آخر 10 مشاركات
كوابيس قلـب وإرهاب حـب *مميزة و ومكتملة* (الكاتـب : دنيازادة - )           »          الــــسَــــلام (الكاتـب : دانتِلا - )           »          ودواهم العشق * مميزة ومكتملة * (الكاتـب : emy33 - )           »          369 - جزيرة الحب الضائع - سارة مورغن (الكاتـب : سماالياقوت - )           »          حب غير متوقع (2) للكاتبة: Mary Rock *كاملة+روابط* (الكاتـب : monaaa - )           »          شيءٌ من الرحيل و بعضٌ من الحنين (الكاتـب : ظِل السحاب - )           »          شموخ لا ينحني -قلوب شرقي(خليجي)-للمبدعة: منى الليلي(أم حمدة) *مكتملة & الروابط* (الكاتـب : أم حمدة - )           »          أهدتنى قلباً *مميزة و مكتملة * (الكاتـب : سامراء النيل - )           »          فارس الاميرة-شرقية زائرة لـلكاتبة المبدعة:منى لطفي*كاملة&روابط* (الكاتـب : منى لطفي - )           »          132 - كيف ينتهي الحلم - ليليان بيك - ع.ق (كتابة/كاملة)** (الكاتـب : engel - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > مـنـتـدى قـلــوب أحـــلام

Like Tree626Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 05-11-20, 02:47 PM   #3801

أميرة الحب

مشرفة وكاتبة في قلوب أحلام وكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء وعضوة في فريق الترجمة

alkap ~
 
الصورة الرمزية أميرة الحب

? العضوٌ??? » 53637
?  التسِجيلٌ » Oct 2008
? مشَارَ?اتْي » 14,442
?  مُ?إني » فرنسا ايطاليا
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Morocco
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » أميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   cola
¬» قناتك fox
?? ??? ~
https://www.facebook.com/الكاتبة-أميرة-الحب-princesse-de-lamour-305138130092638/
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي






الملخص الخارجي

























هو... متقلب مثل فصل ايلول... يملك وجهين... مزاجين... نكهتين.
قبله، كانت ملك نفسها...معه... فقدت السيطرة على حياتها...
هنيئا لأيلول بتقلباته و هنيئا لها بأوجاعه.





الملخص الداخلي

إذا أتى أيلول يا حبيبتي
أسأل عن عينيك كل غيمة
كأن حبي لك
مربوط بتوقيت المطر
هل شهر أيلول الذي يكتبني؟
أم أن من يكتبني هو المطر؟؟
نزار القباني















المقدمة


ارتفع صوت الأورغ عاليا مما أجبر الحضور في القاعة الشاسعة على الصمت و التطلع بفضول للعروس بفستانها الأبيض الطويل الذيل، ابتسمت له 'نتاليا' من خلال حجابها الشفاف، ابتسامة امرأة مغرمة، غارقة في الحب حتى أذنيها، أعاد لها اجناسيو ابتسامتها متنبني مظهر الشاب الفاقد الصبر لليرتبط أخيرا بحب حياته، اشبينه' الأعور' الهارب من العدالة منذ سبع سنوات يقيّم أقل تعابير وجهه و يسجلها بالعين السليمة المتبقية له، اكتظ أكبر تجار المخدرات في هذه الصالة المحاطة بأشرس الحراس، الكل ينوي تخليد هذه اللحظات الاستثانية، ارتباط 'ناتاليا خورخي' -أخطر امراة في أمريكا الوسطى- من وريث ميخائيل خيمينس... امبراطور الجرائم المنظمة في حق الكثير من اللجان المتعددة، و أي يوم سعيد هذا، بعد أشهر من الشد و الجذب، أن يتواجدا معا اليوم أمام رجل دين، ينوي تخليذ حبهما و مصالحهما الى الأبد.
انه يحفظ هذه الوجوه كما يحفظ خطوط يده، أباطرة السوق السوداء، هز رأسه محييا نحو رجل ضخم الجثة، مثقل بمجوهرات تحمل اسم منظمته' سيرجيو ذيل الأفعى' هذا لقبه لأنه يعرف جيدا كيفية التخفي، أعماله في الكوكايين، تماما مثل نتاليا، يسيطر المكسيكي على كل عصابات تشيكانو في جنوب كاليفورنيا، الكل مجبر على اتباع تعليماته و من يجرؤ عن الخروج عن طوع أوامر المافيا المكسيكية؟
تحالف اجناسيو مع الكولوميين يجعله في قائمة أفضل من يمكن التعامل معه، بإمكانه ابطاء أو اسراع التعاملات الخارجة عن القانون، هو من يقرر متى تتحرك البضاعة و يتم تفريقها عن الأباطرة، بهذا تمكن أيضا من السيطرة عن أعمال نتاليا... يمكنه أيضا غسل الأموال لعملائه.
هذا الزواج سيخمد الكثير من الحروب الباردة المعلنة، تنوي نتاليا حماية نفسها و حلفائها، وهو يريد شيء آخر... والدها.
فمتى يخرج الفأر من الجحر؟؟
عندما وصلت اليه نتاليا أبعد فورا عن وجهها الوشاح الشفاف ليتطلع الى وجنتيها المدورتين المكسوتين بلون أحمر، عينيها لامعتين، همست له كي لا يسمعها غيره:
" أحبك..."
" اليوم أكثر من أمس؟؟..." سألها غامزا اياها.
" و الغد أكثر من اليوم..." أجابته برقة.
منحها ذراعه كي يواجهان معا رجل الدين.
بعد أن أصبحا السيد و السيدة خيمينس انطلقا في استقبال ضيوفهما للاحتفال، هذا الهدوء و السلام يضعاه على أهبة الاستعداد أن ما انتظره منذ أشهر من العمل الشاق على وشك الحصول، مسح عينيه بأرجاء القصر الممتد الأطراف، الحرّاس منتشرون في كل مكان، لكن زوجته اختفت... حركة غير اعتيادية تلهب حواسه، آه... حاسته السادسة القوية لا تُخطئ مُطلقا.
ابتسم للعديد من الأباطرة و صافح الأيادي الممدودة ثم لمح ذيل فستانها يتسلل نحو المخازن، ضغط على ساعة يده و سوى ربطة عنقه.
" هيا نتاليا... قوديني اليه"
الحرّاس عند المخازن ليسوا ضمن فريقه الخاص، عندما اقترب من الأبواب الحديدية استوقفوه بأسلحتهم:
" هل هذه مزحة؟؟ أنا في بيتي..." تمتم بصوت جليدي:" افسحوا المكان لأني أعرف بأن زوجتي في الداخل"
لا أحد ينوي سماع أوامره، اذن فلم يخطئ الظن... انه حقا هنا... ضغط ثلاث مرات على ساعة يده، عليه التصرف فورا قبل أن يتمكن هذفه من الاختفاء، بخفته المعهودة التقط سلاحه و أشهر به في وجه الحارس.
" ابتعد عن هنا قبل أن افجر رأسك"
تم احاطته فورا بقية أفراد الحراسة، لم تكن المرة الأولى التي يجد نفسه وحيدا و في موقف مماثل، و لم تكن أيضا المرّة الأولى التي يعرف فيها كيفية الخروج منتصرا، لكنهم ينوون الهائه ريثما تنهي 'نتاليا' لقائها السري وهو لن يدع هذا يمر.
بخفة أحاط رقبة من تكهنه قائدهم ووضع سلاحه على صدغه، المفاجأة سمرت الجميع مكانه، أجبره على التقدم معه بداخل المخازن، كانت الأنوار الطفيفة تنير الممرّات، البضائع المتراكمة تسمح بمعبر ضيق، لمح زوجته بفستانها الأبيض أخيرا... و لمحه هو.
ترك قائد الحرّاس الذي اشار له هذا الأخير بالاختفاء، 'بيدرو خورخيه'... أخيرا.
" طريقة مثالية للتعرف على حماي..." تمتم اجناسيو وهو يقترب من العجوز المترهل الوجه:" متى تعود الجثت من القبور؟؟..."
رآى ملامح نتاليا تتحلل بقوة، وضعت نفسها بينه و بين والدها:
" كنت أنوي اخبارك بالأمر حبيبي... "
أبعدها من أمامه و كأنها لا شيء، في الحقيقة هي لا شيئ، استغلها كما يستغل غيرها دائما و أبدا... تكبد مشقة كل شيء من أجل هذا الرجل فقط... تقاعده اللذيذ.
" اذن فقد عدت من الجحيم لترى ابنتك الوحيدة في فستان الزفاف؟؟"
" لا يجب أن يعرف أحد بأنني حي إجناسيو... " قال 'بيدرو خورخيه'، وضع مفتاح صغير في راحة يده " كل شيئ في البنك المركزي لمدينة'موناكو' بفرنسا... هدية زفافكما... كانت لي شكوك نحوك، فلم يخبرنا ميخائيل يوما بأن له ابن... أنت من تحتاجه نتاليا عند اختفائي، اعرف بأنك ستهتم بالأعمال أفضل مني..."
شعر بوجودهم حتى قبل أن يُحذثوا حركة...انهم هنا... وهذا صحيح...ميخائيل خيمنيس لا أبناء له...خورخي لم يخطئ التقدير.
الضجة من حولهم جعلت العجوز يتأفف بذعر بينما نتاليا نظرت اليه بقلق:
" مالذي يحذث؟؟"
" لا أدري..." اجابها اجناسيو وهو يخرج مجددا سلاحه" ابقي مع والدك ..."
ثم ظهروا في المكان، مقنعيين مثل النينجا، بأسلحتهم المتطورة يشهرونها في وجوههم، وضع نفسه أمام 'بيدرو خورخيه لحمايته، لكن أحد القناص نجح بإصابته في الصدر ليزيحه عن الهذف، صراخ نتاليا مزق المكان، انحنت على زوجها المرتد أرضا، تضع يديها على مكان الاصابة، تحاول بدون جدوى ايقاف الدماء، دنى مقنع آخر ليضع كيس من قماش على رأس 'بيدرو خورخيه' صوت مروحية يمزق المكان، حطت الآلة على سقف المخازن، كل الحراس مطوقين، الزائرون الجدد من يسيطرون على المكان.
" قتلتم زوجي... قتلتم زوجي" صرخت نتاليا بينما ينحني أحدهم عليه ليجس نبضه الصامت، و يقل لها متهكما:.
" نحتاج جتثه لتأكيد نجاح المهمة سيدة خيمينس... مع تحيات الكوبيين"
اذن فأعدائها الكوبين من قتلوا زوجها و اختطفوا والدها؟؟
* * *
" تنفس بعمق خافيير..." صوت من بعيد يخترق الضباب الكثيف في عقله، بدأت تتوضح الرؤية ببطئ، لمح وجه ستيف الكلاسيكية الملامح فوقه مباشرة:" مرحبا بك مرة ثانية في عالم الأحياء ..."
وضع يده على صدره، رغم قيامه بهذا النوع من المهمات خلال سنوات عمره الطويلة الا أنه يهاب لحظة عدم تجاوب جسمه بإستعادة وعيه، لذا قرر أن تكون مهمه' بيدر خورخيه' آخر مهامه، كان ممدد على ظهره في المروحية التي تبتعد عن الحدود المكسيكية، الدماء تيبست قليلا على ملابسه، الكل مبتهج الملامح أمام نجاح المهمة.
" أين خورخيه؟؟"
" في طريقه الى واشنطن" أجاب رئيس الفرقة لويس:" انتهينا ... نتاليا أرملة رسميا... الجميع يبكي فقدان اجناسيو ميخائيل خيمينيس... هذه القصة وراء ظهرك و ظهورنا... ستأخد اجازة مستحقة في أجمل الجزر و مع اشهى النساء"
قهقه الجميع من حوله، ديانا أبعدت القناع عن وجهها، حطت عليه نظرات عسلية:
" أحسنت العمل أيها المكسيكي... اثنا عشر من الرؤوس يتم القبض عليها الأن... "حرره ستيف من سترته المضادة للرصاص، آثار العيارات النارية تركت بقع داكنة و مؤلمة على عضلات بطنه القاسية، ضغط عليها مكشرا." سيسعدني العمل معك في المهمة القادمة جيمس بوند" سمع ديانا تعلق متهكمة.
" لن يكون هناك مهمة قادمة ديانا... سأتقاعد... مللت ركوب المخاطر و أحلم بمزرعة خيول في جنوب التكساس لأعيش حياة طبيعية ..."
" مع امرأة تصنع لك القوة في الصباح و تمسح آثار الثراب على حذاء رعاة البقر؟؟" داعبته بسخرية لطيفة.
" يبدو لك الأمر مملا؟؟" سألها.
" أمممم... لا أنكر أنك تشبه لحد ما رعاة البقر... لكنني لا أراك متقاعدا أيها النسر... المنظمة بلا اي معنى بدونك"
الانتربول لم تكن من هذا الرأي، كيف اعتقد بأنه سينجح بالتحرر بهذه البساطة بينما يمثل أفضل عناصرها على الاطلاق؟؟ اينما تسلل خافيير يأتي بالغنائم، لكن موت صديقته السنة الماضية في أفغانستان جعلته يعيد تقييم الموضوع...تم اغتصابها جماعيا حتى الموت.
" مهمة أخيرة؟؟"
المشرف العام و المسؤول عن الأمانة العامة للإنتربول يرى في تقاعده شيئ لا يقبل حتى نقاشه، انه الأفضل، حتى اللجنة تنفيذية تملك له مشاريع أخرى لا ترى غيره ليشرف عليها، القادة على المستويين الشرطي والسياسي لا ينويان تركه و شأنه، رئيسه كان سعيد بإنجازاته التي القاها في اجتماع امام الجمعية العامة للأمم المتحدة، و لا ينوي التخلي عمن يحول كل مهمة اثارة لا مثيل لها.
" آخر مهامك ... ايطاليا..."
تشنج بحدة أمام كلام رئيسه، الأعضاء المهمة للمنظمة يتطلعون اليه بإصرار.
" ايطاليا خارج نطاق الاختيارات... لا يمكنني..." تمتم خافيير.
" تريد تقاعدك؟؟" زمجر رئيسه:" ستحصل عليه بعد أن نتمكن من محاصرة هذا الرجل..."
ضغط على آله التحكم من بعد لتظهر صورة مكبرة على الشاشة لرجل بنظارة شمسية، شعر خافيير بالدم يتجمد في عروقه، هل يحلم أم أنه 'روكو ايميليانو'؟؟صديق توأمه؟؟
" انه متورط سياسيا حتى النخاع، بالاظافة يملك ما يهمنا من مصادر يستعملها لسلسلة استفزازات، يطيح سياسيا من يضعه نصب عينيه، يانيس ايميليانو -والده- تسبب بسلسلة مجازر في حق قضاة نووا اعطاء الاحكام النهائية لعناصر نشطة في المافيا...عناصر تعمل لمصلحته"
زم شفتيه، لا يعرف بأي طريقه يمكنه شرح موقفه، 'ريتشارد آدمون' قرر الكلام أخيرا، انه اليد اليمنى لمشرف المنظمة:
" نعرف كل شيء عن اليخاندرو... توأمك... لهذا نجد أنه من الأسهل عليك التسلل في حميمية أصدقائه دون اثارة الشبهات"
لا يصدمه هذا التصريح، انهم يلتقطون كل المعلومات ... يعرفون بأن نقطة ضعفه الوحيدة هي اليخاندرو.
" لا يمكنني الموافقة..." ردد ببرود:" اليخاندرو يعرف بأنني قرصان و لص محترف ولا يرغب باي علاقة معي..."
" قرصان تائب سيهم بالتأكيد روكو ايميليانو..." أكد رئيسه بجبين مقطب " أعدك ان تكون آخر مهامك خافيير... ستحصل على تقاعدك بمباركة الأنتربول و المنظمة العالمية بأسرها... "

الفصل الأول

{ عزيزي خوسيه.....
مرت ثلاث أسابيع على زواجنا، بدأت العوارض الأولى للحمل بالظهور، عندما أستلقي على ظهري يمكنني تحسس الاستدارة الصغيرة في أسفل بطني، أرى جسدي بصدد التغير...
ثلاث أسابيع و لم أراك سوى مرتين... ذلك المساء خلال العشاء الجو كان متوثر لدرجة أنني فضلت الانسحاب..
المرة الثانية رأيتك فلم تلمحني... كان هاتفك ملتصق بأذنك... و كنت تبتسم كما لا تفعل عادة، سمعتك تكلمها، حبيبتك الصهباء... أخبرتها بأنك متحمس لسفركما... سؤال يحيرني، لما أنا و ليس هي؟
بدأت أتعود هذا الغياب فلا تقلق... مع القليل من الوقت و التمرين سأنسى وجودك تماما في حياتي كما نسيتني أنت...
عزيزي خوسيه...
أعدك الا تكسر روحي يوما...}
................................................

... لما تشعر بأنها تطفو؟؟ وهذه الرواقات المظلمة و الكثيرة التي تركض فيها بلا نهاية؟ ثم هناك أصوات... أصوات تعرفها، ترى و لا تميزها، عاجزة تماما عن رؤية الوجوه، وحدها محبوسة في هذا المكان الذي لا يملك مخرج، تدور و تدور بلا أي هذف... يمكنها السمع... الشعور... الاحساس دون القدرة على الرّد... كلا... هي ترد نعم ترد... فتسمع فحسب صوتها و الاخرين لا يسرعون بالبحث عنها كما تبحث عنهم...
اخترقت الضوضاء الغريبة صوت لا تعرفه يأمر ببعض الحدّة كي يسرعوا... يقول بأنهم بصدد فقدانها؟؟ عمن يتكلم الجميع؟؟... لما لا يمكنها رؤيتهم؟؟ ثم... أين داركو؟؟ لما ليس بجانبها؟ { هنا أيتها الجميلة...} استدارت لتجده خلفها....
الظلمة اختفت و حلّ محلها منظر فردوسي، هذه البانوراما تعرفها جيدا... الجزيرة التي أمضيا فيها شهر عسلهما... ' قلب المحيط'هدية زواجهما.
{ داركو...}
ابتسمت ملئ فمها، الراحة غمرتها، سعيدة بوجوده بجانبها، اقتربت منه و قفزت على عنقه و التقطها في السماء، كما يفعل عادة .
{ داركو... amore mio}
ثم رددت اسمه مرة، مرتين ثلاثة و كأنها تستنجذ به كي يؤكد لها بأنها لا تحلم، بأنهما معا مجددا في تلك الجزيرة التي شهدت لياليهما الساخنة، لكن ...شيء غريب يحذث...
{ افتحي عينيك...} تخلل صوته المترجي الضباب الذي بدأ يعود ليحملها مجددا الى فوق... فوق... بعيدا عنه... بكل جهذها حاولت الثبات مكانها، نظراتها مثبتة عليه بشكل مستمر، لا تستطع السماح له بالخروج من مجال رؤيتها، تمسكت بأصابعه كي تتغلب على القوة الساحقة التي تجرها الى الظلمة مجددا، لاشيء سيفرقها عنه... لا شيء سيفرقها عنه...لا شيء سيفرقها عنه.
{ لا تتركيني...}
{ أخرجني من هنا} توسلت اليه بينما تشعر بأصابعه تبدأ بالتلاشي رويدا { أخاف من الظلمة}.
سلبتها قوة ساحقة نحو القعر المظلم الذي وجدت نفسها فيه قبل لحظة... أصبحت بمفردها مجددا... داركو ليس هنا.
*
*
*
كانت عينا الكونت أندريس متفجرتي دما و منتفختين بشدة، لا يتذكر الوقت الذي أمضاه متصلبا في مكانه، منذ ما حصل مع فلورانس يتجاهل النظر الى 'داركو'، أو حتى الخروج من القوقعة التي دخلها، الوقت يمضي بسرعة، بمهل... و ابنته ما تزال في غرفة العمليات، لم تكن وحدها الضحية، رصاصة اخترقت ذراع رئيس الحرس 'فرانكو'... لو لم يدفع بالزوجين أرضا لتمكن المهاجمون من قتل أحدهما... انه يدين له بحياة ابنته...مضي تسع سنوات و نصف على موت اليسيا، و يجد نفسه مجددا في نفس الموقف المريب، في هذا الرواق بإنتظار أخبار جيدة...نعم اخبار جيدة، لأنه يرفض قطعا أن يفقد إبنة أخرى.
{ مرحبا أيها الكونت أندريس... لن تبدأ بالعظاظ لأنني أخرج مع اليكس؟؟}
كانت عيناها الخضراوين تلمعان ببعض القلق، اليسيا الذكية تختار ابن عدوه رغم كل التوثر الذي يخيم علاقة العائلتين.
في ذلك الوقت، لم يعر أهمية لحب المراهقين، كان يعرف بأن ادواردو سينهي هذه العلاقة حتى قبل أن تذهب بعيدا و تتطور.
شعوره بالذنب المستمر من ادواردو كان أقوى من أن يتخذ أي موقف، حينها حلمه الوحيد أن يستعيد صديق عمره و ينسيان معا أمر ايمانويلا.
{ لا أحب طريقة سياقته... } كان قد لاحظ حينها...
{ يكون حذرا جدا عندما أكون معه...} و دنت منه لتطبع قبلة على وجنته { شكرا لأنك لا تعترض حبنا أبي...}
لم تسنح الفرصة لادواردو بأن يكتشف ما يخفيه المراهقين عليه... ماتت طفلته بينما و عاش ابنه هو... اليسيا أخدت معه نصف روحه... و ان حذث شيئ لفلورانس... فليس نصفه الثاني ما ستأخده... بل هو برمته.
أدلف أصابعه بين خصلات شعره مسحوقا مجدد تحت ألم الذكريات المريرة، ربما السنوات خففت من آلام فراق ابنته الصغيرة، لكنها لم تمحيها... لا يمر يوم دون أن يتذكر ابتسامتها و عناقاتها الامنتهية، ماتزال غرفتها تماما كما تركتها، كتبها على المكتب، فستانيها ما تزال تحمل رائحتها، أحذيتها أيضا مطبوعة ببصمتها... و كم افتقدها و يفتقدها، فقد وجدها في فلوانس، يملكان نفس النظرات، اليسيا أكثر احتشام من شقيقتها الكبرى، خجولة أحيانا و تملك عبقرية جوشوا، كانت عكس اليكس، الاذكى في صفها و الاولى ايضا، وهذا الأخير -الشاب المستهتر- الذي يحب فحسب صرف نقود والديه و التباهي، ربما تغير كثيرا بسبب فقدان اليسيا و بقائه مقعدا لسنوات... و ربما أحبها بصدق... تردده على قبرها كلما نزل في لندن يعزيه... توقف عن ذرف الدموع في زياراته المتكررة، ربما ' بيلا' خففت من مصيبة هذا الفقدان في النهاية، كما خفف دخول فلورانس من مصيبته الشخصية...
ثم يعود القدر ليلعب الشطرنج معه... لعبة حقيرة و غير عادلة، فهل سيسلبه ابنته الثانية؟؟ هل سينتصر عليه مرة أخرى؟
" حبيبي..." لامست فرجينيا كتفه لتثير انتباهه.
رأسه بثقل عمارة حديدية و يصعب عليه تحريكه للنظر الى زوجته..كان وجهها شاحبا و شفاهها متيبسة، شعر بالذنب لأنه ليس صلبا كفاية ليساندها، انها حامل... و فلورانس ابنتها أيضا ... لكنه عاجز بحق الجحيم... عيش نفس موقف اليسيا فوق طاقة تحمله " الطبيب هنا...".
كما أخبرته.... الطبيب كان يتوجه نحوهم بملابسه المعقمة، شعر بالدم يتجمد في شرايينه بينما يعود مجددا بسنوات الى الوراء...
{ فعلنا ما استطعنا لأنقاذ اليسيا... أعضائها استسلمت تذريجيا... الرئتين، الكلى، المخ...}
وضع يده على جهة قلبه، ذبحة صدرية أخرى؟؟ الألم يزداد حدة... ان كانت بوادرها حقا فيفضل الموت على سماع الطبيب يكرر ما سبق و قاله غيره بشأن طفلته الصغيرة.
ترآى له داركو يهمل هاتفه الذي ابقاه ملتصق بأذنه طيلة الوقت و يقترب من الطبيب بدوره، كم يرغب بوضع الملامة عليه و افراغ هذا الغضب في صدره، لكنه لن يكون تصرف عادل، يرى دم طفلته مايزال عالق بملابسه رغم قتامتها، اثارها ماتزال عالقة ايضا في عنقه ووجهه.. طفلته التي هي زوجته لسوء حظه... و الذي تحبه من قلبها رغم كل مجونه.
" كيف هي؟؟؟ كيف حال زوجتي؟؟"
انطلق برش الطبيب بالاسئلة الامتهية، كان في حال مثير للشفقة... هل هو الشعور بالذنب؟؟ لقد اساء اليها لدرجة تحته على التدخل و انهائه زواجهما فورا .
" انها بخير..." قال الطبيب وهو يضع يده على ذراع داركو في محاولة لتهدئته:"كل مؤشراتها ايجابية و جيدة...تخطت الخطر"
رآى كل سيطرة عن نفسه تهجره، فرجينيا لمحت الشيء نفسه، تركها تندفع نحوه لتأخده بين ذراعيها، جبل الثلج انهار أخيرا، انقسم نصفين و ضمها اليه و كأنها مرساه الامنة، رغم الراحة التي غمرته شخصيا الا أن يريد معرفة التفاصيل:
" كيف هو الوضع؟؟"
" الرصاصة اخترقت الكفة المدورة و نجحنا بترميم مجموعة العضلات والأوتار التي تحيط بمفصل الكتف رد فعل حارسها أنقدها من موت محتم اذ ان الرصاصة دخلت من الكفة المدورة لتخرج قريبا من الرئة، و فقدت الكثير من الدم و الاوكسجين لم يكن يصل بالشكل المطلوب لأعضائها، دخلت غيبوبة... "
" كيف هذا دخلت غيبوبة؟؟" تدخل داركو وهو يبتعد عن حضن فرجينيا" قلت لنا بأنها بخير... "
"لم تلمس الرصاصة أي شيء حيوي ، لكنها فقدت الكثير من الدم و وقعت في صدمة بعد الجراحة لم تستيقظ، بالرغم من اننا لا نجد سببا حقيقيا لدخولها غيبوبة اذا ن كل مؤشراتها جيدة... قد يستمر الامر يوم او يومين...كانت تردد اسمك كل الوقت و هذا يطمئننا... ربما هناك سبب اخر لعدم رغبتها باستعادة وعيها "
القى الكونت نظرة قاتلة الى زوج ابنته قبل ان يقول بصوت جليدي:
" هناك الكثير من الاسباب التي تفوق حدة الرصاصة التي تلقتها... "
" أندريس أرجوك" تدخلت فرجينيا متوسلة " ليس الوقت المناسب"
" أخطئت التقدير داركو... فأنت لست اهلا للثقة و لا لكل هذا الولاء الذي تكنه لك... " تابع متجاهلا تدخل زوجته " انت لا تستحق امرأة مثلها..."
بدى الإحراج على الطبيب الذي اخد يتطلع لهما ببعض الانزعاج غير مدرك للطريقة التي عليه استعمالها لتهدئة الوضع... لم يرد على استفزازته داركو.
" فقدت ابنتي الصغرى قبل تسعة سنوات و لن افقد الابنة المتبقية لي بسبب فاجر مثلك... سأخدها منك ما ان تستعيد عافيتها... "
" أندريس" علا صوت فرجينيا الذي كان هذه المرة يهتز غضبا " انظر الي..."
أمسكت بوجهه لتجبره على مواجهتها " الكل قلق على فلورانس نعم... لكن هذا لا يمنحك الحق بمهاجمته هل هذا مفهوم؟؟؟"
" ليس القلق ما يدفعني لقول ما يحرق لساني... كدت أفقدها بسبب انانيته... لم يعي يوما لقيمة ما بين يديه"
" أيها الكونت نملك فريقا من الأطباء النفسيون إذا كنت..."
قاطع الطبيب وهو يعدمه بنظراته:
" اذهب الى الجحيم مع اطبائك النفسيون... تنحى من أمامي"
في الممر، بينما يترك فرجينيا خلفه تحاول شراء غفران الكل، ترك دموع الراحة تغمر عينيه... شكرا يا الله... لم تمت إبنته.
*
*
*
"صباح الخير حماتي"
"صباح الخير يا طفلتي... لكن...هل أنت خارجة؟؟"
ابتسمت 'آيا' لحماتها، تحسد هذه الاخيرة على نشاطها الدائم رغم سنين عمرها المتقدمة، ثم ان أناقتها لاخطأ فيها حتى في هذا الوقت المبكر، هذه الأخيرة كانت تشع في طاقم كريمي انيق، مجوهراتها الثمينة تحيط عنقها و تلمع على صدرها و معصميها،رائحة الشاي المعطر بالياسمين تطير في الهواء، و بالرغم من إمضائها الايام الأخيرة في هذا المكان الخرافي الا انها بالكاد تتأقلم مع حياتها المؤقتة الجديدة و مع هالة هذه المرأة الصادمة...
حياتها المؤقتة الجديدة... رباه...فلتكن صريحة مع نفسها... تفضل العودة الى الحياة الطبيعية و رؤية أناس طبيعيون... وقت فراغها الكبير يكاد يدفعها للجنون.
رأت حماتها تقطب فجأة، لابد أن هندامها البسيط الذي لا يمث لحياتها الراقية بصلة مما يجعل تقطيبة حماتها العتيدة أعمق.
كانت مرتاحة في جينزها القديم و بلوزتها الكحلية و حدائها القماشي، شعرها مصفف على هيئة ذيل حصان ووجها خالي من التجميل- ماعدا الكريم الواقي للشمس-... بالكاد تتحمل حر اسبانيا.
" بهذه الملابس؟؟"
" ما بها ملابسي دونيا سيسيليا؟؟" سألتها آيا بخفة.
مكان سيسيليا المفضل هو هذا الصالون الممتد في الهواء الطلق على بركة طبيعية بها ما تتعجب له العين من جمال، المرة الاولى التي ترى فيها طائر الطاووس بعين مجرّدة ففي هذا المكان الخلاب، حتى أنه في هذه اللحظة ينفش ريشه الملون و يدور... غريب...كم يذكرها بشخص خوسيه المغرور بهذه الغطرسة المبالغ فيها...
" ملابس لا تليق بسيدة مجتمع راقي...." تمتمت سيسليا بصوت جاف.
وهي التي أمضت أيامها الأخيرة في تعلميها كل أسس هذا 'المجتمع الراقي'، أصبحت تملك رسميا مساعدة خاصة، كوافيرة 'coach' و طباخ خاص يقدم لها كل ما يمكن أن يفيذ حملها.
" لستُ سيدة المجتمع الراقي 'دونيا سيسيليا'..." صححت لها بلطف.
لا تريد أن تكون ناكرة جميل، بينما المرأة تكبدت مشقة تحويلها من ساندريلا الى الاميرة التي يسقط خيار الأمير عليها لرقصة ما قبل منتصف الليل و التي ستغير حياتها للأبد.
" ما إن أنجب وريثي المارتينيز حتى أخرج من حياتكم...لذا... أفضل الاحتفاظ بهويتي..." أخدت مكانها مقابلا لها و التقطت كأس عصير البرتقال الذي صبته لها الخادمة من إبريق فضي" سأكون زوجة ابنك الأنيقة عندما تحتمها الظروف ... أما الان فأريد الالتحاق بالجامعة للاتمام التسجيل الذي قمت به قبل أسابيع..." كان مظهر حماتها مسلي بينما تفغر فاهها فوق فنجان البورسلان الذي يحوي شايها المفضل، تنظر اليها من فوق حافته و كأنها أمام مجنون: " هل يمكنني استعمال سيارة؟؟ ... أو الاتصال بسيارة أجرة؟؟"
أخدت حماتها بضع ثوان لتبلع المفاجئة قبل أن تضع فنجانها بتأن على الطاولة المكسوة بشراشف نفيسة و آنية أتت رأسا من الماضي، كل شيء يتنفس الرقي في هذه المرأة، تتخيل ما كانت عليه في عمرها.
" هل يعرف إبني بهذا؟" سألتها وهي تفرك يديها ببعضها.
" إبنك وقّع على {هذا} 'دونيا سيسيليا'؛ فعندما سيتخلص مني و كأنني لا اصلح لشيء أكون على الأقل حققت حلمي باتمام دراستي و الحصول على الدكتوراه"
شيئ ما تغير في الجو، لم تكن ملامح حماتها التي لا تبلع ردها الهادء، التفتت نحو الأقواس الرائعة النقوش التي تمثل مدخل البناية و لمحته، شعرت بالدم يتجمد في عروقها، انه خوسيه...لكن...متى عاد؟!
انها السابعة و النصف، لا تريد ان يفسد مزاجها المرح شيئ لسيما رؤية هذا الرجل الذي يتوجه رأسا نحوهما، لم تخبرها أمس سيسليا خلال وجبة العشاء بأنه سيعود من أسفاره!... كما أنها... كما انها تتعمد تحاشيه بكل الطرق الممكنة...
أغمضت عينيها لتملئ رئتيها بالهواء، عندما عادت لتفتحهما مقلتي حماتها تتفحصانها بهدوء، لابد أنها فقهت لمحنتها و نضالها بعدم رمي طعام فطورها خارجا.
بذلت جهذا خارقا لإخماد رغبتها في الهرب، هزت عينيها نحوه، فلم يعد ممكنا تجاهل هذا اللقاء:
" صباح الخير أماه..."بدوره لا يبدو مهتما حتى بوجودها.
أقسمت عدة مرات الا تتأثر بمعاملته الجليدية...لكن و رغما عنها الالم يسحق قلبها لإهماله.
رأته ينحني ليقبل رأس والدته كإبن بار، راحت في تأملاتها الصامتة، مثل المعتاد... كامل كمال من يتم عرضهم في الصحف الاقتصادية و الأعمال.
" آيا..." هز رأسه نحوها في تحية مختصرة و كأنها بلا أهمية قبل أن يأخد مكانه على طاولة الفطور، تعترف أنها متناقضة تماما مع هذا الزوج الأنيق على طاولة بديعة وسط بانوراما استثنائية.
" هل لديك أخبار من أمريكا؟؟" سمعت حماتها تقول بينما تغيرت رنّتها " كيف حال الأميرة؟؟"
اختنقت آيا في أنفاسها بينما تملئ لنفسها كأس كوب آخر من عصير البرتقال، مواضيع هؤلاء الناس مختلفة تماما عما تتناوله مع أهلها، انهم يًصادقون الأمراء و كل من له علاقة بالسلطة، بللت شفاهها في العصير الطازج، نظراتها على خوسيه، عيناه هو فارغتين... متحجرتين.
"ما تزال في غيبوبة... "
" لا بد أن الأمير بحاجة للدعم..."
" عائلته برمتها طارت الى لوس انجلس بمن فيهم اليخاندرو" ثم هز اخيرا نظراته العسلية نحوها، النظرة انسابت عليها بنعومة خبيثة، هذا الرجل هو السوء بعينه، اسم اليخاندرو يدفعه تلقائيا بالالتقاء بعينيها لجس نبضها على الدوام، يظن بأنها ما تزال مغرمة به؟ في الحقيقة... مشاعرها لن تختفي بهذه السهولة، انها تشفى من حبها للمكسيكي... " مع حبيبته .."
السافل...
تحاشت قذف وجهه بعصيرها البرتقالي و افساد تسريحته الجميلة و بذلته النفيسة، بلعت السائل اللذيذ دون ان تتذوق مذاقه الطيب، أطلت السخرية من عينيه ثم عاد ليتحاشاها و يهتم بوالدته، هذه الاخيرة تقذفه بوابل من الاسئلة عن عائلة الأميرة...
قرأت في الجرائد عن الحاذثة، تبادل نيران في حي راقي بسانتا مونيكا، الكل متعاطف مع ابنة المغنية الشهيرة فرجينيا ديكاتريس، الكل يقول أن الحاذثة كانت مقصودة، بأنه تسوية حساب... و البعض يقول بأنها محاولة سرقة أخدت منحنى آخر.
" سوف أسافر غدا مع روكو..." قال خوسيه يجيب والدته على سؤال ربما طرحته عليه لكنها كانت غارقة في أفكارها لدرجة أنها لم تسمعه.
" لما لا تأخد زوجتك معك..." أقطبت آيا و نظرت الى حماتها و كأنها فقدت عقلها، هي تسافر مع خوسيه؟؟ مستحيل... ترفض قطعا اي تواصل معه، كما أن هناك الأخرى... ما اسمها؟؟
" الراحة التامة في وضعها مهمة جدا..." تمتم بلا تعبير.
"لا انوي اقتحام خصوصياتك " سمعت نفسها تقول بنفس اللهجة المتعالية التي استعملها" و لا التعامل مع محيطك لأن لوجودي نهاية صلاحية و افضل الاحتفاظ بخصوصياتي..."
" سيكون أفضل" رد خوسيه و هو يبتلع قهوته بهدوء" ان تعرفي حدودك".
بلعت هذا الرد الجارح، منذ البداية و الأمور واضحة بينهما، هو استأجر رحمها رغما عن أنفها، و بينما يصل لهذفه يعيش حياته التي آلفها... حياة العازب الماجنة.
وقفت من مكانها، أتممت فطورها و من الأفضل لها أن ترحل من هذا المكان.
" أحتاج لسيارة"
" سيرافقك السائق..." اجاب خوسيه بهدوء.
" وعدتني بسيارة ..." صفرّت من بين أسنانها.
مسح أصابعه الطويلة في محرمة أنيقة، رأت في الموقف أب صبور يستعد لتعليم الادب لطفلته المتمردة:
" ستحصلين على واحدة عندما تتعرفين أكثر على مدريد و تتعايشين مع المنطقة... أرفض تعريض حملك للخطر..."
في كلامه الكثير من المنطقية، خرجت قليلا مؤخرا مع مساعدتها، فالمدينة شاسعة و مختلفة عما عهدته، لكن طريقته في محاورتها ما يُخرج مخالبها، يهتم فحسب لحملها و لا ينسى فرصة ليذكرها بهذا... ان لوت عنقها شخصيا فلا بأس بالأمر.
أشار للخادمة التي دنت منه في لمح البصر:" أطلبي 'خيسوس'..."
بان بعض التردد على وجه هذه الأخيرة قبل أن تستجيب، خيسوس سائق العائلة، رجل في الستين من عمره بملامح صارمة و لا يتكلم الا عند الحاجة، تعرف بأنه كان سائق والد خوسيه و يسكن مع عائلته في الاقامة الخاصة بالموظفين التابعة للقصر منذ انتقاله للعمل لديهم اي منذ شبابه.
" الدراسة قد ترهقك و تؤثر على حملك..." تدخلت العجوز لجلب انتباه ابنها بلا أدنى شك، وهي لم تترك فرصة لخوسيه بالرد:
" مع كل احترامي 'دونيا سيسيليا'... والدتي تنظف بيوت الناس و هذا كان عملها منذ أن تزوجت أبي... أعرف بأنها عملت و هي حامل بي الى أن فصلها عن تاريخ الانجاب أسبوعين... الدراسة ما سيساعدني لتحمل حياتي الراهنة و معها ابنك لحين موعد الانجاب لدى لا تضيعي نفسك بثني عن عزمي..."
لا يهمها عرض حياتها البسيطة أمام الخدم، تعرف بأن عيونهم عليها، خوسيه لم يطلب منها أي سرية في وجود أي أحد في هذا البيت الشاسع، هو أيضا لا يتصرف بسرية، الكل يعرف بأن زواجهما أبيض، أن ما يبقيها هنا هو حملها... بأنه يمضي جل لياليه في سرير عشيقته.
لم يعلق أحد منهما على كلامها، رأت الاسباني يهتم بهاتفه الذي رن قاطعا الصمت المتوثر، لم يرد... اكتفى بقطع الاتصال و كتابة رسالة، احساسها لا يخونها عادة و تعرف بأنها هي... عشيقته السرية.. هل هي من سيأخدها معه الى أمريكا؟!.
أخدت نفسا عميقا لتبعد الاحساس المزعج الذي يوجع صدرها، لقد أقسمت الا يؤثر في حياتها، أقسمت أن تتحصن منه لأنه لا يلائمها... سيبقى فحسب أب طفليها، حياته العاطفية لا تهمها.
لم تعد الخادمة برفقة السائق بل شاب في العشرينات، سبق و لمحته مرتين ثلاثة في الأرجاء، و المرة الوحيدة التي تقاسم معها كلمتين كان ذلك في المكتبة، أتى ليستعير بضع كتب...عرفت بأنه في سنته الأخيرة في 'policía Científica'.
كارلوس يملك نظرات زرقاء مبهرة متناقضة مع لون بشرته البرونزية، ابتسمت لها عيناه ما ان رآها و القى التحية على خوسيه بطريقة أنمت بأن علاقتهما أقوى من مجرد موظف و رئيسه:
" أين هو والدك؟؟" لا يبدو أن خوسيه سعيد برؤيته.
" معه مغص منذ أمس و أنا من يحل محله 'سينيور خوسيه'..."
كتفت آيا ذراعيها فوق صدرها منتظرة ردة فعل خوسيه أمام هذا الواقع الذي لا يعجبه مطلقا، هو الذي ينوي تركها بعيدة عن كل رجل و حبسها في هذا المكان.
التقط زوجها تسليتها فورا، رأته يقطب جبينه قبل أن يلقي بالمحرمة على صحنه الفارغ و يترك مقعده:
" سأوصلك في طريقي ... اهتم بدروسك كارلوس فأنت في سنتك الاخيرة، سأجد من يأخد مكان والدك ريثما يستعيد عافيته"
انسحبت تسليتها بينما تستوعب موقفها الراهن، هي و خوسه في مكان منغلق؟ اه كلا...تفضل الموت.... الخوف حل محل شجاعتها التي واجهته بها منذ سقوط عينيها عليه، كيف يمكنها الهرب من هذه المصيبة؟...
" لا تربك خططك من أجلي" تمتمت بصوت منخفظ
اقترب منها ليتطلع الى عينيها:
"اربكتها منذ زمن... فلنمضي..."
هذه اللهجة المتعالية التي يستعملها مرارا تخرج مخالبها، هي ليست خادمته، انها المرأة التي تزوجها و تحمل وريثيه، تذكرت تلك الابتسامة الناعمة على وجهه بينما يتكلم في الهاتف مع حبيبته... الوجه الأخر يخص الاخرى بينما يعري على المقيت لها فقط.تملكتها موجة من الغثيان:
" كلا..."
هز جاجبه متسائلا... لا يبدو أنه توقع هذه الاجابة.
" عفوا؟؟؟"
" غيرت رأئي... لن أذهب للجامعة اليوم... "
بقيا يحملقا لبعضهما لوهلة، يقيمها بعينيه الشديدتي ذهاءا، مكتث في مكانها، صلبة و مسيطرة بينما الرعب يتآكلها داخليا ،كادت ان تتنهذ بإرتياح عندما قرر الاسباني الابتعاد أخيرا بنظراته الذهبية... لا يبدو سعيدا بعنادها، لكنه لا ينوي مناقشتها أيضا.
" كما ترغبين"
دون الانتظار أكثر أمامه فضلت مغادرة المكان بجوه المشحون و الالتجاء الى غرفتها .
***
" اهتمي بنفسك 'كارا' "
قبّل اليساندرو رأس دانيلا طويلا قبل أن يحررها أخيرا فيما النداء الأخير لرحلتها يعلوا في مسامعهما، كانت تبدو شاحبة، لكنهما توصلا الى اتفاق، لن يقطعا ما بينهما و سيعملان على الا يدوم فراقهما طويلا... رغم كل أعذار خوسيه الا أن لاشيء أقنعه برغبته الغريبة في اعادتها الى مدريد.
أدخل يديه في جيوب بنطاله و هو يراها تبتعد نحو مسلك الـ V.I.P تملكته رغبة شديدة بهجران كل شيء و اللحاق بها، الحياة تعد بالكآبة و البرود بعيدا عنها، رآها تمنح جواز سفرها للجمركي وتعود لتلقي بنظرة اتجاهه، هز يده مشيرا لها فأجابته بإبتسامة حزينة و رمت له بقبلة في الهواء قبل أن تختفي هذه المرة.
رحلت...
و مجددا يجد نفسه بمفرده...
نفس الإحساس المريع الذي تملكه بينما تخرج جينفر من حياته...جينفر... يستغرب قوة الزمن على الشفاء... فهل هذا بالضبط ما سيحذث معه بشأن دانيلا؟ المسافة ستخفف من هذا الشغف الذي غلف علاقتهما مؤخرا؟؟
ظل رجل اثار انتباهه، كان يتكئ على عصاه، من لا يعرف دافيد ريتشي في هذه القارة الشاسعة؟ منقذ شقيقته الصغيرة صوفي؟
" دافيد؟"
هز هذا الاخير نحوه عينان زرقاوين شفافتين، غرته الشديدة السواد ترتطم بجبينه، رآه يقطب قليلا قبل أن تسترخي ملامح وجهه الجذابة.
" اليساندرو ايميليانو؟"
شد على قبضته ببعض الحرارة، رآه يبعد خصلاته الكثيفة بعيدا عن وجهه ببعض العصبية، بعد اشهر قليلة من الحاذثة التي تعرض لها و صوفي يحين دور شقيقته فلورانس.
" قرأت ما حذث لشقيقتك... انا آسف"
" لطف منك اليساندرو... انتظر انتهاء الاجراءات لاطير الى لوس انجلس... هناك عطب ثقني في طائرتي لسيما و قد عدت رأسا من اروبا"
" الحذر واجب... هل ترغب بأن نحتسي شرابا بإنتظار حصولك على تصريح الطيران؟"
بعد قليل كانا يحتسيان القهوة في صالة V.I.P يراقب طائرة دانيلا بصدد الاقلاع، ان كان يملك ايمان في نفسه فهو واثق أن طرف منه يطير مع السمراء الجميلة التي أتى على تمضية أجمل أيام حياته معها مؤخرا، ليبعد نفسه التعاسة التي تتربص به أعاد اهتمامه للرجل الجالس أمامه.
" لم نرى بعضنها منذ تلك الحاذثة... أرى بأنك لم تتخلص من عكازك..."
" خضعت لعملية أخرى اد أن الكسر جبر بطريقة معوجة... بنظر الطبيب أهملت التعليمات... اعادة التأهيل مريب حقا... لابد أن صوفي تعاني... كيف حالها؟؟"
هذا أقل ما يمكنه قوله، صوفي تقود سابرينا للجنون... أخبرته والدته بأن هذه الأخيرة تمر بأزمة نفسية مريعة.
" لم يبدأو بالعمل الجاد معها بالنسبة للتأهيل الجسماني فهي ما تزال هشة جدا، تمت عملية زرع الكبد بنجاح و هي تتجاوب مع العلاج... لكن جراحها النفسية أعمق"
" انها فتاة مليئة بالنشاط و الحيوية و سيكون صعبا عليها البقاء بلا حراك... رأيتها في زفاف شقيقتي و... داركو فالكوني"
aie... اسم الأمير في فم دافيد بارد كالجليد، يعرف بشأن نزوة جمعت هذا الوسيم صاحب السمعة السيئة جدا بالأميرة الصغيرة، لا يبدو أن الأمور تحسنت بين الرجلين ولا بين الحبيبن السابقين.
" أتمنى من قلبي أن تشفى قريبا و تعود ديارها و أهلها... ان رأيتها بلغها تحياتي..."
هز اليساندرو رأسه بالموافقة.
" لن اشكرك كفاية لإنقاذك حياتها... بالرغم من كسورك ووضعك المريب حينها لم تتردد بالمخاطرة..."
ابتسم دافيد للمرة الأولى، ابتسامة ميكانيكية و بلا اي دفئ.
" لو كنت مكاني لفعلت الشيء نفسه... "
" كان تصرفا بطوليا..."
" الحاذثة عززت فحسب رغبتي في توثيق القطيعة بأرض جذوري... لن أعود مرة أخرى لصقلية... أكره ذلك البلد... الكثير من الذكريات السيئة..."
قد يتفهمه و قد يجد رأئيه قاسيا لجذوره، فدافيد من اب ايطالي صقلي و أم انجليزية برازيلية، لكنه نفسه كره صقلية لسنوات بفضل قسوة روكو و حزمه، فليس في وضع يسمح له بالحكم على أحد.
تقدم فجأة منهما رجل بلباس رسمي، لابد أنه طيّار دافيد:
" حصلنا على التصريح سيدي... سنقلع بعد قليل..."
" رائع..." تمتم دافيد بلكنة سوداء وهو يقف في مكانه.
يتكهن هذا المزاج السيئ، كان في نفس الوضع النفسي قبل أشهر بسبب حاذثة صوفي، تأمل الرجل وهو يقف بدوره، ربما مجالات عمل دافيد بعيدة عن تخصص سكاي، الا أن الشاب أثبت نفسه بشدة في السنوات الأخيرة و تضاعفت ثروته الخاصة ثلاث مرات في سوق الأسهم، دافيد طموح بشكل يستدعي الاحترام.
" اتمنى الشفاء العاجل لشقيقتك... و رحلة موفقة للوس أنجلس"
حط عليه دافيد نظراته الزرقاء الشفافة:
" شكرا لك اليساندرو... اتمنى ان نلتقي في المرة القادمة بعيدا عن هذه الصدف الغريبة التي تجمعنا في كل مرة..."
ثم رآه يبتعد قاصدا الطريق الذي سبقه فيها طياره.
* * *
" أنا سعيدة لأنك قررتي منحه فرصة أخيرة"
تمكنت روبي بالتظاهر بالحماسة أمام مظهر توأمها التي تدعي هي ايضا الرضى النفسي، كلتاهما تمثلان على بعضهما هي تعرف، أتت الى الشقة لتأخد بقية أغراضها، الوحدة ستقتل روبي. رحيل توأمها ترك فراغا لا يوصف، لكنها ترفض اخبارها بهذا و تحسيسها بالذنب.
" انه يتعامل بشكل جيد جدا..." اقرت لها ديامانتي :" منذ أن أخبره الطبيب بأن الضغط قد يؤثر بصورة سيئة على حملي وهو يتصرف مثل الدجاجة الأم... يريدنا أن نعود الى أثنيا... لكنني أرفض عرضه بشدة... أخاف ان يعود لطباعه السافلة ما ان نقطع المحيط..."
" لا أظن ذلك..." وشوشت روبي بلطف و هي تمسح على وجنتها الشاحبة:" عادة لا أدافع عنه و أنت تعرفين هذا...لكن ثمة تغيير في نيوس... أظنه فهم الدرس جيدا..."
هزت ديامانتي كتفيها بحركة تنم عن شكها بالأمر.
" ما الأمر عزيزتي؟؟"
" انه يخلط الأمور..." همست ببعض التعاسة:" أخبرته عن رغبتي بزيارة فلورانس لكنه رفض متعدرا بوجود داركو في الجوار..."
ابتسمت روبي:
" انه غيور..."
" داركو بحاجة للدعم..."
هزت روبي حاجبها و أطلت السخرية من عينينها:
" ما الأمر ديامانتي؟؟ هل تحنين لزوجك السابق و تشفقين عليه؟؟ لسيما بعد الذي فعله ؟؟"
هزت شقيقتها عينيها الى السماء:
" لم أكن ملاكا معه بالمقابل..." زفرت ببعض الحزن:" أحتاج لرؤيته كي أقلب هذه الصفحة هل تفهمين؟؟ ..."
ربما تتفهمها، أخبرتها لينيتا ذلك اليوم في جزيرة القمر، ان داركو نجح في تدمير ديامانتي لدرجة أنها كانت على وشك فقدان عقلها، بفضل عناية مارك أنطونيو و مسانذة الجميع لم تجن، الكل تدخل لتستعيد آريوس و نيوس في الوقت نفسه.
" تريدين أن تبرهني له بأنه لم ينجح بكسرك؟؟"
أقطبت توأمها، الحزن عزز أكثر بقاياه على ملامحها الجميلة:
" كلا... فليس هو من كسرني بل نيوس..."
لكن تحت تأثير المشاعر التي غزت فيها ذكرى هذا الجرح الذي ما يزال مفتوحا تكسر صوتها بنطقها اسم زوجها، مدت روبي يدها لتغطي بها يد توأمها المستريحة على ركبتها، انها تتفهمها، لا حق لنيوس بمنعها ان رغبت بالاطمئنان على فلورانس فهي من عائلتهما، أو حتى ان رغبت بمواجهة ماضيها... داركو.
" يمكننا ترتيب الزيارة ما ان ترتاحي عزيزتي... لن يعلم نيوس بالموضوع...."
" كلا..." اعترضت ديامانتي بصوت مصر:" ان عزمت حقا على زيارة فلورانس فلن أخفي عنه نواياي.. يريد بداية جديدة؟؟ فليكن... من الأن فصاعدا سأتصرف حسب ما تمليه علي رغبتيي... عليه ان يتعود على استقلاليتي ، لن اسمح له مجددا بمليء ارادته علي... سأفعل تماما ما أراه صائبا"
* * *
انزلقت نظراتها على الرجل الذي يمارس مهاراته الفائقة على كيس اللكم المتأرجح في الهواء وسط القاعة العصرية بأثاثها الرمادي المطل الواجهة على ساحل فلوريدا، كان متخليا على قفازيه مثل المعتاد، يكتفي جل وقته باللف اليدوي لمعصمية كتأمين لعضام يديه، في أغلب الأحيان، تظن أنه يتعمّد ايذاء نفسه... يتخلى عن الحماية لمعاقبتها... لم تتمكن يوما من فهمه.
مثل المعتاد... انه منهمك في تمرين مضني، قطرات العرق متناثرة على الارض الرمادية تحت قدميه، شعره ملتصق بجبينه الدائم التجهم، بينما جسده بهضبات عضلاته الوفيرة لرجل آلف القيام بالمهمات الصعبة مشدود لحد التمزق... يفرغ شحنات التوثر و الغضب في الألم... هذه ليست رياضة، بل عقاب نفسي مريب... من هو حقا هذا الرجل؟
" مرحبا خافيير..."
" قامو بإرسالك؟؟"
ابتسمت، كان يعرف بأنها في شقته و تراقبه، لم يتوقف عن تمرينه القاسي و تقدمت نحوه بينما أصابعها تلعب بالمفتاح المعلوماتي، وضعته على الطاولة في ' كليك' قصير.
" لايجد ستيف مجيئه شخصيا فكرة حسنة ، تقول الشائعة ان اللقاء الاخير كان كارثي بينكما و أجبروك على القبول بهذه المهمة التي ترفضها."
التزم الصمت... لا يتكلم أبدا عن حياته الخاصة... من كان يشك ان له توأم في الأصل؟
" ما هو دورك في هذه المهمة؟؟"
" نفس الدور الذي انتهى به الأمر في السرير آخر مرة... حبيبتك"
نجحت في اثارة اهتمامه، أمسك الكيس بكلتا يديه ليوقفه عن التأرجح و حط نظراته الرمادية المشتعلة عليها ليقيمها ببطئ، ثم انحنى على قنينة المياه و افرغها في جوفه، التقطت منشفة بيضاء عن ظهر الكنبة و امدتها اليه، التقطها دون شكر... الامتعاض ظاهر عن وجهه.
" كانت غلطة فادحة و لن تتكرر... لا أمزج المتعة بالعمل"
قاطعته ببعض التسلية:
" فليكن بمعلومك بأنني أيضا أحببت ما حذث بيننا في موسكو أيها العميل "
لم يجبها، اهمل المنشفة على كتفه بعد أن جفف وجهه و عنقه به ثم التقط المفتاح الالكتروني ليضعه فورا في الحاسوب الموضوع على لوح المطبخ المفتوح على الصالون.
" هناك تفاصل عن حياة روكو ايميليانو و محيطه، دوري يقتصر على مرافقتك الى التايلاند حيث تستشفى شقيقته الصغرى بعد حاذثة السير المروعة التي تعرضت لها قبل أشهر... يريدون أن نثير انتباه والدته... أن تتقرب من صوفي و تربط معها نوع من الصداقات التي ستجبر العائلة على تقبلك بينهم ..."
ظهرت آلاف الرموز و المعلومات، عندما استرسلت الصور الواحدة تلوى الأخرى و ظهرت المعنية بالأمر بعينين زرقاوين كالساحل الكايفورني أدار وجهه العابس نحوها:
" هل هذه مزحة؟؟ يريدون مني اغواء قاصر؟كم عمر هذه الفتاة؟؟ ستة عشر سنة؟؟ "
" بالغة كفاية كي تستعملها للوصول الى شقيقها الأكبر...."
هز رأسه بحدة و ارتجت عضلاته تحت بشرته المشدودة بقوة، بسط راحتيه على اللوح الخشبي في جانبي الحاسوب و أحنى رأسه بين كتفيه قبل أن يغمض عينيه و يكشر، و كأنه يجاهذ للاستيقاظ من كابوس لعين...لما هو بحق الجحيم؟؟ لما لا عميل آخر؟؟ فالمهمة ليست بهذه الخطورة و لا تحتاجه شخصيا، انه رجل ميدان، يعشق الأسلحة و لا يخطئ أبدا هذفه، لما تعتقد الانتربول أنه الأجدر بمهمة بسيطة كالدخول في حياة رجل مثل العرّاب؟؟
" رأيت صور لأليخاندرو... و كأنه أنت... انهم يعتمدون على صداقته بالعرّاب لتسهيل مهمة الولوج السريع في حميميته"
لم يجب خافيير، اعاد نظراته الى الحاسوب، التجسس على حياة روكو ايميليانو هو أسهل ما سيقوم به كعملية اخيرة لقلب صفحة العميل الخاص التي امتهنها منذ سنوات طويلة، لكنها الأصعب في الوقت نفسه... اليخاندرو استبذل ماضيه بحاضر جميل و مستقبل أجمل، وجد لنفسه عائلة بدل التي فقدها في عمر صغيرة جدا، و هذا الرجل الذين ينون الاطاحة به فرد من هذه العائلة... انه يقبل التجسس ... يقبل الايقاع به كما فعل بأكبر قراصنة البحر الأحمر، ان كان ذلك الرجل سافل و ماجن فيستحق القصاص... لكن ان يحطم عالم اخيه باللعب بعواطف هذه الطفلة؟ اه كلا... هذه المهمة ستفقده توأمه... و توأمه سيفقد عائلته.
اليخاندرو نقطة ضعفه الوحيدة... يرفض ايذائه او حتى زعزعة هنائه.
يعرف بأنه مستعد للتضحية بحياته لحمايته... كما آلف منذ طفولتهما التي انتهت بكابوس فشل في التعافي منه شخصيا.
" استلمت الرسالة... يمكنك المغادرة"
كاد أن يفقد حياته مرتين، مرّة في الاتحاد السوفياتي بين أخطر أعضاء العمليات المصطنعة، و الثانية في كوبا بينما يتم التأكد منه بأبشع الطرق بأنه ليس العميل السري الذي ينوي تشفير العملية الارهابية التي تنوي المنظمة تحقيقها ضد العالم بأسره، لكنه كالقطط بأرواح متعددة، الموت آخر ما يمكن أن يخشاه في حياته المليئة بالمخاطر، انها طريقته الوحيدة لنسيان من يكون... و من أين يأتى.. لكن هذه المهمه من اصعب ما يمكنه القيام به... كيف يمكنه التملص؟؟ مواجهة توأمه و الاحتكاك به مجددا يعني العودة الى الماضي.
اليخاندرو أشد شجاعة منه...
واجه ماضيه و أغرق نفسه في بناء امبراطورية تستحق التقدير، و يخرج مع أميرة حقيقية، حتى أنه قرر انشاء ملجأ للنساء المتعرضات للعنف الزوجي في تلك المدينة البائسة التي نبذتهما في سن صغيرة جدا...
وضعت زميلته يدها على ذراعه، أظافر قصيرة لإمرأة آلفت قتل الاعداء بيدين متجردتين، كانت متفجرة في فراشه ذلك اليوم في موسكو، حينها تملكته نفس الهشاشة كما اللحظة و احتاج للنسيان و لم يفرق معه ان كانت مجرد امرأة أم زميلة عليه تفاديها، ما يعرفه اللحظة بأنه يرفض تكرار تلك الغلطة الفادحة بالرغم من ان ديانا جميلة و تثيره جنسيا و لم تتوقف الجميلة بالاشارة الى رغبتها بتكرار تجربتهما، ابتعد عن ملامستها بينما يسمعها تقول:
" أنت لا تبدو بخير.."
لا هو ليس بخير.... انه غاضب جدا... بل يغلي من الغضب...يرفض مهمة صقلية و يريد تقاعده اللعين الذي وعده ستيف به و مزرعة الخيول في جنوب تكساس و التي اتى على اتمام دفعاتها الاخيرة... يريد العيش حياة طبيعية و الزواج ايضا من امرأة شقراء تجهل ماضيه...امرأة تجيد الطبخ لسيما الفطائر التي كانت تجيدها و الدته...شعر بالعذاب يسحقه لهذه الذكرى.
" اريد الانفراد بنفسي..." وهز رأسه نحو المخرج: "ارحلي ديانا أرجوك ..."
يعرف بأنها عنيدة لكن و لراحته تجاوبت مع هذا النداء، يحتاج بشدة للاختلاء بنفسه:
" فليكن خافيير... أقيم أيضا في 'بالم بيتش'... ان غيرت رأئيك يمكنني جلب البيرة و مشاهدة مباراة على التلفزيون...الــــ 'بالتيمور رافينز' يلعبون الليلة "
بدأ بفك رباط يديه بدل الاجابة على محاولتها الأخيرة، و انتبه الى التقرحات تحتها، الالم يساعده على نسيان أي رجل سيء هو و أي حياة مريبة يعيشها... سمع صوت الباب يغلق خلف زميلته، فالقى نظرة الى كلبه الـ 'Husky' النائم بجانب النوافد العالية، صفر له ليثير انتباهه، وعندما هز نحوه هذا الأخير رأسه :
" ما رأئيك ان نركض قليلا على الساحل 'ريكسي'؟"
* * *
" كيف تشعر؟؟"
تململ 'فرانكو' في مكانه بإنزعاج شديد، يدرك داركو بأن الصدرية الطبية ليست كافية لتثبيته في مكانه، لم يتوقف عن ترديد لمن يريد سماعه بأنه بخير و ليس بحاجة للبقاء في هذا السرير الطبي.
" أنا بخير داركو... لا أفهم لما يصرّون على ابقائي في هذا السرير؟..."
" لأنني أنوي أيضا الاطمئنان على أفضل رجالي... بفضلك ماتزال زوجتي حية و معها أنا... أنا مدين لك"
" هذا عملي و انت تدفع لي لحمايتكما... بالرغم من أنني لم أكن سريعا بما فيه الكفاية... من يجدر به التواجد في العناية المركزة أنا و ليس السيدة"
أقطب داركو و سأله بجدية:
" هل يحذث معك أن تكون أقل قسوة مع نفسك؟؟ هيا فرانكو... تعاون مع الفريق الطبي و اتركهم يقومون بعملهم و استرد عافيتك بسرعة... "
لكن ملامحه الدائمة الوجوم لم تسترخي، هو نفسه لا يعرف أي مزاج بالضبط يتبنى، أحكم فكه بشدة و هو يتذكر مجابهته الأخيرة مع الكونت، الرجل ينوي حقا الوفاء بوعده، اصبح سيئ الطباع و لم يترك له فرصة رؤية زوجته التي تم نقلها منذ دقائق من العناية المركزة الى غرفة عادية، الكل بإنتظار أن تزول غيبوبتها الموقتة، الكونت من أخد مكانه بجانبها بالاضافة الى فرجينيا، كانا بحاجة لخلوة مع ابنتهما التي كادا أن يفقداها بسببه... ربما لم يضغط على الزناد لكنه السبب في تواجدها في هذه البلاد... لو كانت بيانكا في نفس الوضع لتمنى رؤيتها اولا بالتأكيد.
" هل من أخبار عن المهاجمين؟؟" سأله فرانكو و كأنه يقرأ في رأسه.
" أحدهم يتولى الموضوع..." تمتم داركو.
" العرّاب؟؟ "
لم يشك يوما بنباهته.
" سيكون أسرع من التحريات الجارية، بضع اتصالات قلبت سانتا مونيكا رأسا على عقب... و لأكن صريحا... أنا أريد تسوية الأمر بعيدا عن الشرطة... أريد أن أعرف من وراء هذا الهجوم... ديل ماريا؟؟ شريكها تاجر الأسلحة...؟؟ نيوس ليونيداس؟؟ كيفن غراي؟؟"
ضجة على باب غرفة فرانكو استرعت انتباههما، استدارا في الوقت نفسه ناحية الصوت،و كانت غابرييل، باقة كبيرة من الورود بين ذراعيها، سمع فرانكو يتمتم بصوت منخفظ:
" رحمتك يا الله...."وقف داركو من المقعد الذي كان يشغله" لا تتركني معها ..."
القى نحوه داركو نظرة متهكمة" تمكنت العيش من هجوم ناري يمكنك العيش من زيارة أنثوية..."
زم شفاهه، لا يبدو سعيدا من سخريته الناعمة، لكن حان الوقت ليأخد مكانه بجانب زوجته التي يرفض حماه ترك مقعده له، حان الوقت لوضع الأمور في نصابها الطبيعي، ابتسمت له غابرييل محيية بينما يتوجه نحو الباب حيث ما تزال متصلبة، وشوش لها بلغتها كي تفهمه:
" انه ينبح لكنه لا يعض أبدا..."
" سمعتك..." زمجر حارسه وراء ظهره.
" جيد جدا... ستحتاج لمساعدة و أظن أن غابرييل سيسعدها هذا..."
أظلم مزاجه أكثر بينما يكتشف وصول دافيد ريتشي، كان يقف مع فرجينيا في الرواق، عينيه متورمتين و وجهه مشدود و مظلم، عندما التقت نظراتهما لم يخفي هذا الأخير نفوره، مثله تماما.
فرجينيا شعرت بوجوده أيضا، هزت عينيها المتورمتين من شدة البكاء نحوه قبل أن تلين ملامحها الجميلة و تهمس بشيء لابنها ثم تخطو اليه.
" أنا مدينة لك بالاعتذار بسبب تصرفات الكونت... لكنه تحت الصدمة... حتى انني متعجبة كونه لم يصاب بذبحة صدرية من خلال كل هذا الضغط عليه... لا تعر تهديداته اهتماما... "
ان كان قد اتخذ تهديدات عرابه و حماه على محمل الجد؟؟ التهديد الوحيد بالنسبة اليه هو ما ستكون عليه زوجته بعد خروجها من غيبوبتها، هل ستنفره؟؟ تنفصل عنه؟؟ تطلب منه الرحيل و عدم العودة مجددا؟؟
لم يعرف خوفا و لا رعبا مثل الذي أحسه بينما يراها متخبطة في دمائها بين ذراعيه، لم يغمض له جفن منذ ذلك الحين، التجئ للشيء الوحيد المتبقي... الصلاة... الشيء الذي آلف فعله في أزمات بيانكا الكثيرة، الكونت محق في غضبه... فقد أساء لفلورانس بطريقته.
" حتى ان دفعته أنانيته بمحاولة ابعادها عنك... فلورانس تحبك بشدة... دافعت عنك بشراسة بينما ينوي الكل الثأر لكرامتها المجروحة... "
العذاب الذي سببته هذه الكلمات كان أقوى من ضربة ساطور، هل من حقه البقاء بجانبها؟؟ الكونت لم يخطئ عندما أخبره بأنه لا يستحقها...أمسكت بيده بأصابعها الانيقة و الطويلة كي تقوده نحو الغرفة التي يحتجزها حماه.
يمكنه رؤيتها أخيرا، BIP مسموع. رائحة المطهر.رقصت النقاط السوداء أمام عينيه وسمع هدير قلبه المتألم... حبيبته و والدة ابنه ممدة بين الشراشف البيضاء و الأجهزة الطبيه، الكونت أندريس يمسك اليد الوحيدة المتحررة من طبقات الشاش على كتفها الأيمن، ترآت له الغيوم مكثفة فوق رأس عرّابه لدرجة أنها كانت مظلمة تقريبًا.
" أندريس..."هز هذا الأخير نظراته نحوهما، كانت عيناه جافتين، لكنهما محمرّتين بشدة كما حال الجميع في هذا المكان، تابعت فرجينيا بلطف لكن بحزم:" أترك مكانك لداركو... قد يساعدها بالخروج من غيبوبتها..."
" أو ربما اغراقها أكثر ..." تمتم الكونت " مؤخرا... لم يمر يوما دون ان تذرف الدموع بسببه".
لا يملك ما يمكنه قوله لإزالة هذا الغضب الذي يتقدد في عينيه الخضراوين، غرفة زوجته ليست حلبة صراع، سيكلمه عندما يهدأ كليهما... سقطت نظراته على حبيبته و حصل على رؤية شاملة وهو يقترب من السرير متجاهلا الكل بمن فيهم الأب الذي ينوي حماية ابنته منه، العذاب يقسمه إلى ألف قطعة ... قتاله يبدو عديم الفائدة. انه يستحوذ عليه بشدة، انزلقت نظراته على ملامح وجهها الساكنة، بشرتها لم تستعد نظارتها، ماتزال شاحبة، كومة شعرها الحالكة بجانب رأسها، حياتها معلقة بخطوط منعكسة على الشاشة الصغيرة بجانبها.
جلس على المقعد الذي كان يشغله الكونت قبله و التقط يدها بين يديه، قبضتها الصلبة عادة رخوة بين أصابعه، تراءت له مشرقة مثل عادتها، عينيها الخضراوين متوهجتين مثل ياقوتتين، ابتسامتها مبهرة ككل شخصيتها التي اعتاد عليها منذ أن قرر القدر ادخالها في حياته.
" لا أعرف من أين أبدأ ..." وشوش لها وهو يدنو بأصابعه من وجنتها المُدّورة و يلامس بشرتها المخملية:" بالرغم من كل حذري... لم أتمكن من حمايتك في النهاية..."
ضغط على أصابعها بشدة، اختلطت كلماته بنغمات جهاز مراقبة القلب...
" لم أكن أعرف بأنني جبان قبل هذا الحاذث فلورانس... طالما رفضت مواجهة ما تعايريني به على الدوام..."
انحنى ليقبل يدها، في تلك المواقف الكثير التي كانت تطالبه بالشيء الوحيد الذي ترغبه بشدة... موقعها شخصيا في حياته:
" لم أرغب يوما بإعادة حساباتي"
ثم كبر الحب على غفلة منه، و أصابته مشاعره بالرعب و الخوف، يبحث عنها في والدته كنوع من الحماية الذاتية... في الحقيقة... ذلك الطفل الضخم جسمانيا من عمره... المجروح الفؤاد لم يهجره يوما، بقي يسيطر عليه بشكل ما.
ثم رآى نفسه في نيكولاي... الذي سيعيش نفس الجحيم ما ان تتحول علاقته بفلورانس الى الراكدة و تستبذاه برجل آخر بعد ان تفقد اهتمامها به... يرفض ان يعيش ابنه نفس الجحيم.
من الأسهل رؤية الجانب المظلم في المسألة بدل تسليط الضوء على ما هو واقعي فيها...
حتى بعد تحطيمه قلبها أخبرته فرجينيا بأنها تستمر بالدفاع عليه مثل نمرة شرسة... فأي ولاء هذا؟؟ هو وحده من يعكس الصورة الماجنة لزواج والديه... فلورانس كانت اكثر شفافية منه و اكثر مصداقية و كم يشعر بالعار لغبائه.
" لقائنا الأول قبل ثلاث سنوات تقريبا... تتذكرينه؟؟ ... بعده بأشهر طويلة جدا... كنت أعمل لنفسي غسيل دماغ... تلك التراهات التي نكررها بلا كلل كي يتعود الدماغ على تصديقها...الحقيقة انني كنت مجنون بحبك منذ البداية"
قطع الصمت جهاز مراقبلة القلب، كم يفتقد شراستها، فقط لو تعود... و تشبعه ضربا كما تفعل عادة عندما تفقد رشدها من الغضب.
" أخبرني الكونت بأنني لا استحقك... أظنه محق تماما... " عاد يقبل يدها " لكن أعدك على الأقل بالعدالة... مني... من الذين تجرأو على رميك في هذا المكان..."
شم رائحتها الممتزجة برائحة المطهرات:" أخرجي من غيبوبتك حبيبتي... أقسم لك أن اتغير..."
" داركو...."
لوهلة آمل أن يكون صوتها هي، لكنها جامدة في مكانها بلا حراك، هز رأسه ناحية الباب و لمح بيانكا و بجانبها اليخاندرو، كان يعرف بأن الجميع على وصول قريب للمستشفى، تركها مُكرها ليتوجه نحو ابنته المعذبة الملامح و المتورمة الوجه، لحسن حظه أن اليخاندرو معها و يسهر عليها كل الوقت، أخدها بين ذراعيه و قد تملكته رغبة بالانتحاب للمرة الأولى في حياته، هذا اليأس يمزقه، يشعر بأن لا حولة و لا قوة له، لم يعد قادرا على تحمل هذا العذاب الذي ينخره ... يريدها أن تخرج من غيبوبتها، أن يخبرها بأن أيام سعيدة بإنتظارهما، و أنه يريد منها دزينة أطفال آخرين و يكرس كل حياته لإسعاد أسرته.
" كيف حالها؟؟" سأله اليخاندرو وهو يربث بلطف على ذراعه.
" حالتها مستقرة لكنها في غيبوبة... " شرح بغصة ، هذا الشعور... هذا الاتقباض فهل سيزول يوما؟؟وهو يبتعد عن حضن بيانكا التي بللت عنقه بدموعها لامس شعرها الناعم:" لا تبكي حبيبتي... ستكون بخير..."
" من وراء هذا بحق السماء أبي؟؟؟" سألته بصوت أجش من الحزن:" من يرغب بالتخلص منكما؟؟ كان من الممكن أن أفقدكما معا... أن أفقدك أبي"
أمسك بوجهها ليتطلع الى عينيها و يقول لها بحزم:
" لا تفكري بهذه السلبية بيانكا، أنا بخير و لم اصب بأذى فأمنعك من تعذيب نفسك بهذه الافتراضات المريبة... أنظري الي..." أعادت اليه نظراتها الهاربة و المتشبعة بالدموع و التعاسة و القلق:" أعدك أن تتغير الأمور... كل شيء سيكون على ما يرام"
هزت رأسها من خلال دموعها، منحها اليخاندرو منديل لتجفف به وجهها شاكرة:
" هل يمكنني رؤيتها؟؟"
" بالتأكيد حبيبتي... "
بينما يُغلق الباب خلف فلورانس و بيانكا ترآى له والديه برفقة الكونت و الكونتيسة ديكاتريس، يستغرب مجيئ والدته، انها لا تتفق مع زوجته.
" سيزار في طريقه الى هنا مع روبي..." شرح له اليخاندرو:" هل من أخبار عن المهاجمين؟؟"
" أخبرني روكو بأن هناك جديد..." شرح له داركو و هو يمسح على وجهه المرهق:" أحتاج لملابس نظيفة لي و لفرانكو فهل يمكنك الإهتمام بالأمر؟؟؟"
" جهزت كل شيء مع بيانكا و سأجلب الأغراض فورا من السيارة... سيزار تولى أمر اقامة الجميع لهذا لم يقصد المستشفى رأسا فلا تقلق بهذا الشأن...هل ترغب بشيء آخر؟؟"
هز داركو رأسه بالنفي متمتما:
" أنا محظوظ بوجودكم في حياتي..."
ابتسم له اليخاندرو مطمئنا:
" سوف تعود الأمور لطبيعتها داركو... فلورانس امرأة قوية وتحبك...و أنا متفائل جدا"
فقط لو كان يمكلك حماسته... فقط لو كان متفائل مثله.
* * *
أبعد 'روكو' نظراته على الحاسوب أمامه بينما تردد طرقات خفيفة على باب مكتبه، و يطل رأس بريانا الأسمر و الجميل من الشق الصغير:
" هل أزعجك حبيبي؟؟"
التقطت أصابعه الطويله النظارة الطبية من فوق أنفه ووضعها على مكتبه قبل أن يغلق حاسوبه و يطفئ سجاره الكولومبي في المرمدة النحاسية العريقة ثم يشير لها بأصابعه:
" اقتربي' كارا'..."
بعض من النعومة مطلوبة بعد ساعات طويلة من العمل الشاق و البحث المضني عن اجابات يريدها سريعة و فورية من أناس يعرفون تماما عملهم، انزلقت عيناه على هذا الجسد الانثوي الرائع الملفوف في فستان أحمر من الحرير، انه يحب الأناقة و الذوق الرفيع، و بريانا تملك كل ما يروقه في امرأة، وهي... أكثر من مجرد امرأة... انها المرأة التي أثارت اهتمام رجل صعب الرضى مثله.
منذ إقامتهما تحت سقف واحد تغيرت حياته للأفضل، أصبح لكل يوم معنى حقيقي، خطيبته استثمار معنوي جيد جدا، انها سيدة بيت ممتازة، اهتمامها الشديد بوالديها - المقيمين في أشد الاجنحة هدوءا في قصر الايميليانو- لا يترك له أي مجال عن نوع النساء الذي كان يخفيه مظهر المرأة الجليدية،... كل يوم يكتشف فيها شيء جديد... شيء يزيده إعجاب بشخصها.
فسح لها المجال كي تتمكن من الجلوس على ركبتيه، بدل ذلك وقفت ورائه، يديها على كتفيه المتشنجتين، استرخى و ترك نفسه لأصابعها التي تبحث عن العقد المؤلمة بين كتفيه، دفئها يخترقه عبر القماش الرقيق لقميصه.
" أمممم... هل سبق و أخبرتك كم أنا محظوظ بك؟؟ "
" لم أرك اليوم لتخبرني بهذا .... " سمعها توشوش له بالقرب من أذنه " هل التصاقك بهاتفك أتى بنتيجة على الأقل؟؟"
فتح عينيه...
" يعني؟؟"
" أعرف بأنك تقلب الأرض دون ان تقعدها لتمسك بالجاني..."
التقط بيدها و أجبرها على ترك مكانها ورائه لتجلس على ركبته حيث يريدها ان تكون ليشعر بثقلها عليه، دفع بخصلات شعرها السوداء خلف عنقها، و تفرس في عينينها الكبيرتين:
" مالذي يجعلك تعتقدين ذلك؟؟"
" صرت أعرفك..." همست له بلطف وهي تلامس لحيته الوليدة:" كما أن هاتفك الاسلكي تستعمله في الحالات الطارئة...وهو لم يفارقك"
منحها شبه ابتسامة:
" انا محظوظ بإمرأة ذكية مثلك"
هزت عينيها الى السماء و ارتطم ظل رموشها السوداء على وجنتيها البارزتين:
" لا تسخر مني... الأمر لا يحتاج نباهة... مزاجك سيئ جدا منذ ما حذث للأميرين فالكوني... فهل هناك من جديد؟؟"
اذا كان هناك جديد؟؟ 'سانتياغو' بنفسه يترأس حملات التمشيط مع أناس يشبهون الفئران القذرة التي تجلب كل الفايروسات المختبئة في الجحور العميقة... عملائهم تعاونوا مع قضيته و نعم هناك جديد، لكنه يفضل التمهل قبل اخبار داركو بالتفاصيل، طمئنه هاتفيا بأن هناك جديد...ان اعتمد على الشرطة فل يصلوا لما توصل له هو بهذه السرعة الهائلة، عموما سيطير غدا الى لوس انجلس مع خوسيه، خطة أمنية مشددة يقوم بها حراسه لهذه الزيارة لبلد أعداء والده، لا يحب مطلقا ذلك المكان، لكن داركو ليس فقط صديق لكنه أكثر من ذلك.
" ماتزال الأميرة في غيبوبة... لكن حالتها مستقرة" كي لا تطرح الكثير من الأسئلة أضاف" لن يتأخر خوسيه بالوصول... هل كل شيئ جاهز؟؟؟"
ليس بحاجة لطرح السؤال كي يعرف بأنها تتفوق دوما على نفسها من هذا الجانب:
" العشاء و الجناح و حتى نبيذه المفضل...-Conti Romanée-Conti "هز حاجبيه مستفسرا فأسرعت بالشرح:" تواصلت مع سابرينا لأخد بضع معلومات..."
قست نظراته لكنه لم يعلق، بريانا لا تتوقف عن المحاولة و المحاولة للتخفيف من التوثر الذي يغلف علاقته بولادته و تقحم اسمها في كل حوار، لكنه لا يحتاج للصلح، مطلقا لن يغفر لها خيانتها...و لا للسافل الذي ناداه بوالدي ووضعه فوق كل الشبهات، تخللت أصابعها الناعمة خصلات شعره الكثة و أجبرته على النظر اليها مباشرة.
" لم تخبرني ان كان هناك من سيرافق ضيفنا؟..."
" نعم... إمرأة..."
أشرق وجهها بإبتسامة:
" أخيرا سنتعرف على زوجته؟؟"
يكره التكلم على اصدقائه معها ، انهم مجموعة منحرفين و بالتأكيد سلوكهم الشاذ لن يعجب امرأة أمضى طليقها حياته في خيانتها، لكنه لا يفهم لما خوسيه يغير عادته منذ زواجه و يرافق جوليانا في كل تنقلاته؟؟ و كأنه يريد أن يثبت شيء لنفسه، شخصيا يعجز عن فهم تصرفاته.
" لا 'كارا'... جوليانا ليست زوجته بل رفيقته و سيسعدني ان تعاملتي معها بحيادية"و بما أنه يعرف مبادئ بريانا فلا ينوي الدخول في عتابات فارغة.
رآى ابتسامتها تنسحب، نظراتها تتجلد... اللعنة بداية لا تنذر بالخير:
" رفيقته... تريد القول عشيقته..."
" لا تنظري لي هكذا عزيزتي... انه بالغ و يفعل تماما ما يحلو له... ما رأيك أن تأتي معي الى غرفتنا كي تجهزي لي حقيبة سفري؟؟"
" حقيبة سفرك جاهزة منذ هذا الصباح..." جاء صوتها ناشف...
" سنعيد تجهيزها... لو لم يكن هناك أهلك في ضيافتنا لأخدتك معي في هذا السفر بريانا... أكره الابتعاد عنك و أنت تعرفين..."
كلماته نجحت بمسح هذا القلق في عينيها، رآها تسترخي ببطئ فأمسك بيدها و قرب أصابعها على شفاهه ليُقبّل في طريقه خاتم خطوبتها، لم تكن حلية الايميليانو، الجوهري تمكن من ابهار خطيبتة بخاتم يشبه شخصيتها تماما... جميل و بسيط.
" روكو..."
" نعم حبيبتي؟"
" أكره الرجال الخائنين... خوسيه يسقط من نظري"
اصدقائه خط أحمر... اصدقائه خط احمر، يحب خوسيه و يكره ان ينتقضه احد حتى لو كانت بريانا التي يتشبت بوجودها في حياته كطوق نجاه، أمسك بدقنها و تفرس في عينيها:
" لم يوقّع مع زوجته عقد وفاء لكن صفقة عمل... "
بقيت تحملق اليه ببعض المرارة، ثم رآى حنجرتها تصعد و تنزل في عملية بلع مؤلمة:
" ما نوع العقود الذي سيجمعنا روكو؟؟"
" الوفاء الى أن يفرق الموت بيننا..." تمتم بالقرب من شفاهها:" هل يمكنني الحصول على قبلة الآن؟؟"
* * *
{...أنا هنا !
أسمع كل شيء لكنني لا أستطع التكلم أو التحرك و كم هذا محبطًا! }
لماذا لا تستطيع أن تعصر على يده؟...
كان يتحدث عن كل شيء ولا شيء بصوت مستاء... يعود معها لسنوات مضت، ثم يكلمها عن طفولته... الشيء الذي لم يفعله يوما معها... أخبرها بأنه كان طفل سيئ و مراهق أسوأ... أخبرها أيضا أنه كان يبكي في الخفاء أحيانا عندما يرى أن العائلة التي حلم بها دوما تتكسر أمام عينيه يوم بعد يوم... ثم يأخد أحدهم مكانه ليلامس وجهها... يدها... أصوات كلها تعرفها، لكنه هو لا يبتعد قط عن سريرها... انه متوفر لها و تتمنى لمسه لكنها عاجزة عن الخروج من هذا الجسد الذي يرفض اطاعتها...ثم تغيرت نبرته... بدى غاضبا... سمعت بعدها صوت 'كيفن' قبل ان ينجح الثقب الأسود مجددا من جرفها.... عادت الى الأروقة المظلمة مجددا.
* * *
قنبلة ستنفجر في الرواق على مرآى الجميع، راقب سيزار قريبه يفقد السيطرة كليا على نفسه بينما يظهر 'كيفن غراي' في المكان على كرسي متحرك مرفقا بوالدته و الممرضة، لا يعرف كيف وصل الى هنا اذ أنه يعرف تماما بأنه نزيل مستشفى أخرى، لكنه ملفوف في الجبس و بالرغم من حالته الصحية المتدهورة يأتي الى هنا لرؤية فلورانس... ياله من عزم... لكن الأمر لن ينجح مع داركو.
الكل اندفع نحو الوحش الذي منع الممثل من الدخول لرؤية زوجته... لم يفلح أحد بدفعه لتغيير رأيه، و بما أنه زوجها و الوحيد الذي يملك الصلاحية في تحديد الأشخاص المرغوب بهم في محيط المريضة فشل كيفن من الوصول لهذفه.
" أخرج من حياتها..." زمجر 'داركو' متحاشيا محاولاته شخصيا لتهدئة الموضوع.
المكان ازدحم بأفراد أسرة فلورانس و أصدقائها و أعضاء المستشفى الذين تدخلوا لأنهاء المجابهة العنيفة و طلبوا أيضا اخلاء المكان للجميع.
" حبيبي... سأرافق 'جانيت' و 'كيفن' ان كنت لا تمانع..." وشوت له روبي بصوت قلق.
شخصيا يكره عائلة 'غراي'، الممثل لم يلعب بنزاهة مع قريبه و حاول تسويد سمعته لكن الأمور انقلبت عليه و بقسوة لا مثيل لها، و لن يمنع روبي من ربط علاقتها مع جانيت بلوز التي مدت لها يد العون في بداية مشوارها الفني ان ارادت هي ذلك، انحنى ليقبل شفاهها:
" لا تتأخري... أحبك..."
هز التشنج العصبي زاوية عيني داركو بينما يخلي الجميع المكان و يعود الصمت ليحيط الجناح، الكونت أندريس اختفى مع سيليو قبل وقوع المواجهة العاصفة قبل لحظات.
" أي جرأة يملكها ذلك الجرذ الحقير ليظهر أنفه اللعين مجددا أمامي..." سمع قريبه يقول بصوت يرتجف غضبا:" أعطي الأوامر لإدارة هذه المستشفى بألا يقترب أحد من غرفة زوجتي ما عدا أقاربها"
" سوف أفعل داركو هل من الممكن أن تهدأ الأن و تعود لجانب زوجتك؟؟"
رآه يحاول السيطرة على نفسه و تهدئة البركان المتفجر بداخله، انه يعرفه جيدا، في ظروف أخرى كان ليوسعه ضربا، تنازلات قريبه كثرت مؤخرا أمام رغبته في الحفاض على زواجه و استعادة فلورانس، مطلقا لم يره بكل هذا الصبر ولا التأني، محظوظ جدا 'غراي' الا يقع بين مخالب داركو قبل أشهر قليلة... كان ليقوم بإفتراسه... لم يكن يوما الأمير رحيما و لا لطيفا مع أحد يسيئ اليه... يدين 'غراي' بهذا لفلورانس، لأنه بفضلها يبقيه داركو سالما.
"إذا حكمنا من خلال تعجبه المصاب بالذعر ، بدا أنه توقع مني تفهما لتضحيته الكبيرة بهذه الزيارة بل و الإعجاب بشجاعته"
هو نفسه يتسائل بأي معجزة غادر المستشفى ليأتي الى هنا بوضعه الهش.؟؟
" اهدأ داركو..."
" أرفض أن يعود الى هنا... إفعل ما يلزم سيزار..."
تركه كي يعود الى غرفة فلورانس، كما توقع ماتزال الجلبة في الردهة الأمامية للطابق السفلي حيث الاستعلامات، 'كيفن غراي' يرفض المغادرة رغم محاولة الجميع، يتصرف كطفل مدلل لم يحصل على لعبته، انتبه لملامح روبي المنغلقة بشدة، فرجينيا شاحبة الوجه بينما جانيت تنحني على كرسي ابنها المتحرك لتهدئته، كان هناك 'أوما' و 'غابرييل' أيضا... يتعجب كيف لهذه الأخيره أن تترك 'فرانكو' بينما رآها ملتصقة بغرفته منذ وطوء قدميه أرض هذه المستشفى:
" لن أرحل من هنا..." تسلل الى مسامعه صوت الممثل مختنقا:" يظن نفسه فوق اي قانون؟؟ ما جمع بيني و بينها لن يجمعه بها لبقية حياته البائسة... لقد اختطفها مني بكل بساطة و يعتقد اليوم بأنه يملك كل الحقوق؟؟ هو من كان يجذر به التواجد في تلك الغرفة و فوق ذاك السرير و ليس هي... ليس هي"
تكسر صوته، كانت الدموع تغسل وجهه، بشرته شاحبة و شفاهه متيبسة، يبدو حقا بحال سيئ للغاية، الحب من طرف واحد صعب جدا، أخبرته بيانكا في الطائرة بشأن هوس كيفن بفلورانس، و ردة فعل داركو طبيعية، انه يحمي زواجه من مجنون حاول توريطه مع العدالة بشرائه أناس ابتلوا زورا عليه، كل هذا كي يحصل في النهاية على امرأة لم تنظر له أكثر من صديق.
" من الأفضل أن تغادر كيفن..."هزّ هذا الأخير نحوه وجه شوهه العذاب و الحزن" ان كنت تحبها حقا فلن تتسبب لها بشوشورة أكبر... اذا خرجت من غيبوبتها و طالبت بك فلن يقف أحد أمام هذا اللقاء... حاليا أنت تضيع وقتك... "
" لن تطلب برؤيتي..." تمتم كيفن من بين أسنانه " ذلك الرجل قلبها ضدي... انها في غيبوبة و هي بحاجة دعمي كما كنت دوما بجانبها ... كما كنا دوما بجانب بعضنا البعض... "
" اهدأ بني" وشوشت له جانيت.
" يدخل حياتها مؤخرا و يظن بأن له كل الحق؟" كانت روحه تنوح بقوة، كيفن تعس لدرجة تثير الشفقة، لكنه لا يفهم بالتأكيد أن فلورانس قامت بخيارها، وهو لم يكن ضمن هذه الخيارات، لقد كان مرهقًا جدًا لإضفاء الطابع الرسمي على سخرية الموقف، دوره وهو تهدئة الوضع برمته، بعض أنواع الحب تكون مريضة، كيفن لا يفهم بالتأكيد لما داركو يأخد مكانه، لا يفهم أنه هو الغير مرغوب به هنا وفي حياة الزوجين و ليس العكس.
" كيفن... " حان دور فرجينيا للتدخل:" من الأفضل أن تذهب عزيزي..."
" جينا...." وشوش كيفن متوسلا:" تعرفين ما تعنيه لي فلورانس... تعرفين جيدا من هي في حياتي، أنت والدتها، يمكنك منحي حق البقاء بجانبها"
" داركو زوجها و تسقط سلطتي أمامه..." أجابته فرجينيا بأسف :" تعالى معي... نحن بحاجة لنتكلم قليلا..."
" كلا..." قاوم بصوت جاف.
" الموقف سيفتح شهية بعض الفضولين كيفن و ستجد نفسك مصدر العناوين غدا..." قالت غابرييل بحذر.
" تعتقدين بأنني أهتم لشيئ آخر غير ما يصيبها؟؟ أرى بأن لا أحد منكم يتفهم موقفي... "
كان متمسك بتبريراته مثل المنبوذ على وشك الغرق و ينتظر أن يتعاطف الكل مع موقفه، كان يبحث عن تعاطف و شفقة الكل ... الموقف مريب حقا، التقت نظراته بنظرات روبي التي تركت مكانها لتقترب منه و تدلف ذراعه حول خصره، وشوشت له بالايطالية:
" فلنمضي... فرجينيا ستهتم بالموضوع... "
يستمر كيفن في المقاتلة بشراسة،المشاعر التي طالما احتفظ بها لنفسه صارت علنية و اشتعل الغضب وراء الجبهة الباردة التي أظهرها منذ سنوات صداقته الطويلة، بيانكا تتحاشى اللقاء مع دافيد و مع كيفن، الكل يلعب لعبة القط و الفأر، دافيد لا يبدو لحوحا كعادته، يبدو انه انتبه للرجل الجديد الذي أخد مكانه و كان العائق بينه و بين عودة حبيبته السابقة بين ذراعيه، بينما سيزار يبحث عن القهوة لزوجته صادف تبادل جاف جدا بين الرجلين:
" أنت أكبر من أن تكون حبيبها..."
إجابة اليخاندرو أتت هادئة لكنها حادة مثل السيف:
" و أنت أصغر من أن تعرف قيمة امرأة مثلها..."
انسحب سيزار بهدوء كي لا يلمحه الرجلين و ليلتحق بزوجته.
أحذاث هذا اليوم طويلة... لا يعرف الحقيقة من الزيف... و كأن الكل يلعب دورا ما... كم يرغب برمي تعب السفر في السرير و يختلي اخيرا بزوجته التي تبدو أشد ارهاقا منه... الأحذاث انهكتها عاطفيا... لم تخفي صدمتها من كشف كيفن علنا عن حبه اليائس لفلورانس لكنها لم تعلق، اثقل الحزن فحسب نظراتها الفيروزية... تبدو مريرة أيضا... فجأة اتخذ قراره بإخراجها من هذا الضغط:
" لنرحل 'كارا'..."
" لكن؟؟" إعترضت بينما عناصر جديدة من عائلة فلورانس يصلون و يملأون الأروقة...
" فعلت واجبي اتجاه قريبي... حان الوقت لأقوم به اتجاه زوجتي..." أمسك بيدها لتغادر مقعدها:" سيكون لنا نزلاء لهذه الليلة... اتمنى الا يزعجك الأمر..."
هزت رأسها بالنفي :
" لا أبدا..."
" اليخاندرو و بيانكا..."
" سأجهز غرف الضيوف "
قبّل رأسها بعاطفة قبل أن يبتعد عنها و يهمس لها:
" إمنحني دقيقة لأعتذر من داركو و أعلمه برحيلنا..."
* * *




أميرة الحب غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 05-11-20, 02:49 PM   #3802

أميرة الحب

مشرفة وكاتبة في قلوب أحلام وكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء وعضوة في فريق الترجمة

alkap ~
 
الصورة الرمزية أميرة الحب

? العضوٌ??? » 53637
?  التسِجيلٌ » Oct 2008
? مشَارَ?اتْي » 14,442
?  مُ?إني » فرنسا ايطاليا
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Morocco
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » أميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   cola
¬» قناتك fox
?? ??? ~
https://www.facebook.com/الكاتبة-أميرة-الحب-princesse-de-lamour-305138130092638/
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

