة تراقب في فزعٍ تلك المواجهة المحتدمة بين أختها و"تميم"، لم تكن مثلها جريئة، مندفعة، تناطح من يتحداها الرأس بالرأس، أصابها الجزل الشديد حينما رفعت أختها يدها لتصفعه، ظنت أنها نهايتها المحتومة، ودق قلبها في ارتعابٍ مهلك .. كتمت أنفاسها، وحاولت جمع جأشها وتحفيز حواسها لتذهب إليها وتزيحها من طريقه قبل أن يفتك بها، لكن لم تسعفها قدماها، تجمدت كالصنم، وبقيت أنظارها تراقب في خوفٍ ورجاء .. حبست "همسة" أنفاسها، وبقيت دقات قلبها تنبض بعنفٍ حتى كادت أن تصم أذنيها، تنفست الصعداء بمجرد ابتعادها عنه، انتظرت حتى باتت قريبة منها، فهرعت إليها وألقت بنفسها في حضنها حامدة الله في نفسها أنها ما زالت على قيد الحياة، أفاقت من فزعها وجذبتها بعيدًا عن الأنظار لتلومها في تلهفٍ ونظراتها تتحرك بتوترٍ كبير:

-ليه كده يا "فيروزة"؟

أجابت أختها بجمودٍ ووجهها القاسي مشدود على الأخير:

-يستاهل!

أمسكت بها من ذراعيها تهزها في عنف وهي تواصل لومها المرتعب:

-إنتي كده ضيعتي نفسك، حد يعمل اللي عملتيه ده؟!!!

نفضت قبضتيها عنها، وقالت بألمٍ وهي تحملق فيها بعينين مشعبتين بحمرةٍ ملتهبة:

-واللي عمله فينا بالبلطجية بتوعه عادي؟ تعبنا راح كله يا "همسة"، سمعاني؟ احنا اتدمرنا بسببه!

علقت عليها بأنفاسها المتهدجة:

-أنا خايفة عليكي، هو كده مش هايسيبك، اللي زي ده هياخد حقه منك، ومش بعيد آ...

هربت الكلمات من على طرف لسانها، خشيت أن تبوح لها بما ينبئها حدسها، بأنها فتحت على نفسها بابًا من الجحيم حينما اعتدت عليه، وقبل أن تكمل تفسيرها سبقتها "فيروزة" قائلة بنبرة عازمة أظهرت قوة غريبة:

-وأنا مش هاستنى لما يقرب مني، أنا لسه مخدتش حقي أصلاً

تدلى فكها في رعبٍ أكبر، ورمشت بعينيها تسألها وقد تشوش ذهنها بالكامل:

-هتعملي إيه تاني؟

نظرة غامضة مليئة بالشر والقسوة احتلت حدقتيها، اندفعت للأمام تجيبها:

-هاتشوفي

ســارت "همسة" خلفها وهي تحاصرها بأسئلتها الخائفة، وجدتها تقف عند ناصية الشارع تراقب بقايا حلمها المحترق بعينين تعكسان ألسنة اللهب المتأجج .. مسحت "فيروزة" دمعاتها المتحسرة ودست يدها في جيب بنطالها الجينز لتخرج منه هاتفها المحمول، كانت شاشته قد أصيبت بالشروخ جراء سقطتها العنيفة قبل قليل، عبثت بالهاتف لتتأكد من عمله، قليل من الارتياح تسرب إلى روحها المتألمة وقد وجدته يستجيب لها، ضغطت على قائمة الأصدقاء لديها، انتقت اسم واحدة من المقربات منها، ثم اتصلت بها ووضعت الهاتف على أذنها، واليد الأخرى انغرست في شعرها الفوضوي، هتفت فجأة بصوتٍ مضطرب لكنه ثابت:

-أيوه يا "علا"، أسفة إني بأتصل بيكي في الوقت ده!

أتاها صوت رفيقتها يقول في تفهمٍ:

-لا ولا يهمك احنا لسه صاحيين.

حررت "فيروزة" أناملها من شعرها ودارت حول نفسها في المكان قائلة لها على عجالةٍ:

-أنا محتاجة مساعدة من أخوكي "ماهر"، ممكن أكلمه؟

وبالرغم من استغراب الأخيرة لطلبها إلا أنها ردت بترحابٍ:

-تحت أمرك يا حبيبتي، هو راجع من برا، ثواني أروحله الأوضة أوديله الموبايل.

-شكرًا يا "علا"

قالتها وهي تعض على أناملها في توترٍ، كانت تحاول جاهدة ترتيب أفكارها في رأسها حتى تسرد له الكارثة التي حلت بها كاملة، انتفضت وشعرت بقليل من التشتت وصوت "ماهر" الهادئ العميق يقول لها:

-مساء النور، إزيك يا "فيروزة"؟

تلبكت وهي تجيبه:

-"ماهر" بيه، أنا أسفة إني بأزعجك، بس حصلت معايا مصيبة ومافيش غيرك اللي هايقدر يساعدني

جاء رده جادًا:

-خير، قوليلي في إيه؟

أجابته على عجلٍ بمقتطفاتٍ مما حدث، حاولت ألا تغفل عن شيء، فيما عدا ذلك الجزء الخاص بمواجهتها مع "تميم"، فقد تعمدت إخفائه حتى تتجنب لومه مثلما فعلت أختها، فالأهم عندها حاليًا التركيز على موضوعها الرئيسي، وليس أي فروع جانبية، هزت رأسها وكأنها تراه أمامها حينما أمرها بصوته ذي اللهجة الرسمية:

-حالاً تروحي تعملي محضر إثبات حالة في القسم التابع ليه منطقتك، وأنا هاحصلك على هناك.

لمحت إلى صدامها معه فادعت مظهرة القليل من قلقها الذي تقاومه:

-أنا خايفة يتعرضلي يا "ماهر" بيه.

هتف بجدية ليؤكد لها ودون أن ترتفع نبرته:

-البلد فيها قانون، متخافيش، واحنا بنعرف نتعامل مع البلطجية والمجرمين.

تنهدت في ارتياحٍ قبل أن ترد عليه:

-كلامك طمني والله.

أكد عليها من جديد حتى لا تتقاعص:

-ماتضيعيش إنتي وقت وروحي على هناك، مفهوم يا "فيروزة".

هزت رأسها قائلة:

-حاضر.

أضاف "ماهر" بصوته الهادئ:

-وهابعتلك رقمي في رسالة عشان تسجليه، وتخليكي معايا على الخط.

كانت ممتنة لوقوفه معها في أزمتها، فتنحنحت تشكر جميله:

-أنا مش عارفة أقول لحضرتك ايه؟

رد عليها بنبرته الثابتة:

-متقوليش حاجة، وطمنيني لحد ما أجيلك.

شكرته من جديد بامتنانٍ أكبر:

-حاضر، شكرًا يا "ماهر" بيه، ربنا يخليك لينا.

أنهت معه الاتصال وابتسامة راضية أضاءت عتمة وجهها، انتاب الفضول "همسة" لتعرف ما دار بينهما خلال تلك المكالمة، اعترضت طريق أختها تسألها واللهفة تملأوها:

-قالك إيه الظابط أخو "علا"؟

جذبتها من ذراعها لتدفعها للسير معها قبل أن تجيبها:

-هاحكيلك، بس تعالي معايا الأول.

.................................................. ..................

بصعوبة جمة ومجهودٍ غير يسير أقنعه بترك الدكان، وإرجاء كافة الأعمال ليعود معه إلى منزله حتى يضيع عليه فرصة الاشتباك مع تلك الفتاة الطائشة التي خرقت القواعد، وتجاوزت الأعراف والأصول بتطاولها باليد على ابنه. أجبره على الانصياع لأوامره بالرغم من الثورة العارمة المندلعة بداخله، وليضمن بقائه بعيدًا عنها أصــر على الذهاب معه، وقف كلاهما أمام مدخل البناية في حالة تحفز مبررة، استطرد "بدير" يأمره بلهجته غير القابلة للنقاش:

-اطلع البيت حالاً، سامعني؟

سدد "تميم" لوالده نظرة عكست غليانه المتأجج، نفخ بصوتٍ مسموع، وأشاح بوجهه للجانب الآخر وقد بدا كامل جسده متصلبًا من شدة عصبيته المكتومة، هزه والده معاودًا إملاء أوامره عليه:

-"تميم"، اتحرك! مستني إيه؟

رفض الاستجابة له، فقال بصوته الحانق وتلك الملامح المظلمة تكسو وجهه:

-مش هامشي يابا!!

رد عليه "بدير" بحدة طفيفة ضاغطًا عليه:

-قولتلك أنا هاتصرف معها.

غامت نظراته أكثر، ورد معارضًا بشدة:

-الموضوع ده بالذات يخصني، ده مس كرامتي و...

قاطعه بحزمٍ:

-لما تهدى الأول اسيبك تتعامل، لكن دلوقتي استحالة! إنت هتولعها حريقة

-هي ولعت خلاص يابا.

حاول أن يحدثه بعقلانية، فقال له بنبرة أبوية:

-طيب، اطلع لمراتك، هي مستنياك من بدري.

وكأنه يُحادث الفراغ، انفجر فيه هادرًا بنبرة تعبر عن جزء محدود للغاية مما يستعر بداخله:

-أنا عاوز حقي يابا.

علق عليه مشددًا بنبرته الرزينة ودون أن تطرف عيناه:

-حقك هانجيبه بالأصول، ماشي؟ بالأصول ومش بحاجة تانية! ويا ريت مراتك متعرفش حاجة عن اللي حصل.

صاح في غلٍ وعروقه تنبض بقوةٍ:

-ده الحتة كلها اتفرجت عليا وبنت الـ ...... بترفع ايدها عليا و....

قاطعه مؤكدًا:

-محدش هيجرؤ يتكلم بالسوء عنك حتى لو هي غلطت، إنت اتصرفت صح

رد بألم وغضبه يتضرج في وجهه:

-دمي محروق يابا، حاسس ببركان بيغلي في نافوخي، مش قادر أهدى خالص!

كان "تميم" غير راضٍ بالمرة عن إذلاله بتلك الصورة المهينة على يد امرأة دون أن ينال لكرامته المبعثرة، ظل ذلك المشهد متجلي في عقله ليزيد من حنقه ويضاعف من غضبه، لاحظ "بدير" قساوة تعابيره، بالإضافة إلى ذلك التقلص المريب الذي أصاب وجهه، حاول أن يخرجه من حالته المكبوتة فوعده

-أنا هاتصرف وأجيبلك حقك، وزي ما وعدتك الموضوع ده هيتجاب أراره النهاردة، اطلع إنت بس لمراتك.

كان عنيدًا بشكلٍ رهيب، رفض الإصغاء له وظل باقيًا في مكانه ينفث عن غضبه بإشعال السجائر وتدخينها بشراهةٍ، لازمه والده مضطرًا عاقدًا النية على المبيت بجواره، وإن بقيا هكذا واقفان في مكانهما حتى ييأس الأخير ويتخلى عن عناده.

.................................................. ..................

صدمة هبطت كالصاعقة المدمرة فوق رأسه حينما تساءل مصادفة عن سبب اندلاع الحريق بعربة الطعام المملوكة للفتاتين، والتي دوى صداها في الأرجاء كما تنتشر النيران في الهشيم، بالطبع تفاجأ من كون أتباعه هم من أضرموا فيها النيران وقاموا بإحراقها، وما زاد الطين بلة تباهيهم المستفز بذلك. صــال وجال، وهاج وماج، وانتفضت عروقه وهو لا يستوعب حجم الكارثة التي وقعت على الجميع. ركل "ناجي" بقدمه صينية الأكواب الزجاجية الموضوعة على طاولة قصيرة الطول بكل عصبيته لتسقط بما فيها على الأرضية، تهشم الزجاج وتبعثر في كل مكانٍ مسببًا الفوضى، ثم هدر بصوته الغاضب لاعنًا "حمص" وشيكاغو":

-الله يحرقكم إنتو الجوز! عملتوا كده ليه؟

أجابه "شيكاغو" بنوعٍ من التفاخر وبوجهه البادي عليه علامات الإجرام:

-كنا بنوجب مع الريس "تميم" يا كبير.

رد في حنق وعيناه تطقان بالغيظ:

-إنتو وقعتوا الدنيا في بعض، ضربتوا كرسي في الكلوب، والكل هيولع.

علق في برودٍ مستفز:

-متكبرش الحكاية يا كبير، دول تمامهم صويت ولطم، مافيش أكتر من كده.

هدر به بنبرته المغتاظة وهو يدفعه من كتفه في قسوةٍ:

-إنت غبي ولا بتستعبط؟! دي مصيبة يا هباب البرك! ربنا يستر ومايقلبش علينا!

فرك "حمص" طرف ذقنه متسائلاً بسماجةٍ:

-واحنا هنعرف منين إنه مش هايعجبه شغلنا؟

التفت "ناجي" ناحيته يعنفه بحدةٍ وصراخ:

-حد طلب منكم خدمة؟ ولا قولنالكم حاجة، إنتو أغبية ومخكم فيه جزمة! بتتصرفوا من دماغكم ليه؟

برر له "شيكاغو" قائلاً بوجهه الممتعض:

-يا معلم فكرنا لما هنعمل كده هيرضنا عننا و آ.....

قاطعه في غلٍ:

-ده مش بعيد يولع فيكم بعد ما يعرف!

حك "حمص" طرف أنفه وهو يجيبه بلسانٍ شبه ثقيل:

-كله بيعدي ياكبير، روق إنت بس، تحب ألفلك سيجارة وصاية؟

نظر له شزرًا، فقد كان يبدو عليه أثر تعاطي تلك المواد المخدرة، بصق عليه ثم قال:

-يخربيت الزفت اللي بتسفوه، أهوو ودانا في داهية!

تبادل كلاً من رفقي السوء نظرات غير مبالية أو حتى نادمة عما اقترفا، وعلى عكسهما كان يدور "ناجي" حول نفسه في دوائر فارغة يعتصر عقله ويفكر بعمقٍ عله يجد الحل الملائم لتلك المعضلة العويصة، تمتم مع نفسه متسائلاً وهو يكز على أسنانه:

-طب أتصرف إزاي دلوقت؟

.................................................. ..............

استغرق في أفكاره الانتقامية الهوجاء فلم يشعر بمرور الوقت، كانت نظراته قاتمة، واحتوت على قساوة مخيفة خاصة حينما أتت الأخبار السيئة عن احتراق العربة، إذًا الفتاة لم تكن تدعي بالباطل عليه، وهناك من أشعلها وزج باسمه في الأمر ليبدو متورطًا بشكلٍ مباشر فيه، وكأنه بذلك يخلق العداوة بينهما، وبالرغم من كم ما علمه إلا أنه لم يعرف بعد هوية المتسببين فيه التخريب، لكن الأوصــاف التي قيلت عن أحدهم تنطبق بصورة كبيرة على واحدٍ ممن يشك فيهم، انتشله والده من سرحانه الواضح وقد شعر بالإرهاق يتغلغل في عظامه المسنة، فقال له بما يشبه الرجاء:

-مش كفاية كده يا "تميم"، اطلع بيتك خليني أتوكل على الله

-يابا قولتلك امشي من بدري، بس إنت اللي رافض

-ما هو ما ينفعش أسيبك وإنت كده

-خلاص أنا هديت

-ربنا يكملك بعقلك، كل حاجة وليها حل، اطمن

ظن بكلماته تلك أنه سيسكن آلامه المعنوية، لكنها لم تفعل شيئًا سوى تأجيل رغباته الانتقامية لوقت يكون قادرًا فيه على الرد وبشراسة .. بدأت زخات المطر في الهطول بشكل خفيف بعد أن تجمعت السحب الكثيفة وكإنذارٍ مبكر عن زيادة حدتها، اعتبرها "بدير" فرصة جيدة لحث ابنه على الصعود، أشـار له بعكازه:

-اطلع يا ابني، أديك شايف الجو بقى عامل إزاي، وبعدين مراتك قلقانة عليك

ردت في ضيقٍ:

-ما أنا واقف أهوو تحت البيت، هاروح منها فين، وبعدين أنا مش فايقلها أصلاً.

وفجــأة صدحت أبواق سيارات الشرطة في المكان فلفتت انتباه كلاهما، تركزت أنظارهما مع رجال الشرطة الذين ترجلوا منها، اقترب أحدهم وهو يرتدي زيًا مدنيًا ليسألهما بصوتٍ مرتفع لكنه رسمي:

-في واحد اسمه "تميم سلطان" ساكن هنا؟!

نظرة حائرة غامضة تبادلها "تميم" مع والده الذي كان يتطلع إليه في اندهاش، استدار برأسه ليرد على الضابط بتعابيره المدهوشة:

-أيوه أنا، خير يا حضرت الظابط؟

رمقه بنظرة دونية عبرت عن ازدرائه له قبل أن يأمر رجاله من خلفه بكلمة واحدة لكنها نافذة وهو يشير لهم بيده مُشعرًا إياه أنه يتعامل مع شخصية حقيرة نكرة:

-هاتوه!

رد محتجًا في حدة:

-يجبوني ليه؟ أنا معملتش حاجة!

تجاهله تاركًا لرجاله مهمة إلقاء القبض عليه، حاول "بدير" اعتراض طريقهم كردة فعلٍ تلقائية لحماية ابنه، وتساءل في جزلٍ:

-عاوزينه ليه يا حضرت الظابط؟ هو عمل إيه؟

أجابه بغموضٍ وتلك النظرة الاحتقارية تغطي ملامحه:

-في القسم هيعرف!

لم يتمكن من الجدال معه حيث انقض العساكر على "تميم" وجذبوه بقساوة وقوة نحو سيارة الشرطة، وبالرغم من اعتياده على مثل ذلك الأسلوب الجاف في التعامل إلا أن إهانته بتلك الصورة زادت من توحشه ومقاومته، تبعه "بدير" صائحًا:

-ماتقلقش يا "تميم"، أنا جاي معاك! وهاكلم المحامي ومعارفنا كلهم، اطمن!

رد عليه بنبرة قاتمة:

-كده ولعت على الآخر يابا!

دفعه العساكر دفعًا ليصعد في مؤخرة السيارة وكأنه بهيمة غير مكترثين بالإصابات المؤلمة التي تنال من جسده جراء خبطه عن قصدٍ وبقساوة. أدرك "تميم" من تلك المعاملة الحادة معه أن هناك من يكيد له، ورغم عدم الإعلان عن سبب القبض عليه إلا أن ما يراود عقله من ظنون بشأن تورطها في تلك المسألة كان قويًا.

.................................................. ..............................