الفصل الثاني







" هيا عزيزتي لا تفعلي هذا بي... ليس الأن..."
زمجر خافيير بينما سيارته ترفض محاولاته المتكررة في تشغيل المحرك مرة اخرى، شتم وهو يرى كثلة الدخان تتسلل من غطاء المحرك، نبح كلبه الذي يجلس في المقعد الخلفي بينما يترك خافيير مقعده خلف المقود ليتفقد الخسائر، أبعد الغطاء و ارتد الى الوراء متفاديا هجوم الدخان عليه.
" هل أنت جادة؟؟ "لديه ضعف نحو هذه الشوفليه الكامارو 1990 لهذا لم يستبذلها مطلقا، و بما انه يعشق الميكانيك فقد أمضى وقته في تذليلها" هيا ... تعرفين بأنك حب حياتي... أنت الوحيدة التي لم أستبذلك يوما ! ".
إنحنى على المحرك ليتفقد العطب، كان من المستحيل لمسه بسبب سخونته، رائحة البنزين تحرق خياشيمه، استقام في وقفته ووضع يديه على خاصرتيه يتطلع للمحرك بخيبة و استياء، هذه المرة يشك أن البطارية وراء امتناع تشغيل المحرك، هذه الابخرة لا تنذر بالخير، لا امكانيات له لشراء سيارة جديدة، كما انه يحب هذه الخردة بحق الجحيم، عاد كلبه للنباح، يطالب بالخروج من سجنه المعدني، أطاعه خافيير وما هي الا لحظات حتى بدأ ينط بالقرب منه، سعيدا بحريته.
القى نظرة الى الشارع الصحراوي الامنتهي، السماء صافية تنذر بيوم جديد دافئ و مناسب لما خطط له أمس، هذه الخطط التي تذهب أذراج الرياح...
بعد خمس دقائق من الفحص الدقيق تمكن من العثور عن السبب، انخفاض مستوى سائل التبريد والرادياتير المحترق ليس بسبب الخراطيم المسدودة و لكن الترموستات و المقابس المكسوره مما تسبب بتسرب سائل التبريد... بمعنى اخر من المستحيل ان يعالج الموضوع الأن.
" اللعنة..." زمجر بغضب و هو يغلق غطاء المحرك بقوة.
الشمس العمودية بدأت بإحراق ذراعيه المكشوفتين، كان يرتدي تي شرت بلا أكمام برقبة واسعة و بنطال جنزي قديم محتك عند الركبتين من كثرة الاستعمال و ينتعل converse مريحة التي لا يتخلى عنها مطلقا.
و الأن ماذا؟؟ هذه الطريق الصحراوية المنعرجة لا يمر منها الناس عادة، التقط هاتفه و اقطب بينما يتضح له بأن الشبكة ضعيفة من هذه المنطقة الشبه محضورة... سلسلة الشتائم لم تململ كلبه الذي قبع مكانه و أستمر فحسب في التطلع اليه:
" هل تسخر مني؟؟"
نبح الكلب عندما ادرك بأنه المقصود بكلامه.
عاد يتطلع الى المنطقة التي قررت فيها 'كريستن' التخلي عنه... 'كريستن' اسم سيارته، فهو لا يملك عائلة غيرها و كلبه الذي تبناه قبل خمس سنوات خلال حرب دموية بإفريقيا في عملية بيع الأعضاء البشرية... بفضله إستعادت العائلات أطفالها و تبنى الكلب الذي فقد صاحبه ذو العشر سنوات كي يمنحه اسم الصبي و يذكره به.
لوحة طريق على بعد مترين تشير الى وجود بار على مسافة الخمس كلومترات، أخد قراره سريعا، التقط حقيبته و وضعها على ظهره قبل ان يغلق سيارته المتوقفة على حافة الطريق الطينية و يبدأ بالمشي على نفس الحافة الممتدة الى مالانهاية... لقد عاش الاسوء، ليست بضع كلومترات ما سيربك روتينه، من خلال نظارته الشمسية يراقب ريكسي الذي يركض متسببا باهتزاز عضلاته القوية و فروه الناعم.
الساعات الأخيرة لم تكن سهله العيش، جائه أفراد من وزارة الدفاع لطرح المزيد من الأسئلة عن مهمته الأخيرة، بيدر خورخيه يسيل أكثر لعاب وكالة المخابرات المركزية التي تتحالف بلا أدنى شك مع الانتربول، هذه الأخيرة تغريها كثيرا فكرة الاطاحة بأشد الاشخاص المثيرين للجدل... لم يكن يعرف بأن 'روكو ايميليانو' يملك أعداء من العيار الثقيل... مالذي يخفيه لتشعر الـ C.I.A بالتهديد؟؟ بشكل أو بآخر المخابرات الايطالية تحمي بشدة ابن بلدها، حتى الأعضاء الأشد قوة يرفضون بيع رأسه... من هو صديق توأمه في الأصل؟؟ رئيس عصابات شديدوا النفوذ؟؟ أم رجل مستقيم يعرف تماما كيفية تحريك الرؤوس الكبيرة تماما مثل دمى الخيوط؟؟
ان كان ذلك الرجل بكل هذا الذهاء و الذكاء... هل سينجح بإختراق حميمته دون أن يثير الشبهات؟؟ انه رجل ميدان و اسلحة... و ليس ممثل في مسلسل عاطفي... اذ هذا فعلا ما تريده الانتربول منه... ان يغري صوفي الصغيرة و يستعملها للحصول على معلومات تطيح برأس الايطالي الجبار الذي يهابه كبار السياسين.
صفر لكلبه الذي ابتعد كثيرا يبحث عن فريسة بين ثلال الاثربة الحمراء بينما يلمح أخيرا المبنى المتواضع على بعد أميال قصيرة، عاد يتفقد هاتفه، مازالت الشبكة سيئة و هو خارج التغطية، بعد أن هدر عدة سعرات حرارية وصل أخيرا لمراده، الجو بارد في الداخل بفضل التهوية المركزية، كان هناك كونتوار فارغ سوى من المشروبات التي تعرض في كل مكان، كراسي و طاولات فارغة، جهاز تلفزيون مشتعل على الحائط، و رائحة القهوة تعبق في المكان.
" مرحبا.." صرخ ليعرّي عن وجوده.
جلس خلف الكونتوار و وضع حقيبة ظهره على الكرسي بجانبه، فجأة ظهرت امرأة في اطار الباب الصغير .
" مرحبا... فقط لحظة..."
بحث بعينيه على هاتف أرضي ولمحه، سينتظر صاحبة المحل ليحل مسألة نقالة السيارات.
عندما عادت المرأة رآها تبتسم له ملئ فمها، كانت يديها مبللتين و كأنها تقوم بتنظيف شيئ.
" بما يمكنني مساعدتك؟"
" هل يمكنني الحصول على جعة بعد استعمال الهاتف؟؟ تعطلت سيارتي على بعد خمس أميال تقريبا..."
رآها تلتهمه بنظراتها القاتمة، كانت تتطلع له بفضول أنثوي دفع الابتسامة الى شفاهه.
" لا بد أنك محظوظ كي تتركك على بعد ضئيل من هنا... " منحته الهاتف و استدارت نحو الثلاجة لتخرج له بيرة و تفتحها:" إسمي 'ماندي'..."
صافح يدها وهو يرد:
" و أنا 'ترافيس'... "
انحنت بساعديها أكثر على الكونتوار، كانت ترتدي قميص (كارو) معقود على خصر نحيف، و شورت جينزي بالكاد يغطى مؤخرتها، شعرها الاشقر مندسل حول وجه يجده جذابا... مثال للمرأة التي يمضي معها ساعة نشوة جسدية. و ينسى أمرها بعد ذلك.. ان استمرت بالتودد اليه بهذه الطريقة فلن يرفض دعوتها... منذ 'نتاليا ' لم يلمس امرأة.
أخبروه هاتفيا بأن عربية النقل ستصل بعد ساعة، أعاد السماعة لمكانها بينما المدعوة (ماندي) تلتقط بيرة أخرى و تفتحها أمامه...
" أنت من الجوار؟؟"
" انتقلت للعيش مؤخرا "
" من أين أتيت؟!.."
"من 'شاني' في ولاية 'أوكلاهوما'..."
" مالذي اتى بك الى فلوريدا؟؟" سألته وهي تترك مكانها خلف الكونتوار لتقترب من ريكسي الذي جلس تحت كرسيه.
" لقمة العيش..." غمز لها وهو يبلع من عجته الباردة "أعمل في شركة بناء"
" أفهم الأن السبب وراء هذا الجسد الرائع...أحب الرجال الأقوياء"
كانت تغازله دون أن أي تردد..
" وهذا ريكسي... " أشار الى كلبه بينما تهتم به هذه الأخير و تحاول لمسه:" انه يكره ان يلمسه غيري..."
بانت التسلية في عينيها و دنت منه تحملق مباشر في عينيه:
" لابد أنها أنثى... لو كنت مكانها لما رغبت بأن يلمسني غيرك..."
جيد جدا... لديه ساعة من التسلية الى أن تأتي عربة النقل، منحها ابتسامته المغرية، الابتسامة التي اختفت بينما يثير اهتمامه صورة الرجل التي تحتل شاشة التلفزيون، انه 'روكو ايميليانو' في مطار 'لوس انجلس'، هذا الرجل لا يظهر أبدا في الاعلانات، لايبدو سعيدا بإستقبال الميديا له.
شيء لا يصدق... العرّاب يملك من الهالة و الطاقة ما يضعه في مرتبة زعيم دولة جبار... حتى من خلال كامرات التجسس الاعلامية لا يترك مجال للمتفرج بأن لا حدود لنفوذه... هل شقيقته الصغيرة بهذه القوة؟؟ ان صحّت ظنونه فلا فرصة له بالاقتراب منها لسيما بإغرائها...
آلف التعامل مع الأوساط الوسخة و اغراء نساء بخطورة نتاليا و غيرها... مطلقا لم يحتك بالراقيات اللواتي كبرن في بيئة معقمة... قد تنفر صوفي من مظهره السوقي، من عضلاته ووشومه التي تحمل كل انتصاراته.. لاشيء من مظهره يشير لرجل صالح.
" إرفعي صوت التلفاز من فضلك..."
بدت الفتاة لوهلة مندهشة لهذا الطلب بينما تأتي على منحه ما سيلهيه للدقائق القادمة، فعلت ما طلبه منها، لم يكن ايميليانو بمفرده بل مع خوسيه مارتينيز، يعرف هذا الأخير منذ سنوات طويلة اذ انه يرتبط بتوأمه عمليا و بينهما صفقات بملايين الدولارات، كانت الحماية مشددة لدرجة أنه استحال على الميديا الاقتراب منهما، استمرت المذيعة بالتعريف عن الرجلين و تقرنهما بالأمير 'داركو فالكوني' زوج ابنة النجمة الشهيرة فرجينيا.
" تكرر هذا الخبر الف مرة هذا اليوم... " سمع المرأة تقول في ظهره:" كيف يعقل لرجل واحد أن يكون بكل هذا الثقل التاريخي و السياسي؟؟ كما يُقال ان ابنة المغنية في غيبوبة... "
و يبدو أن الميديا تهتم أكثر لزيارة ايميليانو للأرض الأمريكية على إصابة فلورانس ريتشي شخصيا، هل ستعمل وكالة المخابرات المركزية على ابقائه هنا و الاستفاذة من الوضع؟؟لا بالتأكيد... هذا الرجل ممنوع لمسه... حتى من يُلقي أوامره العليا متورط معه بشكل ما.
منح ظهره للشاشة عندما انتهى الخبر لتنتقل المذيعة لموضوع اخر، ابتسم للمرأة التي برطمت:
" يبدو ان الأخبار تهمك أكثر من رفقتي شخصيا..."
" أنت ظالمة...." أعترض بنعومة.
" سأخبرك سرا..."انحنت مجددا على الكونتوار كي تمنحه هذه المرة رؤية شاملة على صدر جميل و تترك أصابعها تتدحرج على بشرة ساعده صعودا نحو ذراعه:" لدي ضعف نحو الـ bad boy ... و أنا أشعر بالملل في هذا المكان الشبه نائي..."
ابتسم خافيير و أمسك بخصلة من شعرها ليقرب وجهها منه و يحملق مباشرة في عينيها:
"سأخبرك سرا... أحب جدا اسداء الخدمات للفتيات الجميلات"
* * *
" مرحبا ايها البطل"
عدم التصديق على وجه فرانكو جعل ديامانتي تشعر بالتسلية، هو الذي الفته يحسب الف حساب لكل شيء ولا ينجح شيء بمفاجأته، كان يقف خلف نافدة تطل على الشوارع الواسعة في الخارج، ذراعه ملفوفة بشاش ابيض بينما هيئته لم تتغير على اخر مرة رأته فيها... مازال مهيبا.
" mia principessa { أميرتي}"
رغم كل ولاء فرانكو لزوجها السابق الا انه بشكل ما كان بجانبها و يحميها بولاء مماثل، لقد انقذها من الموت عندما قررت ديل ماريا رميها في البحر المظلم و التخلص الى الابد منها، تدين له بحياتها، حتى انه غامر بعمله عندما سجنها داركو و انتزع منها ابنها، لقد وقف بوجه الامير الذي وضعه في مكانه و ذكره بأنه هو من يدفع له و ليس هي.
" لم أعد أميرتك منذ زمن طويل" علقت بإبتسامة عريضة وهي تتقدم منه " أعرف بأنك تكره العناقات "
دون ان تترك له فرصة التفكير اقتربت منه و عانقته بمودة " سعيدة لأنك لم تصب بأذى..."
شعرت به يتشنج بقوة تحتها، لم يلتقط انفاسه الا بعد ان قررت الابتعاد عنه، هزت رأسها نحو وجهه الوفي لجليديته الاعتيادية، لكن الدفئ في عينيه الزيتونيتين كشفتا سروره برؤيتها.
ان كان نيوس موافق على وجودها في هذه المستشفى؟؟ نعم هو مجبر، لأنه بالمقابل هنا فصديقه مارك أنطونيو في المكان نفسه، و بما أنه صديق حميم للريتشي فلا مفر أمام مواجهة حقيقية لداركو فالكوني و كل أصدقائه الجبابرة، الأمير الذي لا يبرح مطلقا غرفة أم ابنه، كيف يمكن لفلورانس أن تشك بحب هذا الأخير لها مجددا؟؟!
لم تفقد سيطرتها على نفسها بينما تخبره فحسب برغبتها بالمجيئ و الاطمئنان عن فرد من عائلتها... حسنا... فلورانس لا تقربها، ولا تظن بأن هذه الاخيرة تحبذ مجيئها للاطمئنان عليها، لسيما بوجود داركو في الجوار، انها تغار عليه لدرجة تتخطى التعقل... لسيما منها هي.
نيوس حافظ على هدوئه، و كأنه توقع منها هذا التمرد، هي التي اتخذت قرارها بعدم كبث رغباتها لإرضاء أحد مجددا، أمضت عمرها بالتنازل ثم التنازل و لم تحصل يوما سوى على التجريح و الخذلان... أضحت امرأة جديدة و هذا يعجبها.
" أرى بأنك في حال أفضل أميرتي" ابتسمت، رغم اعتراضها يستمر لوح الثلج بمناذاتها بالأميرة" اتيتي بمفردك أم أن نيوس ليونيداس هنا؟؟؟"
" لا تخف... لن يتم تبادل الرصاص في الرواق... وصل اصدقاء الأمير و اختطفوه فورا مما يمنحنا حرية البقاء مع المريضة و عائلتها... " أمالت برأسها جانبا والتقطت يده المتيسبة الأصابع " و أنت فرانكو... ما أخبار إصابتك؟؟"
انزلقت عيناه على وجهها قبل أن تستقران على يده التي تعصرها بين أصابعها.
" إصابتي ليست بعمق إصابة السيدة..."
ضحكت ديامانتي:
" تناديها بالسيدة بينما تناديني أنا بالأميرة؟؟ "
لم يكن يبتسم، عاد ينظر مجددا الى يده قبل أن يعيدها اليه:
" ستظلين أميرة بالنسبة لي..."
شعرت ديامانتي بكلماته تلامس قلبها، تعرف بأن فرانكو يحمل لها الكثير من المودة و انه طالما ساندها و مطلقا لن تنسى له ولائه و لا وفائه لها.
طبعت ملامح وجهه المألوفة في ذاكرتها، قد تكون آخر مرة تراه فيها و ربما لا، فرانكو من عمر رئيسه، لكنه يبدو أكبر سنا بسبب جديته المستمرة، لم تره يوما يبرز اي نوع من انواع العاطفة، كان يملك نظرات زيتونية تقريبا سوداء حادة كالسيف، من شدة زمه لشفاهه نمت تجعيدة حولهما، كما علامة V بين حاجبين كثين، أنفه لابد انه كسر مرة أو مرتين و نذبة صغيرة تمر عبر شفته السفلى... محارب و مصارع، هذا ما عليه هذا الرجل، عيوبه تزيده سحرا و رجوله.
انها تحفظ الوشوم على ظهر يديه... تتوقع ان الاسمين عليهما يعودا للعائلة التي فقدها قبل سنوات عديدة... سبق و اخبرها داركو القليل عنه.
ادلفت يدها في جيب بنطالها الجنزي و اخرجت منه علبة صغيرة، استرسلت في الشرح بينما تُخرج منها سلسلة ذهبية:
" هذه هدية من امرأة كنت أسهر عليها و فشلت معركتها ضد السرطان... أخبرتني بأن الله يحرصها... كنت أرتديها عندما القت بي ديل ماريا في ذلك البحر و لم أفقدها يوما طيلة العقبات التي تلاحقت هذه السنوات الأخيرة... أظنها تجلب الحظ و سأكون مسرورة ان قبلتها مني فرانكو... فأنت أنقذتني من الموت مرتين... "
تقطيبته ازدادت عمقا:
" قمت فحسب بعملي..."
" أتيت بي شخصيا لقبيلة الغجر في تونس و استمئنتهم علي و لم تُعدني بالقوة الى الأمير... كذبت من أجلي بينما تخبره بأنكم فقدتم أثري... أنت لا تفقد أثر أحد فرانكو لأنك الأجذر في عملك و أنا لست بنباهتك كي أفر من بين يديك... أنت حميتني منه و من فكتوريا..." وشوشت وهي تدنو أكثر منه لتتطلع مباشرة في عينيه" أعرف بأنك كنت على تواصل مع الطبيبين الذان أنقذاني من موت محتم في صحراء تونس... "
بقي صامتا يحملق في عينيها، تعرف كم هو وفي لداركو... لم تفهم يوما لما يضحي بعمله من أجلها.؟
" أخفيت عن داركو عنواني في سردينيا..."
" بل أخبرته..." أجابها ميكانيكا.
" ليس قبل أن أضع مولودي بسلام... " قالت له وهي تلتقط يده و تضع القلادة في راحته :" لن أنسى أبدا بأنني أدين لك بحياتي وحياة آريوس أيضا... "
أهذابه الكثيفة الحالكة السواد تركت ظلالا على وجنتيه البارزتين بينما يُحني عينيه ليلقي نظرة عما في راحته، ثم هزهما مجددا نحوها و لانت نظراته الشديدة الحدة:
" هل أنت سعيدة معه ؟" سألها بنبرة من يهتم حقا لأمرها " هل وجدت مع اليوناني ما لم تجديه في الأمير؟؟"
لا... لقد خيب ظنها كثيرا...كادت أن تجيبه بكل الصراحة التي تقدر عليها، لكنها خجلة من ان ينتقض كل تضحياتها، رغم كل شذوذ نيوس الا أن قلبها السخيف يميل دوما اليه، تنهذت و ابتسمت وهي تحط يدها على بطنها المسطحة:
" نحن ننتظر طفلنا الثاني... و أنا سعيدة جدا"
بقي بلا رد فعل، كان يقيمها بينما اغلق ببطئ أصابعه على الميدالية الذهبية التي اهدته اياها، لاحظت التفاصيل الصغيرة لنذوب على مفاصل أصابعه، رجل امضى عمره بالقتال... رجل غامض وضع وفائه للامير جانبا و هرع لمساعدتها دون انتظار أي مقابل.
" سعدت برؤيتك فرانكو..." وقفت على اصابع رجليها لتقبل خده:" اهتم بنفسك... لن أنساك أبدا"
من الصعب القراءة في وجهه، أتت لتقلب صفحة من ماضيها، لم يفضل لها سوى داركو... لا تعرف ان كان سيسمح لها حتى بالاقتراب منه، لكنهما اسرة شاء ذلك أم أبى... ربما روبي محقة، وربما هي مندفعة ايضا وراء رغبتها بأن تريه بأنه لم يتمكن من سحقها حقا و دفعها للجنون، لا تفهم حقيقة دوافعها... لكن ما تؤمن به أن غلق تلك الصفحة اللعينة هي بهذه المواجهة مع ماضيها الذي مايزال يرهق كوابيسها.
بعد ان ابتعدت خطوتين استدارت نحوه فجأة، كانت عيناه ملتحمة بها و لم تتزحزح:
" هل يمكنني أن أطلب منك طلب أخير؟؟"
الـ V بين حاجبيه ازدادت عمقا، بدى على أهبة الاستعداد، أمال رأسه ليراقبها، بنفس الطريقة التي يتبناها عندما يكون بصدد حراستها.
" كل ما ترغبين أميرتي..."
لانت ملامحها... لن يتوقف عن منادتها بهذه الطريقة مهما طلبت منه ذلك.
" هل يمكنني الحصول على ابتسامة؟"
لا... لم يكن يتوقع طلب مماثل، لكنها ترغب باكتشاف ما تكون عليه ملامحه عندما يبتسم، ثم حصلت المعجزة، شعرت بالسرور يدخل قلبها بينما يكشر اخيرا على أسنان بيضاء لم تتح لها الفرصة يوما برؤيتها، ابتسامة تسلية بهذا الطلب الذي لم يتوقعه منها... سعيدة أن تسليه و تحصل منه على شيء حصري يخصها وحدها فقط.
" شكرا لك فرانكو... أنرت يومي"
" و أنت أنرته أيضا... حظا موفقا أميرتي... أتمنى لك السعاده مع ليونيداس و تهاني الحارة لطفلك القادم..."
شعرت بالدموع تحرق مقلتيها، هذه أطول جملة نطق بها فرانكو أمامها... أدارت له ظهرها و غادرت هذه المرة الغرفة بحق .
* * *
داركو فقد من وزنه و هذا أول ما لاحظ روكو بينما يرى صديق عمره في أروقة المستشفى، السفر كان مريحا، الاستقبال مريبا في المطار، لحسن حظه انه يملك حراسة مشددة و سانتياغو مثل المعتاد عزز التأمين لاستقباله، الامير قفز عليه ما ان رآها، انه يريد اجوبة، يريد معرفة المتسبب في المصيبة، كل عائلة الريتشي في المستشفى، لكنه مهتم لفرد واحد منهم... جوشوا ديكاتريس.
" لما تريده؟؟" سأله داركو بفارغ الصبر.
" أحتاج لبعض الأجوبة و لا أنوي تكرار تفسيراتي مرتين..."
يجهل روكو متى سيتمكن صديقه من التأقلم مع هذه العائلة الانجليزية منها اكثر من الايطالية، مشكلة روكو انه حذر لدرجة كبيرة جدا، لا يثق في الاماكن العامة، يعرف بأنه مراقب دوما، بأنه متعقب، حذره يتخطى حدود التعقل عندما يغادر الاراضي الايطالية، لكن ان يقنع الأمير بمغادرة المستشفى لبعض الوقت هي مهمة صعبة.
" لا يمكنني تركها" اعترض كما توقع"ماذا ان استيقظت ولم تجدني؟؟"
لا يمكنه كتب لائحة بالاسماء الموجودة في المستشفى، داركو يعيق كل محاولة زيارة.
" انت بحاجة لحمام و لحلق ذقنك... تبدو بحالة سيئة"
جوشوا لم ينبس بكلمة عندما طلب منه مرافقتهم، سانتياغو اختار اشد الفلل أمنا للاقامة القصيرة، يؤسفه ان تتقاسم جوليانا هذه الخلوة التي كان يتمناها مع اصدقائه فقط، لكنها امرأة رقيقة جدا و سرية و لا تزعجهم بحضورها، تعرف تماما متى عليها الاختفاء و متى لا يكون مرغوب بها...
" سوف اعود اذراجي الليلة..." شرح روكو وهو يجلس على الارائك الوثيرة امام المسبح المتلألئ المياه.
" بهذه السرعة؟؟" اعترض صديقه كما توقع.
" لا أحب هذا البلد... يانيس كان ممنوع من الدخول اليه " أمام ملامح جوشوا شرح له روكو " يانيس هو والدي... كان رجل مهم جدا..." التقط جوشوا بالتأكيد تهكمه، تأمله العراب بتأن قبل أن يقول: " املك الكثير من التعاطف نحو الكونت اندريس... تعرض للعديد من الضغوط و الصدمات... موت ابنته في حاذثة السير... تعرضك شخصيا لمحاولة اغتيال، حاذثة زوجته و هذا الاعتداء الناري على فلورانس" التقط سجاره ليسرع سانتياغو مثل المعتاد لإشعاله :" يحذث ما يمنع الكارثة في كل مرة... أنقدك سكان التاكا المفقودون في الالسكا... فرانكو حال دون وقوع المآساة... "
" ارى بأنك تعرف عن حياتي الكثير..." قال جوشوا.
" أعرف ما أريد معرفته... مثلا أنا وراء دخول خاطف لينيتا دا ماتا للسجن... والدك طلب عون الأمير سيليو الذي طلبها مني بدوره...و أنا لا أرفض مطلقا مساعدة الأصدقاء"
بدى الإهتمام على وجه جوشوا و لمعت عيناه الخضراوين ببعض التقدير، تابع روكو متجاهلا قلة صبر داركو:
"فلنبدأ بـ 'نيو- ميكسيكو'... خوانيتا؟"
عبقري الرياضيات لا يحتاج لنباهة أكبر ليفهم تماما الى أين يريد الوصول، بدت نظراته حذرة فجأة:
" ظننت الموضوع متعلق بمحاولة الاعتداء عن شقيقتي؟..."
" لم تجبني عن سؤالي..." نبهه بصوت ناشف.
صمت جوشوا قليلا و كأنه يحاول تجميع أفكاره:
" الكونت يجهل بالموضوع كما الحال مع مارك أنطونيو..." هز روكو رأسه متفهما.
" يمكنك التكلم، فما ستقوله لن يخرج من هنا"
صمت جوشوا مجددا و غرق في أفكاره، راقبه يحاول التراجع أو ربما ايجاد الكلمات ليبدأ في كلامه، في النهاية هز نحوه نظرات عازمة و استرسل في الكلام:
" قمت بزيارتها بعد تعرضي لمحاولة اغتيال و فقداني الذاكرة، بحتث عن أجوبة لأسئلتي فقد أرسلت فريقا للبحث عني بسرية و دون علم أبي.... "
" من هي خوانيتا..." تدخل داركو فاقد الصبر " ما علاقتها بما حصل لزوجتي؟؟"
" خوانيتا هي نفسها ايمانويلا، والدتي..." شرح جوشوا لزوج أخته قبل ان يعيد اهتمامه له..." أمي رفضت قطع علاقتي بها، لديها هوس حقيقي اتجاه طفلاي و تريد أن تكون في حياتهما شئت ذلك أم أبيت... رغم كل شيئ استمريت بمنحها أخبار عنهما و ارسل لها صورهما دون علم الكونت او مارك... أشعر بالذنب نحو أخي... لأنها لا تسأل عنه أو عن توأميه... " رآه يأخد نفسا عميقا، يبدو بأن التكلم عن ايمانويلا موجع جدا بالنسبة اليه:" انها أمي... أرفض أن يتم ايذائها، تقول بأنها ليست وراء هجوم القاتل المأجور على لينيتا، تتهم توأمها بإختفائها طيلة السبع سنوات... أريد تصديق ادعاءاتها... أريد تصديق بأنها ليست الوحش الذي يصفها به الجميع"
انه يفهم نعم... هو نفسه في وضع مماثل مع يانيس ايميليانو، لكن جوشوا مخطئ جدا ان ظن أن والدته ليست الوحش الذي يصفها الجميع به.
" كانت متزوجة من 'ريكاردو لا ايستيلا'.."
أقطب جوشوا متسائلا:
" كانت؟؟"
" انها أرملته..." شرح روكو بهدوء وهو يضرب بخفة على سجاره في المرمدة:" لا ايستيلا توفي السنة الماضية في ظروف غامضة، و خوانيتا ذكية و نبهة، طورت امبراطورتيه و اصبحت من أشد الشخصيات تأثيرا في السوق السوداء... فعلت ما لم يقدر عليه زوجها، تحالفت مع أعدائه و سيطرت على السوق، و بما أن ريكاردو يملك عائلة شاسعة جدا و لم تكن لترث ثروته بعد موته، لذا خضعت للجراحة كي ترزق منه بطفل و نجحت... "
رغم صبر داركو القليل الا انه لا يتدخل، كان يستمع الى ما يدور حوله بلا اعتراض، روكو يكره الثرثرة لكن على جوشوا ان يتعلم حماية عائلته و يعلم بالتفاصيل:
" تقصد أن لي نصف أخ؟؟" سأل جوشوا بغير تصديق.
" اسمها ' فرانسيسكا نتاشا لا ايستيلا'... و عمرها التسعة أشهر... ورقة خوانيتا الرابحة لوضع يدها على مجموع ثروة لا ايستيلا الذي مات قبل ان تشهد ابنته النور... حتى ابنائه من زوجاته السابقات لم يحصلوا على فلس واحد... عمل ريكاردو على ان تكون وصيته بإسمها فقط و الطفل في بطنها"
سقط الصمت عليهم، ترك للرجل فرصة استعاب القنبلة التي فجرها في وجهه، وجه جوشوا فقد كل اثر للدم و بدى بعيدا فجأة بأفكاره، التقت نظراته بداركو الذي كان يمرر اصابعه بين خصلات شعره لتهدئة عصبيته بلا أدنى شك:
" شريك 'ديل ماريا' سيباستيان يشتري أسلحته من خوانيتا بطرق غير مشروعة، لهذا توصلت اليها، في البداية لم أهتم حقا بأمرها فهي محصنة جيدا، تكرر هذا الاسم أمامي بينما اتصالاتي تعثر على المهاجمين الذي تجرأو برمي أختك بالرصاص، التأكيد أتى فورا ممن هم أعلى مكانة، فلورانس و فرجينيا على لائحة اقتناص... خوانيتا ترفض أن يشاركك ثروة الكونت أحد أخر..."
" لا...." زمجر جوشوا وهو يقف من مكانه شفاهه مصفرة و نظراته فارغة " لا أعرف من أين تأتي بهذه المعلومات و لا بد أن مصادرك مشكوك فيها... "
تجاهل روكو ملاحظته و استمرت بشرحه:
" انها تؤمّن مستقبل الطفلين الذين أعترفت بنفسك قبل لحظات بأنها مهووسة بهما... بنظرها انتم الثلاثة من تستحقون ثروة الكونت أندريس"
اذا شحب وجه جوشوا من الصدمة فشحوب داركو كان من الغضب، انه لا يشك مطلقا بمصادره، ايمانويلا لم تنسى يوما أمر الكونت أندريس على مايبدو، فهو مراقب على الدوام، بنظرها فرجينيا أخدت مكانها، و حملها يهدد بسلب ابنها كل حقوقه... وبما انها تتمتع اليوم بنفوذ كبيرة يمكنها تنفيذ ما فشلت به في الماضي، الانتقام من الكل.
" اذن... لا 'ديل ماريا ' و لا 'كيفن غراي'..." تمتم داركو بعدم تصديق:" كنت متأكد بأن ... الممثل وراء الهجوم"
هز روكو رأسه بالنفي، كان من السهل جدا أن يكون كيفن في الواجهة، للاسف أن الموضوع أكثر تعقيدا من هذا، عموما فقد حصن بنفسه عائلة الكونت، خوانيتا ستتراجع في جحرها الحقير ما ان تصلها المعلومات بأن أفراد هذه العائلة تحت حمايته شخصيا.
" لن تتوصل الشرطة لشيئ... " قال روكو :" اختفى المهاجمين فخوانيتا ليست غبية لتتركهما خلفها... السؤال هو، هل تنوي مصارحة الكونت؟؟"
" لا..." رفض جوشوا:" الكونت يعاني مع قلبه، حياته مؤخرا تتخذ مسار جيد فهو سعيد بدور الزوج و الأب الذي يجهز بنفسه غرفة طفله القادم... لا اريد أن يُعكر صفوه شيئ... "
وقف داركو بدوره، يعرف بأنه يحاول بلع خيبته الشديدة، لا يمكنه أخد العدالة بيديه بما أن خوانيتا تصرفت قبل ان تطبق حصانة روكو على العائلة، هذا يعفيها كليا امام كبار الرؤوس و بما انها تملك حصانة هي الاخرى فلا يمكنه فعل شيء، انها حرب مختلفة تماما عن تحريات الشرطة البديهية و البسيطة، هناك قوانين صلبة تجري على أصحاب النفوذ من المستحيل تجاوزها حتى روكو الجبار بنفسه، خوانتيا تعرف تماما حدودها، ان اخترقتها فستفقد حصانتها و ينقلب الجميع ضدها و تسقط امبراطوريتها... سبق و تعامل يانيس مع ريكاردو و احتفظ له ببعض اسرار تعاملاته الناذرة لديه ايضا سجلات ناذرة، قد يستعملها ضد ارملته ذات يوم عندما تغريها فكرة العبث مع فرد من محيطه.
" الا ترى بأنه من الغريب جدا أن يكون شريك ديل ماريا على تعامل بخوانيتا؟؟ " سمع داركو يقول " انها صدفة غريبة جدا..."
يعرف تماما الى اين يريد الوصول لأنه شخصيا فكر بالاحتمال نفسه:
" العالم بأسره يتعامل مع خوانيتا... زوجها كان من كبار تجار الاسلحة في العالم... لكن هذا يبعد الشبهات عن ديل ماريا... ربما نعم... و ربما لا... اسم خوانيتا فقط على الرقم الكبير الذي تغري به صيادين الرؤوس الكبيرة و ليست فكتوريا" أعاد اهتمامه لجوشوا الذي فقد قدرته على الكلام" الكونت لن يترك الموضوع بهذه السهولة, أخبرني بأنه سيكلف متحريين لمساعدة الشرطة و ايضا جزية بنصف مليون لمن يعثر عن المعتدي... أتفهمه، فهو أب غاضب و ينوي ادفاع الثمن لمن تسبب بأذية ابنته... و ذات يوم... عليك اخباره بأنك ماتزال على اتصال بوالدتك و بأنها وراء ما يحذث "
لم يرد جوشوا اكتفى بإلقاء نظرة أخيرة قبل ان يغادر الحديقة بإتجاه مخرج الفيلا.
* * *
خوسيه يفرض عليها العودة العاجلة لكنه لا يكلف نفسه عناء البقاء لإستقبالها، لم تخفي سيسيليا حماستها بعودتها و دانيلا تشعر بأن شمس مدريد ليست كافية لتنير هذه الظلمة في صدرها، انها تفتقد اليساندرو بشدة، هذا الأخير لا يتوقف عن الكتابة لها وهي لا تتردد على الاجابة الفورية لرسائله، عكس توقعاتها، اليساندرو لم ينساها بمجرد ادارتها ظهرها... انه متشبث حقا بها.
المجنونة التي اختارت ربط مصيرها بالرجل-الآلة مثل وصيها عكس ما تخيلتها تماما، لا تنتمي مطلقا للنوع الذي قد يغري رجل مثل خوسيه، لا تبدو متمرسة و لا صائدة ثروات، الصدمة نجحت بإخراسها بينما تراها محملة بحقيبة كتب على ظهرها جينز leve's قديم، قميص مخططة خارج الموضة و حذاء بسيط، كانت تتصادم بشدة مع منظر قلعة وصيها التي تتربع على عرش أجمل القلع الاسبانية، بحق الله من اين اتت هذه الفتاة؟؟ كيف تمكنت من اثارة اهتمام وصيها كي يجعلها حامل؟؟ كانت هذه الأخيرة تبتسم ملئ فمها لكارلوس ابن السائق بينما يدس هذا الأخير في يدها مجلد أسمر الغلاف، انزلقت دانيلا من كرسيها الطويل بالقرب من المسبح ووضعت عليها فستان شاطئ قبل أن تقرر التعرف أخيرا عمن تحمل وريث المارتينيز.
كلما تقلصت المسافة كلما حصلت على مرآى شامل لوجه شاب رفيع الخطوط، فجأة أدارت الشابة وجهها نحوها و قد شعرت بوجودها، اصتدمت دانيلا بعينين رائعتين ووجه خال من أي زينة أو عيوب، اختفت دهشة هذه الأخيرة كي ترتسم ابتسامة واسعة على وجهها:
" لا بد أنك دانيلا... أخبرتني 'دونيا سيسيليا' بأنك ستصلين اليوم..."
أخدت بيدها دانيلا مصافحة، لا تحمل خاتم خطوبة و لا زواج، اسبانيتها صحيحة جدا و لا تملك لكنة، قيُمتها مجددا، هل سيسليا و خوسيه يسمحان لها بالخروج بهندام مماثل؟؟ هما اللذان يمنحان المظاهر كل الأهمية... أو ربما آيا من حزمت امرها معهما و ووقفت في وجههما؟؟ ان كان الأمر كذلك فلابد أنها ستعشق هذه الفتاة.
" وصلت هذا الصباح... كنت قد غادرتي للجامعة..." ردّت دانيلا مبتسمة:" هذه الكتب ثقيلة عليك..." ادارت اهتمامها لإبن السائق الذي لم يتزحزح من مكانه، ثمة صداقة بين الاثنين بلا أدنى شك" خد أغراضها الى غرفتها كارلوس..."
" أه كلا... سبق و عرض المساعدة لكنني رفضت... " اعترضت آيا بلطف:" سوف أجهز نفسي للعشاء و التحق بك دانيلا... يسعدني التعرف عليك فلم تتوقف 'دونيا سيسيليا' بالكلام عنك..."
المرأة التي عادت للعشاء كانت مختلفة تماما عمن رأتها محملة بالكتب، الان تفهم لما سقط خوسيه تحت سحرها، انها خليط من البراءة و الأنوثة الطاغية، كانت ترتدي فستان 'فرساتشى' أزرق و صندال عالي الكعبين من توقيع برادا يبرز روعة ساقين رائعتين بلون حليبي، شعرها الذي كان مصفف من قبل في تسريحة صارمة تركته ينساب بنعومة من حولها، سيسيليا لا تتنازل مطلقا عن الاناقة في طاولة الطعام، و 'آيا' بالتأكيد تحترم هذه القوانين.
بعد أقل من ربع ساعة وجدت نفسها ترتبط في صداقة غنية مع الفتاة التي اختارها خوسيه دونما نساء العالم، كانت حلوة المعشر، ذكية جدا و رزينة مقارنة بعمرها، عرفت بأنها تستأنف دراستها في جامعة خاصة و من اسم الجامعة تُقدر المبلغ الذي سيتم دفعه شهريا لهذا الغرض، أخبرتها بأنها تتكلم سبع لغات و بأنها تأمل بالحصول على الدكتوراه بإمتياز... رباه... مالذي تفعله هذه الفتاة مع خوسيه؟ أو مالذي يفعله خوسيه معها؟؟؟ هو الذي لا يحب النساء الذكيات و مهووس بالتنمق و السيطرة، تبدو حرة و متمردة... نوع النساء اللواتي يرفضن قبضة أحد عليهن.
" كيف كان تعارفكما انت وخوسيه؟؟" لم تمنع دانيلا نفسها من السؤال:" أنت... بعيدة كليا عن نسائه الاعتياديات..."
ضحكت آيا ضحكة رنانة:
" لحسن حظي انني لا أشبههن... " هزت كتفيها و لمعت بشرتها الخزفية تحت الأنوار التي بدأت تحل محل الشمس الراحلة:" ربطتنا مغامرة و نتج حمل بعدها... لا شيء رومانسي فيما عقب... خوسيه يريد وريث و أنا أريد حياة أفضل لابني فتوصلنا الى اتفاق..."
كشرت دانيلا غير قادرة على كبث اشمئزازها، لكن آيا لا تبدو متأثرة بملامحها المكشرة، وصلت سيسيليا في هذه اللحظة لتنهي حوارهما المحتدم، عكس ما توقعت، ربما الأيام لن تكون بالملل المتوقع مع كومة الطاقة التي هي عليها زوجة خوسيه.... زوجته على الورق بتعبير أدق.
* * *
" لقد تعبت... لا يمكنني المتابعة"
لا تتذكر كم من مرة تكرر صوفي هذا بينما اخصائيين التدليك و الحركة يحاولون مساعدتها لتحريك جسدها، كان مزاجها سيئ جدا مثل المعتاد كما انها لا تتجاوب بالطريقة التي يرغبها الاخصائيين، لكن هذه المرة الفريق لا ينوي الاستسلام، ابقوها رغم اعتراضها و دموعها في بركة السباحة لتتمكن من تحريك ساقيها.
أخفت سابرينا دموعها مثل المعتاد و التقطت لها صورة خفية لترسلها الى روكو الذي رد على رسالتها بسرعة:
{ ادفعيها للتجاوب...}
{ كل كلامي لم يعد نافعا...}
{ مادورك ان لم تحمسيها بالمقاتلة؟؟ افعلي شيئ واحد جيد في حياتك سابرينا}
اغلقت هاتفها، ثم بعد أقل من خمس دقائق كانت قد استبدلت ثيابها بثوب سباحة و دخلت الحوض معها، عندما اخدتها بين ذراعيها انفجرت هذه الاخيرة في البكاء:
" لا أشعر بساقاي"
" كل عضلاتك سليمة صوفي ولا تعانين من شيء... عليك المقاومة و بذل جهذ كبير لتستعيدي الاحساس بها... هؤلاء الاخصائيين يعرفون تماما ما يفعلونه لذا لا تعاندي اتوسل اليك و كوني اقوى من هذا... هيا 'كارا'... أنا معك و سأدعمك..."
تخللت الحصة الكثير من المجهوذات النفسية و الجسدية، بدت صوفي تعاني بحق كما عانت في الحصص السابقة، من الصعب جدا رؤيتها تعاني دون القدرة على أخد مكانها مثلا، و كم تتمنى لو انها هي من كانت وراء ذلك المقود اللعين و ليس طفلتها الصغيرة.
" رائع... هذا رائع... أنت تبلين حسنا" سمعت المدرب يشجعها بنبرة صادقة " استمري بالدفع بهذه الطريقة..."
عندما انتهت الحصة كانت صوفي خائرة القوى وهي ايضا، ليس جسديا بل نفسيا، ساعدت الممرضة في تحميمها و الباسها البيجاما، عندما تم وضعها اخيرا في السرير غطت فورا هذه الاخيرة في النوم.
صورة أخيرة لروكو الذي يطالب كل الوقت بصور ابنته بالرغم من ان الكامرات تملئ الجناح الخاص الذي تحتجزه كلتيهما.
{ لقد تواصلت مع رئيس الممرضين و يقول بأنها تعاني من اكتئاب و ترفض الكلام مع الطبيبة النفسية، لماذا هذا الاهمال سابرينا؟؟ }
{ تقول بأنها ليست بحاجة لطبيب بقدر حاجتها لأصدقاء بسنها تتكلم اليهم... }
لكن الجواب لم يأتي من روكو أبدا...
جلست بالقرب من سرير صوفي و عدّلت الغطاء عليها، هاتفها يومض بصمت، التقطته و تفقدته مثل المعتاد و مثلما يوصيها به روكو.
لاشيء جديد سوى رسائلها المستمرة لاليخاندرو الذي يحاول مثل عادته ان يبقى حياديا امام استفزازاتها... يمكن ان تكون صوفي لاذعة تماما مثل روكو و جارحة ايضا، لكن اليخاندرو لا يستحق منها هذا... لايمكنها اجباره على حبها بكل بساطة...
ابعدت الهاتف عنها و انحنت لتقبل الخصلات السوداء الامعة التي تسقط على جبينها.
صوت bip أعلن عن وصول رسالة جديدة من روكو:
{ سويت الموضوع... ستستأنف دروسها عن بعد و سيزورها بضع اساتذة مرتين في الاسبوع كي لا تهدر من وقتها الكثير...}
كتبت له:
{ ليست بحاجة لأساتذة بل لحبيب}
جاء الرد فورا:
{ و ماذي يجذر بي فعله؟؟ أن أنزل بمكبر صوتي في الشوارع و أبحث لها عن حبيب؟؟ عليها انهاء احلامها الساذجة بالنسبة لاليخاندرو لأنه لم يعد متوفرا و من الافضل لها أن تركز عن صحتها و دراستها}
كلام سليم من رجل يستخذم عقله مكان قلبه، اليخاندرو حبيب مراهقة صوفي و النسيان سيكون صعب... ليس من السهل على حفيدة يانيس ايميليانو ان تجد رجل طبيعي يحبها، و لا أن تعيش قصة حب طبيعية بينما روكو يحوم في الجوار مثل عنزفة قرش تحت مياه المحيط يبحث له عن فريسة.
* * *
" حبيبتي افتحي عينيك... لم أعد أطيق رؤيتك بهذه الحالة"
الكثير من الكلمات... الكثير من الحب والحنان والمعاناة...لقد مر اسبوع ... أسبوع طويل من الانتظار و الترقب و الصبر أضحى صعبا، أصبح وضعها ملموسًا بشكل رهيب، بدأ يخشى الا تستيقظ، الا يرى نظراتها الخضراء مجددا و الا يسمع رنة ضحكتها الرنانة، اليأس اللعين بدأ يزحف اليه لسيما و قد بدأ الجميع بالعوده لروتينه رويدا، وهو متفهم جدا فالاعمال لا تسير بمفردها، الوحيدة التي بقيت بجانبه كانت ابنته، هي و الكونت اندريس يتناوبان على نيكولاي عندما يقوم احدهما بزيارة المستشفى... ضغط بشفاهه على بشرة يدها الدافئة و تطلع الى وجهها الجامد:
" أحبك فلورانس..هذه الازمة اوجعتني اكثر مما سبق و توجعته في كل حياتي ، إعلمي بأنني سأكون لك دائمًا... سأنتظرك... حياتي كلها إذا لزم الأمر. قلبي ملك لك. إنه لك إلى الأبد و لن يكون لغيرك "
كان من الشجاعة بأن بقي صلبا امام الجميع لكن خلوته ووحدته تخرج هشاشته و معانته:
" استحق هذا العقاب... أخفقت في اسعادك و منحك ما تستحقين... أقسم لك بأنني نادم... فقط عودي لي فلورانس لأني افتقدك بشدة... ابننا ايضا يفتقدك بشدة انه لا يتوقف عن السؤال عليك..."
قبل يومين حاول استفزازها للعودة بإحضار نيكولاي الى غرفتها، هذا الاخير نام فوق كتفها، ملتحف بشعرها مثل المعتاد، لم يكن هذا كافيا لاعادتها اليه.
" مرحبا "
ابعد داركو اهتمامه على زوجته النائمة و حولهما نحو مصدر الصوت، زوجته السابقة تقف على عتبة الباب بنفس الجمال الكامل الذي فثنه في السابق و سلبه لبه، هذه المرأة التي هدر وقته في تمزيقها ليسترد اعتباره و ينتقم لكبريائه المجروح.
" ديامانتي؟؟ مالذي تفعلينه هنا؟؟" ترك أصابع فلور ووقف في مكانه بينما هذه الأخير تتقدم في الغرفة:" هل انت هنا للتشمتي بي؟"
ظهرت ابتسامة تعسة على وجهها الجميل و الكامل كمال البدر، الأيام زادتها جمالا، لكن و لغرابة الوضع لايشعر بأدنى انجذاب لها، حتى انه يتسائل بصدق ان أحبها حقا في الماضي، يشعر بالحسد فحسب، لأن نيوس يتمتع بزوجة بصحة جيدة بينما زوجته هو مرمية في سرير مستشفى و يجهل متى ستستعيد وعيها.
" فلورانس فرد من عائلتي... تظن حقا بأنني هنا لأشمت بك أيها الأمير؟؟ "
" بعد كل ما فعلته بك..." تمتم قبل أن يلقي بنظرة نحو زوجته و يشعر باليأس يقطع أحشائه:" تظنين بأنه انتقام الله؟؟ سيأخدها مني؟؟"
" لا..." مدت يدها نحوه فالتقطها بعد تردد كان بحاجة لهذا التواصل كي يقلب بدوره هذه الصفحة التي طال أمدها:" فلورانس امرأة رائعة و قوية ستنتهي هذه المحنة و تعود لك و لإبنها... "
ترك يدها و كأنها تحرقه، انها هنا لتحسسه بالذنب، أو ربما ضميره المعذب ما يسود رؤيته لنواياها، لابد أنها شعرت بهذا التغيير، عموما فهي آخر من يريد أن يريها هشاشته:
" مالذي أتى بك ديامانتي..."
" لم أملك الجرأة لأواجهك داركو... لكن أنوي قلب الصفحة... " ابعدت نظراتها الفيروزية عليه لتستقر على فلورانس" نحن عائلة شئنا أم أبينا... و كأن القدر يستهزء بنا... أنا توأم روبي... زوجة اللورد كوستانسو... قريبك أيها الأمير.. الرجل الذي أخد مني ابني فور ولادته و أبعده عني... "
ثم حولت نظراتها الجميلة اليه، كانتا مثقلتين ببعض السلام الداخلي:
" لن ألوم الأقدار... فأنت لم تنظر لي يوما كما تنظر الى فلورانس... لم أكن حبك الحقيقي ..."
هز رأسه مقرّا:
" لا .. لم تكوني... "
" وفرّت على كلينا زواجا بائسا و منحتك بطريقة ما فرصة لقاء امرأة حياتك..." تمتمت بصوت هادئ" في نيويورك...منعتني فلورانس من رؤيتك... تظنني منافستها...قالت بالحرف'أرفض أن تقتربي من زوجي... انه كل ما أملك و ان حصل و فقدته سأموت'..."
آه فلورانس... الوجع هذه المرة كان أصعب من أن يحتفظ بصلابته، تضببت رؤيته بالدموع و أشاحها عن ديامانتي... و كأن لاشيئ كافي ليحسسه بهذا الذنب العميق الذي يقسم ظهره، هل يوجد أحد أكثر كرم من زوجته؟؟ رغم كل الفظائع التي القاها في وجهها تجد دوما له أعذرا،كانت تؤمن به دائما... طالما رأت شيئًا جيدًا بداخله لم يره أحد آخر غيرها ، لا سيما هي.... انه أول من يجد نفسه مذنبا... فلم يحاول رؤية حقيقة المرأة التي هي عليها... يشعر بأنه لا يستحق أن يكون سعيدًا... لسيما أن يدين لهذه السعادة لإمرأة من الطبقة الراقية التي يتوقع منها خذلانا في أية لحظة... لم يتقاتل لفهمها كما تقاتلت هي للحفاظ عليه... لم يثق بها، لم يرغب بالثقة بها، لأنه يعتبر نفسه غير جدير بالسعادة التي تمنحها اليه و تفتح له ذراعيها.
" كنت زوجا سيئا لك..." سمع نفسه يقول دون ان يمنحها وجهه:" و يبدو أنني كنت الأسوأ لها... "
عندما دنت منه لتعانقه تركها تفعل... يريد أن يعقد الصلح مع نفسه، مع الرجل السيء الذي كانه قبل أن يلتقي طريق فلورانس، ضم اليه ديامانتي و شعر و كأن جبل انزاح عن كتفيه... انه بصدد توديع ماضيه مرة الى الأبد... وهي بحاجة لتوديعه بالمقابل لتستمر قدما في حياتها.
* * *
شد 'سانتو' على فكه يساير ضربات قلبه الغير منتظمة بينما ترتطم عيناه بشاهد قبر والدته بالمقبرة الخاصة في قلعة ارشيبالد' التي ورثها عن 'جاك' و التي تقع على ضفاف نهر 'كونتشورا'...جاك الأب الوحيد الذي عرفه طيلة عمره.
'أوكتافيا...
سأتذكرك بالضحكة التي لم يوفقني الحظ برؤيتها... نامي بسلام في أرضك فأنت حية ترزقين في أرواحنا '
انحنى ليبعد بضع أوراق أشجار متساقطة على اللوحة الرخامية و تمعن في صورة الشابة العشرينية، الصورة التي تمكن من الحصول عليها بعد عثوره على عائلة والدته...
البشرةُ النقيّة والصافية البعيدة عن الشوائب، والندوب، الرموش الطويلة والأهذاب الكثيفة التي تزيد من جمال وجاذبية العينين الزرقاوين الرائعتين الشفاه الممتلئة و المتبتسمة بإغراء شديد في هذه الصورة.
أوكتافيا حملت كل سمات الاغراء الانثوي التي تسلب لب كل رجل، و هذا ما تسبب في هلاكها، يانيس سقط تحت سحرها و انتهى بقتلها لأنها رفضت تسلطه في النهاية...
منذ عودته من ايطاليا و النوم يرفض طرق جفونه، كان يعتقد بأنه سيدير صفحة الماضي ما ان يلتقي بروكو... لكن هذا الثعلب الماكر تسبب فحسب بزعزة ثقته و دفعه للشك، فقط لو لم يعطيه ذلك المفتاح اللعين، كان يتمزق فضولا و أيضا خوفا مما يمكن أن يكتشف ...
سرح بعينيه في الاراضي الخضراء للتحفة المعمارية التي تركها له جاك... هل هذا كله حقا ليانيس؟؟ الرجل الذي يكرهه من كل قلبه.؟؟ الرجل الذي رفض قطعا منحه هوية او الاعتراف به عندما كان بحاجة ماسة لذاك؟؟ لقد كرس حياته ليثبت لنفسه و للعالم بأنه شخص وليس شيئ يرمى به فور ولادته الى الدير و يُنسى أمره.
في سن السادسة عشر وهو تحت الرعاية الكاملة 'لجاك ارشيبالد' لم يفقه اعتراض هذا الأخير في مسيرته لايجاد جذوره، لقد عمل بحهذ شديد و جمع النقود ليدفع ثمن أغلى متحري، وصل لاسم المرأة التي منحته الحياة ووصل لأهله، لم يكن شيء ايجابي في هذا الاكتشاف، ما ان رأته جدته حتى أصيبت بالرعب، أخبرته بأنه الشيطان بعينه، أنه صورة مطابقة لوالده 'يانيس ايميليانو'، طلبت منه الرحيل بسبب خوفها من ان يتمم ما بدأه قبل ستة عشر سنة، لقد أصابت لعنته كل افراد عائلتها، و اضطرت للصمت أمام القضاء و ايضا الصحافة، كانت تبحث عن ابنتها المفقودة و لكن العرّاب عرف كيفية اسكاتها... طرقه كانت قاسية جدا.
في سن العشرين وصل أخيرا للرجل الذي من المستحيل الوصول اليه، اللقاء كان مريبا، يانيس لم يخفي شخصه المريب، أخبره بأنه ثمرة علاقة غير شرعية، بأنه ابن عاهرة لم تهمه يوما و أنه لن يحصل يوما على اسم الايميليانو و لن يمنحه شرعيته، ثم أمره بالاختفاء... يرفض قطعا أن يسلمه جثمان والدته.
{ ستحصل عليها عندما أموت أن أيضا...}
و هذا ما حصل فعلا، أمكنه استلام ما تبقى منها بعد موت يانيس، كان الامر مريعا، هو الذي عاش على أمل الا تكون قد ماتت حقا، و أن يانيس يخفيها في مكان ما لمعاقبتها.
ورغم كل هذا... يوهمه روكو بأن يانيس وحده من يملك الكلمة الأخيرة؟؟ بأن كل ما عاش عليه مجرد كذبة.. ؟ يرميه بمفتاح لعين يحمل مذكرات يانيس و يتركه مع هذا العذاب الذي رافقه منذ عودته لبيته في روسيا..؟؟ نعم بيته... بيته هو و ليس بيت يانيس كما يحاول روكو ايهامه.
أدلف يده في بنطاله الجنزي و أخرج المفتاح الالكتروني الذي لم يهجره لحظة واحدة، هناك طريقة واحدة لتكذيب ادعاءات روكو... عليه حقا الاطلاع على محتوى هذا المفتاح اللعين و قلب هذه الصفحة مرة الى الأبد.
ضغط بأصابعه على المفتاح الصغير بينما يبتعد عن قبر أوكتافيا، القى عليها نظرة أخيرة، حتى من هذه المسافة تبدو ابتسامتها شاسعة و رائعة، كانت في الخامسة و العشرين عندما قرر يانيس أخدها منه، صغيرة جدا على رجل بنفوذ العرّاب... صغيرة و مغرمة، لم تعتقد بأنه قد يقوم حقا بتنفيذ تهديداته و يبعث لها من ينهي حياتها...
منحته جدته ارثه الصغير من اوكتافيا، علبة رسائل تحمل تفاصيل ما عاشته من حب مع رجل حياتها، كانت تتكلم عنه و كأنه هبة من السماء، تخبر والدتها كم هي سعيدة، بأنه رجل حياتها، بأنه لن يتأخر بالزواج منها... آخر رسالة بعتثها اوكتافيا كانت بعد أن أدركت بأن يانيس يتلاعب بها، بأنه لا ينوي قطع خطوبته بوريثة ثرية، كانت تبكي بين الكلمات، تخبر أمها بأنها محطمة و مدمرة، بأنه لا يريدها أن ترحل لكنها عازمة على العودة الى روسيا مع ابنها... ثم عقب الفراغ هذه الرسالة.
يانيس احتفظ بأوكتافيا الى الأبد بجانبه رغما عن أنفها.
عاد الى القلعة الصامتة و قصد فورا مكتبه متمشيا على طول الرواق البارد و الرطب، المكان يحتاج لتجديد كامل، قد يفكر جديا في الموضوع عندما يجد الوقت بين عمله الدقيق و تحرياته الامنتهية في حياة الرجل الذي قتل أمه لأنها طالبته بشرعية ابنها.
جلس في مكتب 'جاك' الذي مازالت حيطانه تحمل مخططاته القديمة و انجازاته، أخد الاب توب خاصته و بقي ينظر الى الشاشة المضائة و المفتاح في راحة يده غير قادر على ردة فعل واحدة، عاد اليه رعب امام ما يحمله هذا المفتاح الصغير، بلع ريقه بصعوبة قبل ان يقرر اخيرا اخد زمام الامور بيده ووضع المفتاح في الحاسوب و انتظر...ثم ظهرت جملة كبيرة بالأحمر
{ يُرجى فصل النت قبل البدء}
أقطب سانتو لكنه اتبع التعليمات و فصل النت، ما ان فعل حتى ظهرت ملفات عديدة و مرقمة تُعد بالمئات، بقي يتطلع الى الشاشة حائرا، لم يعرف بما يبدأ بالضبط، ضغط على ملف يحمل اسم اوكتافيا، كان تسجيل واضح لفتاة عشرينية رائعة تغني في ملهى، كل الاعين تلتهمها... هذه المرأة هي من ترك قبرها قبل لحظات.
تسجيلات عديدة والاف الصور لوالدته في كل المناسبات، و كأنها كانت متعقبة كل الوقت، اوكتافيا تغني، تضحك، نائمة في غرفتها، حامل في اشهرها الاخيرة، ضغط على الصورة الاخيرة و ارتد الى الوراء بعنف، اوكتافيا جثة هامدة في سريرها، آثار التعذيب على عنقها و وجهها.
" 'о боже' { يا الهي...}" تمتم بعدم تصديق بينما يشعر بالدم يهرب من شرايينه و يتركه خائر القوى مثل الهلام.' невозможно' مستحيل' "
بقي مكانه، بالكاد يصدق أن يانيس من القسوة و الخبث بأن يترك له هذه التفاصيل المريبة، لما يصر على ايذائه حتى بعد موته.؟ من أي شيء خلق ذلك الرجل؟ و كيف لإمرأة مثل أوكتافيا أن تحب رجل مثله؟ كيف لها ان تتورط مع طاغية متجرد من الضمير أو أي نوع من أنواع الانسانية؟ يانيس هو الشيطان ...
شيء واحد يندم عليه، انه لم يقم بقتله بيديه ليشفي غليل هذا الغضب و الحقد الذي يتآكله عندما سمحت له الفرصة برؤيته، ما يحمله نحو ذلك الرجل يفوق حدود التعقل.
بعد ان استعاد السيطرة على نفسه ضغط على ملف يحمل اسمه، أوراقه الثبوتية، صوره من المهد حتى سن الرشد، ملفه الطبي، نتائج المدرسة، انجازاته...نسائه.
أمسك برأسه بين يديه، يانيس كان يراقبه تماما كما أكد له روكو... لم يغفل يوما عليه، كان يسيطر على حياته عن بعد دون ان يسمح له بالاقتراب... دون ان يقرر في يوم ما الدخول لحياته و منحه ما اراده بشدة... هوية.
قلب بين أوراقه الثبوثية ليصتدم بوثيقة اصلية' سانتو كيليان ايميليانو'... هز رأسه بعدم تصديق، هل منحه شرعيته منذ ذلك الوقت دون اخبار أوكتافيا؟؟ لكن لماذا؟؟؟ لماذا هجره في الدير باسم سانتو فارينا؟
ضغط على خانة الطبع قبل أن ينتقل لملف آخر يخص جاك، أغمض عينيه و استجمع قوته قبل أن يبدأ بالتقليب بين كل المستنذات، بعد عشر دقائق أدرك بأن ادعاءات روكو لم تكن اداعاءات فارغة... جاك افلس قبل أن يأتي به يانيس الى حياته، و العرّاب من أنقد محركات ارشيبالد من الانقراض... حنان جاك و رعايته كانت مدفوعة الأجر سلفا؟
الألم سحق قلبه بلا رحمة، لم يعد بإمكانه تحمل هذه الصدمات و اللكمات المريبة، مازل امامه ملفات لا معدودة و يشعر بأن رأسه سينفجر و يتعدّر عليه المتابعة في نفس الرتابة، رغم ذلك اثار انتباهه ملف بإسم منافسيه في ميدان المحركات، ضغط عليه لتخرج سطور لامنتهية تتراقص أحرفها أمامه، بعد قرائته للسطرين الاولين توقف فورا و شعر و كأنه يهذي... مستحيل... ترك له يانيس أسرار أعمال منافسيه..
بحق الجحيم من هو هذا الرجل؟؟
من المستحيل أن يكون آدمي.
ضغط على ملف آخر....
المافيا الروسية و تحصين كامل له و لأعماله... حساب في موسكو بإسم والدته، رمش بعنف دون القدرة على تصديق الرقم المتراقص أمام عينيه... ارثه الخاص دون اللجوء لتقاسم أعمال روكو و اليساندرو؟
لم يترك شيء للصدفة... يعرف تماما كيف يلعب بمن حوله و كأنهم بيادق على لوحة الشطرنج... في حياته لم يلتقي برجل بمثل هذا الذكاء و الدهاء، ربما يكرهه من كل قلبه... لكن هذا لا يمنع أن يعجب بكل ما هو بصدد اكتشافه.
ترك حاسوبه كي يسقي لنفسه كأس ويسكي ليخفف ضغط صدره و رأسه، بقي يحملق للارقام أمامه، يحتاج لأشهر كي ينهي قراءة ما تركه خلف السافل ايميليانو.
التقط هاتفه و تفقد الساعة كي يدرك أنها السابعة في ميامي أدار الرقم الذي كان منغلقا طيلة اليوم و أحس بالرّاحة و هو يسمعه يرن، أجابه صوت أنثوي:
" مساء الخير 'كيليان' .."
" مساء الخير ايموجين... مرري لي ' أوكتافيا' من فضلك..."جاء الصمت كما توقع، انها تستمر بمعاقبته...مسد على صدغيه المتألمتين، بعد أحذاث هذا اليوم المريب و كمية صدماته لا يريد أن ينفجر فيها كبركان، يحتاج فحسب لسماع صوت يشبه البلسم و يمنحه الرغبة في الاستمرار قدما: "مرري لي ابنتي ..."
" كلا... أنت أخرجتنا من حياتك..."
صحح لها بصوت هادئ:
" وحدك خارج حياتي و ليس هي... مرري لي إبنتي فورا"
" مازلت متعجرف بشكل لا يُطاق 'كيليان'... لاشيء تغير... متغطرس و أناني لا يفكر سوى في نفسه..."
ظن بأنها ستغلق الخط كما هي عادتها، شعر بالراحة بينما يتردد الى مسامعه صوتها الطفولي:
" أين أنت أبي؟؟ أنا أفتقدك..."
" في قلعة جدك بــ'سيرجيف بوساد'.." قال سانتو برقة بينما يشعر بقلبه يذوب بين عضلات قلبه" أنا أيضا أفتقدك كثيرا كثيرا، لن أتأخر بالمجيئ لرؤيتك عزيزتي... أحبك بشدة"
صمتت أوكتافيا و كأن والدتها تمنعها من الرد عليه، أخدت منها السماعة مجددا:
" تظن بأنها بحاجة للكلمات أكثر من حاجتها بوجودك في حياتها؟؟"
" لا تبدئي ايموجن..."تنهذ بضجر:" أنت طلبتي الطلاق و أنا وافقت انتهى الامر.. "
" لأنني متزوجة من شبح.." صرخت بصوت يرتجف من القهر:"ما يجمعنا هو الاسم فقط... سيد و سيدة 'ارشيبالد'، أتذكر وجودك فقط عندما اتوصل بالبريد ..."
شعر بالغضب يتسلل اليه، كيف تجروء بوضع الملامة عليه؟؟ هي من تنتقد وقته القليل و ارتباطاته؟ هي طبيبة التجميل التي استحوذت على السوق الميامي بمراهمها الطبية الجلدية و طموحها الامحدود؟؟
كل ما جذبه سابقا في الرائعة جدا ايموجن نفره في النهاية، زواجهما كان كارثيا، زوجته طموحة، طموحة بشكل لا يصدق، بين عملياتها الكثيرة و المؤثمرات و الأسفار لا يراها سوى مرة في الاسبوع، تترك ابنتهما ذات الخمس سنوات في عهدة المربيات و تضع مهنتها قبل حياتها الزوجية و دورها كأم.
"لست المسؤول الوحيد على انتهاء هذا الزواج... بإنتظار الحكم النهائي للطلاق امنعك من ابعاد ابنتي عني...وان عاندتي سأعمل على ان تعود الحضانة لي "
أغلقت الخط في وجهه.
بقي في مكانه للحظة، على الأقل تمكن من سماع صوت ابنته هذه المرة فمحاولته الاخيرة بائت بالفشل، ايموجين تعيش الطلاق بشكل سيء جدا و تحاول اثارة انتباهه و غيرته بكل شكل من الاشكال، مثلا ان تتأخر عن عمد في الاجابة عن مكالمته و تخبره بأنها مشغولة بتناول العشاء مع زميلها الدكتور 'إيفرتون'..
من كان ليصدق ان الشغف الذي جمعهما ذات يوم سينتهي بهذه الطريقة؟ تمكنا بالابتعاد عن بعضهما في النهاية، هو بأعماله المتفرقة بين روسيا و أمريكا وهي بعملها المتطلب كطبيبة و سيدة أعمال، هو الذي آمل ان يكون مثالي و الا يسيء لامرأة كما سبق و فعل والده بوالدته لم ينجح في العلاقة الوحيدة التي تمنى ان تنجح حقا ليمنح ابنته بيتا و حياة مستقرة.
شيئ واحد هو واثق منه... الزواج منها كان اكبر غلطة ارتكبها... أغرته قوة شخصيتها و طموحها و جمالها... كانت الوحيدة من بين كل نسائه التي قرر الزواج بها ما ان سقطت عيناه عليها... جمعهما حب الاحسان و الاعمال الخيرية، حتى انهما يترأسان عدة جمعيات خيرية، لكن فرقتهما الحياة الواقعية، و ليكن صريح مع نفسه... انه سعيد بحريته. فلم يخلق ليتزوج و يرزق بأطفال...و كم يستهجن هذا القرار اليوم، اوكتافيا هي كل حياته و يرفض التسبب لها بالاذى... هو آسف لان هذا الطلاق سيؤثر بها بشكل أو بآخر.
تنهذ وعاد الى اسرار والده
أخطر و اذكى رجل قابله في حياته
* * *
اصبحت تعرف هذه الاروقة المظلمة التي تحول بينها و بين رؤية الوجوه خلف الاصوات و الحوارات التي تصل اليها، انها هنا... ديامانتي، تريد أخده منها و هي لا تتمكن من الخروج من هذه الظلمة الحالكة كي تمنعها.
{ كنت زوجا سيئا لك و يبدو أنني كنت الأسوأ لها... }
صمت...
مالذي يفعلانه؟ هل يقوم بتقبيلها للاعتذار؟؟ انها تحاول الرؤية... هناك ضوء و خيالات مظلمة تحول دون رؤية واضحة...سمعت صوت قياس نبض القلب يتسارع ليكسر ادنيها، الضوء يزداد وضوحا، جاهذت بقوة للخروج من ظلمتها و احست للمرة الاولى بأصابعها تتجاوب، ثم فجأة اختفت الظلمة تماما لتحل محلها الوان واضحة.
جهاز ضربات القلب يتسابق اكثر
Bip… bip… bip… bip… bip…
" فلورانس... "رأته يقترب، ينحني عليها ليضع يده على وجهها و يمسك بالاخرى يدها" حبيبتي ابقي معي... ابقي معي... "
حاولت الكلام لكن حلقها يرفض التجاوب، كانت تجاهذ كي لا تعود للاروقة المظلمة، من امامها شبح داركو و ليس الرجل الذي كانت تراه في احلامها، كم فقد من وزنه؟ منظره المزري يصدمها
" ديامانتي استدعي الممرضة ارجوك"
لا تريدها ان تستدعي الممرضة بقدر رغبتها بأن ترحل من محيط زوجها، إذا تمكنت من التحرك و فتح عينيها ، ربما يمكنها التحدث ان كافحت أكثر من أجل إصدار صوت.
" داركو..."
اشبك اصابعه بأصابعها، عيناه القاتمتين غارقتين في الامل و الدموع:
" استمري بالتحذث الي... لا تعودي للنوم ارجوك ابقي معي"
شعرت بالالم الشديد في صدرها ، رمشت كي تعتاد اكثر على الضوء و على مظهره، تمتمت شيء لم يستطع سماعه، انحنى عليها ليسمعها أكثر:
" لا.. لا أريدها معك..."
هذا ما كررته بين جذران كابوسها اللعين و تمكنت من ترديده اخيرا على مسامعه، ابتسم و حمل يدها الى شفاهه:
" لو عرفت بأن وجودها ما سيخرجك من غيبوبتك لما هدرت الوقت..."
لكن هي لا رغبة لها بالضحك، انها تتألم بشكل مريب، ووجود زوجته السابقة يزيد من حالتها السيئة، عيناه المبللتان تلمعان بشدة... كم تعشق هذا الرجل.. حتى بمظهره المزر و لحية وجهه و وجنتيه اللتين فقدتا تدويرتهما... لابد أن مظهرها أسوأ... تشم رائحة الأدوية في أنفاسها.
" مالذي حذث؟" سألته بصوت اجش.
" تعرضنا لهجوم ناري و اصابتك الطلقة بين الكتف و الصدر، لم تكن اصابة مميتة لكنك لم تستيقظي بعد الجراحة"
وصلت الممرضة و الطبيب و رأت ديامانتي تتوهج من السعادة لرؤيتها مستيقظة، دنت منها بدورها:
" سعيدة بعودتك بيننا مجددا 'كارا' "
قمتي بواجبك ارحلي الان لزوجك لابد انه بإنتظار كل هذا الجمال... اختصرت هذه الكلمات في نظراتها و اكتفت بهز رأسها شاكرة، فسح داركو المكان للطاقم الطبي عن مضض لم يكن مستعدا لترك يدها، رأته يقترب من حيث تقف زوجته السابقة مما اخرج مخالبها،كان صوتها ضعيفاً و حلقها مشتعلاً عندما تمتمت.:
" ابقى بجانبي"
القى نظرة اخيرة على سابقته بأمر صامت بإخلاء المكان، الشيء الذي فعلته دون ثانية تأخير، ودّعتهما متمنية لهما السعادة و اخبرتها أيضا بأنها من ستنقل الاخبار السارة للكونت و الكونتيسة، لا تهمها خططها بقدر ما يهمها ان تخلي المكان و تبتعد عن زوجها.
عندما أوضح الطبيب أن علاماتها الحيوية جيدة وأن تعبها أمر طبيعي أمكنها الاختلاء مجددا بزوجها الذي لم تفترق نظراتهما خلال الفحص و اضافة مهدئ للألم لحقنة الوريد، لقد افتقدته بشدة، لم يجلس على المقعد بل على السرير من جهة الكتف الغير مصاب كي لا يتسبب لها بالألم، ضم رأسها اليه و قبل قمته:
" بالكاد اصدق أنك هنا... معي... كدت أموت من القلق"
كانت جفونها ثقيلة جدا، تحثها على غلقهما و اراحتهما بالنوم، لكنها ترفض العودة الى الظلمة:
" أنا أيضا ... لا أصدق بأنني هنا أخيرا... معك"
ضمها أكثر اليه لكن بحذر و كياسة:
" من يريد التخلص مني؟ فكتوريا؟"
" لا أظن ذلك.. التحريات لم تتوصل لشيء... مازال البحث جاريا حبيبتي..."
بلعت ريقها:
" لما تظن بأنها بريئة؟ لقد اهنتها علنا و هي اقسمت الا يفرقك عنها أحد لسيما أنا"
امسك بوجهها ليتطلع الى عينيها
" ثقي بي حبيبتي... لو كانت هي المعتدية للأحطت علما ...لا شيء يحذث في صقلية دون ان اكون على علم به... برأئي كنا في الوقت و المكان الغير مناسبين لمجموعة اخطوا الاشخاص...اهم شيء انك حية و بجانبي و سأعمل على الا نفترق مجددا ..."
لم تجبه، اغمضت عينيها المرهقتين، المهدءات بدأت بمفعولها و بدأ الالم بالتباعد رويدا، استيقظت عدة مرات ووجدته في نفس الوضعية و لم بغيرها، يرسل برسائل هاتفية و احيانا يتكلم بخفث كي لا يزعجها، لكنه لم يتركها ابدا، لقد كان يحرسها و يسهر عليها، تريد فحسب استعادة قواها و زمام امور حياتها بعدها.
* * *
اقتحم خوسيه المكتبة و كما خمن، 'آيا' هنا، غارقة بين الكتب، مرّ شهر كامل على المرة الأخيرة التي جمعتهما طاولة الفطور، غدا سيبدأ المدعوين بالوصول بمن فيهم والديها لأن الزفاف مقرر يوم السبت، أي بعد يومين، كل من في القلعة يعمل دون انقطاع لتجهيز منازل الضيوف في جنوب القلعة ما عدا سيدة القلعة نفسها، تترك هذا لسيسيليا و دانيلا و لسرب الخدم.
لم تشعر بوجوده، كانت غارقة تماما في ما بين يديها، انتبه لصحن الفواكه المقطعة لمكعبات صغيرة بالقرب من كوب عصير فارغ، كان الليل قد أسدل ستارته و الصغيرة اعتذرت عن العشاء لأنها تعرف بوصوله، تلعب معه لعبة القط و الفأر منذ زواجهما، انسابت عيناه عليها، بفضل التهوية المركزية كان الجو لطيفا مما اضطرها لوضع وشاح حول كتفيها كي تحجب عليه رؤية هذا الجسد الذي يعرف جيدا بأنه تغير بفضل حملها.
رآها تفرك رقبتها ببعض الاعياء، أخبرته سيسيليا بأنها أمضت يومها بين هذه الكتب اللعينة، تأخد دراستها بجدية بالغة بينما ستزف له بعد يومين أمام أفراد العائلتين و الأصدقاء المقربين، هل جرّبت على الأقل فستانها؟؟
غرقت خطواته في الموكيت الذي يغطي أرضية المكتبة وهو يتقدم نحوها، هزت هذه الأخيرة رأسها نحوه فجأة و كل ملامح التركيز اختفت لتحل محلها اخرى جامدة، لمعت نظراتها ببريق جليدي، التهم جمالها بعينيه... المرأة الأكثر تفجيرا و إثارة في حياته، شعرها العسلي يستقر في ضفيرة على كتفها، المرأة-الطفلة لا تتكبد مشقة ابراز أنوثتها أو حتى القيام ببعض المجهوذ للدور الذي تلعبه في هذا المنزل.
" مساء الخير آيا "
رآها تغلق كتابها ببطئ دون ان تفارق عيناها وجهه، ثم كما توقع، وجنتيها شحبتا، بدت و كأنها ستتقيأ على حذائه ان اقترب منها أكثر.
" مساء الخير خوسيه... لم أكن أعرف بوصولك"
" بل كنت تعرفين " قال بصوت بارد وهو يدلف يديه في بنطاله.
فركت مجددا رقبتها، هذه المرة من العصبية و ليس التعب، عدّلت الشال عليها بينما تترك مقعدها لتلملم الكتب و تتأهب لإعادتها على الرفوف التي تغطي حيطان المكتبة العملاقة، لم تنكر كلامه اكتفت مجددا بتجاهله كما هي عادتها منذ مجيئها الى هذا البيت.
" دعيني أفعل..."
كي تتفادى أصابعه تراجعت بعنف الى الوراء، تمكن من التقاط الكتب دون ايقاعها و اعادها الى الرف فوق رأسها دون ان يمنحها فرصة الهرب، كانت محبوسة بينه و بين المكتب الذي كانت تعمل عليه قبل لحظة.
" أزيحي هذا الشال..."
هزت رأسها نحوه
" مـ...ماذا؟؟"
" أريد رؤية بطنك"
ارتجفت صورته في بؤبؤ المقلتين اللتين اسودتا و فقدتا لونهما الشاحب، لم يترك لها فرصة التراجع و الهرب، التقطت أصابعه القماش الحريري الذي يخفي قسمها العلوي، و كشف عن بشرة فقدت شحوبها و صارت ذهبية بفضل حمامات الشمس، أشرطة فستانها الصيفي رفيعة حول كتفيها الشيء الذي سلط الضوء على حقيقة أن صدرها نما عما في ذاكرته، مد يده نحو بطنها لكنها التقطتها قبل أن يلمسها، التقت نظراتهما:
" أمنعك من لمسي..."
كانت متوثرة، بشرة وجهها مشتعلة بينما الشرر يتطاير من عينيها، سقطت عيناه على شفاهها الممتلئة و المنفرجة في هذه اللحظة، تلتقط أنفاسها من خلالهما و كأنها تشعر بالاختناق:
" تصرفي بحيادية 'querida' فلا شيء جنسي في طلبي"
"اذا كنت تريد مكانًا نتصرف فيه بطريقة "محايدة" تجاه بعضنا البعض ، فإني أنصحك بالبحث عن نظام شمسي آخر!"
تتصرف بعدوانية عندما تشعر بالخطر، صار يعرف ردود أفعالها، لوى اليد التي تحبسه وراء ظهرها بسهولة و ابتسم لها بينما تتلوى تحته:
" أنوي تحسس بطنك برغبتك أو بدونها"
كانت غاضبة لكنها لم تقاومه وهو يضع أخيرا يده على بطنها، الاتصال كان كهربائيا مثل المعتاد، يمكنه الشعور بدفئها من خلال القماش الخفيف لفستانها، الانتفاخ الصغير في أسفل بطنها برهان على أن ما حلم به دوما بصدد التشكل و الظهور... في نهاية شهرها الثالث كان حجم بطنها أكبر من الحجم الطبيعي عند الحمل بطفل واحد.
" انهما هنا..." همس لها وهو يعود ليركز على عينيها المتسعتين على آخرهما" وريثي المارتينيز"
" ليسا فقط وريثيك خوسيه لأنهما طفلاي بالمقابل... لا تنسى هذا أبدا"
ابتعدت عن يده و حرمته من دفئها، عادت تلف كتفيها بالشال الذي اخفى مجددا تفصيل بطنها الشبه البارز، زوجته الصغيرة اكتسبت بعض الوزن ايضا، ولا ينكر ان هذا يزيدها جاذبية و اثارة، كان يفقه بأن طريقته في النظر اليها تزيد من توثرها، جوليانا لم تعد كافية، فعل ما استطاع لنسيان هذه الفاتنة التي تحمل اسمه و طفليه في الوقت نفسه، حتى انه أخد معه عشيقته في كل أسفاره مؤخرا كي لا يترك لنفسه مجال التفكير فيها... استراجية غبية... لا شيء يبعدها عن عقله... مازال يحترق رغبة بها تماما مثل اليوم الأول.
" لن أنسى كما تنسين أنت دورك في هذا البيت..." جاء صوته جاف:" لا تقومي بواجباتك و تتركي الأمر لوالدتي و دانيلا..."
أقطبت أمام اتهامه:
" لقد تفقدت بيوت الضيافة و الزينة و كل ما يلزم للزفاف مالذي يجب أن أفعله أيضا؟؟ "
تفقدت و لم تشارك بشيء، و كأنها ترفض وضع لمستها الخاصة في التجهيزات...و كأن كل هذا لا يعنيها.
" ان تظهري القليل من الحماسة لهذا الزفاف..." سمع نفسه يقول:" والديك يؤمنان أن ما يجمعنا هو قصة حب..."
" بعد ان ظهرت مرتين مع نفس المرأة في الجرائد منذ زواجنا المدني؟؟" سألته بجليدية:" كان يجب أن أختلق الأعذار لإمرأة شديدة الملاحظة مثل والدتي... انت وعدتني بالسرية، و عدتني الا تتضرر سمعتي، أرفض قطعا أن يتكرر هذا الشيء خلال فترة اقامتي في منزلك... يمكنك فعل ما تشاء بحياتك العاطفية لأن مغامراتك لا تحرك في ساكنا...لكن أطالب بالسرية البحثة الى أن تفترق طريقينا..."
لما يشعر بالخيبة لهذه التصريحات؟؟ لم يكن سريا لسبب لم يرغب بتوضيحه قبل رحلته الأخيرة... كان يتمنى أن تراه مع جوليانا... رغب بإثارة غيرتها ربما... انه حقا مثير للشفقة و متناقض مع نفسه، هو الذي وضع هذه الحدود في البداية، استعملها كي تمنحه أطفالا مستغلا صغر سنها و فقرها المقدع، لكن ان يرى بأنه لا يهمها كرجل يجرح كبريائه الذكوري... منذ البداية لم تمنحه اي اهتمام، هو من أجبرها على النظر اليه، اشترى جسدها الذي كانت تنوي اهدائه لاليخاندرو ذلك المساء... طعم الغيرة مر للغاية... كلما وقعت نظراته على صديقه و شريكه كلما تذكر حب آيا له... لم تخفي عنه يوما حقيقة مشاعرها نحو صديقه.
" أريدك أن تتصرف كزوج محب خلال فترة تواجد عائلتي تحت سقف هذا المنزل... هذا سيبعد الشبهات" كانت تنتظر اجابته ببعض القلق، تبدو حقا خائفة من رفضه طلبها" أنت مدين لي بهذا لسيما بعد المقالات الصفراء... أهلي يعرفون بأننا استهلكنا زواجنا... كنت مضطرة لاخبار أمي بأنني حامل فمن المستحيل الا تلاحظ بطني الذي ينتفخ كل يوم أكثر"
كان قد الغى تاريخ الزفاف الأول بسبب الهجوم الذي تعرضت له زوجة صديقه داركو، بالنسبة اليه أصدقائه في مكانة العائلة، لن يزف دون تواجد كل فرد منهم، وهذا أدخل 'آيا' في أزمة عصبية، أخبرته والدته بأنها بكت بسبب قراره الذي لم يأخد رأئيها به... كانت تخشى أن يكتشف سرها... و يرى بأنها وجدت الحل في النهاية... انها زوجته مدنيا... و من حقهما استهلاك زواجهما.
" سأكلم الخدم بأن ينقلوا حاجياتك لغرفتي..." كاد أن ينفجر في الضحك بينما يرى ملامح وجهها تتحلل بشكل مريب:" ما الأمر كوراسون؟؟ تريدين أن نبدو مقنعين... أبوين سعيدين بإستقبال طفليهما و في نفس الوقت ننام في جناحين منصلين؟؟؟ قصتنا ستنقصها المصداقية"
أبقت فمها مفتوحا، تتردد في الكلام عدة مرات، وربما لا تجد ما تقول، وربما فقدت كليا قدرتها على الكلام، يعترف ان الفكرة تعجبه جدا، ان تتقاسم الجميلة غرفته و سريره مجددا حتى و ا ن كان بشكل مؤقت.
" كلا..." تمتمت أخيرا بعد أن وجدت صوتها.
هز حاجبه الكث معلقا بتهكم
" لا تملكين الخيار querida"
دنت منه، عينيها مشتعلتين بالنار و شفاهها مزمومة بينما تقول من بين اسنانها:
" لن انام بحانب رجل ما تزال رائحة عشيقته عالقة في ثنايا بدلته الراقية... سأخبر عائلتي بأنني من طالب بسرير منفصل بسبب حملي و نومي المتقطع... انسى الامر خوسيه... افضل الموت على تقاسم سريرك مجددا"
حاولت منحه ظهرها و اخلاء المكان لكنه التقط ذراعها بقوة الى أن شعر بلحمها الطري ينفلث تحت أصابعه، تريد ان تثبت له بأنه لا يؤثر بها؟؟ هذا النفور يخرج مخالب ذكورته، يرفض أن يتم رفضه لسيما منها هي... لقد دفع لها كي تدفئ سريره، أغرقها في الهدايا و المال و لا يحق لها رفضه ان رغب في اعادتها مجددا الى سريره:
" أنت زوجتي ..."
" على الورق فقط... " قاومته لتتحرر من قبضته بشراسة قطة مرتعبة من ان يتم رميها في حوض سباحة" و هذا لن يتغير لأنك آخر رجل قد أرغب به.. و الأن أتركني... أتركني خوسيه "
مقاومتها أشعلت غضبه، لم يسبق له ان تصرف مثل حيوان مع امرأة، لكنها تنجح في اخراج الأسوأ فيه، انها لاشيء، انها أقل مستوى من نسائه و رغم هذا ترمي به و كأنه جورب قديم، من تظن نفسها؟ انه خوسيه مارتينيز بحق الجحيم... النساء تتسارع لأحضانه مثل الذباب، أمسك بوحهها كي يمنعها عن الحركة، كان ينوي قذفها بعبارات مسمومة لكنه بلع هجومه امام منظر وجهها المحمر و عينيها المترقبتين ... هذه العيون ! يالها من نظره...عبرت نظراته شفاهها المتنفخة بلون الكرز والتي امتلكها بنهم في الماضي، كانت انفاسها العالية ترتطم بوجهه و تبعد في الوقت نفسه الخصلات العسلية الناعمة التي تحررت من ضفيرتها، تغير الجو فورا بينهما و اصبح مكهربا، تجاهل زعزعة هاتفه في جيب بنطاله فما بين يديه أكتر اثارة للاهتمام،مثل المنوم من وهج نظرتها المتمردة و جد نفسه يقطع المسافة الضئيلة بينما ليحط اخيرا شفاهه على هذه الشفاه التي قذفته بكلمات قاسية، ربما كانت طريقته لمعاقبتها، لكنه بحاجة لهذا التواصل، يمكنه ان يكرر دوما بأنها اقل مستوى من رجل مثله، بأنها لا تصلح له، إذا كان هذا اليقين كافياً لإخماد رغبته فهو واهم، انها الوحيدة التي تتمكن من اشعال حواسه لحد الالتهاب، الوحيدة منذ سنوات طويلة جدا... منذ موت اليونور.
لكن زوجته الصغيرة لا تبادله رغبته، شعر بها تتصلب تحته كالصخر و تضع يديها على صدره كي تبعده عنها بكل قوة، كانت ترمقه بكراهية متوحشة، لو كانت النظرات تقتل لمات على الفور، مسحت شفاهها بظهر يدها و بصقت من بين اسنانها:
" أنت تثير قرفي خوسيه... أنا أكرهك"
تراجعت الى الوراء لتضع أكبر مسافة جسدية بينهما، بعد أن تأكدت بأنه لن يحاول الامساك بها مجددا هرولت نحو مخرج المكتبة كأرنب مذعور.
بقي في مكانه، بصمة شفاهها عليه ملتهبة مثل الحديد المصهور،لن يلوم نفورها فهو يستحق لهذه المعاملة الحيوانية، أدلف أصابه في غرته السوداء و زفر بينما يعود هاتفه اللعين للاهتزاز في جيب بنطلونه، كشر بينما يرى رقم جوليانا:
" أمرتك بعدم الاتصال بي عندما أكون في البيت"
" الأمر هام..." و شوشت له بصوتها الرقيق:" هل من الطبيعي أن أستلم دعوة لزفافك نهار السبت؟؟"
توقفت أصابعه بين خصلات شعره مستوعبا كلماتها:
" عفوا؟؟"
" تلقيت دعوة من 'آيا مارتينيز' بعينها...توقيعها في الأسفل "
أغمض خوسيه عينيه، هل توجد طريقة أكبر من هذه كي تثبت له بأنه لا يهمها؟؟
" هل يمكنني الحضور؟؟"
" بالطبع لا جوليانا..هل فقدتي رشدك؟؟.. "
سمعها تضحك متهكمة من الطرف الاخر:
" كنت أمزح حبيبي... لكن الصغيرة تملك حس دعابة كبير, من يدري... ربما هي أيضا تملك أسرارها كي لا تهتم بما يفعله زوجها في غيابه..."
زوجها على الورق كما أكدت آيا قبل قليل... هذا لا يمنع غيرته بالتأكيد.
" مالذي تعنينه بحق الجحيم؟؟"
" انها فاثنة و صغيرة و تدرس في جامعة خاصة... أجزم أن لون شعرها فقط سيغري نصف طلاب الجامعة... كما أنا على ثقة تامة بأنها وجدت سلفا المرشح المناسب الذي سيحل محلك بعد ولادة التوأمين مباشرة"
لم يتركها تتمم كلامها و أغلق الخط، يرفض أن يسمع المزيد من التفاهات و التراهات، جوليانا غيورة من آيا و لا تنفك عن تعزيز شكوكه بشأنها، ثم هناك عقد بينهما... لن تتخذ أي حبيب في فترة زواجهما، يعرف بأن كل اهتمامها الحالي هي دراستها و حملها... اقترب من الكتب التي كانت تتطلع عليها عند دخوله، الكتاب يتكلم عن عصر النهضة الأروبي، قلب بين أوراقه يبحث عن أي شيء و ربما عن رائحتها شخصيا قبل أن يغلقه بحدة و يعيده الى مكانه... 'هيا خوسيه' نبهه صوت متهكم في ذاخله'... لن تترك طفله مثلها تتلاعب بك بهذه البساطة... أنت وحدك من يضع القوانين و يملك كل الاوراق الرابحة... ان رغبت بها مجددا كي تشبع هذا الجوع الذي لا تسده علاقاتك مع غيرها فلن تمنعك مقاوماتها... لا توجد بنود تمنعك من لمسها ان رغبت بها مجددا'...اما ان خاطت أحلام حول احدهم كي يحل محله فور ولادتها فعليه أن يجهضها فورا.
التقط هاتفه ليدق على روكو، هذا الأخير رد بصوت جاف:
" مالأمر؟؟"
" هل أقاطع شيئا؟؟"
" أنت تقاطع دوما شيئا... مالذي تريده ؟ "
أغمض عينيه...
" الأمر يتعلق بشهر العسل..."
" انتظر لحظة..." قال روكو و سمعه يعتذر من أحدهم قبل أن يعود اليه" شهر العسل؟؟ هل أذكرك بأنك أمضيته مع جوليانا؟؟"
تحاشى سخريته:
" أريدك أن تقرضني جزيرتك في تنزانيا..."
عم الصمت، يتوقع ما سيقذفه به صديق عمره، لا يرغب بأن يسأله اسئلة هو نفسه غير قادر على الاجابة عنها .
" لا بأس... سأعطي أوامري لتجهيز المكان لإستقبالكما"
* * *
" أغلقي هذه الستائر "
زمجرت ايموجن وهي تغرق رأسها بين الوسائد متفادية ضوء الشرفة الذي غمر المكان، كان رأسها يؤلمها بشدة، جسدها برمته يؤلمها، استسلمت لقبضة شقيقتها الصغرى التي تمسك بقوة بالأغطية لتبعدها عنها.
" لوكا في الأسفل... ان لم تنزلي خلال الخمس دقائق فسيأتي بنفسه لإنتزاعك من هذا السرير"
لوكا في الأسفل.؟؟ الخبر مثل الضربة التي زادت من ألم رأسها و حدته، عندما قررت ابعاد الوسادة عن وجهها و مواجهة ناومي، ادركت من خلال ملامح وجه شقيقتها بأن طلتها مريبة... بل مريبة جدا... هذه الأخيرة رمقتها بشيئ يشبه الشفقة... آه كلا... ليس هذا.
" آه عزيزتي... أنظري الى نفسك..."
لا تريد النظر الى نفسها، ربما تدير شركة كبيرة والتي تنطوي على استثمار ضخم للوقت والطاقة، لكنها فقدت كل رغبتها في الاستمرار أو حتى العيش، ابتعدت عن السرير و توجهت نحو الحمام قبل أن تغلق الباب ورائها بالمفتاح، عندما واجهت ملامحها في المرآة ارتعبت من انتفاخ عينيها، كانتا محمرتين لدرجة أن لونهما الرمادي الفاتح مال بشدة للاخضر الزمردي، النمش الدقيق على أنفها المتورم أكثر وضوح أيضا، بينما كثلة شعرها النحاسي و المشتعله عادة باهثة و لا تزيد مظهر وجهها سوى بؤسا...ان رآها لوكا على هذه الحال... رباه... انه آخر شخص يمكن أن تعري عن بؤسها أمامه لسيما بحمائيته الزائدة... أخاها لا يمزح عندما يتعلق الموضوع بسعادة شقيقاته...
اقتربت من الحنفية لتغسل وجهها و اثار انتباهها عدة حلاقة زوجها و فرشاه أسنانه، وضعت يدها على فمها لتمنع شهقة عذاب من الخروج، كيف أمكنه الانتقاص مما تشاركاه؟ من بين جميع الفظائع التي فعلها في حقها كان رحيله الأكثر قسوة, التقطت أغراضه القليلة المتبقية و القت بها عرض المرآة الى أن انفجرت الاخيرة و أحذتث ضجة .
" ايموجن؟؟؟ " ضربات على باب الحمام " سمعت ضجة... هل أنت بخير؟؟"
وضعت راحتيها على عينيها مستسلمة مجددا للدموع التي لم تتوقف عن ذرفها منذ أن وضعت توقيعها بجانب توقيع كيليان على أوراق الطلاق... انتهى الأمر... انتهت حياتها و تلخصت في توقيع بأسفل ورقة لعينة...كان ذلك الرجل ببساطة جهنمي، أخطأت حينما ظنت امكانية تغييره مع الوقت... ست سنوات زواج تذهب أذراج الريح... لم تتمكن يوما من تكسير حصونه ولا غموضه و لا حتى سر من كل الاسرار التي تغلف حياته... ثم... غدا عيد ميلاد زواجهما... رباه... تريد الموت.
" ايموجن؟؟" عاد صوت ناومي قويا.
" أنا بخير..." أجبرت نفسها على القول:" امنحيني خمس دقائق لأستحم..."
ملامح لوكا الجميلة انغلقت بقسوة ما ان سقطت عيناه عليها، حاولت أن تظهر بمظهر طبيعي، لكنها لم تتمكن من التخلص نهائيا من تورم وجهها و لا احمرار عينيها، حاولت الابتسام للأخ الذي يبدو مختلفا جسديا عنها شخصيا، عموما فهم الثلاثة لا يشبهون بعضهم البعض، كان والدهم يناديهم بقوس قزح، اذا كانت هي نحاسية الشعر ببشرة شاحبة فناومي شقراء فاثنة بعيون تميل للبنفسجي بفضل مرض عيون ناذر، لوكا حصد أرقام الوسامة و أخد كل شيء من 'جي-تي مارشال'، والدهم الذي ترك زمام أعماله لإبنه و فضّل استغلال تقاعده مع والدتهم فانيسا...
" ظننتك في أروبا..."
سمعت نفسها تقول بينما هذا الأخير يدنو منها ليأخدها بين ذراعيه و يتطلع بإهتمام لوجهها:
" غيرت خططي بينما أعرف بشأنك و كيليان..."
صلابتها تهدد أمام شقيقها الذي لا يأخد شيئ ببساطة، تواجده في ميامي.. و في بيتها بالذات- بينما يعمل بدون توقف و لايملك دقيقة واحدة يبذرها حتى على متعته الشخصية - لا تنذر بالخير، انه هنا ليدفعها للاعتراف.
" لسوء حظك 'إيم' أن الأخبار تنتشر بسرعة خيالية... "
وهل تأمل السرية في مجتمع كان يحسدها على زواجها من رجل اسمه على كل محركات السيارات الراقية؟؟ بلعت ريقها بصعوبة...
" مالذي يحذث بحق الجحيم؟؟" ارتفع صوت لوكا " هل انفصلتما حقا؟؟"
الكلمة موجعة بشكل يحثها على أخد مكانها على الكنبة كي لا تنهار، كانت ركبتيها لا تقويان على حملها، رأت شقيقتها الصغيرة تدنو من لوكا لتلامس ذراعه في محاولة لتهدئته، وضعت رأسها بين يديها، لا يمكنها الشرح بالكلمات كم تأذث مما يحذث، لن تكفيها الساعات القادمة في لتعبير عن العذاب الذي يتآكلها، فقدت حب حياتها بكل بساطة.
" عزيزتي..." جلس بالقرب منها، رأت أصابعه السمراء تحط برفق على ركبتها ليثير انتباهها." هل آذاك؟؟"
أبعدت رأسها عن يديها، لما عينيها ترفضان التوقف عن ذرف الدموع بحق الجحيم؟؟ اصبحت تشبه النافورات العامة.
" كيليان لا يؤذي أحد... انه غامض وحصيف و متفرد لدرجة أنه لا يدخل في جدال أو حوار..." دفعت شعرها للوراء و تاهت نظراتها في الواجهة الزجاجية التي تطل على حديقة غناء رائعة، بيتها من اجمل البيوت في ميامي بيتش، كيليان اشتراه من أمواله الخاصة، تركه لها ووضعه بإسم ابنتهما" بدأ الموضوع بسبب أسفاره الامنتهية لإيطاليا... "
" ربما يملك عائلة هناك..." قالت شقيقتها بصوت قلق.
حولت اليها أعين حمراء متورمة:
" والدته روسية ووالده 'جاك ارشيبالد' غني عن التعريف، هو أيضا روسي حتى الجذور من اين له بهذه العائلة؟؟ انه يرفض أي تعليق عن أسلتي، لاحق لي بدخول مكتبه ولا الاطلاع على هاتفه و لا حاسوبه، لكنني انفجرت عندما وجدت بالصدفة اوراق ملكية جديدة لأراضي في ايطاليا لم يخبرني عنها - مثل المعتاد- شيئا, أمام صمته اللعين و لامبلاته الجارحة أخبرته بأنه لم يعد بمقدوري التحمل... بأنني أريد الطلاق... "
عم الصمت، ملامح لوكا نشنجت بالغضب الأسود، كان ينظر اليها و كأنه ينوي لوي عنقها:
" طلبتي الطلاق لأنه غامض؟؟ هل تعرفين من هو كيليان ارشيبالد؟؟ ان كان يتردد على ايطاليا فلأنه على قائمة أفضل المحركات العالمية ... "
حاولت اقناع نفسها بذلك نعم، لكنها زوجته و الغيرة تقتلها، تشعر و كأنه يملك حياة مزدوجة، بأن هناك امرأة أخرى تأخده منها.
" سأكلمه..." قال لوكا وهو يقف من مكانه.
" تتوسل اليه أن يعود لي؟؟ لقد وقعنا على الاوراق منذ أسابيع، نحن رسميا مطلقين..."
هذه المرة لم يعود لوكا قادر على بلع غضبه و لا هياجه، انفجر في وجهها مثل أنبوبة غاز:
" هل فقدتي رشدك بفعل هذا دون التكلم لي أولا أو لوالدنا؟؟ "
عندما التقت كيليان كانت متخرجة حذيثا و تعمل في كلينيك خاص لجراح مشهور، لم يخفي الروسي الوسيم رغبته بها بينما تقع عيناه عليها في حلبة سباق السيارات في مونتي كارلو حيث كانت برفقة لوكا و صديق له ايطالي، لم تصدق انه سيترك شرفة الشرف و يلتحق بهم في المدرجات الأولى، حماسة الرجلين صعدت عنان السماء بينما يتعرفا على العبقري بنفسه، لكن عيناه كانتا معها هي فقط، المرة الثانية كانت بعد ثلاثة أشهر في ميامي، أتى للبحث عنها و لم يفترقا من يومها، هو من اشترى لها المستشفى الخاصة الأولى، هو من اشترى منزلها، سيارتها و مجدها و شهرتها، تزوجها عندما اكتشفا حملها، أخبرها بأنه يرفض أن يكبر ابنه في علاقة خارج الزواج، و اليوم... كل شيء تغير... حتى مبادئه تغيرت.
" انه قرار يخصني فقط..." تمتمت بصوت مجروح:" كما أنه قبل فورا طلبي للطلاق... قال بأنه أخطئ التقدير منذ البدايةـ، بأنه لم يُخلق ليكون زوجا... "
وضعت يدها على صدرها، العودة لصراعهما الأخير يعذبها بشدة، حتى انه لم يكلف نفسه عناء اصلاح الوضع، لقد ترك لها كل ما اشتراه من ماله الخاص، أخبرها المحامي بأنه لا يريد غير التحرر سريعا.
" و... و أوكتافيا؟؟" سألتها ناومي، اذ يبدو أن لوكا فقد قدرته على الكلام.
" اضطررت لإقتسام العطل و نهايات الأسبوع معه... " ثم وقفت منهية الحذيث بحزم" لا أريد أن يكلمني أحد مجددا عنه...أنا بالغة و أتحمل مسؤولياتي... زواجنا لم يكن يوما طبيعيا، كيليان يملك الأطنان من الأسرار و بما انه قبل الطلاق بكل سهولة فأعتقد بأن ظنوني في محلها... انه يملك امرأة في ايطاليا..."
لمحت الدموع في عيني شقيقتها، هذه الأخيرة تعشق بشدة 'كيليان' و تحترمه كما يحترمه جميع أفراد عائلتها، تتخيل غضب والدها عندما يعرف بالموضوع، شركة 'تي جي ' على أرقام قوية جدا بمحركات أرشيبالد، و ربما هذا ما يجعل لوكا غاضب جدا على نفيه من المسألة كليا، لكن كيليان كان واضح جدا، لن تتوقف أعماله مع عائلتها، يريد السلام فقط... عيش غموضه اللعين بسلام و التخلص من حشرية امرأة ظنت في يوم من الأيام بأنها شريكة حياته.
" أظنك بالعكس غبية جدا.." سمعت لوكا يقول متنهذا وهو يمرر أصابعه بين خصلات شعره الكستنائية القاتمة" رجل بمكانة كيليان... آه رباه ..."
ضغطت على أسنانها بينما يفضل شقيقها عدم متابعة ملاحظته، ثمة صداقة قوية جمعت الرجلين خلال الستة سنوات المنصرمة، اذا كان يشير لمكانة كيليان فهي تعرف بأن المال لا يدخل في القائمة! تعرف بأنها لن تلتقي مجدد رجل مثله... خسارة كليان مريبة جدا للجميع.
" أتمنى بأنك لن تندمي على قلة صبرك و تهورك..."
قلة صبرها؟؟ ستة سنوات سمعت فيها كلمات الحب و الود موجهة لأوكتافيا فقط... الغريب أنه لم يكن يثق بها رغم كل جهوذها بكسب ثقته، لم يستأمنها على أسراره يوما بينما هي لم تكن تخفي عنه أي تفصيل عن حياتها... من خلال دموعها رأت ابنتها تدخل الصالون، كانت وسط البيجاما تجر دمية الشيفون ورائها، شعرها الأشقر يحيط بها كخيوط ذهبية بينما عينيها الزرقاوين المتطابقتين لكيليان تتطلعان بفضول لمن حولها:
" ها أنت أخيرا أيتها الأميرة..." تحرك لوكا حتى قبل أن تحذث شخصيا ردة فعل، رأته يحملها بين ذراعيه و يضمها بحنان الى صدره، لوكا عرّابها الذي يغرقها في الهدايا و لا ينقضي يوم دون الاتصال بها و الاطمئنان عليها.
" أخبرتني أمي بأن أبي لن يعود الى البيت..."
رمقها شقيقها بقسوة الى أن تكمشت في مكانها، لا تفتخر بمحاولتها قلب أوكتافيا عن والدها بكل انانية، محاولة امرأة يائسة تريد استعادة زوجها بطرق أخرى غير التوسل اليه و الانتقاص من كرامتها... يتصرف لوكا و كأن كيليان هو الشقيق و ليس هي.
" ربما أسئت الفهم عزيزتي..." تمتم برقة للصغيرة وهو يلامس شعرها" ماما تقصد بأن والدك لن يعود فورا الى البيت لرؤيتك، انه مشغول جدا في عمله كما الحال مع عمل والدتك..."
كيف لها أن تشعر بالغيرة الشديدة من ابنتها أمام هذه الكلمات الحانية؟؟ انها الحقيقة... كيليان يعشق بشدة ابنتهما، يتخلى عن سريته و غموضه اللعينين عندما يأخدها بين ذراعيه و يخبرها كم يحبها، أحيانا تتمنى لو تأخد مكانها و أن ينظر الى عينيها بنفس الطريقة و يخبرها كم يحبها... أحلامها لم تتحقق... كيليان رحل من حياتها بنفس السرعة التي دخل فيها... و لا يوجد في العالم ما يمكن أن يشفي هذه الجراح في أعماقها.
* * *
نقيض دفن عزوبة 'داركو' قرر الاصدقاء هذه المرة مشاهدة رياضة خوسيه و العرّاب المفضلة، البولو، الفن النبيل و لعبة الملوك و الأمراء، خوسيه لم يكن فحسب متفرج، انه يدعم الفريق المتباري و خيوله مشاركة في المباراه ، المتفرجون من حولهم ينتمون للطبقات المرموقة، النساء شديدات الأناقة في ملابس موقعة و مجوهرات باذخة، الشامبانيا تتوزع بسخاء، بانوراما راقية و استثنائية، خمس رجال بمفردهم يثير اهتمام النساء بالتأكيد، خوسيه لا يضيع وقته في تجاهل من تروقه مثل المعتاد، انه متمرس في الغزل و ساخر أيضا، وهذا الجانب من الـ play-boy يثير الشراهة الأنثوية، دنى سيزار من اليخاندرو و سأله بخفث.
" داركو يرتدي قميص أزرق هل لاحظت؟؟"
القى اليخاندرو نظرة على داركو، هذا الأخير بدى مهتما جدا بالمباراة، كأس شامبانيا في يده، ملامحه مسترخية، عاد وجهه يمتلئ صحة و اشراق، منذ عودته الى صقلية قبل ثلاث أسابيع وهو في سلام تام مع نفسه، زوجته تعافت تقريبا، حياته تتخذ رويدا طبيعيتها..
" انها ثالث مرّة..." وشوش له اليخاندرو " بدأ يلبس الألوان منذ خروج فلورانس من الغيبوبة..."
ابتسم سيزار بينما غمز له اليخاندرو بتواطئ، سعيد جدا برؤية الأمير يتخلص من الأسود الذي بدأ بإرتدائه منذ تشخيص مرض بيانكا.
" روكو يرتدي بنطال جينز..."
اختنق سيزار في ضحكته:
" يحاول الظهور أقل جدية عندما تكون بريانا في الجوار... "
فجأة أدار خوسيه اليهما اهتمامه، هو الذي يقدس هذه اللعبة النبيلة يرفض أن يعكر صفو تركيزه شيئ حتى وشوشتهما:
" هل بنطال روكو أهم من خيولي ؟؟"
استدار نحوهما روكو مقطب الجبين ما ان سمع اسمه، جميعهم يجلسون على كنبات جلدية تحت شمسية ضخمة، أمامهم طاولة ممتلئة بالمشروبات المتنوعة و الكافيار و الساندويتشات، لا أحد منهم يرتدي لباس رسمية كما حال جمهور هذه اللعبة، لكن رؤية روكو بملابس مماثلة خارج عن المألوف تماما... هو الدائم الجدية و الرسمية الى أن يظن المرأ بأنه خُلق ببدلة من ثلاث قطع :
" ما به بنطالي؟؟"
تبادل سيزار و اليخاندرو النظرات قبل أن ينفجرا في ضحك لا منقطع، شخصيا، يفضل اليخاندرو كرة القدم و الاكتفاء ببيرة و صحبة أصدقائه بدل كل هذا الرخاء المبالغ فيه من حولهم، يعرف بأن سيزار من ذوقه، انه يميل بدوره لكرة القدم.
" سعيد أن أرى بأنني أسليكما..." قال روكو دون ان يمنع ابتسامة من انارة وجهه:" هيا... ما الموضوع؟؟ الا يعجبكما ذوق خطيبتي؟؟..."
" فقدت عشر سنوات من عمرك.." قال سيزار" بريانا تملك ذوق جيد... فقط... نحن لم نتعود على رؤيتك بهندام مسترخي.."
ارتفع صوت حاكم المباراة بأن هناك خطأ، أعادو اهتمامهم للجياد و الاعبين،أحاطت أشعة الشمس كل شيء بضوء ذهبي ناعم، خوسيه لاعب بولو قديم و يعرف عن ظهر قلب كل قواعد اللعبة، حماسته تدفع الابتسامة على شفاههم و ايضا مشاركته هذه الحماسة، هذا الابتهاج دام حتى نهاية المبارة، ثم منح خوسيه انتباهه اخيرا لمعجباته بينما قمع روكو عدة مرات محاولات بضع نسوة كما فعل اليخاندرو، سيزار و داركو محصنين ضد هذا الهجوم الانثوي بفضل دبلات الزواج.
" اذن... فستنفصل عن جوليانا؟؟" سأل سيزار خوسيه في القاعة الكبرى ، حيث تم إعداد الطاولات بتشكيلة رائعة من الأواني الخزفية الانقية لولائم رسمية خاصة بهذا النوع من الزبائن.
" لا... " أجابه و هو يأخد مكانه بينه و بين داركو:" فلنقل أنها لم تعد كافية... أنا نهم للغاية"
" تريد تلوين زواجك الأبيض؟؟" سخرية داركو أتت عالية كفاية لإثارة اهتمام اليخاندرو و روكو.
" الموضوع أكثر تعقيد..." تمتم فجأة منزعج في مكانه، كل اثار للتسلية اختفى من وجهه" آيا تملك نكهة و ذوق مختلف عما اعتدته في النساء".
" انها تعجبك..." تدخل اليخاندرو وهو يلتقط شوكته الفضية ليغرزها في قطعة اللحم الطازجة التي اتى بها النادل" لما لا تأخد الأمور بكل بساطة و تصنع من زواجكما شيء حقيقي..؟؟ ففي النهاية سترزقان بطفلين، وهي لا تنوي التخلي لك عنهما..."
النظرة التي حطها خوسيه على اليخاندرو لم تخفى عن الجميع ووضعتهم في حالة تأهب لمعركة كلامية:
" نحن ننتمي لعالمين مختلفين تماما... ربما تثيرني بشدة جسديا لكنها لن تكون يوما سيدة حقيقية للقلعة و لا الزوجة المناسبة لرجل بمكانتي... أتيت بها من المستنقع... من أعماق المستنقع"
" تبدو قاطعا في هذه المسألة..." قال اليخاندرو بنعومة متهكمة، ثم القى نظرة الى داركو:" أنتمي لنفس المستنقع و الأمير لا يرى بئسا في أن أتزوج ابنته...الأميرة الصغيرة التي تعود جذورها الى القرون الوسطى"
" توقف عن التقليل من شأنك اليخاندرو" اعترض روكو ببعض الحزم.
" شكرا لك أيها العرّاب،فقد كنت من الحظ بحيث بنيت امبراطورية و حصلت على احترام رجال من طبقتكم ...لكل منكم اسم يزن تاريخا... عيب 'آيا' أنها من العامية و فقيرة، ولا تملك سوى ذكائها و جمالها و عزة نفسها... احتقارك لها يثير ريبتي، انها طريقة ساقطة لتحمي نفسك من انجذابك نحوها، نظرتك ما يجب أن تتغير خوسيه و ليس طفلة أخرجتها بالقوة من روتين حياتها و استغليتها لتحمل لك بوريث يحمل اسمك... أنت من لا تستحقها و ليس العكس،... ابنة المستنقع أكثر صلابة و شجاعة من نبيل سافل مثلك"
" أنت السافل و البائس اليخاندرو..." هذه الكلمات تشبعت بغضب أسود، الشيء الذي لم يشعر صديقه بأي اذلال أو اهانة، ابتسم له مستفزا و رفع في صحته كأسه الكريستالي حيث يلمع النبيذ الفرنسي بإغراء:
" الحقيقة مؤلمة دوما خوسيه... أتمنى فحسب أن تنتبه لما أنت بصدد فقدانه قبل فوات الأوان... "
" هذا يكفي..." تدخل روكو:" بحق السماء توقفا... "
" نحن هنا للتسلية ..." تدخل داركو وهو يرميهما بنظرات مستاءة" هل يمكنك رمي سخافاته في وجهه في يوم آخر اليخاندرو؟؟ اليوم دفن عزوبته التي لن يدفنها في اية حال..."
" سخافاتي؟؟" ردد خوسيه متهكما:" أنت من يقول هذا؟؟ "
" لا تنتقضني بسبب الماضي أيها الاسباني، فقد كنت من الحماقة بحيث ارتكبت نفس الخطأ، قللت مما أشعره حقا نحو المرأة التي لم أتمكن من ايجادها في سلسلة النساء اللواتي عقبنها... تعتقد بأنه بإمكانك الفصل بين مشاعرك و هذه... الرغبة الجنسية الكبيرة التي توقظها فيك زوجتك؟... صدقني أنت واهم...أؤكد لك بأن الأمر لن ينجح... أنت تكذب على نفسك...أنت توهمها"
سقط الصمت على الطاولة، يبدو أن خوسيه فقد شهيته وغرق في افكاره و مرت الوجبة في جو جليدي، لاحقا تمكن الكحول من فك أعصاب الكل، انتهت السهرة في كازينو خاص بضواحي العاصمة، و تحاشى الكل الكلام في موضوع يبدو حساس جدا لخوسيه، تفوق روكو في البوكر كما هي عادته، الساعة تجاوزت منتصف الليل عندما قرر الجميع العودة للقلعة... ليس الجميع... خوسيه يفضل أحضان جوليانا.
* * *
" هيه اليخاندرو..."
في الرواق الغارق في الصمت و المؤدي الى غرفته بقلعة خوسيه سمع اليخاندرو صوت بيانكا يوشوش خلف ظهره، كانت ترتدي قميص نوم احمر، شعرها الحالك السواد حول كتفيها، شعر بالدم يتجمد في شراينه، و نظر من حوله بقلق بينما ترتمي هذه الاخيرة بين ذراعيه:
" مازلت مستيقظة؟"
" كنت بإنتظارك" همست له بنعومة وهي تحيط رقبته بدراعيها و تتعلق به " تعال الى غرفتي..."
"لا..."
" بل ستأتي..." تمتمت ببعض القوة" أريد مكالمتك"
خائف من إثارة الانتباه في الرواق و ايقاظ من حولهما تبعها الى غرفتها و اغلق الباب خلفهما، كانت غرفتها تشبه غرفته في الاثاث الانيق، اباجورة السرير تنير المكان بلون ذهبي هادئ، عادت بيانكا تتعلق في عنقه و تجذب رأسه نحوها لتغرق معه في قبلة ملتهبة قطعت أنفاسهما، أدرك فورا بأن خططها ليس فقط الكلام، يديها بدأت سلفا بتحرير أزرار قميصه، الكحول يرخي أعصابه و يدفعه للاستسلام لهذه النار التي تتآكله، متأكد من القتال الذي كان يخوضه ضد نفسه لعدم الامتثال لإغرائها و رغبته للهروب إلى الطرف الآخر من الرواق و الالتحاق بغرفته، مقاومته تخور تحت شفاهها و لمسات يديها التي وجدت بشرة صدره، سرعان ما تخلى عن معركة خاسرة أمامها، و تجاوب مع قبلاتها بحماسة، تنهذت بينما يديها تبحث عن بشرتها تحت قميص نومها.
طرقة على الباب جعلتهما يجفلان، قبل أن يتمكن من الابتعاد عن أحضانها فتح الباب ليضهر داركو.
شعر اليخاندرو بأن بيانكا تشحب مثل الأموات و تتصلب بين ذراعيه مثل التمثال، كانت عيناها عالقتين بوالدها، شتم في داخله، كان يعرف بأنها فكرة سيئة، داركو يطمئن على ابنته كل ليلة قبل أن ينام، كان ينوي التدخل ليخفف من صدمتها، أن يخبرها بأن والدها على علم بما بينهما، فلم تتاح لها الفرصة لإخباره بشأنهما بسبب الظروف التي مرّ هذا الأخير بها وهو موافق بالتأكيد على تمهلها، لكنها في هذه اللحظة، تبدو مرتعبة و كأنها أمام ملاك الموت، ك ان خائف من أن يُغمى عليها.
" أ... أبي... سأشرح لك"
شعربالشفقة، داركو لا ينوي بالتأكيد تسهيل المأمورية على ابنته.
" ليس خطئه" تمتمت بصوت مرتجف" أنا من أجبره على المجيئ الى غرفتي... كنت... أريد أن أكلمه.."
إنها فرصتها لتخبر أباها بما يحذث حقا، سبق ووعدته بحق الجحيم لما تتردد مجددا بينما يضبطهما في أحضان بعضهما؟ هي بقميص النوم مجعكة بفضل لمساته و هو بقميص مفتوحة عند الصدر؟؟ كما لو تم تنبيهها بالحاسة السادسة بهذه الخيبة التي تجد طريقها لنفسه، رآها تلتقط أنفاسا عميقة... يرفض ان تحطم قلبه مجددا بتراجعها، شعر بشد في حلقه بينما ينتظر ما سيعقب هذه الانفاس التي أخدتها، ربما من الأفضل له اخلاء المكان و منحهما الحميمية، وكأنها شعرت برغبته في الانسحاب، دنت منه لتشبك أصابعها بأصابعه، عيناها لا تفارقان وجه والدها، بصوت مرتجف تمتمت:
" أنا مغرمة به... " أخيرا... فكر اليخاندرو وهو يعصر على اصابعها ليمنحها دعمه، تابعت بلكنة مشحونة بالعاطفة:" كنت أنتظر فحسب أن تشفى فلورانس و تستعيد أنت السيطرة مجددا على حياتك لأخبرك بمشاعري... "
داركو لا يفتح فمه بكلمة، و لا يغير بالمقابل طريقته في تثبيتها:
" انه رجل حياتي أبي لذا أتوسل اليك... بحق كل ما هو مقدس... لا تهاجمه، لا تهاجم سعادتي"
أمام غياب ردة فعل داركو تركت أصابعه لتدنو منه و تحملق به بنظرات ممتلئة بالتوسل و الدموع:
" لا تلومه أرجوك... أنا من هدده بإنهاء كل ما بيننا ان تجرأ و أخبرك... كنت مرتعبة من ان تنقلب ضده ما ان تعرف بمشاعري كما هي عادتك"
عبس داركو:
" كما هي عادتي؟؟" سألها ببرود:" تتكلمي و كأنني أتعمد حرمانك من السعادة بيانكا... حميتك من دافيد لأنه سافل، كيفن لم يكن أقل حقارة... فعلت ما استطعت لأفتح عينيك للرجل الذي فهمت متأخرة بأنه هو الذي يناسبك... فقط لو كنت تثقين بي أكثر يا ابنتي"
أغلق اليخاندرو ازرار قميصه و انتبه الى أنه فقد بعضها، لحسن حظه أنه لعب أوراق الصراحة منذ البداية مع داركو، لايعرف ما ليكون عليه الموقف لو تبع رغبة بيانكا بالتكثم، هذه الأخيرة لا ينقصها الذكاء لتفهم معاني كلمات والدها:
" تقصد بأنك كنت تعرف؟؟ " استدارت نحو اليخاندرو ترمقه بنظرات متهمة" أنت أخبرته... لقد سخرت مني كل هذه الفترة"
" لم أسخر منك... تعرفين طباعي بيانكا... من المستحيل أن اخفي عنه ما بيننا، ولائي و احترامي لوالدك أكبر من هذا..."
فتحت فمها قبل أن تعود بغلقه عدة مرات، لا تجد ما تقول، احمرت وجنتيها بشدة بينما تعود لتواجه داركو، حرجها أشعره بالعطف، دنى نحوها يمنحها مجددا دعمه، لكنها كانت غاضبة لدرجة أنها ترفض ملامسته:
" اتركني مع أبي أرجوك..."
تقبل هذا الرفض... برآيها فقد كذب عليها:
" لا بأس بونيتا.. لكن أرغب بقول كلمة لوالدك أمامك قبل أنسحابي..." تطلع مباشرة في عمق النظرات القاتمة التي يثبته بها الأمير " أحب بشدة بيانكا و أطلب يدها منك أمامها... أريدك أن تعرف بأنني سأحميها، و اكرس كل حياتي في إسعادها و الاهتمام بها... بأنني سأضعها قبل أعمالي و أن تكون على قائمة اهتماماتي... بأنني لن أخذلها يوما و لن أحزنها و سأكون لها السنذ الذي كنته لها منذ سنوات... سأجعلها أسعد امرأة على وجه الأرض"
لانت نظرات داركو، كل كلمة تخرج من منبع قلبه الخاص، سيضعها في مكانة التقديس هو يعرف، لأن الحب الذي يحمله لها يفوق ما سبق و شعره في كل حياته، التفتت بيانكا نحوه، عينيها ممتلئتين بالدموع، الغضب الذي تملكها قبل لحظات انقضى على ما يبدو:
" آه اليخاندرو... أنا أيضا أنوي اسعادك و تكريس حياتي في الاهتمام بك..."
جرفها الشغف و أنساها بأنهما ليسا بمفردهما، ارتمت بين أحضانه و ضمها اليه بنفس القوة، هو الذي كان ينوي طلب يدها علنا غدا بعد زفاف خوسيه امام بقية افراد العائلة يستبق الأحذاث، سيزار و خوسيه أخبراه بأن الخاتم الذي اختاره للمناسبة رائع و يليق بفتاه بشخصية بيانكا، انيق بسيط و متوهج، أدار نظرات قلقة نحو داركو، يستعجل ردّه:
" أيها الأمير؟؟"
" بالتأكيد أنا موافق اليخاندرو... لا يوجد في العالم من يمكنني استئمانه على ابنتي غيرك"
غريب هذا الوضع... بيانكا بقميص النوم، وهو بملابس غير مرتبة و شعره المشعث على جبينه، في جوف الليل، بينما يضبطهما داركو كمراهقين يلهوان خلف ظهور البالغين.
" أبي... أشكرك"
استغل ابتعادها اتجاه والدها ليخرج العلبة التي لا تهجر جيبه منذ ثلاثة ايام، كان يرغب بطلب يدها بطريقه مختلفة لكن... فليكن.
هذه الحميمية ايضا في بطن الليل النائم بينهم هم الثلاثة اكثر جمالية من اي شيء آخر، يعرف كم يعشق داركو ابنته وهو بصدد أخد مكانه بشكل من الأشكال، ويقدر كثيرا هذه الثقة التي يمنحها له صديق عمره، جثى على ركبته أمامها بينما تستدير مجددا نحوه...
" بيانكا ايستر فالكوني... هل تقبلين الزواج بي... بأن أحبك، أنت و الحيوانات التي تنوين علاجها لما تبقى من عمري؟؟"
وضعت يديها على فمها، تحبس ضحكة هستيرية و عاطفة جياشة، كانت رائعة... أشد روعة و جمال من أي وقت مضى بينما تمد له يدها اليسرى و تهز رأسها بالموافقة الى أن تبعثرت خصلاته حول وجهها:
" نعم أقبل... رباه... متى اشتريت هذا الخاتم؟؟ و أنا التي تبحث دوما في جيوب ملابسك..."
انفجر اليخاندرو في الضحك..
" دوما مستعجلة؟؟"
أدلف خاتم الخطوبة في أصبعها و قبل يدها قبل أن يعود ليقف على قدميه و يتبادل معها قبلة أمام نظرات داركو المتفحصة، سعل قليلا لينبههما بوجوده قبل ان يتمتم معترفا:
" يجب أن أتعود على هذا..."
مسحت دموعها بينما ابتسامتها المشرقة تنير وجهها الجميل، دنت منه و التقطت يديه بين يديها:
" هذا لا يعني بأنني سأنساك .. أنت حبي الأول لا تنسى"
" فليكن..." قال داركو متنهذا وهو يقبل رأسها :" تهانينا صغيرتي.. سأتخلص من غيرتي مع الوقت لا تهتمي... فقط لا تكثرا القبل أمامي حاليا الى أن أتعود على الموضوع"
" الأن يمكنني ترككما بمفردكما..." تدخل اليخاندرو لكن الأمير اعترض متنهذا:
" تهانينا اليخاندرو.. أنا من يجب ترككما بمفردكما... أظن بأننا لا نملك ما نقول أنا و بيانكا... أنتما مع بعض... أمنية لازمتني منذ وقت طويل وقد تحققت أخيرا... ربما أمام ابنتي سنوات دراسة طويلة لكن اعدكما بزفاف رائع متى قررتما ذلك"
على هذا الوعد اخلى المكان، حطت بيانكا نظرات نارية عليه و دنت منه مبتسمة و خلافا لكل توقعاته صفعته على خده:
" هذا لأنك أخفيت عني الحقيقة بشأن معرفته بالموضوع..." قبل أن يتمكن من لمس المكان الحارق على خده، أخدت وجهه بين يديها و قبلته بشغف أنسته فورا هجومها:" و هذا لأنك رجل كلمة وولاء و لم تخالف مبادئك من أجلي... أحبك اليخاندرو."
أبعد شعرها عن وجهها، كان النور الذهبي يعطيها هالة خيالية، ملامحها الجميلة مسترخية في سعادة، انه وراء هذه البهجة المتلئلئة في عينيها، و ينوي رسم هذه السعادة الى آخر ايام حياته.
" أحبك ايضا بونيتا..." أمسك بيدها اليسرى ليقبلها برقة:" هل أعجبك الخاتم؟؟"
" هل تمزح؟؟ انه أجمل ما وقعت عيناي عليه..."
مع كل المجوهرات التي يغرقها بها والدها يجد كلامها مبالغا فيه لكنه يملئه بالسرور و الفخر:
" هل وضعت به اسمينا؟؟" سألته و هي تنتزعه لتشاهد ما تم تدوينه بالداخل.
" لا..."
اقطبت بينما ترى رموز لا تفهمها، اتسعت عيناها فجأة، و أبعدت قميصه لتعري على الوشم في اسفل قلبه لتقارنها، هزت عيناها نحوه متسائلة... نعم... أتى الوقت ليشرح لها، أمسك أصبعها، وضغطه على كل حرف من الوشم الذي يحفظه عن ظهر قلب:
{ وحدي... منحتك... اسما... لم ...يكن... اسمي... بيانكا }
أعاد الخاتم الى أصبعها ووضع راحة يدها على الكتابة ناحية قلبه لتشعر بدقاته المتسارعة، تطلع الى عينيها الممتلئتين بالدموع، كانت تبدو تعسة فجأة:
" لا تبكي حبيبتي..." وشوش مترجيا.
" أنا آسفة لأنني عنيت لك كل هذا الحب بينما ارتميت بين احضان سافل مثل دافيد... "
هز راسه بالنفي، الخطأ لم يكن خطئها بمفردها، هو الجبان الذي لم يتمكن من الاعتراف لها منذ سنوات بما يشعره نحوها:
" كنتي بحاجة لتجارب أخرى بيانكا... أنا لست قديسا... أنا ايضا عرفت نساء قبلك... لذا، فلندع الماضي ورائنا و نغلق موضوع دافيد مرة الى الأبد... و الأن... " قربها أكثر منه الى ان التصق صدريهما، ولم يعد يفصل شفاههما سوى سنتمترات قليلة" بما أني حصلت على مباركة داركو التامة... لا أنوي تضييع الوقت... أفتقدتك بونيتا... أتحرق ليحاد الحب مجددا بين ذراعيك"
أمسك بوجهها بين يديه و قبّلها، هذه المرة لا ينوي الاسراع، سيأخد وقته... بيانكا أصبحت له أخيرا، روحا و جسدا.


أميرة الحب غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 05-11-20, 02:50 PM   #3803

أميرة الحب

مشرفة وكاتبة في قلوب أحلام وكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء وعضوة في فريق الترجمة

alkap ~
 
الصورة الرمزية أميرة الحب

? العضوٌ??? » 53637
?  التسِجيلٌ » Oct 2008
? مشَارَ?اتْي » 14,442
?  مُ?إني » فرنسا ايطاليا
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Morocco
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » أميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   cola
¬» قناتك fox
?? ??? ~
https://www.facebook.com/الكاتبة-أميرة-الحب-princesse-de-lamour-305138130092638/
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

الفصل الثالث


كم تبدو عائلتها متناقضة مع فضاء هذه القلعة المهيبة، فكرت' آيا ' ببعض الحسرة، خوسيه وفي بوعده و أتى بكل مدعوي والديها من تركيا، فلنفل أكثر من أربعون شخص؟؟ هؤلاء عملوا على أن يليق مظهرهم بمكانة رجل مثله، و رغم كل هذه الجهوذ، يبقون متطرفين و شاذين على المحيط، تفقدت آيا الطاولات المتفرقة التي تم وضعها لتقاسم وجبة الفطور في الحديقة، البوفيه المفتوح يليق أكثر بفندق راقي دائع الصيت، كل أفراد عائلتها سعيدون بكل الاهتمام الذي يقدمه لهم الخدم، كانت تتنقل من طاولة لأخرى، تبتسم لمدعويها، تتصرف بسعادة عروس تتهيأ لربط مصيرها بحب حياتها بعد الظهر، باريش و زوجته و جان و زوجها يتقاسمون نفس الطاولة مع والديها، شقيقها الصغير'ايفو' سعيد جدا بالمسبح الذي يسيل لعابه، سبق و سألها ان كان بمقدوره السباحة بعد تناول الفطور ووعدته بأن يفعل ان بقي مهذبا.
" كل شيء كما ترغبون؟؟"
سألت عائلتها بعد ان اتمت تجاوالها بين المدعوين.
" كل شيء خمس نجوم آيا" قال باريش برنة صادقة:" كنت أقول لوالدتك بأنك ربحت الجائزة الكبرى..."
تلاشت ابتسامتها :
" خوسيه من ربح الجائزة الكبرى بحصوله على امرأة مثلي..."
انفجر الكل في الضحك، بعضهم مؤيدها و الاخر ربما يراها متعالية و يسخر منها، التقت نظراتها بنظرات والدتها، لقد عملت على الا يشعر أحدهم بأن علّة ما في علاقتها مع خوسيه و بأنها تعسة حتى الاعماق.
" انت محقة ابنتي... لن يجد خوسيه امرأة رائعة مثلك... و الان... التحقي به، أرى بأنه لا ينفك عن النظر اليك"
نعم فقد شعرت بنظراته عليها كل الوقت، هي التي تتهرب و تؤجل لحظة التحاقها بالطاولة التي يتقاسمها مع اصدقائه و نسائهن، الطاولة الوحيدة الحماسة، حيث تتعالى الضحكات و الكلمات القوية بالايطالية، و كأنهم بمفردهم و ليس ضمن أكثر من خمسين فرد في هذه الحديقة الشاسعة.
" انت محقة... بما أنني تفقدت الجميع يستحسن ان التحق بالبقية..."
لكن جان استوقفتها و اشارت برأسها الى الطاولة حيث خوسيه و رفاقه:
" وجوههم مألوفة جدا... "
جان تهتم كثيرا لوجوه هوليود ولابد أنها تقصد فلورانس، القت آيا نظرة نحو الاشخاص القابعين بإسترخاء، فلورانس تترك مقعدها لتجلس على ركبتي زوجها، ذراع سيزار تحيط كتفي زوجته الحسناء بينما بريانا تهتم شخصيا بوجبة روكو، بدت للحظة و كأنها تحثه على اتمام طبقه و كأنه طفل صغير، اليخاندرو بمفرده، وسامته طافحة لدرجة تجعل قلبها ينكمش داخل صدرها، خوسيه يحتفظ بمقعد فارغ بجانبه، كان يستمع بإهتمام لما يقوله الأمير... حتى من هاته المسافة، يبدون اناس غير واقعيون، أفراد يفوقون الخيال، مالذي أوصلها الى هذا المكان بحق الجحيم؟؟ فكرة غبية ببيع عذريتها لانقاذ شقيقها الصغير ايفو...
" الأمير و الأميرة فالكوني... فلورانس هي ابنة فرجينيا المغنية و الكونت أندريس" أمام اتساع حدقات باريش أدركت بأنه مهتم جدا بتعريفاتها:" روكو ايميليانو هو ملياردير صقلي، الكل يلقبه بالعرّاب، يُقال بأنه أقوى شخص في ايطاليا و بأن نفوذه بلا حدود، بريانا هي وريثة يونانية، تمت خطبتهما مؤخرا... الشخص بجانب خوسيه هو اللورد سيزار، قريب الأمير داركو، و من بجانبه الحسناء روبي، ابنة الدوق و الدوقة سيفيرانو... ثم اليخاندرو... سبق و تعرفتم عليه في تركيا"
عندما انتهت اكتشفت بأن الجميع يحط عليها نظرات مشدوهة، كان ليبدو الوضع مسليا في ظروف اخرى، لكنها مضطرة للشرح كي يحسن الجميع التصرف، ترفض ان ينتقص منها خوسيه، تشعر بأنه تعمد هذا الكرم كي يحط الكل امام امتحان، ينتظر أقل خطأ كي يمضي الأيام القادمة بتهكمه المريب، لكن كرامتها لن تسمح لها، فقد أذلها بما يكفي حتى الأن، أقسمت أن تدفعه ثمن تحقيره، أقسمت على الا تكون مجددا لعبته، و ستبقى قريبه من أفراد عائلتها لتقودهم بالطريقة الصحيحة تفاديا لأي احراج.
" سوف أتقيأ..." قالت جان، شاحبة الوجه فجأة.
" رغم مركزهم العالي الا انهم متواضعون جدا... انها مسألة يوم واحد, الجميع سيبدأ بالرحيل في المساء أو صباح الغد..."
بدى الكل صامتا فجأة، و كأن مسألة التصرف بطبيعية صارت مستحيلة فجأة، زفرت ببعض اليأس، ليس هذا ما توقعته، لكنه لم يعد بإمكانها تجاهل خوسيه أكثر، ألقت نظرة أخيرة عليهم قبل أن تهمس لخالها:
" أتوسل اليك... لا تطلب شيء من أحد كما سبق و فعلت في تركيا بشأن الليموزين... هذا سيحط من قدري... لا تقترب من أؤلائك الرجال..."
" لا بالتأكيد..." تمتم باريش و كأنه متحسر على هذا الوعد:" لم يسبق لي أن اقتربت من أمير في حياتي... ثم مجرد التفكير في الأمر يثير رعبي"
لا بأس، ابتسمت لإيفو الذي كان يلتهم طعامه بشهية، و انحنت تشعث شعره الناعم:
" كل بهدوء ايفو كي أسمح لك بالسباحة في البركة بعد الوجبة..."
الوحيد الذي لا يهتم لهذه الفوارق هو شقيقها الصغير، لا يبدو صاغيا لكلامهم.
" اذهبي الى زوجك..." سمعت والدتها تدمدم :" يبدو فاقد الصبر"
السافل الفاقد الصبر، لم يمضي حتى ليلته في القلعة تفاديا لأي شبهات، لحسن حظها أن والديها يقيمان في بيوت الضيافة و ليس في غرف القلعة التي تم تخصيصها فحسب لعائلة خوسيه و أصدقائه، وضعت ابتسامة على وجهها و خطت نحو المجموعة التي تنفجر في الضحك على شيء قالته فلورانس، وقف خوسيه بينما تصل اليه و ضرب على المقعد بجانبه، جلست عليه متفادية رغبتها في الفرار بعيدا، و ربما التقيؤ على الطاولة الممتلئة بالصحون الشبه فارغة، انتبهت بأن بيانكا ليست هنا، تساؤلها لم يدم طويلا، رأت فلورانس تضع أصبعين في فمها ليمزق تصفيرها أدنيها، كم تحسدها على سعادتها و على حماستها و مزاجها الدائم المرح، بدأت تردد كلمات أغنية ايطالية معروفة بينما تظهر الجميلة بيانكا في فستان صيفي رائع تتلاعب ثنورته حول ساقيها الممشوقتين:
{...سيكون هناك...
قصة حب مرافقة لعالم أفضل...
سيكون هناك...
سماء أكثر زرقة وصفاء...
سيكون هناك....
حبيبتي بجانبي وهي ترتدي لي الأبيض.
سيكون هناك...
طريقة أكثر انسانية كي أعبر بها عن حبي لك بشكل أكبر}
رافقت روبي غناء فلورانس بينما سيزار يضرب بخفة على الطاولة ليخلق نوع من الموسيقى المرافقة، بيانكا خبأت وجهها خلف يديها بينما اليخاندرو ترك مقعده ليتوجه نحوها:
" أتركوها بسلام..."
انتبهت آيا لخاتم الخطوبة، اذن هذه التصفيقات و التصفير الذي اثار انتباه كل من الحديقة بسبب هذا الخاتم؟! ارتفعت الأصوات عاليا :
" bacio....bacio....bacio...bacio"
bacio...هي قبلة بالايطالي، الهتاف دفعهما لتبادل القبلة المنتظرة بشدة هذا خلق موجة تصفيق حارة لا تصدق، أبقت 'آيا' عينيها الى الثنائي دون ان تشارك الجميع حماستهم و جنونهم، كانت بيانكا متفجرة جمالا و سعادة، وجهها غارق في حمرة قانية أمام كل الأعين المركزة عليها، اذن فقد وجد اليخاندرو محبوبته، ابنة صديقه، المرأة التي كتب اسمها على عضلة قلبه، لا تعرف ان كانت قد شعرت في كل حياتها بسوء أكثر من هذا، لكنها تفضل الموت على منح خوسيه اي متعة، كانت تشعر بعيناه عليها، مؤذيتان، خبيثتان، أخفت وجعها في أحشائها و ابتسمت ملئ فمها، تصفق مثل البقية للعرض الذي قدمه الخطيبان الجدد، كانا مناسبين لبعضهما لدرجة تنسيها كل أحلامها السابقة بالنسبة لأليخاندرو، تصفيرة فلور القوية دفعت الأمير بالانفجار في الضحك:
" بحق السماء فلور، ثقبت طبلة أذني..."
" تصفرين أفضل مني" قال سيزار بينما ينضم الثنائي اليهما على الطاولة، يد في يد، سعيدين بشدة... سعيدين بشكل مؤذ لمشاعرها، لا تعرف ان كانت ستتحمل أكثر هذا العذاب، ترغب بالرحيل من هذه الطاولة، فلا مكان لها بين هؤلاء الناس الهانئون بحب بعضهم البعض، ما يجمعها بخوسيه وسخ و قذر.
" أرينا خاتم الخطوبة..." تدخلت روبي و هي تلقي بكثلة شعرها الحالكة السواد الى الوراء.
بإبتسامة مشعة عرضت بيانكا خاتمها، يدها بالقرب من وجهها، خديها محمرتين من الاثارة، كم تشعر بالعار مما فعلته بها ذلك اليوم بينما تحاول ابعادها عن اليخاندرو، العذاب الذي اطل من عينيها القاتمتين بينما تحاول ايهامها بأن هذا الأخير يشعر فحسب بالشفقة عليها.
" انه رائع..." قال فلورانس بنبرة صادقة.
" يليق بك بيانكا تهانينا عزيزتي..." و كان هذا صوت بريانا، لم تهز عينيها نحوها، كانت متسمرة بالنظر الى البريق الذي يلتمع في حجرات الماس و السافير بأحجامها مختلفة، خاتم يشبه صاحبه، جميل أنيق ورائع، في ظروف أخرى... ربما كانت هي من تحمل هذا الخاتم، و تتفجر بهذه السعادة، تشعر أنها في بُعد موازٍ. عمياء بسبب بريق الماس الذي نبهها بنهاية أحلام تافهة دامت أكثر من الازم، كان الجميع يتهاتف لترديد التهاني، هي بقيت متجمدة مكانها، متحسرة على وضعها البائس، اليوم ستتزوج من رجل لا يحمل شيء من فارس الأحلام، و حامل بطفلين لم تخطط لهما في حياتها، أحلامها بالوقوع في الحب و الزواج ممن تحب ذات يوم تنتهي الى الأبد، شعرت بأنفاس خوسيه على رقبتها، ثم بصوته في أذنها:
" عيناك تلمعان بشدة querida ان انفجرت في البكاء الأن فسيكون موقفك محرجا"
كان صوته يحمل من التهكم و السخرية ما يزيد من غرس الخناجر في جراحها، قبضت على أسنانها، لن تريه كم تأذت من خبثه، التقت بنظراته، نظرات صافية مثل العسل شبيهة جدا بنظرات أسد يحوم حول فريسته، هذا الوجه الوسيم جدا بملامحه ارستقراطية و نبيلة، لكن روحه فاسدة للاسف، لسان الأفعى يقطر سما، الشيطان في شخصه! أيها الشيطان ، اخرج من هذا الجسد!
التقطت أنفاسا عميقة و رسمت ابتسامة واسعة على شفاهها قبل ان تدنو منه كي لا يسمعه غيره:
" اختطافك أحلامي لا يعني حصولك عليها... خطوبته لن تحول بينه و بين مشاعري... سيبقى حبيبي كما لن تكون يوما خوسيه... أبدا".
لم تلقي نظرة على وجهه مجددا لترى وقع كلماتها عليه، اختلطت بالبقية لتهنئ الخطيبين قبل أن تبلع فطورها في جو مليئ بفلورانس ريتشي... المرأة تجعل الجو ناعما جدا و مرحا، نجحت بالتصرف بحيادية، كل من حولها يهتز في مكانه من الضحك تارة، يغرق في نقاش محتدم تارة، اليخاندرو يتحاشى النظر اليها عكس بيانكا التي تبتسم لها ابتسامة صفراء، عندما رأت دانيلا تقترب فجأة من الطاولة حمدت الله، أخيرا يمكنها الهرب من هذا الضغط:
" وصلت الفساتين التي طلبتها 'آيا'..."
تركت مقعدها بفرح، ستهرب من مزاج خوسيه الذي تحول الى كل شيء غير مسالم، لقد نجحت في جرحه، لكنه هو من آذاها أولا، ولا تنوي تلقي الضربات دون اعادتها.
" شكرا دانيلا..."
ثم ابتعدت دون القاء نظرة أخيرة للوراء واعية بنظرات خوسيه الشيطانية تحرق ظهرها.
* * *
{ أجيبي على رسائلي فلورانس... هذا الصمت يقتلني، لست سوى ظل نفسي... }
الرسالة المئة منذ هذا الصباح؟؟ لا يعرف 'كيفن' كم ان رسائله مؤذية لمشاعرها، انها تحاول التأقلم مع فكرة أنه خرج من حياتها لكنه لا يترك لها فرصة الشفاء منه...الشفاء من صداقة دامت منذ الطفولة.
في لوس انجلس، بعد خروجها من الغيبوبة، تحققت مقولة'توأم الروح' مع داركو، هذا الأخير عرّى تماما عن روحه أمامها، أمضيا أسابيعهما في الكلام، في التقرب من بعضهما، كلمها عن عقده و عن والديه و عن مخاوفه السوداء، كم احترمت شجاعته، هو ليس كاملا، لديه أخطائه كما لها هي نفسها، لكنهما يتفقان على شيء أساسي، هو أن يتركا زواجهما بعيدا عن التوثرات الخارجية، و أن يكونا صريحين و شفافين اتجاه بعضهما... تغيرت الأمور نعم، هناك تحسن عميق في ما يجمعهما، هذه المرة ترى الحب في نظراته عندما يحطهما عليها و ليس الرغبة فقط... تعرف بأنها تعني له أكثر من جسد يثيره، و كم يريحها هذا.
بعد خروجها من المستشفى، تصارعت مع نفسها بشأن أشباح ' كيفن'، أخبرها 'داركو' أن تفعل ما تراه صائبا، لكنها متأكدة من أنه ضد فكرة رؤية صديقها مرة أخرى، كما هي ضد رؤيته لفكتوريا التي لا تتوقف عن الاتصال به، فعل هذا ألأخير شيئ جيد لزواجهما... غيّر أرقام اتصالاته، بالرغم من أنها متأكدة بأن هذا لن يمنع فكتوريا من الوصول اليه ان رغبت.
فرجينيا من رأي جانيت، طلبا منها تركه لرؤيتها، بأنهما يحتاجان للكلام و لتوضيح الأمور، و اي أمور ترغب جانيت بأن توضحها معه؟؟ لقد كلمته هاتفيا، أخبرته بأنها بخير و بأن يتوقف عن القلق بشأنها، و ماذا كان ردّه؟؟ بأن داركو و راء الهجوم الناري عليها؟؟ بأنه هو من ارسل من يخلصه منها كي يتمكن من الاحتفاظ بنيكولاي؟؟ الغريب أن كيفن واثق جدا مما يقول، بل يقسم لها بهذا، يتوسل اليها ان تتركه، أن تطلب الطلاق و أن تعود للعيش في لوس انجلس، بأن يهتم هو بها و بإبنها و ان يعيشا قصة حب حقيقية... هذا الكلام، أكد لها بأن الوضع ككل ميؤوس منه، كيفن مهووس بها لدرجة أنه خطر محدق على زواجها، لذا فضلت ألا تسمح له بزيارتها ولا الاقتراب منها، أخبرته بكل بساطة بأنها تثق بداركو و بأنه الوحيد رجل حياتها و لن تستبذله به أو بغيره.
ان عادت الى صقلية مع زوجها فلأنها تعرف بأن مكانها الى جانبه، لقد ترك لها ايضا الخيار، ان كانت تعسة في صقلية، يمكنهما الانتقال الى لندن، أو حتى نيويورك... ابن صقلية الاصلي يرغب بتغير مناخه لإرضائها، الابتعاد عن اصدقائه المقربين، الشيء الذي لم تقبله، لقد اشترى لها قلعة رائعة في لندن و بإنتظار انتهائها سيتقاسمان العيش بين المكانين، بالنسبة لعملها فهي حرة بالتنقل كما يحلو لها، وعدها أيضا أن يكون بجانبها في معارضها و أمسيات عملها.
كل شيء يبدو كامل... كامل بشكل مقلق لراحتها، تخاف من فكتوريا و تخاف على داركو من شرها...
سمعت صوت مياه الدوش يتوقف، فضغطت على خانة المسح لتتخلص من كل الرسائل التي توصلت بها منذ الصباح، ترفض أن يعكر صفو هذه السعادة التي تعيشها شيء.
" تبدين مهمومة..." سمعت صوته العميق بينما يخرج من الحمام ، منشفة بيضاء حول خاصرتيه، وسيم بشكل مهول بخصلات شعره الندية." ما الأمر كارا؟؟"
و هل يمكنها افساد بهجة هذا اليوم؟؟ انه زفاف خوسيه و من الافضل لها الاسراع بإلاستعداد و ابعاد كل ما هو سلبي على رأسها.
" أرسلت صور بيانكا و اليخاندرو لقريباتي... الكل يقول بأنهما يليقان ببعضهما..." ابتسمت له ملئ فمها و هي تغلق هاتفها و ترميه على طاولة الزينة:" سوف أخد دوشا ريثما ترتدي بذلة الاشبين..."
بان الاستياء على ملامح وجهه:
" أكره البذلات..."
" هذا سيحذث بعض التغيير" قالت ضاحكة و هي تقترب منه لتضع قبلة على شفاهه:" سأستحم سريعا..."
بان القلق في نظراته:
" هل تحتاجين مساعدتي؟؟ ليلة أمس كنت تأنين كلما غيرتي وضعية نومك..."
مسدت بحذر كتفها بأصابعها، حيث الرصاصة تركت نذبة مشوهة، أخبرها أطباء التجميل بأنه يمكنها اخفائها جراحيا لاحقا و ليس الان، يجب أن تُشفى كليا... عليها انتظار سنة كاملة و ربما أكثر.
" انها تؤلم أحيانا... و لن أرفض مساعدة مثير مثلك ان عرضها"
* * *
" مع كل احترامي لخوسيه الا انه لا يبدو تمة حب بينه و بين الجميلة 'آيا' ... " قالت روبي و هي تضع قرطيها الماستين و تتفقد نفسها في مرآة الزينة.
" و أنت أصبحت خبيرة في الحب؟؟"
سؤال سيزار المتهكم خلفها جعل ابتسامتها تتسع، ابتعدت عن المرآة لتواجه الرجل الوسيم في بدلة الاشبين، شعرت بالحب و الحنان يتفجران في صدرها بينما تلتقي بنظراته:
" منذ ان دخلت حياتي"
" رباه... لا تنظري لي بهذه الطريقة... لا أتحكم في نفسي روبي و يجذر بنا الخروج من هذه الغرفة بكامل ملابسنا..."
انفجرت روبي في الضحك، ضعف سيزار نحوها لم يخف و لن يخف مع الوقت، رغم حذره الا انها قطعت المسافة بينهما و احاطت عنقه بذراعيها:
" و الاشبين لا يمكنه الوصول متأخرا..."
هز رأسه بالنفي:
" تحت أي ظرف... أنا من يحتفظ بدبل الزواج"
وضرب بخفة على سترته، برطمت و هي تجعك أنفها:
" أنت اشبين وفيّ يصعب رشوته..."
" هذا لا يمنع بضع قبلات"
احنى رأسه ليضع شفاهه عليها في قبلة حارّة، تجاوبت مثل عادتها، يكفي ان يضع يده عليها كي تنصهر مثل الزبدة تحت أشعة الشمس.
" هذا الفستان مثير جدا عليك... هل تهذفين لحجب الرؤية عن العروس اليوم؟؟"
هزت عينيها الى السماء بينما تمسح آثار أحمر الشفاه على فمه:
" انها صغيرة و نضرة و نقية... عكس نساء خوسيه الاعتياديات فكيف تتوقع ان أختطف منها الأضواء بينما ستلتحف بالأبيض الذي لن يزيدها سوى نقاء و انتعاش؟؟ " أمالت رأسها لتتطلع الى عينيه" اعترف بأن جوليانا جميلة و فاثنة و تتلألأ عندما تتأبط ذراع خوسيه، هما مناسبين لبعضهما... رائعين و متلئلئين...لكن هذه الفتاة... تعجبني أكثر... انها مختلفة... فيها شيء ينقص جوليانا... شيء سيغير خوسيه الى الأفضل فقط لو يمنحها فرصة"
* * *
" لا تخبري سابرينا بشأن خطوبة اليخاندرو.."
اتسعت عينا بريانا بفضول بينما تعدّل ربطة عنق روكو، الذي يبدو شديد الأناقة في بدلة الاشبين، أمام تعابيرها شرح بهدوء:" لدى صوفي بعض الضعف نحو اليخاندرو... سيؤذيها ان زل لسان سابرينا و ارفض ان يؤثر شيئ سلفا بوضعها الهش..."
كانت تشك بالموضوع، هي ليست غبية كي لا تلاحظ النظرات التي تحطها صوفي على صديق شقيقها، أو بالأحرى صديق والدها، اذن فروكو على علم بهذه المشاعر، و ابتسم مهنئا اليخاندرو هذا الصباح لأنه اختار ابنة صديقه بدل ابنته هو، انها تحترم بشدة علاقة الرجال الخمس، علاقة مثينة و صلبة و رزينة، و هي شخصيا بدأت تتخلى عن تحفظها مع نسائهم، تجد روبي الجميلة لطيفة جدا بعد ان وجدتها متعالية في البداية، بينما فلورانس جذبتها بشخصيتها المرحة و الجريئة، من لا يحب امرأة مثلها؟؟ حتى انها قررت رؤيتها أكثر مستقبلا و بناء صداقة معها.
" صوفي المسكينة... " تمتمت.
" صوفي المحظوظة، فهي تملك حب والدها" صحح لها بهدوء"انها مشاعر عابرة و صوفي خرجت لتوها من المراهقة... أمامها الكثير من التضحيات الجسدية كي تستعيد زمام امور حياتها و أنا سأكون معها في كل خطوة... بعدها بعدة سنوات... عندما تنضج و ينضج حكمها على الناس، يمكنها بدئ حياتها بالشكل الذي يناسب وضعها الاجتماعي... أرفض الانحلال و المجون لذا أحميها ما استطعت من الرجال"
انها تتفهم رغبته بحماية من يحب، لكن صوفي ستكون سهلة من دون تجارب عاطفية، لن ينضج قلبها بينما لم تعش قط تجربة حقيقية.
" الست بالأحرى غيور ؟؟" سألته بنعومة وهي تجلس على المقعد الوثير في شرفة غرفتهما المطلة على بانوراما رائعة لقلعة خوسيه:" ما فهمته منها في السابق- بينما أنت تدفعني لأصبح صديقتها- بأنها ماتزال عذراء... هذا الشيء يزعجها بشدة..."
" ان كان يزعجها فهذه مشكلتها..." رد روكو بصوت ناشف :" لن تكون ابنتي تسلية للرجال فلم يخلق بعد من يحطم قلبها... عليها ان تبقى نقية الى أن تجد رجل حياتها، حينها ستشكرني عما تجده حاليا قاسي في حقها"
يبقى روكو وفيا لتحفظه رغم شخصيته التي تجمع بين الرجعية و التحضر، لكنها لا تتفق معه في هذا الأمر، بالرغم من انها شخصيا احتفظت على نفسها حتى زواجها من ديميتريس، هذا الأخير لم يكن مستعجلا... ان اعادت التفكير، فهو لم يكن وفيا ليستعجل تقاسمهما الحب.
" هل أخدت دوائك؟؟" سألته لتغير الموضوع.
" نعم فعلت..."
انحنى عليها واضعا كلتا يديه على جانبي مقعدها، رأت انعكاسها في عمق النظرات القاتمة:
" هل أخبرتك بأنك فاثنة في هذا الفستان؟؟"
" ثلاثة أو أربع مرّات..."
" اذا لما أرى هذا الوجوم؟؟؟"
أقطبت قيلا قبل أن ترميه بما يحرق لسانها:
" الا تجد هذا الفستان متحفظ جدا؟؟"
" بريانا... سبق و تكلمنا بالموضوع... " استوى في وقفته كل أثر للتسلية اختفى، صار متأهبا مثل عادته عندما يشعر بالهجوم.
" المشكلة ليس في فستاني روكو..." همست له برقة وهي تغادر مكانها" بل في تملكك ... أحيانا أنت تخيفني، أجدك متسلطا و استبداديا و أصل لوصفك بالدكتاتوري..."
اشتعلت نظراته لكنه احتفظ بصوته هادئا بينما يقول:
" كل هذا لأنني أرفض أن تعرض امرأتي مفاثنا أمام الأخرين؟؟ "
" انا متحفظة بطبيعيتي و لست بحاجة لتختار لي فساتيني... أنظر الى روبي و فلورانس..."
" رباه... أنت لست روبي و لسيما فلورانس..." حاصرها بنظرات صارمة:" أنت زوجة العرّاب"
" لم نتزوج بعد لعلمي... كما أنني أرفض قطعا أن تكون لي أي علاقة بالعرّاب...." هذه النبرة التي لم تستعملها معه منذ حربهما الباردة في الماضي:" أحترم مكانتك روكو كما أطالب بإحترامك لشخصيتي و استقلاليتي... أنت تغيرت كثيرا منذ اختطافي في كابري، صرت أكثر قسوة منذ لقائك بذلك السانتو الذي رفضت قطعا منحي عنه تفاصيل أكثر..."
لا ترغب مطلقا الشجار معه، لسيما اليوم و في هذه المناسبة الخاصة، رأته بدوره يرفض المشي في الطريق الزلقة نفسها، مد يده ليلامس رقبة فستانها الذهبي، لغيضها عدله أكثر ليخفي تدويرة صدرها:
" أكره رؤية الاعجاب في نظرات الاخرين بريانا، هذا خارج سيطرتي انا آسف... أعرف بأنني أملك مشكلة مع التملك كما انني لست مستعدا للتخلي عن عقليتي التي تتناقض مع هذا العصر...أنا غيور لن تنتزعي مني هذا لأنه خارج السيطرة... "
" رباه روكو..." مسدت على جبينها كي تستعيد رباطة جأشها " أنا سعيدة لأنك تغار علي و لأنني أهمك كثيرا، تظن بأن الأخرين ينظرون الي عندما نكون معا؟؟ أنت وحدك من يستولي على الاهتمام ..."
" هراء..."
" آه بلى... " همست له بإبتسامة حزينة:" اسمعني أرجوك، أنا أحبك، أحبك أكثر مما يمكنك تصوره و اخاف عليك بشدة، في كابري... عندما اختطفني سانتو، كنت قلقة عليك أكثر من نفسي... أنا بطبعي وفية جدا عندما أحب، ليس قطعة قماش ما سيبعدني عنك... أحب حياتي معك، أحب تواطئنا، أحب ممارسة الحب معك، أحب ثقتك بي و اهتمامك... لكن ارفض أن أصبح شيئا خاصا بك تفعل به ما تريد ... وهذه المسافة التي وضعتها بيني و بين روحك لا تعجبني... انتبه روكو... الضغط يولد الانفجار، فلا تدفعني للهرب "
بقي يُقييمها بتمهل دون ان يعلق على تهديداتها، لاتريد ان تفقد علاقتهما حلاوتها، لسوء الحظ أن الجانب المظلم لروكو يطغى على شخصيته في بعض الاحيان مما يُخرج مخالبها. تتصادم بشدة بشخصية العراب القاسية في الاعمال و البعيدة المنال في العواطف.
" و تظنين بأنني سأتركك تهربين؟؟" اقطبت، التهديد المبطن لا يعجبها،لكن ماذا يحدث؟ هل دخلت البعد الرابع؟ لما تتحول هذه المناقشة لشيء خطر يدفع جلدها للقشعريرة؟ فجأة استرخت ملامحه و مد اصابعه لوجنتها" تلومينني لأنني أرفض أن يرى الأخرين ما يخصني بمفردي؟؟..."
" بل لأنك تغيرت مؤخرا و بدأت بخنقي..." وشوشت له " حتى أنك تصر على وجودك عندما أكون على موعد بزبائني خارج مكتبي... مالذي يحذث لك؟ من المستحيل أن يتم اختطافي مجددا مع طاقم الحرس الذي الصقته بظهري... لا يمكنك التحكم بهذه الطريقة في تحركاتي"
" ليس بنيتي خنقك 'كارا' " قال بهدوء وهو يحملق لها بعمق:" آسف ان كان هذا هو احساسك ، بأنني أخنقك بإهتمامي،لكن... لا تهدديني في المرة القادمة... لا أتحمل أن يأتي هذا من طرف المرأة الوحيدة التي اخترتها لتحمل اسمي و تمنحني أطفالا"
" لم أهددك..."
" فعلتي... " همس أمام شفاهها:"{ لا تدفعني للهرب }... تظنين بأنك تملكين الخيار في الفرار حتى و ان خنقتك ؟؟ ... "
كلماته أخذت أنفاسها، ترفض الاستسلام لموجة الهلع.
" أنت من يقوم بتهديدي الأن"
ابتسم بتسلية، لكن نظراته لم تبتسم:
" لا أنوي التفريط بك حتى و ان لم تعجبك تصرفاتي... فلتتحمليني عزيزتي كما فعلت حتى الان..." انحنى ليقبلها بنعومة:" سوف نتزوج و سأتقلم مع فكرة أنك سيدة أعمال مستقلة... "
" ان كنت ترغب بأن يستمر ما بيننا ، لا تنسى بأنني لست صوفي، و بأنني حرة تماما ...أنا احبك لكنني لا أخافك"
" تهديد آخر كارا؟؟"
" و الأخير أيها العرّاب..." أجزمت بهدوء" أريد روكو... و ليس النسخة المطابقة ليانيس ايميليانو"
أقطب و لمعت عيناه بجليدية
" انا لست والدي"
" هذا ما اتمناه" اعترفت له قبل ان تبتعد نحو السرير حيث حقيبة سهرتها، العاطفة تربط حلقها "سوف نتأخر عن البقية"
" لا يهمني البقية" جاء صوته معدنيا وراء ظهرها، تعرف كم يكره الا يملك الكلمة الأخيرة، تأبطت حقيبتها و استدارت لتواجهه:" تظنين بأنني سأخرج من هنا بينما امرأتي غاضبة مني؟؟"
رباه...أخدت نفسا عميقا، يعود لاغرائها بكلماته المعسولة، و بينما يقطع المسافة بينهما ليأخدها بين ذراعيه تركت نفسها تستريح على جدعه القوي:
" لا تكرري هذه السخافات بريانا، تعرفين ما تعنينه لي، أشياء كثيرة تغيرت منذ دخولك حياتي..." أغمضت عينيها بينما تشعر بشفاهه على رأسها:" أنا أيضا أحب تواطئنا و حميميتنا و حياتنا... حتى أنني... صرت أكره رؤية علبة حبوب منع الحمل التي تحتفظين بها في حقيبة يدك..." أبعدت رأسها عن صدره لتتطلع الى عينيه، انه يستفزها عاطفيا بشأن الاطفال وهو يعرف بأنه حلمها الكبير، لكنه أتمم متنهذا" صحيح... لا يمكنك الحمل خارج الزواج فهذا مؤذ لسمعتك و سمعتي، لكنني عرّيت لك فحسب عن أمنياتي السرية، كل شيء تغير بوجودك... لذا تحمليني قليلا كارا... فأنا ضحية نفسي"
وماذا يمكنها الاجابة عن هذا أيضا؟؟ لا يمكنها الغضب منه طويلا، انه حب حياتها بالرغم من أخطائه، لقد قطع شوطا طويلا منذ معرفتها به، ويحاول التغير من اجلهاـ لا يجب ان تكون جشعة أكثر و لتمنحه الوقت ليتأقلم مع استقلاليتها... مع القليل من الصبر ستحصل منه على طفل، الطفل الذي تتمناه من كل كيانها.
* * *
" أنت رائعة يا طفلتي..."
هذا صحيح... تعترف آيا بأنها لم تكن يوما بهذا التألق ولا هذا الجمال، فستانها يخفي تماما بطنها، يبرز بتحفظ جمالية صدرها، الثنورة الطويلة و المستقيمة لا تخفي شيء من تفاصيلها الانثوية الرائعة، طرحتها الخلفية من التول طويلة و تحيط بوجهها بخطوط في غاية الاناقة، لقد اختارت فستان بسيط عكس ما رغبته لها سيسيليا، أحبت بساطة تفصيله و أسلوبه الرقيق والمفعم بالأنوثة، تسريحتها لا تقل روعة، المصففة وضعت لمسة حالمة على خصلاتها مستوحاة من الأساطير، وزينتها ناعمة، تليق بإطلالتها الساحرة، ما ينقص هو العريس... عريس حقيقي يحبها، يتطلع لها بنفس الاجلال الذي تتطلع اليها فيه والدتها و بقية أفراد عائلتها... التقت نظراتها بنظرات والدتها من خلال المرآة، كانت عينيها غارقتين في الدموع.
" لا تبكي أمي..."
" أنت رائعة..."
تركتها تأخدها بين ذراعيها و تضمها الى صدرها، في ظروف ثانية ربما كانت لتشاركها فرحتها، كانت لتبتسم و تشع بالسعادة كما حال بيانكا هذا الصباح، لكنها بصدد لعب دور فقط، يصعب عليها ذرف الدموع .
" أنت أيضا رائعة وسط هذا الفستان أمي"
تفاديا لأي احراج طلبت مجموعة فساتين لتقتني منها والدتها و جان و زوجة خالها ما يليق بهن، بالنسبة لوالدها و باريش فقد وجدت هندامهم انيق و لا يحتاج تبديلا.
تزعم على ان تمر الامور بشكل جيد بينما تزف للارستقراطي القوي الإرادة ، الجبار و المعقد و المحتاج بلا أدنى شك لمساعدة نفسية.
" فلنصلي يا طفلتي..." وشوشت لها والدتها وهي تضغط على اصابعها بين يديها"أيها الرب ، الذي أمرت رسلك أن يعطوا السلام لسكان هذا البيت الذي يدخلونه، نسألك قدّس هذا البيت بواسطة صلاتنا الواثقة. أفض عليه غزارة بركاتك ووفرة سلامك ليحلّ فيه الخلاص كما حَلّ في بيت زكا العشّار عندما دخلته. يا أمنا مريم العذراء الكليّة القداسة، ازرعي واحفظي ابنتي آيا و زوجها خوسيه و ازرعي المحبة و الرخاء و التواضع والصلاة ومخافة الله، ونوّري قلوبهما وعقولهما ليحيا بحبكِ وخدمتكِ، فنيعظّمانكِ ويُمجّدانك آمين..."
" آمين..." بالرغم من انها تتمنى أن تكون صلوات والدتها كافية لحمايتها من مجنون مثل خوسيه.
* * *
الاختناق الذي رافقها منذ الصباح اختفى بمجرد حط نظراتها عليه، اذن فقد أتى حقا، شعرت دانيلا بأن الدنيا لا تسعها من فرط سعادتها، وصل اليساندرو قبل بدأ مراسم الزفاف بقليل، هذا الأخير لم يثر اهتمامها فحسب، رأت روكو و خوسيه يتجهان صوبه في الوقت نفسه، لكنه مثلها، كان بصدد البحث عنها بنظراته، لمحها أخيرا و أضائت ابتسامة شاسعة وجهه، شعرت بنفسها تنفجر سعادة امام هذا الترحيب الصامت، لكن العرّاب لم يترك له فرصة الابتعاد...لكن هل يتعمد حجزه بجانبه و عرقلة الوصول اليها؟
في الحديقة الشاسعة كانت الزينة مثالية لعقد القران في الهواء الطلق، و الجو ناعم و اشعة الشمس الذهبية تظيف سحر لا يقاوم على الأواني الفضية و الستائر المثناثرة هنا و هناك، الطابع البوهيمي مهيمن على كل ركن و كل باقة ورد، متيحا لـلضيوف الاستمتاع في الهواء الطلق والديكور الطبيعي من مروج مورقة وكروم عنب.
" مرحبا دانيلا"عادت بعينيها لمخاطبتها، كانت خطيبة العرّاب، جميلة جدا و سط فستان سهرة ذهبي، تليق بلا أدنى شك برجل في مكانة خطيبها:" كنت أرغب بمكالمتك الموضوع مهم..."
" بالتأكيد..."
وجدا طريقهما بين المدعوين الذين بدأو بأخد اماكنهم في الكراسي الزرقاء المنتشرة حول المذبح المتنقل حيث ستائر شفافة زرقاء و بيضاء تتململ على النسيم المغري، لن تتأخر العروس في الوصول و بدأ مراسم الزواج.
تحت كرمة متفرقة العروش أمكانها متابعة استراق النظر لحبيبها الذي يبتسم لشقيقه الأكبر، في هذه اللحظة رأته يقطب قبل أن يبدأ مجددا بالبحث عنها بعينيه، أمسكتها بريانا من ذراعها لتثير انتباهها:
" أعرف بأنك و صوفي صديقتين..."
" أممم..." تمتمت دانيلا، وابتسمت من بعيد لاليساندرو الذي وجدها بنظراته أخيرا، بحق الشيطان مالذي يريده منه العرّاب، و كأنه لا ينوي تحريره.؟
" لدي طلب منك ..."
أعادت اهتمامها لبريانا، بدت نظراتها قلقة بحق:
" ما الأمر؟؟"
" صوفي في أشد مراحل حياتها صعوبة، تحتاج لدعمنا كلنا... ما أتمناه فقط الا يصلها خبر خطوبة اليخاندرو و بيانكا..."
شعرت دانيلا بالدم يغمر خديها، عضت على شفتها السفلى بعصبية بينما اتسعت عينا بريانا:
" آه كلا..."
" أنا آسفة بريانا... صوفي صعبة جدا عندما تريد الوصول لشيئ، منذ أمس و هي تصر على الوصول لاليخاندرو لكنني لم أملك خيار لثنيها عن عزمها سوى اخبارها اليوم بشأن هذه الخطبة... عليها أن تتعلم نسيانه، و بأنه مغرم بأخرى فقد سبق و أخبرها بنفسه بهذا الأمر يوم الحاذث..."
بدت الحيرة على وجه خطيبة العرّاب، لا تنوي اخبارها كافة التفاصيل لكن هذه الأخير لا تنوي تركها و شأنها بلا أدنى شك.
" تقصدين أن ليلة الحاذث كانت عند اليخاندرو؟؟؟"
" روكو يعرف..." قالت دانيلا :" اليخاندرو لا يخفي شيئا عنه و كان يشعر بالذنب لكن هذا ألأخير أخبره بأنه أبلى حسنا بوضع شقيقته م... أقصد ابنته في مكانها ، و بأن ما حذث ذنبها وحدها لأنها قادت سيارتها و هي ثملة... "
" من... من اخبرك بأنه كلم روكو بشأن تلك الأمسية التعسة؟؟" سألته بغصة.
" اليساندرو... " اعترفت دانيلا:" على ما يبدو أسرار صوفي لم تكن حقا أسرارا على العرّاب... كان على دراية تامة بتحركاتها... "
برطمت بريانا، لكنها تبدو حقا قلقة بشأن ردة فعل صوفي ازاء الخبر، هي نفسها لم تسعها كل الكلمات للتخفيف على صديقتها التي انفجرت في كلمات تجريح لابنة الامير... أتعسها كان ان تموت هذه الأخيرة بأبشع الطرق، المصيبة أن صوفي متأكدة بأن بيانكا لا تحب اليخاندرو و بأنها تتلاعب بمشاعره لأنها تعرف بأنها شخصيا مغرمة به.
{ كان لها دافيد ابن المغنية المشهورة فرجينيا، ثم كيفن غراي الذي لم يمنح خاتمه لأحد غيرها، و رغم كل هذا تختار الرجل الوحيد الذي أحبه أنا...} كانت تبكي، بكاء عاشقة مجروحة الفؤاد.{ انه الوحيد الذي أحبه دانيلا... الوحيد الذي طالما أحببته }.
"بدأ الجميع بالجلوس، أظن أن العروس في طريقها للمذبح"
ارتاحت دانيلا بالهرب من حيرة بريانا، الاشابين أخدو مكانهم بجانب خوسيه المتوهج في بدلة عرس بيضاء رائعة، هذا الرجل لا يكبر مطلقا، مسافة السنوات بينه و بين آيا تبدو وهمية للغاية، رأت اليساندرو يتوجه نحوها في الوقت نفسه الذي تقطع فيه الطريق نحوه.
" ظننتك لن تأتي..." وشوشت له ما ان أصبحا بمواجهة بعضهما، أخد بيدها و ضغط عليها برقة، ابتسامة رائعة على شفاهه الرجولية.
" و أضيع فرصة رؤيتك؟؟" لامس خدها بأصابعه:" اشتقت اليك حبيبتي"
" أنا أيضا حبيبي...للاسف لا يمكنني تقبيلك"
في ظروف أخرى كانت لتتعلق بعنقه و تغرق معه في قبلة شغوفة، تلذذت بوسامته الطافحة في بدلة سموكن سوداء، انه هنا... بعد اسابيع طويلة جدا تراه أخيرا، وعدها أن يفعل ما بجهذه ليترك عمله و يقطع المحيط لرؤيتها، وهاهو أمامها، بنظرات الزرقاء الشفافة و غمازته المثيرة.
" دعينا نجلس.. لم يبقى غيرنا..."
لم يترك يدها بينما يقودها الى المقاعد في الصف الأخير، رائع، هنا هما بعيدين عن الأعين الفضولية، أشبك أصابعهما وهما يجلسان بجانب زوج غارق في حذيث محتدم بالتركية، السعادة تركتها في حالة نشوة لا معقولة، عادت تبتسم له و يرد عليها ابتسامتها، تشد على اصابعه أكثر، تحاول الذوبان فيه بلا ثانية تأخير واحدة، مع بعض الحظ سيتركها خوسيه و شأنها بعد أن عملت ما بوسعها لتجهيز زواجه و الاهتمام بالتفاصيل التي لم تهم 'آيا'... صارت الصغيرة رسيما سيدة القلعة، تعرف مدريد و تقاليدها و يمكنها أخيرا استئناف حياتها بجانب رجل حياتها.
انحنى عليها ليهمس في أذنها:
" 'سكاي' مملة من دونك..."
شعرت بأن ابتسامتها ستقسم وجهها شطرين، هل يعقل الا يسمع اليساندرو ضربات قلبها المجنونة؟؟ تشعر بانها ستنفجر و تتحول الى مجموعة فراشات ملونة.
" أتمنى أن نقنع خوسيه بالعودة معك..."
" لا تقلقي 'كارا' اتيت و بوسعي مكالمته و اقناعه...لن أعود من دونك أعدك"
لم تجبه، اذ أن النغمة المميزة لوصول العروس دوت في المكان، أطلت من فوق كتفها بفضول لترى آيا متأبطة ذراع والدها، سبق و رأت فستانها، لكنها تعترف بأن الفتاة متألقة لدرجة تعمي بها الأبصار، ولايبدو بأنه رأئيها بمفردها، الكل بدى مأخود بنقاوتها، القت نظرة نحو وصيها، كان يقف بجانب أشابينه قرب رجل الدين، مثل المعتاد، تبقى ملامحه بلا اي تعبير، و ماذا توقعت في النهاية؟؟ فهذا الزواج هو مجرد صفقة بالنسبة اليه، بفضل الصغيرة 'آيا' سيحصل على ما لم تقدر منحه إياه زوجته الراحلة.
" اليست صغيرة جدا عليه؟" وشوش لها اليساندرو في اذنها.
" مرشحة مناسبة لمنحه أطفال بصحة جيدة..." أجابته متهكمة." آيا تستحق انسان افضل من سافل مثل خوسيه... انها ناعمة و رقيقة"
استلم وصيها عروسه و كأنه يستلم بضاعة، بدأ رجل الدين بترديد الصلوات و ايضا اهمية الوفاء و المحبة بين الزوجين، لا تظن ان فرد واحد من عائلة العروس يفهم كلمة مما يقول القس، راقبت اصدقاء خوسيه حوله و تسائلت ان كان هذا اتفاق بينهم، ان يكونوا دوما الاشابين عندما يتزوج فرد منهم، الابتسامات و النظرات بين بيانكا و اليخاندرو لا تفوث احد كما لا تفوتها، شعرت بالتعاطف الشديد مع صوفي، ربما صديقتها تملك الكثير من الاخطاء و ربما شخصيتها عنيدة جدا و قوية لكنها تتعاطف معها بهذا الشأن، الحب من طرف واحد مريب... الم تعشه بنفسها؟ ومازالت تعيشه اذ ان اليساندرو لم يقل لها يوما احبك رغم كل ما حذث بينهما...
القس لم يكن ترثارا لحسن حظ الجميع، وربما خوسيه من طلب منه الاسراع فهو لا يحب تضييع وقته حتى في مراسم زفافه شخصيا، علت التصفيقات الحارة بينما يتبادلان القبل و قد أعلنهما رجل الدين زوجا و زوجة أمام الله... آيا تبتسم، لكن ابتسامتها متكلفة لدرجة تثير الشفقة.
* * *
" انت هنا لأخدها اذن..."
كان جزما من ايموجين التي تحاول قدر المستطاع التظاهر بطبيعية، لقد ترك رسالتين لها ليؤكد مروره هذ اليوم لأخد ابنتهما، فعلت تماما ما طلبه منها شقيقها لوكا، أن تعلمه بموعد مجيئه لكن يبدو أن كيليان وصل قبل هذا الأخير، عموما تحاول تناسي موجة الغضب الذي استقبل بها والدها موضوع انفصالها عن زوجها، اذا كان هذا الأخير قد ترك ابنه البكر لوكا على رأس أعماله و أخد تقاعده باكرا فليس لأنه فقد رغبته في العمل بنفس الكد الذي كان عليه منذ سنوات، تقاعده من الأعمال تمهيدا لحياته السياسية، و بالتأكيد ربط اسمه بإسم ارشيبالد مهم جدا من وجهة النظر السياسي، ان خرج علنا خبر الانفصال الرسمي فبالتأكيد سينزل من اسهمه، هو الذي يضع نصب اعينه مقعد في مجلس الشيوخ ليصبح سيناتور ميامي، لكن والدها يملك مدير حملة قوي، تم قمع الاخبار قبل انتشارها ،و يرفض ان يحول شيئ بينه و بين مقعده في الكونغرس.
" أين هي؟؟" سألها بلكنته المتأرجحة بين الروسية و كيليان بكل بساطة.
توجعت برؤيته يتجاهلها و كأنها لم تمر يوما في حياته.
" المربية بصدد تجهيزها..." ردت بغصة تحاول العيش أمام أطنان المعاناة التي تسحق قلبها" الا تريدنا ان نتكلم قليلا ريثما تجهز؟؟"
حط عليها نظراته الزرقاء الرائعة، نفس النظرات التي أفقدتها رشدها قبل ست سنوات و نصف، في حلبة السباق بمونتي كارلو، لكنها اللحظة لا تحمل النار التي احرقتها حينها، كان يحملق لها بحيادية، بلا أدنى عواطف، انها أمام غريب و ليس الزوج الذي ساندها بشدة كي تصير شهرتها على ما هي عليه اليوم.
" أنا مستعجل ايموجين..." تمتم بهدوء.
" فقط دقائق... ريثما تنتهي أوكتافيا"
أخبرها لوكا بأنه استعصب عليه الاتصال به، و كأن هذا الأخيرة يدخل فقاعة يرفض فيها التواصل مع اي فرد من محيطه، هل يُعقل أنه بدوره يعاني من هذه المرحلة المريبة من حياتهما؟؟ هل يُعقل أنه أيضا يتعذب لإنفصالهما كما تتعذب هي ؟ لقد فقدت شهيتها، فقدت وزنها، و فقدت رغبتها حتى في العيش، الحزن أثقل صدرها بينما تراه يمنحها ظهره ليتوجه الى الصالون المفتوح على بركة السباحة، انه مكانه المفضل عندما يرغب بالاسترخاء، أو بالأحرى... كان مكانه المفضل.
{ كيليان هنا}
كتبت بسرعة رسالة لشقيقها قبل أن تلتحق بوالد ابنتها و تجلس على الكنبة الكريمية مقابلا له، لاحظت بأنه لا يبدو منهزما، ولا فاقدا لوزنه مثلها، و لا حتى حزينا لوضعهما و خراب زواجهما، انه هنا، أمامها، بكامل أناقته المعهودة و وسامته الطافحة، أشعة الشمس تخترق خصلات شعره الحالكة السواد و تجعل من لون عينيه أكثر زرقة، أكثر ترهيب من أي وقت مضى.
" أين تنوي أخد أوكتافيا؟؟"
بقي يتمعن اليها دون ان يجيب على سؤالها، لا حق لها بتوضيح هي تعرف، فهو حصل على موافقة قضائية للاحتفاظ بها نصف العطلة، لكنها المرة الأولى التي ستبتعد فيها ابنتها عنها، الوضع مريب جدا بالنسبة اليها... يكفي انها تعسة و الوحدة تمزقها بسبب هجرانه لها، كيف ستتحمل حياتها بدون أوكتافيا أيضا؟؟... بللت شفتيها الجافتين بطرف لسانها:
" اسمع كيليان... أعتذر عما صدر مني مؤخرا فلم أكن أنا حقا..." بقي يحملق دون رد، لا يبدو بأنه ينوي تسهيل مأموريتها بتصليح الأمور،انكسر صوتها على هذه الكلمات بقوة:" لا أعرف متى صرنا غريبين عن بعضنا..."
للمرة الأولى تنتبه لغياب دبلة الزواج في أصبعه بينما هي ما تزال تحتفظ بخاتمي الخطوبة و الزواج، تعرف بأن وجهها شحب بشدة أمام هذا الواقع الذي يبرهن بقوة نهاية أحلامها، لا... هي لا تعيش كابوسا، بل جحيما مريبا... عندما تزوجته ظنت أن هذا سيستمر الى الأبد، لسيما و أنها ارتبطت بفارس أحلامها، الرجل الوحيد الذي خفق له قلبها ووقعت في حبه بشدة، مالذي حصل بالضبط كي ينتهي تواطئهما و عاطفتهما؟
" ذلك المساء، عندما طلبت الطلاق كنت في حالـ...."
" توقفي" تمتم بنبرة قوية.
" كيليان أنت تعرف كم أحبك..."
أظلمت نظراته، لا يبدو سعيدا بهذا التصريح، رغم عشرة الست سنين الا انه لم يخذل يوما نفسه بأي نوع من أنواع العاطفة، انه جبار فيما يخص رباطة الجأش و التستر عن مشاعره.
" تحبين نفسك أكثر ايموجين... تحبين ما صرتي عليه مؤخرا، طيببة تجميل المشاهير، المرأة التي أصبحت أيقونة في قلوب كل من يلجأ للجمال الاصطناعي..."
لكن هل يعرف لما تكبدت مشقة كل هذا؟؟ كانت في سباق دائم معه و مع نجاحه، دوما تراه أكبر منها، أكثر تهويلا، أكثر قيمة، كيليان ولد من النجاح ، يكفي ان يلمس شيئا كي يتحول الى ذهب، لقد امضت سنواتها الأخيرة في اثبات ذاتها أمامه.
" أنت من شجعني..." ذكرته من خلال دموعها " أنت من أشترى المستشفى الأول لي و دفعني الى الأمام كي أصير ما أنا عليه"
لا يبدو أن كلامها يحرك فيه ساكنا، انه مقتنع برؤيته السوداء نحوها:
" أنت أيضا تعمل بدون توقف و...."
" لم أكن يوما ضد عملك أو أحلامك..." قاطعها بنبرة حازمة:" أنت محقة فقد اشتريت لك تلك المستشفى و بعدها تزوجتك دون ان أخفي عنك حلمي بالحصول على ما لم أحصل عليه يوما... عائلة... بدل منح وقتك لي و لأوكتافيا اندفعت وراء هوسك في النجاح... بدل مستشفى واحد أصبح لك مجموعة كاملة، بالاضافة لمؤتمراتك الامنتهية و أسفار عملك المتتالية... لم يكن هذا هذفي من الزواج ايموجين... أفتقدت للاستقرار الأسري و حلمت بالحصول عليه معك... لكن أحلامك الضخمة حالت دون تحقيق ذلك... "
بقيت متسمرة مكانها، انها المرة الأولى التي يقول لها هذا، ظنت بأنه سيكون فخور بمجهوذاتها و اسمها الذي لمع في الصحف و المجلات ، لما شجعها اذن بينما يأمل أن تبقى زوجته خلف الأفران.؟
" لم أركض وحدي وراء أحلامي كيليان... أنت ايضا تعمل و تسافر كثيرا..."
" أنا على رأس امبراطورية ارشيبالد..." ذكرها بصوت جليدي:" كنت كذلك منذ اليوم الاول و لم تخفى عليك أعمالي، بينما أضع خاتمي في اصبعك بفضل حملك أخبرتك بأنني أريد أسرة... أريد أسرة ... أريد زوجة متوفرة، أبناء و بيت دافئ أعود اليه عندما انتهي من عملي... "
'بينما اضع خاتمي في أصبعك بفضل حملك' عادت كلماته بمرارة في رأسها،دفعت أصابعها في خصلات شعرها لتبعثر العذاب الذي يسحق صدرها، ستنفجر في البكاء ان استمرت في تثبيته، انها ترفض فكرة فقدانه، تستهجن بشدة غبائها لتوقيع تلك الاوراق اللعينة،كان عليها دفعه للكلام دون اللجوء للتهديد، الشيئ الذي أخده بجدية.
" لم يكن فحسب هذا ما دمر زواجنا كيليان... بل أسرارك و غموضك أيضا "
" عما تتكلمين؟"
" عن ملفاتك التي لا يحق لي الاطلاع عليها، عن حاسوبك و هاتفك و علاقاتك..."
هز حاجبيه متسائلا بجدية:
" هل سبق و تدخلت في عملك؟؟ في ملفاتك و حاسوبك و هاتفك و علاقاتك...؟؟؟"
هذا هو المشكل، هو لا يتدخل في شيء عدا ما يخص أوكتافيا، لا يهتم حقا لكل ما تكبدت عنائه، الان تفهم بأن ما اعتبرته هي نجاحا كان بالنسبة له فشل زواجهما.
" أعرف بأنك تخفي عني الكثير..." همست له " لا نملك أي مقومات التواصل، و لا الحوار الصريح... "
" هل سبق و تهرّبت من نقاش صريح معك؟؟"
" كلامك يتخلله الغموض في كل مرة..." قالت بصراحة:" لا أقتنع بإجاباتك و لا تفسيراتك..."
" فليكن ايموجين..." قال وهو ينتصب واقفا، واضعا نهاية لكلامهما:" أظن بأننا لم نحصل على ما رغبه أحدنا في الأخر كما ارى أن الكلام بعد توقيعنا لأوراق الطلاق مضيعة للوقت... ما أطلبه منك هو التعاون بشأن أوكتافيا، فهي ابنتي كما هي ابنتك، و تعرفين بأنها عائلتي الوحيدة، لا تقفي عقبة بيننا، فلنبقي علاقتنا محايدة كي لا تتألم من انفصالنا..."
لم تكن قادرة على الوقوف، ركبتيها سترفضان التجاوب على أية حال، اذن فكيليان اتخد قراره النهائي بالخروج من حياتها.؟، كان يجب أن تشك بذلك بينما تعيش معها سنوات من القرارات الحازمة التي لا يتراجع عنها مطلقا، مالذي بقي لها؟؟ لا يمكنها أن تجثو على ركبتيها لتطلب منه البقاء أو اتراجع عن قراره، ستكون غبية و مثيرة للشفقة اذ أنها نفسها من طالبه بالطلاق.
" أبي..."
صراخ أوكتافيا المتحمس مزّق المكان، كيليان الوفي جدا لإبنته انفجر وجهه من السرور بينما تسقط نظراته عليها، بقيت في مكانها، تراقب هذا التواطئ الذي لم يعد لها مكان فيه، انحنى هذا الاخير ليحملها بين ذراعيه ثم يتعلقان ببعضهما البعض، يضرب بخفة على وجنتها المدورة قبل أن يدس أنفه في رقبتها، هذه الأخيرة انفجرت في الضحك ثم لفت عنقه بذراعيها الصغيرتين و وضعت رأسها على رأسه:
" افتقدتك بشدة..."
" و أنا أيضا يا طفلتي... لكن لا تقلقي... لدي برنامج سيعجبك بالتأكيد..."
" رائع..." قالت متحمسة " هل ستأتي أمي معنا؟"
" والدتك تملك أطنان من العمليات و المؤثمرات حبيبتي..." الاجابة أتت أسرع من الأمل الذي غزاها بإقتراح ابنتها:" هل أغراضك جاهزة؟؟"
هزت أوكتافيا رأسها موافقة:
" كلها..."
" جواز السفر؟؟"
وقفت ايموجين من مكانها، نظرات القلق في عينيها:
" تنوي أخدها خارج البلاد؟؟"
" هذا صحيح..." قال بإبتسامة :" سوف نطير بعيدا ...هكذا"
بقيت متسمرة مكانها، تراقبها يهز اوكتافيا عاليا ليقلد صوت الطائرة بفمه و يلهو بها في الفراغ، اوكتافيا مبتهجة و سعيدة، مالذي يمكنها قوله؟ لا حق لها بالاعتراض.. لكن أن يبعد ابنتها عن البلاد يثير رعبها، ماذا ان اختفى و لم يعدها قط اليها؟؟ بحق الجحيم... أين هو لوكا؟؟؟
" لم تنم أوكتافيا ليلة بعيدا عني..."
" آه بلى..." رد وهو يضع الصغيرة على الأرض:" هل أذكرك بالليالي التي تقضينها بعيدا عن ميامي بسبب مؤثمراتك؟؟ "
انه حاقد على عملها أكثر مما يمكنها التصور، لكن عليها كسب الوقت ريثما يصل شقيقها.
" كيليان..لا يمكنك أخدها خارج البلاد... "
" بل يمكنني..." رد ببساطة." اتصلي بالمحامي ان لم تعجبك قرارات القاضي"
كادت أن تصرخ من الارتياح عندما ظهر فجأة لوكا، أخيرا وصل، الامتعاظ على وجه زوجها يبرهن بـأنه غير مسرور بهذه المقاطعة، ورغم ذلك، رأته يعود لملامحه الاعتيادية، تلك التي ألفتها و التي لا توضح أدنى تعبير..
" كيليان... سعيد برؤيتك الم تتلقى رسائلي؟؟"
بينما يتبادل الرجلان القبضات رأت أنه من الأفضل لها أخد ابنتها و الانسحاب، الا أن أب ابنتها لا ينوي السقوط في هذا الشرك بسهولة:
" استلمتها و كنت أنوي الاتصال بك فور عودتي ... "
" أتيت لأخد الشقية؟؟" ابتسم لأوكتافيا التي ارتمت بين ذراعيه" مرحبا يا صغيرة... أراك فرحة".
" ابي سيأخدني خارج البلاد..." شرحت أوكتافيا بفرح." سوف نركب الطائرة"
صفر لوكا تصفيرة طويلة مدعيا الاعجاب:
" انت فتاة محظوظة..." وبدل ان يعيدها ارضا منحها لايموجين" هل يمكنك البقاء قليلا مع والدتك ريثما اكلم والدك؟؟"
لاتبدو سعيدة بهذا الطلب لكنها لم تعاند، كيليان من حاول التملص بلباقة:
" لدي طائرة بإنتظاري و لا يمكننا التأخر..."
ابتسم لوكا لكنه تكلم بنبرة حازمة لا تقبل النقاش:
" طائرة خاصة تدفع انت لطاقمها لذا لا مشكلة في التأخر نصف ساعة... الموضوع لا يقبل التأخير"
* * *
" استرخي... تبدين متصلبة مثل الوثر"
متصلبة و جميلة لحد الهذيان، فكر خوسيه وهو يأخد آيا بين ذراعيه ليرقصا رقصتهما الأولى، منحته ابتسامة متكلفة، هذه الابتسامة الصفراء التي لم تفارق وجهها منذ عقد قرانهما و كم يرغب بمسحها من وجهها للحصول على أخرى أكثر حرارة، الصغيرة تملك طاقة و هالة تجعلها بالتأكيد متناقظة مع شخصه، صغيرة جدا على رجل آلف افتراس النساء و لا بد أن الكل لاحظ هذا... اليوم يبدو فارق السن أكثر وضوحا بينهما،هي ينقصها أجنحة لتشبه الملاك بينما هو ينقصه قرنين ليكون الشيطان الذي أخدها من شبابها و الصقها بمصيره و حياته، عادة لا يتحرك ضميره مهما أساء للنساء، انه رجل سيئ، أسوأ مما يمكن للأيام أن تغير، ولا ينوي التخلي عما هو عليه، يحب ما هو عليه.
إنتبه الى أن توثرها يزداد حدة بينما يلصقها أكثر به، لا تتحمل هذا القرب بينهما، تكره لمساته عليها، يشعر بنفورها في نظرات عينيها و رعشة شفاهها.
" الكل سينتبه لكراهيتك لي" تمتم لها متهكما.
ابتسمت له ابتسامة شاسعة و همست له بخفض:
" الكل سيكون صائبا... "
بدأ راقصين جدد يلتحقون بهم على منصة الرقص و اراح آيا الا يكونا قط تحت المجهر، يبدو هذا اليوم طويل جدا و بلا أي نهاية، عندما التحقت بخوسيه أمام المذبح شعرت بنفسها وسخة، فهي لم تكن تكذب على أهلها فقط بل على الله أيضا، و زدادت كراهيتها للرجل الذي وضعها في موقف مماثل، بسبب خوسيه هي حامل بتوأمين، بعيدة عن أهلها و بعيدة عن أمل أن تعود حياتها في يوم ما طبيعية، لكنه يملك من الجرأة بأن يعايرها بالشيء الوحيد الحقيقي في حياتها، مشاعرها نحو اليخاندرو... المكسيكي لم يجبرها على حبه، بل اشترى احترامها بذلك المبلغ الذي سددت به ثمن عملية شقيقها الصغير ايفو، ان أحبت في يوم، فلأنه رجل يملك من المزايا ما يجعل كل نساء الأرض تهيم به، الشيء الذي لن يكون عليه خوسيه يوما، لأنه رجل مريض، لن يرى عيوبه الدنيئة، لا يفهم بأن بقية البشر ليسوا تحت امرته، أنانيته و غطرسته تعميانه تماما عن كل واقعية.
وضعت مجددا مسافة بينها و بينه، يستغل الوضع للمسها، تماما كما استغل قبلتهما أمام القس ليجعلها اغراء لا مثيل له، كانت محرجة و خجلة أمام أهلها لدرجة أنها تمنت أن تنشق الأرض و تبلعها، لكنها لا تفهم لما بدأ مؤخرا بالاهتمام لأمرها؟ كلما ازدادت بعدا كلما حاول هو كسر مقاومتها... هل هي فقط روح المنافسة؟؟ حب التحدي؟؟ لامبلاتها تفتح شهيته؟؟ تخشى ما ستكون عليه الأشهر القادمة، ستعمل على أن ينسى أمرها كليا ريثما تنجب صغارها و ترحل فورا الى بيت مستقل، آه نعم... لقد وجدت منزلا رائعا في ضواحي مدريد، بعيد عن ضوضاء المدينة و مناسب جدا لتقاسم حضانة التوأمين، بفضل ما يدفعه لها خوسيه فستنتهي من تسديد ثمنه خلال الثلاثة أشهر القادمة، انها موهوبة جدا في إدخار الأموال، تجمع أقل قرش و تصرفه في الضروريات، ان وجدت ذلك البيت الرائع فبفضل كارلوس، ابن السائق و صديقها الجديد، انه على معرفة بالغة بتفاصيل زواجهما هي و رئيسه، أو بالأحرى رئيس والده، كما يعرف كل الخدم بتفاصيل زواجهما المريب، تظن بأنه يحمل لها الكثير من التقدير و المودة، اذا كان فائق الذكاء نظرا للمهنة التي سيتخرج منها قريبا فهو يجدها أكثر ذكاءا، كان مفثون بشخصيتها، برغبتها في الوصول الى مبتغاها، و كم يحثها على الاستمرار قدما، عندما اخبرته برغبتها في ايجاد بيت لما بعد الطلاق بدأ بالبحث الجدي معها، حتى أنه أخدها بنفسه بعد الجامعة الى الحي الراقي و الجميل، سقطت فورا تحت سحر الحيطان الحمراء و الشرفات المزهرة الورود، تعاقدت في الغد مع دار البيع.
محنتها مع خوسيه أنضجتها، في ذلك اليوم بالمجر، بينما يريها بنوذ زواجهما، اقتنعت بأن من يساومها ليس سوى رجل بلا ضمير ، ايقنت بأنها تدخل حرب و بأنه يتوجب عليها المقاومة بشدة ان رغبت بالعيش دون أن يسحقها مثل حشرة، في الماضي، كانت تراه مهولا... اليوم لا ترى فيه سوى انسان بارد يحتاج لعلاج نفسي للتخلص من عقده المزمنة، رجل مثير للشفقة.
عندما أتى والدها ليراقصها بدوره تنفست الصعداء، و أخيرا تتخلص منه، لم يكن سعيدا بهذا التدخل لكنه لم يعترض فالعادة تُحتم أن تراقص والدها بعد زوجها.
" تبدين شاحبة..." أدس لها والدها في أدنها.
" انه الحمل... انا مرهقة للغاية..."
" سوف ترتاحين ما ان تطيران لشهر عسلكما..."
أقطبت آيا بعدم فهم... شهر عسل؟؟ أي شهر عسل بحق الجحيم؟؟ لا بد أن والدها يظن بأنهما ثنائي طبيعي و سيسافران بعد حفل الزفاف.
" لا أظن ذلك يا والدي لسيما في وضعي..."
" يبدو أن لدى خوسيه خطط أخرى..." سمعته يقول" عندما سألناه ان كنتما تنويان السفر رد بالايجاب"
أبقت 'آيا' فمها مفتوحا من الصدمة، هل خوسيه يعني ذلك حقا أم أنه فعل هذا من باب اللباقة؟؟، ما تعرفه و متأكدة منه هو أنها شخصيا لن تبرح أرض مدريد الى أي مكان، تفضل الموت على تبعه، وعليها ان تهيئ سلفا خطة للتملص من اي التزام قبل فوات الأوان.
" هذا رائع منه... ان يخطط لشهر عسلنا في سبيل مفاجئتي" قالت بنبرة ممتلئة بحماسة مزيفة.
التحق خوسيه بأصدقائه المتجمعين في حلقتهم الخاصة مثل المعتاد، كانوا بإنتظاره لتقاسم الأنخاب، اليساندرو انضم للمجموعة، كأس شامبانيا في يده، ابتسامة مسترخية على وجهه:
" نخب العريس الجديد" قال اليخاندرو وهو يمنحه كأس شامبانيا.
" نخب الصداقة الأبدية..." رد خوسيه مبتسما..." فأنا عريس للمرة الثانية..."
" و الأخيرة" رد سيزار وهو يرتشف من كأسه:" تحول الحفل من اسباني الى تركي، ننتظر ان ينزلق للايطالي كي نستمتع بدورنا..."
القى خوسيه نظرة من فوق كتفه، 'آيا' تتجاهله تماما، السافلة الصغيرة ترقص على أغاني تركية لا يفهم منها شيئا، راقصت كل فرد من عائلتها و امتنعت عن العودة لذراعيه.
" هل ستسافران بعد الحفل أم تنتظر للغد؟؟" سأله داركو.
" سنرحل بعد الحفل الذي لا أتمناه طويلا... " ثم عاد يبحث عن طفلة بثوب أبيض مبتهجة الأن بين ذراعي شاب لا يعرفه لكنه من عائلتها، كانت ترقص جيدا، تتلوى بإثارة رغم حملها الا انها تبقى رشيقة، عندما عاد لينظر الى روكو، هذا الأخير ركز على بنظراته على اليساندرو قبل أن يعود بها اليه، فهم الاشارة فورا.
" سعيد لأنك تمكنت من المجيئ اليساندرو..."
" كان هذا من دواعي سروري، شكرا لدعوتك خوسيه..."
" على الرحب و السعة.." قال خوسيه وهو يضرب بخفة على كتفه" أريد أن أعتذر لك اذا تسببت لك دانيلا بأي متاعب... انها صعبة المراس أحيانا و صاحبة عناد مريب... "
" تملك شخصيتها المتطرفة نعم" أقرّ اليساندرو بلطفه المعهود:" لكنها صاحبة ارادة و عزيمة... سكاي تنتظر عودتها بفارغ الصبر... أظن بأنها لم تعد تلزمك و يمكنها العودة معي الى نيويورك؟؟"
هز نظراته نحو روكو، هذا الأخير ابتسم له ابتسامة راضية، يستمر العرّاب بإدهاشه، ينزلق اليساندرو نحو فخ الحرير الذي نصبه له شقيقه الأكبر بكل بساطة.
" بمناسبة عودتها الى نيويورك... الوضع أكثر تعقيد..." اعتذر خوسيه بنبرة تمناها مقنعة:" كما تعلم... دانيلا وريثة ثرية... من واجبي ان أحميها من كل متطفل ينوي استغلالها، انها صغيرة و أحيانا تخطئ الاختيار، كنت أنتظر فحسب مرور زفافي لأفاتحها بموضوع الزواج... هذه المرة أن متأكد بأنه سيعجبها المرشح، انه يملك شخصيتها و ميولها و ...."
" لا يمكنك دفعها للزواج فقط لأنك تراها غير جذيرة بإدارة ثروتها بمفردها..." جاء صوت اليساندرو جليديا.
" بل هو الخيار الصائب" تدخل روكو مما دفع شقيقه الصغير بتصويبه بنظرات قاتلة" في الماضي،أغرمت بشاب اشتراه خوسيه بسهولة كي يبتعد عنها... دانيلا غير ناضجة و ثروتها الكبيرة ستجعلها هذف لجشع الرجال الغير شرفاء"
دون أن يترك له فرصة التعقيب أضاف خوسيه:
" لا تفاتحها بأمر العودة كي يكون موضوع خطبتها أسهل، ان عرفت بأنك ما تزال راغبا بها في نيويورك فستتمرد علي و سأجبر حينها بفرض سيطرتي و حجزها في البيت الى أن تغير رأئيها..."
" أنت لن تجرؤ بفعل هذا..." قال اليساندرو بعدم تصديق.
"نسيت ان اخبركم أن اليساندرو يستعمل عواطفه في مواقف مماثلة..." سخرية روكو الناعمة أخرجت مخالب شقيقه الذي استدار نحوه و انفجر في وجهه متخليا عن شخصيته الرزينة و الهادئة:
" أنا لا أكلمك 'روكو' لذا ابقى على الحياد... "ثم عاد بإهتمامه لخوسيه، يحاول أن يكون مقنعا: " فقط لو رأيت انجازاتها مؤخرا، كيف تقول بأنها غير ناضجة و غير جذيرة بإدارة ثروتها بمفردها؟؟ من يؤكد لك بأن هذا الرجل الذي تراه منقذها هو الشيطان في شخصه؟؟ لا ضمانات في أن يستغل سلطته لتجريدها من أموالها"
" أنت محق..." استحق اليخاندرو نظرات غاضبة من خوسيه من روكو بسبب تدخله.
" اسمع اليساندرو... لطف منك القلق بشأنها، لكنني اتخذت قراري، ما ان أعود من شهر العسل حتى أنهي هذه المسألة..." تمتم خوسيه متنهذ بحسرة.
" أنت لن تجبرها على الزواج..." قال اليساندرو إستهجان.
" بل سأفعل... أملك كل الصلاحيات"
أطبق الصمت بينهم، كان اليساندرو يغلي من الغضب، بالكاد يصدق ما يحذث معه، هو الذي أمضى أسابيعه اللعينة في الترقب و الانتظار لهذا اليوم كي يعيدها اليه ،يجد بأن خوسيه له خطط أخرى بشأنها؟ بحث بعينيه عليها، كانت تحاول تقليد آيا في الرقص، هذه الأخيرة تنفجر في الضحك بسبب فشلها، يتذكر رقصها المثير في لاس فيغاس، بفستانها الأحمر و جسدها الذي ألهب حواس كل المتفرجين، لقد اكتشف دانيلا أخرى، شغوفة، طيبة القلب، عاطفية و لسيما سخية العواطف، كيف ينوي خوسيه رميها لأحضان رجل لا تعرفه ؟ كيف ستكون ردة فعلها أمام هذا الكابوس؟ في نيويورك... أخبرته عن تخوفاتها، أسرت له بأنها مرتعبة من أن تنتهي حريتها و أن رحلتها الى مدريد ستكون مصيرية... لم يخطئ حدسها... خوسيه ينوي مجددا فرض رجل غريب عليها.
" سوف آخدها..." خرجت الكلمات من فمه حتى قبل أن يتحكم بها.
" عفوا؟؟" سأله خوسيه مقطب الجبين.
" سوف أخدها... أرفض أن تتعامل معها و كأنها عبئ تنوي التخلص منه لأول مرشح، سوف أتزوج دانيلا و آخدها الى نيويورك كخطيبتي رسميا... بالنسبة لثروتها فلا تقلق... سأعلمها كيف تستثمرها، لأن الفتاة التي تتهمها بالاستهتار سيدة أعمال بحق و ذكية ... " القى نظرة على بقية الرجال المتابعين للحوار دون تدخل " عن اذنكم..."
بعد رحيل اليساندرو عن مجموعتهم، سيزار كان السباق لقطع الصمت:
" wow....شيء لا يُصدق..."
" كنتما مقنعان لدرجة أنني شخصيا كدت أن أصدقكما..." علق داركو متهكما.
رفع روكو كأسه ليثير انتباه خوسيه:
" نخب المصالح المشتركة..."
" نخب رجل يعرف تماما ما يفعله...." قال خوسيه بتقدير وهو يلامس كأسه قبل أن يرتجف من السائل الذهبي :" أنا ممنون لأنه وافق فورا, لم أرغب بمواجهة دانيلا و تحطيم قلبها بالأكاذيب..."
" تصرف اليساندرو نبيل..." قال اليخاندرو:" هل فكرتما بأنها ربما لا تعجبه و ربما العكس؟؟"
استدار نحوه روكو :
" انهما ينامان مع بعضهما"
" تبدو متأكدا..." علق اليخاندرو بجفاف.
" أنا متأكد لأن طاقم الحراسة السري يمنحني يوميا تقريرا على تحركاته، انه ينام في شقتها كما تفعل هي، فالانجذاب موجود بينهما...لا يبقى سوى ترسيم هذه العلاقة التي يحتفظان بها سرية..."
* * *
تأمل 'سانتو'، شقيق زوجته الذي لا يضيع وقته في الوصول الى مبتغاه، منذ اليوم الأول كان له تقدير كبير لهذا الرجل الذي يملك قبضة حديدية و صاحب شخصية فذة، ربطتهما صداقة قوية، بالرغم من أن خططه في البداية لم تكن ايموجين ولا شقيقها، بل اليساندرو ايميليانو الذي كان برفقة الشقيقين في سباق مونتي كارلو، يعترف بأنه استعمل ايموجين في البداية ليصادق الرجلين، أو بالأحرى ليصل لأخاه الصغير، بعد ذلك مرت الأمور بطريقة خارج تخطيطاته، تطورت الأحذاث، و دخلت ايموجين لحياته ...
يعترف بأنه كان حساس لجمالها و ذكائها، حملها سرّع الأمور، لم يفكر يوما في الزواج لكنه فعل ليعفي ابنته مما عاشه شخصيا من معاناة، أمله خاب جدا في العائلة التي تمناها بشدة... لن يتزوح مجددا.
" أنا آسف لما آلــ اليه الوضع بينكما، لا أنكر بأنني مصدوم من قراركما الذي أجده متسرعا للغاية.... لم تفكرا في أوكتافيا التي تحب كليكما"
" أوكتافيا لا ترى كلينا" علق ببرود:" نحن متزوجين على الورق فقط... من الافضل الانفصال رسميا فلا أريد شبح زوجة لوكا..."
جلس لوكا على الكنبة مقابلا له و بسط ذراعيه بعدم فهم:
" اليس انت من كان يقوم بتشجيعها ؟؟"
" لست ضد عمل المرأة عامة، لكن شقيقتك تمادت كثيرا ووضعت طموحها قبل ابنتي... بدل تقسيم وقتها منحته كليا لعملها و أحلامها... زواجنا انتهى منذ سنوات، لكنني استمريت به من أجل اوكتافيا...و لعلمك، ليس أنا من طالب بالطلاق بل شقيقتك"
بدى لوكا متفهما لتوضيحاته:
" احترم بالتأكيد خصوصيتكما، فإيموجن تتهمك بنفس الاهمال، و بأنك تضع عملك قبلها و قبل ابنتكما...كما انها تعترف بأنها تسرّعت بطلب الطلاق و بأنها كانت ضحية غضب"
تجاهل ملاحظته الأخيرة:
" كنت أعمل بنفس الرتابة منذ زواجنا، بل توجّته ببعض التضحيات، منه أن أسكن ميامي بدل موسكو، و ألا أبعدها عن أهلها و أصدقائها...قلصت تنقلاتي و لا أتحرك سوى للضرورة القصوى... لكن أرى بأنني لم أفلح بإسعادها و لم أكن زوجا صالحا بنظرها"
" اسمع كيليان... سأكون صريحا معك، اضع بالتأكيد هنائك بالمرتبة الأولى كما سعادة ايموجين و اوكتافيا، الوضع صعب تقبله، لكن ما يحذث أن مسألة انفصالكما تزعج بشدة خطط والدي، انه ينوي دخول انتخابات السينيتاريا، آماله بالفوز ضئيلة تماما ان انتشر هذا الخبر... أطلب منك أن تؤجل الجلسة النهائية للطلاق... امنح ايموجين فرصة أخيرة لتتغير، و راجع نفسك بالمقابل من أجل سعادة أوكتافيا التي لا ذنب لها من تعقيدات البالغين..."
'جي-تي' مارشال سيتقدم للانتخابات؟؟ دم سانتو تجمد في شرايينه، أسوأ كوابيسه تتحقق أمامه، لقد جاهد كل حياته في اخفاء أسراره المريبة، تعلم على أن يكون كيليان ارشيبالد، وريث جاك أرشيبالد الذي أبدع في محركات السيارات الأشد شهرة على الصعيد العالمي، حاول ترك سانتو و علاقته بالايميليانو جانبا، عندما يلبس رداء كيليان فهو يصبح رجل طبيعي، قادر على الزواج، على لعب دور الأب بكل جذارة، لكن سانتو مختلف، انه النسخة المطابقة لرجل لم يعرف له العالم أي حدود، رجل قتل والدته بكل برودة دم و دفنها في معصرة منسية في كابري فقط لأنها تجرأت بتحديه، فمالذي يحذث بالضبط عندما يترشح أحدهم للانتخبات؟؟ المنافسين يتعقبون بعهظم و يبحثون عن السبل المشروعة و الغير مشروعة لتنحيتهم عن الطريق، الصحافة ستبدأ بالبحث في حياة كل أفراد عائلتي 'جي-تي'، سيصير أبائهم تحت المجهر، و حياته شخصيا تحت التنقيب، و اذا سبق ووصل شخصيا فيما مضى بفضل متحري للعثور على أصوله فسينجح المنافسين بإكتشاف قرابته بعرّاب المافيا الصقلية للاطاحة بحماه و ابعاده سياسيا، واذا انتشر الموضوع، فستندلع النار في حياته، في حياة زوجته و ابنته.
" أبي يعمل جاهذا لربح الانتخابات القادمة... شخصيا... أراه مناسبا لمقعد السيناتور ميامي..."
وهو أيضا يراه مناسبا لمنصب مماثل، لكن المسألة برمتها تعد بالجحيم، سيعود ماضيه ليُرمى أمامه.. كيف يمكن أن يخرج من فلم رعب مماثل؟؟ ستتدمر حياته كليا عندما يتم الكشف عن سره الكبير، كل ما بناه منذ سوات سيتلاشى، أوكتافيا الفخورة بجدها جاك ستستيقظ على حقيقة أنها تحمل دماء زعيم عصابات اجرامية.
" أراك صامتا كيليان... " تمتم لوكا" هل توافقني الرأي؟ 'جي-تي' يستحق منا بعض التعاون.... حلمه بالسانتاريا سينقضي ان تسلل خبر مشروع طلاقكما..."
" هل والدك اتخد قراره فعليا في ترشيح نفسه؟؟"
" نعم بالتأكيد... " أكد لوكا " فقط لو تأخد معك ايموجين في هذه الرحلة لتكذيب اشاعات انفصالكما..."
" كلا..."
" امنحها و امنح نفسك فرصة اخيرة... " طلب لوكا بهدوء متجاهلا رفضه" افعل هذا من أجل أوكتافيا... فلم توقعا الاوراق النهائية، بإمكانكما التراجع..."
" ان رغب منافسوا والدك الوصول الى نسخ طلب الطلاق المسجلة في المحكمة فلن يحتاجوا لمجهوذ... وليس رؤيتنا معا ما سيكذب ورقة أصلية"
" سأعمل على محي كل أثر للموضوع..."
عموما لا يمكنه البقاء في حياة ايموجين حتى ان عزم بالتراجع... عليه الاختفاء كي لا يهتم المنافسون بأمره و لا البحث في حياته، فلا ينوي عرض وساخة ماضيه علنا... عليه حماية الجميع بمن فيهم مستقبل طفلته، يرفض أن يشار لها على اساس حفيذة قاتل... يخاف أن يثير هذا اهتمام أعداء والده أو روكو و يقومون بأذية حياته عن عمد.
" تعرف مكانتك لدي 'لوكا' فعلاقتنا مقدسة... لكن زواجي انتهى من شقيقتك، أنا آسف جدا بشأن حملة والدك الانتخابية لكنني اتخدت قراري ولا أنوي التراجع فيه"
* * *
جناح خوسيه كان مجهز لإستقبال العروسين الجدد، رؤية قميص نوم مغري بإنتظارها ذكرها فحسب باتفاقيتها المذلة معه في السابق، عندما كان يلعب بجسدها و كأنه شيئ خاص به، انها مضطرة للتواجد في هذا المكان، لن تثير شكوك أهلها المنتشرين في كل مكان، قضائها ليلة عرسها في غرفتها لن تجد له تبريرات مجدية.
تجاهلت قميص النوم و تخلصت من فستان عرسها قبل أن تستعمل حمام خوسيه الخاص، بعد دقائق تمكنت من التخلص بالمياه الدافئة من ارهاق النهار الذي كان طويلا، كانت ملابسها في خزانته، سيسيليا لا تضيع وقتها، ترغب بوضعها في سريره بأي ثمن، تأمل أن يتم تغيره على يدها، ما لا تفهمه سيسليا أن وضع ابنها ميؤوس منه، لن يتغير و لن يكون يوما غير السافل الذي هو عليه.
التقطت بيجاما حريرية من قطعتين و ارتدتها، كانت بصدد تجفيف شعرها بمنشفة عندما التحق خوسيه بها، ربطة عنقه محلولة، ملامحه مسترخية في نشوة الكحول، انها ممتنة لأنه وصل عندما انتهت من استحمامها و ارتدت ثيابها، غدا، ستعود الأمور لطبيعتها، ما ان يخلي الضيوف القلعة حتى تعود الى جناحها و كتبها و أحلامها بالحصول على الدكتوراه بإمتياز.
" هل تظنين نفسك في الحرم الجامعي؟؟" سمعت صوته متهكما خلفها:" ماهذه البيجاما المريعة؟؟ ان كنت أعرف سيسيليا جيدا فذوقها أكثر رقي من اقتناء بيجاما مماثلة..."
" لا دخل لبيجامتي بذوق 'دونيا-سيسيليا' الراقي..."
"لما تمنحينني ظهرك؟؟ من تظنين نفسك للتعاملي معي بهذا التنازل..." تأوهت من الالم بينما يهجم عليها بشراسة و يغرز أصابعه الطويلة في لحم ذراعها:" أنظري الي عندما اكلمك..."
ربما أفرط قليلا في الشرب، لكنها تعرف بأن عدوانيته لا علاقة لها بالكؤوس الزائدة، منذ هذا الصباح يحط عليها نظرات سوداء، لقد أخذ صوته نغمة عميقة و مشبعة بالتهديد. لن يؤذيها هي تعرف ، لكنها كانت تهتز من رأسها إلى أخمص القدمين و كأنها موصولة بسلك كهربائي عندما لفها على كعبيها لتواجهه ، ارتفعت ذراعيه في صرخة الرعب، و وضعتهما بينهما، أصبح كل جزء من بشرتها حساسًا بشكل لا يصدق. نظرت إلى عينيه وشعرت فجأة بحرارة شديدة ، ثم برد شديد. عبرت رجفة من خلالها. لن يستغل خلوتهما لإجبارها على الاستسلام له كما فعل بها سابقا اليس كذلك؟؟ ما بينهما اتفاق... ما بينهما أوراق ببنوذ وضعها بكل سفالة ووقعت هي عليها.
" أثير اشمئزازك لهذه الدرجة؟؟" وشوش لها وهو يقترب أكثر منها ليتطلع الى عينيها المتسعتين من الرعب." لهذا ترتجفين؟؟ أثير قرفك ..."
لم تجبه، بقيت على حذرها، ذراعيها تخلقان حاجز بينهما، مد أصابعه ليلمس خصلات شعرها المبللة...
" هل ابتلعت القطة لسانك السام 'آيا'؟؟"
" لما تبقى هنا بينما عشيقتك بإنتظارك خوسيه؟؟ لا تقلق... لن ينتبه أحد لغيابك..."
لمعت عيناه الذهبتين وهو يركزهما عليها، ينظر إليها بنوع من الغبطة:
" أي رجل يرغب بتسخين طبق عندما يكون أمامه آخر طازج؟"
بلعت ريقها، انها تعرف هذه النظرات و هذه النبرة المبحوحة من الرغبة.
" لكنك لست طبقي المفضل خوسيه..."
" اليخاندرو طبقك المفضل اليس كذلك؟؟ رأيت نظراتك اليه طيلة الحفل... كنت تلاحقينه بلا كلل، و كأنه هو عريسك، لم تلقي نحوي نظرة بائسة واحدة"
هذا صحيح، رغما عنها كانت تبحث عن اليخاندرو بنظراتها، هذا الأخير لم يفارق خطيبته المشعة في ذراعه، دفنت غيرتها و حسدها و خيبة أملها، هذا الأخير لما يقربها سوى مرة واحدة، كي يهنئها، يعدها بأن كل الأمور ستكون بخير، خوسيه قطع حوارهما فورا، فعل ما استطاع ليمنع اقترابهما من بعضهما حتى من سبيل المجاملة.
" من المريب أن تعيش على حقيقة أن زوجتك تفضل صديقك عليك اليس كذلك؟"
صمتت مرغمة عندما ارتطمت يده بخدها،أخطأت عندما ظنت بأنه لن يقوم بإذائها، حملها لم يشفع لها أمام غضبه الأسود، وضعت يدها على المكان الحارق الذي تسببت به أصابعه الهائجة، من خلال دموعها ترآت لها صورة وحش فاقد السيطرة يرغب بإفتراسها حية، خطت خطوة الى الوراء، هذا لم يكن كافيا لحماية نفسها من هجومه، أمسكت قبضته بشعرها ليعيدها الى مكانها بينما انطلقت شفاهه بقذفها بحمم بركانية:
" أيتها الساقطة الرخيصة ... لكنمن تظنين نفسك بحق الجحيم؟؟ هل يجب أذكرك من أي مستنقع التقطتك؟؟ أذكرك مجددا بمن أكون أنا و من تكونين أنت؟؟ جعلي لك زوجة لا يعني مطلقا استثنائيتك، أنت من أحقر من عاشرتهم في حياتي، ما ان أخد الطفلين منك حتى أمحيكي كليا من حياتي، تلعبين دور القديسة و الطاهرة بينما دفعت لك كي استبيح جسدك... أشتريت عذريتك و امتلكتك بكل الطرق الممكنة، و أنا فقط أحدد متى تنتهي اللعبة... لا تظني بأن لك مكان خاص في حياتي كي تنزلي من قدري بتلميحات مماثلة... " ازدادت قبضته على شعرها، وضعت يدها على يده في محاولة تخفيف الألم:" لن ينظر اليخاندرو لرخيصة مثلك فلا تحلمي، توفرت له فرصة الحصول عليك في أرخص الملاهي حيث عرضتي نفسك بشكل مذل... لكنه لم يعرك أدنى التفاتة .."
" أنت تؤلمني... أتركني" قاومته بشدة ليحررها، وعندما فعل اندفعت الى الوراء، وجهها المتورم مشوه من الغضب و الكراهية:" أنت من يجب أن يشعر بالخجل لأنك تحتاج للدفع كي تتمكن من الحصول على النساء في سريرك... كنت مستعدة لمنح عذريتي مجانا لأليخاندرو... لن تصل له يوما خوسيه، لأنك بائس و مريض... " لم تتمم كلامها، هربت من الهجوم الذي ينويه عليها مجددا، قصدت فورا الحمام و أغلقته ورائها، ضربة لكمته على الباب جعلتها ترتجف، انها تعيش أشد ليالي الزفاف حرارة... أكثرها تفجرا... رباه... غدا سيجدون جثتها بلا حياة هنا.
" افتحي هذا الباب آيا...."
" اذهب الى الجحيم أيها السافل... " بما انها محمية بالباب فلن يمكنه الوصول اليها، يمكنها قول ما يحرق لسانها دون التعرض للضرب:" تعرف بما أفكر؟؟ بأنك بائس و بحاجة ماسة لعلاج، لا تعتقد بأنني سأظل تحت إسمك ليوم آخر بعد ولادة التوأمين... سأهجرك فور ذلك كي أعيش حياة طبيعية ككل شابة في عمري... أيها العجوز المتصابي و المجنون"
سقط الصمت، و خنقت أنفاسها ...تترقب الأسوأ، لقد تجاوزت معه الحدود، تعرف بأنها غير منصفة في تجريحاتها، لكنه السباق في اشعال هذه النار، لقد اعتدى عليها جسديا، و تحرش بها متجاهلا الاتفاق بينهما، يستمر في استغلال سلطته و يعاملها و كأنها لا تسوى شيئا، حاولت التصنت عبر الباب رغم ضربات قلبها المجنونة... بدأ الانتظار بسلبها صبرها، رباه... مالذي يفعله في النهاية؟؟ هل ذهب للقاء عائلتها و طردهم من القلعة بعد أن يلقي بالحقيقة المريبة في وجوههم؟؟؟ لا تتخيل ما يمكن أن يحذث ان اكتشفوا بأنها و خوسيه لا يطيقان بعضهما، هذا الصمت لا ينذر بالخير, ضجة في النافدة الكبيرة للحمام أثارت انتباهها، قبل ان تفهم ما يحذث وجدته ينط الى الداخل برشاقة فهد حاصر فريسته أخيرا.
" أظنني مازلت صغيرا على كلمة عجوز الا تظنين؟؟ أنت من لم ينضج كفاية لرجل مثلي...ما زلت متخبطة في مراهقتك"
هذا صحيح.... لا يملك وجه صبي ، بل وجه رجل في بداية حياته ، مع تجاعيده وأخاديده. إذا لم تكن تكرهه كثيرًا ، لوجدت هذه السطور جذابة.كان يجبر نفسه على التنفس بهدوء. فقد كان غاضبًا جدا ، مثلها...
" اكره الفضائح و القيل و القال، حبك لأليخاندرو لا يهمني، أرفض أن تلاحقيه في تواجدي، سوف تقومين تماما بما أطلبه منك، و لا تستهيني بتحذيري لك، أملك ألف طريقة لأجردك كليا من أي حق، سلطتي لم تنتهي بمجرد تجهيرنا لما يربطنا، مازال هناك خطر والديك المؤمنين و عائلتك التي تركت القذورات و الفضالات في كل مكان في الحديقة..." أمسك بدقنها ليجبرها على النظر للنار المشتعلة في عينيه:" سوف تغيرين ثيابك و سنمضي بعيدا عن هنا..."
اذن فوالدها لم يخطئ عندما اخبرها بأن خوسيه خطط لشهر عسل... كانت قد جهزت نفسها سلفا لضربة سفلية مماثة، اتى على تهديدها اللحظة بأن يرميها في القمامة ان لم تكن متعاونة، فليكن.
" سوف أغير ملابسي..."
" جيد جدا..." تمتم من بين اسنانه" فلتختفي فورا من أمامي قبل أن الوي عنقك"
" سوف أطلب من والدتي مساعدتي..."
لم تترك له فرصة الرد، بعد خمس دقائق كانت والدتها معها، تقوم بتجهيز الحقيبة معها، خوسيه اختفى من الجناح، كأس أخير مع شلة أصدقائه البغضيون؟ ربما.... ارتدت طاقم بندقي و جمعت شعرها في تسريحة خلف رقبتها، وبينما والدتها تسترسل في المدح على الأمسية التي قضاها الجميع، ارتأت آيا بأنه الوقت لتعطيها هديتها، أخرجت الظرف من حقيبة يدها، لقد احتفظت به هنا منذ أسبوعين، انها متحرقة لرؤية وجهها و ردة فعلها.
" ماهذا؟؟"
" افتحيه..." قالت آيا بحنان.
شعرت بالعاطفة تحرقها امام الملامح المشدوهة لوالدتها، عادت تنظر اليها بعدم فهم:
" هل هي لنا؟؟"
" رحلة بحرية لمدة اسبوعين... كما كان حلمكما انت ووالدي"
" آيا... لكن نحن من يجدر بهما اهدائك شيئا لزفافك" جاء صوت والدتها مختنق بالعاطفة "كما انني لا اريدك ان تصرفي نقود زوجك على متعتنا الخاصة"
" انها نقودي أنا ..." أجزمت آيا " دفعت تكاليفها من ثروتي الخاصة فلا تقلقي عزيزتي... اريدكما ان تستمتعا بوقتكما و ان تلتقطا أكبر عدد ممكن من الصور"
بعد ان أقنعت والدتها بقبول هديتها ادى دورها في التملص من خوسيه بأشد الطرق شرعية، واحد... اثنان.. ثلاثة.
" Aie..." وضعت يدها على بطنها و انقسمت نصفين، شعرت بالذنب أمام الشحوب الذي كسا وجه والدتها.
" ما الامر يا طفلتي؟؟"
" لا أدري... هناك انقباضات مريبة في بطني... Aie... بطني"
" تمددي... تمددي " ساعدتها بالتمدد على السرير الذي ما يزال يحمل لمسة الخدم الرومانسية من بتلات الورود الحمراء، كل شيء كان جاهز لتمضية ليلة زفاف لا تنسى... تعترف بأنها ليست مستعدة لنسيان هذه الليلة التي كاد خوسيه ان يسلخ فيه جلدها" يجب ان اعلم زوجك"
" اه كلا... المسكين يستعد لسفرنا في شهر العسل ارفض تخييب امله... لا تقلقي أمي... سينقضي الألم...Aie... هذا الألم مريب"
اقطبت والدتها وهي تمسد بيدها على بطنها في محاوله التخفيف عنها:
" يمكن لشهر العسل الانتظار... اذا كنت متوعكة فيجب ان يراك طبيب، يومك كان طويلا جدا ... ابقي هنا سأعود من فوري"
لامست 'آيا' الانتفاخ الصغير لبطنها و ابتسمت في خلوتها، بما انها تعرف جيدا والدتها فلن تترك فرصة واحدة لخوسيه بنقلها خارج سريرها، كما انها تنوي الاستمرار في هذه التمثيلية الى ان يهجر الجميع القلعة و الا يوقفها خوفها من افشاء اسرارها امام عائلتها... يريد اللعب؟؟ فليكن... تقسم الا تكون عبدته مرة ثانية.