ضمت كفيها معًا ووضعتهما في حجرها وهي تجول بعينيها المتوترتين على تفاصيل مكتب الضابط الذي تجلس أمامه بمفردها، حيث طلبت من أختها العودة إلى المنزل والبقاء مع والدتها ريثما تذهب لقسم الشرطة، استجمعت "فيروزة" جأشها وحافظت على صلابتها خلال إدلائها بأقوالها في البلاغ الرسمي الذي تقدمت به ضد "تميم" محاولة عدم الإغفال عن أي تفصيلة. معاملة جيدة تلقتها في الداخل حينما أعلمت أحد الضباط بأنها على صلة بالضابط "ماهر"، والذي على ما يبدو كان الأسبق في إعلامهم بقدومها، لم تجد أي صعوبة في القيام بالإجراءات القانونية، وتم اصطحابها لمكتب أحد الضباط ذوي العلاقات القوية مع "ماهر"، استعلم منها بإيجازٍ عن مشكلتها قبل أن تسرد له الأحداث كاملة، ما دعم أقوالها أيضًا هو ذاك البلاغ الذي قام به أحد المواطنين ليعلن عن نشوب حريق في إحدى عربات الطعام الكائنة بمنطقة الكورنيش جراء الاعتداء السافر لأحد المجرمين، ولكن لم يجرؤ مقدم البلاغ عن الإفصاح عن هوية المتسبب في الحريق خوفًا على حياته من بطشه.

كانت "فيروزة" في حالة قلقٍ وحيرة مبررة، أخفت بمجهودٍ عظيم تلك الرجفة التي أصابت جسدها بمجرد أن وطأت ذلك المكان، امتدت يدها لتمسك بكوب عصير الليمون، وضعت طرفه على فمها ترتشف منه القليل حتى تبلل حلقها الذي جف كليًا، شعرت بالمذاق اللاذع يؤلم جوفها، ومع ذلك ابتلعته مجبرة وهي تترقب سؤال الضابط التالي. عبث "وجدي" بقلمه الحبري ونزع غطائه ووضعه عليه من جديد في لزمة مملة، وكأنها وسيلته لترتيب أفكاره، نظر إليها نظرة مطولة قبل أن يعاود سؤالها:

-يعني إنتي بتتهمي "تميم" ده بحرق عربيتك؟

أجابت دون ترددٍ:

-أيوه يا باشا.

ترك القلم من يده وسألها:

-وإيه الدافع اللي يخليه يعمل كده؟

شعرت بالقلق من سؤاله الروتيني، انتابتها الهواجس بأنه لا يصدقها، وربما تفتري عليه، ازدردت ريقها، ثم تنفست بعمق وجاوبته:

-معرفش يا حضرت الظابط

مط فمه، وسألها مباشرة من جديد:

-في عداوة بينكم؟

صمتت للحظة تحاول قراءة ما يدور في رأسه، ترددت في إطلاعه على تلك الكراهية التي نشبت بينهما فجأة دون أسباب حقيقية، ومع ذلك حسمت أمرها وباحت بتفاصيل كل شيء.

.................................................. ..

اقتادوه للقسم الشرطي، وتعاملوا معه بشكلٍ مهين مبعثرين كرامته الغالية بنعته بشتائم خارجة وألفاظ نابية تمس الوالدين، قاومهم "تميم" بخشونة مما زاد من تحاملهم عليه، كان أكثر وقاحة وعدائية وهم يجرونه للداخل، أجبروه على الجلوس على الأرضية في الردهة والأصفاد في معصميه منتظرًا السماح له بالدخول لغرفة الظابط المسئول عن التحقيق معه. لحق به والده ولم يتخلَ عنه، وقف قبالته، ولكن على مسافة ما يقول له:

-متقلقش يا "تميم"، أنا كلمت حبايبنا كلهم، ودلوقتي هنفهم في إيه.

رد عليه في قتامةٍ وعيناه تبرقان بوهجٍ غاضب:

-مش محتاج أعرف، ما هي باينة زي الشمس!

أضاف في تلهفٍ ليهدئه:

-كله هيتحل، حبايبنا زمانتهم جايين.

رد غير مبالٍ وبنبرة جافة ومخيفة:

-وحتى لو متحلش، هو بقى عندي!

لم يعقب عليه، فقد علم في قرارة نفسه إلى الذي يرمي إليه، وحدها فقط من تقف وراء تلك المهزلة المهينة، وحتمًا لن يمرر ذلك مرور الكرام بمجرد خروجه من هنا.

لحظاتٍ وامتلأ القسم بعناصرٍ من أفراد الشرطة من ذوي الرتب والمناصب العليا، وكأن هناك زارة استثنائية من أحد كبار المسئولين للتفتيش عمن فيه، كان المفاجأة الصادمة لمعظم العاملين به أن أغلبهم قد جاء للتوصية بـ "تميم"؛ فصداقات والده الوطيدة مع أمثال اللواء "وفيق" أفادته كثيرًا. تبدلت المعاملة للنقيض، وتم انتزاع الأصفاد الحديدية من معصميه، واصطحابه لغرفة جانبية تستخدم لاستراحة الضباط. وبالرغم من المحاولات الجادة لتعويضه عما قابله من معاملة سيئة في البداية إلا أن ذلك لم يخفف من حدة الغليان المسيطر عليه.

.................................................. ....

في تلك الأثناء، جــاء ضابط ما، مفتول العضلات، عريض المنكبين، ذو طلة مهيبة، وصاحب وجه صارم وتعابير جادة إلى القسم، ألقى عليه من يمرق بجواره التحية العسكرية مظهرين احترامهم له، ولج إلى غرفة مكتب الضابط "وجدي" قائلاً له بلهجته ذات الطابع الرسمي:

-"وجدي" بيه!

نهض الأخير من خلف مكتبه فور أن رأه ليرحب به، مد يده ليصافحه وهو يقول:

-أهلاً "ماهر" بيه، نورت مكتبي المتواضع.

رد مجاملاً:

-شكرًا يا باشا.

نظرة خاطفة تحولت نحو تلك الفتاة وهو يهم بالجلوس قبالتها محاولاً التأكد منها قبل أن يشرع في سؤالها، تأملها بنظراته المتفحصة قبل أن يسألها:

-إنتي "فيروزة"؟

هزت رأسها تُجيبه:

-أيوه أنا.

لم يكن "ماهر" قد رأها إلا في مرات عابرة حينما كان يعرج على أخته في الكلية ليوصلها، لذا بدا وجهها مألوفًا بالرغم من الحالة الفوضوية البادية عليها، وعلى النقيض عرفته "فيروزة" من وجهه الذي رأته في أغلب الصور الفوتوغرافية التي جمعته مع صديقتها "علا"، ومع هذا لم يُصادف أن يتبادل كلاهما أي حديث ولو مقتضب. تفرس فيها وسألها باهتمامٍ:

-إنتي كويسة؟ عملتي اللي قولتلك عليه؟

أجاب عنها "وجدي" تلك المرة، وتلك الابتسامة المتكلفة مطبوعة على شفتيه:

-اطمن يا "ماهر" بيه، أنا قايم بالواجب كله معاها

رد يشكره بتملقٍ:

-ده العشم يا باشا...

ثم استأذنه بصوته الجاد:

-تسمحلي أطلع على المحضر؟

قال مرحبًا ودون أن يظهر أي اعتراض:

-اتفضل سعادتك.

مد "وجدي" يد نحوه بالأوراق التي دونت فيها أقوال "فيروزة" ليبدأ "ماهر" في قراءتها على عحالةِ، صمت مريب ساد في المحيط إلا من أصوات لفظ دخان السجائر المشتعلة، قاومت "فيروزة" رغبتها في السعال بسبب الدخان الذي عبق المكان وملأه. دق الباب ليلج بعدها أحد العساكر وعلى وجهه نظرة متوترة قبل أن يتجمد في مكانه مُلقيًا التحية العسكرية، ثم أردف بعدها:

-تمام يا فندم.

رفع "وجدي" أنظاره نحوه يسأله:

-خير يا عسكري.

أجاب بلهجته الرسمية ودون أن يرف جفناه:

-سيادة المأمور عاوز سعادتك حالاً

استغرب كثيرًا من طلب المأمور غير المعتاد لرؤيته، تنحنح بصوتٍ مرتفع، ثم أشار له بعينيه وهو يقول:

-روح إنت يا عسكري، وأنا جاي وراك.

أدى له التحية العسكرية قبل أن يستدير منصرفًا من الغرفة ومغلقًا الباب خلفه، تطلع إليه "ماهر" متسائلاً في اندهاشٍ:

-مش غريبة المأمور يطلبك

رد بوجهٍ مبهم التعبيرات:

-مش عارف، مش بعوايده

ثم نهض من خلف مكتبه متابعًا حديثه:

-هستأذنك يا "ماهر" بيه، خد راحتك، المكتب مكتبك

ابتسم في امتنانٍ وهو يرد:

-شكرًا يا "وجدي" بيه.

التقط الأخير ولاعته، وميدالية مفاتيحه، وكذلك علبة سجائره، ثم اتجه إلى الخارج تاركًا الاثنين بمفردهما، كانت الفرصة مناسبة لـ "فيروزة" لتشكو له التصرفات الوقحة والعدائية من قبل ذلك الفظ "تميم" علها بذلك تسترق قلبه وتحوز على كامل دعمه.

.................................................. ......