أميرة الحب غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 05-11-20, 02:51 PM   #3804

أميرة الحب

مشرفة وكاتبة في قلوب أحلام وكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء وعضوة في فريق الترجمة

alkap ~
 
الصورة الرمزية أميرة الحب

? العضوٌ??? » 53637
?  التسِجيلٌ » Oct 2008
? مشَارَ?اتْي » 14,442
?  مُ?إني » فرنسا ايطاليا
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Morocco
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » أميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   cola
¬» قناتك fox
?? ??? ~
https://www.facebook.com/الكاتبة-أميرة-الحب-princesse-de-lamour-305138130092638/
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

الفصل الرابع





" تعرض عليّ خطوبة مفتوحة كي تنقذني من خوسيه؟؟"
فرحتها اليوم برؤية اليساندرو تبخرت، بعد أن اصر هذا الأخير بأن يختفيا من الحفل ليتكلما على انفراد قادته الى غرفتها، و بدل ان يتخلصا من ملابسهما و يلقي كل منهما نفسه على الأخر، أوقفتها فورا ملامح وجهه الواجمة، اختفى تواطئهما الذي دام طيلة المساء، لا يبدو بخير, يبدو غاضبا.
" هل تملكين طريقة أخرى لتعودين معي الى نيويورك؟؟" سألها وهو يمرر أصابعه بين خصلات شعره الحالكة:" انه يخطط لتزويجك... كنت مضطرا لطلب يدك منه كي أجنبك هذا الجحيم..."
" كنت مضطر؟؟" ارتفع صوت دانيلا مرتجفا من الغضب، لكن من يظن نفسه؟؟ هي ليست شيء... بل امرأة و لن تقبل أن يتم تسليمها كبضاعة و كأن لا كلمة لها عن مصيرها" من أخبرك بأنني أريدك أن تهرع لمساعدتي ؟؟"
القى نحوها نظراته الزرقاء المليئة بالحيرة، لايبدو بأنه يفهم سبب غضبها،لا يفهم بأنه أتى على اهانتها علنا و أمامها.!!
" هل أخبرت خوسيه بأننا ننام مع بعضنا؟!؟"
" بالتأكيد كلا...!" نفي بعنف.
" لم تملك الشجاعة هيه؟؟! تظن بأنه من حقك اذلالي أمامه و أخدي بهذه البساطة؟!.."
هذه المرة لم تعد قادرة بقمع دموعها، قد يكون اليساندرو على رأس أعمال عملاقة، يمكنه أن يكون جبارا في المناقصات، لكنه غبي في ما يتعلق بالمشاعر... غبي ... غبي ككل الرجال الذين يتعامون عن رؤية مشاعر النساء.
" لما تقولين بأن اقتراح خطوبتنا يذلك؟؟"
" اقتراح خطوبة التي {أضطررت} لاقتراحها؟؟؟" صرخت به بصوت مرتجف من الغضب بينما الدموع تنزلق على خديها، لايمكنها قول أكثر من هذا، انها تتمزق رغبة في القفز على عنقه و خنقه، من الأفضل أن ترى فورا خوسيه... ذلك المسخ عاد للعبته القذرة معها.." تعرف ماذا؟؟ انا ضد ما يحذث... أعتبر نفسك حرّا تماما من أي التزامات..."
" هل يمكنني أن أعرف لما تنفجرين بهذه الطريقة؟؟" سألها بحزم وهو يدنو منها بخطوات غاضبة:" تريدين أن يزوجك خوسيه بالقوة؟؟ ظننت أنني أسدي معروفا"
أبقت فمها فاغرا، يسدي لها معروفا... صدقا؟ هل يسخر منها؟؟ لقد كان في امتحان أمام مكر خوسيه، و بدل أن يفجر الحقيقة و يخبره بأنهما على علاقة و لا ينوي الاستغناء عنها يتصرف بعفة بطل قام بأقوى أدوار بطولته.
" لا أريدك أن تسدي لي معروفا..." تمتمت بصوت جليدي.
" لا بأس... لا بأس..." سقطت ذراعيه بجانبه، لايبدو أنه فهم للان ما يجعلها بهذا الغضب.
" لا أريد أن يأخدك أحد دانيلا... ظننت أن هذا الشعور متبادل..."
آه... و أخيرا، بدأ ربما بالفهم.
" أخبرت خوسيه بهذا؟؟ بأن ما يدفعك لطلب يدي هو ما يحذث بيننا و ليس أن تسدي معروف لعين؟!"
أقطب اليساندرو لكنه لم يرد، بقي الصمت بينهما، لقد راهنت بالكثير عما بينهما، راهنت بالكثير، آمنت بأن الأمور ستتغير مع الوقت، هي أحبته، أحبته منذ رؤيتها له للمرة الأولى في صقلية، هي من لاحقته، من أغرته، ما يحذث أن الموضوع برمته لا يعني له مثلما يعنيه لها... تريده أن يكون ملاذها، و أن يطلب يدها لأن هذا الشهر من العزلة أبرز له بأنه لن يمكنه العيش من دونها، تماما كما حذث معها.
" اذهب اليساندرو..."
" دانيلا..."
" لن أعود معك الى نيويورك..." أجزمت ببرود وهي تقطع المسافة نحو الباب"بالنسبة لخوسيه فلا تأبه لتهديداته.... هذا قراري، اكتشفت اللحظة بأنني لا أهمك بالطريقة التي آملتها...."
" أي طريقة بحق الجحيم دانيلا؟؟..." أمسك بمعصمها ليمنعها من فتح الباب و رميه خارجا:" هلا شرحتي لي بالضبط ما يجعل مزاجك بهذا السوء؟؟ أتيت خصيصا من أجلك و ليس لأحضر زفاف خوسيه... لن أعود من دونك ... عشنا قصة جميلة لما تنوين انهاء كل شيء لأنني طلبت يدك؟؟"
" طلبت يدي لأنك { اضطررت } للطيران على فرصة انقاذي من خطط خوسيه..." ذكرته متهكمة بسواد.
" نعم و أين المشكلة؟؟؟" سألها بنفاذ صبر.
انتزعت معصمها من قبضة يده... لكن هل يتعمد أم أنه غبي من بطن أمه؟؟ ان كان ينوي دفعها للجنون فقد أفلح، كما أنها فقدت رغبتها كليا في انهاء هذه المجابهة السخيفة، عليها ايجاد السافل خوسيه، هو من وضعها في هذا الموقف المريب.
" لا توجد مشكلة اليساندرو..." قالت بضجر و هي تفتح باب غرفتها:" تصبح على خير!"
لم يلحق بها و هي كانت ممتنة لأنه لم يفعل، كان عقلها متفجرا مثل الالعاب النارية، بينما رئتيها ترفضان التقاط الهواء بطبيعية، أتى اليساندرو على تقليص كل ما عاشاه في قصة بلا أدنى أهمية، ظنت بأنه سيدافع عنها بطريقة أكثر رومانسية، ان يصارح خوسيه بحقيقة ما بينهما، لكنه فضل لعب دور بطولته اللعينة, ثم... مالذي توقعته في النهاية؟؟ اليساندرو لم يعدها بشيئ، هي من رسمت احلامها بمفردها، مسحت دموعها بينما تدفع باب مكتب خوسيه بدون استئذان، كان هناك، مسترخي على مقعد المكتب، تخلص من سترة العريس و شمر على ساعديه القويتين، في يده كأس من الويسكي، شرابه المفضل، لم يكن بمفرده في المكتب، انتبهت الى روكو في أحد الأركان يسقي لنفسه كأس شراب... رائع... الحرباء موجودة أيضا... و أي حرباء.
كم تكرههما... انها مكملين لبعضهما.
" يجب أن أكلمك خوسيه... بمفردك..."
رأت ملامح وجهه تتحجر و نظراته الذهبية تقسو، لايبدو ان لهجتها تروقه:
" تكلمي أمام روكو فهو ليس غريب...."
زمت شفاهها، تجاهلت كليا العرّاب قبل أن تقول ببصوت جليدي:
" أنا لن أتزوج اليساندرو، و لا أي رجل آخر... أمنعك من التدخل مجددا في حياتي، مازلت صغيرة و أنوي عيش حياتي قبل أن أربط أسمي بإسم رجل ما... هذا اذا حذتث العجزة ذات يوم... لأن احتكاكي بك جعلني أكره كل الأصناف الرجالية الموجودة"
رأته يهز حاجبه في تعبير متهكم:
" هذا لم يمنعك من السقوط في سرير اليساندرو!؟"
أدارت فورا رأسها نحو العرّاب، في نيويورك، أخبرها اليساندرو بأن شقيقه يملك أعين في كل مكان، كان عليها تصديقه...
كان قلبها يدق بشكل مؤلم في صدرها، خوسيه يتحدّاها... رباه...عادة هو جيدًا جدًا في تجنب هذا النوع من المواقف بإنهائه فورا بكلمة، كان يعرف تمامًا كيفية نزع فتيل النزاعات و تحويل الموقف لصالحه، وهذا بالضبط ما فعله في هذه اللحظة، لكنها لا تنوي ترك نفسها تتأثر بتهكمه:
" حياتي الجنسية تعنيني أنا فقط ..."
" بل تعنيني أيضا... ستبقين تحت مسؤوليتي حتى سن السادسة و العشرين و أنوي ايجاد زوج لك قبل أن تنتهي صلاحيتي..."
" أكتفيت من وصايتك خوسيه..." بصقت من بين أسنانها:" سأرحل من هنا بإرادتك أو بدونها... و سأتواصل مع عائلة أبي في مورسيا... و سأرفع ضدك قضية سوء معاملة لأتخلص من قبضتك و أحصل على إرثي قبل أوانه"
هز عينيه الى السماء بينما الضجر انعكس على ملامح وجهه الجميلة، لا يبدو بخير، كانت عيناه تلمعان بغضب أسود:
" هل سمعت روكو ما تقوله الطفلة التي ربيتها مثل ابنتي؟؟ دعيني اوضح لك الأمور ...عائلة والدك في مورسيا تقتصر على ابن عم بسجل عدلي مريب لدرجة أن الوصاية اتت لي رأسا... لو رآه والدك مناسبا لتحمل مسؤولية فتاة متهورة مثلك لما وضع اسمي في الاوراق، اذا رغبتي بمتابعتي قضائيا فتفضلي، افعلي ما تريدين دانيلا... ضقت ذرعا بعقوقك و جحوذك... "رأته يفرغ بقية شرابه في جوفه قبل أن يحط عليها نظرة قاتلة :" لقد اخترتي أسوء توقيت لتواجهيني... مكانك كنت أستغل عرض اليساندرو السخي و اختفي من هذه القلعة و من حياتي ان كان اسلوبي لا يروقك"
سقط الصمت، لم تقطعه سوى خطوات روكو التي اقتربت من الكنبة ليرتمي عليها بجسده الضخم، أخدت نفسا بعد أن ادركت بأنها تحبس أنفاسها، كان الاثنان يتطلعان اليها بطريقة متطابقة، و كأنهما يتحديانها ان تضيف كلمة اعتراض واحدة.
" أشفق حقا على زوجتك..." تمتمت من خلال دموعها:" تجهل في أي جحيم تقحم نفسها...أنت متيبس العواطف"
دارت على عقبيها، وقبل أن تفتح مجددا باب المكتب من حيث دخلت قبل قليل انفرج هذا الأخير في وجهها و ظهرت والدة العروس الصغيرة، وجهها شاحب و نظراتها قلقة:
" السيد هنا؟؟" انجليزتها ركيكة بالكاد تفهمها, شعرت بحركة خلفها، خوسيه يدنو منهما، رأت المرأة تضع يديها على بطنها و تقول:" آيا... آلم شديدة في البطن.... لابد من وجود طبيب"
أقطب خوسيه و تمتم بالاسبانية:
" المسخة الصغيرة..."
أدارت دانيلا رأسها نحوه:
" لما تقول هذا؟؟ ربما هي حقا مريضة..سأتصل بالطبيب..."
" اتصلي به..." قال وهو يتبع والدة زوجته:" اتمنى أن يصل قبل ان اقوم شخصيا بقتلها"
" بطل التنمر النسائي" قذفت في ظهره وهي تدخل المكتب لتستعمل الهاتف.
روكو مايزال مكانه، رزين و هادئ كما هي عادته، كان يتمم شرابه بهدوء و يأخد كل وقته، حاولت تجاهل تأثيره على اعصابها و التقطت سماعة الهاتف لتدير رقم طبيب العائلة، لكنه هناك، عيناه ملتحمتان بها، و لايبدو انه سيتركها تتهرب بهذه السهولة بعد ان اغلقت الخط مع الطبيب الذي وعد بالقدوم فورا، بادرها قبل أن تهرب:
" تعالي الى هنا"
" لا أملك ما أقوله لك روكو!"
" عندما تخاطبيني أنصحك بإستعمال لهجة مختلفة" خفق جسدها ودُمى دمها عبر عروقها، مالذي يريده منها بحق السماء.؟! بدل الهرب قصدت الكنبة التي يجلس عليها وبقيت واقفة امامه" اجلسي"
بعد تردد جلست في أقصى الكنبة، الشيء الذي لم يفثه بالتأكيد.
" اخبريني ما الأمر؟ لما هذا التمرد المفاجئ على اليساندرو بينما تخرجان معا منذ فترة..؟!."
هزت نحوه نظرات حذرة، مالذي لا يخفى عنه ايضا؟كان نبضها يخفق بشدة وهي تحاول السيطرة على مشاعرها:
" انا صغيرة على الزواج .. لم أعش حياتي كما أرغبها"
" طيب... عيشيها بعد الزواج... "
" هذا لن ينفع" تمتمت " عشت تحت قيضة خوسيه و انوي الحصول على حريتي لا ان تنتقل القبضة من رجل لأخر الى أخر أيام حياتي"
" تضعينه في صورة وحش... انت ناكرة للجميل حقا، لقد فعل ما استطاع لحمايتك و حماية اموالك التي استثمرها لك و تضخمت بثلاثين في المئة، على حد علمي فهو لا يسجنك في القلعة، انت تسافرين اينما ترغبين... درستي في أرقى الجامعات كما حصلتي على دعمه في كل مراحل حياتك، لم تكوني ضحية وصي متجبر استغلالي يلعب بصغر سنك ليفلسك تماما...كما ان خوسيه اليوم بحاجة ماسة للتعاون فأمنحيه راحة البال كما منحها لك بينما يموت والديك و تجدي نفسك وحيدة"
" لا انكر بأنه اخد مسؤوليته على محمل الجد و انا شاكرة له لكنني كبرت الان و يمكنني الاهتمام بنفسي و ثروتي بمفردي الا تظن؟"
عينيه تألقت بوهج مفترس.
" كلا لا اظن"
زفرت بيأس:
" لما لا يدهشني انحيازك له؟"
" لأنني ارى اليساندرو مناسب تماما للاحتفاظ على ثروتك الضخمة التي ستبددينها فور استلامك لها... الأعمال تحتاج لخبرة و ذكاء و نباهة شديدة، أحيانا نحن المتمرسين نخطئ في ادارة شؤوننا فما بال طفلة خرجت لتوها من المراهقة؟!... حاولي فهم وجهة نظر وصيك بدل انتقاذه... انت مدينة له بالكثير"
صمتت، لم يعد هناك داعي لشراء عطف رجل مثل العرّاب، حتى و ان القوه بالرصاص فسيبقى وفيا لصديقه، من الأفضل لها انهاء هذه المحاذثة و الاطمئنان على آيا.
* * *
بقي خوسيه واقفا بجانب السرير بينما الطبيب يجمع عدّته و يزركش في ورقة قبل أن يمدها اليه، كانت وجنتي آيا شاحبتين بحق، ربما هو ارهاق النهار أو ربما مواجهتمها العنيفة قبل قليل؟!.
" ضغطها مرتفع...." شرح له الطبيب وهو يقف مستعدا للرحيل:" عليها اتباع حمية..."
" تملك طباخ خاص يشرف شخصيا على حميتها..." شرح خوسيه، فهو يعرف بشأن ارتفاع ضغطها منذ الازمة التي دخلتها في تركيا:" هل يمكنها تحمل السفر؟؟"
" يمكنها ان هي رغبت بذلك، فلاشيء خطر في حالتها سوى بضع انقباضات الناتجة عن توسع الرحم بلا أدنى شك... دونت لها بضع مهدءات للانقباضات، عليها أخد قرصين كلما عاودتها التشنجات"
" لا يمكنني السفر..." سمعها تقول للطبيب" أشعر بألم شديد في بطني... و بالدوخة"
" من منظوري الطبي لا شيء ينذر بالخطر"
بمعنى آخر الصغيرة تتمارض لتتملص من السفر، التقت نظراتهما، كان بعمقهما نفس التعبير المرتعب الذي نظرت اليه به دانيلا قبل قليل، عموما ليست نظراتها الوحيدة التي تنصب عليه بهذه الطريقة، والدتها و والدها هنا، يتوقعان منه بلا أدنى شك أن يتصرف كحبيب قلق على صحة حبيبته، الانتفاخ الصغير لبطنها نبهه بأن هذفه الوحيد من كل هذا هو ان يخرج طفليه بصحة جيدة:
" لا بأس... سنلغي السفر الى اشهار آخر... استريحي، سأترك لك السرير الليلة..."
أضاءت ثريا مورانو كبيرة الدهليز الكهفي بينما يأخد طريقه الى الجناح الشمالي للقلعة،، تحفة حقيقية من الزجاج المحفور بأوراقه وأزهاره وفاكهه التي تقع بين الأرابيسك الرقيق استقبلاه بينما يدفع باب غرفة دانيلا، كانت وسط قميص نومها، وجهها متورم من البكاء:
" كيف حالها؟؟" سألته وهي تترك سريرها لتدنو منه.
" أفضل منك بالتأكيد...."لوت شفتها متأهبة لاضافة شيء لكنه سبقها:" لا أحد يرغب بتمضية عطلة مع متنمر نسائي"
" خوسيه..." همست :" لم أرغب بان أكون وقحة قبل قليل... تعرف كم أحبك"
شعر بالراحة بينما تقطع المسافة لتعانقه، لما يصعب عليها فهم أن ما يفعله لصالحها؟؟ اليساندرو مناسب جدا لها، انه الوحيد الذي يمكن أن يثق به ثقة عمياء، يكفي أنه شقيق روكو الأصغر.
" اشعر أحيانا بأنني حمل تنوي التخلص منه بسرعة..."
" هذا غير صحيح..." وشوش لها برقة و هو يمسك بدقنها ليتطلع الى وجهها الجميل و ملامحها الشبيهة جدا بخالتها... اليونور، كلما كبرت دانيلا كلما صارت صورة طبق الأصل عن حبيبته الراحلة:" أنت أجمل ما حصل في حياتي دانيلا... لم أشعر قط بأنك ثقل مريب... لكنني خائف جدا عليك... ان حذث لي مكروه... ان حذث لي مكروه فسيتغلونك، العالم مليئ بالأشرار...مليئ بقروش انتهزاية لا رأفة في قلبها و لا رحمة"
" لن يحذث لك مكروه..." قالت بصوت قلق:" لما تقول هذا خوسيه؟؟"
بما سيبدأ بالضبط؟؟ بأن نتائج تحاليله الأخيرة لا تنذر بالخير؟؟ بأنه في نفس الطريق الذي أخد منه والده؟؟ المثابرة و العمل الجاد لن يقفا أمام ما يحاول مسحه من عقله، انه أمام مرض لا ينتهي عادة بالشفاء، أخبره الطبيب بأنه في عمره من الناذر جدا الاصابة به، لكنه ينتقل وراثيا أيضا، ترك له والده اسما يفخر به، و مرض مريب أيضا.
" أنا لست بخير يا طفلتي..."رآها تقطب جبينها بعدم فهم:" ربما حان الوقت لأعاملك كبالغة كي تتفهي مواقفي التي تجدينها في غاية القسوة!...."
لامس خط فكها الرقيق:
" أعاني من بداية سرطان ...أشششـ اسمعيني..." قاطعها بينما تتأهب لمقاطعته، وضع يديه على كتفيها المتشنجتين بعنف، كانت متصلبة تحت لمسته من الصدمة:" لا أحد يجب أن يعرف، لسيما سيسليا و آيا، لنقل... بفضل حمل هذه الأخيرة رغبت في العيش فجأة، أصرار أصدقائي دفعني للاستسلام لملاحقة طبيبي و بدأ الفحوصات الأولية... انه نفس العدو الذي هزم والدي ... لا أعرف ان كانت المعركة ستنتهي بربحي أنا أم هو... ربما كان ليفرق معي الموضوع سابقا لأني لم أخاف يوما من الموت.... فالموت ما هو الا مرحلة انتقالية... نلتحق بمن سبقونا... و أنا متحرق لألتحق بها... اليونور... " دكر إسمها جهرا يجعل تعاسته أكثر وقعا...:" الأمور تغيرت... سوف أصبح أبا...أريد العيش "
انتبه الى الدموع التي تغسل وجهها، أقطب، رباه، يكره نظرات الشفقة في عينيها، لم يخبره بسره الكبير كي تشفق عليه بل كي تتفهم حزمه و موقفه.
" قل أنك تمزح... تقول فقط للضغط علي..." همست بصوت أجش.
" اتمنى لو تكون مزحة أنا أيضا..." قال وهو يمسح دموعها:" لقد عشت حياة مترفة و مريحة للغاية، لن أعترض ان كان هذا قدري، لكنني سأقاوم كي أعيش أكثر فترة ممكنة في حياة التوأمين... أتمنى فحسب أن يحتفظا بذكرى جميلة على والدهما... لهذا فقد بدأت العلاج... الطبيب مستبشر... يقول بأن المرض في أوله، أرفض أن أكون سلبيا، لم أتأخر كفاية في نهاية المطاف... المرض يمنحني فرصة التراجع و محاربته بدل الاستسلام..."
" اه خوسيه" هذه المرة لم يعد قادرا على اسكاتها، كانت تفرغ على صدره اطنان و اطنان من الدموع، انزلقت أصابعها في غرة شعرها الناعمة في محاولة تهدئتها... عبثا..." لا أريد ان افقدك كما فقدت أبي و أمي... انت عائلتي الوحيدة"
" أعرف يا طفلتي..."
" أفهم لما يطلب مني روكو أن أجنبك التوثر و العصبية... لقد كان يلمح لمرضك... لكن لما اخفيت عني ؟؟ انت في محنة... على عائلتك ان تقف بجانبك... سيسليا، آيا"
" انظري الي..." هذه المرة كل أثر للتعاطف اختفى من وجهه، حملق اليها بجدية و قوة:" لا أريدها أن تعرف... لا تتحامقي دانيلا... آخر من أريده أن يكتشف مرضي هي آيا....هل هذا مفهوم؟؟"
" لكن لماذا..؟؟"
" لأنني لا أثق بها و لا اعرف بأي طريقة ستستغل ضعفي... انها ذكية جدا و ماكرة كما أنها تعرف تماما ما تفعل... دورها في حياتي يقتصر على منحي الوريثين، ليست بحاجة للتعمق في حميميتي"
هزت رأسها متفهمة، شعر بالراحة بينما يراها منحازة لرئيه، أجبر نفسه على الابتسام ليهدئها:
" هذا السر يبقى بيننا..."
" بالتأكيد..."
قبل رأسها مطولا بحنان قبل ان يرتد للوراء:
" يجب أن أتركك ترتاحين فالوقت متأخر..."
بينما يبتعد بإتجاه الباب استوقفته بصوت متتلئ بالعاطفة:
" خوسيه... هل يمكنني أن أطلب منك شيئا؟؟"
ترك يده على القبضة:
" كل شيء... ماعدا قطع صلتك بأليساندرو..."
رآها تبرطم:
" أنت لا تتراجع هيه؟؟"
" لا لن أتراجع في هذا... أريده أن يتزوجك و في أسرع وقت...أنتما مناسبين لبعضكما"
بدت تناضل كي لا تنفجر في وجهه مجددا، لكنها لم تعاند لحسن الحظ:
" هل يمكنني الحصول على مذكرات اليونور؟؟"
تلك المذكرات التي أفهمته من خلالها بأنانية بأنها أخدت معها طفله الذي لم يعرف عنه شيء ؟ تلك المذكرات التي قتله في كل لمسة حبر؟ التي اشعرته بالذنب و الألم و العذاب؟ لو لم تجلبها دانيلا معها لما عرف عنها شيئا لبقية عمره.
" لما اليوم؟؟"
" دعني أتعرف أكثر على المرأة التي حببت الموت اليك ..."
* * *
" تعرض جدّي الى أزمة أخرى... تم نقله الى المستشفى."
تبدو روبي جدية كما يعرف جيدا بأنها لن تمزح في موضوع مماثل، الساعة تقارب الثالثة صباحا، انتهى الحفل و الكل التحق بغرفته، لم يكن يظن بأن اليوم سنتهي بخبر مماثل، كانت روبي ما تزال في فستان السهرة، مرحها اختفى و أظلم القلق ملامح وجهها الجميلة.
" يجب أن نعود فورا الى صقلية..."
" انها الثالثة صباحا...." قال سيزار وهو يقترب نحوها ليمسح على وجهها في محاولة لإبعاد هذه الملامح:" سنمضي صباحا ريثما ترتاحين..."
" نحن في الصباح سيزار... اتصل بطيارك و دعهم يجهزون كل شيئ.... سأغير ملابسي..."
" لم نأتي بمفردنا هل نسيتي؟؟"
" آه صحيح..." بدت حقا مرتبكة و خائفة:" نسيت أمر فلور و داركو.... "
أمسك وجهها بين يديه ليجبرها على التطلع الى عينيه، كم يكره رؤية الدموع في عينيها، يكره أن يعرقل راحتها أي شيئ كان.
" أخبريني بالضبط ماذا قالت والدتك؟؟"
" لم تكن واضحة... لم تترك أدنى تفاصيل، كتبت فحسب أن أزمة أخرى تعرض لها قلب جدي المسكين... آه سيزار... انه عجوز و مرضه اللعين يزيد من هشاشته يوما بعد اليوم... "
" أعرف حبيبتي تعالي الى هنا..." أغمض عينيه بينما يشعر بعضامها تئن تحت عناقه القوي، يريدها ان تعرف بأنها ليست بمفردها كما لن تكون يوما...سيبقى لجانبها لأخر أبام حياته" دعيني أساعدك كي تتخلصي من هذا الفستان و تأخد دوشا طويلا ... سأرى ان كان داركو ما يزال صاحيا..."
" آه كلا..." أمسكت بيده لتمنعه من المغادرة:" سوف ننتظر ان يطلع النهار فلا فائدة من استعجال الأمور... بدت فلورانس شاحبة في نهاية السهرة، لن أجبرها على الخروج من سريرها..."
هذا صحيح، بالرغم من احتجاج داركو إلا أنها أصرت على اتمام السهرة مثل البقية.مسح على وجنتها برقة:
" دعيني أهتم بك حسنا؟؟"
تنهذت مستسلمة بين ذراعيه، منحته ابتسامة صغيرة و حزينة:
" مالذي سأفعله من دونك؟؟"
" ما لا يمكنني فعله من دونك" قبل ابتسامتها الحزينة ليزيلها قبل أن تتسلل أصابعه الى سحاب فستانها:" أنوي غسلك شخصيا ووضعك في السرير...."
" أمممم... أنت زوج رائع هل تعلم؟؟"
" نعم أعرف..."
ضحكت لكنها لم تعلق و هو سعيد لأنه دفعها للضحك و ابعاد الوجوم على وجهها، كما وعدها اهتم شخصيا بحمامها قبل أن يلفها و يلف وسطه بمنشفة، أخد وقته في تجفيف خصلات شعرها الطويلة بينما هي مسترخية في المقعد الوثير أمام طاولة الزينة، المرآة تعكس وجهها، تبدو رائعة تحت الظلال الذهبية للثرايا العربية العتيقة.
" أراك ساهمة..."
ملاحظته أعادتها فورا الى الواقع، قالت ما لم يتوقعه مطلقا:
" لم آخد حبوب منع الحمل منذ اجهاضي... أرى بأن لا شيء يحذث!"
توقف عن فرك شعرها بالمنشفة و التقت نظراتهما عبر المرآة، شعر بأن قلبه ينفجر في صدره:
" تريدين طفل؟؟"
" هل تمزح؟؟ في كل مرّة تسألني عن دورتي ان أتت في موعدها... لكن هل تظنني حمقاء و لا أفهم؟؟... كما انك تبحث في أغراضي ان كنت أخبئ أقراص منع الحمل... أنت تموت رغبة في أن تصبح أبا"
هذا صحيح، هو الذي ظن بأنها لم تشعر بلهفته وراء وقوع حمل من بعد كل الأوقات الرائعة التي يمضيانها معا، لكنها قالت ما أطلق صفارة الانذار في رأسه:
" تريدين طفل لأنها أمنيتي أنا ؟؟ روبي.... كل ما نفعله سنفعله لأن كلينا يرغب به... لن أجبرك على شيء حاليا... لم تمضي أشهر طويلة على زواجنا، لن أقبل أن تضحي في سبيل اسعادي..."
" من أخبرك بأنني لا أريده..." سألته وهي تغادر مقعدها كي تواجهه، نظراتها مثقلة بالحنان و الرقة:" لقد أغرمت بشدة بآريوس... كما أن تلك الأزمة... برهنت لي بأنني... كنت متشوقة في أعماقي لأكون أما..."
مع مرور الوقت تعلم أن ينسى تلك الحلقة من حياته و يرفض قطعا التفكير فيها، ما يهم اليوم هو سعادته مع روبي، لم يكن قط طيلة حياته سعيدا كما هو الحال في زواجه، بينه و بين روبي بنيت ثقة عميقة و روابط مثينة من المستحيل زعزعتها، اعتاد هذا الروتين بينهما، هو يعمل في صقلية و هي في لوس انجلس، يلتقيان عندما يسمح جدول أعمالهما، ان كانت المسافات تفرقهما فهما على اتصال دائم، حتى فارق الزمن لا يعرقل هنائهما... انهما زوجين عاشقين حتى النخاع.
" سوف يأتي الطفل عندما يحين وقته !.." قال وهو يحيطها بذراعيه و يقربها منه:" لم أشبع منك بعد"
عضت على شفتها، يبدو أن اجابته راقت لأنوثتها:
" إعترف بأنك متحرق للحصول على طفل!!...."
" أنا أعترف نعم..!" أكد لها وهو يضع قبلة على شفتيها:" قررنا تجديد عهودنا نهاية العام و نملك كل الوقت للحصول على أطفال جميلين بنظرات فيروزية و ابتسامة تغوي قديس"
" و لما لا نظرات رمادية و ابتسامة مغوي متمرس ؟!"
التهبت نظراتها الرائعة، تبدو جميلة و متوهجة، اختفى قلقها مما يريحه، نجح برسم الابتسامة على وجهها، أبعد المنشفة عليها قبل أن يدفعها الى السرير و يتمدد بقربها، كانت بشرتها دافئة عليه، تمرغت فيه كما هي عادتها و نامت على ذراعه بينما يمد الذراع الأخرى نحو الضوء ليطفئه:
" نامي حبيبتي... سنرسم مقومات أطفالنا لاحقا أعدك"
طرقات على الباب دفعته لإعادة انارة الغرفة، تمامت روبي بإنزعاج بين ذراعيه بينما يتركها، ارتدى روب ديشمبر و توجه الى الباب، أمام غرفته كان هناك داركو، هز حاجبه متسائلا:
" ما الموضوع..؟"
" يجب أن نعود الى ايطاليا..."
بلا مزاح...
" علينا الذهاب الى لندن... بدأ مخاض الكونتيسة و فلورانس ترفض تفويث ولادة الطفل الجديد"
* * *
انفرجت أهذابه ببطئ عندما شعر بتواجدها، كانت الأضواء الناعمة في مكتبه ترتطم على هالتها، لم يكن هناك صوت في الغرفة ، ولا دقات ساعة ، ولا أرضية صرير. هذا الصمت يحده التعذيب. كلما مرت الدقائق ، زاد اختباره... هذا البعد... ذكراها تعيش في ذاخله...
نام على مذكراتها، لم تظهر له كثيرا مؤخرا، لكنها اليوم في حلة أخرى... كانت نحيفة الخصر، معذبة النظرات، بقي كل منهما يتطلع الى الأخر، انقضت ثوان أخرى قبل أن يقرر التحرك في مقعد مكتبه الذي غفا عليه.
" لم أعد أهمك...ظننتي حبيبة روحك و حياتك..."
" أنت حبيبتي... لكنك رحلتي مبكرا جدا اليونور..." ترك بحذر مكتبه مخافة أن تختفي كما ظهرت، بدت تعسة الملامح..وهو يفتقدها بشدة، يفتقد جنونها و ضحكاتها و تنهذاتها بين ذراعيه.
" كنت أعيش من أجلك..." سمعها تقول بصوت منخفض و حزين:" عندما تركتني... لم يعد هناك من يهتم بي...تركت الحياة لأنها اتعبتني...لم يكن هناك أمل بأن تعود"
" لم أتغير اليونور... طالما كنت ذلك الشاب العابث و الغريب الأطوار الذي أرادك بقوة، لم أتخلى عنك لأنني أحببتك بصدق..." أصبح على مقربة منها، أمسك بيدها، الاحساس واقعي لدرجة أنه يشعر بدفئها بين أصابعه:" لا تعرفين ما فعله بي موتك و لا ما قاسيته في غيابك... لن أكون يوما سعيدا كما كنت معك... "
هل هذه الكلمات كافية لتبعد هذا العذاب من نظراتها؟؟ اليونور تتعذب... عادة تظهر بمظهر المتهكمة أو المرحة و الساخرة، وضع يده على بطنها النحيف.
" لن تشعر بالحياة... لم يكن هناك عندما قررت الرحيل" قالت له.
قبل أن يسألها عن قصدها قوة سحيقة جذبته بعنف بعيدا عنها، اعماه ضوء النهار بينما يفتح عينيه، أول ما استقبله كان وجه والدته، و آلام مريعة في رأسه، بحث عن اليونور في أرجاء المكتب لكنها اختفت:
" لم تكن حامل عندما ماتت..." ردد و كأنه يهذي.
" مالذي تقوله؟؟" سألته والدته بصوت جاف:" هل حقا أمضيت ليلتك في هذا المقعد و تركت زوجتك بمفردها في سريرك؟؟"
دفع أصابعه بين خصلات شعره يحاول استعادة السيطرة على عواطفه بينما يتجاهل سماع كلمات سيسليا المنطلقة في ملامة لا منتهية، التقطت المذكرات التي نام و هو بصدد قراءتها، منذ سنوات لم يستسلم لرغبته في الغرق مجددا بين صفحاتها،طلب دانيلا ما جعله يبحث عنها مجددا... كم الأمر مؤلم... مازالت رائحة بشرة اليونور عالقة في طياتها، أمسك بيد والدته التي التقطت المذكرات ببعض الحدة كي تبعدها عنه:
" توقفي عن لومي سيسيليا.. تعرفين أن ما بيني و بين تلك الطفلة عقد عمل... ستنجب لك الحفيذين الغاليين الذين من أجلهما اشتكيت للجميع عن سلوكي و عزوفي عن الزواج... أتركيني الان و شأني"
يبدو أن كلماته جرحتها، بقيت متسمرة مكانها، تتطلع اليه بنفس النظرات التي تدفعه للشعور بأنه ابن عاق و أسوأ ما أتى على سطح الأرض، لكنه استيقظ بألم فضيع في رأسه و بمزاج سيء للغاية، كمية الكحول التي استهلكها أمس السبب بلا شك... وظهور اليونور مجددا... بلا بطن هذه المرّة.
" أنا آسف سيسليا... "
" أريد فحسب سعادتك..." تمتمت له.
لكنه ليس سعيد، الشؤم و التعاسة تلتصقان بجذران صدره الى أن صارت جزء منه، مسد على صدغيه و القى نظرة الى الساعة، انها السابعة، أمضى ليلته في قراءة المذكرات و لم يتمكن من النوم سوى ساعتين ، غادر مقعده و أخد أمه بين ذراعيه:
" أنت تفقديني صوابي أيتها العجوز المجنونة..."
" أظن أن الوقت فات لاعادة تربيتك و اصلاحك أم أنني مخطئة؟!..."
هز رأسه موافقا وهو يقبل رأسها:
" لقد أخفقتي في تربيتي و دللتني كثيرا... أتمنى الا تعيدي الكرّة مع حفيذيك..."
اشتعل وجهها من السرور، يعجبها سماع كلمة حفيذ هو يعرف:
" أنوي تذليلهما..."
" لما لست متفاجئا من هذا التصريح..." ابتسم ملئ فمه وهو يبتعد عنها:" سأذهب لغرفتي كي أستحم و أستبذل... بدلة الزفاف"
" إستعجل في تجهيز نفسك لأن الجميع بصدد النزول لغرف المعيشة ..."
كان الجناح غارقا في الهدوء، الستائر تحجب دخول نور الصباح، السرير بدى كبيرا جدا على الجسد الأنثوي الملتحف بالشراشف الحرير و الدانتيل، دنى منها ، كانت خصلاتها العسلية منتشرة فوق الوسادة، ملامح وجهها مسترخية في نوم عميق، هذه الهالة تُذكره بشدة في اليونور، جلس بجانب السرير و أبعد بهدوء الغطاء عليها، كانت ترتدي قميص نوم عاجي من الحرير، عكس البيجاما بقطعتين التي اختارتها لاستقباله أمس، وجهها يستريح على كلتا يديها بينما ركبتيها تهزهما نحو صدرها، وضعية الجنين في بطن أمه، لكنه يمكنه رؤية تدويرة بطنها، شعر بالراحة... حملها ما يزال هنا... رؤية خصر اليونور النحيف بينما تزوره ببطن مدورة على وشك الولادة أشعل ناقوس الانذار في رأسه، ربما كانت زوجته حقا متوعكة أمس... من المفترض كرجل عاقل الا يستسلم لاستفزازتها و يضع حملها فوق أي اعتبار... نعم... لا يجب أن ينسى مشكلة ضغطها ، عليه فحسب التركيز عن حملها... نعم حملها فقط... و ليس التركز مثلا على ساقيها الرائعتين ببشرة ذهبية تلهب الحواس، شمس مدريد تركت بصمتها على هذا الجسد الشهي جدا وسط قميص نوم خيط للاغراء، حبس انفاسها بينما تغير وضعيتها، أمسكها في آخر لحظة قبل أن تنام على بطنها، هذا الاتصال دفع عينيها الناعستين بالانفراج، بقيت تحملق اليه و كأنها تحاول استعاب الموقف، بالأمس، تحدته بارتداء بيجاما من قطعتين، و بينما يفضل النوم خارجا تستعمل القمصان التي اختارتها سيسيليا لليلة الدخلة... كي تبدو أكثر مصداقية أمام أمها؟؟
" كنت ستنامين على بطنك...." قال لها بينما يراها تستعيد وعيها ببطئ:" انتبهي لحملك حبا بالسماء"
ابتعدت عن يده و أمسكت بالشراشف لتستر نفسها، لم تنبس بكلمة، بقيت تنظر اليه بعينين فقدتا كل أثر للنعاس، شعرها حولها في شلالات مرتبكة و غير مستوية، انها تجسد الاثارة الكاملة بوجه متجرد من اي زينة، وجنتين محمرتين و شفاه ناضجة تنتظر أن يتم قطفها.
" كيف تشعرين اليوم؟؟"
" بخير.." أسرعت بالرد، لكنها بدت مترددة و كأنها نسيت تمثيلتها بالأمس:" سأكون بخير ان أخدت قسطا كافيا من الراحة"
" بالتأكيد... " قال لها مدعيا تصديقها للعبتها الصغيرة:" سأعمل على أن تحصلي على الراحة الممكنة... لا شهر عسل، لا جامعة، لا كتب، لا خروج من غرفتك..."
حبس رغبته في الضحك بينما يرى عينيها تتسعان من الرعب، بعد ان القى نظرة أخيرة على كتفيها العاريين سوى من حمالتين رفيعتين و جمالها الاثيري الذي يذكره بماضي كان ليكون ورديا لو لم يختطف سعادته القدر، ترك السرير ليتوجه نحو الحمام:
" سأودع ضيوفنا مكانك 'كوراسون' الكل سيكون متفهما لوضعك... ابقي في السرير و اتممي نومك"
" خوسيه..." استوقفه صوتها :" عليك ان تعرف بأن لا شيئ سيتغير بيننا.. كلما اعتدت على الموضوع كلما كان أفضل... اريدك أن تحترم الاتفاق بيننا... أن تتركني اعيش حملي بسلام هنا و الا تدفعي للهروب..."
استدار نحوها، كانت تجلس على السرير، نظراتها جدية وهي تتابع بهدوء:
" لا يمكنك أن تكون في نظري غير أب الطفلين الذين أحملهما في بطني... بعد الانجاب سأرحل كما هو متفق عليه، أريد عيش حياتي كما تروقني و ربما قصة حب حقيقية ذات يوم، أطلب منك الا تصعب الأمور علي، هذف كلينا أن تمر الأمور بسلام و أن أضعهما بصحة جيدة... لا تجبرني عما لا أريده... أنا أرجوك خوسيه ... دعني أعيش حملي بسلام "
لا توجد كلمات أعمق من هذه كي يضع نهائيا حائط بينه و بين غرائزه نحوها... انزلقت نظراته على جمالها الاثيري، انها المرأة الوحيدة التي لا تريده... و المرأة الوحيدة أيضا التي يمكنها منحه طفلين بصحة جيدة، عليه ان يقوم بخيار و فورا... انجذابه لها أو طفليه.
" لن أجبرك عما لا تريدينه ..."
بدى الارتياح جليا على وجهها، ابتسمت له شاكرة:
" لست سيئة هل تعرف؟؟ أنا فقط حمقاء و قعت في مصيدة العوز... بفضل ما تعايرين به يعيش شقيقي الصغير ايفو اليوم... خلافا لكن ظنونك... سأكون أم جيدة... و سأهتم جيدا بحملي "
هز رأسه ، لا شك له بهذا... ففي النهاية بدل التخلص من حملها احتفظت به رغم كل المخاطر المحيطة بوضعها آنذاك، ان رغب بإحترام العقد عليه أن يضع أكبر مسافة بينهما... سيعلم نفسه نسيان وجودها تحت سقف بيته. .. عليه تعزيز جهوذه للشفاء... ان رغب أن يتعرف عليه طفليه ذات يوم.
* * *
عكس كل توقعات دانيلا، اليساندرو لم يغادر مدريد، القلعة بدأت بالعودة الى هدوئها، أغلبية الضيوف رحلوا، لم يتبقى سوى والدي العروس، و روكو ايمليانو مع خطيبته، حبيبها الذي ظنت أنه غادر و صل قبل الغداء، من خلال ملامح وجهه لا يبدو انه عاد ليلعب معها لعبة القط و الفأر، اتى رأسا نحوها، متجاهلا البقية بعد القائه التحية.
" يجب أن نتكلم..." قبل أن تتأفف في اجابتها، أمسك بمعصمها وقربها اليه لينظر مباشرة في عينيها " فورا..."
الرئيس التنفيذي لـ'سكاي' لا يبدو في مزاج يسمح له بمشهد درامي أمام الأعين الفضولية، لسيما روكو و خوسيه، اين يمكنهما الكلام؟؟ في غرفتها أم مكتب وصييها؟؟ يبدو الاختيار الثاني أأمن، توجها معا الى الداخل، رائحة اليساندرو المألوفة تلفها مثل جرعة كوكايين، التقطت انفاسها كي تبعد عنها الاحساس المريع بالتخدر، ليست متفاجئة من ردود أفعالها، طالما كانت تملك ضعف قوي اتجاهه.
عندما أصبحا بمفردهما في مكتب خوسيه، أخد هذا الأخير يتفحص المكان بنظرات يتخللها وميض إعجاب، عموما فكل ما في هذه القلعة مثير للإعجاب، تعترف أنه مكانها المفضل، تشعر بأنها في بيتها عندما تكون هنا.
" ظننتك في طريقك لنيويورك..." قطعت الصمت الذي أصبح مزعجا في المكان.
" لن أذهب من دونك"
دق قلبها بشدة أمام هذه اللهجة الموقنة، لقد عاد من أجلها...:
" اليساندرو..."
قاطعها وهو يدنو منها ليمسك وجهها بين يديه، أول أتصال منذ أمس:
" مالذي قلبك ضدي؟؟"
" أمنحك فحسب فرصة الانسحاب مما لا ترغب التورط به..."
رأت زرقة عينيه تتحولان الى اللون الأسود:
" أنا لا أتورط فيكي دانيلا..."
" أخبرتني أمس بأنك أضطررت لطلب يدي من خوسيه..." ذكرته بنبرة تمنت أن تكون طبيعية:" و أنا أرفض قطعا أن أضعك في موقع اضطراري... ليس ذنبك أن رآى خوسيه بأنني بلهاء جدا للحفاض على ثروتي...سأنجح بإقناعه مع الوقت بكفاءاتي... تماما كما فعلت معك أنت... و ربما حينها فقط سيعرف بأنني لم أعد تلك الطفلة التي استقبلها في بيته قبل عشر سنوات...."
حينها، وجدت في عينيه الذهبيتين شيئ من الألفة، أخبرها بأنها أميرة و أن هذه القلعة هي بيتها، ربما زوجته لم تكن متشوقة جدا لتربية طفلة تحمل دماء اليونور التي لم ينساها خوسيه يوما، وصييها لم يكن عاطفيا، لكنه على الأقل لم يكن ينسى وجودها كما يفعل مع زوجته... المسكينة كانت شفافة أمامه.
" أحيانا أتسائل لما تكبد مشقة تحمل مسؤوليتي... حتى أننا لا نحمل نفس الدم..." أضافت متنهذة." عليك فهمي اليساندرو... ذات يوم عندما أقرر الزواج...فمن رجل لن يكون مضطرا... بل يحبني..."
كم هو وسيم عندما يكون غارقا في حيرته و أفكاره، الوضع مريب لها، ما أخبرها به خوسيه يغير رؤيتها لكل شيئ، لا يتصرف بدافع الأنانية بل الحب و الخوف عليها، يريد أن يؤمن مستقبلها قبل أن ... آه لا تريد التفكير في مرضه... ما صرّح به أمس كان يوازي قنبلة ذرية... هو الوسيم جدا، صاحب البنية القوية و الممتلئ صحة... هو الذي لا يتناول سوى ما هو مفيذ جدا لصحته... مهووس النظافة... من يصدق أنه حقا مهدد من قبل السرطان؟؟... مجرد التفكير يدفع الدموع الى عينيها.
" أنا أحبك..." سمعت اليساندرو يقول ببساطة.
" لم أقصد المودة... أعرف بأنك تحبني كما تحب صوفي"
" لا أحبك كما أحب صوفي" اعترض :" أحبك كما يحب رجل امرأة يرغب بها بجانبه... "
هل سمعت جيدا؟؟ رمشت بقوة، ما حذث بينهما منذ فيغاس فاق كل ما يمكنها أن تحلم به طيلة حياتها، لقد كان رائعا معها ، نشأت بينهما علاقة متشبعة بالتواطئ و التغاض، كان يمشيان على نفس الرتيبة، على نفس الموجة، انهما يتقاسمان الكثير من الاشياء، يميلان للامور نفسها، و يضحكان على السخافات نفسها، يمكنها أن تضعه في مرتبة الرجل المثالي... فارس الأحلام.
" صدقيني... لم أكن لأتدخل ان لم أكن احمل لك العاطفة دانيلا... لكن كلام خوسيه امس أشعرني بالغضب و الغيرة... كنت عاجز عن تخيلك مع رجل غيري"
waw...waw...waw هذه المرة لن يمكن لأذنيها أن تخونها... لق سمعت جيدا هذه الاعترافات التي تشبه زقزقة العصافير في أذنيها، رأته يقطب، بدى فجأة في مرحلة شك" الا اذا لم يكن الشعور متبادل"
شعرت بالعاطفة تهاجمها مثل موجة عاتية، دنت منه لتتعلق بعنقه و تقبله بكل شغف، لفتها ذراعيه و ضمتها اليه بقوة الى ان شعرت بآخر شكوكها تتبخر، عندما تركته أخيرا كانت ترتجف من الأثارة:
" أحبك أيضا... جرحني أمس أن تقول بأنك أضطررت للطيران على فرصة انقاذي... "
" كانت فرصتي لأخدك رسميا من وصييك... بالرغم من أنني أعترف بأن موضوع الزواج لا يداعب فكري، أعرف بأنك ترين من نفس المنظور، هذا لا يمنع بخطوبة مفتوحة..."
" هل أنت متأكد؟؟؟"
" انتظري لحظة...." قال لها وهو يبعد يديه عن خصرها، رأته يدلف أصابعه في الجيب الداخلي لسترته قبل أن يُخرج علبة صغيرة سوداء، فهمت فورا ما تحتويه، عندما فتحها أمام عينيها انفجرت الأنوار الماسية لخاتم الخطوبة بألف ضوء أمام عينيها الى أصيبت بالعمي:" أمضيت الصباح في البحث عن خاتم مناسب... أتمنى أنه على مقاسك..."
تركته يمسك بيدها ليضع الخاتم في الأصبع الذي لم يحمل قبله أي خاتم خطوبة، إنها المرة الأولى في حياتها التي يمنحها رجل خاتم... بدى الموضوع و كأنه يضع علامة حمراء على أرضه، بأن لا يقترب أحد من ممتلكاته... وهي هذه الممتلكات... الموضوع يعجبها بشدة.
" انه رائع اليساندرو... على مقاسي تماما...." هزت نحوه عينان ممتلئتان بالحب:" اشتريته حتى قبل أن تتاكد من موافقتي؟؟"
" لم أنم أمس بعد مغادرتي هذا المكان، حاولت فهم ردة فعلك... و أمضيت الساعات التالية في شتم نفسي... كنت غبي... أنا آسف كارا... أظنك امرأة حياتي و لا أرى نفسي وحيدا من دونك... أعترف أن كل شيء تغير منذ أن دخلتها..."
" اه... كم هذا لطيف" ابتسمت له ملئ فمها و قبلته مرة و مرتين و ثلاثة قبل ان تقول" بالرغم من ان الايقاع بك لم يكن سهلا اليساندرو ايميليانو... اعترف اليوم بأنني سعيدة لأن خوسيه ارسلني غصبا الى صقلية ... سأدين له بسعادتي ما حييت"
* * *
" انها تتألم منذ ساعات طويلة جدا..."
كل حيل فلور لم تنفع لتهدئة والدها، فرجينيا صاحبة المفاجآت خططت منذ أشهر للولادة المائية في البيت، هناك فريق تصوير كامل لهذه المناسبة، تحيي جرئتها، فهي شخصيا لا تنوي خوض التجربة مجددا، بعد العذاب الذي عاشته لوضع نيكولاي... بالرغم من أن الولادة المائية انتشرت مؤخرا مثل الفايروس و القت شهرة، يبدو ان البحوث أثبتت فوائد المياه لتخفيف الألم ومساعدة التمددات عدة مرات.و يمكن أن تساعد خصائص الاسترخاء في المياه على تسهيل عمل فرجينيا.. يبدو أن طبيبها لا يرى مانعا حتى بعمرها بالرغم من انه يُنصح الا تتجاوز المرأة الاربعين... برأئيه يمكنها تماما خوض التجربة، بأنها تملك بنية جسمانية قوية.
" و أنت تتألم أكثر منها كما أرى..." قالت له فلور وهي تدنو منه تمسح على وجهه الشاحب" هيا أيها الوسيم... و كأنك لا تعرف فرجينيا... ان وضعت شيئا في رأسها فلا تتنازل عن تحقيقه أبدا... لن تجبرها على الذهاب الى المستشفى ان قررت الولادة هنا... كما انها محاطة بالممرضات و الطبيب أجزم أنها لا تعاني أدنى تعقيدات"
دون ان يجيب تركها كي يعود الى الغرفة التي تم تجهيزها لهذا الغرض، تبعته عن قرب ووقفت بجانب آنجلا التي كانت متسمرة مكانها، أعينها مركزة على فرجينيا مشرقة رغم شحوبها وسط بركة اصطناعية متنقلة، كانت ترتدي ثوب سباحة، شعرها مقعود فوق رأسها،الممرضة تمسد ظهرها و كتفيها.
" انه فلم رعب..." قالت فلور بصوت منخفظ، يبدو أن والدتها سمعتها جيدا، هزت نحوها نظراتها الزرقاء.
" أخرجي ان كان منظري يزعجك عزيزتي..."
" قطعت مسافة من اسبانيا الى هنا ... " تمتمت فلور من خلال انزعاجها" لا أريد تفويث فرصة ولادة المرأة مائية..."
أعادت فرجينيا رأسها الى الوراء و ضحكت بخفث قبل أن تكشر بألم و تضع يدها على بطنها الممدودة أمامها:
" أنا سعيدة لأن عائلتي بجانبي... انه الهذف تماما من هذا الخيار"
جلس الكونت على ركبتيه ووضع ذراعه خلف ظهرها مما أجبر الممرضة على الابتعاد، القت فلور نظرة على ساعة يدها، انها في البركة الاصطناعية منذ عشرون دقيقة، فم الرحم متسع بثمان سنتمترات لن تتأخر بالوضع ان صدقت الممرضة التي تهتم بتفقد نبضها و تحثها على اتباع خطوات التنفس الصحيح عند الانقباضات... تتفقد انتظام درجة حرارة الماء، والتي كما فهمت يجب أن تتراوح ما بين 97 إلى 100 فهرنهايت،و أن يُحتفظ على نفس درجة المياه حتى إتمام الولادة، الفريق المختص يقوم بعمل رائع هي تعترف،كارثين لا تتكلم، انها تقوم بالتصوير فقط، عندما تكون خالتها بهذا الصمت فهي تعرف بأن انفعالاتها أقوى من ان تتركها تشارك بأدنى كلمة، منحها الكونت المياه لتشربها ليجنبها الجفاف، هذه الأخيرة شكرته بقبلة بين تشنجين متقاربين للغاية.
" أظن أن الوقت قد حان..." قالت فرجينيا بعد أن انقضى تشنجها الأخير.
" ادفعي كلما شعرتي برغبة في ذلك..." نصحتها الممرضة بلهجة عملية.
هزت فرجينا نظرات ممتلئة بالدموع نحو أندريس، دفع هذا الأخير خصلة من شعرها خلف أدنها، رأته ينحني ليقبلها برفق قبل أن يوشوش لها بكلمات في أذنها جعلتها تبتسم رغم آلامها المبرحة، بما يعدها يا ترى؟؟ بأن يضع القمر تحت قدميها ما ان تتجاوز محنتها الحالية؟! انهما أجمل زوجين رأتهما في حياتها، كيف لفرجينينا أن تتزوج من روبيرتو و هي تذوب عشقا بالكونت و منذ الأزل؟؟! انها تشعر بالفخر لأنها ثمرة هذا الحب... بأنها جزء من ماضيهما ... سمعتها تئن بحدة بينما تتشبث بيدي أندريس و تدفع بكل جهذها، أسرعت الممرضة لتتفقد عنق رحمها مجددا.
" الرأس هنا.. استمري في الدفع"
التقطت انفاسها قبل أن تدفع مجددا لكن في صرخة أعلى هذه المرة، عندما توقفت لتلتقط أنفاسها مسح أندريس دموعها:
" آسف لأنه لا يمكنني مساعدتك..."
" أنت تساعدني لأنك هنا... أحبك أندريس"
" أنا ايضا أحبك..." قبل جبينها " أحبك بشدة"
وضعت فلور يدها على فمها امام كمية العاطفة التي طغت عليها بينما ترى والدتها تدفع الجسد الصغير أخيرا و تساعدها الممرضة بأخده بنفسها، شعرت بالذوبان التام ، غزتها موجة لا تصدق من الرفاهية. هي لا تنتمي إلى نفسها بعد الآن ، لا تستطيع التفكير ، لديها شيء واحد فقط في ذهنها: أن تدوم هذه اللحظة تدوم ، تدوم ... الى الأبد.
شهقة آنجلا و دموعها أعاد احساسها تذريجيا، رأت الكونت ينحني على الجسد الصغير الذي تضمه الى صدرها فرجينيها، لم يكونا قد عرفا جنس الجنين، و يبدو أن المفاجأة تجعله أخرسا:
" انها فتاة..." تكلمت كاثرين للمرة الأولى منذ بداية الولادة.
" آه نعم... انها فتاة..." رددت فرجينيا لتثير إنتباه الكونت بإصرار:" كان عندي احساس بأنها فتاة... آليسيا... سوف نسميها على اسم ابنتك آليسيا لتخليد ذكراها..."
هذه المرة كل رباطة جأش الكونت خارت، كل عواطفه المكبوثة منذ ساعات و معاناته الصامتة بآلام زوجته و خوفه من المضاعافات أخدت حقها منه، رأته يدلف وجهه في عنق زوجته و يترك العنان لدموعه ثم يضمهما الى صدره و كأنه لا ينوي تركهما أبدا، كانت لحظات ملئية بالمشاعر و الحب و الشجن، تقسم أنها شعرت بطاقة غريبة تجوب الغرفة، و كأن آليسيا موجودة حقا بينهم، انها تحي شجاعة والدتها و تحي هذا الحب الذي تغلب على كل المصاعب و تحققت معه المعجزات، حمل فرجينيا ليس الا واحد من تلك المعجزات بالتأكيد.
* * *
بعد أربعة أشهر...
.
.
.

" أنت رائعة ... رائعة..."
شعرت سابرينا بالفخر ينفخ في صدرها بينما ترى صوفي تتمكن من المشي بمفردها دون استعمال عمودي الحديد في قاعة التدريبات، كانت ملامحها متشنجة من الألم و المجهوذ، خصلات شعرها ملتصقة على وجنتيها المدورتين، ارتجفت يديها بعنف و بعد خطوتين امسكت بالعمودين المستويين على طول الممر و قاومت الا تخور قوتها، حاولت مساعدتها الا ان المدرب طلب منها البقاء مكانها، تجمعت الدموع في عينيها و هي تراها تجاهذ ما استطاعت المشي الى النهاية.
" استمري طفلتي"
هذه الكلمات اشعلت غضبها فحسب، استدارت نحوها لترمقها بحدة:
" لما لا تختفين من هنا؟ اذهبي و اشربي قهوتك ريثما انهي التمارين... أنت وحدك من يثير الضوضاء في هذا المكان و هذا يحرجني"
منذ اصابتها في الرأس تتملك صوفي نوبات غضب حادة، طمئنها الطبيب بأن هذه الأزمات بسبب مكوثها الطويل في المستشفى، لقد قاربا على انهاء السنة هنا، تعترف بأنها نفسها تدمرت أعصابها في هذا المكان، لكن روكو سيصل الأسبوع القادم ليحصل على تقريره الشامل، ينوي اعادتهما الى صقلية برفقة خبيرين يهتمان فحسب بتدريبات صوفي في المنزل... هذا الاخير مستعجل على الزواج ... غريب هذا من رجل انتظر كل حياته المرأة الكاملة و رفض كل العروض كي يسقط اختياره على ما لم يتخيلها الكل له، لكن بريانا صاحبة شخصية فولاذية... ابنها تحت السحر تماما.
" فليكن يا طفلتي... سأجلب بعض القهوة، هل ترغبين بشيئ؟"
" فقط أن تتركيني بسلام..."
بدت تجاهذ كي لا تنفجر في البكاء، من وجهها المدقع تلمح العذاب الذي يسببه لها هذا المجهوذ الذي تقوم به، خطوبة اليخاندرو لم تزدها سوى اصرار بالخروج من أزمتها، انها ابنة ابيها.. صوفي لا تستسلم ابدا، القت نحوها نظرة متعاطفة أخيرة قبل أن تقصد المخرج المؤدي رواقه الطويل الى كافتيريا المستشفى، هاتفها يومض بوصول رسائل جديدة، تفقدتها فورا، لا يفاجئها مطلقا اوامر روكو بصور لصوفي، فلنقل... مئة صورة في اليوم؟؟ ربما العدد مبالغ فيه لكن اصراره يدعو للإختناق أحيانا، بغض النظر عن المراقبة الشديد من طرف فريقه الذي تركه منذ أن حطوا الرحال في هذا المكان، انه على علم بكل التحركات، عندما ظنت بأنها وجدت صديقه و يمكنها الخروج ليلة واحدة للعشاء خارجا دخل في موجة غضب عارمة، تفضل نسيان الكلمات الجارحة التي رددها على مسامعها.
{" هل أكلت جيدا؟؟"
" هل نامت بما يكفي؟؟"
" هل تجاوبت اليوم أفضل من أمس؟؟"
" ما هي التطورات بشأن الجلسات النفسية؟؟"
" هل سألت عني؟؟"}
شعرت بوخز في ضميرها، صوفي لا تسأل عنه اطلاقا، فلنقل أنه كابوسها و ليس مصدر أمل أو حتى شفاء، الحاذثة خلقت هوة شاسعة في علاقتهما، و رغم كل جهوذها لتهيئها للحقيقة التي ستنفجر قريبا في وجهها الا ان صوفي تتشبث بتحفظها اتجاه شقيقها الأكبر... والدها.
" آسفة... آه أنا آسفة"
كل شيء حذث بسرعة، هاتفها سقط أرضا مع كوب القهوة السادة الذي كانت تحمله الفتاة التي اصتدمت بها، رأت برعب القهوة التي هدقت على صدرها، رباه... لقد تسببت بكارثة.
" هل أنت بخير؟؟ أنا آسفة ... لم أراك... كنت مشغولة بهاتفي.."
انطلقت في كلمات اعتذار، بينما الفتاة ابتلعت صدمتها الأولى و استردت رباطة جأشها، هي من بدأت بتهدئة روعها...
" انه خطئي أيضا سيدتي... لا بأس... " كانت لكنتها امريكية و ليس انجليزية، ابتسامة لطيفة على شفاهها.
" الخطأ يقع علينا نحن الإثنين... " قالت سابرينا بينما تنتبه الى أن حارسها الشخصي يدنو منها:" لست بحاجة لمساعدتك... جد فقط من ينظف المكان..."
ثم أعادت اهتمامها للفتاة الأمريكية معتذرة:" سوف أعوض قميصك، و أصر على دفع ثمن قهوتك..."
" كانت لحبيبي القهوة..."
أشارت برأسها نحو المقاعد المصففة في الكافتيريا، شاب منكب تماما على هاتفه، ساقه في ذرع من الجبس.
" هل هو مصاب؟؟"
" أتينا الى هنا في رحلة و انتهى الموضوع بحاذثة سير... أصيب بكسرين في ساعده..." ثم مدت نحوها يدها:" أدعى ليكسي..."
" أنا سابرينا... مقيمة قديمة جدا في هذه المستشفى... "
بدى الفضول على الملامح الشابة وهي تنظر اليها، فهمت بأنها تحاول ايجاد العلة فيها.
" ابنتي أصيبت في حاذث سيارة مريع... "
" أنا حقا آسفة... أتمنى أنها تتشافى..."
" هي كذلك..."
عاد الحارس بموظفين اهتموا فورا بأمر القهوة على الأرضية الامعة، رافقتها نحو الكونتوار و طلبت سابرينا قهوة أخرى:
" أعطيني رقم غرفة حبيبك كي أرسل لك قميص جديد..."
" آه كلا...." ضحكت ببعض النعومة...: " سأهتم بالتخلص من هذه البقعة... لدي سر من اسرار جدتي للتخلص من البقع الصعبة..."
ابتسمت لها سابرينا بينما تدفع ثمن فناجين القهوة.
" هل ترغبين بالانضمام الينا..؟؟" سألتها المدعية ليكسي، وهي تهز رأسها بإتجاه الطاولة التي يجلس عليها رفيقها.
هل ترغب حقا التكلم مع غرباء؟ روكو يبعد عنهما كل متطفل، ربما هو بعيد بالالف من الأميال لكن عينيه في ركن بهذه المستشفى، أعتادت على الحذر ممن حولها، منذ يانيس، يعقبه روكو... بنظرهما الخطر يتربص بهم في كل ابتسامة و تحية، ابنها يمضي على قاعدة الاحتياط واجب، لكنها اللحظة المتسببة في هذه الحاذثة الصغيرة و تبدو الفتاة لطيفة كما ان صوفي لا تنتظر عودتها، التكلم مع أحد قد يخفف من اختناقها.
" لما لا...؟!"
" رائع... تملكين لكنة..." قالت ليكسي وهي تدعوها لتبعها الى الطاولة.
" أنا ايطالية و أنت أمريكية...اليس كذلك؟"
" من النيفادا، حبيبي من تكساس"
تبدو لطيفة و محبوبة، ربما ستجدها صوفي من ذوقها اذا عرّفت الشابتن على بعضهما، هذه الاخيرة أصبحت سوداوية جدا و انغلقت على نفسها، كل تركيزها على تذريباتها، هذفها ان تتعالج و تقف على رجليها كي تغادر كليا حياة روكو و تشق طريقها الشخصي... لن تغامر بأن تخبرها بأنها تضيع وقتها.... خطط روكو بشأنها بعيدة جدا عن آمالها، لن يتركها ابدا لسيما وهو يكتشف ابوته المتأخرة... الشيء الذي لا ينوي مسامحتها عليه، و يستمر في سياسة القمع و البرود و لعبة التجاهل الجارحة... لكن هل لها الخيار في النهاية؟؟ تركت نفسها تنقاد منذ ان تم زواجها بأجرأ و أمكر و أذكى رجل عرفته ايطاليا..
هز الشاب رأسه نحوهما عندما شعر بوجودهما، شعرت بأنفاسها تتجمد في صدرها، لحسن حظها أن ليكسي من تحمل فناجين القهوة، ربما كانت لتهرق سائله على الوجه الفضولي النظرات التي تتطلع اليها.
مستحيل...
لا...
مالذي يحذث الأن؟؟ هل هي كامرا خفية؟؟
" اليخـــ...؟؟" أدركت خطئها بينما يميز عقلها الحاد بأن اختلاف كبير بين الصورة في رأسها و الرجل أمامها، وجهه مطابق بشكل لا يصدق مع اليخاندرو نعم لكنه... فلنقل... أشد قوة؟؟ أشد ... أشد كل شيئ.!
انه اليخاندرو لكن بحلة... وحشية؟؟ صديق ابنها المتألق دوما في سترات عمل فاخرة، و ابتسامة تغوي قديس، من أمامها يملك كتفين أكثر عرضا، ذراعين لرجل آلف الأعمال المضنية، نظرات حاذة الذكاء و الحذر، له طاقة غريبة لا تفهما... الموقف مريب و سخيف و لا يصدق... هي التي تعلمت من يانيس كل الأحكام الممكنة على الناس تجد نفسها في نقطة الصفر.
" سابرينا؟؟" حولت بصعوبة نظراتها نحو ليكسي، هذه الأخيرة بدت قلقة النظرات:" هل أنت بخير؟؟ تبدين شاحبة فجأة..."
" آسفة لم أسمع ... ما قلته...."
" خافيير... " عادت ليكسي بالتعريفات.
هذا الأخير ترك مكانه ليمد يده السليمة نحوها، لابد أنه فهم ضناها و لمح ارتباكها.
" تشرفت بمعرفتك سيدتي... و لو أنه مكان غريب جدا للتعارف... "
لا تجد الكلمات لتقولها، انزلقت ببطئ على الكرسي عندما اخد الكل مكانه، هذا الأخير يتطلع اليها ببعض الاصرار، شعرت فجأة بأن عقلها سينفجر.
" أخبرتني ليكسي أنك من تكساس..."
وقفت فجأة هذه الأخيرة:
" بما أنني وجدت لك رفيقة لخمس دقائق سأسرع لغرفتك كي أغير قميصي... هذه قهوتك... " رأتها تنحني عليه لتبادله قبلة سريعة :" اعذريني لحظة رجاءا، اتمنى الا يزعجك أن تمديه بالرفقة ريثما أعود"
" تفضلي... هذا أقل ما يمكنني فعله..." وشوشت لها بصوت غريب عنها.
عندما أصبحا بمفردهما أدركت بأن نظراتها المصرة جدا تشعره بالاحراج، انها لا تؤمن أبدا بالمصادفات، تعلمت الا تثق بأحد، تعلمت ان المواقف لا تكون دوما عفوية... لكن... هل يعقل أن من بين كل الصدف الممكنة، تجد نسخة مطابقة لأليخاندرو في هذا المشفى الخاص الذي لا يخص سوى نوع خاص من الزبائن؟؟ فتحت فمها و عادت تغلقه... تعلمت التريث أيضا... الحذر... التفكير ثم التصرف...
" أنت من تكساس؟؟"
" من جنوب تكساس على الحدود مع المكسيك... لكنني أعيش حاليا في فلوريدا مع صديقتي... و أنت تملكين لكنة لذيذة... "
بقيت أمامه، تحملق اليه دون ان تفهم شيئا، هل ما يحذث الان هو حقيقي؟؟ هل هي بصدد تبادل الكلام مع نسخة اليخاندرو؟؟ لكنها لن تتمكن من بلع لسانها أكثر.
" أنت مكسيكي..!."
جعد أنفه:
" من مكسيكو... لكنني لم أزرها منذ مدة..."
" رباه" مسدت جبينها... هي التي تعشق حل الكلمات المتقاطعة و مهووسة الشطرنج، تجد نفسها فريسة حيرة لا قعر لها..
" هل أنت بخير؟؟"
" لا ... أنا لست كذلك..."
نظرت من حولها لتتأكد بأنها ليست ضحية مقلب، لكن كل شيء طبيعي، هناك حارسها الذي جلس غير بعيد، كان يضع عليهما نظرات ضيقة، هو أيضا انتبه للشبه؟؟ بلا أدنى شك صورة هذا الاخير وجدت طريقها الى روكو، لن يتأخر بمنح اوأمره لإعادتها بجانب صوفي، لكنها بحاجة ماسة لأجوبة، الفضول سيقتلها.
" هل تملك أقارب؟؟" سألته مباشرة، أخدت هاتفها و قلبت فيه الى أن عثرت على صورة لأليخاندرو و نشرتها أمام وجهه" هل تعرف هذا الرجل؟؟"
مد يده ليمسك بالهاتف و يتطلع الى الصورة، حاولت القراءة في وجهه بلا جدوى، كان محايدا، حط عليها نظراته الرمادية... رباه هذه العيون... من المستحيل أن يكون مجرد تشابه او مجر صدفة، ثم... لما لا يبدو متفاجئا.؟!
" غريبة حقا هذه الحياة..." سمعته يدمدم ويبعد عنه قهوته و كأنه يقترف من مذاقها:" من اين تعرفين اليخاندرو؟؟"
أقطبت... انه يعرفه...
" انه من عائلتي... أقصد، تقريبا من عائلتي... الصديق الروحي لإبني... بما انك تعرفه، هل يقربك؟؟"
" أفهم لما بدوتي و كأنك رأيتي شبحا" ظهرت ابتسامة حزينة على وجهه" انه توأمي... فلنقل بأننا لسنا على وفاق، لايريدني في حياته"
لو نبث له رأس آخر لما تطلعت اليه بهذه الطريقة، كانت تشعر بالهواء يدخل الى رئتيها لكن لا تعرف بأي طريقة... لما أخفى اليخاندرو حقيقة أن له توأم؟؟ أم أنها الوحيدة التي لا تعرف بالموضوع؟؟ بدى فجأة متسرعا لهجرها، لا يبدو بأنه سعيد بهذه المصادفة، رأته يقف بعد ان ظهرت ليكسي أخيرا، غيرت قميصها و اسرعت نحوهما بإبتسامة:
" آسفة للتأخير... "
" لكيسي سأعود لغرفتي... "
" لكن..."
قاطعها
" يمكنك البقاء لشرب قهوتك... اشعر بالألم في ذراعي..." هز نحوها نظرات اخيرا" يوما سعيدا سيدتي"
تابعته سابرينا بنظراتها، كيف يمكنها تفسير ما حذث اللحظة..؟؟ انها تعرف جيدا اليخاندرو، طيب القلب و رائع كريم، كيف له أن يقطع علاقته بشقيق... و ليس أي شقيق، انه توأم... صورته المتطابقة.
" مزاجه سيئ جدا منذ ما حصل..." شرحت ليكسي معتذرة بينما تجلس في المكان الذي كان يجلس عليه صديقها:" خاض العملية هذا الصباح فقط... هناك كسرين مريبين في ذراعه... هذا المستشفى هو الأشهر في إعادة الترميم لذا فضلنا المجيئ رغم سعرهم المرتفع..."
حولت سابرينا اهتمامها اليها:
" لما تتكلفان الدفع بينما الكسر ناجم عن حاذث؟؟ تأمين الجاني من سيدفع..."
" هربت السيارة..." شرحت متنهذة بحسرة:" لا أعرف كيف تسددين كل هذه التكاليف و قد طالت اقامة ابنتك..."
" أحوالنا ميسورة... لحسن الحظ... " تمتمت سابرينا .
" أتمنى أنها ستخرج قريبا من هنا..."
" سنعود ايطاليا الأسبوع القادم...."
" رائع..." قالت بإبتسامة دافئة:" سيسعدني رؤية ابنتك... هل يمكنني زيارتها؟؟"
مع مزاج صوفي السيء؟؟ عليها أخد رأئيها أولا، ثم هناك هذا الخافيير... عليها التكلم بشأنه لروكو، تعرف بأن جواسيسه قاموا بهذا العمل سلفا، لكنه سينتظر منها تفاصيل أكثر، تذكرت الابتسامة التعسة التي داعبت شفاهه بينما يكلمها على توأمه... شعرت بالحسرة، لا يبدو أنه توفق مثل توأمه...تبدو حياته متواضعة جدا... أكثر غموضا من توأمه و تحفظا.
" ابنتي... تعرضت لصدمة رأس عنيفة، معجزة من الله أنها ما تزال حية... لذا... لا تحب الغرباء... تفهمين..."
" بالتأكيد أفهم... " هزت رأسها موافقة:" خافيير أصيب في ذراعه فحسب و مزاجه سيء لدرجة ان رفقته مريبة..."
وقفت سابرينا، حان الوقت للإلتحاق بصوفي، و بتحرير هذه الفتاة لتلتحق بحبيبها السيء المزاج... رغم محاولة الامريكية لتأخيرها الا أنها تملصت، ربما هذه الأخيرة تشعر بالملل و تريد ايجاد من تتكلم معه، لكن هي لا وقت لها لتضيعه، لسيما بهذا اللقاء الغريب مع توأم اليخاندرو...لا يجب أن تراه صوفي... لا يجب أن تراه...
* * *
" شكرا لمجيئك ميغان أنت رائعة "
المظاهر تخدع العين فور سقوطها على ميغان، من اصول اسكتلندية و روسية الفتاة تشبه التحفة بعينيها الشاسعتين الياقوتين و شعرها القمحي الشديد الشقرة، ليس لهذا وظفها كيليان لديه منذ اثنتا عشر سنة، بل لانها من أكفئ المهندسين لديه، توطدت علاقتهما أكثر قبل أربع سنوات، عندما ماتت شقيقتها في نومها و تركت لها طفلة في عمر الخامسة، 'ميغان سويت ' أصبحت اكثر من مجرد مهندسة، انها تدير فرع ارشيبالد في ميامي و نيويورك خلال غياباته المتكررة في روسيا, انها الشخص الوحيد الذي يثق فيها لتدير شؤونه بقضبة قوية ، و بما أنه يبقى في الظل متفاديا ظهوره في اي مقال مهما كان نوعه، هي الوجه الدعائي لأرشيبالد.
" هل تمزح كيليان؟؟ لونا سعيدة جدا برؤية أوكتافيا مرة اخرى"
انحنى ليلامس شعر الفتاة الصغيرة:
" مرحبا لونا... أوكتافيا في غرفتها يمكنك الالتحاق بها"
و كأن الطفلة كانت تنتظر فقط هذا الاذن لتركض بكل قوتها نحو السلالم، انتبه الى أن ميغان تحمل أكياس كارتونية، تقدمت في الصالون لتضعها على الطاولة:
" مالذي تنتظره؟؟ ستتأخر على الحفل..."
" أدخل دوما من الباب الخلفي و افضل الوصول متأخرا كي لا أثير الانتباه" مسح على سترة بدلته الكحلية الراقية:" أتمنى بأنني لم أزعجك بالبقاء الليلة مع ابنتي..."
" مطلقا... عموما لا مشاريع لدي نهايات الاسبوع... كما أنني..." أشارت الى الكيس برأسها:" جلبت بعض المكونات لتحضير الكعك مع الفتيات... آخر مرة أظهرت أوكتافيا مهارة عالية و كفائة في الطبخ.."
ابتسم ببعض التسلية:
" لم ترث هذا من والدتها بالتأكيد, ايموجين خبيرة مع سكين الجراحة..."
رآها تبرمط:
" لا تكن قاسيا ... انها تحاول التغير... هل من الممكن أن تعود الأمور لمجراها الطبيعي؟؟"
" أرفض التكلم عن الموضوع" انحنى ليقبل خدها:" شكرا مرة أخرى ميغان... يمكنك استعمال الجناح الوردي مع لونا... "
" كن حذرا... قد لا تمر الأمور كما تأمل الليلة... " نبهته متهذة.
"انا مسلح ضد العواقب..." عدل ربطة عنقه" كيف ابدو؟؟"
" كملياردير ألف الحصول على ما يريد..."
و بالتاكيد وصوله لا يمر مرور الكرام، حتى في مكان ممتلئ برجال الأعمال و نسائهم يحذث ظهوره ضجة، عينيه تبحثان عن رجل واحد، و لم يكن متفاجئا بينما يراه مع لوكا، انه يحمي وجهه من الميديا و لحد الأن أفلحت جهوذه، لا يظهر مطلقا في مكان عام يسمح بدخول الصحافة، يانيس ايميليانو يعيش في ملامحه، ارثه اللعين الذي سيتعقبه لما تبقى من عمره.
" اليساندرو ايمليانو..."
هذا الاخير أشرق وجهه ما ان سقطت نظراته عليه، من المستحيل عدم لقاء الرئيس التنفيذي لسكاي عندما يكون حفل استقبال مماثل، الشاب الذي لم يتجاوز الثلاثين سنة كسب احترام كل الرؤوس العملاقة.
" كيليان ارشيبالد... كم انا سعيد جدا برؤيتك مجددا..." صافحه بحرارة قبل أن يشد على يد لوكا ." دعني اقدم لك دانيلا كورتيز... خطيبتي..."
ابتسم كيليان للشابة المتوهجة في ذراعه، أمسك بيدها ليقربها من شفاهه.
" أنت فاثنة آنستي..."
" شكرا لك..."
أعاد اهتمامه الى اليساندرو، الأخ الأصغر الذي هرب منذ سنوات طويلة من سيطرة روكو و اثبت له بأنه ابن ابيه هو أيضا و لا ينقصه الطموح أو الذكاء.
" سمعت بأن سكاي ستدخل البورصة... "
" هذا صحيح..." قال اليساندرو:" أعمل بجهذ لتحقيق هذا الغرض..."
" مشاريع للعودة و الاستقرا في ايطاليا؟" سأل لوكا.
" أحب ايطاليا... لكنني أصبحت نيويوركي بشكل أو بآخر... "
حط كيليان نظراته على الاسبانية الجميلة، والد خوسيه مارتينيز كان الصديق الروحي ليانيس ايميليانو، و بما انه سابقا كان مهووس بكل ما له علاقة بوالده، فقد قصد التعامل مع الشركة الصغيره لراؤول و ناديا كورتيز، ناديا ليست سوى الشقيقة الكبرى لإليونور، الفتاة عانت بشدة شديدة بمشاكل نفسية في أواخر سنوات حياتها قبل أن تنتحر .
ما يعرفه ان والد خوسيه اتبع نصائح يانيس ايميليانو... بئر الاسرار و الخطط الشريرة التي تفوق كل استعاب...
" أنت صورة طبق الأصل على اليونور..."
بدى الفضول على وجهها الجميل، سألته بصوت يملك بحة مميزة جدا...
" كنت تعرف خالتي؟؟"
" ليس بشكل خاص... " أكد لها بصدق." تعاملت أرشيبالد مع الشركة الحرفية لرؤول... كنا تحت سحر التصنيع اليدوي لمعدات مكملة... كان رجل ذو فكر عال... "
" يسعدني ان يتكلم رجل بمكانتك عن أبي بهذه الطريقة... لأسف لم يعد هناك وجود حقيقي لبصمته الاستثنائية... المصنع بدأ يفقد شهرته منذ موته رغم وجود صناع أكفاء، للأسف أنني لم أرث حسه الفني... "
رآى اليساندرو يقربها منها أكثر و يقبل صدغها بعاطفة ظاهرة...كيف يمكنها أن ترث أي شيء من راؤول كورتيز بينما لم تحمل دمه يوما؟؟
" تلقيت عروض ادماج عديدة، يقول خوسيه بأن الماركة عائلية و يستحسن الاحتفاظ عليها لعائلتي الخاصة، لسيما ان العروض تنوي الغاء اسم كورتيز..."
" خوسيه هو وصيك؟؟" سألها مدعيا عدم الفهم.
" خوسيه مارتينيز هو الذي استلم زمام أموري منذ موت والداي المفاجئ... "
" هو من يدير مصنع كورتيز... " سألها :" اليست أعماله في الصناعات الكيماوية و الانشاءات؟؟"
هزت رأسه بالموافقة:
" تجارة البن أيضا و المولدات الكهربائية في أروبا مؤخرا... لكنه مثلي، لا فكرة له في عالم السيارات، انه هنا لمراجعة التقارير و الصفقات و لكنه لايملك خيال أبي... لكنه متشبث بإسمي... هناك أربع عروض جديدة على المصنع، الكثير من خيارات الدمج، المصنع تم تأسسيه منذ نصف قرن... لن يكون أبي سعيدا في قبره ان تم عزل اسمه في النهاية..."
ابتسم لها مهنيا.
" وصيك رجل موقر و محترم..."
" انه كذلك..." أجابته بإبتسامة صغيرة.
" يمكننا رؤية بعضنا لاحقا بوجود اليساندرو بالتأكيد... لدي أفكار كثيرة يمكنني اقتراحها عليك "
" سيكون من دواعي سروري سيد ارشيبالد..."
" ناديني كيليان... "
اتسعت ابتسامتها أكثر، استوقفته قبل أن يهتم بلوكا الذي كان ينتظر انتهائه من محاذثته ليأخد جانبا:
" لا تملك جذور ايطالية ؟؟"
" أبدا..." أجزم بهدوء.
" انت تشبه بشدة صورة زيتية لوالد اليساندرو... شيئ لا يصدق حقا..."
ضحك اليساندرو:
" نفس الملاحظة أخبرته بها في أول لقاء لنا... ظننت نفسي أواجه شبح من الماضي... كيليان من أب و ام روسيين... لا حظ حتى أن يكون ابن عم بعيد"
" تبدو خائب الظن..." قال سانتو بتسلية.
" أنا معجب بشدة بك... " نبرة اليساندرو بدت صادقة:" أنت أيقونة بالنسبة الي"
" كلامك كثير على أناة رجل متواضع مثلي... هذا سيدفعني للغرور..."
" انها الحقيقة..." أجزم أخاه بنعومة.
" بما ان المناسبة تطرح نفسها أدعوكما لسباق تجريبي في فلوريدا الشهر القادم..." يبدو ان عرضه أثار حماسة الايميليانو الصغير و حتى خطيبته:" أملك بيتا هناك... يسعدني أن تنزلا في ظيافتي..."
لوكا انطلق في شروحاته الطويلة بشأن أعمالهما المشتركة، صديقه يأخد أعماله بجدية بالغة، انه صاحب سمعة جيدة و نباهة عالية، لاحق بنظراته اليساندرو، اعترف بأنه مختلف تماما عن العرّاب، انه عالق في دمه مثله تماما، وضع بينه و بين جذوره مسافة ليبني امبراطوريته الخاصة في نيويورك، وهاهو يظهر رسميا مع دانيلا كورتيز... اختيار موفق، هذه الأخيرة على رأس أعمال محترمة، و يبدوان سعيدين مع بعضهما.
" هل تسمعني؟؟"
" أنا معك..." قال للوكا الذي كان يقطب بينما شفاهه صارت خط مستقيم، ارتشف من كأسه .
" هل تنوي وضع ميغان رسميا على رأس أعمالك في الولايات المتحدة؟؟"
" طالما كانت الوجه الاعلامي... انها امرأة فائقة الذكاء و أثق بها... قررت العودة للاستقرار كليا في موسكو..."
هز رأسه و كأنه لا يصدق ما يسمعه:
" مالذي يحذث معك كيليان؟؟ الطلاق، ثم هذا القرار في الاختباء"
قست نظراته، انتبه لوكا لتغير مزاج زوج شقيقته، أو بالاحرى طليقها المستقبلي، تعمدت ايموجين التراجع عما اتفقا عليه سابقا أمام المحامين، أدركت خطئها و ترغب بإستعادة زوجها، كيليان لا يمنحها الفرصة، مؤخرا يخرج بهذا القرار الغريب بأن يعمل عن بعد و يرسم اقامته في موسكو، ما لا يعجبه بالمرّة هو هذه العلاقة المثينة بين كيليان و ميغان، شقيقته لا تتحمل هذه الأخيرة، برأئيها هي بصدد أخد مكانها الشرعي في حياة زوجها و ابنتها.
" مالذي تنويه بشأن اوكتافيا في هذه الحالة؟؟"
" كما فعلت حتى الأن لوكا... ايموجين تملك حضانتها، و أنا سأخدها عندي في العطل... عندما تبلغ السن القانونية يمكنها اختيار مع من تعيش"
هز رأسه بحسرة:
" أشعر و كأنك تعاقب شقيقتي..." لم يرد صديقه، ابقى عينيه عليه دون تعليق:" انها تحبك، تريد استعادة عائلتها لما ترفض منحها فرصة؟"
" انا وهي لا نملك نفس التطلعات للامور... لم تعد تغريني على المستوى الفكري"
" ميغان تغريك على المستوى الفكري و العملي؟"سأله متهكما.
" لا شيء بيني و بين ميغان، انها صديقة و موظفة مرموقة... " قاطعه كيليان بنبرة حازمة" ان كنت ستكلمني عن شقيقتك كلما التقينا لوكا فمن الافضل ان نقلل هذه اللقاءات !..."
" تعرف بأنني احب اوكتافيا و هي تتألم بشدة لوضعكما"قاطعه لوكا مدافعا " ما ألاحظ أن مشاعرك لم تكن يوما قوية كفاية اتجاه ايموجين كي تمنحها أدنى أمل في أن تتحسن الأمور بينكما.."
" هل حقا تفعل هذا من أجل إيموجين و أوكتافيا أم من أجل انتخابات و مصلحة والدك العامة؟"
" الاثنين" رد لوكا بصراحة.
" دعني اخبرك اذن ان قرارات والدك السياسية ما يدفعني لهجر أمريكا كليا، تعرف بأنني أكره بشدة أن يتدخل أحد في حياتي و حميميتي، سأجد نفسي محاطا بالاهتمام الشديد و معرض للاكاذيب و سلسلة اتهامات مريبة ... "
للحظة ، اعتقدت أنه كان يمزح. ولكن لم يأت شيء من أجل ابهاج ملامحه، كان جادا، كيليان يهجر ايموجين و اعماله الامريكية بسبب انتخابات والده؟! نعم ... بالتأكيد هو يعرف حساسية هذا الاخير من الصحف، لكن ان يتنازل عن منصبه حاليا لميغان و يفر الى روسيا؟
ميغان!... طارت موجة حارة في عروقه ، شديدة لدرجة أن بشرته اشتعلت فيها النيران... هل خوفه وحده على سعادة ايموجين ما يجعله غاضب من ميغان؟ قصتهما كانت قصيرة و رائعة لدرجه ان اثرها بقي واضحا جدا في ذاخله، رغم السنوات لم يمكنه قلب الصفح، ما تعلم انه لا يجب ان يقلل من شأن خصمه ... خاصة إذا كان هذا الخصم هو ميغان... لقد حطمت قلبه.
" تاريخك مشرف جدا كيليان مما أنت خائف؟"
" أنا لست خائف بل حذر..." قال له بصوت جليدي" حميميتي خط أحمر لوكا... والدك لا يترك لي الخيار، أفضل الإنسحاب كليا من هنا"
* * *
هل ترغب بالعودة حقا لصقلية؟؟ تسائلت صوفي دون أن تجيب والدتها التي استمرت في شروحاتها الحماسية و المشجعة، يمكن لروكو أن يكون لطيفا و طيبا، منذ الحاذثة و هو متعاطف، هذا لن ينفي حقيقة أنه سيعود لطبيعيته ما ان تستعيد صحتها، البقاء في هذا المستشفى مريب نعم، لكن العودة الى حقيقة أن اليخاندرو لم يعد حرا....
" هل تسمعيني؟؟" سألتها والدتها التي كانت تجلس بالقرب منها في الحديقة الخاصة بالمستشفى، المكان الوحيد المسموح لها بالوصول اليه، روكو الحذر يرفض أن يخرجوا من هنا، فلتكن صريحة مع نفسها، الوضع لم يكن اقل قسوة في حياة والدها... هذا الأخير لم يكن ينفع معه حتى التفاوض مع أوامره.
الاكتئاب عشعش في ذاخلها رغم كل محاولاتها في انقاذ المتبقي من أشلاء روحها، تعرف بأن كل الأموال التي ينفقها شقيقها الكبير لعلاج نفسيتها لن تفيذ بشيئ ان لم تنقذ هي نفسها بنفسها، لاشيئ يغريها في البقاء هي تعرف، حياتها تشبه من يتم غلقه في قفص من ذهب، و ان رغبت يوما في التحرر من قبضة روكو فعليها أن تشفى و تهرب قبل أن تجن رسميا.
" سمعتك أمي..." همست لها :" سيأتي العرّاب الأسبوع المقبل و سنعود أذراجنا، لأنه يصر على وجودي بينما يعقد قرانه على المسكينة التي لا تعرف في أي جحيم تدخل"
" انهما يحبان بعضهما..." صححت والدتها، مثل المعتاد... تنحاز دوما لإبنها المفضل.
" روكو لا يحب أحد... انه حسابي جدا ولم يكن ليختار مطلقة لو لم يجد فيها مصلحة ما... "
" هل يمكنك الخروج قليلا من سوداويتك و رؤية الأمور من زاوية أخرى؟؟" همست لها والدتها متنهذة وهي تلامس شعرها الذي بدأت خصلاته بأخد طول معتدل، تعترف بأن هذه التسريحة القصيرة توافقت مع استدارة وجهها و منحتها مظهر أجمل:" لما تصرين على رؤيته كوحش؟؟ الله وحده يعلم ما يتكبد من مشقة من أجلك..."
" كل قرش مدفوع سلفا من إرثي الخاص..."
" أنت مخطئة...ّ" قالت سابرينا بلهجة حازمة:" كل ما تم صرفه عليك هو من ثروته الخاصة، ارثك من يانيس لم يتم مسه أبدا"
لم تعلق، ان كان يملك أدنى ضمير فلأنه يؤنبه لذا غير من طريقة تعامله، لكن ما ان يرى بأنها تعافت و يمكنها العودة الى الجامعة حتى يكشر على أنيابه اللعينة، تريد فحسب عيش حياتها، مثلما تفعل بيانكا أو حتى دانيلا، رغم صرامة خوسيه الا أنها تعيش الحب الكبير مع اليساندرو بعد أن أصبحت علاقتهما رسمية، سابرينا كانت سعيدة جدا بخطوبتهما، أسرت لها بأنها تريد أحفادا، الكل وجد السعادة ماعاداها، روكو يقف بينها و بين أي نوع من التجارب، اسم الايميليانو لا يسهل مأموريتها أيضا...
تتذكر حبيبها الأخير، بعد موعدين أخبرها بأنه لا يريد مشاكل... فهمت بأنه تم تهديده ببساطة....
" هل يمكننا الخروج للعشاء الليلة؟؟" سألت والدتها التي انكمشت فورا في مكانها.
" لا أدري..."
" يوجد فريق حراسة بأكمله..." ذكرتها بصوت أجوف.
" أعرف صغيرتي..." ابتسمت لها برقة:" أنا أيضا أريد الخروج من هنا..."
عادة، لا تتصل مطلقا به، انها تفضل الموت على التكلم مباشرة اليه، هو يمر دوما من خلال والدتها، لكنها التقطت هاتفها و كتبت له، و بدل الاجابة برسالة اتصل بها فورا:
" مرحبا يا طفلتي كيف تشعرين؟؟"
تكره أن يناديها طفلتي... هي ليست طفلته، و لا ترغب بأن تنتمي اليه بأي شكل من الأشكال، انها ابنة يانيس ايميليانو، بلعت نفورها و قالت بهدوء:
" أريد الخروج لاستنشاق الهواء، أظن أن أمي أخبرتك بأني بدأت تحريك ساقاي مجددا، بأنني بخير... "
" نعم أعرف حبيبتي... لا يمكنكما الخروج..."
" أخبرني ما نفع الغوريلا التي تتركهم هنا؟؟" سألته فاقدة السيطرة." أريد الخروج روكو... فلنرى بما ستشعر اذا حجزناك أشهر طويلة جدا بين جذران سجن راقي؟؟ "
" أنت لست محتجزة صوفي..." ثم صمت و كأنه يفكر قبل أن يقول :" سوف أتصل بقائد الحراسة و أجهز لكما مطعم..."
" لا... لن تفعل روكو... لن تحتجز مطعم لنا فقط... أريد رؤية الناس و إمضاء سهرة طبيعية... "
كان القلق جليا على وجه والدتها، و كأنها تخاف بشدة ردة فعل ابنها، هي أيضا تشعر بالعصبية و تنتظر ما سيعقب عليه هذا الحوار:
" فليكن... سأحجز لكما في مطعم... شرط الا تتمردي على تعليمات الحراس..."
شعرت بالراحة العارمة، هزت رأسها كعلامة نصر لوالدتها التي توهج وجهها، تبدو هي أيضا سعيدة جدا بالخروج من هنا.
" شكرا لك روكو..."
"على الرحب و السعة يا طفلتي... أنا مستعد لفعل أي شيء لإرضائك و الأن مرري لي سابرينا من فضلك..." عندما منحتها الهاتف ابتعدت هذه الأخيرة عنها مثلما هي عادتها.
شعرت برغبة عارمة في البكاء لهذا الانتصار الصغير، بعد أشهر من الاحتجاز يمكنها رؤية وجوه جديدة و استنشاق هواء خال من المطهرات و المعقمات، تحسست النذبة بين خصلات شعرها التي استعادت كثافتها لتخفي آثار العملية، تثوق لبداية جديدة و نسيان ذلك الحاذث الذي منحها فرصة نجاة بشكل أخر، ماتزال حية و الهذف هو عيش هذه الفرصة الجديدة بكل الطرق الممكنة.
ابتسمت من خلال دموعها، لا تملك حبيبا قد تشكو له وحدتها، لكنها تملك على الاقل أم محبة، ضحت بهنائها و حياتها و روتينها و تركت كل شيء ورائها في صقلية لتبقى معها في هذا المكان المنعزل، تعرف بأنها قاسية احيانا، لكن اكتئابها يكون قويا في بعض الأحيان، تتملكها رغبة في الخروج من جسدها و الهرب بعيدا.
بعض النزلاء بدأو بالخروج لشرب القهوة في الحديقة بينما الشمس تبدأ في توديع النهار، كانت تسبح بنشوة عارمة، كل آلامها الجسدية خلال التمرينات المضنية تبخرت.
ثم رأته...
كان مختلفا عن باقي النزلاء... مميز بجسد ضخم و هيئة فريدة من نوعها، بدى و كأنه يبحث عن مكان ينفرد فيه، فجأة استدار نحوها و التقت نظراتهما، الصدمة شلتها مكانها.
مستحيل..
عندما أخبرتها دانيلا بشأن خطوبة اليخاندرو ببيانكا رأت أحلامها كلها تنهار أمامها.
لم تبكي بعد أن مرت موجة الصدمة الأولى و الدموع و الغضب.
واجهت واقعها بعزيمة و أفرغت غضبها كله في التمرينات المضنية, ففي النهاية هو لم يخنها كما خانت هي نفسها، منذ البداية كان واضحا... قلبه فقط مع بيانكا... بسبب قلبها و خيبته كادت أن تفقد حياتها... قررت الا تفقدها مرة ثانية لنفس السبب.
لكنه هنا الأن... على بعد خطوات، يتطلع اليها و كأنه لا ينوي الابتعاد عنها بنظراته الرمادية... لكن شيئ غريب جدا يحذث... شيئ في ذاخلها يطغى عن هذه الصدمة و يجعلها متأهبة... هناك ملامح اليخاندرو... لكنه ليس هو...
لكن مالذي يحذث بحق الله؟؟
هذه الهيئة التي تشبه قطاع الطرق أو الخارجين عن القانون، بدلات اليخاندرو الفاخرة مستبدلة بجينز قديم و قميص لا يملك إسما، شعره غير مستوي، كأنه أمضى وقته في تمرير أصابعه بين خصلاته، كانت نظراته عميقة لدرجة أنها تشعر بها تخترقها حتى الأعماق.
" صوفي...؟!! "
متى عادت والدتها؟؟ لم تستطع حتى الاجابة على ندائها، قوة سحيقة تسمرها مكانها، تعرف بأنه ليس هو... انها تحلم به لدرجة أنها تراه في كل مكان، هذا الرجل يشبهه فقط، و ربما المسافة تلعب بتخيلاتها، ربما في الحقيقة لا يشبهه بالمرة... كم تمنت لو يزورها لو مرّة... كم تمنت رؤيته في هذه المستشفى و كم احتاجت دعمه و حبه... هي... أخته الصغيرة، طالما ناداه بهذه الطريقة.
رأت الشاب يتوجه فجأة رأسا اليها، رمشت عدة مرّات، كلما قصرت المسافة كلما تأكدت من حقيقة الرؤية، لم تكن تهيؤاتها... انه حقا هو...
لقد عاد اليها...
شعرت بالدم يهرب من جسمها بينما أطرافها تهتز تحتها بقوة، شيئ عاد ليقف في عقلها بوهي تلتقط في عقلها وشومه في ساعده القوي، بينما الساعد الأخر ملفوف في الجبيرة، اليخاندرو لا يملك وشوما و لا جبيرة.. اليخاندرو و سيم وسامة هادئة... من أمامها وسامته خام، متوحشة و خطرة للغاية.
" مساء الخير سابرينا..." سمعت رنته الأمريكية:" لا بد أنها ابنتك..."
هل يعرف والدتها؟؟ فتحت شفاهها بذهول وهي تحول بمعجزة نظراتها الى والدتها التي كانت شاحبة و غير مسرورة من هذ اللقاء على ما يبدو.
" صوفي... أعرفك على خافيير... انه توأم اليخاندرو"
ازداد انبهار صوفي...
مستحيل.
عادت تحملق اليه بعدم تصديق، من اين اتى هذا الخافيير؟؟ لم يخبرهم اليخاندرو يوما بأن له عائلة، لسيما أخ توأم.
قالت صوفي بعد أن وجدت صوتها:
" أمي... هل كنت تعرفين بأن الأليخاندرو عائلة؟؟"كافحت لإبقاء أفكارها واضحة... كان رأسها يدور و نبضها يهتز بقوة في عروقها.انها أمام صورة مطابقة للرجل الذي جرح قلبها، كان يتطلع اليها بنفس الاصرار، طاقة غريبة جدا ارتفعت بينهما بينما تراه ينزل بهيئته الرياضية و يجثو أمامها ليتطلع اليها:
" اذن فهذه هي ابنتك..."سمعته يوشوش لوالدتها:" تشبهين الملاك الذي هبط من السماء... تنقصك فقط الأجنحة "
هيه؟؟! بالكاد تصدق هذه الكلمات، الحنجرة معقودة، شعرت بالخوف والإثارة ممزوجة يمران من خلالها. نظراته المصرة دفعت الاحمرار لوجنتيها، انها المرة الاولى التي تبتسم ملئ فمها منذ أشهر طويلة، قبل أن تحذث أدنى حركه كان قد مد يده السليمة اليها، نظرت اليه ثم الى يده الممدودة التي التقطتها ببعض التردد، هذا التواصل أتى قويا لدرجة أنها حبست أنفاسها:
" من الرائع لقاء اصدقاء اليخاندرو في هذه المستشفى... أنا ممتن للحاذثة ... "
" اليخاندرو لا يتكلم عنك" تمتمت بعد أن وجدت صوتها.
" فلنقل أنني خيّبت أمله... نحن الاثنين مختلفين جدا" ابتسم لها برقة و قال بلكنة جدية للغاية:" صدقا... تشرفت بمعرفتك صوفيا..."
" صوفي..." قالت مصححة:"صوفي ايميليانو..."
" اسم لست مستعدا لنسيانه.."
ثم ترك يدها و القى نحو والدتها تحية وداع من رأسه متأهبا للرحيل:
" تمهل لحظة...." لا تريده أن يذهب، الفضول يكاد يقتلها...و كأن الارض و السماء التقيا في نقطة واحدة و لم يعد للزمن أي معنى" لن ترحل بهذه السرعة بعد أن تعرفنا عليك أخيرا... اليخاندرو فرد من العائلة... "
" عزيزتي... علينا الذهاب و الإستعداد للخروج..." ذكرتها سابرينا بلهجة متعجلة.
" رويدك لحظة..." قالت لوالدتها" فلندعوا خافيير ليرافقنا"
قد تبدو لهفتها في غير محلها، لكن لا يبدو أن هذا يزعج خافيير الذي اتسعت ابتسامته الرائعة جدا :
" سأكون سعيدا برفقتك..."
" لكنه ليس بمفرده..." تدخلت والدتها بحزم هذه المرة" انه برفقة حبيبته..."
لم تتخيل أن يكون حرا بالتأكيد، وسيم مثله عازب؟؟ لا مستحيل... لكن رؤية وجه يشبه بشكل لا يصدق اليخاندرو يجعلها في كل حالاتها، شيئ ما مرّ بينهما، شيء تشعره حصريا و يعجبها، لا تبحث عن حبيب، بل عن الرفقة و تريد اكتشاف كل ما يمكنها اكتشافه عن حياة اليخاندرو الغامضة.... هل يعرف روكو على الأقل أن صديقه الغالي يملك أسرارا؟؟التقت عيونهما و شعرت بالدم يقصف صدغيها بشراسة.
" يمكن لحبيبتك المجيئ أيضا... سأكون سعيدة جدا بدعوتكما"
هذه البديهة اللاذعة جلبت لوالدتها العبوس الشديد، تعترف ان هذا اخر ما يهمها، الوضع يسليها بشدة.
* * *
" يجب ان نتكلم"
عادة روكو لا يستعمل مطلقا هذه اللهجة معه، يدرك اليخاندرو ان الموضوع مستعجل كي يأتي العراب شخصيا الى بيته دون سابق انذار و في ساعة مماثلة، تركه يقتحم خلوته، سانتياغو فضل الانتظار خارجا، باكي نبحت مرة واحدة فقط قبل أن تعود لنومها.
" هل ترغب بشراب؟؟"
" لا..." قال روكو وهو يفرك جبينه" لدي بعض الاسئلة... بخصوص خافيير"
شعر اليخاندرو بأن الدم يتجمد في عروقه، هل حذث شيئ لتوأمه؟؟ يعرف بأن روكو لا يخفى عليه أسرار العصابات الكبيرة و بما أنه سبق و أسرّ لهم بقرابته بخافير فلا بد أن وجوده هنا و في هذه الساعة متعلقة بمصيبة.
" هل هو بخير؟؟"
" انه بخير نعم لا تقلق..." مسح على وجهه قبل أن يضع يديه على خاصرتيه و يثبته بنظرات عميقة:" هل هذا يعني بأنك لم تتواصل معه منذ لقائكما في المكسيك؟؟"
هز اليخاندرو رأسه بالنفي:
" في الأشهر الأخيرة، راسلني... أخبرني بأنه يترك عالم فسوقه و ينوي ان يكون انسان جيد... "
بأنه يريد رؤيته ايضا، يحتاجه، وربما يأتي الى ايطاليا، الشيء الذي اخرج مخالب اليخاندرو الذي رد عليه بأنه لايريد ادنى علاقة بمجرم دولي، قبول خافير في حياته تعني قبول المخاطر، هو الذي بدأ بعيش حياة هانئة و سعيدة مع امرأة حياته، لا ينوي مطلقا تعريض نفسه او من حوله لمخاطر هجوم انتقامي من قاطع طرق مثل شقيقه.
" أخبرتني في السابق بأنه كان ضمن القراصنة في افريقيا و البحر الابيض المتوسط"
اجزم اليخاندرو بهزة رأس تعسة، لاشيء يشعره بالفخر أمام هذه الحقيقة المريبة:
" هل هذا ما اخبرك به المتحري انذاك؟؟"
" نعم روكو هذا ما اخبرني به خافيير نفسه بعد ان اشبعني ضربا في ميكسيكو... ما الموضوع؟ لما تكلمني عنه؟" استعجله بنفاذ صبر.
رأه يتطلع اليه ببعض الغموض... غموض العرّاب بالتأكيد...
" أخبرني ما الأمر؟؟"
" أنا أتحرى عنه ... لا أحد يعرف عنه شيئا ..." سمع صديقه يقول بهدوء:" لا أحد من القراصنة يعرف رئيسا بإسم خافير ميندوزا...."
" لأنه لا يستعمل هذا الاسم بالتأكيد..." قال اليخاندرو:" منذ طفولتنا و خافيير يتلون مثل الحرباء، يعشق بشدة تغيير الشخصيات و لبسها و كأنها لا تتجزء منه، حتى انه يتكلم لغات عدة و يعرف كيف يغير جلده كما تتطلب الظروف منه... انه فائق الذكاء روكو... لا أشبهه في شيئ"
أقطب روكو قبل أن يضع يده على كتفه:
" أنت ايضا ذكي جدا اليخاندرو.. بنيت اعمالك من لاشيئ، هو من استغل هذا الذكاء في الشر... لكن... لا أفهم اذن ما يفعله في مستشفى صوفي"
هل سمع جيدا؟؟ خافير في التايلاند؟؟ مالذي يفعله هناك بحق الجحيم؟؟ الا يفترض أنه يختبئ من أعدائه في مكان ما في العالم؟؟
" هل يزعجك ان القيت نظرة على رسائله؟؟"
هز اليخاندرو رأسه بالموافقة، هذه المرة وافق روكو على الشراب بينما يجلس على الصوفا و يقرأ رسائل خافير في حاسوبه، كان يحرقه الفضول، لا يفهم ما يفعله بالضبط؟! ما يبحث عنه العرّاب بين كلمات شقيقه، لكنه يأخد وقته و يقلب بين الصفحات بصمت مطبق، أصبح عصبيا كلما مضى الوقت، في أي مصيبة أقحم نفسه مجددا توأمه؟؟ لما يهتم صديقه لأمره فجأة؟؟
" يريد المجيئ الى ايطاليا؟؟" سمع روكو يقول أخيرا وهو يغلق الحاسوب.
" يبحث عن مأوى آمن... مأوى و طعام"
هز روكو حاجبيه:
" بعد أن كان رئيس قراصنة و يملك أطنان من الأموال؟؟ الا ترى بأن هذا الأمر غريب جدا؟؟ أين هي ثروته في هذه الحالة؟؟"
تنهذ اليخاندرو:
" لا أدري ... أعرف فحسب أنه قلق على حياته، يبحث عن مكان لن يجده فيه أعدائه، أشعر بالسوء لأنني أتهرب من مساعدته، لقد اقترحت عليه المال لكنه يرفض اي قرش مني... يقول بأنه بحاجة لدعم معنوي... لكنني اليوم بصدد تكوين أسرتي الخاصة، وجوده سيبعثر حياتي كليا..." هز صديقه رأسه بتفهم، استفسره اليخاندرو:" اذن خافير في تايلاند؟؟"
" في المستشفى حيث ابنتي... " شرح روكو بصوت ناشف" على حد قوله أتى الى التايلاند مع حبيبته للاستجمام و تعرض لحاذثة سير تركت ذراعه بكسرين، حصلت على الأشعة و فحص الطبيب... ادعاءاته صحيحة..."
" انها مصادفة غريبة حقا..." اعترف اليخاندرو.
" ما يحذث صديقي... أنني لا أؤمن بالصدف نهائيا..." قال روكو بدبلوماسية:" قصة اللص التائب قد تكون حقيقة، و قد لا تكون... و بما اني منحاز بطبعي لما هو أكثر واقعية فلا أضعه في الخانة الخضراء بل يتربع على رأس قائمة من يجب أن أحذر منهم..."
" لن يعبث مع أصدقائي، هو يعرف جيدا كم أحبكم و كم أنتم مهمون في حياتي" و هذا كان رده التلقائي بينما يترك رسالته لخافير قائلا بأنه يرفض اقلاق هناء محيطه:"لما لا تنظر الى الجانب الايجابي؟؟ ربما هو تاب فعلا روكو... أنا متأكد بأنها مجرد مصادفة، ربما طبيعتك الحذرة تقول العكس الا انه أخي... ان اتى الى ايطاليا فلن أرمي به خارجا... خافيير يبقى توأمي "

ملك جاسم likes this.

أميرة الحب غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 05-11-20, 02:53 PM   #3805

أميرة الحب

مشرفة وكاتبة في قلوب أحلام وكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء وعضوة في فريق الترجمة

alkap ~
 
الصورة الرمزية أميرة الحب

? العضوٌ??? » 53637
?  التسِجيلٌ » Oct 2008
? مشَارَ?اتْي » 14,442
?  مُ?إني » فرنسا ايطاليا
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Morocco
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » أميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   cola
¬» قناتك fox
?? ??? ~
https://www.facebook.com/الكاتبة-أميرة-الحب-princesse-de-lamour-305138130092638/
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