حيرة ما بعدها حيرة أصابت عقله بالتخبط وشوشت ذهنه بعد المقابلة الرسمية مع مأمور القسم، والذي طلب منه فيها بصراحةٍ فض النزاع القائم بين "فيروزة" و"تميم" بشكلٍ ودي، وإنهاء الأمر في التو والحال، تعجب "وجدي" كثيرًا من مدى الصلات الوثيقة التي تربط مجرمًا مثله بأهم المسئولين ليجبروا رئيسه في العمل على التدخل في تلك المشكلة، وقف في الردهة يفكر مليًا فيما سيفعله، لم يرغب في إغضاب رؤوسائه، اقترب من النافذة المفتوحة، واستند بكفيه على حافتها محملقًا في الطريق أمامه لبعض الوقت، استنشق بعمقٍ الهواء البارد الذي اندفع منها قبل أن يتحرك عائدًا إلى مكتبه وفي رأسه فكرة ما توصل إليها، هز رأسه قائلاً وهو يتجه نحو مقعده:

-متأخرتش عليك يا "ماهر" بيه؟

رد نافيًا:

-لا يا باشا.

التفت "وجدي" نحو "فيروزة" يسألها بلهجته الجادة:

-آنسة "فيروزة" إنتي معاكي تراخيص للعربية دي؟

أجابته بنظراتٍ متوترة:

-أيوه.

أكد عليها بنبرة غريبة لم تستساغها:

-يعني كل التراخيص كاملة ولا في حاجة ناقصة؟

بلعت ريقها وردت متسائلة:

-يعني إيه؟ أنا مش فاهمة.

هنا تدخل "ماهر" في الحوار ليسأله:

-في إيه يا "وجدي" به؟

نظر له بغموضٍ جعله يشعر بالاسترابة من مظهره المُغاير لما قابله قبل قليل. وحتى لا يضعه في موقف محرج أمام ضيفته، هب "وجدي" واقفًا ونظراته بالكامل مرتكزة على "ماهر"، ثم قال له بصوتٍ جافٍ اكتسب رسمية جادة:

-"ماهر" بيه أنا عاوزك برا في كلمتين.

نهض الأخير من جلسته ليرد عليه:

-اتفضل.

تطلعت إليهما "فيروزة" وبوادر الفضول مسيطرة عليها، استدار "ماهر" نحوها ليقول:

-اشربي ليمونك وأنا راجع تاني.

ردت بابتسامة صغيرة لكنها مصطنعة:

-حاضر.

راقبت الاثنان وهما يخرجان من الغرفة، لاحظت ببديهيتها وفطنتها تغير أحوال الضابط الذي كان يحقق معها، حيث أصبح وجهه جامد كالصخر، واختفت نظرات التعاطف معها، بدا رسميًا معها على غير الودية التي قابلها بها. لم تنكر "فيروزة" أنها استشعرت وجود خطب ما، تنفست بعمقٍ وحاولت التغلب على التقلصات المؤلمة التي أصابت معدتها، لكن ظل ذلك الهاجس يعبث برأسها، رددت مع نفسها في تهكمٍ:

-يا خبر بفلوس ............................... !!!

.................................................. ...................








منال سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
[rainbow]وفوق كل ذي علم عليم[/rainbow]
ign]






رد مع اقتباس
قديم 28-03-20, 10:14 PM   #20

منال سالم

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء ومنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية منال سالم

? العضوٌ??? » 358950
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 1,488
?  مُ?إني » بورسعيد - مصر
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » منال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond reputeمنال سالم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك max
?? ??? ~
وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً
?? ??? ~
My Mms ~
Rewitysmile9 الفصل السادس عشر





الفصل السادس عشر



سحبه من ذراعه برفقٍ ليوجهه عبر الردهة الطويلة الضيقة حتى ينزويا عند أحد الأركان وبعيدًا عن الجلبة الروتينية الدائرة من حولهما بسبب طبيعة العمل في القسم الشرطي، بدا "وجدي" حائرًا في كيفية مفاتحة "ماهر" في الأمر، لكن لا مناص من ذلك! وبتعابيره الجادة ونظراته الغائمة نسبيًا استطرد يشرح له بإيجازٍ عما دار خلال لقائه مع المأمور، وكيف ألزمه الأخير بحل النزاع القائم بين "فيروزة" و"تميم" وديًّا حتى لا تتخذ الأمور منحنًا آخرًا، استطرد يؤكد عليه:

-إنت ليك كلام معاها، حاول تقنعها.

هتف بعد صمتٍ قليل:

-هحاول، لكن موعدكش بحاجة.

استرسل مضيفًا بنفس نبرته العميقة الثابتة موضحًا خطورة وجدية المسألة:

-يا "ماهر" بيه إنت عارف إني مقدرش اتأخر عنك في حاجة، بس الموضوع ده بالذات طلع فوق قدراتي، والمأمور بنفسه متابعه، وأنا مش عاوزلها الأذى.

حملق فيه في صمتٍ فتابع موضحًا:

-مش هايسبوها لو ركبت دماغها وعاندت، هايطلعوها الغلطانة في الآخر، إما إن في مشكلة في تصاريح الصحة، أو السجل الضريبي، وحاجات شبه كده

قال معقبًا عليه:

-مفهوم.

وبنبرة ذات مغزى أكمل:

-وزي ما سيادتك عارف، اللي مالوش ضهر في البلد دي بيحصله إيه!!

لم يكن بحاجة للمزيد من التفسيرات ليفهم ما الذي يرمي إليه، قضية "فيروزة" خاسرة من قبل أن تبدأ، ظل يدير الأمر في رأسه من أجل إيجاد الوسيلة المناسبة لإقناعها بالعدول عن رأيها والقبول بالتنازل. أشعل "وجدي" سيجارة جديدة، سحب دخانها بقوة، ثم لفظه وهو يقول ببسمة بدت متكلفة:

-وأنا تحت أمرك في أي حاجة تانية.

رد مجاملاً وهو يشير له في خفةٍ بعينيه:

-شكرًا يا "وجدي" بيه، أنا تاعبك معايا.

بادله ابتسامة فاترة، وتابع تدخين سيجارته، تنحنح "ماهر" متسائلاً من جديد:

-طب افرض هي رفضت، هتعمل إيه؟

أجابه بعد تفكيرٍ متأنٍ:

-أقصى حاجة ممكن أعملها إني أأجل تقديم البلاغ للنيابة لحد ما تتنازل.

-وده ينفع؟

رد مؤكدًا عن ثقة:

-الموضوع في إيدينا، بس المهم هي.

أشعره ذلك بقليلٍ من الارتياحٍ، وقال له:

-أنا هاعمل اللي عليا معاها.

.................................................. .............

استجمعت جأشها قليلاً واستعادت شجاعتها التي فقدتها في البداية رهبةً من الموقف، كانت حيرتها تزعجها، فقررت أن تستغل فرصة انفرادها بنفسها في غرفة المكتب لتهاتف أختها حتى تتقصى منها عن طبيعة الأجواء في المنزل، خاصة بعد عودة "همسة" بمفردها، عبثت "فيروزة" بلزمةٍ لا إرادية بشعرها وهي تسألها بصوتٍ خفيض :

-كله تمام عندك؟

أجابتها بنبرة عبرت عن قلقها:

-هي ماما بتسأل عليكي، وأنا مش عارفة أقولها إيه، وبصراحة خوفت أحكيلها و...

قاطعتها محذرة:

-لأ استني لما أرجع عشان ماتتخضش وتقلب الدنيا، والحكاية مش ناقصة.

سألتها "همسة" بنفس الصوت الخافت:

-طب هاقولها إيه؟ ولا هاتصرف إزاي؟

-ثواني كده

سكتت قليلاً لتفكر في حجة مقنعة، طرأ ببالها فكرة ساذجة، لكنها كافية للانطلاع على والدتها مؤقتًا، هتفت فجأة وبجديةٍ غطت ملامحها:

-قوليلها في مشوار تبع "علا" صاحبتي، ومش هتأخر، هي عارفاها وبتثق فيها

سألتها بحذرٍ:

-ماشي، وإيه الأخبار معاكي؟

أجابتها بابتسامةٍ مطمئنة:

-لحد دلوقتي كل حاجة ماشية تمام، "ماهر" بيه عامل معايا الواجب وزيادة، ومش بعيد تلاقيهم قبضوا على الحيوان ده، وحابسينه.

سألتها في جزعٍ:

-هو إنتي شوفتيه تاني؟

ردت نافية:

-لأ، بس طبيعي يقبضوا عليه بعد البلاغ اللي قدمته فيه..

ما لبث أن اتسعت ابتسامتها الساخرة وهي تضيف:

-ده مش بعيد يكونوا بيعلقوه دلوقتي.

قالت لها "همسة" بتوجسٍ:

-أنا خايفة عليكي يا "فيروزة"، حاسة إن الموضوع ده نهايته مش خير أبدًا!

انزعجت من خوفها الزائد، وهتفت في حدةٍ بعد أن تقلصت تعابيرها بشكلٍ ملحوظ:

-ما هو كله حصل على إيديك، هو اللي ابتدى من الأول، وحاربني في أكل عيشي، وكل اللي بأعمله معاه إني بأخد حقي منه.

استطاعت أن تسمع صوت تنهيدتها وهي تقول لها:

-ربنا يستر، وتعدي على خير.

شعرت "فيروزة" بجلبة تصدر من الخارج وتزداد حدتها، فوضعت يدها على فمها لتغطيه وهي تنهي المكالمة مع أختها:

-الظاهر في حد جاي يا "همسة"، هاكلمك بعدين.

لم تنتظر الرد منها، وأنهت معها المكالمة لترفع بعدها رأسها للأعلى وتحدق في "ماهر" الذي عاد بمفرده للمكتب، بدت تعابيره غير مقروءة، لكن نظراته الغريبة التي تتجنب التطلع إليها توحي بشيءٍ ما، جلس قبالتها مستقيمًا، ثم سألها بصوته الرخيم الجاد:

-كلمتيهم في البيت عندك تطمينهم؟

أجابته وهي تهز رأسها بالإيجاب:

-أيوه..

ثم تملقته قائلة:

-وكلهم بيشكروا سعادتك على تعبك معايا ووقوفك جمبي.

اكتفى بإيماءة خفيفة من رأسه لها، شعرت "فيروزة" أنه يريد إخبارها بشيء، لكنه متردد، فبادرت متسائلة:

-هما مسكوا البلطجي ده؟

جاوبها بزفيرٍ بطيءٍ:

-أيوه.

ارتسمت ابتسامة ارتياحٍ على محياها وهي تعلق عليه:

-طب الحمد لله، أهوو هياخد جزائه!

استغرق "ماهر" في صمته المريب ليشعرها بالمزيد من الاسترابة والشك في أمره، تفرست في وجهه الغريب متسائلة بنظراتٍ متوترة:

-هو في حاجة حصلت وحضرتك مش عاوز تقولي عليها؟

تخلى عن جلسته المنتصبة ليميل نحوها وهو يقول دون مراوغة:

-"فيروزة"، إنتي لازم تتنازلي عن المحضر!

تطلعت إليه في اندهاشٍ عظيم وبفمٍ مفتوح وهي تكاد لا تصدق ما نطق به للتو، بلعت ريقها ورددت في استنكارٍ ظهرت علاماته على قسماتها:

-حضرتك بتقول إيه؟!

.................................................. ...........

ســرد لها بأسلوبه الهادئ والعقلاني الأبعاد القانونية لما سيحدث لاحقًا إن أصرت على تصعيد مشكلتها مع "تميم" الذي ظهر الجانب الآخر القوي لعائلته، والتي لن تتوانى عن استغلال أي ثغرات لقلب الطاولة على رأسها، لم تصغِ لكلمة واحدة مما قالها، وردت معاندة ورافضة بشكلٍ قطعي:

-لأ طبعًا مش هاعمل كده!

عقب عليها بتمهلٍ:

-افهمي يا "فيروزة"، الناس دي أكبر مني ومنك و...

صاحت مستنكرة وعلى وجهها نظراتٍ متنمرة:

-ده بلطجي، خريج اللومان، بتعملوا للي زي ده قيمة؟ ليه يعني؟

أجابها ببساطةٍ ودون تزييف:

-لأنه مسنود.

تملكها الحنق لمجرد التفكير في الأمر، كانت كلماتها عنيفة، مليئة بالاتهامات حينما قالت له:

-قول إن حضرتك مش عاوز تساعدني

عاتبها بوجهه الذي تحول للصرامة:

-عيب الكلام ده يا "فيروزة"، أنا مش كده

لانت نبرتها قليلة، وقالت معتذرة دون أن تخبو انفعالات وجهها:

-أنا أسفة، بس ده حقي، وأنا مش هتنازل عنه

رد عليها بعقلانية علها تنحي عواطفها جانبًا وتحكم عقلها:

-وحقك هتاخديه، بس بشكل ودي.

أصرت على رفضها، واستطردت تقول:

-أنا أسفة يا "ماهر" بيه، سامحني، مش هاقدر أسمع كلامك.

سألها بعينين جادتين:

-يعني مصممة على اللي في دماغك؟

هزت رأسها تجيبه بكلمة واحدة:

-أيوه.

لم يحاول أن يستحثها على التنازل، ورد بهدوءٍ:

-تمام.

دقائق ســاد الصمت فيها بينهما، تخللته فقط أصوات رسائل ترد على هاتف "ماهر" كان يجيب عنها نصيًا. فُتح الباب فجأة، ودخل "وجدي" للمكتب متسائلاً بحماسٍ، وقد توهم نجاح زميله في إقناعها:

-ها وصلتوا ليه؟

أجابه "ماهر" على مضضٍ وهو يهز رأسه بالنفي:

-للأسف راكبة دماغها يا "وجدي" بيه، ومصممة على المحضر.

اختفت الحماسة من تعابير "وجدي"، ورد عليه بوجومٍ وهو يسحب مقعده للخلف ليجلس خلف مكتبه:

-براحتها، خلينا نكمل المحضر بتاعنا...

ثم تركزت أنظاره على "فيروزة" وهو يكمل بلهجة مغايرة للود الذي استقبلها به:

-ونستدعي المدعو "تميم".

سألته في صدمة وقد اتسعت عيناها على الأخير:

-هو حضرتك هاتجيبه هنا المكتب؟

رد ببرودٍ وتعالٍ:

-أكيد طبعًا، مش محضر ولازم يتقفل!

ازدردت ريقها في اضطرابٍ، وشعرت برجفة مقلقة تصيب بدنها، فبكلماته الجامدة تلك نزع الطمأنينة من قلبها، تطلعت إلى "ماهر" بنظراتها المتوترة، وكأنها تستنجد به، نظر إليها بغموضٍ قبل أن ينطق بنبرته ذات الطابع الرسمي:

-تسمحلي أحضر معاك يا "وجدي" بيه؟

أجاب مرحبًا به:

-مافيش مشكلة.

.................................................. ..........

مواجهة محتومة بينهما كانت مليئة بالحنق، بالكراهية، بالغضب، وبكل المشاعر العدائية. تطلع الاثنان إلى بعضهما البعض بعد أن جلسا متقابلين بنظرات متحفزة ونارية، وكأن بينهما صراع خفي بدأ منذ زمنٍ بعيد، كذلك امتلأت الغرفة بأحد أبرز محامين الدفاع ليتولى واحد منهم مهمة الحديث حينما يستلزم الأمر، وأيضًا حرص الضابط "ماهر" على التواجد، ناهيك عن توصيات اللواء "وفيق" الذي عرج عليهم بالغرفة ليلقي التحية على "تميم" قبل أن ينصرف، حينها أدركت "فيروزة" أنها باتت في موقفٍ أضعف، لكنها ما زالت تثق في قوة القانون الذي لن يخذلها. بدأ "وجدي" في تدوين أقوال كليهما مستعينًا بأحد معاونيه، نظر إلى "تميم" متسائلاً بروتينية:

-الآنسة بتتهم حضرتك بإنك ولعت في عربية الأكل بتاعتها، إيه ردك على الكلام ده؟

عمق "تميم" من نظراته العدوانية لها، وأجابه بصوته الأجش:

-كدابة، ده محصلش!

هدرت "فيروزة" في عصبيةٍ وقبضة يدها المتكورة تضرب على سطح المكتب بانفعالٍ:

-أومال هي ولعت لوحدها؟ إنت بعت البلطجية بتوعك يحرقوها!

كانت نظرة الازدراء الباردة التي تطل من عينيه كفيلة بإغضابها أكثر، استرخى في جلسته، وأضاف نافيًا التهمة عنه:

-ماليش علاقة باللي بتتكلمي عنهم، أنا كنت قاعد في دكاني وكل أهل الحتة شاهدين عليا.

زاد من حنقها، وردت عليه في استهجانٍ ساخط متعمدة إهانته:

-طبعًا هتنكر، ما هو اللي زيك الإجرام بيجري في دمهم!

تأهب "تميم" في جلسته ونظر لها بشراسة قبل أن يحذرها مهددًا بلهجةٍ تنطق بعدائيته:

-اتكلمي كويس بدل ما أعدلك!

طرق "وجدي" بيده في ضيقٍ على سطح مكتبه مستنكرًا أسلوب "تميم" الهجومي، وهتف يحذره:

-ماينفعش الأسلوب ده هنا!

رد عليه من بين أسنانه المضغوطة، ونظراته المغلولة مسلطة على "فيروزة":

-وحضرتك مش شايف قلة أدبها؟

صاحت تدافع عن نفسها:

-أنا مغلطتش فيه.

التفت "وجدي" ناحيتها، ووجه حديثه لها يأمرها بلهجةٍ أقل حدة:

-وإنتي يا آنسة بالراحة من فضلك.

ضغطت على شفتيها في تأفف، وأدارت رأسها في اتجاه "ماهر" حين قال لها:

-اهدي يا "فيروزة"، احنا في تحقيق رسمي.

ردت صاغرة وعلى مضضٍ:

-حاضر يا "ماهر" بيه.

استمع "وجدي" إلى باقي أقــوال "تميم" التي تنفي عنه تهمة إحراق العربة مؤكدًا بالبراهين الدامغة عدم تورطه في الأمر، ثم أضــاف أحد محاميه برسميةٍ وهو يشير نحو "فيروزة" ليسهم بحكنةٍ ودهاء في تصعيد الموقف:

-اسمحلي يا باشا أشتكي على الآنسة في محضر رسمي واتهمها بالسب والقذف والاعتداء على موكلي في مقر عمله.

هبطت جملته على رأسها كدلو ماءٍ مثلج، انتفضت في جلستها، وهتفت في ذهولٍ:

-نعم؟ إيه الكلام ده؟

قال لها المحامي موضحًا بابتسامةٍ لئيمة استطاعت أن تبصرها مرسومة على وجهه:

-تقدري تنكري إنك اتهجمتي على الأستاذ "تميم" وضربتيه في دكانه؟!!

شحب وجهها من إجابته التي حتمًا ستفسد المخطط المرسوم في رأسها، نظرة مترددة سددتها إلى "تميم" الذي بدا على غير العادة قويًا، معتدًا بنفسه، أحست بمرارة العلقم في حلقها، بخفقات مذعورة تصيب قلبها. هربت الدماء من عروقها حينما تابع المحامي اتهامه لها:

- ده غير الشتايم والإهانة الفظيعة اللي سببتيهاله وسط أهله، وهو في المقابل مقربش منك؟!!!