الفصل الخامس







{.....عزيزي خوسيه
أرى في جسمك تغيرات كما أراها في جسمي...
أين اشراقك؟؟ ابتساماتك المتهكمة؟
أين أنت من الرجل الذي عرفته؟
فقدت من وزنك بينما اكتسبت منه أنا الكثير...
عزيزي خوسيه...
احساس مريب ينتابني نحوك...
هل أنت بخير؟!
الا يمكننا أن نصبح على الأقل أصدقاء لمصلحة الطفلين و مصلحتنا الشخصية؟
وجودك ناذر جدا و شبه منعدم... أحييك... فقد وفيت بكلمتك...
صرت أعرف مواعيد ظهورك...
لم تتخلف عن أي موعد مع الطبيب...
كنت أنبهر برؤية الابتسامة على وجهك و أنت تتطلع الى الشاشة في الفحوصات بالأشعة السينية..
انها اللحظات الوحيدة التي تكون فيها مسترخي و أتجرأ لأقول سعيد...
عزيزي خوسيه...
سوف نرزق بطفل و طفلة...
فماذا سنسميهما؟؟
لم نتقاسم شيئ مما يفعله الأباء في حالتنا...
لا شيء في زواجنا طبيعي أنا أعرف... لكنني سأنجب قريبا... و أنا خائفة.
أخبرني الطبيب أمامك بأن الولادة لن تكون طبيعية... بأنني سأنجب قيصريا... منذ ذلك الحين و أنا أبحث في الكتب عن الموضوع...
أدركت بأنني احتاج دعمك أكثر مما أبحثه بين الأسطر...وربما خوفي من مغادرتهما بطني أكثر من خوفي من العملية... سوف تحصل قريبا عما تريد...
فماذا عني؟
هل ستحترم كلمتك بتقاسم الحضانة أم تتخلص مني و كأنني لم أمر يوما في حياتك؟!
عزيزي خوسيه..
أريدك أن تعرف... بأنني إمرأة لا تستسلم .....}
.
.
.
" أنجزتي عملًا مُبهرًا... "
نبرة الصدق في صوت كارلوس أحسست آيا بالفخر و الاعتزاز، تطلعت بدورها للاثاث الدافئ و الزينة البسيطة و الأنيقة لصالونها، ستائر حريرية وردية و بيضاء و كنبات ملونة فخمة و مودرن في الوقت نفسه، سجاد ذهبي، ثريا كريستالية و حيطان مصقولة بالون اللؤلؤ، كل هذا يطل على شرفة بالحديد المشكل حيث العديد من الورود الملوَّنة بجانب الزرع الأخضر مع تزيين السقف أيضا بإناءات نباتية ومن الداخل زرعت الكثير من النباتات المتسلقة وهو ما حوّل الشرفة الى جنة حقيقية... انها فخورة جدا لأن كل هذا من مجهوذها الشخصي, رأت الشاب يتفقد الشرفة بإعجاب و يلقي نظرة الى الخارج حيث الحديقة جاري بها عمل بركة تنوي وضع الأسماك فيها، عندما عاد الى الداخل مجددا سألته:
" هل تريد رؤية غرف الصغيرين؟"
" أتحرق من شدة الفضول..."
ضحكت بنعومة، التنقل مع بطن مماثلة صار مستحيلا، وضعت يدها على بطنها بينما تتوجه نحو الرواق الذي يضم الخمس غرف، أمضت الأشهر الاخيرة في العمل الجاد، كانت تملك كل الوقت لتتسلل الى هنا بينما يظنها الجميع في الجامعة، لم تكن زيارة كارلوس الأولى، آخر مرة لم تكن قد أتمت عملها بعد، استعملت قليل من مذخراتها لدفع ثمن بستاني، بالنسبة للصباغة فقد اهتمت شخصيا و بكل حب و عاطفة بغرف الطفلين، صفّر كارلوس ما ان دخلال الغرفة الوردية:
" أعرف بأنها ليست بفخامة قلعة خوسيه" قالت متوثرة، فخوسيه حجز جناح بكامله للطفلين.
" هل تمزحين؟؟ هذا المكان يجسد الحب السعادة و دفئئ العائلة... أنت تستحقين الأفضل آيا..."
لا شك لها بصدقه نحوها، هذه الاشهر دعمها بشدة و كان سائقها الخاص، كل يوم يمضي تتعمق أكثر علاقتهما، ما يريحها انها لا تلعب الكوميديا أمامه، انه يعرف كل شيئ عن حياتها مع رئيسه، كما يعرف كل من في القلعة.
" هذا هو الهذف... بيت عائلة دافئ أعيش فيه مع طفلاي بسلام"
خرجا من الغرفة الوردية ليدخلا الى الغرفة الxxxxxية اللون:
" و هل سيتركك خوسيه تنعمين بهذه الحرية مع وريثيه؟؟"
حماستها تلاشت مع هذه الكلمات، كارلوس ردد مخاوفها بصوت عالي فحسب و لن تلومه، اعتادت على مباشرته في طرح افكاره.
أربعة اشهر قبل اليوم، الأمور مرت تماما كما تمنتها، تنحى خوسيه كليا من حياتها و تركها بسلام، عاشت حملها بأشد الطرق رفاهية من الممكن ان تعرفها امرأة، أمضت أيامها بين الأكل الصحي، الفحوصات الروتينية، الرياضة و اليوغا و السباحة، و أخدت كل ماراقها من الكتب لجناحها، فبعد مواجهتها الأخيرة بخوسيه في المكتبة فضلت المطالعة في غرفتها تحاشيا لأي تصتدام جديد بملك القلعة، ثم بدأ بطنها بالانتفاخ رويدا، و كم أبهرتها حركات الطفلين الأولى، كم تمنت لو يكون خوسيه معها ليشعر بركلاتهما، لأن الشعور لا يوصف، وهو لم يعش قط حملها و لا مراحله الممتعة.
لكنه توقف عن المطالبة بلمس بطنها كما كانت عادته، توقف عن ارسال أسهمه السامة و استفزازها في لقاءاتهما الناذرة عند الطبيب، و خاصة... توقف عن ذكر اسم اليخاندرو... منقدها القديم الذي نسيت كليا حتى وجوده، و لم يبقى في داخلها سوى ذكرى جميلة تخصه.
القت نظرة دائرية على الغرفة التي يغمرها ضوء النهار بنعومة، سرير الأطفال على قدر كبير من الأمان والراحة الشديدة، وعدد كبير من ملاءات و أفرشة نظيفة من النوعية القطنية، أكياس النوم التي ستحتاجها بشدة لسيما في الأيام الأولى، فوط، حفاظات، رضاعات، ثياب من كل الأعمار وجدتها في التقسيطات على النت.
" كل شيء جاهز... أنت حقا منظمة و دقيقة جدا"
" أنا مهووسة انضباط، أحب أن يكون كل شيء نظيف و في مكانه"
" مثل خوسيه مارتينيز...؟" استدار كارلوس نحوها، صحيح أنها لم تفكر بأنهما يتقاسمان هذه النقطة، لكن هوسه هو بالنظافة يفوق امكانياتها البشرية، هي مجرد انسانة طبيعية لا تحب الفوضى " آيا... أتمنى فقط أن يمر كل شيء كما تأملين..."
أجبرت نفسها على الابتسام و هما يعودان الى الصالون:
" سأصبح امرأة حرة ما ان يخرج الطفلين كارلوس فلا تختلق أفلام رعب في عقلك..."
" أنا أعرف جيدا السيد... لقد ولدت في تلك القلعة، عشت معه مراحل كثيرة من حياته، صدقيني هو رجل يحصل دوما على ما يريد..."
" أنا أيضا... فلا تستضعفني.. و الأن هل تريد شرب شيئ في منزلي الجديد؟؟"
هز رأسه بالنفي:
" من الأفضل أن أعيدك الى البيت... السيد سيكون الليلة في القلعة..."
خوسيه سيكون في القلعة؟؟ و من اين يعود أصلا؟؟ لا تعرف اين يذهب أو أين يكون، لا تعرف ان كان يعيش رسميا في بيت جوليانا، توقفت الصحافة منذ زمن عن بث اي صور جديدة لهما، في السيارة لم تمنع نفسها من السؤال:
" فقد الكثير من وزنه... فهل تعرف السبب؟"
رغم فخامة السيارة الا ان هذا لا يريح ظهرها المتوجع، عموما فقد توقفت عن الذهاب الى الجامعة منذ شهر تقريبا، صار الوزن يعرقل حركتها بشدة، فلنقل أن مشيتها تشبه البطة السمينة.
" تدور بضع اشاعات... سمع احدهم الجدة تقول بأنه خضع لعملية..." أقطبت آيا بعدم فهم، أي نوع من العمليات خاضها؟؟ و لما لم تخبرها سيسيليا بهذا؟ثم اليست زوجته و هذه الاشياء لا يفترض التستر عليها؟! " لا تذكري اسمي أمامهما و لا تقولي بأنني مصدر المعلومة..."
" هل أنت مجنون؟؟ بالتأكيد لن افعل..." القلق استبد بها لبقية الطريق:" هل تعرف أي نوع من العمليات خضع لها؟؟"
" لا... يمكنني ان أؤكد لك بأنه طول حياتي لم أرى السيد مريض في يوم ما..."
لم يخب احساسها اذن و خوسيه مريض!... وهل يجرؤ المرض بالاقتراب من رجل مثله؟؟ لم تصادف في حياتها انسان بحيويته، انه منضبط جدا على الأكل الصحي، منضبط على الرياضة، منضبط على كل ما يجلب له الطاقة الايجابية و الحيوية، مطبخ القلعة يضع في الصحون كل ما هو عضوي، و من حقول العائلة أيضا، يكفي القاء نظرة على سيسيليا لنرى انعكاس هذا في صحتها، فهي بعيدة جدا على أن تكون عجوز متعبة أو مرهقة... انها تتمشى ميلين أو ثلاثة كل يوم... المرأة اشد حيوية منها هي نفسها.
خوسيه... وضغطت على صدغيها بينما مرارة عنيفة وشعور بالذنب يسحقها... لكن في النهاية لما يجب عليها الشعور بالذنب نحوه؟؟ هو الذي عاملها مثل حشرة وضيعة منذ دخولها حياته.!
علاقتهما كانت مهتزة منذ اللقاء الأول... لما يكونا على وفاق طول الخط... فما يحذث له لا يعنيها بالمرة... ثم عليها الا تنسى أنها ستحصل على حريتها ما ان تضع الطفلين كما هو متفق، ان كان خوسيه يرغب بالاحتفاظ بعمليته سرا فهذا لا يعنيها بالمرّة...انها خصوصياته، وهي تحترمها كما احترم هو خصوصياتها مؤخرا.!
{ لكنه والد طفليك!... ما يحصل معه يعنيك أنت أيضا !! }
صوت في أعماقها ارتفع عاليا في رأسها، وهل تملك أدنى خيار؟؟ التدخل في خصوصياته هو الجنون بعينه، و اذا تحاشى اخبارها عما يحذث معه فلأنه بالتأكيد لا يريدها ان تعرف، هي لا شيء في حياته أصلا كي يشاركها بشيء مهم... صلاحيتها ستنتهي قريبا... بدأ العد التنازلي منذ أن حدد الطبيب تاريخ العملية القيصرية.
اقتحمت السيارة البوابة العملاقة للقلعة و تجاوزت المناظر التي صارت لها مألوفة الأن، تعترف أن كل التجاوزات في عقلها تركتها في كل حالاتها، وضعت يدها على بطنها، الأفكار السلبية و الضغوط النفسية تتسبب لها تلقائيا بالانقباضات، كما علمتها الممرضة استأنفت عملية التنفس العميق الى أن مرّت الانقباضة:
" هل أنت بخير؟؟"
كان قد فتح لها الباب و ينحني عليها بملامحه القلقة، هزت رأسها بالايجاب ووضعت يده في اليد التي قدّمها اليها:
" انه ارهاق الأسابيع الأخيرة..."
" من المستحب ان تلتزمي البيت و تأخدي قسطا كافيا من الراحة"
انه محق، لسيما عندما ترى هذه الدرج الحجرية التي عليها تجاوزها مشيا، لن تعود للتسلل من القلعة بما أن بيتها الجميل أصبح جاهزا لإستقبال عائلتها اصغيرة، والديها سيأتيان قبل الولادة بيومين و تفضل أن ينزلا في بيتها، تفاديا لأي أسئلة شائكة، أخبرت والدتها بأنها اشترته ليقيمان فيه كلما نزلا في مدريد، تتمنى فحسب بأنها لم تدفعهما للشك.
وقفت في منتصف الدرج لتلتقط أنفاسها، ظهرها أكثر ما يعيقها في وضعها، التحق بها كارلوس عندما وجد بأنها تجمدت مكانها:
" هل أنت بخير؟؟"
" ظهري يؤلمني..." تركته يأخد يدها ليساعدها في تجاوز الدرجات الاخيرة نحو باحة القلعة الحجرية:" هل يمكنك غدا العروج على الكلية لجلب النسخ لي كارلوس؟؟"
" بالتأكيد يمكنني... "
" أرى بأنك على حق... " قالت متنهذة:" يستحب أن التزم غرفتي لحين موعد العملية..."
" أنا دوما على حق..." أجابها بتسلية.
هزت عينيها الى السماء قبل أن تنفجر في الضحك:
" أنت لا تطاق... لا بد أن حبيبتك قد ضاقت ذرعا بغرورك"
" تحاول التأقلم نعم..." أجابها صاحكا بدوره..." و صلنا ايتها الأميرة... اهتمي بنفسك و لا تقلقي بشأن الجامعة سأهتم بالأمر..."
" أنت ملاك... شكرا لك كارلوس"
أبعدت يدها عن يده ممتنة، على الأقل في هذا المكان من هو من جيلها و يفهمها جيدا، بينما ابن السائق يعود اذراجه ليعيد السيارة الى المرآب شعرت بإنزعاج و بأنها مراقبة، كنوع من الحماية وضعت يدها على بطنها و هزت عينيها نحو الشرفات العالية للقلعة حيث جناح خوسيه.
وقد كان هناك... واقفا في شرفته، يديه في بنطلون رمادي، قميصه البيضاء مفتوحة الياقة، نظراته الحادة مثل الصقر ملتحمة بنظراتها، تبدو هيئته المميزة شبيهة بأبراج هذه القلعة الشامخة، لا يتجزأ من ديكور المكان... كان مهول بشكل يحسسها بأنها أحقر من دودة.. لن تنتمي يوما لهذا الرجل، مريض أم معافى يبقى وفيا لهذه الهالة التي تجعله متفردا و استثنائيا.
غير قادرة على تحمل نظراته المكابرة و المصّرة حتى من هذه المسافة، أحنت رأسها و قصدت مدخل القلعة، لم تستعد أنفاسها الا بعد أن أصبحت في حماية غرفتها و أغلقت ورائها الباب بالمفتاح.
* * *
كانت دانيلا غارقة في قرائتها لدرجة أنها لم تشعر بعودة اليساندرو الى الصالون بزبادية فوشار و قنينتي بيرة، قفزت في مكانها عندما وضع القنينة على ذراعها، كانت مثلجة.
ككل مساء تقريبا يختاران ما يروقهما من أفلام قبل أن يمضيان سهرتهما أنفا بأنف و هذا يروقهما بشدة، صارا يفضلانه أكثر من الخروج للعشاء خارجا، لسيما بعد نهار طويل من العمل يفضلان البقاء في البيت... بيتهما... عش الحب الخاص بهما فقط... و كم تجده حلو المعشر و سهل العيش، انه رجل حياتها بكل ما للكلمة من معنى.
" الم تنهي بعد تلك المذكرات؟؟ منذ أشهر و هي تأخدك مني...!"
حكّت رأسها قبل ان تهز نحوه نظرات ممتلئة بالإعتذار:
" هل تشعر بأنني أهملك؟؟"
ابتسم لها ابتسامته الرائعة، تلك الابتسامة التي تنير وجهه الوسيم و تبرق من خلالها نظراته الزرقاء الرائعة:
" أنا غيور من اليونور..."
" لا يجب أن تغار من امرأة... أقل ما يقال عنها أنها كانت هشة عقليا"
كي يغفر لها اهمالها قبلته برقة ثم وضعت رأسها على صدره و ضمته اليها، قبل أن تشير الى أسطر تتراقص أمام عينيها:
" انظر هنا... انها تعاتب خوسيه لأنه أهملها و لم يسأل عنها... "أدارت الصفحة و اشارت الى بضع أسطر:" هنا تقول انها سعيدة في زواجها و بأن حملها من زوجها يجعلها مشرقة"
أدارت صفحات قبل أن تضرب بخفة على آخر الأسطر فيها:
" هنا تنعث شقيقتها... التي هي والدتي بأنها الشيطان... تقول بأنها اختطفت منها أملها في العيش... و هنا... تقول بأن شقيقتها أنقذتها من مصير أسود و غير واضح.... كل كلام الينور متناقض... أحاول تحليل كلامها بلا أدنى فائدة... أشعر و كأنها تريد إيصال فكرة... او اتهام أحد"
" كيف عرف خوسيه بأنها كانت حامل منه عند موتها ؟؟"
" هذا ما أحاول افاهمك اياه... هنا، تقول بأنه قطع كل صلته بها لأنها قررت الاذعان لزواجها المدبر و رغبة والدها، على ما يبدو كانت عملة تبادل بين العائلتين، كما كان خوسيه بنفسه، زوجته تحمل دماء ملكية، كان اسمه في خطر ان لم يوفي بوعده و يتزوج المرأة التي وعدت له منذ أن كان مراهقا... " قلبت الصفحات التي صارت تحفظها عن ظهر قلب:" هنا تقول بأن مغامرتهما أثمرت، بأنها تنتظر منه طفلا ترفض انتسابه لزوجها ...تتوسله ان يترك لها فرصة الاقتراب منه مجددا، بأنها مدمرة و معرضة للكثير من الضغط... هنا... انظر، كررت كتابة اسمه عدة مرات و كأنها تردد صلواتها"
بعد ان قرأت عدة مقاطع على اليساندرو هذا الأخير لم يفدها سوى بهزة كتف، قلبت الصفحات، الكثير و الكثير من الذكريات المؤلمة، ولا تعرف ان كانت حقا هذه المرأة من أغرت خوسيه بإهمال علاجه للإتحاق بها، أم أن خوسيه يشعر فحسب بالذنب نحوها؟؟ لا تجد ما هو مميز في كلامها سوى انها امضت وقتها في رمي الاتهامات على كاهل خوسيه، الشيء الذي لا تجده عادلا، فهي من ابتعد أولا و ليس هو.
" غلاف غريب ..." قال اليساندرو بينما تغلق المذكرات وتضمها الى صدرها:" ليس الغلاف الأصلي..."
" إنه صلب جدا و ثقيل أظنها الصقت مذكراتها فيه كي تحتفظ عليها..."
مد يده ليلتقطه و يعود ليفتحه، رأته يتفقد الغلاف من الداخل، حيث آثار الصمغ ما زال واضحا، تفقدت أصابعه الأنيقة الغلاف الداخلي قبل أن يقول فجأة:
" أظن أن هناك شيء في الداخل..."
" مـ... ماذا؟؟" سألته بعدم تصديق بينما تلاحظ بدورها ما ينوي شرحه لها، تم اعادة لصق الغلاف الداخلي بطبقات مثينة جدا يستحيل انتزاعها بالأيادي:" سأبحث عن مقص..."
عادت من فورها، رأت بأن اليساندرو نجح بإزالة القشرة الداخلية الاولى، أخد منها المقص و بمهارة بدأ بفك مكان الغراء بكل حذر كي لا يفسد الغلاف، كانت لا تتحكم في نفسها من شدة الترقب و الفضول، جلست على ركبتيها فوق الكنبة مشدودة بمنظر أصابع خطيبها التي تكشف ببطئ المحتوى المخفي في قعر الغلاف، فتحت شفاهها بعد تصديق بينما يخرج هذا الأخير مجموعة صور، اليساندرو كان محقا... هناك من يجعل هذا الغلاف العثيق ثقيلا.
أمسكت بالصور الورقية، و تصلبت فورا بينما تتطلع للمرأة التي تشبهها بشكل لا يتصوره عقل، تركت اليساندرو يقلب الغلاف ليتفقد الجانب الأخر.
" هل هي اليونور؟؟"
" انها هي..." تمتمت وهي تقلب الورقة التي تم فحسب نسخها على ورقة عادية:" أنظر الى هذا..."
أهمل اليساندرو الغلاف ليمسك بالورقة و يتطلع الى الرسم بقلم حبر يشبه منظر طبيعي لشجرة بجانب منزل بطابق.
" هل كانت رسامة؟؟"
" لا أعرف عنها شيئ..." أجزمت " لما أخفت هذا في الغلاف؟؟"
" الم تقولي انها كانت هشة عقليا؟؟ ربما فعلت هذا من جانب التسلية أو لإمضاء الوقت"
" تظن أنها كانت محبوسة؟؟" سألته وهي تلتقط ورقة اخرى مطبوعة بنفس الطريقة، هذه المرة يمكنها التعرف على خوسيه العشريني..." رباه كم كان وسيما... أنظر الى هذا... انه وصيي"
التقط منها الورقة لكن لا يبدو بأن هذا ما أثرا اهتمامه:
" و كأنه تم الكتابة على هذه الورقة مرات و مرات..."
أخدتها منه الورقة و لاحظت بدورها أثار الحروف العميقة، الورقة الأولة بها الشيئ نفسه، أسطر و أسطر من الكلمات المخفية، تعرف جيدا طريقة كي تقرأ ما تم حفره، ستفعل هذا لاحقا عندما تتفقد بقية الأوراق المطبوعة، الصورة الثالثة سمرتها مكانها، انها تملك نفس الصورة بين أغراضها في غرفتها بقلعة خوسيه.
" ما هذا؟؟" سألها اليساندرو و هو يأخد منها الصورة المطبوعة.
بلعت رقيها بصعوبة.
" انها أنا... كان عمري يوم واحد"
" آه... كم أنت لذيذة..."
نعم هي كذلك، التقطت الورقة التالية، اليونور لا تبدو بخير في هذه الصورة، كان وجهها اشد نحافة و أقل اشراق، ملامح امرأة مريضة جدا، و لم تكن بمفردها... طفلة اليوم الواحد بين أحضانها.
اخدت الخمس اوراق المتبقية و فردتها جيدا، كلها لها، كلها تعود لنفس اليوم، شعرت فجأة بأن الهواء يرفض الدخول الى رئتيها، وضع اليساندرو يده على كتفها، لكنها رفضت لمسته و أخدت الاوراق كي تهرول نحو مكتب اليساندرو حيث الانارة أقوى، كانت أصابعها ترتجف بشدة و هي تبحث عن قلم رصاص، سرحت الورقة و بدأت بطليها بالرصاص و حصلت على مرادها فورا، توضحت لها كلمات واضحة بشكل لا يصدق... انها رسائل موجهة لخوسيه:
{ لست مجنونة... يريدون أن أجن... انها تفعل كل ما تستطيع لتقنعني بأنني اتخذ القرار الصحيح... كيف تفعل هذا بنا؟؟ بي أنا؟؟ لما تهجرني و أنت تعرف بأمر حملي؟؟ لن أنسبه لأحد غيرك، و ان كنت لا تريده فلا يبقى لي سوى الخيار الذي يجبرونني عليه... سأتخلى عنه}
" ما الأمر؟؟" سمعت صوت اليساندرو و رائها.
" اليونور كتبت لخوسيه ما لم تستطع حطه في مذكراتها...." شرحت له و هي تعود لحك قلم الرصاص على تتمة السطور و فلحت، أمامها الأن صفحة كاملة يمكنها القراءة من البداية:"
{ هذا البعد... لكن كيف تجرؤ بنسياني؟؟
بطني تكبر و نظراتهم تمتلئ بالازدراء و الاحتقار، قرروا ابعادي عن مدريد كي لا تنتشر الفضيحة، والدي توقف عن اعتباري ابنته منذ ان رفضت الاجهاض، يرفض الفضيحة... يرفض أنني امرغ اسم العائلة في الوحل... فتركني بين يدي ناديا...
انها تراقبني...
أشعر بأنني أفقد السيطرة على الأمور... لست قوية كما حسبت نفسي... غدا سوف نرحل خوسيه... أتوسل اليك اجب على رسائلي.. أجب قبل أن يفوت الأوان..."}
عندما أخدت قلم الرصاص لتقوم بنفس المهمة مع الورقة الثانية استوقفها اليساندرو، امسك بمعصمها ليقربها منه و يمسح على وجهها:
" هذا يكفي دانيلا... هذا يكفي"
" أنت لا تفهم..."
" بل أفهم جيدا..."
" اذا كنت تفهم دعني أبحث عن أجوبة حتى النهاية" هذه المرة لم تعد قادرة على قمع مشاعرها، كانت رئتيها تحرقانها بشدة، أشارت بعصبية الى الصور:" أريد أن أعرف ما أفعه في هذه الصور؟؟ لما تقوم بإخفائها وسط غلاف طيلة هذه السنوات و كأنها تخفي سر مريب؟! "
" انها خالتك حبيبتي من الطبيعي أن تجدي صورك في مذكراتها..."
هي ايضا تتمنى أن تكون الأمور بهذه البساطة، لكنه يتملكها احساسا سيئ للغاية، منذ أشهر تقرأ يوميا هذه المذكرات، اليونور لا تحب شقيقتها الكبرى ناديا، لا تثق بمن حولها، لقد تركت استغاثة في كل كلمة كتبتها، و الأسوأ للان هذا الاكتشاف.... لما تخبئ هذه الأخيرة صورهما معا ان كانت تخشى ان يتم العثور عليها و تمزيقها؟!؟ كما ان هذه الصور مطبوعة على ورق عادي، و كأنها سرقتها من أحد و تخشى أن يتم اكتشافها.
" أنظري الي..." التقط وجهها بين يديه ليجبرها على النظر مباشرة اليه:" هذه الرسائل لا تخصك مطلقا, عليك اعادتها لخوسيه..."
هزا رأسها بالنفي:
" كلا..."
" آه بلى دانيلا... " كانت نظراته جدية للغاية:" اليونور تخاطب خوسيه و ليس أنت..."
هذا صحيح، أثقل الحزن قلبها..
أين وصيها من كل هذا؟؟
متدحرج بين علاجاته النفسيه و الجسدية كيف ستجرؤ على مضاعفة معاناته بالكشف عن رسائل جديدة من الماضي؟!
منذ مغادرتها مدريد مع خطيبها وهي تتواصل معه يوميا لتأخد مستجداته، هو المخلص و الوفي لنفسه، يهدئها، يخبرها بأنه بخير، بأن عملية استئصال السلائس مرت بخير، و بأن آلام بطنه أصبحت من الماضي، لكنها ليست مقتنعة، لا يريدها أن تعود حاليا و طلب منها أن تهتم بحياتها و بخطيبها، و أن تأتي عندما يحين موعد ولادة زوجته، هذه الأخيرة لن تلد ولادة طبيعة، لأنه لم يعد هناك مساحة كافية للطفلين في بطنها و لا يمكن للطبيب الانتظار حتى انتهاء شهرها الأخير... لذا قررت العودة الى مدريد في نهاية الشهر... أسبوع قبل موعد الولادة.
" حبيبتي... هل يمكنك نسيان أمر هذه المذكرات حاليا؟؟"
هزت رأسها بالموافقة، لا يمكنها تجاهل هذا القلق في داخلها، صحيح أن اليونور تخاطب خوسيه في رسائلها المحجوبة، لكن صورها وهي صغيرة مع امرأة تبدو... تبدو...
لحظة.
عادت تحمل الورقة التي تظهر فيها اليونور شاحبة و مريضة، شيئ انفرج في رأسها مثل النافدة.
" تبدو هزيلة و شاحبة جدا هنا... كإمرأة أتت على الولادة...." ارتجفت الورقة في أصابعها و هي تدسها تحت انف اليساندرو:" أتوسل اليك أنظر جيدا... ما معنى أن أكون بين ذراعيها في اول يوم ولادتي وهي في هذا المنظر الهش و الضعيف؟؟"
" لا أملك أجوبة دانيلا.. لكن برأئي عقلك يلعب بتهيئاتك..." أمسك بلطف معصمها و ابعد الورقة ليهملها على سطح المكتب قبل أن يقربها اليها و يحتضنها بكل رقة الى قلبه:" أنت طفلة رؤول و ناديا كورتيز...اليونور كانت خالتك و من الطبيعي أن تأخدك بين ذراعيها بعد ولادتك مباشرة ... الشيئ الذي ستفعلينه بنفسك مع طفلي خوسيه... لا توجد أبعاد لهذه الصور و أرفض أن تملئي رأسك بالتفاهات"
أغمضت عينيها بينما تتسلل أصابعه الى خصلات شعرها ليمسدها بهدوء و يوشوش لها كلمات ايطالية مطمئنة، عندما عادت لتفتح عينيها، أول ما سقطت عليه نظراتها كانت صورة اليونور بهذه الابتسامة الصغيرة و التعسة وهي تضم الجسد الصغير جدا الى قلبها و كأنها خائفة من أن يتم انتزاعه منها.
* * *
لقد لاقت نصيبها من المجهوذ الجسماني اليوم، لكنها نشيطة على غير عادتها، بعد التمارين يصبح عادة مزاجها سيئ، و تعرف جيدا لمن تدين لهذا التغير اللذيذ، بالاضافة.. أتى اللحظة على دخول صالة العلاجات العضلية.
بالأمس، كان لذيذ الرفقة، ربما انزعجت صديقته كثيرا بالتواطؤ الذي نشأ بينهما، و تعمدت أيضا سابرينا بتقليص السهرة التي سمح لهما بها روكو العظيم، لكنها استغلت وقتها بالتعرف أكثر على الرجل الذي تقاسم نفس الرحم مع حبيبها، و تعترف انه بغض النظر عن ملامح الوجه فلا قواسم مشتركة بين الاثنين، خافيير وسيم وسامة غامضة، و عكس اليخاندرو الذي نثق به فورا، فتوأمه لا يوحي بالثقة بتاتا، و بدل أن يدعها هذا تفر فهي تحب الممنوعات، جانبه السيئ جدا مثل المغناطيس... يجذبها بشدة، عندما تحط عينيها عليه، تشم رائحة الخطر و المغامرة، ترى صورة ثنائي على دراجة نارية و حقائب سفر في صحاري تكساس، بعيدا عن فخامة حياتها الراهنة و رخائها، تحسده على عيشته التي تبدو بسيطة و خالية من التصنع و التعقيدات.
خافيير ينتمي لبيئة نائية بعيدة جدا عن طائرة روكو الخاصة و ثرائه الفاحش و هذا يروقها... يكفي ان سابرينا اعترفت لها بأن ابنها العرّاب المريب يستهجن قرارها أمس بدعوة غريبين لسهرتهما... كيف يمكن لروكو أن يحب اليخاندرو كفرد من عائلته و يستهجن توأمه؟؟
توقف قلبها في صدرها و أبقيت ذراعيها على العمودين الفولاذين و توقفت عن التقدم في خطواتها بينما تراه يتوجه نحوها، لحسن حظها أن سابرينا تركتها و شأنها لتنهي تدريباتها بسلام دون تشجيعاتها التي تحرجها أمام الجميع.
عندما التقت نظراتهما، وجدت نفسها مغمورة في عالم غير واقعي... انه يجسد حقا الاثارة العالية و الرجولة الطافحة، بدأت ذراعيها ترتجفان تحت ثقل أطرافها، ركبتيها تحرقانها بشدة، تريد الجلوس لإراحتهما من وزنها.
" أنت تبلين حسنا..." قال ما ان لفها دفئ جسده القوي بالقرب منها.
" قل هذا عندما أعاود امتطاء فرسي المفضل..."
رأته يهز حاجبه الكث:
" تحبين الفروسية؟؟"
" أنت لا؟؟"
" ككل راعي بقر محترم أعشق الخيل..."
راعي بقر، اللقب ينطبق عليه بشكل لا يصدق، اقترب منها الممرض بينما يلاحظ بجهوذها تخور تذريجيا، لكن الـ Cowboy الوسيم كان السباق بإسناذها بذراعه السليمة، الشعور بعضلات ذراعه القوية تحت خصرها يشبه هزة أرضية، توقفت تماما عن التنفس، من هذه المسافة تجزم بأنه لا يشبه أبدا اليخاندرو، بغض النظر عن هذه الملامح، شيئ قوي جدا يتسرب منه، مثل بركان بصدد الفوران، هل يشعر هو ايضا بهذه الحمم المتطايرة؟! انها قصيرة القامة... لم ترث شيئا مثل اليساندرو أو حتى روكو بطول قامتهما الفارع، بالكاد تصل كتف خافيير،يانيس نس أمرها عندما كان يفرق وسامته الشديدة على ابنيه و بنيته القوية، لكن يمكنها رؤية بؤبؤ عينيه الرماديتين تتسعان مثل عينا قطة... انحنى نحوها ليهمس لها بنبرته الامريكية الرائعة:
"شجاعتك وتفانيك جديران بالإعجاب my angel.." رفض لسانها الرد، و شعرت بالخيبة بينما يبتعد عنها ليسمح لها باتمام خطواتها حتى النهاية." هل يمكننا شرب القهوة بعد انتهائك من التمارين؟!"
" انتهيت منها..." قالت مسرورة بهذه العرض بينما تجاهذ للوصول الى خط النهاية.:" أنا هنا منذ ساعتين و نصف... "
" أنت مثابرة و تستحقين مكافئة... لو كانت الأوضاع مختلفة لدعوتك في نزهة طويلة..."
انها تحت السحر تماما.
في الكافتيريا أختارا اشد الطاولات انعزالا، طلبت المثلجات بينما اكتفى هو بالقهوة:
" لا تبدو هذه المثلجات تقليدية..."
ضحكت وهي تغرس ملعقتها في الغمامة البيضاء:
" دعني أعرفك على الآيس كريم الصقلي و المحلي الصنع... يصل جوا الى هنا بإستمرار لأنه المفضل لدي ..."
لا يبدو بأنه فهم قصدها، لكن الدهشة ملأت نظراته بينما يفهم و يسألها بفضول:
" تريدين القول أن هذا الايس كريم طلبية خاصة؟؟"
ابتسمت:
" ليس آيس كريم تقليدي... جرانيتا هو صقلي عصاري... أعترف بأنه أيضا اختراع عربي... لقد خلط العرب في الواقع العسل وعصير الليمون بالثلج من إتنا ومادوناس وأكلوه بالخبز. هذه هي الطريقة التي ولد بها التقليد الصقلي البحت لتذوق الآيس كريم أو جرانيتا في البريوش الناعم.,هل ترغب بتذوقه؟؟"
بقي يحملق اليها بنظرات متسعة من الفضول قبل أن يومئ بالموافقة، قربت البريوش منه و دعته لقضمه، منظره وهو يترك بصمته على بريوشها اثارة لا مثيلة لها، شعرت بالسرور وهي ترى اعجابه بالذوق:
" انه مميز... انها المرة الأولى التي أتذوق مثلجات ايطالية حقيقية..."
" ليست ايطالية بل صقلية هناك فرق..." صححت له مبتسمة.
" و يقومون بارسالها لك بشكل خاصة و مستمر؟؟ " سألها وهو يعقف أنفه بطريقة كوميدية:" لكن من يفعل هذا لتدليل فتاة مثلك؟؟"
" أخي الكبير..." قالت صوفي وهي تقضم في البريوش و تتلذذ بمذاق الفستق:" فلنقل أنه بابا نويل على مدار الساعة... يسرع لتحقيق أقل النزوات "
ابتسم لها وهو يشرب من قهوته:
" أنت محظوظة..."
" تظن أن المال يشتري السعادة؟؟"
رأته يهز كتفيه:
" أظن أن ارسال آيس كريم جوا لك هو دليل حب قاطع... و لابد ان شقيقك يملك الكثير من النفوذ كي يجعل هذا ممكنا..."
لا تريد التكلم عن العرّاب كما ترغب بالتعرف على حياة اليخاندرو الذي لم يكلمها يوما عليها، وربما منح هذا الامتياز لبيانكا، المرأة التي أخدته منها بكل بساطة بعد ان عاشرت رجلين قبله...
" انه رجل أعمال ناجح جدا كما هو الحال مع توأمك...." قالت وهي تقضم من ساندويش المثلجات مبعدة المرارة على قلبها لذكرى الاميرة :" كيف يمكنكما أن تكونا توأمين و مختلفين بشدة؟!..."
رأته يسترخي في مقعده بجسده الضخم، يحمل اليها بنظراته الرمادية الرائعة، كان يدرسها، طريقته تدفع الدماء الى وجنتيها:
" طالما كنا مختلفين... منذ طفولتنا... اليخاندرو الولد الطيب و الهادئ، و أنا... العفريت الذي يذب الرعب في الحي... حتى ميولنا كانت مختلفة جدا، أحب الأكشن و الاثارة و المغامرات بينما اليخاندرو كان متفوق في الحساب و ماهر في توسيع مدخراته..." صمت فجأة.
رأته يقطب و تتغير ملامحه و كأنه يندم على هذه التصريحات العفوية، تعرف بأن الأمور بين التوأمين ليست على مايرام، فبينما اليخاندرو يؤسس امبراطورية من لاشيء، لا يبدو خافيير بأنه يسير على الذهب، من الأفضل لها تغيير الموضوع:
" ما هو عملك؟؟"
شرب مجددا من قهوته:
" عملت في كل المجالات تقريبا..."
" مثل ماذا؟؟"
نظر مباشرة في عينيها:
" في عصابات اجرامية... سرقة ابتزاز و اختطاف"
انفجرت في الضحك، تحب جدا مزاحه المرح:
" أتكلم بجد..."
" ادخرت و اشتريت مزرعة، فلنقل أنه حلم طفولة يتحقق أخيرا، أحب الحيوانات و الاهتمام بها ممتع للغاية..."
أسنذت رأسها على راحة يدها، تشرب من وسامته المدمرة:
" يبدو هذا مثير للاهتمام... هل تعيش في تلك المزرعة؟؟"
" أنا بصدد اعادة ترميم منزل صغير، ربما هو صغير جدا لكن اطلالته رائعة... أشعر حقا بأنني محظوظ بامتلاك مزرعة مماثلة..."
اتسعت ابتسامتها و هي ترى البهجة على وجهه، حتى و ان كانت مزرعته قذرة و بلا أدنى اهية، يكفي ان يكون هذا الوسيم هناك، بحلة راعي البقر، سينير المكان و يجعله رائعا.
" و أنت ماذا تعملين؟؟ أقصد... قبل الحاذثة!"
ماذا كانت قبل الحاذثة؟؟ لم تكن شيئا سوى الاخت الصغيرة لروكو ايميليانو.
" أدرس الطب... شقيقي يريدني طبيبة"
" شقيقك الذي يرسل لك الايس كريم جوا؟؟"بدت السخرية في كلماته، مدّ يده السليمة نحوها، رأت أصابعه تشد على يدها بدفئ، هزت عينيها نحوه، بعض التفهم في عينيه:" تكرهين أن تكوني طبيبة اليس كذلك؟؟"
" سابقا نعم..." قالت بصراحة" بعد الحاذث... أريد أن أساعد الناس كما تمت مساعدتي... نضجت اختياراتي... لست على وفاق دائم مع شقيقي... فلنقل أنه حمائي للغاية... ربما مركزه العالي و الحساس ما يجعله دائم الحذر، لكنني أوافقه في اختياره... "
من المريح النطق بهذه الكلمات، لسوء حظها أن روكو دوما على صواب، صارت هذه عادة بالتأكيد... أن يكون دوما على حق، هل يحذث أن يخطئ الحكم و الاختيار؟؟ أبدا... روكو هو الملك... تماما كما كان والدهما.
رأته يغير مكان جلوسه ليدنوا منها و يجلس قريبا لدرجة أن ساقيهما تتلامسان، احنى بوجهه نحوها، كان قريبا، قريبا بشدة... شعرت بقلبها يضرب بعنف داخل قفصها الصدري:
" أعرف كم أن الوضع مريب بالنسبة اليك صوفيا... قد يكون هذا جنونا في نظرك.. لكن، اشعر و كأنني أعرفك منذ وقت طويل، سهرتنا أمس، كانت كافية لأعرف أي نوع من النساء أمامي، أنت مقاتلة و مثابرة... تعلمتي جيدا من مصابك و اذا دل هذا على شيئ فلشخصيتك القوية و الاستثنائية... سوف تصلين لأنني مؤمن بك، و ستتركين كل هذا وراء ظهرك... أنت فتاة جيدة my angel ... فتاة رائعة بمبادئ من حديد"
مثل أمير القصص الخيالية اليس كذلك؟؟ أو مثل القصص العاطفية التي لا تقرأها أبدا؟!... أن يأتي هذا الرجل الشبيه بمن حطم قلبها و يخبرها بأنه فخور بها، أن ينظر اليها بهذه الطريقة و كأنه ينوي تقبيلها... ولكن مثل كل القصص الخيالية ، كان كلامه جيد جدًا لدرجة لا يمكن تصديقه... مثل التفاحة المسمومة أو المغزل الشرير ، هناك دائمًا فخ. ومثل ابنة الطحان، لم تكن مستعدة للاستسلام لحقيقة أن مقعدة مثلها يمكن أن تثير اهتمام وسيم مثله بينما حبيبته جميلة جدا و لذيذة بكامل صحتها.
" شكرا لكلامك اللطيف...و اسمي صوفي و ليس صوفيا"
" أعرف ...." عصر على يدها بدفئ:" الجميلة و الشجاعة جدا صوفيا..."
{... آه.. dio.. mio... أتوسل اليك أن توقظني من هذا الخرف... لا يمكن أن يكون معجب بي حقا؟؟... أبعد هذه العيون البدائية عني....}
شعرت بالانغماس في جو غير واقع،. الشخصية النشطة لهذا الرجل ، قوته الهادئة...عزمه... انها تذوب.
" خافيير؟!"
و بالتأكيد هذا لم يكن صوتها، رأته يبتعد على مضض، بينما شعرت بخديها تحترقان بشدة تحت النظرات المشتعلة بالغضب لحبيبته، لو كانت مكانها لقامت بنثف شعرها بالتأكيد، دفعت بخصلاتها خلف أذنها بينما تسمع ليكسي تنطلق في صوت مرتجف من الغضب:
" كنت أبحث عنك و أنت هنا معها..."
" غيري طريقة كلامك..." سمعت خافير يقول بصوت بارد:" أنا و صوفيا كنا بصدد الكلام..."
" ليس هذا الانطباع الذي تقدمانه..."للمرة الثانية رأت سم الغيرة في عينيها... ليلة أمس باتت الفتاة جليدية ما ان أظهر اهتمامه بها... وهي تتفهمها و تشعر بالخجل، مكانها كانت لتتصرف بالطريقة نفسها، و ربما لتكون أكثر وقاحة ايضا، الم تكن كذلك مع بيانكا بينما اليخاندرو لم يعدها بشيء؟! و حتى مع تلك الفتاة 'آيا'... المسكينة هربت من المكان ما ان حطت عليها النظرات التي تعلمتها من يانيس و بعده روكو... فمابلك لو كان من تغازله النساء حبيبها؟!
" أرى بأن صحبتها تعجبك أكثر من صحبتي..."
رباه.. ماهذا الجحيم، ليست مستعدة أبدا لأي نوع من أنواع أزمات الغيرة في قلب هذا المستشفى، دفعت بعجلات كرسيها المتحرك الى الوراء مبتعدة عن الطاولة، هذا اثار انتباه خافير الذي صوب نظراته اليها قائلا بلطف:
" لحظة صوفيا لا تذهبي..."
" أنت حقا سافل خافيير..." تدخلت ليكسي وهي تضرب صدره بقبضتها:" تعرفت عليها أمس و تفضلها على رفقتي؟؟!"
انتبهت الى أن حارسها يركض نحوهم، رائع... روكو سيتوصل بتقرير فوري لهذه المواجهة العاطفية، و كم تشعر بالخجل للوضع برمته، رغم اصرار خافير على أن تبقى مكانها، حركت كرسيها مبتعدة، لحسن الحظ أن المقهى خال في هذا الوقت و لا يوجد غير النادل الذي يتصرف و كأنه أعمى.
ترغب بالعودة الى غرفتها و السيطرة على مشاعرها التي بدأت تخرج عن سيطرتها.
* * *
حماسة ميغان انقضت ما ان عادت بيتها في اليوم الثاني و وجدت لوكا في السيارة بإنتظارها، من تهجمه المريب يبدو بمزاج سيئ للغاية، في ضواحي نيويورك كانت تملك بيتا جميلا بحديقة و في حي خاص لا يسمح بالزوار للدخول فكيف نجح؟؟ و كأنها لا تعرف لوكا مارشال و اصراه عندما يريد الوصول لشيئ.
ثم... هو أقوى من أن يرميه أحد بالصياح، تعلمت منه شخصيا أن تكون خصمة عنيدة، و بفضل رئيسيها ارشيبالد ربما تعرف سبب هذه الزيارة الغير متوقعة من حبيبها القديم... حبيبها؟؟ لم تكن مسألة حب في علاقتهما... من بين مساوء لوكا أنه يمل سريعا صديقاته و ينطلق في تجربة ثانية دون أن يلقي نظرة على العواقب التي تركها خلفه... عواقبه تشبه بقايا اعصار... لقد دمرّها فراقه.
" خالي لوكا هنا..." سمعت ابنة شقيقتها تقول بفضول.
تناديه بالطريقة نفسها التي تنادي بها اوكتافيا شقيق والدتها.
" فكي حزامك و لا تثرثري كثيرا عزيزتي... إذهبي رأسا الى غرفتك اتفقنا؟"
هزت لونا رأسها الأشقر موافقة، لحسن حظها ان الطفلة اليتيمة الأبوين ليست صعبة المراس، ورتث رقة ولطف والدتها، حياتهما معا هانئة و لا تشبه الحياة التي تخيلتها عندما أجبرت على أخد مكان شقيقتها في حياة لونا، أصبحت بين ليلة وضحاها أم عزباء.
رأته يخرج من سيارته الرياضية الفضية في الوقت نفسه الذي ترمي بساقيها خارجا،تجاهلت ضيقها الشديد برؤيته بهذا القرب بينما عملت في السنوات الأخيرة على الا تلتقي طريقيهما أبدا و كأنه مصاب بالعدوى، كان يرتدي نظارة شمسية قاتمة، لا يمكنها رؤية تعابيره، لكنه يمكنها رؤية شفاهه مكتزة و مجموعة في تعبير محايد، من المعروف على لوكا أنه لا يُظهر اي تعاطف ما عدا فيما يتعلق بإيموجين و ناومي، أكثر ما يهه في هذا العالم هو ان تكون عائلته سعيدة ، حتى و ان اشترى هذه السعادة بالنقود... البقية لا تهم و لا حتى الطريقة.
" مرحبا ميغان..." سمعت نبرته الصارمة و كأنه يكلم موظفة لديه.
عندما تراه بهذه الحالة تتسائل اين اختفى العشيق الرائع الذي تغزّل ذات يوم بلو ن شعرها و شبهه بلون القمح الناضج ، و بأنها إلهة الحقول والحصاد و تستحق التبجيل، المرارة صعدت الى حلقها، مرور السنوات لم تخفف حدة مرارتها، كلما رأته كلما تذكرت أي سافل هو.
" لوكا مارشال... بما استطيع خدمتك؟؟"
منحته ظهرها و هي تفتح باب سيارتها لتقفز لونا الى الخارج، تغيرت فورا تصرفات لوكا الذي انحنى على الصغيرة و داعب خصلات شعرها:
" مرحبا لونا... كبرتي على آخر مرّة رئيتك فيها؟!"
احمرت وجنتي الصغيرة و نظرت الى الأرض بخجل.
" لا يبدو أن هذا التحفظ ارث العائلة..." قال هو يبعد النظارة عن أجمل عينين رأتهما في حياتها، كانتا متضاربتين بين فصل الربيع و المحيط الأطلسي، لكن تعبيرهما مثل المعتاد جليدي، و ترى بأنه بدأ برمي سهامه المسمومة باكرا.
" ماذا تريد لوكا؟؟"
" التكلم اليك... الموضوع مهم..."
جعدت أنفها، وهل تريد أن تتركه يدخل الى بيتها؟؟ مأواها الهانئ؟؟ قطعت كل الروابط مع هذا الرجل عندما برهن لها بأنها لا تسوى في حياته أكثر من حذاء مستعمل... ما ان شبع منها حتى نبذها بأسوأ الطرق... وهي تعرف ما يعنيه أن تكون منبوذة من رجل حلمت معه بمستقبل... لسيما بعد الكارثة التي ألمّت بحياتها.
القت نظرة على لونا التي تتطلع اليهما بفضول، ثم عادت تحملق لهذا المخلوق الوسيم الذي تتفقه نوع المواضيع التي يرغب بتناولها معها، هذا الصباح، حذرها كيليان سلفا، أخبرها كيف كانت سهرته، و بأن ثمة توثر غلف علاقته بلوكا الذي برايه يتدخل كثيرا في علاقته بشقيقته، هذا الأخير يريد أن يبقى مع شقيقته بأي شكل من الأشكال، لكن ليس كيليان من نلقي عليه أمرا أو نجبره على ما لا يريده، لولا حبها لايموجين و احترامها مصيبتها الحالية لأحست بالرضى الشديد أمام عجز لوكا في انقاذ زواج شقيقته، هو الذي أدار لها ظهره و جرحها دون أن يؤنبه ضميره.. فليتعلم أن العجلة تدور، و كما تدين تُدان، و كم تكرهه لجرحها، كم تحتقره و تتمنى لو يعيش العذاب الذي عاشته ليعرف معنى المعاناة.
انحنت على لونا ووضعت يديها على كتفيها:
" اذهبي الى غرفتك حبيبتي... لن أتأخر كثيرا..."
" الا يمكننا التكلم في الداخل؟؟" سألها لوكا بإمتعاض.
" أبدا... لن تدخل بيتي أبدا"
ثم رافقت الصغيرة حتى البناية من طابقين متجاوزة الحديقة الصغيرة و فتحت لها الباب، لونا دخلت دون أدنى اعتراض، لم تتفاجئ بينما تجد الجسد الرجولي ورائها، لا يهتم مطلقا لأوامرها أو رغباتها،لحق بها دون ان يرف له جفن، أغلقت الباب و كتفت يديها على صدرها:
" انه الأحد لوكا... الا تملك مشاريع لنهاية الأسبوع؟؟"
" نعم أنت... رؤيتك و التكلم معك بشأن كيليان... لكن أرى بأنك تبقين حذرة و على أهبة الانقضاض؟..."
شعرت بالغضب لهذا الاتهام... يتهمها هي بينما هو أكثر رجل اناني و استغلالي عرفته البشرية... استغل هشاشتها بموت شقيقتها بينما كان يخرج في الوقت نفسه مع محامية كيليان، الشيئ الذي دمّرها كليا... هو الذي أخبرها في الصباح نفسه أن تعتمد عليه في محنتها قبل أن ينام ليلته في سرير 'بريتني'؟؟
هذه الذكرى ملأتها اشمئزازا أكبر، شعرت بوجهها يشحب بشدة أمام كل الاحتقار الذي ينفجر فيها، يمكنه ان يكون المثال الكامل للأكثر الرجال رغبة لكنه سافل وبلا أي مبادئ.
" أعرف بأنك أمضيتي ليلتك عند كيليان..." سمعته يقول ببعض الاشمئزاز .
هزت حاجبها متجاهلة احتقاره:
" و أين المشكلة؟؟ فليست المرة الاولى التي انام فيها عند رئيسي"
" المشكلة أنني أفهم اليوم أكثر رغبتك المفاجئة في قطع ما بيننا في الماضي و قبول مسؤوليات أكبر من رئيسك... لم أهمك حقا ميغان اليس كذلك؟؟ ايموجين محقة في شكوكها... لديك ضعف نحو زوجها...انت تعملي جاهذة لأخد مكانها وهو مسحور بك الاحظ هذا عندما اذكر اسمك"
أبقت فاهها فاغرا أمام هذا الاتهام، ان كانت تملك ضعف نحو رئيسها؟؟
انها تملكه بالتأكيد كما تملكه كل امرأة تجري في شراينها دماء، كيليان يملك كل ما يمكن ان يثير الاهتمام الانثوي، ربما هذا السؤال يأتي في محله عندما اتت على أخد وضيفتها في موسكو قبل ان ينقلها رئيسها الى نيويورك قبل خمس سنوات، سنة واحدة بعد زواجه من ايموجين، ضعفها نحو كيليان هو كالتالي، تجده أكثر مصداقية من هذا السافل أمامها... رئيسها مسحور بعملها أكثر من وجهها.
" تستغلين هذه القطيعة لترمين مخالبك حوله... أعرف طرقك جيدا ميغان، فقد استعملتها معي..." تابع بإزدراء:" حتى انه وضعك على رأس أعماله الأمريكية... أي مسؤولية ضخمة لإمرأة لم تعرف سوى الهندسة في كل حياتها!! "
" ان كان خياره لا يروقك فيستحسن أن تناقشه هو قراره و ليس أنا..." أجابته بنفس الهجوم .
" ماهو المقابل كي يختارك أنت لا غيرك ميغان؟؟" زم شفاهه بكراهية:" أنت السبب في ابتعاده عن ايموجين... أنت محظيته اليس كذلك؟!"
الاتهام جمدها مكانها، هي التي سعيت لتلطيف صورة ايموجين في نظرات كيليان الذي يرفض حتى أن تنطق اسمها أمامه، بغض النظر عن تحطيم لوكا لقلبها فهي تعرف جيدا الى اي درجة تحب ايموجين زوجها، و هي شخصيا تعشق أوكتافيا و ترغب بشدة أن يعود والديها لبعضهما... ولتكن صريحة مع نفسها... لا تعرف بالضبط وضع ايموجين في قلب زوجها... هذا اذا كان لرئيسها اي قلب.
" ان كنت تظن بأنني حصلت على هذا المنصب لأنني أنام مع رئيسي فدعني أخبرك بانك أحقر مما سبق و اعتقدته لوكا... أنا أعمل بجهذ، كيليان يثق بي، و ان قرر هجر زوجته فإعلم منه شخصيا دوافعه و اتركني بسلام... أرفض أن تعود الى بيتي، ان تجرأت المرة القادمة فسأتصل بالشرطة..."
لكنه لا ينوي تركها، التقط معصمها ليجبرها على الوقوف مكانها، كانت عيناه تتطايران شرا:
" اسمعيني جيدا ميغان... ربما كيليان يمنحك ثقته لكنني أعرفك جيدا، تستعملين سحرك لحشو نفسك حتى في حياته الخاصة لأنني لا أرى لما موظفته تمضي الليلة في بيته الا اذا كانت لها أبعاد أخرى، تلعبين دور الزوجة المستقبلية الكاملة... تعرفين نقاط ضعفه... هو الذي يريد امرأة تهمه، تهتم ببيته في غيابه بإبنته... تبعدين ايموجين و تأخدين مكانها للاهتمام بها بينما هو يقوم بسهرات أعماله..."
" كيليان صديقي قبل كل شيئ... لن أرفض طلبه لسيما استغلال الوقت مع فكتوريا فلا تنسى انها صديقة لونا... أنت حقا تعديت حدودك لوكا... هوسك بشقيقتك يعمي بصيرتك، بدل البحث عن السبب الحقيقي الذي يبعد رئيسي عنها تلقي الملامة علي... لن اسمح لك اهانتي... ارحل من هنا فقد اكتفيت"
انها تفقد حقا سيطرتها على أعصابها، يتهمها بإغواء كيليان؟! من يغوي ذلك الرجل بحق الجحيم؟؟ انه يستعمل عقله في كل شيء و لا تعتقد أنه يملك مشاعر سوى لإبنته الوحيدة التي يضعها في مكانة التقديس تقريبا، كيليان غامض جدا، انه رجل الظل، يعمل بشدة في الخفاء و يحتفظ بنفس الواجهة التي لا يغيرها في اي مناسبة، تعرف بأنه بئر أسرار، وربما هذا ما يخرج مخالب لوكا الذي أخفق في تكسير واجهته الجليدية، هذا الاخير يكره الاخفاق في أي شيئ، و كيليان هو تحدي جليل... انه عملاق في كل شيء، و لوكا يكره ألا تكون له سلطة عليه.
" أعرف بأنك تلعبين دور مهم جدا فيما يحذث ميغان..."
ما جدوى كل هذه المغالضة؟! ألم تنجح في العمل بفضل صبرها وتصميمها؟ لما يجب أن يشككها هذا السافل في قدراتها؟! كيليان رجل أعمال قبل كل شيئ ولا يستعمل عواطفه فيما يخص أعماله، وهي كانت الأولى في دفعتها، هو يلتقط المواهب من مهدها، طار بها حتى قبل أن يكتشف الاخرين أي كنز هي، وقد جلبت الكثير لمحركات ارشيبالد، ان قرر أن يضعها في الواجهة فلأنها تستحق منصبها، هذه المحاذثة بلا أي فائدة، و ان رآى لوكا بأنها مذنبة فلن تغير رأئيه، لأنه بكل بساطة يبحث عن مذنب، وقرر ان تكون هي... تصرفه مثل النعامة، يفضل غرس رأسه في الرمال بدل البحث عن حل جذري.
" عرفت كيليان قرابة الاثنثي عشر سنة...! " قالت بهدوء تحاول استعادة رباطة جأشها:" لو هم أحدنا الأخر لتزوجني قبل أن يتعرف على ايموجين... أعرف بأن الوضع مريب... لسيما بدخول والدك الانتخابات، لكن هذا لا يبرر وضعك الملامة على صداقتي برئيسي، لا أستحق هجومك ... غيرة شقيقتك مني لا مبررة لها... لست غبية كي لا أرى ملامحها كلما شائت الصدف بلقائنا... لا عواطف بيني و بينه، ما يحمله أحدنا للاخر هو المودة و التفاهم التام... انه يثق بي... وهذا بالضبط ما يدفعني لمنحك تفسيرات بدل رميك بالحجارة حتى سيارتك... و الأن اذهب لوكا ولا تعد أبدا"
هذه المرة عندما ابتعدت لم يحاول منعها، شعرت بنظراته على ظهرها الى أن اختفت خلف الباب الذي أغلقته خلفها بهدوء و استنذت عليه، ركبتيها ترتجفان من الغضب و الاثارة، أغمضت عينيها لتمر موجة الارتجاف العنيف الذي الم بها... ثم ماذا انتظرت؟؟ انه عاد اليها لسبب آخر غير موضوع ايموجين و كيليان؟؟
بعد أن هجرته بسبب خيانته المريبة لها لم يأخد أكثر من أسبوعين ليبدأ بالظهور رسميا مع بريتني.. لوكا يملك شعبية غريبة و تحبه جرائد الفضائح، دامت علاقتهما الخمسة اشهر، قبل أن ينبذها بدورها، بريثني الجميلة و المثيرة و الناجحة عمليا لم تتحمل هذه القطيعة و بدل الانتقام من لوكا نفسه وجهت مساميرها اليها شخصيا...عندما يكونان معا في مكتب كيليان تتلبد سمائه، هذا الاخير مل الوضع و كان واضح جدا مع كلتيهما... شركته ليست المكان لتسوية أمور شخصية، ربما بريثني احبت لوكا كما حذث معها شخصيا، وتتفهم خيبتها... لا امرأة استطاعت اصطياده يبقى العازب الاشد اثارة للجدل على الاطلاق.
كل هذه الاشتباكات وفرت عليها دموع أخرى، و لم تعد تتحسر على فراقهما الذي آلمها بشدة مريبة و حطم قلبها، ففي النهاية ... لم تخسر شيئا ذو قيمة.
بقدر ما هو زير نساء، بقدر ما يحمي شقيقاته من مغامرين في صنفه... شي مبتذل و مثير للسخرية اليس كذلك؟؟!
سمعت طرقات على الباب... أغمضت عينيها متجاهلة اصراره، لكن عندما فتحتهما ووجدت لونا في السلالم تتطلع اليها ببعض القلق فهمت لنه عليها انهاء الأمر مرة الى الأبد.
عادت تفتح الباب، لكنه لم يكن لوكا كما ظنت... بل جارتها روجين برفقة ابنها براد، كانت تحمل صحن فطائر و ابتسامة على وجهها:
" مرحبا ميغان... حضرنا بعض الفطائر و فكرنا في تقاسمها معكما أنت و لونا..."
القت نظرة من فوق كتف جارتها، الشارع المقابل فارغ، لوكا رحل، شعرت بالراحة وهي تدعوها للدخول، تتمنى أنها كانت واضحة جدا و لن تقوده قدميه الى بيتها مجددا.
* * *
بلعت 'آيا' مهدئات التقلصات بكأس كبير من المياه قبل أن تضع على كتفيها وشاح و تدفع البوابة الزجاجية الفاصلة بين غرفة نومها و حديقتها الخاصة ، انه مكانها المفضل، بالرغم من أن الليل أسدل ستارته الا انه يبقى رائعا حتى في الظلام، أخدت أنفاسا عميقة من رائحة الورود الطائرة في المكان وهي تجلس على الكنبة الأرجوحة التي اهتزت تحت ثقلها، و هي فضلت تناول طعام العشاء في غرفتها بدل مواجهة زوجها...
منذ ما أخبرها به كارلوس وهي في متنملة الأحاسيس، مازال ضميرها يوخزها... غريب... لما يجب أن تشعر بالذنب ازاء الرجل الوحيد الذي تسبب لها بكل هذه التحولات الكبيرة في حياتها؟؟ أن تجد نفسها حامل قبل أن تحقق حلمها بالحصول على الشهادة العليا، ان تفقد حلمها أيضا بالوقوع في الحب قبل أن تتزوج أمام الله بكل الطرق النبيلة و المبتعدة عن الزيف!... لما تشعر بالذنب إزاء رجل لا يرى فيها سوى آله لإشباع غرائزه؟؟
حسنا... فقد قامت بإختياراتها وحدها ولا تلوم سوى نفسها... في الماضي لم تختار حقا مصيرها، لكنها لم تملك أيضا الخيار.. لو لا نقود اليخاندرو لكان ميتا اليوم... بسبب ما حذث ينظر لها خوسيه كعاهرة متمرسة يرفض قطعا تفهم ظروفها... عاهرة يُغضبه انجذابه لها... و ينتقم منها من خلال التجريح.
لكنها عاشت هذه الأشهر أيضا مثل ملكة بفضل كرم المارتينيز، انها مدللة جدا ولا ينقصها شيئ، و قريبا سترحل من هنا... واذا فضل خوسيه الإحتفاظ لنفسه بمرضه فلا تلومه... انه محق... ليست زوجة حقيقية لتقلق بشأنه.
القت نظرة دائرية حولها، هي التي كبرت في درب يذب حركة، لا تعتاد على هذا الصمت المطبق و الهدوء التام، لا يكسره سوى صوت صرصار الليل مع لحن ضفضع تائه في مكان ما وخرير المياه المتدفقة بين الحقول المحيطة بالقلعة، قطعة من الجنة حقا... مكان مناسب للتخلص من الضغوطات النفسية و الاسترخاء، لابد أن خوسيه قضي طفولة سعيدة هنا.
تحاول تخيله صغيرا لكن عقلها يعود بها الى هيئته الجبارة التي كانت تقف شامخة بلا حراك في شرفة جناحه بينما تعود أذراجها... قد يكون مريضا، و قد يكون فاقدا لوزنه، لكنه يبقى رجل شديد الهبة ولم يفقد من طاقته.
" مساء الخير..."أطلقت صرخة صغيرة و وضعت يدها على صدرها بينما ترى شبح ذكوري يخرج من غرفتها الى الحديقة:"آسف... لم أقصد إخافتك..."
بلعت ريقها متقاتلة مع حلقها الذي جف فجأة، هل خرج خوسيه من أفكارها و تجسد أمامها؟؟ هل هو حقيقي أم أنه نسج خيالها؟
لقد كان حقيقي... حقيقي بشكل مؤلم... وهو رائع.
عندما استعادت نفسها من المفاجئة ركبت على حذرها مثل المعتاد، تجولت بنظراتها فيه، انه نحيف... تجويفة خديه تثيران القلق حقا، حاولت بعينيها اكتشاف ما يخفيه وراء هذه الملابس الباهضة الثمن، كان يرتدي قميص بيضاء و بنطلون مستقيم أسود، يشمر قليلا على ساعديه حيث ساعة يدوية فضية، تظنها المفضلة اليه، تراها دوما في يده... الفرق أنها لا تلتصق بجلده كالمعتاد... لقد فقد الكثير حقا من وزنه، هذه الحقيقة توجعها... ما نوع العملية التي قام بها يا ترى؟؟! هل كانت خطرة؟؟ هل تجاوز الخطر؟!... أزاحت بصعوبة شديدة عينيها عليه:
" لم أسمعك تدخل..." قالت بعد أن وجدت صوتها.
" طرقت الباب عدة مرات...من الطبيعي الا تسمعيني و أنت هنا..."
التقت بنظراته الذهبية..
شيء غريب... هذا الرجل هو زوجها.. شرعيا و أمام الله هو لها... لكنه ليس لها أبدا... يُفترض أن يُرزقا بطفلين قريبا بينما يجهل كل منهما كل شيئ عن الأخر... المستقبل يرعبها بشدة!... قد يكون خوسيه مريضا، لكن هذا لا يجعله عدوّ سهل... ما زالت عيناه ترمقانها بنفس البريق الصلب و المتمكّن... انه من أشد المنافسين الذين التقتهم في حياتها.
ثم ماذا بعد؟؟ لا يمكنها أن تبقى في مكان الدفاع بينما أتى اليها للمرة الأولى منذ أن طلبت منه تركها وشأنها ليلة دخلتهما، كما أنه... عليهما التصرف بتحضّر... قريبا سيصبحا أبوين... عليها ترك خلافاتهما جانبا.
" كيف حالك آيا؟؟"
" كما ترى..." قالت له بإبتسامة صغيرة:" سمينة و أتمشى مثل البطة..."
لم يركض على فرصة مدحها، بقي ينظر اليها دون ان يتحرك من مكانه، الأنوار الذهبية و الزرقاء للحديقة تمنحه مظهرا أثيريا، انه حقا وسيم... كما كان دوما بالأحرى.
" هل تريد الجلوس...؟"
رأته يقطب، بدى متفاجئا من اقتراحها... كلما أصابها الشك عليها تذكير نفسها أنه مريض... وهي لا تنوي الهجوم على انسان مريض، كما انه عليهما الكلام كراشدين.
" هل تريدين مني الجلوس؟؟ الن يتضرر ضغطك؟؟"
لم يكن يمزح، بل ساخرا... مرحى... عاد لسفالته، هذا لم يجعل من ابتسامتها سوى اتساعا، لن يؤثر عليها:
" مادمنا سنتصرف كعاقلين دون أن يجرح أحدنا الآخر فسأكون بخير..."
كان هناك توثر معين بينهما، وبدل الجلوس بجانبها على الكنبة الأرجوحة عاد أذراجه و..، بقيت هي على أعصابها، تحاول فهم ما حذث ولما هرب منها بهذه الطريقة؟؟ انها المرة الأولى التي تحاول تلطيف الجو بينهما ليتمكنا على الأقل من ايجاد الاسماء التي يرغبان بمنحها للطفلين... كما ان الوقت قد حان أيضا لتكلمه على منزلها... أمممم... هل هذا لن يخرج مخالبه أم يُستحسن ان تنتظر لما بعد الولادة؟؟
ضربت بقدمها قليلا على الأرض العشبية و بدأت الكنبة بالتأرجح قليلا، الهزهزة اللطيفة بتهدئتها رويدا، ربما سيكونان اصغيرين سعيدين جدا في هذا المكان، تعرف بأنهما لن ينقصهما الدفئ ولا الحنان، هناك خوسيه، وقبله سيسيليا، في ظروف أخرى... كانت لتتمنى لو يكون زواجهما حقيقيا.
لفت إنتباهها خيال خوسيه يعود اليها، كان يحمل في يديه كوبين فوّارين، المفاجأة أخرستها، هي التي ظنت أنه رحل دون ان يمنح اهتماما لدعوتها برفع علم السلام بينهما لو لبضع دقائق، رائحة الياسمين و البابونج في الكوب الذي منحه لها اسال لعابها لابد انه استعمل مطبخها الخاص، اهتزت الارجوحة تحت ثقله، القت عليه نظرة من خلال رموشها بعد أن غمغمت بكلمة شكر، ترك مسافة أمان بينهما، بقى بعيدا بأفكاره، السعادة المبهة للانتماء الى هذا الديكور الرائع و الغارق في الصمت، شربت من كوبها و استمتعت بمذاقه و نكهته العطرة، كيف يعرف بأنه المفضل لها؟
عادت تلقي على خصلات شعره نظرة هاربة، إنها أطول من المعتاد، تلتمع بشدة تحت الأنوار الطفيفة، في الماضي، عندما تقاسما الحب، كان يكره أن تضع أصابعها على شعره، لكنها تتذكر جيدا ملمسها الناعم الذي يشبه الحرير، هز فجأة نظراته، فإشتعلت خديها بشدة لضبطه إياها بالتهامه بعينيها:
" مَا الأمر؟!"
" كُنت أفكر في أننا لم نقرر بعد أسماء للصغيرين..." إرتاحت إذ بدى صوتها مقنعا.
" سأسمي الصبي على إسم والدي 'المادو'... 'المادو خوسيه مارتينيز' .."
ولما ليست متفاجأة؟؟ انها ماركة الاثرياء اليس كذلك؟؟ مثل تسلسل الأسماء عند الملوك و الأمراء... خوسيه الأول، خوسيه الثاني خوسيه الثالث... فهل سيكون هذا الطفل طبيعيا أم هو الأخر ما ان يتجاوز بطنها حتى يبدأ بإلقاء الأوامر؟!
" أرى بأنك فكرت في كل شيئ..." تمتمت وهي ترتشف من شرابها:" و بالطبع تنوي منح إسم سيسيليا للطفلة؟؟!"
" يمكن الاحتفاظ بإسم أمي في المرتبة الثانية ... إختاري آخر إن كان هذا يروقك"
اتسعت عينيها وهي تنظر اليه، هل حقا يترك لها خيارا؟؟ يمكنها تسمية ابنتها كما تريد؟؟ السرور و السعادة اخدا مكان المرارة التي شعرتها قبل لحظة، وضعت يدها على بطنها الضخمة، ثم سألته فجأة:
" هل ستحضر خلال العملية؟؟"
" هل تريدينني بقربك؟"
سؤال في محله... هل تريده بقربها؟ فهي ليست ولادة طبيعية، الطفلين كبيري الحجم لدرجة أن الطبيب لا يرى سببا في تركهما أكثر داخل رحمها.
" أنا خائفة..."
انها المرة الاولى التي تقول فيها هذه الكلمة جهرا، و أمام من؟؟ عدّوها رقم واحد... ربما كتبت هذه الكلمة كثيرا جدا في مذكراتها،...و هذه الأيام كانت قاسية جدا من الناحية النفسية، كوابسيها تتضخم كلما اقترب موعد خروجهما.
شعرت بالكنبة تهتز و به يقطع المسافة بينهما ليجلس بالقرب منها، في لحظة غطت يده الضخمة يدها، كانت أصابعه دافئة و قاسية في آن واحد، حبست أنفاسها، الاتصال الأول منذ قبلتهما الأولى كمتزوجين أمام الله.
الإحساس حارق لدرجة أنها قاومت بشدة رغبتها في سحبها، لاشيئ جنسي في حركته هي تعرف، انه يحاول دعمها لسيما وقد عرّت على خوفها له، تعرف بأنه لا يستلطفها، وليس رقته ما دفعته للتخفيف عنها، بل مشروعه في بطنها، يريد ان تكون كل الأمور بخير الى أن يخرجا سالمين، في أشهرها الاربع الأخير أصيبت أيضا بسكري الحوامل، أخبرها الطبيب أن كل شيء على مايرام و أنها ستتخلص من هذا المرض ما إن تلد، لكنها قرأت أيضا بأنه ربما لن تتخلص منه حتى بعد الولادة.... وهي ليست حزينة أبدا لهذا السبب، فوالدها مصاب به، وجدتها كانت مصابة به، باريش مصاب به أيضا، أي أنه نوع من أنواع الأمراض المتوارثة أيضا في عائلتها.؟
" لا يوجد سبب يخولك للشعور بالخوف لأن المستشفى التي ستنجبين فيها من أشهر مستشفيات مدريد و أطبائها من أكفئ الأطباء أيضا..."
هي تعرف كل هذا... لما لا تخبره مما هي خائفة بالضبط؟؟
هل هو من أكفئ من يحترمون كلمتهم أيضا؟
بلعت ريقها بصعوبة، ان احتفظت بعلاقتها سليمة و معقمة وان انقضى هوسه و رغبته بها فكل شيئ سيكون بخير، انها وحدها أمام الاعصار وهي تعي هذا جيدا... لم يتبقى لها سوى الصلاة في ان تمر الأمور على مايرام و أن يتلاشى اهتمام خوسيه بجسدها...الا يرى فيها الاثارة التي تعمي بصيرته، شعرت بحركة في بطنها، كانت واضحة فوق فستانها لدرجة مسلية.
" أنظر خوسيه..." أشارت الى الحدبة المنتفخة في بطنها، ابتسمت بينما ترى الدهشة على وجهه، انها المرة الاولى التي يرى فيها بطنها يتحرك:" أعطيني يدك..."
ووضعتها على المكان المنتفخ و اختار الطفل في هذه اللحظة ليعزز حركته.
كانت لحظة نادرة جدا لخوسيه وهو في حالة التباس تام، لو كانت لها كامرا لصورته للذكرى، رأت يده الكبيرة تتجاوب مع حركة الطفل من خلال الجدار الناعم لبطنها، ثم ابتسم عندما تلقى ركلة حقيقية هذه المرة، كانت قوية لدرجة أنها وضعت يدها بجانب ضلوعها المتألمة... لم يعد هناك مكان اضافي في داخلها، نظرا الى بعضهما قبل أن ينطلقا في ضحكة رنانة كسرت السكون من حولهما.
ساد بينهما جو بعيد عن الواقعية، لا تعرف كم مرّ من الوقت و يده على بطنها، أصابعه الطويلة تداعب بنعومة بشرتها المحترقة، و كأنهما زوجين طبيعين يستمتعان بلحظة سلام، كانت لحظات استرخاء قيمة للغاية... و كم شعرت بنفسها مسرورة، الخوف ترك مكانه للأمل.. فقط لو يصبحا صديقين، فقط لو يستطيع رؤيتها لا كجسد لكن كإمرأة.
هل ستنجح؟؟
هل ستتمكن من تخفيف هذا الشرخ بينهما؟ الله وحده يعرف كم تريد أن ينتهي هذا الوضع المريب...
رأته يستعيد يده و كأنه قرأ في اضطراب أفكارها، ضمت الشال على كتفيها:
" الجو بارد و يُستحسن أن تعودي للداخل قبل أن تمرضي..."
لم تحاول حتى مناقشته لأن الجو فعلا بارد، رأته يلتقط الكوبين المستعملين و لمفاجأتها انحنى ليساعدها على الوقوف... كم هو لطيف عندما يريد أن يكون لطيفا.
" أنا قادرة على المشي..."
" أعرف..."
وإبتعد عنها حارما إياها من دفئه.
في الداخل، أغلق الباب الزجاجي خلفهما و أسدل ستارته بينما هي أبعدت الشال على كتفيها، محرجة بشدة لهذا الجسد الذي أصبح مثل البقرة السمينة، كيف يراها؟؟ لابد أنه يتسائل اللحظة عما وجده فيها ليشتري رفقتها في الماضي؟!.
تأمل من قلبها لو تتغير الأمور، الا يبقيان على طرفي نقيض و ان تتحسن أحوالهما و يصبحان ككل زوجين طبيعين يرغبان بالشيئ نفسه إلا وهو مصلحة التوأمين... لما هي خائفة جدا من إخباره بشأن بيتها؟
بعد أن عاد من الطبخ الصغير حيث سمعته يغسل الكوبين و يعيدهما مكانهما، رأت أزرق الدماء يعود اليها بملامح أقل انبساط مما كانت عليه قبل قليل، تشعر بمزاجه و قد تغير، انتهت لحظات السلام بينهما على ما يبدو، كان مستعدا للتحليق بعيدا عنها و كأنه طائر سئم سجنه الحالي و يرغب فورا بحريته.
" هل ترغب بالبقاء أكثر؟؟!"
" كلا... سأذهب لغرفتي..."
هزهزت رأسها، وهي التي ظنت بأنه بوسعهما الكلام قليلا بشأن 'الخطوة التالية'، بالتأكيد، فمنظرها السمين يقطع أي شهية للكلام... تعرف أنها بشعة، وجهها منتفخ و قدميها فقدا قياسهما المعتاد... لم تعد مهمة في نظره ولا مثيرة، و بدل أن يريحها هذا، تعترف أنه يُؤلمها!.
" لم تخبرني لما أتيت؟"
" لأني لم أراك منذ آخر زيارة عند الطبيب... سوف أسافر وأعود قبل عمليتك..."
" سوف تسافر؟" لم تخفي دهشتها.
" أنا رجل أعمال 'آيا'... " ذكرّها بصوت جاف.
وهذا بالطبع يفسر كل شيئ ويضع النقطة في نهاية الكلام... اذن لن يكون هناك كلام حقيقي و جدّي قبل العملية؟! يفضل أن تنتظر هي أيضا الولادة لترى كيف ستسير الأمور، لم تمنع نفسها من السؤال:
" هل سنتطلق بعد الولادة مباشرة؟"
ندمت فورا على كلامها، يحذث أحيانا أن تأخد إجازة من عقلها و تتصرف بهذا الغباء الحالي، لم يكن يتوقع هذا السؤال، اتت على تحطيم لحظات السلام بينهما، لكن ملامحه بقيت محايدة:
" أراك نافذة الصبر..." إحمرت خداها، ليس هذا ما قصدته بالمرة، انها فحسب خائفة على ان يأخد منها ابنيها، انها تمسك النمر من أذنه، قد يلتف فورا لينهش يدها " أريد أن يتلقى الطفلين رضاعة طبيعية من والدتهما، وهذا لن يحصل ان قررت الرحيل بعد الولادة مباشرة الا تظنين؟؟..."
شعرت بالراحة لهذا الكلام، تملك مهلة بعد أن يخرجا، فلا أحد غيرها يمكنه أن يرضعهما رضاعة طبيعية...إذن خوسيه لا يفكر بإرسالها او اختطافهما منها بينما تكون غير قادرة على محاربته.
" أنت غريبة جدا سيدة مارتينيز... "
ثم دون أي التفاتة أخيره ورائه أغلق باب الجناح خلفه وقد سمعت شبح كلمات تشبه' نامي جيدا'
سيدة مارتينيز... من فم خوسيه تبدو غريبة جدا...تشبه التوكيد لوضع لن ينتهي بالمرّة.
* * *
شعرت صوفي بوجوده حتى قبل أن يطرق باب جناحها، كانت على سريرها، تجري بين صفحات المشاهير كما هي عادتها بينما سابرينا تتفرج في التلفزيون الذي يعرض مسلسل درامي باللغة الإيطالية، التقت نظراتهما قبل أن يُقرر الطارق الدخول، أطل رأس خافيير فحبست أنفاسها من شدة المفاجئة، هي التي هربت منه دون رؤية للوراء، غارقة في خجلها و إحراجها من تصرفاتها لصديق امرأة أخرى، لكن عندما غمرتها مجددا هذه انظرات الرمادية أدركت بأنها فقدت رغبتها بنسيان أمره الى الابد.
" خافيير؟؟"
" مرحبا سابرينا..." سمعته يقول دون أن يبعد نظراتها عليها:" كان يجب أن أمر لأودعكما... "
اذن فسيرحل، هذه الحقيقة أشعرتها بالشقاء، أصمدي مرة أخرى أيتها الغبية أمام الواقع المرير، مهما أعجبك رجل فلن يبقى بجانبك، لسيما حصان برّي أصيل كالذي أمامها، المتعري من بذلة رجل الأعمال و المحب لمزرعته التكساسية و حريته الكبيرة، هزت دقنها تقمع أي مشاعر بالاختلاط بملامح وجهها، ترفض قطعا أن يكتشف سرورها برؤيته، رأته يقترب من السرير، مثل المعتاد يمد نحوها يده السليمة، التقطت أصابعه في أصابعها:
" آسف لما حذث مع صديقتي... "
هزت كتفيها بعدم إكتراث:
" إنها في موقفها الشرعي و أظنني تجاوزت حدودي ... أتمنى أن تعودا بسلام الى أمريكا... "
لابد أنه لمح الرسمية التي تُكلمه بها، ما ترغب به هو أن يغادر هذا المكان وفورا، ليست بحاجة للتواصل مع رجل سينسى امر وجودها ما إن يفوت حدود غرفتها، القت نظرة على والدتها، هذه الأخيرة تحاول منحها بعض الحميمية، ظاهريا فقط فهي تعرفها جيدا، ان بحتث فستجد أذنيها في مكان ما بسريرها، رأته فجأة يلتقط هاتفها، أقطبت بينما اصابعه تلعب بسرعة على الائحة الرقمية، مرر مكالمة قبل أن يغلق الخط و يلتوي فمه المثير في ابتسامة انتصار:
" رقمك عندي..."
استعادت هاتفها لترى الرقم الجديد على الشاشة المضيئة، عندما عادت لتهز عينيها نحوه، قالت بهدوء:
" أظنها فكرة سيئة..."
" أود لو أريكي مزرعتي ذات يوم... "
يالها من أحلام ... هي في أمريكا؟؟ كادت ان تنفجر في الضحك لاقتراح الشاب العفوي، ما بين مشاكلها الصحية ووحش يدعى روكو في أعقابها لن تتحقق هذه الدعوة أبدا... كم ترى نفسها في الطبيعة التكساسية، مع هذا الوسيم في حلة راعي البقر، لكن قلبها كاد يتوقف بينما يسمح لنظراته بإلتهام كل إنش من وجهها كأنه ينوي تخليده في ذاكرته، هل يعقل أنه معجب حقا بها كما هو الحال معها؟
" هيا صوفيا... القليل من التعاون الا تظنين؟؟"
" لن يعجب هذا الأمر ليكسي الا تظن هذا أنت أيضا؟؟"
بدى و كأن تحديها يعجبه، ابتسم لها تلك الابتسامة التي تدمر كل شيئ داخل صدرها، انه يعرف بأنه رجل مرغوب، يعرف بأنه يملك طاقة و جاذبية تؤثر بالنساء، خلافا لأليخاندرو الذي لا يلعب مطلقا بوسامته، فخافيير يستعمل سحره تماما للتأثير عليها... و كأنه يعرف سلفا أنها تملك ضعف كبير اتجاه توأمه... لكن الرجلين مختلفين... هذا الفاثن البدائي أمامها ليس قديسا و لا يمكن التلاعب به.
" أنتظر شيئا منك صوفيا... و سأحصل عليه"
التجبح المتكبر الضمني في هذا السؤال جعلها تنتصب:
" تنتظر ان يكون الموضوع بهذه السهولة؟؟"
" أريدك صديقة مبدئيا الى أن تتعلمي الثقة بي... أريد ثقتك... فهل ستفعلين؟؟"
كانت كلماته تتردد في فراغ رأسها دون ان تستوعب حقا ما يحذث... يريد التقرب منها و يطلب ثقتها، حافظت على تماسكها، خافير لا يشبه أي شاب سبق و خرجت معه، أولائك الشبان الذين ينعثهم روكو بالفراخ الصغيرة لإغاظتها تفر فورا أمام سلطة العرّاب، ماذا سيفعل شقيقها أمام رجل يرسم انجازاته الحياتية على ذراعيه و يفتقد كل ما يتميز به اليخاندرو او الرجل الثري و الناجح العظيم الثراء الذي يأمله لها؟... يمكنها ان تتخيل اشمئزازه، لكن خافير لا يبد مطلقا سهل الترهيب... لن تزعزعه نظرة شقيقها المريبة و التي ترعب أشد الرجال.
" أملك سمعة سيئة خافير... الحياة معي مضنية، كما أنني متملكة بشكل خانق و شقيقي من أسوء من يمكن الإحتكاك بهم"
" صاحب المثلجات الجوية؟؟!"
ضحكت أمام تسليته... رباه، إنه يجهل تماما أي نوع من الأشخاص هو ... صاحب المثلجات الجوية.
" صاحب كل المستحيلات ... أهرب قبل أن تتورط معه..."
في ظروف أخرى، كانت والدتها لتطلب منها التوقف عن الفاظها السوقية، لكن حوارهما منخفظ لدرجة أنه من المستحيل عليها سماعهما، سمعته يطلق نفسا متحشرجا و يدنو منها أكثر ليهمس لها:
" أرغب بالتورط ... سوف أصمد من أجلك..."
ردت بجفاء لكن قلبها كان يتسارع بإنفعال:
" أنصحك بتعلم الوفاء خافيير... أنت رجل مرتبط..."
" لن تمنعيني من الاعجاب بك... أنت المرأة التي لا يمكن ان تنافسها أي امرأة اخرى... "
كانت لكلماته الأخيرة معاني مبطنة بعيدة جدا عن معناها هي تعرف، رأت جسمه الضخم يستوي و يغمز لها بنوع من التواطؤ و كأن لقائهما لا يعود سوى لايام قليلة فحسب، هل تنوي ان تسحر به أكثر؟؟ هل تنوي حقا على الاحتفاظ بالاتصال بينهما و توطيد صداقتهما كما يرغب؟ لكنه مثل المغناطيس... تزداد انجذاب لشخصيته الغريبة... إنه يأسرها رغم حذرها الشديد منه.
عندما رحل و ترك خلفه جبل من الأسئلة هاجمتها سابرينا دون ثانية تأخير:
" هل تنوين حقا التواصل معه؟؟"
" لما لا أمي..؟؟ انه مثير للإهتمام"
" تفعلين هذا لأنه يشبه اليخاندرو..."
بل لأن نقيض حبيبها سيثير حنق العرّاب.
" أفعل هذا لأنه بعيد جدا على أن يكون توأمه... " همست وهي تتطلع الى الأرقام التي قام شخصيا ببصمها في هاتفها:" هناك ما يخفيه هذا الرجل... يبدو غامض جدا و هذا يعجبني"
خمس دقائق تلقت رسالتها الأولى منه...
{ سأتوغل فيك صوفيا ايميليانو}
ابتسمت وهي تضغط على الأزرار بسرعة:
{ لا تنسى أن تترك فتات الخبز ورائك كي لا تفقد طريق العودة..}
هل سيُصاب بخيبة عندما يكتشف أن لا شيئ مثير في حياتها؟؟ التوت شفاهها وهي تتذكر النظرات التي حطها عليها قبل أن يمضي... نظرات رجلا لا ينوي نسيان أمرها.
* * *
" هذا كل ما وصلت له على خافير ميندوزا؟؟" سؤال روكو جعل جبين سانتياغو يقطب أكثر، هو الذي يرفض تماما الفشل في أي مهمة يمنحها اليه:" هذه قصة هادئة جدا و ملفقة... لا اثق في كلمة واحدة لأنها تتناقض تماما مع حدسي الذي لا يخونني أبدا... "
" أسف أيها العرّاب.. أحتاج للوقت لأعرف المزيد..."
" لا تهمني أعذراك السخيفة ..." زمجر بصوت جليدي:" نملك سلطة كافية لتصل لغرضك، جد لي حياته الحقيقية منذ أن ترك المكسيك في سن التاسعة حتى ظهوره في مستشفى ابنتي و ليس حياة ملفقة"
هز سانتياغو رأسه موافقا قبل أن يخلي مكتبه بملامح مشدودة، انه يعرف جيدا هذه الملامح، يأخد غضبه كتحدي و لن يعود قبل أن يعثر حتى على فصيلة دم خافير.
لم يغلق الباب تماما اذ أن يد أنثوية منعته، و ظهرت بريانا في فستان سهرة رائع على تفصيل جسمها الرشيق، اختفى غضبه فورا أمام هذه الرقة التي تجلبها معها، انها بمثابة نفخة أوكسجين نقية، شعرها ازداد طولا، يتذكر نوبة الذعر التي اصابته بينما تنوي أخد موعد مع الحلاق لقصه، لم يتركها حتى أقسمت له الا تفكر في الموضوع مجددا.
" أنا جاهزة..." سمعها تقول وهي تتقدم منه,
" جاهزة؟؟ لماذا؟؟ "
اتسعت عينيها من الدهشة قبل أن تحمر خديها و يشعره هذا التغير بالرضا، يحب مداعبتها.
" هل نسيت مشاريعنا الليلة ؟؟ ثم... نسيت بأي مناسبة؟؟"
هز كتفيه بعدم إكثرات:
" لا أعرف عما تتكلمين حبيبتي!"
منظرها متصلبة أمامه مسلي، طاف فيها كما هي عادته، منحنياتها المألوفة و جمالها الكلاسيكي الذي ينافس أجمل نساء الأرض، ما ان تعود صوفي حتى يتزوجها، الأشهر لم تخفف أبدا من رغبته بها، انه يزداد فحسب تعلقا بها.صار يعرفها جيدا...متى تضحك و تبكي على نفس مشاهد الأفلام السخيفة التي تصر على أن يتقاسمها معها، وهذه النظرة التي ترمقه بها اللحظة لا تنذر بالخير، بدأت الدهشة تفسح مكانها للغضب الأسود.
" آسفة لأنني أزعجت جلالتك... " سمعها تقول من بين أسنانها :" سأتركك تنهي التهام رجالك فكما يبدو مزاجك سيئ للغاية..."
دارت على عقبيها بطريقة عصبية، مانحة اياه منظر وركين جميلين، أقطب جبينه، هل تنوي حقا الخروج بفستان مماثل؟؟
" مهلك كارا... قبل أن تخرجي، اعطيني ملف من جارور مكتبي رجاءا..."
رآها تعود لمواجهته، نظراتها القاتمة مشتعلة مثل فوهة بركان، تعجبه متفجرة و متقددة، انها غنية بلانفعالات وليست آلة باردة كما حاولت الظهور في معرفتهما الأولى، رآى الثوب الحريري يتراقص فوق عضلات فخديها المشدودة، انها اغراء يمشي على قدمين، من اين أخرجت هذا الفستان بحق الجحيم؟؟ عندما فتحت الجارور لم تسقط على ملفات، رآها تخرج علبة سوداء مستطيلة و تنظر اليه بتساؤل:
" افتحيها..." أمرها بهدوء.
راقب ترددها، بريانا ليست المرأة التي يمكن شرائها بالماس هو يعرف، يتمنى فحسب أن يُعجبها ذوقه، رأى انعكاس الحلي القيمة على وجهها بينما تلتقط السوار الماسي من العلبة السوداء،هزت نحوه نظرات مندهشة قبل أن يهز حاجبه متسائلا:
" هل تظنين بأنني نسيت عيدنا؟؟ كيف لي أن أنسى بريانا... اليوم الذي وجدت فيه نصفي الثاني؟!"
" كم أنت متلاعب " سمعها تصرخ به بلا تصديق:" كنت تسخر مني هيه؟"
ابتسم ملئ فمه... عادة صار يمكلها مؤخرا، بفضل هذه الفاثنة الرومانسية التي تتشبث بالمناسبات الخاصة، إقترب منها بخطوات واسعة و التقط السوار ليضعه في معصمها و يقربه من شفاهه ليطبع قبلة عليه، طار الغضب و توهجت بشرتها بسرور، لمعت عيناها و أحاطت عنقه بذراعيها تفرك أنفها بأنفه:
" ظننت بأنك نسيت أمري!"
" أنت الوحيدة التي لا يمكنني نسيان أمرها..." قبّل صدغها، يملئ رئتيه بعبيرها المألوف " لكن هناك طلب... غيري فستانك قبل أن نخرج... تفاصيلك الجميلة دعوة لا تقاوم و أنا لا أنوي قتل أحد الليلة..."
يرفض أن تكون هناك إنطلاقة لحذيث محتدم يتعلق مجددا بطريقة لبسها، لم يترك لها وقت بالاعتراض، قرر غلق الفجوة الجسدية بينهما، ضمها اليه ليغرقها في قبلة مثيرة قمعت كل احتجاجاتها، و نجح بجعلها تستسلم لرغبته، مثل خطيبة مطيعة تركته يختار بنفسه فستان جديد لها... القليل من هذه التدريبات و سيحل مشكلة الملابس مرة الى الأبد.
* * *
إنفجرت أوكتافيا في الضحك بينما يضعها سانتو على كتفيه، مثل المعتاد يشعر بقلبه ينفجر عاطفة في صدره كلما سمع ضحكتها الرنانة، تبدو سعيدة جدا برفقته، كما كانت دوما عادتها، للاسف حان الوقت لإعادتها الى بيت والدتها، عادا الأحد من نيويرك و غدا باكرا سيطير الى موسكو، يعترف أنه يفتقدها سلفا.
" أبي؟؟"
" نعم أميرتي؟؟"
وبينما تشعث شعره بأصابعها الصغيرة وتضمه الى صدها، تنحني عليه بكل ثقلها، خصلاتها الذهبية حجبت عليه الرؤية:
" أريدك أن تعود الى البيت..."
جاء صوتها خجلا بعض الشيئ،سبق وشرح لها ظروفهم الحالية و بدت متفهمة لكنها هذه المرة لا تلبث نبش الموضوع و التكلم عن أمها طوال الوقت.
" هل ماما من أوصتك بإقتراح الموضوع علي؟؟" سألها برقة وهو يضعها على الكنبة و يحملق بنظراتها الزرقاء الشفافة.
رآها تهز رأسها بالنفي، خصلاتها الشقراء البرّاقة و المتناقضة تماما مع لون شعره الاسود تهتز حول وجهها الدائري، أوكتافيا صورة مصغرة لوالدته، إرثها الروسي أقوى من الإيطالي على ما يبدو... و هذا يسعده، لا يريد أن تكون لها أي علاقة مع عائلتها الإيطالية.
" سبق و أخبرتك لما بابا لا يعود للبيت حبيبتي... هذا لن يضر أبدا تواطؤنا ولا تفاهمنا... عندما تكبرين ستفهمين الموضوع أكثر..."
هزت رأسها مجددا:
" أنا أفهمه.. أنت لم تعد تحب أمي لكنك تحبني أنا و هذا ما يبقيك في ميامي..."
ياله من ذكاء... انها تشبه والدها، فكر برضى.
" أنا أحب أمك لأنها منحتني أجمل هدية يمكن لأي أب أن يفخر بها لما تبقى من عمره، ما يجب أن تفهميه يا طفلتي أننا اتخدنا قرار أن يعيش كل منا بمفرده...و هذا لا علاقة له بالحب عزيزتي..."
رآها تمضع ببعض الإحراج شفتها السفلى:
" ما يحذث أنني لا اريد الذهاب معك مجددا خارج الوطن..."
في العطلة المدرسية السابقة قاما بأطول عطلة يمكنه الحصول عليها كرئيس تنفيذي لشركة متعددة الجنسيات، لكنه سرق من الوقت و قتل موظفيه ليحرروه و يمنحه لإبنته الوحيدة، لم يكن يعرف أبدا بأنها لم تحب ما قاما به، الرحلة كانت موفقة و قد استمتعا بوقتهما بشدة... ظنها سعيدة.
" ما الأمر حبيبتي؟؟ لما هذه القسوة ازاء والدك المسكين؟!..." سألها بتسلية مخفيا ريبته.
" لأن هذا يحزن أمي بشدة... أكره رؤيتها حزينة... انها تبكي كل ليلة..."
شعر بالغضب يتملكه،ياللجحيم... مجددا ايموجين... عندما يغضب فحتى إبتسامة أوكتافيا البريئة لا تتمكن من إخماد هيجانه، اذا كانت زوجته تتعمد هذا للتلاعب بمشاعر إبنته و إستفزاز عواطفها فهي بلا أدنى شك لم تلقى الفرصة لتواجه سانتو ... الرجل المتبري من رداء الحضارة... الذي لا يقف أمام شيء... أوكتافيا خط أحمر و هي تعرف هذا جيدا... لا يريد حرمانها كليا من ابنتها وهي تدفعه لهذا الشيء بتصرفاتها... يحاول أن يبقى متحضرا بحق الشيطان لما تصر على اخراج الاسوأ فيه؟؟ و هي تجهل تماما ما هو الأسوأ فيه.
" تعالي الى هنا..." فتح لها ذراعيه و أغمض عينيه بينما يتسلل الى أنفه رائحة شامبو الاطفال و التالك و الكاراميل، هو ليس والده... لن يتخلى عن ابنته بهذه السهولة :" ما رأيك أن نعرج على مقهى المثلجات قبل أن أرافقك الى البيت؟؟ أعدك أن أكلم ماما لأعرف ما يجعلها تبكي ليلا اتفقنا؟؟"
بدت الراحة على ملامح وجهها الصغيرة و تعلقت بعنقه تقبل خده بحب و شغف طفولي:
" أحبك أبي..."
لم تكن إيموجين في البيت، لما ليس متفاجئا، ترك إبنته رغما عن أنفه للمربية قبل أن يقصد المستشفى، عليه مكالمتها قبل أن يطير الى موسكو .
* * *
الأمور لم تمر تماما كما خطط ، واذا كان يعرف دانيلا فبالـاكيد أمضت يومها في التنقيب بين أسرار اليونور، بعد عودته الى شقته ليس خطيبة متألقة ما استقبله، بل شبح فتاه بالكاد يتعرف عليها، جفون منتفخة، وجه متورم بشرة شاحبة، كانت قد قلبت المذكرات رأسا على عقب، الصالون ممتلئ بالأوراق، و كأنه أمام جذار تنقيب عن عصابة هاربة من العدالة.
" ما كل هذا؟؟" سألها وهو يضع أغراضه على الكنبة، كانت تمسك رأسها بين يديها، كتفيها مشدودة مثل الوثر:" دانيلا... سبق و تكلمنا بشأن هاته المذكرات"
" أنا إبنة اليونور"
هذه هي الفكرة التي نامت عليها سلفا تلك الليلة، حتى انها تمارضت كي لا تذهب الى العمل، شك في أن بقائها سببه الفضول الذي تآكلها بمجرد اكتشاف أوراق أخرى من المذكرات، فليكن صريحا مع نفسه، يشك بمصداقية كل هذا، اليونور عانت مع عقلها في سنواتها الأخيرة، لو كانت دانيلا ابنتها حقا لما اخفتها عن خوسيه هذا اذا كان هو الأب الفعلي بالتأكيد، هذه الاخيرة تكبدت مشقة استرجاعه دون جدوى، كيف لها ان تتستر على أمر مماثل؟ كما انه... لاتوجد أسرار تخفى على والده لأنه كان صديق عائلة مارتينيز... يانيس و روكو شخص واحد... و بالتأكيد العرّاب لن يخفي أمر مهم على صديقه.
" انت ابنة راؤول و ناديا كورتيز.."
وقفت دانيلا من مكانها، هالتها القوية تنذر بالخطر، لا تبدو بخير و لا يبدو أنها مستعدة لسماع كلامه، تريده فقط أن يستمع اليها دون اعتراض:
" أظهرت كل الرسائل المحجوبة و اليك ما حذث: عندما تزوجت اليونور كانت حامل، الزوج استشاظ غضبا عندما عرف بهذا لذا قرر والدها أخد زمام الأمور فمنح ناديا الورقة الخضراء، استنجدت بخوسيه لكنه قرر محيها من حياته و كأنها لم تمرّ، أخدوها الى المزرعة... الرسم الذي في الورقة هو لمكان أمضت فيه أشهر حملها الأخيرة، استغلت أمي مهارتها في التمريض و أشرفت شخصيا على الولادة و أخدوني منها ليتبنوها بعد أن أقنوعها بأنها الطريقة الائقة و المناسبة... تقول بأن ناديا غير قادرة على الولادة لأنها خضعت لعملية استئصال للرحم بسبب سرطان بعد زواجها بسنوات... "
توقفت عن الكلام لتلتقط أنفاسها، كانت في كل حالاتها، لا يوجد اسم لتجسيد كمية العذاب في نظراتها، اذا كان ما تقوله صحيح فهذه مصيبة، لكنه لا يؤمن بالخرافات، لأنه في ايامنا من المستحيل أن تلد امرأة في الخفاء و تأخده منها أخرى دون ان يكون هناك اوراق ثبوتية... اذا كان ما تقوله صحيحا... فلابد أن الجميع ترك ورائهم أثار ما... صحيح ان دانيلا تشبه كثيرا اليونور، لكن القصة مريبة و تثير الشك.
" اهدئي حبيبتي... تبدين في كل حالاتك..." وضع يديه على ذراعيها و مسد عليها برقة في محاولة تهدئتها:" أنظري الي... نحن أمام وضع غريب و علينا التفكير فيه مليا و لما لا النبش المعمق؟!..."
هزت رأسها بالنفي:
" يجب أن أخبر خوسيه..."
" تخبريه ماذا بالضبط؟؟" سألها بصوت حازم وهو يجبرها على النظر الى عينيه:" هل لديك أدنى دليل على المكتوب؟؟ هل فكرت في مشاعر وصيك ان كذّب الموضوع؟!"
كلامه أفلح أمام موجهة الجنون التي تملكتها، رآها تتراجع، تفكر في كلامه، و تسترخي ببعض الاستسلام رويدا، بدت فجأة مهزومة، و كأن كل ما يحذث يفوق طاقتها، دفعها بلطف بين ذراعيه و منحها الدعم و الكتف الذان تحتاجهما، عندما انطلقت في بكاء صامت تركها تفرغ شحناتها ما رغبت.
عندما هدأت كان بإمكانهما الكلام بهدوء،جلسا على الكنبة و لإرضائها أعاد قراءة الأوراق الأخيرة، و بالتأكيد اليونور لم تترك تفصيل واحد، تبدو القصة و كأنها بقلم كاتبة متمرسة لا تنسى التفاصل، وان كانت هذه هي الحقيقة فأهلا بخوسيه في مجموعة داركو و روكو المأساوية.
وضع يده على ركبتها التي كانت تهتز بعصبية شديدة ليهدئها، كانت تقوم بقضم أظافرها أيضا، عقلها شارذ .
" إسمعيني... " هزت نحوه عينان محمرّتين من كثرة ذرف الدموع:" بدل رمي كل هذا في وجه خوسيه كقنبلة... أفضل لو نقوم بتحرياتنا الشخصية... مثلا أن نجد مصدر هذه المعلومات التي كتبتها اليونور و التأكد منها... "
اتسعت عينيها فجأة و كأنها وجدت الحل:
" التحليل النووي... الأسهل أن آخد عينة من خوسيه و أقوم بالتحليل للتأكد ان كان حقا والدي أم لا..."
هز رأسه متجاوبا مع الحماسة التي عادت الى الجسد الذي دمره هذا الاكتشاف:
" بالتأكيد حبيبتي... لا تفعلي شيء قبل أن نتأكد من مصداقية تلك الأوراق"
" أنت محق..." همست و هي تمسح دموعها بظهر يدها:" لسيما هذه الفترة... "
" سيرزق بأطفال في المستقبل القريب فلا تفسدي شيء و أنا... أعدك... سأبقى بجانبك... في كل خطواتك، اتفقنا؟!"
إبتسمت من خلال دموعها و اقتربت منه لترتمي بين ذراعيه و تضع رأسها على صدره، ضغطها عليه يُشعره بالاطمئنان و الألفة:
" اتفقنا... اتفقنا و أنا ممتنة لأنك في حياتي اليساندرو... شكرا لأنك هنا و تدعمني!..."
" سأدعمك " و قبّل رأسها و هو يضمها اليه أكثر الى أن استرخت كليا بين ذراعيه."سأدعمك دوما حبيبتي!"
* * *
ما ان تجاوزت ايموجين صالة العمليات حتى أخبرتها الممرضة أن كيليان بإنتظارها في مكتبها، أزالة الكمامة عن فمها بينما سارعت مساعدتها بإزاحة الغطاء على ملابسها الطبية البيضاء، حررت شعرها في طريقها الى المكتب، تعرف بأن زوجها يرفض الانتظار، كما أن وجوده هنا لا ينبئ بالخير مطلقا، انه يكره المستشفيات، يكره كل ما له علاقة بعملها، بإنجازاتها بصفة عامة.
في الداخل، كان يقف بجسده الضخم أمام النوافذ العالية المطلة على ميامي في الغروب، شعر بدخولها من ان تجاوزت خطواتها العتبة و التقت نظراتهما، لم تكن بالتأكيد نظرات رجل أتى ليعقد الصلح بل لينشب حرب دامية.
" كيليان... يالها من مفاجأة..."
" انتظرتي زيارتي لذا احتفظي بدهشتك لنفسك سيدتي الطبيبة..."
بغض النظر عن تحفظه و غموضه، طالما كان زوجها رجل مثالي، لم يفقد يوما سيطرته على نفسه و لم يهاجمها عبثا كلاميا، طالما احتفظ بردّات فعله لنفسه... لكنه الأن مختلف تماما عمن تعاملت معه طيلة الست سنوات الماضية، حاولت قمع قلقها، تحاول استعاب سبب هذا الغضب المشتعل في عمق عينيه الزرقاوين:
" سأكون مباشرا معك ايموجين..." سمعته يقول بنبرة جليدية:" أريدك أن تتركي مهنتك، أن تنسي أمر أعمالك و أن تأخدي أغراضك و أغراض أوكتافيا كي نرحل الى موسكو و نستقر هناك... و بعدها... لن أسمعك يوما تشيرين الى عملك أو حياتك الأمريكية أو حتى عائلتك... وهذا آخر عرض قد أقدمه لك"
بقيت متجمدة مكانها بينما الكلمات تدخل أذنيها دون ان تستقر حقا في عقلها، لقد تمنت عودته، تمنت لو يحني رأسه الفخور اخيرا و يمنحها السلام الداخلي لأن حياتها صارت جحيم من دونه، لكنه عاد و في نيته سلبها كل ما عملت بجهذ من أجله طيلة حياتها! عاد و بنيته الانتقام منها، يعرف جيدا بأن عملها مهم جدا أيضا، بأنه الشيء الوحيد الذي يمنعها من الجنون.
" الا تظن أن طلباتك قاسية.؟!"
قاطعها غير مكثرت بالمرة بنغمتها المتمزقة.
" هذا أو لا شيء...لا وقت لي أضيعه معك"
أنبأتها غرائزها و قوة ايداعها انها أمام لحظة قوية و حاسمة، ان لم تعالجها بالطريقة الصحيحة فستفقد كل شيء، كيليان قوي و رجل أعمال آلف عقد الصفقات، لكنه هنا ليأخد لا ليتقاسم،يريد الربح بكل الطرق، ورغم ذلك حاولت ربح الوقت:
" هذا العرض لأنك تحبني ولا يمكنك العيش من دوني؟!"
" هذا العرض كي لا أحرمك من أوكتافيا والا تريها مجددا لما تبقى من حياتك ..."
شدت على أنفاسها، مالذي يقصده الأن؟! مالذي فعلته لتوقظ غضبه الى هذه الدرجة، بدا وجهه القاسي، وجه المحارب، و كأنه قدّ من حجر، لايبدو أنه يتسلى أو يمزح، مطلقا لم تره يثبتها بهذه الطريقة الخالية من الرحمة:
" تنوي حرماني منها؟؟"
" كي أجنبها عذاب الضمير الذي تعيشه مع أم انانية لا تفكر سوى بنفسها ..." إجتاز الفجوة بينهما و تطلع في عينيها:" من الأفضل ان تتخدي قرارك و فورا, إما عملك أو هي.."
" لا يمكنك فعل هذا ..." تلعثمت و اصفر وجهها.
صرخ في وجهها الى أن ارتدت بعنف للوراء:
" تجهلين كل ما يمكنني فعله إيموجين... تجهلين من أكون"
دق عقلها ناقوس الخطر. لم يكن من أجلها هذا، انه واثق من نفسه وخطير للغاية. لم يكن له علاقة بها ولن يرحمها. إن استغرابها لن يفيدها. إلا أنها كانت مفتونة بالفعل بهذه الواجهة الجديدة من زوجها.
" تهددني؟!"
" أضعك أمام خيار و أنوي أخد ردك وفورا... كنت متفهما و عادلا من أجل ابنتي، لكنك لم تلعبي بنزاهة و بدأتي بقلبها ضدي...لن أكون متسامحا بعد اليوم "
اذن فقد جاء وهو يرتدي بذة العدو، اختفى الرجل الرائع، القادر على سحر أي تجمع من خلال شهيته وذكائه السريع. هذا الذكاء ، لم يستخدمه أبدًا ضد أي شخص ، واختار بدلاً من ذلك وضعه في خدمة الآخرين. دفع كيليان ارشيبالد إلى تجاوز نفسه... كان بطل شقيقها و مثاله الأكبر، و كان كل ما تراه جيدا في حياتها... نجاحها العظيم.
" الا يمكننا مناقشة الموضوع بروية كبالغين؟؟" سمعت نفسها تقول وهي تدنو منه لتتطلع الى عينيه" لا يمكنك أن تخيرني بين ابنتي و عملي... أنت لست عادلا الا تظن؟!"
" كنت عادلا عندما منحتك اسمي فيما مضى، الأمور لا تمر كما نرغبها اليس كذلك؟؟ لذا لا تحاولي التفاوض بقرار سبق و اتخدته، اختاري الأن اما عملك أم أوكتافيا، لن أتركها مطلقا لأم مفقودة بين عملياتها و أعمالها الكبيرة..."
" لم أمضي سنوات عمري في دراسة الطب لأبقى حبيسة بيتي... أنت تأخد المسألة بشكل شخصي و ترغب بمعاقبتي"
" إذن فجوابك واضح... و لم يكن لي أدنى شك به..." حاولت امساك ذراعه لتمنعه من الابتعاد لكنه تطلع لها بنظرات سمرتها مكانها:" من اليوم وصاعدا أنت خارج حياتي... بيننا المحاكم، و أقسم لك أنني سأحصل على الحضانة الشاملة، أملك من الأوراق ما سيجردك تماما من حقوقك"
" لن اتقاتل معك بشأنها" تحت تأثير المشاعر التي غزت لها في ذكرى هذا الجرح اللا يزال مفتوحا ، وتكسر صوتها:" أوكتافيا من كلينا..."
" فلتضعي اذن في رأسك بأنني رجل متسلط يرغب بزوجة تقليدية ... لن أسمح لك مجددا بإيلام إبنتي... إنها كل ما أملك و من يسيئ اليها أسحقه هل هذا مفهوم؟! يمكنك تبعي بالتأكيد و ترك بدلة التطبيب ورائك.."
أبقت فاهها متسعا، انه لا يمزح... أخذت نفسا عميقا ، على حافة الغثيان. هذا الرجل بصراحة لايمكن أن يكون بغيضًا لهذه الدرجة؟! فقد وضع قيمًا أخلاقية عالية جدًا ، خاصة تلك المتعلقة بالأسرة، إن رغبت بالاحتفاظ بعملها فستفقد عائلتها.
و إن قاومته...!
لا أحد يربح أمام كيليان ارشيبالد، حتى لوكا بنفسه... ستندلع الحرب في حياتها، و يصبح الأصدقاء أعداء، و يمكن لوالدها أن ينسى أمر انتخاباته... فهل تملك حقا الخيار؟؟ لسيما في هذه الفترة الحساسة للجميع.


* * *

ملك جاسم likes this.

أميرة الحب غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 05-11-20, 02:58 PM   #3806

أميرة الحب

مشرفة وكاتبة في قلوب أحلام وكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء وعضوة في فريق الترجمة

alkap ~
 
الصورة الرمزية أميرة الحب

? العضوٌ??? » 53637
?  التسِجيلٌ » Oct 2008
? مشَارَ?اتْي » 14,442
?  مُ?إني » فرنسا ايطاليا
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Morocco
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » أميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   cola
¬» قناتك fox
?? ??? ~
https://www.facebook.com/الكاتبة-أميرة-الحب-princesse-de-lamour-305138130092638/
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