أوشكت أن تموت من التوتر والخوف بعد أن تبدلت المواقف، وأصبحت هي في نظر الجميع المتهمة، لاذت بالصمت لعجزها عن إيجاد الكلمات المناسبة التي تدافع بها عن نفسها، طال صمتها مما جعل الشكوك تساور "وجدي"، سألها مستفهمًا:

-الكلام ده حصل؟

أجابت بصوتٍ مهتز محاولة تبرير تصرفها:

-أيوه، بس عشان كنت متعصبة، وهو اللي حرق عربيتي و...

هدر بها "تميم" في غيظٍ:

-قولتلك محرقتهاش، هو رمي بلى والسلام!

عنفه "وجدي" لتجاوزه في التحقيق قائلاً بشدة:

-اسكت لو سمحت، ماينفعش اللي بتعمله ده.

زفر بصوتٍ مسموعٍ ورد بتعابير مشمئزة:

-ماشي يا باشا.

هتف المحامي بقوةٍ مستغلاً الموقف ليقلب الموازين ويحرز النصر لصالح موكله:

-سجل عندك يا باشا في المحضر اعترافها ده، ونقدر كمان نجيب لسعادتك تسجيل الكاميرات اللي في الدكان، ونشوف بقى مين اللي اتهجم على مين!

كم بدت تلك اللحظة قاسية على "فيروزة"! شعرت بالخزي من نفسها وبالندم على سوء تصرفها، فلو لم تنساق وراء عصبيتها لكانت في مركز قوة، نظرة لائمة حانت من "وجدي" لـ "فيروزة" وهو يقول لها صراحةً:

-كده الموضوع هياخد سكة تانية.

.................................................. .............

استأذنه "ماهر" أن ينفرد بها للحظات بعد أن تفاجأ هو الآخر بتصرفها الخاطئ، أمسك بـ "فيروزة" من ذراعها، وسحبها لركن منزوٍ بالغرفة حتى يتحدث معها، انساقت معه دون اعتراضٍ أو مقاومة، رمقها بنظرة تحمل الإدانة، وعاتبها هامسًا:

-كده تحرجيني يا "فيروزة"؟ إنتي مكونتيش صريحة معايا من الأول!

بررت له بصوتها المضطرب:

-والله كان غصب عني، مكونتش في وعيي بعد اللي حصل، ومجاش في بالي إنه هيعمل كده

أصبح فجأة قاسيًا معها وهو يكمل بصوته الخافت:

-دلوقتي موقفك إنتي بقى وحش، واحتمال تتعرضي لمشكلة لو الموضوع كبر.

ردت في استنكارٍ:

-يعني يبقى حارق عربيتي وأنا اللي اتحاسب؟

قال في بساطةٍ:

-لأنك ضيعتي حقك بتهورك!

كان محقًا في لومه، نكست رأسها للحظةٍ في خزي، ولم تجرؤ على التطلع له وهي تسأله:

-طب والعمل إيه يا "ماهر" بيه؟

أجاب بزفيرٍ مزعوج:

-هانشوف هترسى على إيه.

رفعت عينيها إليه ترجوه وقد تسرب الخوف إلى أوصالها:

-أرجوك يا "ماهر" بيه تقف جمبي وتساندني، مش عاوزة حقي يروح.

لم يكن أمامه خيارٌ بديل سوى دعمها، نفخ في ضيقٍ، ورد عليها:

-ربنا يسهل.

لعقت "فيروزة" شفتيها الجافتين والتوتر يزداد بداخلها، نظرة خاطفة وجهتها إلى "تميم" فرأته محدقًا بها في قوةٍ وزهو، وكأنه يظهر لها شماتته، أشاحت بوجهها المنكمش عنه، وهمست لنفسها في رجاءٍ يائس علها بذلك تستدعي قوتها الهاربة:

-مش أنا اللي أتنازل بسهولة!

.................................................. ....

ذرعت الغرفة جيئةً وذهابًا وهي تنوح وتولول على زوجها الذي اقتادوه من أسفل المنزل ليزجوا به في سيارة الشرطة، رأته مصادفة من خلف الزجاج الموصود بعد الجلبة التي أحدثتها صافرات الشؤطة المميزة، لم تعرف "خلود" كيف تتصرف حينذاك، صرخت منادية إياه باسمه، لكنه لم يسمعها، هرعت للداخل تدور حول نفسها كالمجنونة، فتحت ضلفة الدولاب لتخرج عباءتها، ألقت بها على ثيابها المنزلية، وركضت إلى خارج المنزل لتذهب إلى بيت خالتها، علها تجد عندها الخبر اليقين، تفاجأت بها الأخيرة، وصدمت لما أصاب ابنها، تشاركت الاثنان في العويل والندب، ثم قامت "ونيسة" بمهاتفة زوج ابنتها لتستدعيه حتى يقف بجوار "تميم"، ولم يتأخر عنها، وبقيت كلتاهما حبيستان في المنزل، تنتظران على أحر من الجمر الأخبار المطمئنة. تلفت أعصاب "خلود" واحترقت أحشائها كلما تذكرت ذلك المشهد المؤلم، التفتت نحو خالتها تنوح لها:

-هتجنن يا خالتي، قلبي بيتقطع عليه، لسه برضوه مافيش أخبار عنه؟

ردت "ونيسة" بحزنٍ كبير ظاهر عليها:

-أديني كلمت عمك الحاج وقالي كلهم معاه جوا عند الظابط.

سألتها في لوعةٍ:

-يعني هيطلع ولا هيحبسوه؟

زجرتها في ضيقٍ:

-تفي من بؤك، الشر برا وبعيد.

قالت موضحة:

-أنا عاوزة أطمن بس.

تنهدت معقبة عليها في قنوط:

-محدش عارف حاجة لسه.

لطمت "خلود" على صدرها مكملة عويلها الموجوع وعيناها تبكيان:

-منهم لله اللي كانوا السبب، ربنا يحرق قلبهم زي ما حارقين قلبي على جوزي، وحارمني منه.

رفعت "ونيسة" كفيها للسماء تناجي المولى:

-يا رب ينجيك منها على خير يا ابني، أنا ماليش غيرك يا رب

.................................................. ...

استُكملت باقي الإجراءات الخاصة بالتحقيق في البلاغات التي نالت طرفيه، وتبقى فقط التوقيعات عليه، فعلت "فيروزة" ما رأته صوابًا من وجهة نظرها، وإن تحملت تبعات رعونتها، انتظرت تراقب "تميم" في تحفز على مقعدها، لكن صعدت الدماء بقوةٍ إلى وجهها حينما قال "وجدي" بلهجةٍ عادية:

-تقدر تتفضل يا أستاذ "تميم".

سأله المحامي مستوضحًا:

-يعني موكلي يقدر يمشي؟

أجابه وهو يهز رأسه بالإيجاب:

-أيوه.

صدمت "فيروزة" من قراره الذي خالف توقعاتها، ورددت متسائلة في عصبيةٍ والدهشة تكسو كامل ملامحها:

-إنتو هتسيبوه يمشي بالبساطة دي؟

ابتسم لها "تميم" ساخرًا:

-أومال فكرك إيه؟ هبات في التخشبية؟

استشاطت نظراتها واِربد وجهها بغضبٍ عظيم، وقبل أن تتفوه بكلمة تندم عليها لاحقًا، بادر "وجدي" يحذرها بصرامةٍ:

-اهدي يا آنسة، وسيبني أشوف شغلي

قالت في استهجانٍ:

-طب إزاي؟ ده بلطجي وسوابق!

لم يقبل "تميم" بإساءتها لشخصه، فحذرها بخشونةٍ ونظراته النارية مرتكزة عليها:

-اغلطي أكتر عشان تتحاسبي أكتر.

قالت في تحدٍ:

-أنا مش خايفة منك!

صاح بهما "وجدي" في نفاذ صبرٍ:

-ماينفعش الأسلوب ده هنا، إنتو في قسم البوليس مش في الشارع..

ثم وجَّه باقي حديثه إلى رفيقه" بلهجة منفعلة قليلاً:

-اتكلم مع قريبتك يا "ماهر" بيه!

استدار نحوها الأخير يأمرها بجمودٍ:

-لمي الدور يا "فيروزة"، واهدي شوية.

خُيل إليها أنها ترى ابتسامة "تميم" المستفزة متشكلة على ثغره ونظراته الحاقدة تنفذ إلى داخلها، لم تستطع أن تمرر إخلاء سبيله بعد ما تكبدته من عناء، لذا مالت على "ماهر" تقول له وهي تجاهد لضبط انفعالاتها حتى لا تستثار مجددًا:

-عاوزني أهدى إزاي يا "ماهر" بيه وأنا شايفة بعيني حقي بيروح

رد عليها بهدوءٍ اكتسبه من طبيعة مهنته التي تتطلب ثباتًا انفعاليًا كبيرًا:

-لسه في كلام، الموضوع مخلصش.

وبالرغم من نظراته التي تؤكد لها دعمه إلا أن شعورها بالارتياح يكاد يكون انعدم، تحركت حدقتاها تلقائيًا مع صوت المحامي وهو يقول مبتسمًا في زهوٍ:

-يالا يا أستاذ "تميم"، احنا موقفنا في السليم.

بقيت نظراتها متجمدة عليه وهو يرحل من الغرفة بصحبة محامينه، وقبل أن يخرج من الباب التفت "تميم" يودعها وتلك النظرة الغامضة تحتل عيناه:

-سلام يا .. يا أبلة!

كزت على أسنانها في غيظٍ وهي تشعر بالدماء تفور في رأسها، ما انتشلها من تحديقها الناري في طيفه الذي رحل صياح "ماهر" المعنف بها:

-اللي عملتيه ده غباء، وحطيتي نفسك في موضع شبهات.