الفصل السادس



" هل أنت متأكد من هذه المعلومات؟؟" سأل سانتو و هو يقلب الأوراق بين يديه، صور روكو تملأ الصفحات...اذن فقد حان وقته قبل أن ينهي هو ما بدأه معه!؟... و أي مفاجأة جميلة هذه للتخلص الى الأبد من شر الايميليانو..." لما تهتم c.i.a و الانتربول به؟ في أي ورطة أقحم نفسه أخي الصغير؟؟"
صغير بخمسة أشهر ... أصبح يانيس أبا في السنة نفسها لطفل شرعي يفخر به و آخر لا يعترف به و ينعثه بإبن الرذيلة... اللقب الذي سيلتصق به لأخر أيامه، أقسم أن يدمر تلك العائلة و لن يستريح قبل أن يرى العرّاب مسجونا و اليساندرو مفلسا... لن يتبقى شيئ من تلك العائلة عندما ينتهي منهم... سابرينيا ايميليانو لم تخفى عليها علاقة زوجها بالراقصة، عملت على ان تجعل أيامها الأخيرة جحيما... كل من في تلك الجزيرة اللعينة أساء لأوكتافيا و أذلها... و دفعت ثمن محاولة هروبها بحياتها... أمه المسكينة وقعت في كمين أفاعي.
" يضع العرّاب السياسين في جيبه و يحركهم كما يشاء مزاجه، ورغم رفض الأمن السري الايطالي الا ان الانتربول يتدخل دون تصريح، انهم على أثره... أظنها فحسب ذريعة لأنهم فشلوا في الماضي بالاطاحة بوالدك...."
هز سانتو نظرات مسودة من الغضب نحو الرجل الذي تراجع فورا وقل معتذرا:
" أقصد يانيس ايميليانو..."
" لا تقول مجددا بأنه والدي... أنت متحري جيد و تصل لما يستحيل على الاخرين الوصول اليه و برئي الانتربول لا تحمي مؤخرتها اللعينة كي يتسرب لك خبر مماثل"
يانيس لم يحسب حساباته جيدا، ظن بأنه سيمحي ذنوبه بمجرد ترك ارث المعلوميات له؟ اطنان من الاسرار و القانابل التي تنتظر فحسب لتنفجر في وجه صاحبها؟.
" تسرب من مكان أخر و لا أشك بذكاء أخيك فهو أكثر رجل حذر التقيته في حياتي... عدم حصول الانتربول على التصريح يلعب في مصلحة العرّاب... ايطاليا تدعمه و هذا لا يسهل المأمورية الخارجية التي تنوي الحصول على رأسه بشكل غير شرعي"
" روكو... قوي..." هذا الاعتراف المتشبع بنوع من التقدير أثار اشمئزازه، و يبقى معجب به رغم أنفه" جلده صلب... انه ابن والده"
" كلاكما ورثما هذه الصفة سانتو... لا تنسى أن لي الفضل بالعثور على والدتك ووالدك و على الاسرار كلها لذا لا تغضب من صراحتي... أنا الوحيد الذي يعرف هويتك الحقيقية، تدفع لي الكثير كي لا أفتح فمي يوما. و أظن اننا اجتزنا الماديات و تربطنا قيم أخرى..." لم يجب سانتو، تركه يتابع" هذا لا يمنع بأن لدي بعض التحفظات..."
" عموما لم تحتفظ يوما بلسانك داخل فمك..."
أثار إنتباهه حركة في الحديقة، بما انه إستلم الاراضي من روكو مؤخرا فالناس يعتقدونها ما تزال مهجورة، و يقتحمونها و كما توقع، أحد الصبية يحاول قطف فاكهة لم تنضج حقا، صار يعرف هذا الصبي، انه يتردد هنا كل يوم، مرة يسرق الحطب و مرة الخضروات المغروسة بشكل عشوائي.
" تعقبك أعمال أليساندرو لا مبرر لها، ان ظننت انه يشبه والده فأنت مخطئ"
" خطئه أنه يحمل اسم ايميليانو..." رد سانتو وهو يخرج من الغرفة التي أصبحت تقريبا غرفة المعيشة، الوحيدة التي يستعملها عندما يأتي الى هذه المزرعة المهجورة، أصبح الصبي الحافي القدمين في أعلى الاغصان
" استغلت والدته ضعف أمي لتنتقم منها خيانة زوجها... وعدتها أن انتقم منهم و سأفعل... هيه... أنت أيها الصبي القذر"
الصبي أصيب بالذعر، خطى سانتو الى الخارج وما هي الا لحظات حتى صار أسفل الشجرة، الصبي من خوفه رمى بنفسه ارضا الى ان سمع سانتو عضامه تترطق تحته، وقبل أن يركض هاربا أمسكه من أذنه:
" في المرة القادمة التي أراك فيها هنا سأسلخ جلدك..."
أفلث الصبي أذنه و قفز على يده ليعضها، كل شيء حذث بسرعة و رآه ينطلق نحو السور ، ندم سانتو فورا على قسوته و هو ينتبه لرعب الصغير، فرك معصمه حيث ترك هذا الأخير أثار أسنانه، التحق به 'جاندر' الى الخارج.
" هذا المكان يحتاج للاهتمام... عليك ان تجد أسره تديره في غيابك و تبعد المتطفلين عليه بإستمرار"
أدخل سانتو يديه في جيوب بنطاله المقلم و هرب بعينيه في أراضي معصرة الايميليانو الشاسعة و التي أصبحت ملكه لأن روح أوكتافيا هائمة فيها، هكتارات لامنتهية من اشجار الزيتون، الشمس بدأت تنحرف الى الافق مودعة سماء كابري و تغمر مياه البحر الفيروزية بألوان ذهبية رائعة، المكان يجلب السكون و الهدوء، الأرياف هنا لا مثيل لها، مختلفة عن كل بقاع الارض.
" الأعمال ستبدأ نهاية الشهر، أحببت تصميمات المهندس و أبصمت عليها، أوكتافيا لم تخفي حماستها عندما جلبتها الى هنا, تريد أرجوحة و مسبح و أنوي تحقيق طلباتها... وعدتها أن يكون المكان جاهزا لإستقبالها في العطلة القادمة..."
" ستعود المعصرة للعمل؟؟"
" لم أفكر بالموضوع بعد... " تمتم من بين أفكاره:" ما يهم أن نكون معا... في هذا المكان، ... سيسعد روحها رؤية حفيدتها ..."
بعد أن غادر المتحري استعمل سانتو آلة القهوة التقليدية و أشعل موقد المطبخ القديم، أن ينسى شخصية كيليان المترفة و يعود لحقيقته و يعيش بباسطة من الفينة و الأخرى يفيده بشدة و يخفف من ضغوطاته النفسية، في الزيارة السابقة أتى بإبنته الى هنا، لم تخفي حماستها و أفادها الجو الايطالي، أقاما معا في فندق فخم و تجولا طويلا في كابري الجميلة، أما اليوم فيفضل استعمال كيس النوم و الابتعاد كليا عن كيليان ارشيبالد و عالمه البرّاق، سانتو أقرب من أوكتافيا، أقرب من مصيرها التعس، فقط لو تركها له يانيس لأهتم بها و أنساها الاذلال الذي تعرضت له، غامرت بحياتها ليعيش هو، وقد رماه يانيس في الدير و نسي أمره، لا يعرف ما يعنيه حنان الأم ولا الأب، ربما عاطفة جاك خففت عنه، لكن أن يعرف بأن يانيس دفع للرجل كي يتبناه تثير قرفه... لقد اشترى له حُضنا... يانيس سرق منه طفولته و أمه و يقسم أن يدمر اسمه الذي طالما فخر به... سيدمر كل ما تركه خلفه... سيصبح اسم الايميليانو لعنة و ليس فخرا.
حركة جافة في الخارج أثارت انتباهه، لامس سلاحه في حزام بنطاله الجنزي تحت كنزته و أطل برأسه خارجا، شخصين يقتحما البوابة الجنوبة و يتوجهان رأسا اليه، تعرف على الصبي المتسخ الهندام و القدمين الحافيتين ، تشد على يده امرأة بثنورة طويلة جدا تلامس الأرض، أكثر الناس فضولا في العالم هم الايطاليين، بالكاد يصدق حشريتهم، ترك سلاحه مكانه و تأهب لإستقبال الزوار، لابد انهما هنا للاعتذار.
تجعد جبينه في تقطيبة بينما تتقلص المسافة بينه و بين الزائرين و تسمح له الأنوار الداخلية بتفحص المرافقة للسارق الصغير، ما أثار انتباهه أولا هو شعرها الحالك السواد و الطويل.. الطويل جدا، كان يتخطى وركيها ببوصات عدّة، تضع خرقة على رأسها مطبوعة بزهور حمراء، منحته الأنوار رؤية شاملة لأجمل ملامح ايطالية رآها في حياته...جمال يمزج بين سحر الشرق الذي ترتبط به إيطاليا عن طريق البحر الأبيض المتوسط وملامح الغرب المتمثل بالامتداد الأوروبي، ليس جمال مصطنع كالذي تقدمه ايموجين لزبوناتها الراقيات، بل جمال ريفي بدائي متفرد و استثنائي، بقدر ما كانت رموشها سوداء و كثيفة كانت قزحيتها رمادية لؤلؤية شديدة الشفافية، كوكتيل من الفراولة و الفلفل الحار، و هذا هو الجمال الايطالي... يحمل الكثير من التناقضات ليشكل مزيج لا مثيل له... لكن القروية لا يبدو أنها تملك أدنى اعجاب نحوه، مرت عليه بنظراتها و كأن وجهه يشبه مئات الاشخاص الذي تلتقيهم عادة و لا يغريها مطلقا ما تراه ثم استرسلت في ايطالية سريعة:
" أنت الدخيل الذي ورّم أذن شقيقي؟"
" هذا شقيقك؟" سأل متفاجئا... المسخ الصغير لا يملك من جمال أخته، يبدو مثل الكلب المتشرد:" انه يستحق توريم مؤخرته و ليس أذنه... لقد اقتحم اراضي..."
" هذه الأراضي ملك لـ'روكو ايميليانو' و قد سمح لنا بأخد الحطب ..." زمجرت به القروية الفاثنة:" من المعيب ان تهاجم طفل صغير... "
هذا صحيح و قبل أن يتراجع على سلوكه العنيف فرّ 'ماوكلي' هاربا، الإثنان يتطلعان اليه و ينتظران ردة فعل ما، وهو الذي توقع أنهما هنا ليعتذرا يبدو ان الوضع ينقلب عليه، عاد ليحط نظراته على صاحبة العيون المشتعلة و تذكر شيئا... صديقه الاسترالي يملك منجم الألماس، أخبره عن كيف تكون الحجر الكريم بالطبيعة.. مراحل تكونه... تركيبته جيولجياً... حضر موسم الحفر خلال رحلاته البعيدة، و ما أمامه ماس خام و الذي يحتاج إلى الحرارة والضغط لتشكيل، لو رآها صديقه الاسترالي لأقرّ على أفكاره، وبما انه رجل يحب الجمال يعترف بأنه تحت السحر تماما.... انه رجل نساء، أحب ماراقه و ترك ما راقه أيضا، لكن لم تسنح له الفرصة بوضع يده على كنز مماثل.
" أنا المالك الجديد ..." شرح لها متفرسا في تقاطيعها البكر و الخالية من الزينة:" روكو ايميليانو باعني هذه الأراضي، وضعت لوحة عملاقة في الخارج حيث سجل بالأحرف العملاقة ممتلكات خاصة ممنوع الدخول... ليست ذنبي ان عجز شقيقك عن القراءة"
بدى التردد على القروية الايطالية، وضعت يديها على كتفي شقيقها كنوع من الحماية، هذه الحركو جعلت سانتو ينحني على 'ماوكلي' قائلا:
" آسف على قسوتي أيها الصغير .. كنت اجهل أن المالك القديم منحك اذنه بأخد الحطب...أخبرني ما هو اسمك؟"
" مارسيلو... "
" تشرفنا مارسيلو... و اسم شقيقتك الكبرى؟" سأله وهو يعود ليغرق بنظراته في عينيها، راقب خديها تحمرّان فورا، من الخجل ؟ من الغضب؟ من الاحراج؟ شيء فيها يشده و يثير فضوله... تشبه الهواء النقي الذي يستنشقه الانسان في القرى ما ان يخرج من دخان السيارات في مدينة مكتضة.
" فيرنا...اختصار فيرونيكا و أنا ابنة الحارس، هو من يهتم با لأراضي الخاصة بالمهاجرين و من يقوم بالسقي... لا أعرف كيف له الا ينتبه الى أن دون ايميليانو باع أرض أسلافه... "
" انتما ولدي 'إيليو'؟" سأله متعجبا، الرجل الشديد النحول لا يمكلك بالمقابل نقط تشابه مع هذه التحفة.
هزت رأسها بالايجاب، سبق وتعرف على الحارس، الرجل يسكن منزل على بعد ميلين من هنا و سبق و طلب منه ان يأتي له ببعض الخضار و أن يجد له لاحقا مدبرة بيت و بستاني.
" اذن انت المالك الجديد, تملك لكنة" قالت الغافلة على سحرها.
" اسمي سانتو... أنا روسي، و أنوي تحويل هذا المكان لإقامة ثانوية..."
هزت مجددا رأسها، خصلاتها الشديدة الطول تحيطها اللحظة مثل معطف مخملي، كانت تقطع الأنفاس، بالرغم من بساطة ملابسها الا أنها مضيئة بشكل يبهر أنظاره... كيف ستكون وسط فستان انيق يلتصق بمفاصلها الانثوية و حذاء عالي الكعبين؟ أو... بدون أي شيء سوى هذه الشلالات الامنتهية من الشعر الامع الذي لا يبدو انه عرف الحلاق يوما، رآها تخطوة مبتعدة عن شقيقها، و للمرة الثانية لا تمشي بطريقة طبيعية، هل أصيبت في كاحلها؟
" تنوي حلق أشجار الزيتون؟؟" بدت مصدومة أمام هذه الحقيقة.
" بل إعادة بناء هذا الجزء فقط من المعصرة... "
شعر بأنه مضطر لهذا الشرح كي يبعد القلق من مقلتيها الكبيرتين، بدت مرتاحة لهذا الشرح وتخلله السرور لذلك، اندفت تقول وهي تلقي نظرات دائرية من حولها:
" في عمر السابعة كنت أعمل في حقول الزيتون... دون يانيس ايميليانو كان شديد السخاء مع العمال، لسيما الأطفال منهم، يمنعنا من المجيئ خلال الأسبوع، يقول بأن الدراسة أهم، و يقبل بنا خلال العطل الموسمية و نهايات الأسبوع و يكون أجرنا مثل أجور البالغين... للاسف أن المعصرة توقفت منذ سنوات... كانت أيام جميلة..." ابتسمت ملئ فمها و أحاطت عنق الصبي بذراعها:" بما اننا حصلنا على الإعتذار مارسيلو سنترك المالك الجديد و شأنه... اقامة سعيدة سيدي"
و أدارت له فيرنا ظهرها، صاحبة الشعر الطويل لا تملك أدنى فكرة على نوع الزوابع التي تركتها خلفها، لم تلقي نحوه نظرة أخيرا،انه لا يهمها أكثر من الأشجار التي تتركها خلفها، رآها تعرج، تجر ساقاها اليسرى التي تترك خطا خلفها، أقطب... و قبل أن تبتعد أكثر وجد نفسه يناديها:
" هيه... يا صاحبة الشعر الطويل"
توقفت و استدارت نحوه، عينيها متسائلتين و مشتعلتين في العتمة التي تسللت خلف غروب الشمس، لابد أن اللقب الذي اختاره لحورية عدن يفاجئها:
" طلبت خضار بيولوجية من والدك... هل يمكنك جلبها لي غدا؟؟!"
" سأطلب منه المرور لا تقلق سيدي..."
" أجلبيها أنت "
تحجرت ملامحها، يمكنه رؤية علامة الاستفهام الكبيرة في عمق نظراتها:
" لا يمكنني المرور.. أنا أعمل"
" بعد العمل..سأنتظرك."
لكنها لم تجبه، عادت تمنحه ظهرها و تتوجه الى المخرج، ثنورتها الطويلة تمنع عنه رؤية المصاب في ساقها، الكاحل؟ الساق؟ الركبة؟ كيف لها ان تعمل في ظروف صحية مماثلة؟ ام انها مجرد رضوض صغيرة؟ بجانبها الصبي الصغير الحافي، كان يمشي بكل بساطة و كأن الحرير تحت قدميه و ليس الاشواك و الحصى... كم هما غريبان... منظرهما البسيط أعاده الى حياته في الدير... عندما كان يعرف كيف يعيش بساطة الأشياء... اليوم، أمام عظمة ثرائه، لايشعر بأنه سعيد... لحسن حظه أن أوكتافيا في حياته.
* * *
" سيفيرانو في المشفى ، و أنوي الذهاب اليه، الأطباء يئسوا من حالته، برأيهم يعيش ايامه الاخيرة و على عائلته ان تكون بجانبه"
هز نيوس نظراته ببطى على وجهها، كان يراجع نتائج البورصة على طاولة الافطار، رأته يطوي الصحيفة بتمهل قبل أن يضعها على طاولة الفطور.
" و أنت فرد من هذه العائلة؟!"
لم تكن يوما فردا من عائلة سيفيرانو، صداقتها توطدت مع خالتها، أما روبي فهي روحها الثانية ولا تنوي تخيب أملها بينما تتوسلها بالمجيئ الى صقلية لتحقيق آخر رغبات العجوز سيفيرانو قبل أن يرحل الى الأبد، هذه الأخيرة وصلت من أمريكا أمس.
وضعت يدها على حملها ذو السبعة أشهر، شتان بين هذا الحمل و الحمل الأول، الذي أمضته هاربة و منبوذة، تحول نيوس من حقير الى زوج مثالي، وعوده في ذلك المستشفى في لوس انجلس لم تكن وعود من إسفنج، ما ان تقدم حملها حتى استقرا في أثينا، زوجها يعمل من مكاتبه الاثنية كي يدير شركاته المتعددة الجنسيات، وجدا نوعا من التوازن في حياتهما، و لتقل أنهما بدأ بالتعرف على بعضهما بطريقة صحيحة هذه المرة... آريوس شفي ، لكنه تحت مراقبتها و اشرافها الشخصي.
" العائلة الوحيدة التي عرفتها هي عائلتنا نيوس..." قالت له بهدوء:" قبل أشهر طويلة جدا دخلت روبي حياتي و توطدت علاقتنا ثم حذتث أشياء كثيرة ، من ظمن تلك الاشياء وجودي اليوم على مائدة افطارك... لكن تعلمت التسامح مع نفسي و هذه أجمل العلاجات النافعة... و كي استمر قدما فتحقيق رغبة سيفيرانو الاخيرة برؤيتي سيقلب صفحة الماضي نهائيا... "
رأت تفاحة آدم تطلع و تهبط في حلقه، كمن ينوي خوض حذيث محتدم و نشر اعتراضاته، لكنها من تهرب بنظراتها التي اشتعلت بعنف بإنتظار هجومه.
" لن تمنعني..." تمتمت بصوت صلب.
" الدخول في المشاحنات آخر اهتماماتي ديامانتي... " ان كان يغلي داخليا فلا شيئ يتركه يظهر على السطح:" متى نذهب؟؟!"
" نذهب؟؟ ستأتي معي؟!"
" برأيك سأترك زوجتي تتنقل ببطنها و تعرض نفسها و الطفل الى الخطر؟! طريقنا واحدة حبيبتي... سأكون دوما بجانبك"
عندما مد يده ليلتقط يدها تركته يفعل، كلامه حلو، و هذا الدعم ما تنتظره منه، بغض النظر عما سيحذث في صقلية، نيوس يقترح أن تمر هي قبل أعماله، هل كانت تتمنى أكثر من هذا؟! ان يمد لها يده لتضع فيها يدها دون انتقادها ولا تعنيفها، ابتسمت له بلطف:
" شكرا لك..."
" وعدتك أن أكون دوما بجانبك... " امام صمتها تابع" رغم مرور الوقت لا تثقين بي؟"
" احتاج للثقة بك، انت زوجي ووالد ابني و الطفل القادم"
"أطمح لاكثر من هذا" وضغطت اصابعه اكثر عليها " اخطأت بحقك طويلا و اتمنى شراء اخطائي و استعادتك... المرأه المهذبة جدا معي لا اعرفها، خذلتك و فقدت حبك انا واع بهذا... انت معي لان بيننا أطفال و لا خيار لك و ليس لأنك تعشقينني"
لم تعلق على كلامه، سحبت يدها من يده و التقطت عصيرها شارذة بتفكيرها بعيدا، لم يحاول مقاطعتها، لكنها كانت تشعر بنظراته تحرق بشرتها، لم يعد يملك هما اكثر من انتزاع اعتراف حب منها، الشيء الذي لا تنوي منحه اياه أبدا، قتل العاشقة في داخلها و عذبها كفاية كي تنزلق مجددا معه في أرض مليئة بالألغام... أصبحت تفهم جيدا شخصيته، فما ان تظهر له ضعفها حتى يعود لعاداته القديمة، وهي لا تنوي مطلقا العودة لسواد الماضي، لقد غيرتها الأيام، و صارت تعيش بطريقة افضل، انها تشعر بسلام داخلي عميق، حتى انها فكرت بزيارة قبر والديها لتسامحهما على سر أصولها التي لم يفكر اي منهما اخبارها به قبل موته، تسامحهما لأنها وجدت أرق و ألطف أخت على وجه الأرض، من أجلها قررت التغير، و البدء من جديد.
عادت الى الحاضر بينما يتسلل لها صوت ابنها الذي التحق بهما على الشرفة، أنارت الابتسامة و جهها ومدت ذراعيها نحوه لكنه فضل الاتجاه صوب والده الذي التقطه من الارض ووضعه على حجره:
" ندين لك بإبتسامة والدتك..."التقت نظراتهما، لمحت تعبير يشبه يائس في عمقهما سرعان ما تمكن من حجبه، راقبته يطبع قبلة على جبين ابنهما و يعطيه الكرواسان التي يحاول التقاطعها،آريوس يفضل دوما احضان والده بالرغم من انها تخنقه بحنانها، و كأن الصغير خائف ان يتركهما نيوس ذات يوم و يحاول غرس مكانه في قلبه بكل الطرق." أخبرها كم هي رائعة عندما تبتسم...!"
ضمت الشال الصوفي على كتفيها و هربت بوجهها الى أشعة الشمس تستقبلها على بشرتها المتيبسة، ما هو غير معروف على نطاق واسع أن اليونان وجهة شتوية رائعة أيضا و ليس فقط في فصل الصيف، فعلى الرغم من أن المناخ بارد من ديسمبر حتى فبراير، إلا أنه أكثر اعتدالا مقارنة مع معظم بلدان العالم، وهي تعشق المناخ اليوناني، هذا ما يساعدها أيضا في الشفاء من جراح الماضي، ووضع نيوس قيد المراقبة الدقيقة، يمكنها ان ترفع رأسها عاليا دون أن تشعر بأنها المرأة التي داسها هو في الماضي بلا شفقة.
" اذهب لوالدتك آريوس ريثما أرتب مسألة سفرنا الى إيطاليا..."
التقطت منه الطفل الذي رفض بالتأكيد هجر والده له و بدى منزعجا، أبعدت خصلات شعره المعطرة عن جبينه و سألت نيوس الذي تأهب لمغادرة طاولة الطعام:
" هل من الممكن الرحيل اليوم؟؟"
" طلبات زوجتي كلها أوامر..."
أخدت نفسا عميقا و هزت رأسها ممتنة، شدت على شفاهها هامسة:
" شكرا لتفهمك نيوس..."
أدا لها ظهره قبل أن تلمح مجددا تلك النظرات الغامضة التي يرمقها بها من الفينة لأخرى، ربما يُعذبه برودها، لكنه السباق لهذه الجراح و الخنادق التي حفرهما بينهما و عليه شراء غفرانها التام مجددا... هوسه بالأمير تحول لهوسه بها... ينوي استذراجها بكل الطرق الممكنة و عنادها يؤذيه بشدة... آلامه باهثة أمام الجحيم الذي عيشها في خضمه و لن تتنازل مطلقا.
* * *
" أنا لم أسمح لك بالدخول..." صرخت ميغان و هي تقف من وراء مكتبها مكشرة عن أنيابها و مخالبها و حتى نيرانها.
" و أنا لم أطلب إذنك..." أجاب لوكا وهو يغلق بقوة الباب خلفه ليواجهها كوحش كاسر.
رداء سيدة أعمال ناجحة يليق بها تماما، كانت رائعة وسط طاقمها، ثنورة ضيقة سوداء و كنزة حمراء، شعرها أشبه بلون القمح الطازج في ظفيرة غنية فوق كتفها، عينيها متفجرتين بالغضب، مايراه أن كل طاقمها تلقى أوامر صارمة جدا بإبعاده عن مكتبها، بقيت اتصالاته معلقة في الفراغ بينما تتجاهله منذ أيام.
" مالذي تريده مني لوكا مارشال؟؟ لما هذه الفوضى في قلب الشركة؟! تتصرف كهمجي حقيقي..."
" أتصرف كهمجي عندما تقرر المتحضرة العفيفة تجاهلي... " صرخ على بعد سنتمترات قليلة من وجهها الى ان تطايرت خصلات شعرها الذهبية بعيدا:" أخبريني لما يغير كيليان تصرفه نحو شقيقتي بعد زيارتي لك مباشرة؟؟ أي سموم قذفتها كي ينوي حرمانها من ابنتها ان لم توافق على ترك عملها؟!..."
بدا التردد على وجهها، و كأنها متفاجئة من كلامه، لكنه لا يثق بها، آه كلا... ميغان تجيد التمثيل، كيليان قرر الاقتصاص من ايموجين بعد زيارته مباشرة، يمكنه تذكر الهلع الذي اصاب شقيقته بينما تتوسل اليه ان يكلمه و أن يجد خيار غير الذي يقترحه، لكنه صار يعرف طباع زوج شقيقته، لا يتنازل عما يريد و لا يغير رائيه، كل هذا بسبب هذه المرأة... كي تنتقم منه تستعمل عائلته، و تتلاعب بزواج شقيقته.
" أنت أعمى لوكا... أعمى لدرجة أنك لا تريد رؤية ما لا تريد رؤيته... أنت تائه في مستنقع لا قعر له و تلومني لسذاجتك و غبائك... "
" هذا المستنقع هو الذي سيجرفك لقعره اللعين ميغان... أنت تجهلين لمن تتصدين، تجهلين ما أنا قادر عليه ..."
قاطعته بغضب و عيناها تبرقان مثل القطط الشرسة:
" إن كنت قادر على شيء فتصدى لكيليان بدل مهاجمتي... لا علم لي بما حذث بينهما مؤخرا، و سبق و أخبرتك بأنه لا علاقة لي بدمار زواجهما لما أنت معمي و ترفض الرؤية... أنت حقا سخيف و مثير للسخرية"
" سأكون مثير للسخرية ان صدقت ادعاءاتك، يمضي معك كيليان من الوقت أكثر مما يمضيه مع زوجته و تدعين أنك تعرفين ما يحذث؟؟ لكن لن أقف مكتوف اليدين ميغان... لن تصلي لمرادك، ان كان هو ينوي استبدال شقيقتي بك فسيعرف قريبا أي نوع من الحثالة تكونين..."
استحق تعنيفه القاسي صفعة مدوية، كانت تهتز أمامه مثل أمواج من الصهارة البركانية، أشارت له بأصبعها مهددة:
" اياك و التقليل مني مجددا...لست السبب ان كانت شقيقتك زوجة فاشلة و عاجزة عن القيام بواجباتها كما يجب..."
أمسك بالأصبع الذي تهدده به ليلويه بين أصابعه الى أن توجعت:
" أنا رجل سيء جدا ميغان، هذه السمعة التي تتفاخرين بها سأقوم بتدميرها كليا... تعتقدين نفسك مهمة بعد أن لعبت بعقل كيليان كي يستئمنك على أعماله و يختفي في روسيا؟ لكن التذكير سيفيدك، انا لست سهلا و لا أملك ضعفا نحوك، سأدفعك ثمن مكرك، سأغرقك في خطاياك و أشربك مرارة تعاسة شقيقتي"
استعادت أصبعها المتألم منه، و رآها تفركه بطريقة مندفعه:
" فلتمت في غرورك لوكا... احذرك بأستدعاء الشرطة إن قررت في المرة القادمة اقتحام مكتبي بهذه الطريقة و الصراخ أمام الموظفين... فلنرى فيما سيفكر الرئيس أمام تصرف بربري مماثل"
" لما لست متفاجئا!... استرعي اهتمامه مجددا و تصرفي كالضحية و انشري الدمار في عائلتي... لن تنجحي أيتها الكلبة القذرة ،ايموجين ستلحق بزوجها حتى و ان كان الثمن غاليا, لن تفيد تحريضاتك بشيء"
" ان تبرز عضلاتك على امرأة لا يجعل منك رجلا أيها القذر ..." أشارت نحو المخرج :" أخرج فورا من مكتبي و اياك أن تعود...اسطوانتك أصبحت مزعجة في مسامعي و سأصلي كي تخلصك السماء من غرورك و الان أخرج من مكتبي و ابحث لك عن لقاح ضد الغباء فهو موجود لأمثالك"
" نفسه الذي لقحتي به؟؟ لا يبدو فعالا كما أرى..."
اصفرّ وجهها من الغيض لكنها لم تجيب، افسحت له الطريق ليخرج من المكتب، الشيء الذي فعله فرائحة عطرها تسبب له موجهة من الغثيان، كان الموظفون في الجناح خارج مكاتبهم، يبدو أن اصواتهما العالية استرعت اهتمام الجميع.
" لوكا؟"
قرب المصعد لمح بريتني التي تهرول نحوه، لكن هل توجد نهاية لهذا اليوم المريب؟! كأن النار المتأججة بداخله يتم رمي المزيد من الحطب بداخلها كي تتأجج أكثر... ميغان لا تتوقف عن تحطيم قلبه، و كأنها تعرف بأنه مازال ذلك الغبي الذي سقط فورا تحت سحرها في المرة الأولى التي رآها فيه و تفهم جيدا ضعفه نحوها.
" يالها من مفاجئة... رؤيتك في الشركة!"
بقدر ما كانت ميغان شقراء، بريتني سمراء وجذابة حتى الجذور، كانت علاقتهما غلطة مريبة، معروف على كيليان اختياره للنساء الجميلات و يحيط نفسه بهن عمليا، كأنه ملك يتوسط جواريه، كما هي محركات ارشيبالد، كل شيء فيها ينم عن الذوق الرفيع، لكن ان يعرف بأن تمة ما ينمو بين حبيبته السابقة و زوج شقيقته يجعله ميتا من الغيرة، بالرغم من انكار الاثنين للموضوع الا انه ليس غبيا... هناك انجذاب بينهما، و كي ينقد زواج أخته عليه التدخل و بسرعة، قبل ان يحط كيليان رسميا في سريره مديرة أعماله مكان ايموجين.
" مالذي تريدينه بريثني؟؟"
" ياله من إستقبال... أرى بأن النمرة أفسدت مزاجك..." رددت ببعض السخرية:" لاحظت أيضا بأنها المفضلة لدى الرئيس؟ يزعجك أن حبيبتك السابقة عشيقة سرية لطليق شقيقتك المستقبلي؟"
اذن فليست مسألة توهم،كل الموظفين يشكون في نوع العلاقة بين الرئيس و موظفته الحسناء، وهي التي تحاول ايهامه بالعكس كي تربح الوقت لإسقاط ضحيتها في شباكها تريد فحسب تشويش الحقائق:
" شقيقتي لم تتطلق بعد و هي في طريقها لزوجها، بالنسبة لحبيبتي السابقة فلم تعد كذلك... نحن نتواعد مجددا... يمكنك اطلاق مكبرات الصوت..."
هذا فعلا المتبقى له، ايهام كيليان بأن حبيبته السرية خائنة و الظهور علنا معها، لم يتبقى له سوى معاودة اغرائها كي ينبذها زوج شقيقته للأبد، ولما لا ابعادها عن اعماله و اشرافه الشخصي مجددا، هذا أيضا ما سيعيده الى هنا، ما ان يفقد ثقته في ميغان حتى تتحسن الأمور.
" تخرج مجددا مع ميغان؟؟ هل هذه مزحة؟؟"
" في الحقيقة لم اتمكن من نسيانها، حتى معك 'بريتني'، و الأن إعذريني"
اختفى خلف أبواب المصعد و لم تفته ملامح المحامية الساخطة.
* * *
" صحتك تتقدم ... الاشعة الأخيرة كانت مرضية... لاأرى شيء يدعوا للقلق"
شعر خوسيه بالراحة العارمة أمام هذه الكلمات، احيانا قلة الحظ تكون حظ للانسان، الظروف قررت تركه حيا و منحه فرصة اخرى للعيش، سيكون بإمكانه رؤية طفليه يكبران أمام عينيه، و ينوي استغلال وقته معهما.
" شكرا دكتور، لكل ما فعلته من أجلي..." تمتم خوسيه وهو يرتدي ملابسه بعد ان انتهى الطبيب من الفحص الروتيني." موعد الولادة يقترب و انا متحمس للغاية... لا اريد ان يفسد شيء سعادتي"
ابتسم الطبيب بتسلية وهو يطهر يديه بالمعقم قبل ان يأخد مكانه خلف مكتبه و يشير لمريضه بالجلوس على المقعد.
" أخيرا ستصبح أبا..."
" و أنا مستعد صدقني... حتى انني نظمت أموري كلها كي اكون في البيت خلال أشهرهما الأولى..."
قهقه الطبيب عاليا مما دفع الابتسامة لشفاه خوسيه، يتذكر بهجته الاخيرة بتحسس حركات الطفلين في بطن والدتهما، كيف سيكون شعوره عندما يأخدهما بين ذراعيه؟! عندما يتطلع لوجهيهما؟! لعينيهما؟! هل سيشبهانه أم يشبهان والدتهما؟ أي كان فهذا ليس مهما... المهم أن يكونا بصحة جيدة!.
" أرى أن الزواج يليق بك..."
التعليق على هذه الملاحظة سيكون سخرية، لكن على الأقل هذا ينبش مشكلة أخرى و عليه أخد رئيه بها:
" أملك بضع الصعوبات منذ العملية..."
أقطب الطبيب و بدى الإهتمام على وجهه:
" صعوبات مثل ماذا؟؟"
التقط أنفاسا، فالموضوع صعب لسيما لرجل نشط مثله:
"اضطرابات جنسية, لم يعد بمقدوري... أمم... أنت تفهم...لدي مشكلة الانتصاب... أريد ان أعرف ان كان لهذا علاقة بالعملية و العلاجات؟!"
هز الطبيب كتفيه، يبدو متفاجئا لكنه رد بمهنية:
" من الناحية الجسدية أنت تحسنت و لا تعاني أي علة ولا أرى مشكلة في ممارسة حياتك الجنسية بطبيعية، تحاليك جيدة تستعيد نشاطك ثلاث مرات أسرع، أظن هذا ناجم عن الضغط النفسي... أعرف الكثيرين يفشلون مع زوجاتهم الحوامل..." هو فشل مع جوليانا و لا علاقة لـآيا بالموضوع، بالتأكيد لا يمكنه شرح هذا لطبيبه، بأنه يملك امرأة أخرى لجانب زوجته:" هل ترغب بأدوية؟!"
هز خوسيه رأسه بالرفض، هذا حقا ما ينقص، أن يبدأ بإستعمال الأدوية، هو الذي لم يعاني مرة في كل حياته مع ...
" يستحسن أن أمنح نفس وقت أكثر، أظنك محق وهذا عائد الى الإجهاذ و القلق..." علق بدبلوماسية.
" ستنجب زوجتك قريبا و سيتغير جسمها و هذا بالتأكيد سينهي المشكلة ... تعود المسألة في مجمل الوقت للاضطراب النفسي... و أنت خوسيه... تحب النساء الجميلات و الكاملات "
المشكلة في رغبته في جوليانا؟! معقول أنه ملّها لدرجة أن جسده يرفض التجاوب؟! لم تكن المرة الأولى التي ينهي المسألة قبل أن يبدأها، جوليانا بدأت تفقد صبرها، وهو رشده، ظن أن الموضوع يتعلق بعمليته، لكن ظنونه تنقشع اللحظة أمام تفسيرات الطبيب، ان كان الأمر جسدي محظ، لما شعر بالتجاوب مع آيا بينما يراها سمينة و نقيض ما يرغبه في امرأة؟؟ لما شعر مجددا بذكورته تتجاوب معها و ليس مع جوليانا التي تملك جسد خلق للحب؟! عندما ودع الطبيب شد هذا الأخير على يده بحرارة:
" في المرة القادمة لن تنسى جلب صور طفليك معك هيه؟! ...اثوق لرؤيتهما"
" أنت طبيب العائلة... و ستراهما بإستمرار"
في المساء، احضان جوليانا لم تكن كافية لحل مشكلته، بقي من رخام امامها مما دفع غيضها لحده، هو الذي يثوق للكمال في كل شيئ يترك عشيقته غير مكتفية بجانبه، تتطلع اليه بقلق:
" لم أعد اثيرك، هذا ما في الموضوع..."
" انا مرهق منذ العملية جوليانا... تعالي الى هنا حبيبتي"
إحتك جسدها الأنثوي الناعم على صدره، ضمها اليه وقبّل رأسها ثم وضع عليهما الغطاء :
" خوسيه؟؟"
" أممم؟!"
" قريبا سنحتفل بأربع سنوات علاقة... ماهي هديتي؟؟ هل سنسافر كالسنة الماضية؟! أظنك أنهيت مخزونك من الهدايا، أنا أكثر النساء اكتفاءا هل تعلم؟!"
ابتسم بين خصلات شعرها، و داعب بشرة كتفها الشاحبة بأصابعه:
" أنا سعيد لأنني دللتك كما تتمنين... "
تسللت نغمة ضحكتها لمسامعه، و لعبت ببشرة صدره العارية وهي تقول:
" يجب أن أعترف لك بشيء... عندما تزوجت، ظننت أنك ستتراجع عن كلمتك معي، بأنها مسألة وقت فحسب، و كم كنت خائفة، فما يبقيني معك مشاعري خوسيه و ليس الماس و الفراء، لا توجد حقيقة أخرى... أمامك أنا نفسي، و أحب ما بيننا، أعرف بأنك لم تكن وفيا لكنك تعود لي في النهاية، و هذا كافي لسيما بعد أن تدرك بأنني المرأة التي لن تأخد مكانها أخرى، بأنني أنا من تريدها و ليس زوجتك... " هزت وجهها نحوه و برقت عينيها الشفافتين:" ستتطلق بعد الولادة كما وعدتني اليس كذلك؟!"
أتت الى رأسه كلمات مشابهة لآيا:
{ هل سنتطلق بعد الولادة مباشرة؟}
الكل أصبح يطرح عليه هذا السؤال مؤخرا، و المساندة الرسمية لأيا هي والدته بلا منازع، التي ترفض سماع أي شيء يخص معاملات تنهي ما سعيت له منذ سنوات، ابنها الوحيد متزوج، و تعمل ما بوسعها ليكون زواجا حقيقيا، حتى تحمّل كنة لا تمث بصلة لآمالها القديمة، شخصيا... هذا ما يريده؟؟ أن يحرر الصغيرة التي اشترت بيتا جميلا و زرعت في أركانه الحب و الدفئ و تنتظر الفرصة لتنزع منه طفليه رويدا؟.
" لما تظل صامتا...؟"
" لأنني لا أفكر حاليا بالموضوع..." قال ببساطة:" آيا زوجتي... ستبقى كذلك"
وهذا القرار اتخده منذ سرقته مفتاح آيا ذلك المساء و التسلل في الليل نفسه الى البيت الذي جهزته بمجهوذها الشخصي، اصرارها بمثابة تحدي له، يرى في كل ركن من بيتها رغبتها في الاستقلالية و التحرر، و هو غير مستعد للتخلي عما يعود اليه، لن يعيش طفليه بين أبوين منفصلين، أزعجه أن تبلي حسنا دون مساعدته، استغلت شهريتها لتوفر و تستثمر كل قرش في مشروع بيت يزن ثروة صغيرة، الصغيرة تملك حس الأعمال، و بدل أن تدلل نفسها بما تشتهيه النساء وفرّت و أمّنت مستقبلها، وهذا... يُغيظه.
" غيّرت رأيك؟" سألته وهي تبتعد عن صدره و تستنذ على ذراعها:" لم يكن هذا قولك قبل أشهر... كنت أعرف أنها تعجبك... خوسيه أنت كذبت علي قلت لي بأنك ستتخلص منها ما ان تمنحك الطفلين"
" ثم غيّرت رئي و أرفض أي أزمة من أزماتك جوليانا"
اتسعت عيناها و أبقتهما عليه قبل أن تقرر تركه و التقاط قميص نومها، انه يعرف جيدا ما تنويه، و من الأفضل له الخروج من هنا، انه مرهق لتحمل أزماتها، جوليانا موهوبة في تحسيسه بالذنب، القى بدوره الأغطية جانبا و ارتدى ملابسه على عجل، بشاعة ملامحها لا تنذر بخير، انها العاصفة التي تنوي جرفه معها.
" دعني ألخص لك الموضوع خوسيه... ان أبقيت تلك الفتاة في المكان الذي انوي اخده فأنت تضيع وقتك اذ لا أنوي البقاء في الظل أكثر و لعب دور العشيقة الى آخر أيامي... أستحق مكانة أفضل، و تلك السحلية الصغيرة التي التقطتها من المستنقع لتجعل منها سيدة القلعة ليست أفضل مني... أنت أخطأت في حقي... أخطأت في اختيار غيري لتحمل بأطفالك... منذ بداية قصتنا لم تمنحني القيمة التي أستحق، استعملتني كجسد دون عقل و أغريتني بالمال، لم ترى عمق مشاعري و لم أكن مناسبة لحمل خاتمك لأنني راقصة و تزوجت طفلة في عمر ابنتك..."
" هذا يكفي..." قاطعها بهدوء.
" لن يكون كافيا بالمرّة..." صرخت به فاقدة لصبرها:" و الأن هذا... لست قادرا على لمسي و تحط اللوم على عمليتك بينما كلينا يعرف بأن اهتمامك بي قل منذ دخولها حياتك..."
جلس على السرير ليرتدي حدائه، و بينما يقوم بلف حبائله جلست جوليانا على ركبتيها أمامه، أمسكت بيديه:
" قل بأنك ستنهي الموضوع..."
أبعد يديها ووقف في مكانه:
" فلننهيه جوليانا... دعيني اخبرك شيئا، اذا رغبت بالطلاق يوما فلا نية لي بإتخاذ عشيقتي كزوجة، منذ البداية لم اعدك بشيء و ما افعله في حياتي الخاصة لا يعنيكي، انا رجل حر تماما اتزوج من اريد، وكان لبقائك بجانبي ثمن فلا تشوشي افكارك بمشاعر تافهة لأنني رجل غير قادر على الحب... أنا اعرفك جيدا لذا وفري علي وجع الرأس لأن لا مزاج لي ولا رغبة لي بالتغير من أجل مخلوق... تقولين بأنك غير قادرة على لعب دور العشيقة أكثر؟ فليكن، أنا أحررك فابحثي لك عمن يرغب في بناء أسرة و منحك اطفالا، لا أنوي منح ظهري لأسرتي، مهما يكن زواجي صوريا فهذا يخصني فقط و أمنعك من التدخل"
هزت ذراعيها بجانبها، كان وجهها مصفر:
" هذا كل شيء؟؟ تتنتهي صلاحيتي هنا؟! بسبب سحلية المستنقع؟!"
" لا تتكلمي عنها بهذه الطريقة فبالرغم من أنها في مكانها الشرعي ، مطلقا لم تنتقص منك يوما... قد تكون من وسط اجتماعي مغاير لكنها تملك من المبادئ ما ينقصك عزيزتي... و أنت محقة في شيء، انها تعجبني لهذا تكبدت مشقة ربطها بي للأبد "
فتحت فمها لتتكلم لكن لا صوت تجاوز شفتيها، التقط هاتفه و أغراضه القليلة و توجه نحو الباب.
كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل عندما تسلل الى جناح آيا، هذه الأخيرة نائمة على جنبها، ضوء مصباح الشوفيه ينير بأشعته الذهبية تدويرة وجهها الممتلئ، كانت غارقة في سبات عميق، طالما تمتعت زوجته الصغيرة بنوم ثقيل شبيه بنوم الأطفال الذي لا هم لهم، جلس برفق بجانب السرير الذي اهتز تحت ثقله و أبعد خصلة شعر عسلية متمردة متلذذ بملمسها الناعم، كانت تتنفس البراءة بملامح وجهها الساكنة، من يراها يقسم أنها لا تخبش، و لا تملك مخالب بالمرّة... اليس هذا ما جذبه لها في أول يوم سقطت عيناه على منصة المزاد و لمحها؟ الفكرة الثانية كانت كالتالي، أن تكون بجانبه... الصغيرة كشفت عن عزيمة لم يشكها خلف نظرات الفزع التي تهزها نحوه كلما تواجد في محيطها، و يفضل الموت على الاعتراف لنفسه بالغيرة التي تتآكله من كارلوس ابن السائق... يكفي انه يحصل على ما لاحق له به... ابتساماتها.
وهي تخطط لهجره، جهزت أرضها سلفا دون العودة اليه و التشاور معه، اليس هذا اتفاقهما؟ لم تحترمه و تنوي وضعه امام الامر الواقع، كما فعلت بشأن الجامعة و تمردها على واجباتها كسيدة القلعة، لا تنوي التغير من اجله، تحتفظ بجلدها الذي أتت به و ترفض استبداله، وهل هناك من ادارت ظهرها لهذا الترف و تنتظر فرصة التحرر منه؟ حتى جوليانا تم شرائها و قبلت بتشاركه مع غيرها، و تتفرد زوجته بأفعالها... تكرهه لدرجة انها تفضل حياة بسيطة على البقاء بجانبه.
{ لن أغير رئي خوسيه, حان الوقت لتبحث لك عن بديله}
تذكر كلماتها عندما زارها في المجر معتقدا انها ستقفز امام اقتراحه بأن تصير عشيقته الرسمية، كل ما حصل عليه يومها هو ازذرائها، لم تخفي نفورها منه وهو لم يجد لها بديلة حتى بين ذراعي جوليانا. الجميلة و المرغوبة جدا جولينا، و كم كانت مصيبة عندما اتهمته بفقدانه لكل اهتمام اتجاهها، تغيرت مشاعره مع الوقت، كانت محقة في كلامها... لم يكن وفيا لكنه يعود دوما اليها، يعتبرها ركيزته و مقره، و هذا ضاع بدخول آيا حياته... المكان الوحيد الذي يشعر به مكانه هو هنا... بقربها.
لكنها تفضل رفقة ابن السائق... سيخب أملها عندما تعرف بأنه رحل، بأمر منه... لا ينوي الاحتفاظ بمنافس تحت سقف بيته، لاشيء يملكه ضد الشاب سوى وسامته و تقربه المحرم مما يعود له، هو ليس غبيا كي لا يرى النظرات العاطفية التي يحطها على آيا... نظرات اعجاب و تقدير و حب...ذلك الشاب مغرم حتى أدنيه بها.
انحنى على وجهها ليلامس بشفاهه وجنتها قبل أن تنزلق نحو زاوية شفاهها المنفرجة، كانت تتنفس من خلالهما، عادة صار يعرفها، طالما راقبها خلال سباتها العميق في الثلاث اسابيع التي امضاها برفقتها، أحيانا تشهق ايضا في نومها و كأنها جرو صغير يحلم انه يركض وراء أمه.
" يا صغيرتي تمردي ما تشائين، لكن اسواري عالية و قوائمك صغيرة "
القى نظرة اخيرة عليها قبل ان يقرر هجر مكانه، وجد حقيبة يدها في الصالون ،اعاد اليه مفتاح بيتها و غادر المكان بنفس الهدوء الذي دخل فيه.
* * *
" سوف تحزمين اغراضك و تتبعين زوجك و هذا لا نقاش فيه ايموجين"
لم تجب على كلمات والدها، تركت ناومي تدافع عنها بسلسلة لا متناهية من التبريرات المعقولة، ما تعرفه الان ان كيليان لم يحبها يوما، و بأنه اختار عملها ليحاربها به، يمنحها الحل المسموم، المخرج الغير آمن، فما الذي ستفعله النساء عادة في مكانها؟ احتاجت لسنوات طويلة من العمل الجاد لتصبح طبيبة، ما نفع معرفتها كاملة بالتشريح والعلوم الفيزيائية والبيولوجية ، ومعرفتها التامة بالتكنولوجيا المعلوماتية، اين تضحيتها امام ليالي من الارق و الاجهاذ؟ تبقى مجرد امرأة مهما علت مهنيا، في نظر والدها الذي يرفض أن يهدم طلاقها طموحه السياسي، و بنظر زوج منحها اسمه فقط كي يضمن شرعية ابنتهما، اي طريق عليها اتباعها؟
ان اختارت عملها، فهي أم و زوجة سيئة و لن يرحمها الناس، و ان اختارت اسرتها و ضحت بالطب... فهي سيئة بنظر نفسها، مشقة سنوات من الدراسة المضنية ستغلقها في حقيبة و تهملها في ركن مظلم لن يتذكره أحد... كيليان ينتقم منها... اختار أسوأ ابتزاز لها، و يبدو أن عائلتها تسانده، برأي والدها كما شقيقها ان رجل بمكانة زوجها لا نجده في التخفيضات، و أن عملها لا شيء أمام فضاعة فقدانه...
هناك علامه استفهام كبيرة بينها و بين مشاعرها، الحب الذي تحسه نحوه غلفته المرارة، منذ أيام لا تنام بسبب الكراهية التي اشتعلت في ذاخلها، أمضت سنواتها الأخيرة في بناء امبراطورية حقيقية، مراهم ايموجين المعجزة يتم خطفها حتى قبل أن يتم وضعها في الرفوف، و كانت نبيهة في اختيار أشد الأطباء خبرة لإدارة مستشفياتها، تلك المستشفيات التي كثرت بفضل جهوذها الخاصة، و أصبحت سيدة اعمال و ليس فقط طبيبة عادية، تعلمت التحدي من كيليان، و ذات يوم، قرر أنها لا تناسبه، هو الذي تغازله النساء حتى بوجودها، يرغب بالتأكيد استبدالها بميغان، الجميلة و المثيرة جدا ميغان، ترى الرقة تغمر نظراته كلما تطلع اليها، وهي في غضون الست سنوات لم ينظر لها يوما بتلك الطريقة الودية، لم تكن سوى شبح أمامه، كل اهتمامه لأوكتافيا... انه مستعد لبيع روحه من اجلها.
" لن أدخل في حرب عدلية مع أشد رجال أعمال سطوة و قوة، هذا لا يناسب خططي المستقبلية.." سمعت صوت والدها يقترب أكثر منها، هزت نحوه نظراتها دون ان تقول شيء:" لست بحاجة للعمل بقدر حاجتك لإدارة أعمالك عن بعد... أطبائك من اكفئ الأطباء و تملكين فريق اداري شرس، اين العيب أن توهميه بأنك موافقة الى أن تتحسسن الأمور بينكما و تعودين الى ميامي لإستئناف حياتك؟؟ ذلك الرجل لا يمزح... خدي ما يقدمه لك قبل أن تفقدي أوكتافيا للأبد، لأنه سيجد طريقة شرعية لحمانك منها"
" الا تظن أنه من غير العدل أن تدير ظهرها لحياتها المهنية فقط لأن متعصب الأراء مثل كيليان قرر هذا؟؟" صرخت ناومي غير مصدقة.
" توقفي ناومي..." همست لها متوسلة:" ضقت ذرعا بالموضوع... عموما فكيليان تعمّد وضع هذه الشروط القاسية لأنه يعرف برفضي مسبقا... و أرفض أن أعيق أحلام أبي بالكونغرس... يتوجب أن استعمل عقلي أعرف.. لكنني أم قبل كل شيء و أحب أوكتافيا من قلبي... أرفض فقدانها"
" لا تسقطي ضحية تنبؤات أبي و لا تتخلي عن أحلامك و لا حقوقك الشرعية، من حق كيليان المطالبة بحضانة أوكتافيا كما هي من حقك... المحكمة ستكون عادلة..."
قاطع والدهما ابنته الصغرى، عينيه تشتعلان بنار سوداء:
" لا توجد محكمة سترفض طلب كيليان في الحضانة، و لست مستعدا لمطاردة عدلية طويلة أرفض أن تؤثر هذه المسألة على أعمالي، و بدل التفوه بالحماقات ناومي اهتمي بأمورك الخاصة... ان رغبت أيموجين بعملها فلتنسى أمر زوجها و ابنتها للابد... و الأن أرفض الكلام في الموضوع... هناك حل للمسألة و قد شرحته سابقا، ستدير اعمالها عن بعد و تثابر في كسب ثقة كيليان مجددا و اعادته الى ميامي... ستتصرف تماما كما يجب.... فسمعتنا في كفة، و مقعدي السياسي في كفة أخرى، و أمنعكما من أي فضيحة فهل هذا واضح...؟؟ كلنا تحت المجهر... كلنا"
عندما غادر والدها بقيت ايموجين مسمرة مكانها، عقلها متجمد بالمثل، لا يحاول سوى تحليل الوان الثياب التي ترتديها اليوم شقيقتها الصغيرة، ناومي القوية و المناضلة لحقوق المرأة، حتى انها لا تملك حبيب، ترفض أن يمتص أحد استقلاليتها و شخصيتها، و كيليان لم يكن المثال الجيد ليمنحها الأمل في الرجال، لسيما تصرفاته الأخيرة... أخرجت مخالب شقيقتها المتمردة.
" لا تسمعي لأبي و لا حتى للوكا..."
قاطعتها ايموجين بسأم:
" هذا يكفي... أنا وحدي من يقرر ... اهتمي بشؤونك الخاصة ناومي... و اتركيني وشأني"
" هذا حقا ما تريدين؟؟" صرخت بها بغصة:" أن أتركك و شأنك؟؟ أرى بأن تتعذبين و أنوي منحك مساعدتي و دعمي..."
" لست بحاجة لدعم أحد..." أقرت ايموجين بقسوة وهي تترك الكنبة لتواجه الشقراء الشرسة أمامها:" ان كنت غاضبة فتمرني في كيس الملاكمة اليس هذا ما تفعلينه عادة للتخفيف عن نفسك؟؟ ما لا تفهمينه هو أنني أريد خوض هذا التحدي الذي يضعني فيه و لن أحني رأسي، سبق و مررت بإمتحانات أسوأ و أنوي تجاوزها بنفس الإمتياز الذي حصلت عليه حتى اليوم، الشيء الوحيد الذي أخفقت فيه هو زواجي، و كيليان رجل جبار و أحتاج لطاقتي كي أتقاتل معه، لن يأخد مني ابنتي و لا أحلامي، حتى انني اتسائل فيما أحببته حقا بينما لم يحسسني يوما بأنني محبوبة أو حتى مرغوبة؟!... يحب أن يملك الكلمة الأخيرة، وهذه المرة... لا أنوي تركه يفوز علي... أرفض أن يهزمني بعد أن حطم قلبي و عاملني كشيئ دهسه بسيارته وانتهى امره... أرفض ان تفوز ميغان هل أنا واضحة... انه زوجي و أنوي استعادته"
كتفت ناومي ذراعيها فوق صدرها و أقطب جبينها:
" لا تقولي أنك الأخرى تصدقين أن ثمة علاقة بين الإثنين؟"
" ميغان انتهازية، لقد حطمت قلب لوكا دون ان تمنحه نظرة و وضعت كل طاقتها في اغواء كيليان الذي سارع بوضعها في منصب ضخم لا يناسب كفاءاتها المحدودة... ان لم تكن عشيقته فما هي بالضبط؟؟"
هزت ناومي كتفيها:
" صديقة و ابنة بلده... لقد اتى بها من روسيا منذ سنوات و برئي لو همته لما تزوجك انتي.."
" تزوجني لأنني تعمدت الحمل بأوكتافيا..."
هذا التصريح الذي انفلث من بين شفاهها جعل وجه شقيقتها يشحب، لا تنوي التراجع بعد أن اعترفت بما يؤلمها:
" كنت أعيش رعب أن يمل مني بينما النساء تلقي نفسها علي قدميه، رغبت بطفل و هو بالتأكيد كان حذر لدرجة أنه لا يلمسني سوى بإتخاد جميع الاحتياطات... فبركت جميع عوازله الطبية، جاء الحمل سريعا، و حصلت على عرض الزواج الذي كنت أحلم به... آه نعم... ستقولين لي انت مجنونة، نعم كنت مجنونة أنذاك... تعرفين ما كانه هو؟؟ تعرفين ما يعنيه ان يهتم بك رجل مثله؟؟ و كأنك تتجولين بقطعة لحم بين ذئاب جائعة لم تذق الطعام منذ أشهر... نعم اقتنصته، الحب أعماني و لم أفكر في نتائج أفعالي... و أنا آسفة لحماقتي... ربما حصلت على إسمه، لكنني لم احصل يوما على حبه... قلبه من حديد و لا مفتاح له ناومي... هذا سبب هووسي بعملي... رغبت بمحاربته بالمثل، أن أبرهن له بأنني لست فاشلة، حتى و ان لم أحصل على حبه يمكنني ان ارسم طريقا قويا في عالم الرجال... خلافا لكل التوقعات... نبذني و سئم مني... "
تجهم وجه ناومي، وعندما ردت كان صوتها جليدي:
" و أنت من يقول على ميغان انتهازية؟؟ أنت حقا تثيرين القرف... "
" ناومي..." نادتها ايموجين متوجعة.
" لوكا من لا يستحق ميغان و ليس العكس، هو خانها مع المحامية بينما أتت على فقدان شقيقتها و تركت لها طفلة رضيعة، وجدت نفسها بين ليلة و ضحاها أم عزباء، لا تلوميها بقدر لوم أنانيتك ايموجين، احتلت على رجل للزواج بك و لم تكوني أما و لا زوجة صالحة يوما... أنت توهمين نفسك بالتفاهات... تحاولين الظهور بمظهر الضحية ، و ربما تصرفات زوجك عادلة، ربما اكتشف خلال سنوات زواجكما ما لم تحاولي كشفه له وهو زيفك و لهذا وضع هذه الشروط القاسية... انها طريقته في الاقتصاص منك... و برئي هي طريقة عادلة..."
" صرتي ضدي الأن؟؟"
" صرت في صف أوكتافيا..." زمجرت بها ناومي و هي تحمل حقيبة يدها و تضعها على كتفها:" وحدها الضحية هنا و ليس سموك..."
* * *
بعد رحلة نهارية من سورينتو أبحر سانتو حول ساحلها الصخري و رؤية كهوف كابري الغير واقعية، تواصل مع ميغان التي ارسلت له التقارير الازمة و أجاب على كميات ايمايلاته الامنتهية قبل أن يقرر العودة الى عزلته و معصرة أسلاف الايميليانو منذ مئتي سنة، روكو رفض أي تعويضات مادية، رفض كل عروضه، و كأنه يشتري صمته، و ربما يشتري بهذه المعصرة راحة البال، يخاف ان يعود و يطالب بإرثه من يانيس، الشيئ الذي أكد عليه في لقائهما بأنه آخر اهتماماته، لكن و كما قال المتحري، يضل العرّاب المعلّم... و أستاذ الحذر، ملئ رئتيه بنسيم الطبيعة الخلابة و انتبه الى قطيع غنم من الجهة المقابلة، تعرّف فورا على ^ماوكلي عصره،^ مثل المعاد الصبي حافي القدمين، كان هناك كلبين معه يحاولان وضع القطيع في الطريق، وضع نفسه جانبا كي لا يعيق حركة الخرفان و نادى على الصبي الذي حاول تجاهله:
" هيه أنت ... دكرّني بإسمك..."
بالرغم من طبقة الاوساخ على وجهه يبدو الصغير حاد الذكاء:
" مارسيلو..."
انحنى عليه سانتو و وضع يده على كتفه:
" الا تذهب للمدرسة؟؟"
" بلى... أعمل بعد ان تغلق المدرسة..."
أشار برأسه الى قدميه:
" هل تملك حساسية من الأحذية؟"
" لا يمكنني استعمال حذاء المدرسة للعمل فسأثلفه، كما أنني أحب التمشي حافي القدمين... أركض بشكل أسرع "
رآه يضع أصبعين في فمه و يصفر عاليا و مثل السحر توقف القطيع عن الابتعاد، شيئ يثير الدهشة و الاعجاب، يبدو ان ماوكلي في محيطه تماما.
" أين شقيقتك؟؟"
أقطب الصبي و حك على جبينه المتسخة بطرف عصا الراعي التي في يده:
" لما تسأل عنها؟"
سؤال في محله، لما يهتم لأمر ابنة الحارس؟!
" و لما لا أسألك عنها...؟ " سأله سانتو ببراءة الشيطان:" أحتاج لمن يقوم بتنظيف المعصرة... "
الكلاب تدور من حولهما، تتطلع اليه ببعض الحذر، و كأنها مستعدة للانقضاض عليه ان أصدر الصبي الأمر:
" أظنها في منزل سنيورا فليبينا في هذا الوقت... فقد انقضى وقت التحكم في مياه السقي..."
" هذا هو عملها؟ سقي الأراضي؟؟" سأله إهتمام.
" انها تعمل عند العجزة، تراقب حاجياتهم و هي من يقوم بالتسوق لهم، وفي الصباح تكون في الفندق القريب... تنظف الغرف... بعد الظهر تساعد والدي في السقي..."
دفع يده في جيب بنطلونه و أخرج بضع أوراق نقدية، أمام دهشة الصبي قال له:
" يمكنك شراء حذاء للعمل ... اعتبر هذا تعويض على شدي لك أذنك ..."
" لا يمكنني قبولها... سيغضب والدي..."
" فليبقى السر بيننا..."
تمكن من اقناع الصبي بقبول النقود، و ككل رجل أعمال يستغل الفرص لابرام صفقة عرى له الصغير عما يريد معرفته بشأن شقيقته.
وجدها اخيرا، منزل فيليبيا لم يكن بعيدا عن فندق القرية الذي يفترض انها تهتم بغرفه صباحا، راقبها تحمل الاغراض من سيارة بيكاب قديمة كي تدخلها لبيت العجوز، هذه المرة لم تكن تضع الخرقة على رأسها، جدائلها الرائعة في ضفيرتين حول رأسها، كانت ترتدي نفس الثنورة الطويلة و كنزة مزركشة صوفية، تعرج مجددا وهي تقطع المسافة من السيارة الى البيت، في ضوء النهار فليرى ان كانت بنفس السحر ام أنها تقليدية جدا على ان تكون مميزة؟!
" صاحبة الشعر الطويل!!"
وضعت الصندوق على عتبة الباب الذي فتحته امرأة عجوز، راقبها تستدير لتبحث عن مصدر الصوت و تجمدت مكانها ما ان سقطت عيناها عليه، ادلف يديه في جيوب بنطاله الجنزي القديم و منحها اشد ابتساماته اغراءا، لكن لا يبدو ان هذا يؤثر بها، رآها تقول شيء للمرأة قبل ان تقرر الخطو بإتجاهه، كانت تميل اكثر على يسارها، مجددا تجر قدمها الثراب معها.
" أنت تعرجين... الا يتوجب عليك اخد قسطا من الراحة اليوم ؟"
"مرحبا 'دون سانتو'... أنا أعرج منذ طفولتي... انها اعاقة و ليست إصابة مؤقتة" جاء صوتها خشنا، المفاجأة يبسته مكانه" مصادفة غريبة... مالذي تفعله في القرية؟!"
عندما رآها على العتمة، شبهها بالالماس الخام، و الأن أمامه منجم بأكمله من الالماس الخام، نظراتها أكثر شحوبا تحت الشمس، وجهها متورد، الاوان الطبيعية حيث مكانها دون حاجة لأحمر الشفاه أو بودرة الخدود، رموشها الشديدة السواد متناقضة تماما مع بشرتها الصافية، هل يعقل ان كل هذا الجمال غير كامل؟ معاقة؟ كيف و لماذا؟.
" كنت أقوم بجولة .." شرح لها لطف:" أبحث عن منزل للايجار..."
هزت حاجبيها متسائلة:
" هنا في القرية؟ لن تجد شيئا مناسبا...لكن يمكنك الحصول على غرفة في الفندق"
" لا أحب الفنادق..."
" الجو بارد، المعصرة ليست مناسبة للاقامة..."
ابتسم لها:
" تخافين على صحتي؟"
أقطبت بعدم فهم:
" أنا منطقية... أقول ما أفكر به، من الجنون الاقامة في مكان رطب و بارد ..."
الا تفهم هذه الفتاة لغة الغزل؟؟ لا تبدو متأثرة بوجوده قيد أنملة، منحته ظهرها و أخدت صندوق كوكتيل خضر من صندوق السيارة، راقبها تجر رجلها نحو الباب المنفرج على المرأة المسنة التي لم تزل نظراتها الفضولية عليه، حاول عرض مساعدته لكنه تراجع، ليس هنا ليذكرها بإعاقتها التي على ما يبدو تتعايش معها بكل طبيعية:
" أنت أيها الشاب... إقترب من هنا..."
استجاب للمرأة المتشحة بالسواد، من عادة الايطاليات ان تتشحن بالسواد بعد موت ازواجهن لأخر أيام حياتهن، صاحبة الشعر الطويل دخلت البيت و تركته ورائها دون أن يتآكلها الفضول مما تريده منه العجوز:
" أنت المالك الجديد للمعصرة؟!"
" سانتو فارينا في خدمتك سيدتي..."
كانت تتطلع اليه ببعض الغموض، ثم أشارت الى الداخل:
" هل ترغب ببعض الشاي و البسكوت؟؟ قمت بتحضيره لأحفاذي... سيصلون غدا.."
كان ليرفض لو لو تكن الجميلة هنا، البيت جميل من الداخل كما هو من الخارج، حيطان حجرية و مدفئة حيث يحترق الحطب و يطرطق تحت السنة النار، الكنبات القماشية مرحبة، رآى صاحبة الشعر الطويل تضع الخضروات في سلة كبيرة، جلس على الكنبة حيث اشارت له العجوز، نظراته على حذاء الفاثنة المتهالك، هذه العائلة تملك مشكلة مع الأحذية، أم أن فردته متهالكة بسبب جرها كل الوقت أرضا؟ رآها تعرج نحو حنفية المياه، و تملئ سخان الماء ثم تبدأ بغسل يدها:
" دونا فليبينا أنا انتهيت... هل تحتاجين لشيء آخر؟؟" سألت بصوت عملي وهي تمسح يديها في ثنورتها الطويلة، تتعمد ارتداء الثنورات كي لا تسلط الضوء على اعاقتها على ما يبدو.
" اجلسي و اشربي الشاي هيا..."
التقت نظراتهما و شعر بأنه يغرق وسط محيط من ؤلؤ هايتي، تبدو منزعجة من تواجده لكن و لراحته قبلت بدعوة العجوز:
" فقط خمس دقائق..."
" هل يمكنك اقالتي الى المزرعة لاحقا؟..." سألها بينما تجلس في الكنبة المقابلة للمدفئة:" هناك ما أريد أخد رأيك به..."
نظرت اليه بضع لحظات قبل ان تهز رأسها بالموافقة، كانت متحفظة نحوه بشكل يثير استيائه، كانت مستقيمة في جلستها، راقبها تدفع ساقها اليسرى الى الأمام و كأنها توجعها، شعر بقلبه يؤلمه لرؤيتها تمسد على ركبتها قبل أن تتوقف عن هذه الحركة و تترك يديها في حجرها، كانت تتفادى النظر اليه، وهو يملك الالاف من الاسئلة في رأسه.
" هل كان يومك موفق؟" سألها فقط ليسحب نحوه هذا الوجه الذي يأسره.
" طويل و شاق مثل المعتاد..." ابتسمت وهي تمنحه ما يريد، التقت مجددا نظراتهما و لمح تلون خديها:" اذن فستبقى مطولا هنا؟"
" أسبوعين..."
في الواقع كانو ثلاثة أيام، لكنه غير رئيه بينما يرى ما تفعله كابري في أعصابه المشدودة، هذا المكان رائع حقا، انه قطعة من الجنة.
" انت تساعدين العجزة اذن؟؟" سألها بلطف.
"لا يمكنهم استعمال السيارات بسبب عمرهم لذا أخدهم للتسوق أو أتسوق بدلا عنهم و أخدهم لمواعيدهم الطبية و أحيانا للسنما... هذا هو عملي"
" يبدو ممتعا... أن تكوني دوما برفقة أناس لطفاء... " قال بصدق.
" انهم كذلك...اعذرني سأساعد فليبينا"
عادت المرأتين بصينية بها فناجين قهوة و صحن بسكوت منزلي، بحث عن النظرات اللؤلؤية دون ان يجدها، كانت تتهرب منه، و تهتم فحسب بإضافة السكر لفنجانها، قطعة و نصف... تفصيل لن ينساه.
" هل تريد السكر..." سألته العجوز.
" أشربها سادة... شكرا لك..."
التقط فنجانه، القهوة المعطرة أعادته لسنوات طويلة للوراء، هل يُعقل أن نصفه الايطالي يحن لهذا البلد رغما عن أنفه؟! هو الذي طالما كره ايطاليا بسبب مصاب أمه.
" غريب أن يبيع الايميليانو أراضي أسلافهم .." سمع العجوز تقول وهي تسترخي في مكانها:" عملت كل شبابي في تلك الاراضي الشاسعة، و ما يثير فضولي.. هو شبهك الشديد بالمرحوم يانيس..."
اعتاد هذه النغمة في كابري، حتى والد هذه الفاثنة علق بالشيئ نفسه، ارتشف من قهوته الحارة، وهز عينيه مجددا نحو الفتاة التي قالت بإبتسامة:
" لهذا وجدت وجهك مألوف!... كنت صغيرة عندما عملت في أراضي اليميليانو و 'دون يانيس' كان يملك نظرات مميزة تشبه السماء، نفس نظراتك... هل أنت متأكد الا قرابة بينكما؟"
" و أنت صورة طبق الأصل على أفروديت... لا قرابة بينكما؟" أفروديت آلهة الحب و الجمال عند الإغريق، لكنها ايضا الهة الشهوة والرغبة الجنسية. ابتسم أمام تعابيرها المصعوقة:" أنا روسي... لا تنسي هذا..."
" سانتو اسم ايطالي..." بعض التحدي تخلل كلماتها، و كأنها تشك بقصته.
" لدى الروس ضعف ازاء الايطالين..." قال بخفث:" و ازداد اقتناعا بهذه الرؤية يوما بعد يوم..."
راقبها تبلع قهوتها بصعوبة، تبدو في حيرة عارمة أمام تصرفاته، هو نفسه في حيرة ، بالأمس تعرّف على فتاة استثنائية و يبدو أن ذلك اللقاء غير شيء ما فيه...يشعر أنه على أرض زلقة و لا ينوي فهم المزيد ، حياته معقدة سلفا وهو منغمس في المشاعر... من الأفضل له العودة إلى عالم الحواس... كيف سيعود وقد جرفه شغف شديد؟!... استرسلت العجوز بحكي قصتها مع يانيس ايميليانو، عرف بأن هذه القرية عادت لأسلافه ذات تاريخ... بأن الكل يأخد قوت يومه من العرّاب، تتكلم عن عدوّه و كأنه أشد الرجال نبلا على وجه الأرض... بالتأكيد... تعرفت على الوجه الكريم للوحش، الصورة التي طالما أظهرها للعلن... لم تعرف أي سافل وغد كان.
" تأخر الوقت.. " قالت الجميلة وهي تقف من مكانها.
بعد ان ودّعا العجوز التي وعدته بالبحث عن منزل ايجار له لحق بصاحبة الشعر الطويل، شعر مجددا بوخزة مؤلمة في قلبه وهو يراها تجر رجلها أكثر و أكثر، انه نهاية النهار، و يبدو أن الارهاق يزيد هذه العاهة حدّة، كانت تحمل بين ذراعيها الصناديق الخشبية الفارغة، مجددا قمع رغبته في مساعدتها، وصلته رائحة الصابون الخالي من الكحول و هي تضع ما بين يديها في صندوق السيارة المكشوف، جسده تجاواب عفويا، ابتعد عنها بينما تفتح باب السيارة:
" انها سيارة قديمة و غير مريحة اتمنى الا تزعجك"
" هذا يناسبني" اجابها بينما تنظف المقعد بجانبها و تدعوه للصعود.
ما هي الا لحظات حتى جلس بالقرب منها و انغلق عليهما مكان واحد، احاطته اكثر رائحة الصابون و النباتات البرية، راقبها تدير عجلة السيارة بسهولة و تضغط على دواسة البنزين.
" هناك صداع في المحرك..." قال لها :" سألقي نظرة عندما نصل الى المعصرة"
بدت الدهشة على وجهها و هي تقول:
" تعرف في الميكانيك؟؟"
ابتسم لها:
" قليلا..."
" أنت حقا مليئ بالمفاجآت دون سانتو... ظننتك رجل أعمال حرة يرفض أن تتسخ يديه بالثراب..."
" تجهلين الكثير بشأني يا صاحبة الشعر الطويل... " القت نحوه نظرة وعادت تركزها على الطريق:" ان عدّلت محرك سيارتك... هل يمكنك مرافقتي في زيارة شاملة للجزيرة؟؟ "
هزت رأسها:
" لم أطلب اصلاح سيارتي..."
" طريقة لبقة لرفض دعوتي؟"
" أنت تتكلم كثيرا... هل الروس كلهم مثلك؟؟ يثرثرون كثيرا؟؟"
انفجر في الضحك، ضحك صادق أخرجه من أعماقه، منذ متى لم يضحك من قلبه؟:
" فقط عندما يتواجدون في محيط فتاة جميلة..."
خففت السرعة لتسمح لكلب مشرد بالمرور، وقالت بصوت لطيف:
" أنا لست جميلة ... "
" عليك تغيير المرآة في غرفة نومك..." نصحها بنعومة.
" ليس هذا رائي فقط..." أكدت بلا مبالاة وهي تهز كتفيها و كأنه موضوع سخيف لا يستحق حتى مناقشته.
أقطب و قال بهدوء:
" أظن أن حبيبك من رئي..."
"حبيبي؟! آه كلا..." انفجرت في ضحك ناعم و استرسلت في الشرح بهدوء وهي تنحرف يمينا بالسيارة:"الرجال يفضلون نساء تتمتعن بصحة جيدة... فلنقل أني أتسبب بالذعر ما ان ابدأ بالمشى، تنقلب النظرات من الشفقة الى النفور... الكل يبتعد و كأنه خائف من العدوى... "
" هذا سخيف..." قال سانتو بإستنكار.
" تنحرف عن القاعدة ' دون سانتو'!... الأسوء هي مراهقتي فقد كان الأمر مريبا ... تعرضت للتنمر في المدرسة و صل للاعتداءات الجسدية، تسلى التلاميذ بالكشف عن ساقي و السخرية من نذوبي، لم أكن قادرة على الدفاع عن نفسي و لا الركض بسهولة كي لا يتم محاسرتي و ضربي، كبرت و فهمت أن العيب ليس في أنا... بل في المجتمع الذي يرفض تقبلي كما أنا..."
هذا المجتمع المعاق ذهنيا حيث يتم بناء الهوية من خلال عيون الآخرين، نظر اليها ووجدها مركزة على الطريق، هذا النضج في شخصيتها عائد لمعاناة مع اعاقة جعلتها فريسة الأخرين، ورغم كل هذا فانها تعمل في ثلاث وظائف تتطلب جهذ جسدي كبير، من بين أمور أخرى ، هي الصورة التي يمتلكها المرء عن نفسه. تم بناء هذه الصورة منذ ولادتنا. يعتمد احترام الذات إلى حد كبير على احترام الذات الذي تم إرساله إلينا من قبل من حولنا ، وخاصة العائلة... المجتمع لم يحطم عزيمتها، انها أقوى ممن تسببوا لها بالمعاناة سابقا.
لكن المراهقة شيء مختلف... هو نفسه كان هش في تلك الفترة و اعتبر وضعه اعاقه، فعندما تكون مراهقًا ، تجد أحيانًا صعوبة في قبول نفسك كما أنت. وقبل كل شيء ، تريد أن تكون "مثل أي شخص آخر". الفرق مخيف ، لأن الاختلاف يعني المخاطرة بالاستبعاد. الإقصاء شيء يصعب التعايش معه ... ما الذي قد يكون أصعب من العيش من الشعور بالوحدة؟ الفتاة عاشت نفس الوحدة و الاستقصاء الذي عاشه بنفسه.
"في الحياة... عليك أن تعتاد على فكرة أن البعض سوف يقبلك ويرفضه الآخرون... ويصبح هذا العمل أكثر تعقيدًا عندما يكون لديك إعاقة... يجب أن نكون قادرين بالفعل على قبول أنفسنا كما نحن وبالتالي نكون أقل تأثراً بالطريقة التي ينظر بها الآخرون إلينا. عندما يكون لدى المرء قدر كافٍ من احترام الذات ، أي لا يشعر المرء بالدونية بشكل خاص مع الآخرين ، تكون الملاحظات والمواقف أقل إيذاء..."
كانت تتكلم بحكمة، و تزداد قيمة في نظره، علّق بهدوء:
"إن القدرة على قبول نفسك كما أنت هي وظيفة العمر"
ضحكت برقة:
" تخيل العمل الإضافي الذي يمكن أن يعنيه أحيانًا للأشخاص ذوي الإعاقة... "
" أنت محقة..." أجزم قلبيا.
"يتعلم بعض الناس العيش مع إعاقتهم ويفعلون كل شيء ليكونوا مرتاحين قدر الإمكان. إنهم "يتحملون" دون تعقيد ويحاولون ألا يفكروا كثيراً في صعوباتهم. بدلاً من ذلك ، فإن الطريقة التي ينظر بها الآخرون إليهم هي التي يمكن أن ينتهي بها الأمر في إزعاجهم... مظاهر الشفقة والاشمئزاز والحرج والرحمة... هذه النظرات التي تأتي يوميًا تذكرنا بالفرق"
" هناك اعاقات حقيقية لا نراها بالعين المجردة و هي الأسوء..." التقط أنفاسا عميقة من الطبيعة الساكنة من حولهما:" يجب أن نكون قادرين على التساؤل عن المشكلة التي يولدها مشهد هذه الاختلافات فينا... مالذي حذث لساقك؟"
" سألت أخيرا عن السبب؟" قالت متهكمة:" كنت انتظر هذا السؤال منذ البداية..."
" ان كان الموضوع يزعجك فأنسي سؤالي..."
قاطعته بلطف:
" لا مفر من أن سلوكي يبرز عن القاعدة و من المنطقي أن أشرح ... كنت واحدة من ضحايا فيضان نهر ميليسيا بعد هطول أمطار كثيفة، علقت في الوحل مع جثامين ثلاثة أطفال من العائلة نفسها ، شخصيا لا أتذكر شيئا من كل هذا... فقط فلاشات صغيرة، ما اذكره انني كنت عاجزة عن تحريك جزئي السفلي بعد خروجي من الغيبوبة، ثم خلال السنوات التي أعقبت أجريت الكثير من العمليات الترميمية بسبب الخراب الذي الم بعضام ساقي اليسرى، الى أن أخبرني الجراح بأنه لا يستطيع أن يفعل أكثر مما فعله... لذا فأنا غير قادرة على ثني ركبتي بالطريقة الصحيحة بالاضافة الى تمزّق الغضروف الهلالي... كل هذا لا يزعجني... أحيانا الآلام تتعدى حدود التحمّل..."
" مثل اللحظة؟" سألها متأثرا بصدق بقصتها... تبدو مثل جندي شجاع عاد من الحرب بروح متسامحة، وهو يحترم هذه القوة التي ان نمت عن شيئ فعن تفردها... لم يخطئ حدسه... ليس فحسب جمالها استثنائي بل روحها أيضا..." رأيتك تمسدين ركبتك عندما كنا في بيت تلك العجوز..."
" إعتدت الأمر... " أكدت له بلطف:" ما إن أعود الى البيت حتى أخد قسطا كافيا من الراحة و غدا... سأكون نشيطة لإستقبال يوم عمل جديد... وصلنا الى معصرتك... "
هو لا حظ أنهما وصلا الى المعصرة، لكنه يرفض تركها تفر بهذه السهولة، كما انه يرغب جديا اقتراح شيئ عليها قد يساعدها في حربها اليومية، وهذا... لاعلاقة لجمالها به, بل بإنسانيته... الشيء الوحيد الذي لم يدمره فيه والده.
* * *
لم تصدق دانيلا عينيها بينما تكتشف ان خوسيه شخصيا من اتى لاستقبالها في المطار و بدل اخدها الى القلعة عرجا على احد المقاهي في وسط المدينة، و كأنه شعر بحاجتها للانفراد به.
بعد الاسرار الأخيرة صارت تراه بطريقة مختلفة، الأمل المرير يغمرها، أن يكون حقا أبوها، هذا الشاب اليافع امامها، الوسيم جدا و الناجح، في الوقت نفسه تشعر بالذنب ازاء والديها، و كأنها تخونهما بأفكارها، منذ متى أصبحت مهووسة بفكرة أن تكون حقا ابنة احد غيرهما؟ اليونور نجحت بزعزعة نفسها، و لا يوجد سوى طريقة واحدة لمعرفة الحقيقة... تحليل نووي.
" كيف حال آيا؟!"
سألته بعد ان طلبا فناجين القهوة، كانت تبحث في وجهه عنها... عن ملامحها...
" بغض النظر عن الإنقباضات... فهي بخير..."
مدت يدها لتمسك بيده من فوق الطاولة.
" أنت متحمس لتصبح أبا؟!"
" كثيرا... أظن أن الوقت قد حان ليناديني أحد بأبي..."
كمية الوجع التي أحستها خنقت أنفاسها، وجدت نفسها تضغط على أصابعه، لم تكن يوما بكل هذا القرب منه، لم تكن يوما بهذه العاطفية، تشعر بأنها ستنفجر في البكاء ما ان يسألها ما بها؟! ثم كيف ستحصل على عينة منه لترسلها سرا الى المختبر؟ اليس هذا أول أهذافها بالعودة الى مدريد.؟! أن تحصل على عينة منه لتحصل على الجواب؟ اليساندرو يساندها، وكأن خوسيه قرأ في أفكارها:
" كيف هو اليساندرو معك ؟!"
" ككل رجل محب يفعل ما بجهذه ليسعد خطيبته...أنا محظوظة برجل مثله"
يبدو أن كلامها أعجبه و اراحه، شاهدت أسنانه البيضاء تلتمع وراء ابتسامة شاسعة، انه سعيد من أجلها:
" الم أخبرك أنه مناسب لك؟؟! "
" و أنت لا تخطئ أبدا..." علقت متهكمة.
هز رأسه بالنفي:
" أثق دوما بحدسي..."
" و هذا الحدس ما يدفعك للتعلق بي بكل هذه الشدة؟؟" استعادت يدها اليها :" فعلت ما استطعت لحمايتي، لم أفهم سبب هذا التعلق بينما لا تربطنا نقطة دم واحدة... أم أن شبهي باليونور السبب؟؟"
" لا أريد التكلم بموضوع اليونور مجددا.." وشوش لها :" أحاول دفن الماضي و لن يتحقق هذا بينما تقومين بذكر اسمها كلما جمعتنا الصدفة"
" أحاول فهمك"
" هناك عدة طرق لفهمي... لست مضطرة لسلك نفس الطريق في كل مرة"
عندما وصلت القهوة احتفظ كل منهما بصمته، بدى غارقا في أفكاره، بعيدا ألف ميل عن طاولتهما، كان قد فقد من وزنه، هذا لم يؤثر بسحره الاسر، مازال خوسيه الذي تعرفه، متفجر رجولة.
" كيف تشعر عزيزي؟"
" لن أموت في القريب العاجل... " تهكمه أحزنها، لا يبدو مبعدا لهذا الاحتمال أبديا:" شفيت... و لم احتاج للعلاج الكيميائي و اقتصر الموضوع على عملية استئصال بسيطة... لكن هل هذه هي النهاية؟؟ أم أنه سيطل مجددا بأنفه بعد سنوات استراحة؟؟ لا شيء مضمون... و صدقيني... لا أهتم ... سأعيش أكبر مدة ممكنة لأترك أثري في قلب التوأمين... هذا أكثر ما يهني اليوم... أريدهما أن يتذكراني و بأجمل الطرق الممكنة..."
يعيش فقط لهما؟ ماذا لو لم يكن هناك حمل من الاساس؟ كانت ستفقده لأن اليونور تناديه من العالم الأخر؟ أي أنانية هذه...
" ان رحلت آيا كما اتفقتما، فلن تمضي كل أوقاتك بجانبهما..."
" لن ترحل آيا الى اي مكان، و ان اصرت فلتفعل بدونهما... لن يخرج طفلاي من القلعة.."
لما ليست متفاجئة؟؟ هذ هو خوسيه، و آيا بالتأكيد بنت آمالا زائفة.
" هل هي تعرف بأنك غيرت رئيك؟"
" لم أغير رئي دانيلا... قبلت بشروطها كي أضمن مجيئ الطفلين بسلام... ما ان آخدهما في حضني حتى يتغير كل شيئ... يمكنها الرحيل ان رغبت، لكن ما هو للمارتينيز يبقى لهم "
و هل سيؤمن بهذه الكلمات اذا اتضح فعليا بأنها تحمل هذه الدماء التي يفخر بها ؟! ان صدقت ادعاءات اليونور... فهي ابنتهما... من لحمهما ودمهما، هل ستتغير نظرة خوسيه للمرأة التي أحب الموت من أجلها؟ عندما يكتشف أنها كاذبة... نعم كاذبة و أنانية.
" لما لا تجعل زواجكما طبيعيا و بكل بساطة؟"
" 'رؤية آيا تقتصر على اللون الوردي ... و أنا... الواني أشد قتامة"
" لأنه برئيك الحب يبقى للحبيب الأول؟"
" تعودين للموضوع نفسه..." دكّرها ببعض الجفاف وهو يشرب من قهوته.
" اعذرني ان كنت أبحث عن سعادتك كما بحتث أنت على سعادتي..."
تم وضع الأقواس على كل جانب من فمه ، كما لو كان يبتسم ابتسامة يجاهذها لتضهر:
" صرتي حنونة فجأة معي... ما الأمر دانيلا؟؟ تشفقين عليّ بسبب مرضي؟ ان كان هذا السبب فأنصحك بتغيير طريقتك... أفضلك شرسة و جارحة "
" أنت لطيف عندما تكون متواضعا..." قالت بلطف متهكم:" فقط لو كنت انسانيا مع زوجتك لتغيرت الأمور... آيا امرأة قوية و واثقة في نفسها، كلما تحديتها كلما عاندت ... و كلما كنت متواضعا... كلما تخلت عن حذرها... أرى بأن ثمة مستقبل لزواجكما، ان توقفتما عن القتال.. "
ضحك خوسيه، يبدو متسليا حقا بحوارها:
" عدتي و بنيتك انقاذي من نفسي؟"
" تعرف كم أحبك..."
" أممم هذا يُحذث بعض التغيير فقد إعتدت على ' أكرهك' 'أمقتك' ' متى أرحل من حياتك؟'!..."
"لا أعني دوما ما أقول عندما أكون غاضبة..."
" الغضب هو وجه الحقيقة..."
هزت عينيها الى السماء:
" عجبا للردودك .. وكأنها تنتظر الفرصة للقفز خارج حلقك في أول فرصة... كرهت خططك بتزويجي لأول رجل يطلب يدي, فلنرى ما ستفعله لو أجبرك أحدهم على الزواج من امرأة لا تحبها.؟!.."
توقفت فورا على الكلام بينما تتذكر بأنه أجبر على الزواج من زوجته المتوفية و الابتعاد عن حبيبته، فليس التجريح ما تهذف اليه من هذه المحاذثة التي ترغبها ودية، عادت و بنيتها السلام ، عموما... أن يكون والدها الحقيقي أو مجرد وصي استأمنه والديها عليها فهو عائلتها الوحيدة... راقبته ينهي قهوته، تتمنى ان تجد طريقة للحصول على عينة منه، القت نظرة على البولو الذي يرتديه، ولا شعرة عليه، مثل المعتاد من المستحيل ان يُعيب شيئ مظهره، انه كامل الاناقة و هذا ما يجعله استثنائيا... لن تكون مأموريتها سهلة.
* * *
" الى أين تذهب؟؟"
سألت بريانا بصوت يشوبه القلق وهي تلتحق بروكو الذي اكتفى بطبع قبلة على خدها و يبدو مستعجلا للغاية، سانتياغو ينتظره على بعد أمتار قليلة، توقف عندما أمسكت بكم سترته و تطلع اليها بنظراته العميقة و الموزونة:
" أملك بضع أشغال تتطلب وجودي..."
" ببدلة الوقاية من الرصاص..؟؟" سألته وهي تتحسس قميصه و لم يخب ظنها، كان بالفعل يرتديها تحت بدلته، تلك البدلة اللعينة التي ترعبها بشدة:" هل بحوزتك سلاح؟؟"
" بريانا..."
" الى أين تذهب أخبرني؟؟ " صرخت به بنفاذ صبر:" تنوي تصفية أحدهم الليلة؟؟ لكن مالذي يحذث لما وجهك متجهم؟"
" بريانا..." هذه المرة نجح بإخراسها، لا يبدو أنه يتسلى بمقاطعتها له، و لا يبدو أنه في رداء روكو الذي تعرفه عادة بل العرّاب الذي يرفض تقاسمها بشيء، تحتاج لأكثر من سنة حب لتتعرف أكثر على هذا الرجل الواقف أمامها:" أنا على عجلة من أمري... "
تركته و يدها ترتجف، هذه المرة لم تحثه على البقاء، راقبته يلتحق بسانتياغو الذي القى عليها نظرة تعني بأنها تتدخل أكثر مما يُسمح لها بها، بقيت واقفة في باحة القصر تراقب الرجلين يقتحمان السيارة السوداء المُصفّحة، يستعملها روكو في المهمات الكبرى، لم تعد لديها أي شك، روكو يدخل حرب مع شخص ما... بينما تنطلق السيارة نحو البوابة الخارجية قاومت رغبتها بالركض ورائه لمعرفة المزيد.
تجهل كم من الوقت مرّ وهي على هذه الحال، تنظر للطريق الذي اتخدته السيارة ، تعرف بأنه رجل منيع، بأن لا أحد ينال منه، لكن أعماله الأخرى تثير رعبها، تعرف بأنه نزيه و كيف يكسب رزقه، و هذا لا يمنع أنه غارق حتى عنقه بالمافيا, لأن مصلحة سكان صقلية متعلقة بالهدنة التي يفرضها على أناس يحلمون برؤيته مدمرا و ميتا لأنه يتعارض مع مصالحهم بشكل أو بآخر.
اخرجت هاتفها و اتصلت بفلورانس، انها تحتاج للرفقة، ان بقيت بمفردها في هذا المكان الضخم بمفردها فستفقد رشدها، ثم... يمكنها معرفة شيء من داركو، فهو صديق مقرب لخطيبها... أخبرتها هذه الأخيرة بأنها في المنزل، لكن ما ان قصدت سيارتها حتى استوقفها رجال خطيبها، يبدو انه أعطى أوامر صارمة كي لا تغادر البيت:
" أنا مدعوة لشرب القهوة في بيت الأميرين فالكوني"
" سوف نرافقك..." حاولت تهدئة نفسها و بلع موجة الغضب التي تكاد تجرفها:" من هنا من فضلك..." قال الحارس وهو يشير الى أسطول سيارات روكو متجاهلا سيارتها البرتقالية التي اهداها اياها خطيبها بمناسبة عيد ميلادها، عليهما اذن أخد واحدة مضادة للرصاص، لكن لما يشعر روكو بالتهديد؟؟
داركو و فلورانس فالكوني انتقلا منذ أسابيع قليلة لبيتهما الجديد الذي انتهى بنائه، رغم الاسئلة التي تضيق خناقها تأثرت بروعة البناية الشاهقة على ضفاف البحر الأبيض المتوسط، فلورانس صاحبة دوق، و هذا البيت ينم عن الراحة و الترحيب ما ان تدخل اليه، كانت الاسقف عالية على النمط الأمريكي، و الحيطان زجاجية، كل شيئ يشبه شخصية الزوجين و نمط حياتهما الشرس و العاطفي، كم تتمنى لو تمتلك هذه السكينة مع روكو الغارق في عمليات الثأر مؤخرا و لا تعرف متى ستسعيده أو تهنأ به مجددا... أصبح زعيم النقابات أكثر منه حبيب.
" بريانا... مرحبا بك عزيزتي..."
رأتها تنزل سلم فخم ذهبي حيث الأحيط المقعرة تعرض صور كثيرة في مناسبات عدة للزوجين و طفلهما و ايضا بيانكا، ابتسمت بريانا رغم رغبتها في الانتحاب.
" اسفة لأنني طلبت منك دعوتي..."
" هل تمزحين... انه بيتك..." تبدو الأميرة بصحة أفضل ، كانت ترتدي بنطال أبيض و قميص أسود و تنتعل حداء عالي الكعبين، شعرها الأسود حر حول كتفيها، موقف واحد كفيل بأن يغير مجرى حياة برمتها الى الأبد، و يبدو أن حياة الأميرين استقرت عما كانته في الماضي.
" داركو هنا؟؟" سألتها بريانا بينما تشير لها هذه الاخيرة بالجلوس في صالون دائري باللون البنفسجي في واجهة زجاجية تطل على أمواج البحر الهائجة في هذا الوقت من السنة.
" رحل قبل قليل مع فرانكو..."
كما رحل روكو مع سانتياغو، بلعت كومة الرعب في حلقها و جلست في الصالون الانيق كأناقة صاحبته، ظهرت فورا الخادمة:
" ماذا تشربين؟"
" قهوة مُرّة شكرا لك..." أجابت بريانا بإبتسامة .
" اثنين من فضلك "
عندما انسحبت الخادمة، أحاطتها فلورانس بعينيها الخضراوين الشاسعتين ببريقهما الذكي، في البداية لم تكونا على وفاق و علاقتهما سطحية، كانتا فحسب نساء لأصدقاء يريدون منهن تبني نفس العلاقة التي بينهم، مع الوقت أحبت الايطالية الجميلة:
" لا تبدين بخير... هل هو روكو؟" سألتها مباشرة.
" خرج متسلحا و لا أعرف الى أين..."
ابتسمت فلورانس:
" انه العرّاب بريانا... حبيبك على رأس نقابات مهمة و ليس من الضروري أن يكون هناك خطر كي يتسلح... انه رجل شديد الاهمية"
" أنا قلقة عليه... " كانت بحاجة لإخراج كثلة الرعب في صدرها:" أحاول اكتشاف ما يضمره و يعرف كيفية الانسحاب بلباقة في كل مرة.. لا أعرف ما هي مشكلته...اريده ان يترك كل مسؤولياته المتعلقة بالعصابات فالأمر يُعتبر مجازفة و أصبح الموضوع يرهقني... في كل مرة أتسائل ان كان سيتمكن أعدءه منه... كما حصل مع والده..."
" يانيس ايميليانو مات مقتولا؟؟" سألت فلورانس بعدم تصديق.
هزت رأسها بلإيجاب:" قصة أزمة قلبية مجرد زيف... أحد قريب جدا منه سممه... رغم كل دهاء ذلك الرجل الا انه لم يكن حذرا بما فيه الكفاية... أرفض أن يتورط هو أيضا أو أن أفقده بنفس الطريقة... يقول بأنه ليس والده لكنني أراه فيه كل الوقت... أراه يانيس هل تفهمين؟ أعيش كابوس ذلك الرجل كل يوم"
" روكو ليس والده..."
" هذا مايريد هو إيهام نفسه به... لكنهما وجهان لعملة واحدة صدقيني... أنا أتورط فيه كل يوم، و قد فات الأوان لأتراجع لأني ... لأني..."
" غير قادرة على هجره؟! الخطر أسهل من فكرة الابتعاد!؟... من فكرة الخروج من كل هذا وتركه وراء ظهرك؟... الأدية ستكون أعظم فقلبك معه... أنا أفهم... عشت هذا الجحيم مع داركو..."
هذه المرة لم تعد قادرة على كبث دموعها، خبأت وجهها خلف يديها و انفجرت في البكاء كي تبعد عنها هذا الخوف الذي يتآكلها بشدة، صارت تعرف الكثير من أسرار روكو، و قد صدمتها بضع حقائق، منها ظروف وفاة يانيس التي تخفيها العائلة عمن حولها، في النهاية يانيس لم يكن أبدي... مجرد بشر قاموا بمحيه و هذا دليل على أن روكو مهما حاول فقد يلقى نفس المصير ذات يوم، تركتها فلورانس تفرغ كآباتها الى أن اكتفت، ناولتها مناديل ورقية لتجفف وجهها المتورم، وشكرتها على كوب المياه المثلجة التي منحته لها لبل ريقها الناشف.
" التوغل في حياته مريب جدا... ظننتني كفؤا لما ينتظرني من مفاجآت... الواقع يتخطى حدود استعابي... "
وضعت فلورانس يدها على أصابعها المرتجفة و ضغطت عليها بلطف:
" لا شيئ غير شرعي في حياته..."
" لا أشك في نزاهته... لكن والده يعيش فيه و الكل يحكم عليه على هذا الاساس و يبقى معرضا للخطر بسبب سمعة يانيس... لا أريد فقدانه... هذا الخوف الدائم يلتهم سعادتي... أصبح بيننا الكثير من علامات الاستفهام مؤخرا وهو لا ينوي الاجابة عنها..أشعر بأنه سيلاقي الأهوال، بأن طالب ثأر ما من يانيس سيلقي قصاصه عليه و بكل السبل..."
" روكو ذكي و مسالم... لا تخطئ أحكامه فثقي به..."
" هذا ما أفعله كل الوقت... الثقة به..." وصلت الخادمة بالقهوة و أطباق لا منتهية من الحلوى المحلية و الخبز التقليدي ووضعت الاطباق على الطاولة الزجاجية قبل أن تنسحب، مدت لها فلورانس فنجانها:" أبدو كالمجنونة..."
" بل كإمرأة تقلق بشأن زوجها..."
" لم نتزوج بعد..." قالت بريانا متنهدة.
" ستفعلان بعد عودة صوفي مباشرة... "
" ان استمر الوضع على ما هو عليه فلا شيئ مؤكد... لا أرى نفسي أعاني من قلق مماثل لبقية عمري و أتسائل ان كان االطفل الذي أثوق له سيتيتم بالسرعة نفسها التي يأتي فيها الى الحياة..."
لم تفتح قلبها من قبل مثل اللحظة مع فلورانس، لكنها تشعر بحاجة ماسة لهذا عوض الانفجار و أذية نفسها.، و تشعر بانها قالت الكثير، ارتشفت من قهوتها و طلبت منها:
" هل يمكنك الاتصال بزوجك؟؟ فقط لمعرفة ان كان روكو معه..."
" لا أظن ذلك عزيزتي... داركو ذهب للمستشفى لملاقاة سيزار، دون سيفيرانو بحالة مزرية، يعتقد الأطباء بأنه يعيش لحظاته الأخيرة..."
سمعت بشأن وعكته الصحية من روكو الذي أخبرها بأنه عليهما زيارة المستشفى، لشيئ الذي لم يتحقق، لأن رجل حياتها لديه بضع صعوبات وعليه حلها بالسلاح.
" ستبقين للعشاء معنا... " سمعت فلورانس تقول وقبل أن تعترض أصرّت هذه الأخيرة:" سأطلب من داركو الاتصال بروكو للاطمئنان عليه و دعوته على العشاء ... يمكننا مناقشة الموضوع على طاولة الطعام ان كان يروقك..."
" إنها فكرة سيئة... روكو لا يتجاوب أمام الاستفزازات الأنثوية، يصبح أصم و أخرس..."
" فليكن... دعينا نمضي سهرة كما يفعل الأصدقاء الذين لم يروا بعضهم منذ فترة" و ابتسمت لها بتعاطف:" كما انه لا يمكنك البقاء بمفردك و انت في هذه الحالة..."
لكن السهرة لم تمر أبدا كما آملت، العشاء اقتصر عليهما مع داركو الوفي جدا لصديقه و الذي تلقي لكل ضربات الجزاء كما يفعل حارس مرمى محترم كي لا يُسجل شيئ ضد صديقه، تلك الليلة، أدركت بريانا أن ثمة خندق عظيم حفر بينها و بين روكو.
* * *
" صباح الخير سنيورينا..."
و من لا يعرف الفاثنة بجدائلها الناعمة من بين آلاف الناس؟؟ يعترف بأنه لم يتعمد هذه المرة بتعقبها، الشيء الذي استمتع به منذ اسبوع، الجميلة تصد اعجابه بها و لا يهمها أكثر من رئيس منحها وظيفة بمقابل يومي محترم، انها تساعده في ازالة كل الأغراض القديمة في المعصرة، منذ يومين وهما يبحثان عن شيئ يجهله بين الملفات القديمة في مكتب لم يتم لمسه مند أعوام، من الغريب رؤية السجلات لأناس ماتوا بسبب الكبر، و آخرون عملوا هنا و استبدلوا المهنة بأخرى ، لكنه يبحث عن والده في الاوراق دون قدرته على الاعتراف بذلك، و ربما يبحث ايضا عن اوكتافيا، لكن من غير الحسابات القديمة و ارباح المعصرة لم يجد شيئا مهما، و الايطالية الفاثنة ساعدته في هذا، مقابل مئتي دولار في اليوم تركت عملها في الفندق، حتى انها حسنت من الوضع في الغرف الخربانة بالمعصرة، وجلبت له بضع شراشف من مصروفها الخاص، الشيئ الذي لامسه بشدة، يأتي الكرم دوما من الناس الأقل حظ-ماديا- في هذه الدنيا، لكن تخييمه في المعصرة لا يزعجه، انها أجمل عطلة سبق و أمضاها منذ زمن طويل.
" دون سانتو... أرى بأنك تتريض" كانت تبتسم له بسرور، تبدو حقا سعيدة برؤيته.
كان يجري قرب الشاطئ عندما وصل الى قرية الصيادين و لمحها، كانت تشتري الاسماك و بكميات كبيرة أيضا، رآها تحمل صندوق السردين و تعرج بساقها المصابة، هذه الفتاة كاملة لدرجة نه ينسى كليا اعاقتها.
" عنك فيرنا... دعيني أحملها..."
" ان رغبت بالمساعدة فخد صندوق التونا و الجغالي.." قالت له وهي تضم الصندوق اليها و تشير للأخر الذي ما يزال على الأرض، انحنى عليه ليحمله بينما سمعها تنفجر في الضحك" ستفوح منك رائحة السمك لبقية النهار..."
" أحلم بكابين حمام حقيقي..." رد بإبتسامة عريضة وهو يتبعها مبتعدا عن الصيادين، تعرف فورا على السيارة التي لم يتمكن من اصلاحها لليوم، الجميلة ترفض مساعدته لكنه لا ينوي الاستسلام.
" بالمناسبة... السيدة فليبينا حاولت التواصل معك امس و لم تفلح... هناك منزل عائلي معروض للايجار فهل ما زلت مهتما؟"
وضعت السمك في صندوق السيارة و حذو حذوها، راقبها تمسح جبينها لتزيل حبات العرق رغم برودة الجو، انها تبذل مهوذا جسمانيا جبارا في كل مرة و كأنها تحاول طمس هذا العجز الذي يمزيها عن غيرها.
" مازلت مهتما بالتأكيد... هل بمقدوري زيارته...؟"
" الم تقل أن اقامتك لن تتجاوز الاسبوعين؟"
" هذا صحيح بيد انني انوي العودة بإستمرار لمراقبة أعمال البناء... " و رؤيتك بالمناسبة... أضاف هذا داخليا." هل ستأخديني لرؤية البيت؟"
" لدي توزيع..." دكرته و هي تشير للاسماك..
" سوف أساعدك... هل يمكنني القيادة؟؟"
بدى التردد عليها ثم منحته المفاتيح أخيرا، انتبه فورا الى حاشية كنزتها القديمة، كانت الخرقة عليها بالية جدا لكنها نظيفة و دافئة على ما يبدو، ثنورتها الاعتيادية السوداء لم تستبدلها منذ لقائهما الأول، الا تملك غيرها؟ أم أنها مجرد مسألة تكيف، و تشعر بداخلها بالراحة.
" اجلسي و استرخي فمنقدك هنا..." قال لها بينما يأخد مكانه خلف المقود، رنت ضحكتها في أذنيه لذيذة كما كانت طيلة هذا الأسبوع الذي مرّ بسرعة كبيرة، قريبا عليه العودة للعالم الواقعي و ترك شخصية سانتو ورائه بالتأكيد.. يعترف بأنه لا يثوق المرة لكيليان ارشيبالد." رباه كيف تتمكنين من قيادة سيارة مماثلة..."
" لا تهينها... كنا معا في السراء و الضراء..." صرخت به من بين ضحكاتها " انت بلا قلب.."
" انها بحاجة لعنايتي..."
" هل أنت جاد؟؟ تعرف الميكانيك؟ "
" اتركيها لي و سترين...يُشاع أنني الأجدر في المجال "
لم تجبه، أبقت ابتسامتها الرائعة على شفاهها، نظراتها على الطريق القروية الموحلة قليلا جراء أمطار أمس، يديها الأنيقة التفصيل في حجرها، كنز النساء الجميلات و الفاضلات، تتبقى له بضع أسئلة و ينوي الحصول على أجوبتها:
" لما لم تحصلي على سيارة تتوافق مع احتياجاتك؟؟"
" لأنني قادرة على سياقة سيارة عادية لحسن حظي فكما ترى انا لا أمشي فوق الذهب..."
ابتسم لسخريتها الناعمة، كم يتمنى اخدها الى مصانع ارشيبالد لتختار ما يروقها من سيارات لعينة.
" الا يوجد تخفيضات ؟َ!..."
" تقصد لأناس مثلي؟ يمكنك النطق بالكلمة سبق و اخبرتك بأنني محصنة... لا لا توجد تخفيضات نحن مضطرون لإدخار المنحة التي تمنحها لنا الحكومة... "
ابتسم لها برقة، لما كلامها ينجح دوما بملامسته حتى الأعماق؟:
" فيرنا... انت امرأة استثنائية و قوية و احترم شجاعتك... كم عمرك؟"
" الثامنة و العشرون..."
" و ماهي دراستك؟"
" لم اتمم دراستي..." تغيرت نبرتها و لام نفسه المتهورة، الم تخبره في السابق بأنها تعرضت للتنمر بسبب اعاقتها؟ لهفته بمعرفة كل شيئ يخصها تمنعه من اعادة السؤال مرتين في رأسه قبل طرحه، طلبت منه الانحراف الى اليسار، الشيء الذي فعله، هذه السيارة بحاجة الى يده الخبيرة، انه مستعد لفعل أي شء لجلب السرور لقلبها.
" ما هي اهتماماتك..."
" أنا عضوة في جميعة' لا حدود بيننا'، نحاول جمع الأموال للعائلات المقيمين بطرق غير شرعية في كابري، انهم منبوذون و ندفع أجور المحامين و توفير الطعام و اللباس لهم، موخرا انخفض عدد المهاجرين غير الشرعيين الذين وصلوا عن طريق البحر بنسبة 80٪ و نحن ممتنون لهذه النتائج، لذا نحاول ابقاء ما نقدر عليه بطرق مضمونة و مشروعة، حتى اننا تعرضنا للتهديدات مؤخرا بسبب نشاطنا، يتهموننا بالوقوف ضد الحكومة أو تشجيع الفوضى... لكن أولئك الناس ليسوا مجرمون، انهم يهربون لمستقبل أفضل، انهم مسالمون و مدمرون نفسيا، فقد تركوا أهلهم و أصدقائهم ليأتون الى المجهول... بالأمس أنجبت 'ماريا' انها لاجئة من جنوب افريقيا، المصيبة أن الحكومة تنوي ترحيلها و الاحتفاظ بالطفلة... تمكنت من ايجاد محامي و دفعت له الدفعة الاولى ليجمد الحكم و منحها حكم جديد برؤية جديدة... لا يمكننا فصل أم على ابنتها فهذا غير اخلاقي"
اذن فالمعرفة ليست بالمدارس و هذه الفتاة تفوقت بانسانيتها عمن عرفهم قبلها؟ القى نظرة على الملابس البالية و فهم أين تذهب نقودها، لابد أن الاموال التي دفعها لها هذا الأسبوع هي أجر المحامي.
" كم من العناصر في جمعيتكم؟"
" عشرون فرد فقط، لكن الموارد هشة فالقليلون من يشجعون هذا النوع من الدعم... لا أحد يرغب بالغرباء في هذه الجزيرة، أخجل من القول بأن موقف إيطاليا من الهجرة أكثر سلبية من معظم جيرانها على سبيل المثال ، يرى 74٪ من الإيطاليين أن الهجرة تؤدي إلى ارتفاع معدلات الجريمة ، و 58٪ أن المهاجرين يعملون في وظائف "من أصل أصلي' ، و 62٪ أنهم يشكلون عبئًا على نظام الحماية الاجتماعية : أرقام أعلى بشكل منتظم من متوسط الاتحاد الأوروبي.. أنا لا أعبئ بالأرقام... أرى أسر بحاجة للدعم كي تعيش حياتها كباقي الناس"
" لهذا تدفعين من أموالك الخاصة؟" سألها مباشرة.
" ان لم تخلق الأموال لصناعة سعادة الأخرين فلا جدوى منها... " قالت بصوت جاف و كأنها ترفض قطعا أن يتم انتقادها:" عندما نجوت من الفيضان، أدركت أن الله منحني فرصة عيش أخرى لأعمل لصالح الانسانية ... لدي مهمة و هي مساعدة من هم في ضائقة، و سأفعل كل ما بجهذي لنشر السعادة من حولي... بالنسبة للجمعية أنا مؤمنة بأننا سنحصل على دعم مادي أكبر، و سأتقاتل كي يفصل الناس بين انسانيتهم و بين السياسة..."
ركز سانتو على الطريق دون أن يظيف كلمة بينما بدت هي فجأة بعيدة بشدة عن مكان تواجدهما، كان يلقي عليها النظرات من فينة لأخرى، فالمظاهر آخر ما يهمها بينما فتاة السابعة و العشرين تمئ فراغ حياتها العاطفية و اعاقتها في أعمال انسانية نبيلة... رغم كل نجاحه المهني يرى نفسها صغيرا أمامها.
فرقت الأسماك على العجزة و أقبضت منهم الأموال التي وضعتها في كيس و خبأته في صدرها، تحت كنزتها المهترئة، انتبه الى أنها احتفظت بكيسين من السردين:
" تنوين على شواء الليلة؟"
" انها لك.." قالت له بلطف.
لم يخفي دهشته:
" هذا لطف منك... لم أطلب السمك..."
" لا تحب السردين؟" سألته بقلق.
" بل أحبه بالتأكيد... لكنك دفعت ثمنه من جيبك..."
" اعتبره هدية مقابل اصلاحك الضجيج في سيارتي... أعرف بأن الثمن أكبر لكنني لا أملك ما يمكنني تقديمه لك غير هذا... "
لا تملك ما يمكنها تقديمه له، لا يوجد رد أكبر من هذا أمام اقتراحه عليها بمرافقته في جولة حول كابري، لا ترغب بالظهور معه، انها امرأة مستقلة تعاني عاهة و ترفض التسبب له بالاحراج بالتأكيد، أمضيا بعض الظهر معا، عادا لرمي الاوراق التي ليس بحاجة لها و احرقاها خارج المعصرة، جمعت له الحطب بينما كان على لاب توب يجيب مجددا على تقارير ميغان التي لم تعجبه أمس بالمرة، لا يعرف ما يحذث معها لكن لا تبدو بمزاج جيد، وضعت له صاحبة الشعر الطويلة كومة لا منتهية من الخشب قرب المدفئة قبل أن توقدها بنفسها، منحها ثمن مجهوذها الذي التحق ببقية الاوراق النقدية في الكيس المخبئ تحت الكنزة، لكنها لم ترحل كما توقع، بل توجهت نحو الموقد:
" سأحضر لك العشاء..."
" لست مضطرة فيرنا... يمكنني الاهتمام بالأمر..."
" الن تصلح سيارتي؟؟" سألته بتسلية..." مازال هناك ضوء في السماء... أنوي طهو السردين و انت الوفاء بوعدك..."
" ستبقين للعشاء معي.؟؟" سألها وهو يشعر بسرور غريب يخترق قلبه.
" سأبقى... لا التزامات لدي الليلة...".
* * *


الفصل السابع





" إنه يريدنا معا.."
همست روبي لتوأمها التي يبدو عليها التعب بسبب الساعات الطويلة من الانتظار، الجد غاب عن الوعي لمدة أيام طويلة و ما ان استفاق حتى طالب بهما، رأت بشرة شقيقتها تفقد لونها أكثر، هي و نيوس منذ أسبوع في صقلية، الشيء الذي لم تتوقعه من متحجر قلب مثل زوج شقيقتها، حتى أن كلامه أصبح كله عسل و فراولة، بالكاد تصدق ما تراه، عندما شاركت تساؤولاتها على ديامانتي أخبرتها بأنها فترة مؤقتة فقط، و لا تثق بتغيره، تتمنى من قلبها ان تكون مخطئة، أن زواج شقيقتها سيجتاز الأزمة و تعيش بسعادة مع والد طفليها، فهي لا يخفى عليها عشق هذه الأخيرة له.
" حبيبتي؟!" هزت روبي عينيها نحو نيوس الذي أخد كتفي زوجته بين يديها وهو يمنحها دعمه:" سأكون هنا.."
" أعرف" أجابت ديامانتي وهي تهز رأسها :" شكرا لك نيوس..."
رأته يقبل جبينها قبل أن يتركها مجبرا، تبادلت النظرات مع سيزار الذي لم يتركها لحظة واحدة منذ عودتها من لوس أنجلس، نِعم الحبيب و الزوج، يمكنها ان تعتمد دوما عليه حتى في مواقف مريبة مماثلة، رأت شفاهه تتحرك دون أن يخرج صوتا من خلالهما و فهمت الكلمة على الفور.' أحبك'.
أمسكت بيد توأمها و دخلا معا الى غرفة الجد، هذه المواجهة التي بكت بسببها ديامانتي مرّتين، يبدو صعبا عليها مواجهة ماضيها، ماضيهما معا، وهي بحاجة لدعمها، بالرغم من أنها تجهل لما جدها يصرّ على رؤيتهما معا و ليس فقط ديامانتي التي طالب بها في الأشهر الأخيرة دون أن تقبل هذه الأخيرة بلقائه... في المرة الأولى أتت من أجلها هي، لتتعرف على التوأم التي أخفاها عنها السيفيرانو، لكنها اليوم ستواجه الرجل الذي نبذها و لم يسأل فيها حتى وهي معرضة للاضطهاد من قبل داركو حيث تجاوز الحدّ في السُّلطة والمعاملة القهريّة التعسُّفيَّة.
شدت أصابع ديامانتي عليها عندما فتح الجد عينيه و حطهما عليها، كان هناك، ممددا، صدره الهزيل يصعد و ينزل ببطئ، و كأن الأوكسجين المزود به لا يكفيه للتنفس بطبيعية، رأت روبي كل طفولتها تمر بسرعة البرق أمامها وقفزت الدموع الى عينيها، جدها الحبيب سيرحل، الواقع صعب جدا تقبله، انها تموت ببطئ، أوجاعها المتعلقة بشقيقها الغالي جوزيف تعود للسطح و تمزقها بلا رحمة، ستعيش مجددا محنة ان تفقد إنسان غالي على قلبها.
رأته يصوب أصبعا نحو شقيقتها، هذه الأخيرة تسمرت، كانت حركة الاصبع واهنة، يده تتمدد على طول جسده، لم يكن قادرا حتى على هزها نحوها، دنت منه روبي و انحنت عليه لتقبل جبينه المتجمدة تحت شفاهها ثم تنتزع عن فمه و أنفه قناع الأوكسجين:
" انها هنا حبيبي... أتت لرؤيتك..."
أغمض عينيه برضى قبل أن يعود لفتحهما و المجاهدة للكلام، فهمت من كلماته الضعيفة أنه يريدها ان تقترب الشيء الذي فعلته ديامانتي دون تردد، انحنت عليه بدورها وهمست له:
" مرحبا سيدي..."
لا ينوي جدها التجاوب مع هذه الرسمية الباردة، شقيقتها تحاول بالتأكيد التكيف مع فكرة ان دفن الماضي لصالح مستقبلها، لكن يبدو أن مشاعرها تغلبها اللحظة، تبدو مهزوزة و مضطربة.
" سامحيني..." جاء صوته واضحا وهو يبسط يده كي تضع هي يدها فيها، الشيئ الذي رفضته:" لم املك الخيار..."
" ملكت الخيار دون سيفيرانو... عشت بجانبك لفترة و لم تتحرك مشاعرك نحوي..." امتلئت عينا روبي بالدموع وهزتهما متوسلة الى توأمها، هذه الأخيرة لا تهتم أو ترفض الفهم:" أنا هنا لأعرف أين هو والدي... أريد رؤيته و سماع قصته..." هذا الطلب جمّد الدم في عروقها، لا يبدو أنها تمزح، كانت جدية للغاية، رأت شفاه جدها الشاحبتين ترتجف ببعض الحدة." ان كنت تنوي حقا التخفيف من ضميرك المعذب دون سيفيرانو فإخبرني أين هو أبي..."
" ديامانتي...!" اعترضت روبي بوهن.
هزت نحوها شقيقتها نظرات مشتعلة:
" ما الأمر روبي؟؟ الا تريدين التعرف عمن تبقي لنا من كل هذه الأكاذيب التي أحاطت حياتنا؟؟!"
" لقد تخلى عنا..." ذكرتها بغصة.
" هو دفع له ليرحل... اليس كذلك؟؟ أخبرنا عن مكانه، انه الشيء الوحيد الذي سيجعلني أسامحك"
" هذا يكفي..." قالت روبي ببعض الحدة:" الا ترين انه ليس بخير؟؟"
" انه محظوظ بالموت بسلام محاط بعائلته بينما حُرمت انستازيا حتى من ابنتها" ردت ديامانتي بغضب:" الجد الوحيد الذي عرفته و عاملني بإنسانية هو سبيروس ليونيداس... لقد حماني و تعاطف معي فقط لأنني أحمل دماء المرأة التي أحبها... عكس دون سيفيرانو... رآى حفيذته تتمزق بجانبه لكنه لم يحرك ساكنا...لقد سرق مني حياتي... سرق مني جدتي و أمي و أبي"
" هذا يكفي ومن الأفضل أن تخرجي الأن..." قالت روبي بشهقة.
" كلا..." اعترض الجد بوهن:" أحتاج لإنفجارها ...من الأفضل أن تخرجي أنت روبي"
هل يمكنها الرضخ لرغبته؟؟ اعترتها الشفقة وهي ترى الدموع التي ملأت عينا توأمها، هي التي عاشت التهميش تصر على ادفاع الثمن لرجل يُحتضر، لا تنوي مسامحته، لما اتت اذن؟؟ لتحاسبه و هو على اعتاب الآخرة؟ الم تكن عازمة على قلب الصفحة و نسيان الماضي؟!
عندما خرجت و أغلقت الباب خلفها أسرع سيزار نحوها، كان هناك حذيث بينه و بين نيوس لكنه قطع الكلام ما ان رآى ملامح وجهها:
" تنوي محاسبته بدل منحه الغفران و تركه يرحل بسلام!"
" من حقها هذا..." تدخل نيوس مدافعا عن زوجته.
" تسأل عن مكان والدنا الحقيقي.. فهل سألتني عن رئي بهذا الموضوع؟؟ لا أريد معرفة شيئ عن ذلك الرجل و لا عن اسبابه تركنا" تكسر صوتها في الكلمات الاخيرة الشيئ الذي دفع زوجها بأخدها بين ذراعيه، المكان الوحيد الذي تشعر فيه بالأمان.
" إهدئي..." وشوش لها سيزار وهو يقبل رأسها:" الاثنان مُحتاجان لهذه المواجهة... ليست مضطرة لمنحه غفرانها فقط لأنه طلب هذا فلم تكن حياتها سهلة كحياتك"
" انه عجوز و مريض... " تمتمت متوجعة.
" و برئيك هذا كافي كي لا تقذفه بما يحرق لسانها كل هذه السنوات؟؟ هو من أصر على حضورها و زوجتي في موقفها الشرعي..." صوت نيوس كان مزعج في أدنيها.
رأته يتحرك بعصبية في مكانه، عيناه لا تفارقان باب غرفة المريض، ديامانتي في أشّهُرِ حملها الأخيرة، المراحل الحرجة بالتأكيد، لكنها صلبة للغاية، انها أصلب مما سبق و خمّنتْ من قبل، كشفت بأنها تملك عزيمة متفردة و شرسة، خلافا لك التوقعات تستمر توأمها بإدهاشها، هي التي ظنت أنها سترتمي مجددا تحت قدمي نيوس ما أن يعود خلافا لظنونها هذا الأخير يعاني مع برودها و جفائها، و تعترف بأن هذا لا يروقها بالمرة، تمرد شقيقتها يرعبها. فقد تعَرَّضٌت لِلظُّلْمِ وَالقَهْرِ نعم... لكن حلتها الجديدة تثير قلقها.
انتصب شعر قفاها ما ان لمحت ديامانتي تخرج من الغرفة أخيرا، كان وجهها متورما، لكنها تبدو مرتاحة، رباه، هل قامت بقتله؟؟ هزت نحوها عينيها المحمرّتين و أشارت الى الغرفة:
" انه يريدك...."
تجاوبت روبي فورا، كان العجوز يتنفس بصعوبة أكبر، جلست في المقعد الذي كانت تحتله شقيقتها، أمسكت بيده و همست له برقة:
" عليك أن تنام حبيبي... وفرّ جهوذك..."
" سوف أنام للأبد روبي... طفلتي الصغيرة و الجميلة جدا روبي... آسف ان آذيتك يوما، أعرف بأنني كنت جدّا سيئا..."
اختنقت روبي في دموعها، رباه هذا العذاب، كيف يمكنها العيش بعده؟
" أنا من يجب أن تطلب السماح لتمردها فقد أتعبتك و لم أكن سهلة الانقياد... أرجوك اغفر لي" لم يجبها، ابتسم لها ابتسامة مرتاحة، انحنت لتقبل يده المتيبسة تحت شفاهها:" توأمك طيبة فقد سامحتني, اهتمي بها جيدا... يمكنني الرحيل بسلام"
كان يجاهذ للكلام و التقاط أنفاسه، تعرف بأنها تراه للمرة الأخيرة بينما يعود لغلق عينيه، ارتخت يده بين يديها، شعرت بحركة في الباب، كانت والدتها بوجهها المرهق و عينيها المتورمتين، دنت منهما و انحنت لتقبل جبين والدها الذي لم تفارقه طيلة الأيام السابقة.
" لقد عاد للنوم..." همست لها روبي :" انه سعيد لأن ديامانتي سامحته"
" اذهبي اليها عزيزتي... يبدو انها أصيبت بتقلصات حادة..."
بالفعل ديامانتي كانت شاحبة شحوب الأموات و يدها على بطنها، تعاني الانقباضات، لحسن الحظ أن نيوس و سيزار اهتما بأمرها ووجدتها سلفا في غرفة الفحص مع طبيبة نسائية، دنت منها لتأخد بيدها، عموما فلم تكن بصحة جيدة منذ مجيئها صقلية وشوشت لها والظلمة تسود ملامحها الجميلة:
" أنت غاضبة مني...!"
" كلا... " نفت روبي برقة.
" الكل قام بإيذائي..."
" أعرف عزيزتي... لكن قلبك كبير و سامحته رغم ذنبه المريب... أنا فخورة بك..."
لكن ديامانتي كانت تتألم بصدق، يدها على بطنها ، أنفاسها متسارعة بينما الطبيبة تجهز معداتها لفحصها:
" قال بأن والدنا مات بالسرطان قبل عشر سنوات..." أخبرتها ديامانتي من بين دموعها.
" تسبب لك الخبر بالانقباضات؟؟ لم تتوقعيه ؟"
لم تجبها، كانت تتألم بصمت، ربما سمحت لها الطبيبة بالبقاء لكن الوضع لن يطول، مسحت على شعر شقيقتها لتطمئنها:
" كل هذا بلا أهمية عزيزتي... فالاختبارات التي مررتِ بها هي جزء من الحياة... لحظات من الفوضى والمعاناة تطلب الاعتراف بها على هذا النحو، دخلتِ قلق الانقلاب من التمزق الأخير. لكنك حملتِ في داخلك جميع الموارد وكل قوة الحياة اللازمة للتغلب على هذه الصعوبات من خلال وضع الكلمات عليها ، وقبول أنه يمكن مساعدتك ، والبحث عن حلول ، بمفردك أو مع الآخرين معي أنا مثلا، ستتحسن الأحوال و ترين النتائج وتخرجين أكثر ثراء... ليس الحل في الانفجار على هذا النحو ، ربما هي طريقتك و قد ترينها صحيحة، ما لا يجب أن تنسيه أنني في حياتك الأن و أطالب بالتقاسم ...الشيئ الذي يثقل كفة الميزان... و برئي ... الماضي يبقى ورائنا تماما لأنه ليس بأهمية ما هو قادم..."
انسابت الدموع على وجنتيها المصفرّتين كقشرة الليمون، رأتها تغمض عينيها الجميليتن، تتنهذ ببعض اليأس و تغرق أكثر في تعاستها، تركت الطبيبة تفحصها، كانت هذه الأخيرة متفهمة لدرجة انها لم تطلب منها الخروج، بقيت على حدى تنتظر بصبر قليل، عندما بدأت بالتأكد من الاشعة السينية قالت بمهنية:
" كل شيئ طبيعي، عنق الرحم مغلق بشكل جيد، ضربات قلب الجنين ... لا يوجد ما يدعوا للقلق... فقط عليك الراحة و الابتعاد عن الاضطرابات النفسية... أنت فقط في الأسبوع التاسع و العشرين عليك الإهتمام بنفسك و طفلتك..."
فتحت ديامانتي عينيها و صرخت روبي من المفاجأة في الوقت نفسه التي انطلقت ضحكة خافثة من شقيقتها التي تبدو أيضا متفاجئة مثلها، اذن فقد كانت تجهل جنس الجنين حتى اليوم؟! اقتربت منها لتشبك أصابعها بها:
"صدُق حدسي وهي طفلة... سأكون عرّابتها مطلقا لن أترك هذا الدور لأحد غيري..."
" وحدك من سيحصل على هذا الدور فلا تقلقي... لم أرغب بمعرفة جنس الجنين اذ أني كنت متأكدة بأنه صبي... نيوس يميل للذكور... اختار سلفا اسم 'داريان'..." قالت ديامانتي وهي تجعد أنفها.
" طبيعي فهو يوناني... " ولامست وجهها برقة " نيلسي سولينا ليونيداس ... الصالحة و الرزينة العاقلة... وعدتك أن يجلب هذا الطفل الخير معه... سترين بنفسك 'كارا' ... هذه الطفلة هي معجزتك الثانية بعد آريوس، و لا يوجد ما هو أهم من حاضرك و مستقبلك لذا افرغي صدرك مما لا أهمية له و عيشي حياتك... كما ان... معاقبة نيوس بهذه الطريقة لن تفيدك بشئ... انه يُعاني... نرى ذلك بوضوح على وجهه... أعلني السلام معه و مع نفسك و ستكون الأمور بخير"