تطلعت إليه في حيرة، فتابع بنفس الصوت الحانق:

-وطبعًا بالمحضر اللي عمله فيكي لو مثبتش فعلاً إنه متورط فيه هيطالبك بتعويض.

ردت متسائلة في قلقٍ، وما زال عنادها مسيطرًا عليها:

-والحل إيه دلوقت؟ أنا عاوزة حقي منه!

هنا تدخل "وجدي" في حوارهما ليقول:

-للأسف إما إنك تتنازلي عن المحضر أو ...

أدارت رأسها نحوه تقاطعه بإصرارٍ شديد:

-مش هتنازل مهما حصل

نصحها بجديةٍ وهو ينظر لها:

-فكري بالعقل وبلاش استعجال

وقبل أن تنبس بكلمة إضافية، بادر "ماهر" يقول لها مشددًا:

-خدي وقتك واحسبيها كويس، وأنا معاكي في القرار الصح اللي هتاخديه

.................................................. ...........................

اصطحبها عبر ردهات القسم حتى وصل بها إلى الخارج، وأوصاها "ماهر" خلال سيره المتباطئ معها بالتروي وتحكيم العقل قبل اتخاذ أي قرارٍ مصيري، وعدته "فيروزة" بإعادة التفكير في تلك المسألة دون أن تعطيه ردًا صريحًا بالتراجع، ودعته بعد أن اعتذرت منه بلباقةٍ عن الإزعاج الذي سببته له، كما شكرته على دعمه ووقته الذي خصصه لها، وبدأت في الهبوط على درجات القسم الرخامية. خرجت من محيط ذلك المكان الشرطي لتتفاجأ به يعترض طريقها بجسده المشدود، ونظراته القاتمة .. سرت عدوى الارتعاب في كامل جسدها، تراجعت تلقائيًا خطوة للخلف وهي تحاول التظاهر بالتماسك أمامه، تقدم "تميم" نحوها وهو يقول لها بوجهٍ يفح غضبًا:

-لو مفكرة إني هاسيبك تبقي غلطانة، إنتي فتحتي على نفسك طاقة جهنم معايا!

تحلت بالشجاعة، وقالت بصوتٍ شبه متهدج:

-إنت بتهددني؟

توحشت نظراته بشكلٍ مخيف جعل قلبها يدق في خوفٍ أكبر، دنا أكثر منها غير عابئ أنها تتراجع نحو القسم ليهددها:

-سميه زي ما تسميه، والقلم اللي ضربتهوني قصاد الناس، هتتحاسبي عليه.. بس في وقته!

قاومت خوفها، وردت تتحداه:

-مش هاتقدر تعملي حاجة، وبكرة ترجع اللومان و...

قاطعها بما يشبه السخرية:

-ده لو مدخلتهوش قبلي!

برقت عيناها من تهديده الواثق بالفوز، وكأن القضية التي لم تبدأ بعد قد حُسمت لصالحه، تركها تتخبط في أفكارها وأولاها ظهره لينصرف مبتعدًا عنها بخطواتٍ تميل للعدو .. قابل "ناجي" الذي كان ينتظره بالخارج وعند سيارة والده، وما إن رأه الأخير مقبلاً عليه حتى هرع نحوه يسأله:

-"تميم"، إنت كويس؟ عملوا معاك إيه؟

تطلع إليه في اندهاشٍ قبل أن يرد على سؤاله:

-"ناجي"، إنت عرفت منين إني هنا؟

خرج صوته مهزوزًا بشكلٍ ملحوظ وهو يجاوبه:

-"محرز" كلمني، وأنا .. جيتلك على هنا، واطأست وعرفتك إنك جوا، مش كده يا "محرز".

رد عليه مبتسمًا في سماجة:

-ايوه مظبوط، ده متأخرش عنك يا "تميم"!

أحس "تميم" بيد والده تربت على كتفه، التفت برأسه للجانب ناحيته وهو يطلب منه:

-بينا يا ابني نرجع البيت.

رد معتذرًا بوجهٍ متجهمٍ:

-ثواني يابا، عاوز "ناجي" في كلمتين.

ثم استدار نحوه يسأله مباشرةً:

-إنت ليك يد في اللي حصل؟

ارتبك وهو يجيبه:

-آ.. هو... مش أنا بالظبط وآ....

-تعالى معايا

قالها "تميم" بنبرة عميقة وهو يقبض على ذراع رفيقه يجره منه بعيدًا عن والده والبقية، انزوى به في بقعة معتمة، ثم دفعه بقسوةٍ نحو أحد الأبواب الحديدية لأحد الأكشاك المغلقة ليستفسر منه عما حدث، أخبره "ناجي" بترددٍ عن محاولة "حمص" و"شيكاغو" الغاشمة من أجل إرضائه، انقض عليه فور أن سمع الحقيقة كاملة مطبقًا على عنقه وضاغطًا بأصابعه على عرقه النابض، تحشرج صوت "ناجي" وهو يبرر له مدافعًا عن نفسه:

-اقسم بالله ما كنت أعرف إنهم هيعملوا كده..

كز على أسنانه وهو يصرخ به:

-بتورطني يا "ناجي"؟ من امتى بأخد تاري من الحريم؟

حاول أن يلتقط أنفاسه ليقول له بصعوبة واضحة عليه:

-غلطة يا "تميم" ..

أرخى أصابعه عنه وهو يدمدم بسبة نابية، سعل "ناجي" بعد أن استنشق دفعة كبيرة من الهواء ليملأ بها صدره المختنق، نظر في توجسٍ لرفيقه الذي تراجع للخلف وهو يلومه بشدةٍ:

-وهتفدني بإيه لما تقولي كده؟

أبدى "ناجي" ندمه الشديد، ووعده بنبرة عازمة:

-أنا محقوقلك، والليلة بقت عندي، وأنا عارف هصلحها إزاي، اديني بس يومين تلاتة، وكل حاجة هترجع زي الأول وأحسن.

أشــار له "تميم" بسبابته وهو يرد بنبرة تحمل في طياتها التهديد، وقد غامت نظراته بشكلٍ مقلق:

-يا ريت، وإلا هايكون في كلام تاني صدقني مش هايعجبك!

هز برأسه في ارتياحٍ بعد أن منحه الفرصة، وهتف معقبًا عليه:

-أمين يا صاحبي.

.................................................. ..........

تسللت كاللصوص إلى داخل المنزل بعد أن هاتفت أختها لتطلب منها انتظارها بالقرب من الباب حتى تفتحه لها فور وصولها، وبالتالي لا تثير انتباه والدتها أثناء عودتها. وبخطوات خفيفة وحذرة خطت "فيروزة" نحو غرفتها، ألقت بثقل جسدها المنهك على الفراش، وأغمضت عينيها لوهلةٍ وهي تكاد لا تصدق أنها في البيت، تنفست الصعداء ووضعت يدها على صدرها تتحسس نبضات قلبها بعد مُضي ذلك اليوم المشحون بكل ما فيه من مآسٍ، جلست "همسة" إلى جوارها، وسألتها في تلهفٍ عن تفاصيل كل شيء، أوجزت الأولى معها في الحوار، وأعطتها لمحة مختصرة عما آلت إليه الأمور، اختتمت حديثها قائلة في امتعاضٍ وهي تسحب الوسادة خلف ظهرها:

-الزفت اللي اسمه "تنين" عمل فيا محضر.

تعجبت "همسة" من ذلك اللقب الغريب الذي أطلقته على خصمها، وتساءلت مستوضحة:

-"تنين"!! تقصدي "تميم"؟

ردت بتأففٍ وقد انفرجت زاوية فمها عن ابتسامة ساخرة:

-أيوه، هو في غيره!

ثم اعتدلت في نومتها وتابعت بتفاخرٍ زائف حتى لا تشعر بقلقها من تطور الأمور:

-بس أنا مسكتش وعرفته مقامه!

لم تنتبه لصوتها الذي كان مرتفعًا بعض الشيء بسبب انفعالها فحاز على انتباه والدتها التي مرت مصادفة بجوار الغرفة، التصقت بالباب لتسترق السمع لحوارهما الخطير، انقبض قلبها في فزعٍ وتوترت كليًا بعد أن عرفت تقريبًا ما خبأته ابنتاها عنها، وبضيقها المختلط بارتعابها اقتحمت الغرفة متسائلة بحدةٍ ونظرات العتاب بائنة في عينيها:

-إيه اللي أنا سمعته ده؟

حاولت "فيروزة" الإنكار، فقالت وهي تتصنع الابتسام:

-مافيش حاجة يا ماما، ده آ...

قاطعتها بغلظةٍ:

-هتخبي عليا يا "فيروزة"؟

حثت "همسة" أختها على البوح بالحقيقة، فقالت وهي توزع نظراتها المتوترة بين وجهي كلتيهما:

-قوليلها يا "فيرو"، ماما لازم تعرف!

لم تجد بدًا من مصارحتها، نهضت عن الفراش، واجتذبت والدتها من ذراعها لتجلسها على طرفه، ثم جثت على ركبتيها أمامها ورفعت رأسها إليها لتتطلع إليها وهي تسرد لها تفاصيل الساعات الأخيرة، اتسعت عينا "آمنة" في ذهولٍ، توقعت من والدتها أن تأزرها، وتساندها في أزمتها، أحبطت سقف توقعاتها حينما لطمت على خدها ووبختها بقسوةٍ:

-يا نصيبتي! محاضر وأقسام؟ هو احنا كنا ناقصين مشاكل يا بنتي؟ ليه تعملي كده؟

استندت على مرفقيها لتنهض من جلستها غير المريحة، وهتفت معترضة على خذلانها لها:

-هو الكل ليه جاي عليا، الحيوان ده اللي بدأ، وأنا كنت بأخد حقي منه، المفروض تقفي معايا يا ماما وتساعدني

صرخت بها أمها وهي تنتفض واقفة:

-مش في ده يا "فيروزة"!

لم تتمكن قدماها من حملها، فعادت لتجلس وهي تندب سوء الحظ الملازم لعائلتها الصغيرة:

-استرها علينا يا رب، ده احنا ولايا، هنعمل إيه بس..

نظرت لها "همسة" في إشفاقٍ، ومالت عليها تضمها من كتفيها إليها محاولة تهدئتها، بينما رمقت "فيروزة" أمها بنظرة مغتاظة، أشاحت بوجهها للجهة الأخرى وظلت تنفخ بصوتٍ مسموع، كادت أن تفقد هدوئها المفتعل ووالدتها تضيف بخوفٍ غريزي نابع من طبيعتها المستكينة:

-آه لو خالك عرف!!

نظرة حانقة مسحت بها وجه والدتها قبل أن ترد غير مبالية:

-مش فارقة معايا، اللي حصل حصل، وأنا مش هاسكت عن حقي!

هبت والدتها واقفة على قدميها، تحركت صوبها وأمسكت بها من كتفيها لتديرها إليها، ثم صرخت فيها بتشنجٍ:

-هو احنا كنا ناقصين؟ طول عمرنا في حالنا وماشيين جمب الحيط، هانيجي على آخر الزمن نخش أقسام ونروح نيابات؟ الموضوع ده تفضيه، وكفاية إنه انتهى على كده

ردت بتزمتٍ:

-لأ مخلصش، وأخو "علا" الظابط واقف معايا فيه

قالت لها بما يشبه التوسل:

-يا بنتي أنا مش عاوزة مشاكل، محدش هينفعنا في الآخر، إنتي تشوفيلك حل، وبناقص منها العربية، في ستين داهية!

علقت بعندٍ أكبر:

-مش هايحصل

استبد بـ "آمنة" خوفها، فأخذت تنوح بغضبٍ:

-أنا عارفة إن الكلام مش هايجيب فايدة معاكي، إنتي ما بتسمعيش كلام حد أبدًا!

انسحبت "فيروزة" من الغرفة حتى لا يحتدم جدالها العقيم مع والدتها، استدارت "آمنة" إلى توأمتها ترجوها والدمع قد بدأ في التجمع في مقلتيها:

-كلميها يا "همسة"، جايز تسمعلك.

ردت صاغرة وهي تومئ برأسها:

-حاضر يا ماما، أنا هاعمل اللي عليا معاها، وربنا يهديها.

خرجت والدتها من الغرفة مجرجرة ساقيها، استطاعت أن تسمع صوتها المناجي وهي تدعو :

-استرها علينا يا رب من اللي جاي.

.................................................. ..........

ارتمت في أحضانه بمجرد أن وطأ منزل أبويه وتعلقت في عنقه كالطفل الصغير رافضة تركه وهي تكاد لا تصدق عودته إليها، لم تبالِ بمن يتطلع إليها وبمن سيلومها على شغفها الزائد به، المهم أنه عاد إليها سالمًا، اضطر "تميم" أن يتحرك بها نحو الصالة، في حين دفست "خلود" رأسها في صدره، وهتفت بتلهفٍ مبتهج:

-حمدلله على سلامتك يا حبيبي، أنا كنت بأموت لما شوفتهم بياخدوك من تحت البيت، الحمدلله إنك رجعتلي

أبعدها عنه في حرجٍ من اندفاعها نحوه بذلك الشكل المخجل، نظر لها بعينين تعكسان انزعاجه قبل أن يرد بأنفاس الضيق:

-أنا كويس أهوو قدامك، ماينفعش كده

رفضت التخلي عنه، وظلت ملتصقة به رغمًا عنه، واستطردت:

-مش هاسيبك يا حبيبي، إنت ماتعرفش غلاوتك عندي عاملة إزاي.

رد ببسمة متكلفة:

-ما هو باين.

جاءت والدته إليها وأزاحتها من طريقها وهي تقول:

-وسعي يا "خلود" خليني أخد ابني في حضني.

اضطرت أن تتركه قائلة على مضضٍ وبوجهٍ شبه عابس:

-اتفضلي يا خالتي.

فتحت "ونيسة" ذراعيها لابنها الذي انحنى عليها ليقبلها من كتفيها، ضمته إليها ليشعر بأحضانها الحانية على جسده المرهق، ثم رفعت رأسها إليه لتتأمل وجهه، مسحت بيديها على صدغيه وسألته في لهفةٍ:

-حبيبي يا "تميم"، إنت كويس يا غالي؟ قولي عملوا فيك إيه ولاد الـ ..... دول؟

تنهيدة مهمومة خرجت من صدره قبل أن يرد عليها مبتسمًا ابتسامة باهتة:

-ولا حاجة يامه، أنا زي الفل..

تحولت أنظار "تميم" نحو والده، وأثنى على مجهوده العظيم قائلاً:

-وأبويا ربنا يبارك في عمره قام بالواجب وزيادة.

هز "بدير" رأسه في استحسانٍ ورضا، بينما أضــاف "محرز" من خلفهما بابتسامته اللزجة مستخدمًا ذراعيه في التلويح:

-الحمدلله ابنكم رجع بالسلامة أهوو، أنا كده عداني العيب، ألحق أروح لـ "هاجر" وأطمنها

استدار "تميم" نحوه يشكره:

-كتر خيرك يا "محرز"، سهرناك معانا

ضحك في سخافةٍ قبل أن يقول بنفس تلك الابتسامة المستهلكة:

-ولا يهمك يا ابن عمي، سلامو عليكم.

قاموا بتوديعه ليسير بعدها "تميم" نحو أقرب أريكة، استراح عليها وأغمض عينيه للحظات محاولاً تعطيل عقله الذي لم يتوقف عن التفكير مؤقتًا، شعر بيدٍ حنون تفرك جانبي عنقه، فاستسلم للأنامل التي بددت الآلام المكتومة في عظامه، انتبهت حواسه فجأة ووالدته تسأله:

-حقه الكلام اللي سمعناه ده صحيح؟ بنت "آمنة" اللي ورا حبسك؟

أجابها بقنوطٍ وهو ينظر لها:

-آه هي.

ثم عــاد لصمته الإلزامي من جديد رافضًا إشباع فضول والدته المستثار.

بدت الحيرة واضحة على تعبيرات "خلود"، سلطت أنظارها عليها متسائلة بفضولٍ ويداها ما زالت تعملان على كتفي زوجها:

-مين دي يا خالتي؟

ردت في أسفٍ وقد اكتست تعبيراتها بلمحة من الحزن:

-واحدة كنت مفكراها جارتي يا "خلود"، مكنش العشم والله!

ضــرب "بدير" بعكازه على الأرضية ليقول بعدها في حسمٍ:

-خلاص يا "ونيسة" مالوش لازمة نتكلم، المهم "تميم" رجع لبيته.

أيده الرأي فقال بصوتٍ أجوف:

-مظبوط يابا، كفاية رغي فيه.

هزت والدته رأسها في استسلامٍ، ثم اقترحت بنبرة مرحبة والابتهاج يملأ عينيها:

-إنت تبات معانا إنت ومراتك هنا، أوضتك جاهزة وزي الفل، أنا موضبة كل حاجة.

على الفور ودون منحه الفرصة لاتخاذ القرار هتفت "خلود":

-أنا معنديش مانع يا خالتي، ده بيتنا، و"تميم" محتاج يرتاح، كفاية اللي شافه طول اليوم.

حرك رأسه قائلاً، وقد تمكن التعب منه:

-طيب.

وبثقلٍ وتباطؤ نهض "تميم" من مكانه واتجه إلى غرفته، وخطوات زوجته تلحق به، صاحت "ونيسة" من خلفهما:

-أنا هاجهزلكم لقمة تاكلوها.

استوقفت كلماتها "خلود"، فأدارت رأسها نحوها لتشكرها:

-تسلمي على تعبك يا خالتي.

أشارت لها بيدها تستحثها بنبرة ذات مغزى:

-روحي ورا جوزك شوفي ناقصه إيه.

-حاضر.

قالتها بمرحٍ وهي تسرع الخطى نحو غرفة نوم "تميم"، تلك التي ستبيت فيها الليلة في أحضانه الدافئة بعد أن كانت تطأها خلسة، راقبتهما "ونيسة" إلى أن تواريا بالداخل، ثم التفتت نحو زوجها تقول له وقد تبدلت تعبيراتها للتجهم:

-اعمل حسابك يا حاج أنا مش هاسكت عن اللي حصل ده.

رد عليها بلهجة جادة:

-ماتكبريش الموضوع يا "ونيسة".

غامت عيناها وهي تتطلع إليه، وبدت قسماتها المرهقة مشدودة عن ذي قبل، ثم هتفت بلهجتة عبرت عن قساوةٍ لا تظهر إلا في المصائب، لتعلن بصراحة عن تصعيد الخلاف لأقصاه:

-هو كبر لوحده خلاص يا "بدير"! وابني عندي مش أغلى من بنت "آمنة" .............................................. !!

.................................................. ...............










منال سالم غير متواجد حالياً  
التوقيع
[rainbow]وفوق كل ذي علم عليم[/rainbow]
ign]






رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:23 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.