* * *
تناولت 'آيا' طعام العشاء في غرفتها، هذه المرة لم يكن تحاشيها لخوسيه السبب بل آلام ظهرها المريعة، بقي ثلاثة أيام على موعد العملية، أسرتها وصلت قبل يومين وهم يقيمون في المنزل الذي اشترته و هيأته خصيصا لإستقبال إبنيها الغاليين، تجاهلت ثورة اسئلة والديها ان تفصح لهما سر هذا البيت، و كأنهما يشعران أن هناك شئ تخفيه عنهما، و كأن خوسيه أيضا يشك بسرها، حتى انه أصر على التكفل بإقالة والديها من المطار، الا انها رفضت بشدة، فهي كلفت هاتفيا سيارة أجرة و منحته عنوان البيت الذي يجذر به مرافقتهما اليه، عائلتها تزورها كل يوم، والدتها لا تخفي عليها قلقها بشأن حملها، كانت المرة الأولى التي تلمّح لها بشأن عمر الحمل، بالنسبة لها الطفلين سيخرجان في وقت مبكرة جدا، هل تشك بشأن حملها قبل الزواج؟؟ ان كان الأمر كذلك فهي لم تخبرها مباشرة بالموضوع.!
كانت انقباضاتها عالية لدرجة أنها تعجز عن التمدد على سريرها، الأدوية لم تعد تساعد في تقليص العذاب الذي يقصم أسفل ظهرها في هذه اللحظة، مسحت الدموع من عينيها بكم بيجامتها و قررت وضع كيس من الثلج على ظهرها لعله يخفف من آلامها، لكن البرّاد في غرفتها لا يتوفر على الثلج، اتصلت فورا بمطبخ القلعة و طلبت ما تريده، بإنتظار وصول طلبيتها عادت الدموع تهدد عينيها، كيف يُعقل للمرأة تحمّل هذا العذاب؟ تعرف بأنه المخاض الكاذب فقد سبق و تعرضت له سابقا كما ان موعد ولادتها الطبيعي في آخر الشهر، هذه الالم هي مجانية.
كانت تغسل وجهها بالمياه الباردة عندما سمعت طرقات على باب الجناح و بخطوات تقتحم خلوتها، جففت وجهها بمناشف الحمام و عادت الى صالونها، ليست 'آلبا' خادمتها الخاصة من أتى بل صاحب القلعة بنفسه، تلقائيا تفاقمت انقباضاتها لرؤيته، ما ينقص هذه الأمسية المريبة هو حضوره، صاحب السعادة يحق له التسلل اينما شاء، يبدو مسترخي في بنطال جنزي و بولو أزرق فاتح، يخصلات شعره السوداء الحريرة متمردة على جبينه، يحمل في يده كيس من قطع الثلج و يحط عليها نظرات متيقضة و قلقة:
" تبدين شاحبة... هل أنت بخير؟!"
في ظروف أخرى ربما عاندت و أخبرته بأنها بخير فقط كي تشاهده يرحل و يخلي المكان ، لكنه المسؤول عما في بطنها اليس كذلك؟؟ ومن الافضل أن تتقاسم معه معاناتها...
" انه المخاض الكاذب و ظهري يؤلمني بشدة..." لم تمنع الغصة التي أثقلت صوتها الذي أتى أجشا:"أنا أعاني..."
في ظرف ثانية أصبح بجانبها و لفها دفئه فورا، تسللت ذراعه القوية الى خصرها بينما أمسك يدها في يده الأخرى، يساعدها بالوصول الى السرير، لكنها لا تنوي التمدد فهذا ما فعلته طيلة اليوم:
" هل أخدت مهدئاتك؟" سألها بإهتمام حقيقي يدفئ القلب.
" نعم أخدتها... الألم لا ينقضي...الأمر يشبه الكابوس"
" تعالي الى هنا يا طفلتي سأساعدك..."
لم تكن قادرة على الاعتراض، تركته فحسب يقودها الى السرير، انها مستعدة لأي شيء لتتخلص من هذا العذاب، جلست على حاشيته و شعرت به يجلس خلفها، ساقيه على طول ساقيها، أنفاسه على رقبتها تتلاعب بخصلات شعرها، تعرف انها ان تراجعت قليلا الى الخلف فسيلتصق ظهرها بصدره، و ما هي الا لحظات حتى بدأت أصابعه بتدليك أسف ظهرها بخبرة، حركاته تخفف من التصلب والتوترات في عضلاتها ، توقفت عن ممارساتها في التدليك في هذا الشهر كإجراء احترازي لتجنب حدوث تقلصات، و لا يبدو ان ذلك نفع...
" استرخي 'كوراسون'... " أمرها بنبرة ناعمة.
أغمضت عينيها تحاول التركيز فقط على الراحة التي تغمرها لحركات أصابعه عليها، كان يخفف من التوتر في منطقة أسفل الظهر، خوسيه خبير التدليك... موهبة حساسة لإثارة النساء في سريره؟ الغيرة المُرّة مزّقت كيانها... لما تفكر في الموضوع؟ تعرف بأنه سيبدأ العد التنازلي ما ان تلد...! وضعت يدها على بطنها القاسية مثل الحجارة، رغما عنها تستشف في حركاته حنان و رقة لا مثيل لهما... لا تعرف كم مرّ من الوقت وهما على هذه الوضعية، يمسدها بهذه الدقة و اللطف، توثر عضلاتها خف لكنه لم ينقضي تماما:
" هل وجدت إسما للصغيرة؟"
تركت عينيها مغمضتين وهي تهمس بصوت منخفض:
" أوزلام..."
أصابعه تصلبت قليلا على بشرتها لكنه لم يتوقف عن مسدها بنفس الخبرة الذيذة:
" إسم تركي؟"
وماذا توقع؟ أن تختار اسما بعيدا عن ملتها؟
" كنت قريبة جدا من جدتي و هي من أسمتني.... أوزلام اسمها و هو يعني الاشتياق... الا يعجبك؟!..."
" انه غريب... لا تنسي أنني إسباني... " كان صوته قريب جدا من أذنها لدرجة انه ملئها بالألاف من القشعريرة في سائر بشرتها، استعادت رباطة جأشها و ابتعدت قليلا عن فمه وهي تصحح له ببعض العناد:
"اسباني عربي الجذور..."
" كان هذا منذ قرون مضت..." تمتم متهكما.
" غريب كيف أن تصرفاتك شرقية ..."
" لست غربي كفاية لمزاجك؟"
" أنت لست غربي بتاتا..."
انطلقت ضحكة طفيفة منه و صفعتها أنفاسه المعطرة برائحته الخاصة مجددا لتخلق العواصف بداخلها، رائحة خوسيه مارتينيز المألوفة تُسكرها تماما و تجعلها في حالة ثمالة استثنائية:
" هل هو ذم أو مدح؟!"
" تدخل في حوارات كبريتية!..."
" أثوق فحسب لمعرفة رئيك في شرقيتي!"
ابتسمت رغم حذرها، كان مستمرا في دلك ظهرها و جلب الراحة التامة لعضلاتها، لكن انفاسه أقرب هذه المرة من عنقها، هل سيُقبلها؟:
" القائمة طويلة جدا خوسيه... يلزمنا يوما كاملا للشرح و بدون هذه الانقباضات..."
لم يجبها، توقف عن مسدها و دعاها للتمدد ثم وضع وسادة تحت ظهرها، التدليك ساعدها على الاسترخاء، لكن الانقباضات ما تزال غير منتظمة، انحنى عليها ليبعد شعرها عن جبينها:
" سأجهز لك شرابا يساعدك في الاسترخاء..."
" أنت لطيف جدا و هذا يُرعبني..." قالت متنهذة.
" لن أقوم بإبتلاعك فلا تقلقي... أثوق لرؤية التوأمين سالمين"
حتى وهو بمزاج معتدل لا ينفك عن رمي إبره الواخزة نحوها، راقبته يخطو بقامته الجليلة و يختفي في المطبخ الصغير، تذكرت تلك الليلة التي زارها ليلا و سامرها و كان أيضا مهتما و لطيفا، أم أنه يهيئ فحسب أرضه!؟ سيصير أبا قريبا جدا، فمالذي يهيئه لها يا ترى؟! مسحت على بطنها التي ترفض قطعا الاسترخاء، مازالت قاسية مثل الصخر، بالرغم من عيشها حمل هانئ الا ان الأشهر الأخيرة صعبة للغاية و هي تثوق للولادة و أخد طفليها بين ذراعيها... لن تحمل مجددا هي متأكدة.
" صنعت لك مشروب المريمية، انه رائع جدا في تهدئة التشنجات"
ساعدها على الجلوس ووضع مجددا الوسادة خلف ظهرها، كان متيقظا لأقل تفصيل، أمسكت بالفنجان الفورا و شمت رائحته المعطرة:
" منذ متى أصبحت على دراية بما تحتاجه المرأة الحامل؟؟"
"تغيرت ميولاتي مؤخرا و أطلعت على الكثير من مجلات الحوامل و الرضع... و أتذكر بضع تفاصيل مهمة... " فسر لها و هو يجلس على حاشية السرير قربها ثم يضع يده على البطن الكبيرة أمامها و يتطلع اليه ببعض التملك و الانبهار.
بما يفكر يا ترى؟ بإكتفاء الذكوري لأن مشروعه نجح؟! يضع يده على انجازه العظيم... هذه الحركة المتسلطة أشعرتها بالخوف، وبدلًا من النضال كما كان متوقعًا ، سمحت لنفسها بتحسس دفئه، كان عليها أن تبذل جهداً خارقاً لإخماد نفحة الرغبة التي هاجمتها، لابد أنه شعر أيضا بالتوثر الكهربائي الذي تطاير بينهما، الرغبة المحمومة التي أشعلت حواسها تراجعت تدريجيًا لتتشابك مع مشاعر متناقضة ...في اضطرابها الخاص ... أدركت فجأة أن التوعكات توقفت تحت ملمس يده.
" سأبقى الليلة معك ! أنوي دعمك قليلا... لا أعرف ما يمكنني تقديمه أكثر من البقاء بجانبك"
المريمرية أتت بمفعولها و شعرت بالنوم يتسلل اليها، لم تعترض على بقائه، لا تنوي خضوع هذه التجربة الإستثنائية و الفريدة من نوعها بمفردها، يمكنه البقاء لأنهما شريكين في حملها، عموما تعرف بأنه لن يتحرش بها، و من سيفعل مع بقرة مثلها؟ ربما كان يستعد لمناقشة ساخنة بعد رفض قاطع ، ولم يحذث شيء مما تهيأ له، تمددت على جنبها تبحث عن الوضعية الأكثر راحة، وضع الأغطية عليها قائلا:
" خف الألم؟"
" أممم... أفضل الآن.. أرغب بالنوم أنا مرهقة..."
شعرت به يتمدد خلفها، قريبا جدا منها دون ان يستعمل الأغطية التي وضعها عليها، يده على شعرها يمسده بلطف:
" نامي جيدا 'كوراسون'... سأكون هنا بجانبك ان إحتجت شيئا..."
ظنت أن النوم سيصعب عليها تذوقه بهذا القرب الشديد الا ان العكس ما حذث، شعرت بالراحة لدعمه اياها و مساندتها، غرقت فورا في النوم مستغلة استرخاء جسدها بالتدليك و المشروب.
كانت الساعة قد تجاوزت الثالثة صباحا عندما اسيقظت على آلام جديدة، جسد خوسيه يلتصق بظهرها، يده على بطنها، كان تنفسه رتيبا ... يبدو أنه غارق في النوم، لا تتذكر متى التصق أو حتى أصبحا بهذه الحميمية و القرب، رغم تشنجاتها لم تمنع نفسها من الشعور بالنشوة اللطيفة التي إجتاحتها، أبقت نظراتها أمامها، في العتمة الضئيلة، نهايتهما تقترب، سينتهي كل شيء ما ان تضع الطفلين، و ستتعافى من أزمتها العاطفية ومواصلة حياتها على الرغم من أن معظمنا يعلم أن نهاية العلاقة الجادة الأولى تكون في الغالب الأكثر صعوبة ، فإن اجتياز الأمتحان يعد أحد أفضل الدروس التي يمكنك تعلمها في الحياة، لن تنكر أبدا بأن خوسيه لم يكن فقط علاقتها الجسدية الأولى، هناك كمية مشاعر و أحاسيس حصدتها مع الوقت، لكنها تعرف طبيعتها، ستنسى الموضوع لأنها تعرف بأن لا مستقبل حقيقي لهما... انهما متناقضان و بشدة.
بدأت بعملية التنفُّس العميق مع زفير بطيء لمساعدتها على الاسترخاء في بداية ونهاية التقلُّص، لكن شيء آخر حذث، شعرت بنزول سائل منها، وضعت يدها فورا بين فخديها لتكتشف انها مبللة تماما.
" خوسيه... خوسيه...." لم تحتاج لهزهزته أكثر لأنه استجاب فورا:" أظنني فقدت السائل الأمنيوسي"
في لحظة أصبح أمامها، تمت الاجابة على شكوكها، كان ينام بكامل ملابسه لحسن حظها، رغم اضطرابها في هذه اللحظة الا ان جانبها الواعي يلتقط كل التفاصيل الصغيرة و الكبيرة... حاولت تهدئة نفسها، انها بعيدة جدا عن موعد الولادة الطبيعية، و تم تحديد موعد الولادة القيصرية بعد ثلاثة أيام و عليها الا تفزع و ان تحتفظ بكل هدوئها لأنها مسؤولة عن الحياة بداخل رحمها.
" علامة أكيدة للتوجه للمستشفى فورا؟" سألها بقلق.
" يبدو أنك بحتث جيدا في الموضوع..." ابتسمت له من خلال شحوبها:" هل ستأخدني بالسيارة أم تتصل بسيارة الاسعاف؟"
" قد يأخد وقت الإتصال بالإسعاف...."
قاطعته وهي تضع يدها على يده لتهدئه... كان يرتجف:
" خوسيه.... اهدأ....تحذث الولادة غالباً خلال 24 ساعة من نزول السائل... لن أنجب فورا... "
يحاول التحكم في انفعالاته، عموما المستشفى ليست بعيدة جدا، يمكنهما الذهاب في السيارة فلا داعي لإستدعاء الإسعاف.
" حسنا حبيبتي... ماذا يجدر بنا أخده ؟؟"
هل وعي بأنه ناداها بحبيبتي؟لم يكن معتادًا على الإدلاء بتصريحات ذات نغمات عاطفية... بدون شك... هذا نتيجة الانفعالات... لا ينفك عن إظهار علامات المودة و الدعم .
" محفظة الطفلين و أغراضي كلها جاهزة سلفا ... حاليا ساعدني في استبدال ملابسي"
عندما تطلب امرأة من رجل مثل خوسيه بمساعدتها فهي تجهل حقا ما ينتظرها، هذا الأخير قام بتنظيف كل انش من جسمها بالمطهرات، مهووس النظافة و الدقة الامنتهية وضع اهتماماته الجنسية جانبا و تصرف كزوج حنون و مهتم بزوجته، البسها فستان حوامل و تمكن حتى من تسريح شعرها على شكل ظفيرة.
" انت مليئ بالمفاجأت..."
ابتسم ابتسامة مقتضبة... رباه... كان يموت من القلق، لا يبدو بخير، لم تره يوما أقل ثقة في نفسه كما هي اللحظة، كم تمنت لو تمد يدها و تمسح هذه التكشيرة التي أظلمت وسامته.
" يمكنني تعلم أشياء اظافية لإبهارك كوراسون... هل أنت جاهزة؟ يمكننا الذهاب الأن؟"
هزت رأسها:
" لا تنسى أغراضي و أغراض التوأمين..."
" لا تقلقي سيأتي بكل شيء السائق... آه لحظة..." أخرج هاتفه و بدأ يضغط على لوحته الديجيتال قبل أن يسألها:" هل لديك تقلصات اللحظة؟؟"
" نعم..." ثم القت نظرة فضولية على هاتفه." ماذا تفعل؟"
" انه تطبيق خاص ...سيسمح لنا هذا التطبيق بمتابعة تقدم تقلصاتك بدقة ، من حيث المدة والتكرار والشدة ، سواء قبل الولادة أو أثناء المخاض..."
اتسعت عينيها بدهشة:
" لم تترك شيء للصدفة..."
" كلا حبيبتي... لا أحب ترك شيء للصدفة..."
* * *
كان الضباب كثيفا في هذه المنطقة من الجزيرة و في فصل الشتاء يزداد حدة، اقتربت أعياد الميلاد، و الأحياء مزينة بأجمل الحلاّت، بالكاد ترى الأضواء الملونة من خلال الضباب الذي حجب الرؤية، لكنها يمكنها تميز قامة روكو مع بقية الرجال على الساحل، تجهل ما يفعله الجميع هنا، ثمة شيء مريب يحذث، لأنهم متجمهرون و يتكلمون بصوت منخفض، تعرف بأنه سينفجر من الغضب ان اقتربت منهم، هو الذي يتركها دوما على حياد أعماله الخطرة، وقع خطواتها أثارت الانتباه وهز الجميع نظراته نحوها، تفهم الأن على ما يتجمهر الكل، تعرفت فورا على يانيس ايميليانو، كان يرتدي بدلة قاتمة، وليس هذا ما اثار انتباهها، يديه... يديه ملوتثين بالدم و يحملان سلاحا، و كأنه أتى فورا على تصفية أحدهم:
" تراجعي..." صرخ بها روكو.
قبل ان تفقه للخطر صوب والده السلاح نحوها و انطلقت الرصاصة.
" لا..." شعرت بريانا برئتيها تحرقانها من فرط الصرخة التي مزقت المكان.
انتبهت الى أنها في سريرها، النافدة تطل على سماء مظلمة، أنفاسها العالية تمزق السكون المخيم حولها، مدت يدها نحو الوسادة قربها و اكتشفت مكان روكو فارغا، الساعة لم تتجاوز الخامسة صباحا، وضعت يدها على صدرها تحاول التحكم في أنفاسها المضطربة و ضربات قلبها العالية، الكوابيس تزداد حدة مؤخرا، يترأسها بالتأكيد يانيس الذي ينتهي به الأمر بقتلها أو قتل روكو، هذه الليلة كان دورها، التقطت الروب و ارتدته على قميص نومها و ادلفت قدميها في الخفين قبل أن تقرر الذهاب للبحث عن الرجل الذي تتسبب حمايته فيها كل هذا الاضطراب، لاتعرف ما أخرجه من السرير في هذا الوقت المبكر، لكن وقبل أن تقترب من الباب فتح هذا الأخير و ظهر رجل حياتها.
شعرت بالراحة لرؤيته سالما، كان شعره الكثيف مبلل من الدوش الذي اتى على أخده، يرتدي سلفا بدلته الرسمية التي ينوي استقبال يومه بها، رباه كم تكره هذه البدلات.
" سمعت صراخك؟؟ هل أنت بخير؟؟" دنى منها ليأخدها بين ذراعيه.شمت فيه رائحة السيادة و السلطة و السطوة و القوة مما جعل جسدها يتكمش أكثر، حقيقة مريبة على انها خطيبة رجل استثنائي و لا يشبه غيره في شيئ " ما الأمر كارا؟؟ "
هزت عينيها نحوه، كان يبدو قلقا بصدق، يديه تأخدان وجهها بحنوه المعتاد، هذا هو روكو، مزيج من النار و الماء، حنانه في كل مرّة يسلبها مقاومتها.
" رأيت كابوس..."
" لو كان هذا الكابوس رجلا لأشبعته ضربا" كان يمزح ليبعد عنها الرعب الذي أحسته قبل قليل.
لكن لا رغبة لها بالضحك، حياتها تتخد منحنى خطر جدا يرعبها، و روكو يزداد انغلاقا على أسراره، في الماضي كان يتقاسم معها بضع أمور، اليوم أصبح متكثما و غامضا بشكل لا يطاق.
" لما أنت مبكر؟؟ الى أين تنوي الذهاب؟"
" لدي فطور عمل في روما..." شرح لها بلطف وهو يعدّل خصلات شعرها.." لا تنسي أن تجهزي نفسك اليوم كي نسافر غدا الى التايلاند"
و يعود لأسطوانة نفسها...
" سبق و أخبرتك بأنها فترة العيد و انني مشغولة جدا بعملي و يتعدّر علي مرافقتك روكو..."
انغلقت ملامح وجهه الوسيمة، لا يبدو سعيدا بهذا التملص، لكنه في كل مرة يحاول حط عملها في خانة الغير ضروريات، هذا العمل الذي انقذها من الجنون بينما يتخلى الجميع عليها في الماضي:
" أخبرني عن هذا الفطور؟؟ مع من ستجتمع؟؟ أعمالك التي أعرفها أم الأخرى التي لا أعرفها...؟"
" أرى بأن الكابوس أفسد مزاجك..." تمتم بصوت ناشف.
" لا علاقة للكابوس بما يحذث مؤخرا في حياتنا روكو... أنت تخفي أمور و أنا منزعجة من غموضك، ظننت أننا شريكان في كل شيئ..."
" نحن كذلك ..." و عاد لعادته في اغرائها بالكلمات المعسولة، أخد وجهها مجددا بين يديه و غاص في عينيها بنظراته التي تخترقها حتى الأعماق:" أنت شريكتي و خطيبتي و المرأة التي أنوي الزواج بها قريبا... أؤكد لك بأنني سأسافر مع اليخاندرو لبضع تسويات عملية متعلقة بمشروع اغريجينتو..."
الشيئ الذي هي متأكدة منه أن روكو لا يكذب أبدا و أنه أشد الرجال نزاهة عرفتهم في حياتها، يمكنها الوثوق به بأعين مغمضة، و ان قال بأن لديه فطور عمل فهو صادق، لكنه لا يتوقف عن قذف الكرة كلما سألته عن ذلك اليوم الذي خرج فيه متسلحا من البيت.
" عودي للنوم 'كارا' فالوقت باكر على ذهابك للمكتب"
" لا يمكنني العودة للنوم و من الأفضل أن أهيئ نفسي " لابد انه لاحظ برودها لكنه لم يعلق عليه، انه على عجلة من أمره بالتأكيد لا ينوي تضييعه في النقاشات الغير مجدية برئيه.
" هل أخبرتك كم أنا محظوظ بك؟؟" سألها بحيوية شاملة وهو يقبلها بإثارة:" سأكون هنا قبل المساء، يمكننا تناول العشاء خارجا ما رئيك؟؟"
لم تجبه بالكلمات، اكتفت بهز رأسها، بقي يحملق اليها و كأنه يرغب بسبر غورها سمعته يتنهذ بعمق و يقبلها للمرة الأخيرة ثم يرحل.
بعد أن أخدت حمام طويل لتزيل به توثرها ، التفت وسط منشفة عملاقة و قصدت الخزانة الشاسعة التي تتقاسمها مع صاحبها منذ ان انتقلت للعيش هنا، وهل كانت صائبة في هذا القرار الذي تحايل عليها به روكو؟؟ جلب والديها و كانت مضطرة لقبول ضيافته، و منذ ان عاد والديها الديار لم يمكنها مطلقا التراجع... بقيت للحظات تواجعه فساتينها المعلقة و العشرات من الطواقم الرسمية دون ان تراها، عقلها مبنج للغاية، انها بصدق مرهقة مما يحذث مؤخرا.
سقط اختيارها في النهاية على ثنورة سوداء و قميص مقلمة زرقاء شاحبة، قصدت الرفوف حيث أحذيتها و انتبهت الى الجوارير السفلية المنفرجة قليلا، انحنت لتغلقها و لاحظت انها تحوي سترات روكو الواقية للرصاص، جلست على ركبتيها و بعد عدة محاولات تمكنت من فتح الجارور على آخره و بقيت هنا.. بمواجهة روتين رجل حياتها، أغلب السترات مثقوبة، تعرض لهجوم ناري على ما يبدو... تأكدت وهي تتحسس هذه الاثار التي كان يمكن أن تأخد منها الرجل الذي قررت دخول حياته دون أن ترى عواقب اختياراتها.
أخرجت السترات المستعملة الواحدة تلو الأخرى و تفقدتها جيدا، تجهل متى استعملها أو الى اي وقت تعود هذه الطلقات، الا انها برهان على نوع الحياة التي يعيشها , حياة مليئة بالخوف و الخطر و الترقب... هل هذا حقا ما تريده؟؟ أن تعيش رعب الا يعود يوما الى البيت؟
" مالذي فعلته بنفسك بريانا؟؟!" تمتمت في حالة ذهول تامة وجلست أرضا قبل أن تمسك رأسها بين يديها.
هل حقا تأدت في الماضي؟؟ ما فعله بها ديميتريس أقل خطورة مما ينتظرها مع روكو، شتان بين الحالتين، لأنها بصدق تحب خطيبها كما لم تحب يوما في كل حياتها و لا تعرف بأي معجزة ستشتري هناء علاقتهما، هو الذي كان واضحا جدا بشأن بُعدها، أخبرها ببساطة الا خيار أمامها، و هي لا تريد الذهاب، بل تريده ان يتغير من أجلهما و من أجل الأطفال الذين تتمنى الحصول عليهم منه، في البداية بدت لها هذه الأمور بلا أهمية، لكن بتعمقها في حياته اختلفت لها الرؤية... لا شيئ مضمون ... و قد يسلبها القدر كل شيئ في لحظة... فهل هي مستعدة حقا لهذه المخاطرة؟ هل هي مستعدة لعيش أيام أخرى من السواد؟ و اي حياة ستتبقى لها ان فقدته في تلك الصراعات التي لا تعرف عنها شيئا؟ تلك المواجهات الدموية التي يبدو أنه يثقنها جيدا ... فليفخر يانيس بنفسه... غرس شوكته في وريثه قبل أن يختفي.
أمضت الساعات التالية ميكانيكيا، في العاشرة استلمت باقة زهور من روكو، باقة حمرء كبيرة أخدت جزء مهم على مكتبها، شكرته في رسالة موجزة و تلقت ردا رقيقا { عندما تغضبين مني أشعر بالسوء ... افهمي بأنك مرساتي، و لست مستعدا لخسارتك... أنت النور الذي ينير طريقي و يقودني نحو بر الأمان... }
قفزت الدموع الى عينيها لكنها لم ترد، تشعر بأنها وقعت في الفخ، بقيت تحملق في الفراغ غير واعية بنظرات مساعدتها باولينا المتفحصة، امضت جل وقتها بالتيبس و الابتعاد عن الحاضر الى أن أتت فترة بعد الظهر و لم تعود قادر على التظاهر أكثر بالعمل و الاسترخاء، تركت باولينا تهتم بمكتبها و صعدت الى شقتها التي هجرتها منذ أكثر من ستة أشهر بدل أن تعود الى قصر الايميليانو.
كم يبدو لها ذلك الوقت بعيدا، عندما تلتجئ لسكينة منزلها و تغلق عليها بابها و لا يشغل بالها سوى عملها، رمت بحقيبة يدها على الكنبة و تمشت نحو المطبخ لتخرج قنينة النبيذ و تسقي نفسها كأسا، كانت بحاجة ماسة للهروب من محيط روكو و ايجاد نفسها مجددا، رمت بجسمها على الكنبة و أغمضت عينيها تستريح مما تعرضت له طيلة اليوم من ضغط نفسي مريب، صورة الطلقات النارية المحفورة على البذات المستعملة لا تنفك من العودة لمخيلتها، تعترف بأنها في حالة صدمة و هي عاجزة عن أي تفكير صحيح... تمددت على الكنبة و توسدت ذراعها قبل أن تغرق في النوم الذي كانت في حاجة ماسة اليه.
* * *
لحظات الانتظار طويلة جدا و صعبة، منحته زوجته درسا في المقاومة و الصبر و القوة، طالما عهدها شرسة و مقاتلة و عنيدة، طالما عهدها مثابرة و لم تخيب ظنه حتى في هذه اللحظات التي يحسبها نقطة عالية في حياته، ليس من السهل مرافقتها في الألم، ومع ذلك ، يجد نفسه مندفعا للتخفيف عنها بكل الوسائل الممكنة،لم تخطئ آيا عندما أكدت له بأن الولادة لن تأتي مباشرة بعد الطلق، عقبتها ساعات طويلة من المخاض، القابلة تجد أن وضع الأجنة طبيعي و ستلد زوجته ولادة المهبلية بدل العملية القيصرية، كل شيء جديد بالنسبة اليهما، يعيشان كل لحظة بإنبهار أكبر، نصحتهما القابلة بالتعثر مطولا في الممرات، على حد قولها هذا يساعد بفتح عنق الرحم، كانت تتوقف آيا في مكانها كلما هاجمتها انقباضة جديدة، و يسارع بتذكيرها بعملية التنفس الصحيحة لإجتيازها، يظن أحيانا أنه يبالغ مما يدفع زوجته لتنفجر في الضحك من بعد كل دموع الألم التي تذرفها، عندما تصل الولادة ، فقد فات الأوان للحصول على معلومات عملية عن الحمل. لهذا قرأ الكثير قبل أن يقترب من هذا الحدث العظيم. لا تسير الولادة دائمًا كما هو مخطط لها ، هو الذي ظن أن الموضوع سيقتصر على عملية يجد نفسه يعيش أجمل ما قد عاشه طيلة حياته، تركا خلافاتهما كلها جانبا و ركزّا فقط على هذه اللحظات الاستثنائية...المشي والجلوس على الكرة التي تساعد في استعجال الولادة... و الضحك و التهكم و البكاء و التألم و أيضا الكثير من صور السيلفي الملتقطة، آيا تنوي ترسيخ هذه اللحظات الى الأبد.
عائلة آيا وصلت في الصباح الى المستشفى و بقيوا لثلاث ساعات قبل أن تطلب منهم هذه الأخيرة الرحيل لأن 'إيفوا' لا يناسبه جو المستشفى، دانيلا أتت الى المستشفى بالأغراض المطلوبة و بقيت معهما ساعة قبل أن ترحل بدورها!
" هل أنت جائعة؟ لم تتناولي شيئا ؟" سألها بينما يعودان الى غرفتها الطبية.
" لست جائعة..." ساعدها بالجلوس على السرير، شعر بالعجز بينما يراها تتلوى مجددا تحت ضغط انقباضة جديدة." أنت أيضا لم تبلع شيئا منذ مجيئنا... لن تنقلب الأرض ان غبت قليلا ، لذا إذهب للكافتيريا و أطلب وجبة..."
" لا أتناول الأطعمة الجاهزة... كما أنني لست جائعا... سأكتفي بقهوة... هل انت متأكدة لا ترغبين بشيء؟"
هزت رأسها و ابتسمت شاكرة:
" إذهب خوسيه... لكن ابعث لي القابلة أرجوك.."
في الرواق حيث ماكينة القهوة أرسل القابلة لزوجته و ركب رقم روكو، هذا الأخير ردّ على الفور و سأله بلهفة:
" أصبحت أبا؟؟"
" ليس بعد... المسألة أطول مما اعتقدت... أتصل كي آخد أخبار سيزار..."
" توفي 'سيفيرانو' في الصباح الباكر و سيزار مع زوجته لذا لا يرد على أحد... "
توقع هذا بالتأكيد، كانت فحسب مسألة وقت:
" سأحاول التواصل معه لاحقا... أخبره أن يوصل خالص تعازي لزوجته..."
عندما أغلق الخط انهى قهوته بسرعة ثم عاد الى غرفة آيا، هذه الأخيرة كانت تبكي مجددا من الألم، القابلة تمسك بيدها و تهمس لها بكلمات مشجعة.
" الا يمكنكم منحها شيئ لتخفيف الألم؟"
" هناك التخدير فوق الجافية ... لكنها ترفضه..." شرحت له القابلة بنبرة أسف.
" لما ترفضين ؟" تدخل خوسيه وهو يجلس بالقرب منها و يمسك بيدها:" حبيبتي أنظري الي... انهم يعرفون عملهم، و بما انه سبق ووافقت على هذه الاحتمالية..."
هزت رأسها بالنفي:
" أنت لا تفهم... ان تخدرت فلن أشعر بشيئ إطلاقا، و أنا متمسكة بعيش كل لحظة من المخاض..."
تعاطف بشدة مع هذه الكلمات، هذي هي آيا، المستعدة دوما لتقديم التضحيات لمن تحبهم، اليس من اجل 'ايفو' فعلت ما استطاعت لتؤمن المبلغ المطلوب من المال و خضوعه للعملية؟
التقط مناديل ورقية و بدأ بتجفيف وجهها من الدموع و العرق، كانت عينيها الرائعتين محمرّتين و رموشها المبللة تمنحها مظهر طفولي و بريئ للغاية، شيئ ما بداخله انفجر، شيئ لم يشعر به من قبل، لم يكن التعاطف و لا الشفقة، شيئ أقوى و أكبر... شيئ يشبه العاصفة التي لا يعلم من أين مصدرها و تجرف معها كل ما في طريقها.
" أنا آسف..."
" لماذا تعتذر؟" سألته بصوت متكسر و هش.
" لأنه لا يمكنني تقاسم هذه الألام معك..."
يبدو أن كلامه يسعدها، مدت له يدها و التقطها قبل أن يقبلها بحراره:
" يكفي انك هنا... سنرزق قريبا بأجمل طفلين و سننسى هذه الساعات الطويلة من الألم..." ابتسمت له ابتسامة صغيرة:" هل يمكنك تدليك ظهري مجددا؟ أشعرني هذا بتحسن شديد بالأمس..."
" كل ما تريدين كوراسون... كل ما تريدين"
كان هناك آلة مراقبة على بطنها من أجل متابعة الانقباضات (الشدة ، والمدة ، والتباعد ، وما إلى ذلك) ودقات قلب طفلين، كان سعيد بأن يقوم لها بهذه الخدمة و ان يساعدها ولو قليلا، كانت الانقباضات تتقارب بشدة و استعملت عدة مرات يده كوسيلة للتخفيف من آلامها، عندما عادت القابلة هذه المرة و فحصت عنق الرحم أخبرتها أن موعد الولادة قد حان، في خلال دقائق التحق بهم طبيبة نسائين و بضع ممرضات و القابلات ا و تم تجهيز آيا التي أمسكت بيده:
" لا تذهب..."
" لن أذهب..." أكد لها برقة وهو يقبل جبينها:" سأبقى هنا حتى النهاية..."
هذا كل شيء ، سيتمكن قريبًا من احتضان طفليه ! مرحلة الطرد التي لا تستغرق عادة أكثر من دقائق ، يمكنه رؤية الوجهين الذين انتظرهما طويلا.
" عندما تشعرين برغبة في الدفع ادفعي... ليس حنجرتك لكن بعضلات بطنك..." سمع الطبيبة المشرفة تشرح لأيا بصوت لطيف.
و كم كانت شجاعة و كم كان فخورا بها، كان معها في كل لحظة و لم تفارق يدها يده، كانت تضغط بعمق التنفس تماما كما يُطلب منها:
" أرى قمة الرأس... !" شجعتها الطبيبة بعد دقائق" أنت جيدة جدا استمري..."
في حالة الولادة التوائم طبيعيا، فإن ولادة الطفل الأول تطابق ولادة طفل واحد. ومع ذلك ، يتم مراقبة كلا الرضيعين أثناء الولادة ، وإذا أظهر التوأم الثاني علامات معاناة ، يتم تسريع خروج الطفل الأول (استخدام الملقط) كما سبق و اطلع عليه في الكتب.
" الرأس هنا... توقفي عن الدفع..."
رآى يديها تمسكان بالجسد الصغير بينما الطبيبة تضحك بتسلية:
" الرجل نسي مقولة الأولية للنساء وترك أخته خلفه... تنسى اللباقة أيها الصبي"
" Dios..." هذا ما نطق به خوسيه بينما يرى ابنه للمرة الأولى وهي تحطه الطبيبة على صدر آيا... المشهد لا واقعي لدرجة انه سمر مكانه، كانت مشاعره قوية و لم يتمكن من التحرك أو حتى التنفس، العالم توقف عند هذه النقطة، كل الأصوات تبخرت، يعترف بأنه لم يجهز نفسه جيدا لهذا اللقاء العجيب، فالصورة في رأسه لم تكن واضحة و هاهي تتجسد أمامه، أجمل اللقاءات على الإطلاق، كان الجسد الصغير ورديا، الشعر الكثيف الاسود ملتصق بالرأس الصغير، قطعة من قلبه ممدة أمامه و تبدأ فورا بالبكاء... بكاء اجش و غريب اخترق صدره مثل السهم... رباه... هذا الشيء هو له... انه طفله... يصدمه رؤيته صغيرا لهذا الحد فهو لا دراية له بالأطفال.
" هيا ايها الصغير اسمعنا صوتك أكثر..." قالت الممرضة و هي تمسح جسده بمنشفة قبل أن تأخده مجددا من حظن آيا التي رفضت تحريره" يجب أن انظفه و اقوم بوزنه لا تخافي سأعيده اليك..."
" هيا سيدتي... " نبهت الطبيبة ايا التي كانت بعيدة عن انهاء عملها:" هناك من يريد التعرف أيضا على والديه..."
إخراج الطفلة كان مؤلما أكثر لها، سلبها كل طاقتها و رآها تستسلم و تتوقف عن متابعة تعليمات الطاقم الطبي، كانوا يراقبون ضغطها، يحاولون تحفيزها أكثر بمنحها مقويات، مما اضطرهم في النهاية لتخديرها كي يتمموا مناوراتهم داخل رحمها، ولادة التوائم أطول من الولادة طبيعية و هذا لم يحسب له حسابا، سيسمح التخدير بعدم المعاناة خلال هذا الماراثون الحقيقي، تسائل خوسيه عن كيفية حرمانها منهما بعد كل ما عاشه معها من حرب شرسة؟ لها الأحقية أكثر منه وهو ليس وحشا... لقد عانت بشدة بينما هو هنا واقفا، متفرجا كبقية افراد الفريق الطبي... وهذا يحبطه.
انه مرهق نفسيا لدرجة أنه يشعر بأنه على وشك الأنفجار، كان خائف على صحة آيا، على الطفلة التي يبدو أنها تعاني مشاكل ما، أخيرا أطلت ابنتهما بأنفها، عكس شقيقها فلم يكن لديها شعر و لم تكن وردية بل زرقاء، و أيضا لم تصرخ مثله، من بين الوعي و الاوعي تردد صوت زوجته قلقا على الصغيرة، كانت أقل وزنا من شقيقها و تحتاج لفحص فوري، احتاج لكل صبره و رباطة جأشه كي ينتظر نتيجة مناورات الطاقم الطبي مع صغيرته... كانت بين يدي طبيب أطفال:
" ما بها خوسيه؟؟ مابها؟ لما لم تصرخ"
" ستكون بخير لا تقلقي..." كم يتمنى ان يكون مؤمنا أكثر في كلامه:" قمتي بعمل رائع حبيبتي و أنا فخور بك"
لكن شيء آخر يحذث، وجد القابلات و الطبيب النسائي يقومون بجهوذهم في افراغ رحم زوجته، الشيء الذي يشوش جهاز الضغط و ضربات القلب، القلق صلبه بشدة و ترآت له فجأة اليونور من بين الحشوذ... كانت تقف خلف الأطباء، تنظر مباشرة الى آيا، ثم ابتسمت ابتسامة سيئة وقالت:
" انها تفقد دمها... انت تدمر كل ما تلمسه خوسيه..."
خرج من حالة الالتباس عندما شعر بيد تشد على ذراعه وتهزه:
" عليك الخروج من هنا..."
" كلا... لن أتركها مالذي يحذث بحق الجحيم؟" القى نظرة الى آيا، هذه الأخيرة بدت و كأنها تجاهذ كي لا تفقد وعيها :" مالذي يحذث؟"
قادته الممرض خارجا و اغلقت الباب خلفها:
" ولادة التوائم تمثل على وجه الخصوص خطرًا أعلى للنزيف ، وذلك لأن الرحم منتفخ جدًا. غالبًا ما يتم توجيه الولادة (طرد المشيمة) (بسبب حقن دواء لتقلص الرحم). و الان يقوم أخصائي أمراض النساء والتوليد بإجراء عملية تسليم مصطنعة أو مراجعة الرحم... التوأمين سيكونان في قسم الأطفال المبكري الولادة، يمكنك رؤيتهما ان رغبت بعد ان ينهي الطبيب فحصهما..."
" ما هي الصعوبات التي تعرضت لها الطفلة... أقصد إبنتي...!؟"
" مشكلة في التنفس لكن الوضع تمت السيطرة عليه... كن صبورا فالاطباء يهتمون بزوجتك"
يكون صبورا؟؟ هو سينفجر ان بقي تحت هذا الضغط، لاشيئ مرّ كما خطط له الأطباء و هو يواجه حقيقة ان تنتهي الأمور بشكل مريع... رنّ هاتفه و كانت دانيلا، بقي ينظر الى شاشة هاتفه قبل أن يغلقه و يدسه في جيب بنطاله، لا يريد تقاسم رعبه مع أحد لسيما معها، انها حساسة للغاية و ابدت قلقها كل الوقت، انه بحاجة لتنفس هواء جديد، بعيدا عن روائح المعطرات و الأدوية، لكنه عاجز عن الابتعاد بينما آيا { المصابة بنزيف بسبب علق المشيمة} تتأرجح بين الحياة و الموت!
عادت الممرضة لتخبره بأنه يمكنه رؤية ابنيه و بأنهما جاهزين لذلك، في الغرفة المعقمة كانا الصغيرين وسط صناديق زجاجية تقيهما من أي نوع من العدوى، انهما صغيرين جدا، دنى أكثر من صندوق صاحب الملاءة الوردية، طفلته مستلقية على ظهرها، مزودة بالأوكسجين، تخلصت من لونها الأزرق وصارت وردية مثل بقية المولودين في المكان:
" هل اخترتما للصغيرين أسما..." سألته الممرضة بمهنية في الوقت نفسه الذي انتبه الى أن سوار التعريف في قدم الصغيرة يحمل شهرة المارتينيز لا غير.
" نعم...أوزلام..." شرح خوسيه بصوت منحفض:" أوزلام آيا مارتينيز..."
تستحق البطلة الحقيقية ان يتم اضافة اسمها كإسم ثاني اليس كذلك؟ أخدت الممرضة سوار تعريف جديد و كتبت فيه الاسم كاملا قبل ان تستبدله بالأول و تعطيه اياه.
" لا بد أنك تنوي الإحتفاظ بهذا..." التقطه منها و بلا شعور وضعه تحت انفه ليشم رائحة إبنته الطفولية:" حان دور الصبي..."
" المادو خوسيه مارتينيز..." و تبعها نحو الصندوق التالي، كان الصغير أقوى بنية من شقيقته، بصمة المارتينيز واضحة الملامح عليه، شعر كثيف أسود، لم يكن مزودا بالأوكسجين :" هو لا يعاني شيئ؟"
" كلا... لا تقلق سيدي ما ان يجتازا سنتهما الأولى حتى تجهل من منهما كان ناقص الوزن... هذه المرحلة هي الأكثر حساسية... الطبيب سيشرح لك الوضع بعد عودته من غرفة العمليات..."
عاد الى الرواق في الوقت نفسه الذي خرج فيه الطاقم الطبي، تم السيطرة على نزيف آيا و تم ايصالها بأكياس من الدم، شعر بالراحة لدرجة انه لم يستطع منع الدموع التي تصاعدت الى مقلتيه، تمكن الارهاق النفسي من سلبه كل قوته، مشاعره أخدت زمام الأمور:
" هل يمكنني رؤيتها؟"
" نعم يمكنك... انها تطلبك..." قال الطبيب مبتسما قبل ان يتمموا طريقهم مبتعدين في الرواق.
في الداخل تم تطهير الغرفة و حتى تغيير ملابس الأم الجديدة، كانت شاحبة جدا، منظرها يثير الرعب لكل من يراها، ساعات العمل الأخيرة تركت أثارها الواضحة على محياها، مدت يدها نحوه، أنبوب الاوكسجين مرتبط بأنفها:
" هل رأيتهما؟؟ هل هما بخير؟"
" بأحسن حال فلا تقلقي... أوزلام تشبهك..." جلس بالقرب منها و أخرج هاتفه ليريها الصور التي التقطها لهما من كل الجوانب:" لن يكفيني العمر لشكرك بمنحي اياهما..."
التقطت الهاتف، تتفرس في الصور وهي ترد عليه بغصة:
" لا أمنحهما لك خوسيه... إنهما طفلاي ايضا و لا أنوي التخلي لك عنهما..."
صوتها رغم هشاشته يبدو قويا و واثقا ، انها تقصد كل كلمة تقولها و يعرف بأنها ستقاتله الى آخر نبض، فليس هو من واجه الموت من أجلهما، هي من غامرت بحياتها حتى انها رفضت التخدير و قاست عذاب المخاض بشجاعة جندي مغمور، انه ينوي عيش حياة وادعة و رغدة مع ثلاثتهم، لا خطط له بإبعادها... عبثه و دلاله يبدو باهتا أمام صورة العائلة الحقيقة التي ترتسم أمام عينيه:
" انهما رائعين... انهما معجزتنا خوسيه..." كانت تبتسم من قلبها و تبدو سعيدة بالرغم من أن شخص آخر مكانها كان لينام فورا بعد المجهوذات الجسدية التي قام بها:" تقول انها تشبهني؟؟ بل تشبهك... الاثنين يشبهانك...هل أعلمت عائلتي بشأن ولادتي؟؟ هل أحطت سيسيليا و دانيلا علما؟"
" سوف أفعل 'آيا'... لكنني لن أقبل أن يأتي أحد لرؤيتك حاليا... عليك النوم و استعادة قواك.."
لم تناقشه في هذا الاقتراح، رآها تنزلق ببطئ نحو النوم، بقي الى جانبها الى أن بدأ انفها الجميل بطلق الصوت المميز الذي تعود عليه... حينها فقط... أرسل رسالة مشتركة لأصدقائه.
{ أصبحت أبا... و التجربة مثيرة و مرعبة في الوقت نفسه، يمكنني أن أؤكد لكم بأنه شعور مختلف و قوي... انها المرة الأولى التي أشعر فيها بوحش الحماية و بأنني مستعد للتضحية بنفسي لحماية أحد... المادو خوسيه و أوزلام آيا مارتينيز... انهما رائعين... ملاحظة: برئي الطبيب الصغيرة ليست صلعاء لكنها ستكون شقراء مستقبلا و ان سخر احدكم منها سأقوم بقتله...}
أرفق الرسالة بصور للتوأمين و تلقى الرد الفوري من داركو{ ابنتك جميلة... أحجزها لنيكولاي... كل تهانينا القلبية لك و للأم الجديدة ... قمتما بعمل رائع}
رسالة من اليخاندرو:
{ الأبوة تناسبك... إنهما رائعين... اتمنى ان تكون 'آيا' بخير، مرر لها تحياتي الحارّة }
ابتسامته أختفت ببطئ بينما وخزته الغيرة وهو يلقي نظرة على الأم الجديدة الغارقة في النوم، مزودة بالاوكسجين و الدم... اول ما تبادر لذهنه ما ستكون عليه ردة فعلها بهذه الرسالة...هل مازالت مغرمة به؟ ما زال يستحوذ على قلبها؟ الم تخبره ذلك الصباح بأنها ستحبه دوما... بالاشيئ سيمنعها من حمل مشاعر له! وهو هل سيتأقلم مع وجود ظل بينهما بينما ينوي الحفاظ على عائلته مجتمعة!؟ لا بالتأكيد... لا شيئ أسوأ من ان ينافس رجل قلب زوجة، لسيما أن يكون هذا الرجل صديق مقرب جدا و بمثابة فرد من العائلة.... ستتعدد اللقاءات و ستسمح الفرصة بإجتماع آيا بأليخاندرو... هل يريد هذا؟ أن يرى نظراتها الهائمة عليه و هذه الخيبة على وجهها بأنها فقدت فرصة أن تكون مع رجل تحبه حقا و ليس وحش أجبرها على الحمل منه بكل الطرق الممكنة...؟
أعلن الهاتف عن وصول رسالة جديدة من روكو:
{ المادو صورة مصغرة منك، سيكون سافلا بلا أدنى شك، سعيد لهذه الانباء الرائعة، أحتجز مسبقا دوري في حياته، سأكون عرّابه و لا أقبل اي اعتراض، تهانينا لكما ... }
رسالة سيزار أتت متأخرة:
{ تهانينا الحارة لكما روبي تسلم بشدة عليكما... التوأمين رائعين جدا توفقتما فيهما، فليكبرا في بركة الله و رعايته...}
* * *
لم يكن منزل 'فيرنا' بعيدا جدا عن المعصرة، تخلفت عن المجيئ اليوم للعمل و بالرغم من أنه أمضى نهاره في الرد على التقارير و العمل عن بعد الا أنه لا ينكر بأنه قلق بشدة على إختفائها، ما تعلمه من شخصيتها أنها امرأة صاحبة كلمة و لا يمكنها التخلف عن المجيئ ان لم يكن هناك عذر مقنع، المنزل من طابقين جميل عكس ما توقع، النباتات و الزهور تحيط بجذرانه و كأنه صورة من مجلة.
" دون سانتو...!"
استدار ليجد الصبي الكبير العينين، هذه المرة يرتدي حذاء مطاطي، و يبدو نظيف المظهر، لابد أنه أتى على أخد حمام.
" هل تبحث عن شيئ؟؟"
" فيرنا لم تمر على المعصرة اليوم...هل هي في البيت؟"
عموما سيارتها لم تكن هنا، القى نظرة من حوله متفقدا المكان، باحثا عنها في كل الأرجاء.
" ليست هنا سيدي... لا أظنها ستعود قريبا"
أقطب بعدم فهم:
" بيننا عمل... من غير الممكن أن تختفي دون اعلامي..."
رآى الصبي يهز كتفيه و كأن الموضوع برمته لا يهمه، من الأفضل ان يتكلم مع بالغ:
" والدك هنا؟"
" ليس هنا..."
" إسمعني أيها الصغير...لا تدفعني لفقدان صبري و أخبرني أين أجد فيرنا... أعتقد أن ثمة شيئ يحذث ولا ترغب بإخباري به !..."
بان التردد على وجهه، هذا الصغير، خلافا لعمره الا أنه يفكر مثل البالغين و يحذو حذرهم.
" فيرنا في مخفر الشرطة... والدي يحاول ايجاد طريقة لإخراجها..."
تلاقت حاجبيه الى أن حفرت خندقا بينهما، ان تورطت في شيئ فلا بد أن له علاقة بالعائلات التي تحاول حمايتها ، بعد ان حصل على المعلومات الكافية اتصل فورا بمتحريه، هذا الأخير طار منذ يومين الى فرنسا:
" جد لي فورا أكبر محامين كابري..."
" هل أنت في ورطة؟"
" أنت من سيكون في ورطة ان لم تفعل ما أريد..."
كما أخبره الصبي وجد والد فيرنا في مخفر الشرطة، و الأمر كما تكهنه تماما، فيرنا حاولت منع الشرطة من اقالة زوجين مما دفع الشرطة لحجزها هي ايضا، أخبرته الشرطة بأنها ستُعرض غدا على القاضي بتهمة التمرد و عدم احترام الحكم، لا يبدو أن والدها يحب طريقة عيش ابنته، كان حقا تعسا للوضع، صاحبة الشعر الطويل ترفض ان تكون دمية يحرك خيوطها النافذون، بالرغم من أن الأب يجهل ما يفعله في هذا المكان أو ما يدفعه للمجئ و مساندتهما في هذا الظرف.
" هل يمكنني رؤيتها؟" سأل سانتو رئيس الشرطة الذي هزّ رأسه بالموافقة بعد تردد قصير.
" من هنا..."
اقتاده الى مكتب منعزل و طلب منه الانتظار، ماهي الا لحظات حتى فتح الباب و ظهر الرجل و برفقته الجميلة، هذه الأخيرة لم تُخفي دهشتها برؤيته.
" 'دون سانتو'... لكن... مالذي تفعله في هنا ؟؟"
وقف ببطئ من مكانه، نظراته عليها، كان يبحث فيها ان تأدت مما حصل لها، ان كانت تحمل آثار اعتداء جسدي، لكنه لم يرى سوى عذاب عظيم في عمق نظراتها:
" تخلفتي عن المرور، و بما أنني اعرف بأنك صاحبة كلمة، قلقت بشأنك..."
بدى الأسف على وجهها، رآها تعرج نحو مقعد خالي بجانبه، و دون أن تتطلع اليه جلست عليه، عاد ليجلس على مقعده، عيناه مع ملامح وجهها البدائية الحسن:
" هل ستخبريني ما حذث بالضبط؟"
" فاطمة و عيسى من غينيا، يقيمان هنا منذ أربع سنوات، لم يتمكن زوجها من تجديد عقد العمل بسبب الحملة التي يشنها الكل على الغرباء، الشرطة تنوي ترحيلهم بينما أطفالهما في المدرسة... بدون عقد عمل هم مضطرون للرحيل..."شيئ تململ بقوة بداخله و هو يرى اليأس الذي زحف للنظرات الؤلؤية، كانت تعاني بشدة و تبدو تعسة حتى العضم:"البلد في حالة انحسار ديمغرافي، لا يبدو أن هناك من يهتم به في إيطاليا...الكل بحاجة لهؤلاء و لا أحد يهتم لمصيرهم... "
" هل حقا ضربتي شرطي؟؟" سألها بهدوء وهو يحاول التقاط نظراتها.
" كنا ضحية التعنيف الشرطي... لا أحد يحق له بإذلال أولائك الناس فقط لأنهم لا يحملون الجنسية الايطالية...و أنا... أشعر بالعجز... لا أعرف كيف أساعدهم... "
جاذبيتها لا تصدق،لا بد أن كل من قابلها قد شعر بنفس الشيء - هذا الجذب لحيويتها ودفئها. انه واحد فقط من العديد من الأقمار الصناعية التي تدور حولها ، تسعى إلى الاقتراب منها، ترك نظراته تنزلق على قسمات وجهها، عينيها، رموشها، خديها المرتفعتين، أرنبة أنفها، شفاهها الوردية، الخطوط الأنيقة لفكيها، رقبتها الطويلة حيث كثلة شعرها الكثيفة ترتاح على كتفها في ظفيرة- ربما أمضت وقتها في اللعب فيها- لأنها فقدت كل تسريحتها، مالذي لا يمكنه فعله من أجل هذه الحورية الذي أتى على التعرف اليها وقلبت حياته رأسا على عقب؟ من المستحيل على أي انسان الا يسارع لمد يد العون:
" اذن فالقانون الايطالي، يمنع تجديد أوراق الاقامة ان لم يكن هناك عقد عمل دائم؟"
" ليس دائم ..." سمعها تقول ببعض الصعوبة، كانت تحاول قمع دموعها:" عقود السنة تكون كافية في بعض الأحيان...منطق الدولة أو النطاق الوطني: يعمل البعض على نطاق محلي أو دون وطني ، حتى داخل المجتمع الإيطالي... كابري متشددة... "
" هل يمكننا الأن التركيز على حالتك؟ " سألها متوقعا تجاوبا.
" تظن بأنني أهتم لما يحذث لي؟! سأخرج بكفالة أعرف بينما هم.... حياتهم ستتدمر، عندما أرمي رجلي خارجا يكونون على مثن طائرة تعيدهم الى بلدهم.!.."
عم الصمت قليلا، ثنورتها السوداء متآكلة الحواشي، لابد أنها تمشت كثيرا اليوم، استيقضت فيه رغبة متوحشة من الحماية ، يشعر بأنه أصبح مسؤولا عليها، انه مستعد لكل شيئ كي لا يراها منهارة، هو الذي أطلق عليها لقب صاحبة الشعر الطويلة الدائمة الابتسام؟؟ اليوم حرمته هذه المتعة... و ينوي إدخال الفرحة الى قلبها:
" مالذي يمتهنه هذا الرجل بالضبط؟؟"
" في الفلاحة... أحيانا البناء، انه موهوب في كل شيء، لا أحد يرغب بتوظيف أسود البشرة..."
التقط أنفاسا و تجرأ بمد يده نحوها، شعر بالراحة لأنها تركته يأخد يدها في يده حيث ضغط عليها ببعض الدعم:
" اسمعي يا صاحبة القلب الكبير... سأوظف هذا الرجل اذا كان توظيفه يسعدك... عموما سبق و طلبت من والدك ان يجد لي من يتكفل بأراضي الزيتون و يهتم بها، و ايضا مدبرة المنزل، يمكن للزوجين الاقامة في المعصرة و الاهتمام بها خلال غيابي!..."
كان منظرها مسلي وهي تتطلع اليه بتلك الطريقة التي تذيب قلبه، كان يمنع نفسه بشدة من مد يده و تحسس هذه الوجنة التي تبدو حريرية الملمس.
" عفوا؟؟ هل... هل تقصد هذا حقا؟"
هز رأسه بالايجاب:
" أنا لا أمزح مطلقا عندما يتعلق الموضوع بالأعمال... لكن عليه أن يبرهن لي أنه جذير بالمهمة التي أنوي تسليمه اياها..."
مرت لحظات صمت، كانت تبحث في وجهه عما يكذب كلامه، و عندما تأكدت بأنه لا يمزح، انفجر وجهها بسعادة، كانت تشبه البدر في هذه اللحظة، تشبه الحياة ، تشبه أشعة الشمس التي تخترق ضباب يوم ماطر... تشبه براعم الحب و العشق المجنون.
" 'دون سانتو'.... أنت.... أنا لا أعرف ما أقول... أنت تنقذ عائلة من التشرد و سأظل مدينة لك طيلة عمري"
هز رأسه معترضا، يكفي أصابعها التي تضغط على أصابعه بهذه الطريقة، هذه الحركة أعمق مما ينوي منحه لهذه الأسرة، الم تشتهر ارشيبالد بكرمها و سعيها الدائم في مساعدة أطفال الحروب و المجاعات؟
" سوف يصل المحامي الآن، لا يمكنني تركك تبيثين هنا..."
" محامي..؟؟ هل استدعيت محامي؟؟" سألته دون ان تخفي دهشتها:" لكن... لما تتكلف كل هذا العناء أقصد... أنت حتى لا تعرفني..."
" إيثارك هو درس في الانسانية و التواضع... كما انك موظفتي... و بما أنني رئيسك فمن واجبي مد يد العون..."
طرقات على الباب أجبرته على ترك يديها، كان الشرطي مع رجل قصير القامة، بشارب أحمر و رأس أصلع، لابد انه المحامي الذي ارسله له صديقه القديم، تذكر فجأة أن هويته يمكن أن تنكشف حالا أمام فيرنا، تقدم منه ليشد على يده:
" لا بد أنك المحامي..."
" 'جانفاوستو روسولي'، كلمت سلفا القاضي هاتفيا بعد اطلاعي على الملف، يمكننا دفع الغرامة المالية و اخراج الانسة فورا..."
ارتاح سانتو و وجد نفسه يبتسم لفيرنا التي كانت تتطلع اليه و كأنها تراه للمرة الأولى، الامتنان في عمق عينيها أشعره بشيئ يشبه... الخجل؟؟
هو؟؟
في ظروف أخرى كان لينفجر في الضحك من الموقف، هو الرجل الذي يحصل دوما على مايريد، الرجل الذي لوث يديه دما مسبقا لينتقم لروح والدته، الرجل الذي حصل على كل النساء اللواتي راقنه، يشعر بالخجل كمراهق أمام فتاة بسيطة مثل فيرنا!... هذه البساطة ما يحذث الفرق... لا تراه كمنجم ماس كما يحذث مع بقية النسوة، مكانته سمحت له بكل الدلال الأنثوي... فيرنا لا يهمها سوى مقيمين غير شرعين و ذرفت الدموع من أجل مصيرهم، لا يهمها كثري بقدر ما يهمها كمحسن أتى اللحظة على انقاذ أسرة بأكملها... وهو يريد شراء اهتمامها... هذا الاهتمام الذي لم يحصل عليه منها قبل اللحظة... لم تتحرش به و لا تغزلت به و لا حتى منحته فرصة رفع الكلفة بينهما طيلة الأيام التي عملتها في المعصرة، بل كانت نشيطة جدا و تهتم فحسب بعملها، وسامته لم تفرق معها و هذا... أعجبه بشدة.
المحامي كفؤ جدا يستحق بالتأكيد ثمنه، قرر سانتو تعميده، بما أنه لا يملك رجل قانون في ايطاليا يمكن لهذا الرجل أن يصبح محاميه الخاص، كلمه بشأن العائلة المقصودة و وعده هذا الاخير أن يوقف فورا حكم التهجير و أن يجهز له العقود التي يحتاجها للعمل، 'فيرنا ' كانت سعيدة و تبتسم كل الوقت، سعي لرؤية ابتسامتها و قد نجح...كان معجب بها لدرجة انها تمنع عنه رؤية شيئ آخر غيها.
في الخارج رآها تجري بضع إتصالات و أدرك أنها على حذيث بالعائلة الإفريقية، رأها تمسح دموع التأثر بينما والدها يجلب خردة المعدن التي تساعدها في أعمالها اليومية.
" انهم سعداء جدا..." قال له بعد أن أغلقت الخط" لا أعرف كيف أشكرك سيدي..."
" توقفي عن مناداتي بسيدي... أناديكي فيرنا، نادني سانتو... أصبحنا أصدقاء منذ اليوم على ما أظن..."
اشتعلت خديها في العتمة، كانت حقا سعيدة و هذا أجمل الهدايا اقترحت بصوت يذيب كيانه:
" سنقلك الى المعصرة ...."
رفض بلطف:
" سأتعشى مع المحامي في المدينة و أعود بسيارة أجرة... أراك غدا؟؟"
هزت رأسها موافقة، لا تتوقف عن منحه إبتسامات صافية و رائعة، هذه المرأة هي نعمة أنزلها الرب على البشرية:
" سأمر للمعصرة ما ان انهي دورتي بتوزيع الخضراوات... أمسية سعيدة سانتو" و خلافا لكن التوقعات، وقفت على أصابع رجليها و قبلت خده بإمتنان:" أنا حقا مدينة لك...أيها الروسي الكريم بفضلك يمكنني النوم بسلام"
* * *

و تتحقق كل مخاوفه أمام عينيه، كان يتوقع اليخاندرو هذا نعم، فليكن صادقا مع نفسه، منذ مشادته مع روكو و هو يتوقع هذا الظهور المفاجئ، وها هو اليوم أمامه، التوأم المتمرد ونقيضه، كان ينمي لحيته، شعره بحاجة لقصة، لباسه متناقضة تماما مع الجو البارد للجو، بطال جنزي ممزق عند الركبتين، تي شرت أسود يحمل صورة لمغني روك، جاكيت جنزية قديمة و convers فقدت لونها الازرق، الأدهى من كل هذا انه تمكن من العثور على منزله و استظافة نفسه بإستعمال المفتاح الاحتياطي و حتى الحصول على صداقة 'باكي' التي لا يبدو أنه يزعجها، أو ربما المسكينة اعتقدت أنها أمام صاحبها لكن بحلة متشردي الشوارع و المتسكعين.
" كيف تسللت الى هنا!؟ آه عفورا... أنت لص محترف"
تمتم بصوت جليدي وهو يتخلص من الاب توب و من معطفه و ملفاته فوق لوحة المطبخ، حيث قصد خافيير البرّاد ليأخد بيرة منه و يفتحها بأسنانه:
" هذا الترحيب الدافئ يثلج صدري..." رد توأمه متهكما.
" منذ ظهورك في مستشفى صوفي عرفت بأنك ستظهر في أية لحظة...!"
تخلص اليخاندرو من ربطة عنقه الحريرية و فك أزرار قميصه الأولى ليسمح لنفسه بإلتقاط أنفاسه بحرية أكبر، مازال تحت صدمة هذه المواجهة، بالرغم من انه جهّز نفسه جيدا لها الا انه مضطرب أمام مظهر شقيقه المُهمل، يشبه الهاربين من العدالة... وهو ما عليه حقيقة، انه يدب الرعب بهيئة أبطال المصارعة الحرّة.
" في الحقيقة... توقعت منزلك أشد فخامة... كنت متحمسا لجاكوزي فاخر " سمع توأمه يقول من بين جرعات البيرة التي يبلعها:" مع كل الملايين التي تملكها، آملت العيش في قصر و أن تخدمني دزينة من الفتيات الجميلات ..."
طفح الكيل..
" اسمعني خافيير... أنت لن تعيش هنا سوى كنت أملك قصر أو غار فأر... لا يمكنك الظهور فجأة في حياتي هكذا بينما أكنت واضحا معك في الرسائل بأن أكثر ما يمكنني تقديمه لك هو الأموال لبداية حياة نزيهة بعيدا عني بالتأكيد.... لدي حياتي هل تفهم؟!"
لا يبدو متأثرا بكلامه، فلم تمنعه أطنان الرسائل التي تبادلاها في الوصول اليه و لا يبدو أنه يفهم ...أو يتغابى بالمعنى الأصح.
" أنا شقيقك.. لا يمكنك رمي خارجا..."
شعر اليخاندرو بالإستفزاز في هذه الكلمات:
" توقفنا على نكون توأمين منذ أن كنا في التاسعة، هل أذكرك بما فعلته بي في آخر لقاء؟! لقد أشبعتني ضربا و طردتني ..."
هز خافيير كتفيه:
" كان هذا لمصلحتك... جنبتك الموت...حميتك شقيقي الوحيد"
" و الأن تجنبني أيضا الموت بالظهور فجأة في حياتي؟ تعتقد بأن أعدائك لن يجدوك في ايطاليا ولن يعثرو عليك هنا في صقلية؟..."
" سيكون الأمر سيئا جدا اذن لأنهم سيقتنصونك بالمقابل... أم أنك تحت حماية روكو ايميليانو و لا أحد قادر على لمسك؟"
ذكّره بنفاذ صبر:
" أنا لست مجرم مثلك و لا عدو الإنسانية... أنت قمت بالسرقة و القتل و الابتزاز اتبعت المثال الميشين لتجار المخدرات..."
قاطعه خافيير بسأم:
" بينما أنت اتبعت المثال الرائع و أصبحت رجل أعمال لامع و ستتزوج بأميرة قريبا... أعرف كل هذا... شكرا للتذكير، لكن لا يمكنك رمي في الشارع، أنا توأمك و قد ثبت، فإمنحني فرصة العيش الكريم... كدت أن أفقد حياتي و هذا جعلني أعيد التفكير في كل ما قمت به حتى الأن... ثم ذات ليلة رأيتك في منامي..."
هزّ اليخاندرو عينيه الى السماء و قاطعه بسخرية:
" أوقف هذا..."
تابع و كأنه لم يقاطعه، ينشر بأصابعه أمامه و كأنه يرسم له لوحة:
" رأيتك في حلمي... و قلت لي بالحرف { تعال أخي كلي أذرع مفتوحة} "
" أسأت الفهم... أتذكر أنني قلت لك في الحلم { أنت تضيع وقتك الثمين أخي و بابي مغلق...}..."
برطم خافيير لهذا الرد، عموما فلا جدوى من القتال، خافيير هنا و عليه أن يجد الحلول لينقده من ورطته و مساعدته و توفير صوته، فهو شقيقه و يحبه بشدة رغم كل شيء، أشار برأسه نحو البرّاد:
" اعطني واحدة و لا تفتحها بأسنانك.... نملك ملاقط خاصة لهذا الغرض... انقضى العصر الحجري"
جلس على كرسي من الكراسي العالية للمطبخ و انتظر بيرته، وضعها خافيير أمامه، يتصرف براحة من هو في بيته قبل أن يجلس مقابلا له و يحملق اليه مباشرة، يتأهب للمناقشة القوية التي ستعقب:
" مالذي تنتظره مني بالضبط...؟"
" ما ينتظره توأم من توأمه..."
يتلاعب بأعصابه، لا ينوي الوصول إلى نهاية قناعاته بدلاً من الاستسلام للعب الشهود السلبيين في الدراما التي تهمهما مباشرة:
" اسمع خافيير... بغض النظر عما حصل في حياة كلينا... فكل منا على ما يبدو اختار طريقه، أجهل ما مررت به طيلة السنوات الماضية، لكن طريقي أيضا لم تكن من حرير ولا مغروسة بالورد، تعرضت للمساوء في أمريكا، للعنصرية، للتنمر، للشتائم بسبب مكسيكيتي، و تعرفت على أوروبين أفهموني أن الاقتصاد الحقيقي عندهم و ليس هناك... أتيت ووهبني الله أفضل أصدقاء يمكن للمرء أن يتمناهم في حياته... و اليوم أن مخطوب لإمرأة أحبها بشدة و أنوي تأسيس أسرتي الخاصة معها... هل تفهم ما يعنيه مجيئك؟؟ سأعرض من أحب للخطر و أولهم بيانكا.... لذا فقد سبق و فكرت في كيفية مساعدتك... أمنحني الرقم الذي تريده و سأحوله لك في حسابك كي تبدى حياة رغدة في مكان لن يعثر فيه عليك أحد..."
لم يرد خافيير فورا، لكن ملامحه بدت متبنجة، ينظر اليه بنوع من الاشمئزاز أيضا:
" تظن ان الموال هي المشكلة؟ انا شقيقك... كيف يمكنك ان تفضل هؤلاء الناس علي؟ أتيت و اريد مساعدتك و تقوم بإهانتي فقط لأنني لا أملك فلسا حتى بشراء وجبة طعام و دفع ثمن عاهرة ؟ لعلمك أنا أريدك في حياتي ان كنت أن ترفضني... فلا يبدو اننا نرى الأمور بنفس الطريقة..."
" انا خائف عليك..."
" بل خائف على سمعتك و عالمك البراق من ان يتقشر..." بدأ رأسه يوجعه بشدة، هذا النوع من النقاش سبق و تبادلاه عبر الرسائل، و لا يزيده سوى عنادا و تمردا: " بعد أن اقتربت من الموت ، أعدت تقييم وجودي بالكامل... استنتجت أن الوقت قد حان بالنسبة لي لاستعراض أولوياتي... هذه هي الحقيقة الأكثر صرامة ، بعد كل شيء.... أنا رجل جديد... أريد فرصة جديدة... امنحني عملا اليخاندرو، في واحدة من شركاتك... "
" و ماذا تنوي أن تعمل في واحدة من شركاتي؟؟ أن تسرق خزاناتها؟؟"
انفجر خافيير في الضحك:
" أحب روح دعابتك..."
" المصيبة أنني لا أداعبك... بل أنا جدي، فلا مؤهلات لك و لا تجارب في الحسابات أو..."
" أنا اتعلم بسرعة..." أكد خافيير:" يمكنني أن أكون رئيس حرسك... "
ابقى اليخاندرو فاهه فاغرا:
" تظن انني سأترك توأمي يراقب دخول و خروج الناس أمام باب الشركة؟ قل شيئا مفيدا بالله عليك"
" حتى انك لا تبدو ميال للتفاؤل من الاقتراح برمته..."
" أنا رجل مهم... لا يمكنني عرض نسخة مني للقيام بعمل مماثل... هل فقدت رشدك؟"
" لا نشبه حقا بعضنا... اظنني أشد وسامة..."
كمية الغطرسة في هذه الكلمات استفزته:
" لم تكن يوما أشد وسامة مني خافيير لكن الفتيات تفضلان سفالتك على أخلاقي الطيبة..."
ارتسمت ابتسامة عريضة على وجه توأمه، رباه... يبدو متسليا بهذا التبادل:
" فهمت الأن... أنت خائف من أن أغري بيانكا!..."
رمش اليخاندرو عدة مرّات، مجرد التفكير في الموضوع يدفع معدته للاهتزاز:
" يمكنك المحاولة لمى تبقى من عمرك فلن تعيرك يوما اهتماما... و ان اقتربت منها فسأقوم بقتلك أقسم لك! سأسدي اعدائك خدمة هل أنا واضح؟! بيانكا خط أحمر لا أسمح لك حتى بالتكلم عنها..."
هز خافير دراعيه نحوه بطريقة مدافعة:
" مهلك... مهلك أخي... لا أنوي سلبك اياها، أنا في ورطة و النساء آخر اهتماماتي هل تفهم؟ حتى و ان كانت سمراء بنكهة ايطالية تسيل اللهاب لإلتهامها فورا... احتاج فحسب لمساعدتك... أنا متحمس لبداية جديدة، تغير وجدان بكامله و لما لا الزواج من أميرة أنا أيضا ذات يوم؟؟ ان كنت تظن بأنني لا أتوفر على المواصفات الازمة لأعمل في المجالات التي تمتهنها، فكلم أصدقائك... لما لا روكو ايميليانو!... بالتأكيد سيعرف كيفية التعامل مع لص تائب... فما يعرفه الجميع أنه ليس نقيا كالسحاب هو الأخر..."
استغرق الأمر بضع لحظات لأليخاندرو لتقييم ما قاله توأمه للتو. واندلعت عليه حالة من البرد القارص، مما أدى إلى إهدار كل رباطة جأشه:
" لا علاقة لروكو بالمافيا ان كان هذا قصدك..."
هز شقيقه كتفيه:
" لا تدافع عنه بل أعطيني النصائح لكيفية الحصول على عمل و على حماية رجل مثله...ساعدني كي أفوز أخي... لا أملك غيرك"
لم يتمكن اليخاندرو من التعليق على هذا، خافير محق، انه في مازق و يطلب المساعدة و الوحيد الذي يمكنه حقا حمايته هو روكو، فإن حصل و رفض مد يد العون له و تمكن منه أعدائه و حذث له مكروه فلن يسامح نفسه... لكن السؤال هو... هل سيقبل روكو بتوظيف خافيير و حمايته؟ هو الذي لم يخفي شكوكه ازاء ظهور هذا الأخير المفاجئ في محيطه...مهما يكون الثمن عليه اقناع العرّاب بمنح حمايته.
* * *
الأيام التي مرّت شن 'لوكا ' عليها عدائية لا توصف، أمسيات العمل التي تصادف وجودها معا تتحول لكارثة، كما الحال الليلة، تركها 'كيليان' لتتحمل وزن ' ارشيبال' بمفردها، كان يفترض به المجيئ شخصيا لهذه السهرة المهمة لكنه اعتذر منها دون اي شروحات، عموما فقد وضعها في هذا المنصب كي لا يحضر جل الحفلات النيويوركية... عموما رئيسها يكره كل ما له علاقة بالسهرات و الحفلات الممتلئة بالناس و الصحافة.
لوكا هذه المرة لم يكن بمفرده، كانت تتأبط ذراعه إيموجين، مشرقة للغاية في فستان اخضر، تحسست حقيبة سهرتها التي تتأبطها و استجمعت كل قواها و سيطرتها على نفسها، 'ايزاك وارين' مدير العلاقات العامة للشركة قدّم لها كأس من الشامبانيا، شكرته بإبتسامة تحاول تجاهل الثنائي الذي يخلقان ضجة اينما يتواجدان:
" تبدين متوثرة!"
" كان أسبوع حافل جدا... " ردت بإبتسامة لبقة.
" الرئيس شديد التطلبات عليك أيضا؟؟ لم تعجبه اي من التقارير التي أرستها، كما أن اقتراب تجربة المحرك الجدد تزيد من عصبيته... الم يخبرك أين هو؟؟"
آه بلى، في ايطاليا، لكنها وعدته بعدم الافصاح مهما حذث، و ان كان يؤكد على هذا فهو يقصد عائلته بالتأكيد، بمعنى آخر لوكا، ايموجين و حماه:
" موسكو..."
" لا أظن ذلك !..." سمعته يقول :" يتخلف عن سهرة اليوم بينما زوجته هنا... غريب"
" ايزاك... ما يحذث بين كيليان و زوجته يخصه فقط...!"
" و كأنك لا تهتمين..." قال بنبرة متهكمة.
تدفع غاليا ثمن صداقتها بكيليان، الكل يظن أن تمة علاقة بينهما، و هي ليست مضطرة لتفسير شيئ لأحد، ايزاك مثل غيره من الموظفين الرجال يحاول اغرائها بكل الطرق الممكنة بالرغم من أنه متزوج و أب لطفلين.
" لا ايزاك... أنا لا أهتم"
" ميغان...!" حانت لحظة المواجهة، رسمت على وجهها ابتسامة مسترخية و استدارت نحو لوكا و شقيقته، في كل مرة تراها فيها تزداد المرأة جمالا، انها من أنجح النساء الامريكيات و أكثرهن تأثيرا، و رغم كل هذا لم تتمكن من جر رجل مثل كيليان من ذنبه خلفها... يُعتر زوجها اخفاقها الوحيد.
" ايموجين..." وهزت عينيها نحو الوجه الوسيم لحبيبها السابق:" لوكا..!"
" أنا ايزاك وارين' سبق و التقينا في المصنع..."
لكن ايموجين تجاهلته تماما، كان انتباهها معها شخصيا، عينيها الخضراوين الذكيتين تتفحصانها بطريقة غامضة، ذات يوم ظنتها صديقتها، تحولت الى عدوة ما ان أدار لوكا لها ظهره، من السهل على المرأ أن يحط اخفاقاته على شخص آخر ليشعر بالارتياح و الا يحاسب نفسه و ايموجين اختارتها لتلومها على جفافها العاطفي، على فشل زواجها، على ابتعاد زوجها عنها دون ان تبحث عن العامل الاساسي و الرئيسي لما يحذث:
" كيف وضعك في المنصب الجديد؟" سألتها بصوت جليدي.
" ممتنة لأن الرئيس يثق بي كفاية ليمنحني بركته... سعيد بالأرقام الأخيرة شكرا لسؤالك" أجابت ميغان بهدوء قبل أن تتعمد رفع رأسها و تدّعي رؤية أحد تعرفه:" اعذروني..."
ابتسمت لوجوه عديدة ووقفت مع آخرين ، تعرف بأنها مُراقبة جيدا، لابد أن ايموجين اتت الى نيويورك و أملها رؤية كيليان، و تنوي وضع خيبتها عليها و ملامتها، كيف يمكنها توضيح أن ما يربطها برئيسها هو العمل، و بأنها لم تعني له شيئا كإمرأة منذ لقائهما الأول قبل اثنتي عشر سنة في موسكو.!.. تعترف أنه أعجبها بشدة في البداية، من المستحيل عدم ملاحظة وسامة و هبة رجل مثله، كل العاملات أغرمن به في البداية تقر بهذا عن سابق تجربة، لكنها أدركت بأن صداقته أكثر قيمة، خلف القناع الجميل لوجهه هناك رجل متضرر جدا و يستمر في معاقبة نفسه بالعمل الشاق و كأنه يريد اثبات شيء لنفسه... الكل يراه كالعملاق الذي لمع الى أن أعمى الأبصار... الم تلاحظ ايموجين الطفل الخائف فيه؟؟ بأنه يعاني من ماض أسود؟.. بأنه يبحث عن أمان عائلة ملتحمة...!؟
من أغرمت به حقا و بغيته كحبيب هو لوكا مارشال... خطئها الغبي الذي ستهتجنه لما تبقي من حياتها... بين العمل و ابنة شقيقتها لونا لا تجد الوقت لتبحث لها عن بديل... لا أحد سيتقبلها بكل هذه المسؤوليات، تعترف الا مكان لرجل في حياتها، بالرغم من أنها تحلم بالزواج و تكوين أسرة حقيقية.
" على رسلك ميغان... أشعر و كأنك تهربين مني..."
هذه المرة تمكنت ايموجين اخيرا من حصرها،رأتها تتجاهلها طيلة السهرة، ميغان رائعة الجمال في فستانها الياقوتي، شلالات شعرها الشقراء متموجة حول وجهها، هذا الجمال الذي سلب لب لوكا ذات يوم، لكن ميغان اختارت رجلا أكثر وزنا، رجل يخصها هي شخصيا، شعرت بالغضب يسكحها بينما ترى نظرات غريمتها المتعالية، لقد طارت من ميامي الى هنا مستغلة هذه الأمسية لترى كيليان، و خاب ظنها بينما تكتشف أن هذه المخلوقة تتجول بإسمه و تفرق الابتسامات و تلهب الحواس بإبتسامتها، منذ أسابيع لا يمكنها العثور على زوجها، تنوي فحسب اخباره بقرارها الذي يُكلفها الكثير.
" لما يجب أن أهرب منك لا أفهم..!. أنا فقط أطوف بين الناس و أقوم بواجبي الذي يُحتمه علي منصبي..." كانت تملك ابتسامة جذابة هي تعترف، سألتها مباشرة:
" أين هو زوجي؟"
رآتها تهز حاجبها المرسوم بدقة و أناقة:
" هل يُفترض بي أن أعرف كل تنقلاته؟"
هذه اللهجة المتعالية التي عُرفت بها ميغان، انها امرأة قوية الشخصية، كيليان بنفسه يُلقبها بالنمرة الشرسة، إمرأة لا تتنازل بسهولة عما تريده، دنت منها الغضب و الغيرة يرتطمان كأمواج شرسة في صدرها:
" كلما كنت في حضوري تزرعين فن تجاهلي حتى لا يلاحظه أحد غيري، تهربين من المواجهة...دعيني أخبرك شيئا...انا ايضا امرأة و أرى الى ما ترمين اليه، لكن لا تحلمي كثيرا... لا أنوي منحه حريته، لن تأخد مثيلاتك مكاني ، الأحلام التي أشعلت خيالك يمكنك اطفائها..."
بان السأم على الملامح الأنيقة، رأتها تلقي نظرة من حولها قبل أن تعيد اليها انتباهها:
" تهاجمين المرأة الخطأ... ان كنت تشكين بخيانة كيليان فمن الأفضل تعميق بحثك..."
كانت متعجرفة بشكل لا يطاق. ما تزال تحاول التلاعب بها، لا تستطع المخاطرة بالثقة بها.
" لا أحتاج للابتعاد كثيرا اليس كذلك؟"
رأتها تتنهذ بنفاذ صبر، و تتغير ملامح وجهها وهي تقول بصوت تحاول ان تكون فيه مقنعة للمرة الأخيرة:
" العمل وحده ما يجمعني به و أنت تضعين وقتك صدقيني إيموجين، كما ان كيليان لا يملك امرأة في حياته لأنني أراه مرتبطا بعمله بشكل لا يقبل له برفاهية الراحة، حاولي اصلاح زواجك بطرق أخرى بدل اقحام شكوكك الوهمية في أمور لا جدوى منها... ان وضعني في هذا المنصب الكبير فلأنني أستحقه عن جدارة... و الأن ان كنت قد و ضحت لك نوع الملابسات فأفضل إنهاء سهرتي بسلام..."
كلامها يشبه المياه التي تبل ريش البط... هي لا تصدقها ببساطة:
" أين هو ميغان؟؟ أين اختفى؟؟ أعرف بأنه ليس في موسكو... فريق عمله الروسي يرفض اطلاعي على مكانه، و بما اني أعرف عمق علاقتكما فأنا متأكدة من معرفتك مكانه... " أمام صمتها اردفت:" سأتوقف عن العمل من أجله.... أنوي انقاذ زواجي... ان كنت حقا بريئة و نيتك صافية ساعديني بمنحي عنوانه...."
رأتها تقطب ثم تسألها دون ان تخفي دهشتها:
" تتوقفين عن العمل؟"
" سأعمل عن بعد... لست مضطرة لاجراء العمليات فأنا على رأس فريق طبي مميز... الأمر مريب نعم لكن كيليان هو رجل حياتي و لن أغامر به... أحبه بشدة و زواجي مهم بأهمية مهنتي... لذا أرجوك... ان كنت تعرفين مكانه فساعديني بالوصول اليه..."
أثار انتباهها لوكا، كان يقف مع رجال أعمال من بينهم صديق الجامعة دافيد ريتشي، هذا الأخير لا ينفك عن التجسس بنظراته على ميغان، يمكنه تلفيق كل القصص المريبة بشأنها الا أنها ما تزال في قلبه بلا أدنى شك.
" أعرف انه في أروبا... يقول بأنه بحاجة ماسة لعطلة... لا أعرف في أي بلد بالضبط..."
لا تبدو مقنعة، انها تخفي عنها الحقيقة و هي تشعر بتراجعها، كيليان يأخد عطلة؟؟ هو لا يأخد عطلة أبدا... حتى ان شهر عسلهما كان سريع... العمل تقاسمه معها.
" هل يمكنني الاعتماد عليك بإعلامي ان عرفت مكانه؟"هذه المرة لوكا لم يعد قادرا على تركهما بمفردهما، اعتذر من الرجال المحيطين به و رأته يتوجه نحوهما" ميغان؟"
" اسمعيني ايموجين... زوجك لا يهمني أقسم لك، لكن أن أكون جاسوستك ما لن أقبله، ان رفض هو منحك تفاصيل حياته فليس أنا من سيغدر به و الأن اعذريني..."
كزت على أسنانها، وماذا توقعت؟؟ أن تتحالف معها غريمتها؟ هذه الجميلة التي يفضل زوجها رفقتها و الوثوق بها أكثر منها... قبل الابتعاد أمسك لوكا بمعصمها، هذه الأخيرة قذفته بنظرة لو كانت نارا لأحرقته فورا:
" اياك و لمسي مرة أخرى لوكا..."
حرر معصمها و تركها تبتعد، انها طبيبة تجميل، يمكنها أن تعرف الزيف من الحقيقة، كل شيء طبيعي في هذه المخلوقة الساحرة:
" ترفض الكشف عن مكان كيليان..." اعترفت لشقيقها الذي ما يزال يلاحق حبيبته السابقة بعينيه.
" ربما لا تعرف بكل بساطة؟"
" انها تعرف و تمتنع عن اخباري... " هزت حاجبيها بينما تنتبه لغياب رده:" ما الأمر أخي؟؟ ما تزال تؤثر بك تلك الساقطة؟!"
" لن يفيدك شيئ بإهانتها فليس هذا ما سيعيد لك زوجك الذي تركته يفر بكل سذاجة... اعذريني الأن..."
و كما توقعت، رأته يخترق الناس بإتجاه الفاثنة التي كانت تتوجه الى الشرفة، وهي ليست متفاجئة، مجيئ كليهما الى هنا لا تمت للعمل بصلة، لكل منهما خططه الخاصة، قد يهملها لسنوات عدة لكنها تبقى بالتأكيد المرأة الوحيدة التي أحبها حقا وهي في دمه، ميغان لم تخرج مع رجل بعد فراقهما، لم تظهر مع أحد بالمرة، سوى مؤخرا تنوي أخد ما يخصها و سرقته منها.
" مساء الخير كارا'..."
وكان دافيد، ابتسمت له ملئ فمها قبل أن تقبله على خده:
" ارى بأنك تخليت على عكازك..."
" أنا بخير... يمكنني اغواء كل ما تسقط عليه يدي..." ضحكت لكلامه، دافيد وسيم جدا و ليس مخلصا بالمرة، حياته العاطفية سلسلة فضائح عاطفية متسلسلة.
" ظننا انك تتخلى على العزوبية مع أميرة ايطالية..."
ملامح وجهه تغيرت و بان في عينيه الزرقاوين انزعاج خالص:
" أين ناومي؟؟ آملت رؤيتها الليلة ..."
كان يفترض أن تأتي نعم، لكنها اخدت مكانها معتقدة انها ستتمكن من اغواء زوجها الليلة و كسر كل الحصون...
" فضلت البقاء مع ابنتي ... "
" كنت أنوي تعريفها على ابن عمي'كين'... يبحث عن مهندسة لمشروعه الجديد في بوسطن... أعماله في طوكيو عادة لكنه بدأ بالتوسيع في السنوات الأخيرة..."
عائلة الريتشي عائلة دائعة الصيت في أروبا، ربما أمريكا تعرفت على هذ الاسم من خلال فلورانس ريتشي و كذلك دافيد، فوالدتهما ليست سوى النجمة فرجينيا ديكاتريس، أشد المغنيات شهرة.
" يمكنك مكالمتها غدا و ربما العروج عليها ، أظنها مشغولة جدا بأعمالها الا انني لن أجزم على شيئ، فهذه المسائل لا تخصني..."
" سيكون غدا في نيويورك و يمكن ان اعرفهما على بعضهما، بالمناسبة... كيليان ليس هنا"
دفعت موجة الحزن التي سحقت صدرها و ناضلت كي لا تتغير ملامح وجهها و هي تقول
" انه عالق في موسكو..."
" مهووس الاعمال"
" لن تتقدم ارشيبالد من دونه... انها العشيقة التي لن تنافسها عليه حتى زوجته... تعلمت التعايش مع الوضع..."
ابتسم لها تلك الابتسامة الرائعة التي أغواها بها في عمر الواحد و العشرون، لوكا يجهل بالموضوع حتى اليوم لكنهما تقاسما مغامرة خفية، ظنت بأنه معجب حقا بها،لكن دافيد لم يكن من رئيها، بعد ليلة لا تنسى معه أخبرها بأنها كانت غلطة ، فقررا دفن الموضوع لأنهما خشيا ردة فعل لوكا و بقيا صديقين.
" أتمنى انك سعيدة..."
و هل ستتدمر أمامه على سعادتها؟؟ ترتمي بين ذراعيه لتبكي معاملة زوجها القاسية؟ تثير شفقته بقصتها المريبة عن حب غير متبادل؟ هذا اذا كان الدون جوان الإيطالي يعرف ما يعينه الحب أساسا.
" أنا كذلك..."
الحياة ليست عادلة أحيانا، و هي تعلمت أن تأخد منها حقها، هذا ما جعلها بالتأكيد لامعة جدا في الأعمال، الشيء الذي يرفض كيليان رؤيته، تأبطت الذراع التي منحها لها الوسيم الايطالي، مايزال لوكا مع ميغان في الشرفة، الاثنين يبدوان منغمسين في حذيث محتدم.
" ايها الوغد المتحجر القلب" تمتمت ميغان وهي تضع بينهما مسافة مجددا :" اسمع لقصتي للاخر لوكا... نبش الماضي لا يفيد في شيئ، كل ما يهمك هو حمايتك الزائدة لعائلتك، انت معمي بأنانيتك الكبيرة، ولا حدود لغطرسيتك و هذا هو المؤلم لك... ترى بأنني قادرة على قلب صفحة الماضي و النجاح في مهنتي دون الحاجة لك... "
" كل منا يعرف بأي طريقة نجحت في مهنتك..." رد عليها بصوت حاد.
" بمجهوذي الخاص نعم و لن تتمم ما بدأته شقيقتك لأنني ضقت ذرعا بك... ان كان لكيليان إمرأة فليس أنا لوكا... ليس أنا ..."
وكم يتمنى تصديقها، غاص في الحمرة التي لونت وجهها من جراء الغضب، ميغان رائعة في كل حالاتها، كانت تؤثر به لدرجة أنها تخلق زوبعة من العواطف. اذا لم تكن المرأة التي ينهي كيليان زواجه من أجلها فلما تركته في الماضي دون أي تفسير؟
" أريد أن نخرج مجددا معا.."
رآها ترمش عدة مرّات قبل أن تنفجر في الضحك:
" لوكا... أنت سكران..."
تجاهل سخريتها و دنى منها أكثر الى أن غرق في عطرها و رائحتها الأنثوية:
" تقولين الا شيء بينك و بين رئيسك... فليكن... بما أن الجميع يفكر مثلي، و كي تثبتي برائتك التامة من الموضوع أظهري معي مجددا علنا... بالتأكيد هذا لن يزعج كيليان ان لم يكن هو حبيبك السرّي"
بقيت تحملق اليه بنوع من الدهشة، يود لو يضع يده على وجهها ، إذا كان ذلك فقط لمحو تلك الملامح المحايدة التي ترتديها طوال الوقت... في الحقيقة هذه المرأة هي نار متأججة، سبق و تعرّف على العشيقة منها، هذا قبل أن تسئم منه و تخرجه من حياتها... تحطم قلبه و تصب لعنتها عليه كي لا يجد أثرها في نساء أخريات، أطلقت نفسا متحشرجا:
" أفضل الموت على الخروج معك مجددا حتى من جانب التمثيل..."
هذه الكلمات مؤدية جدا لكرامته الذكورية، يرغب بهزها بعنف كي تعترف له أخيرا بالحقيقة، لما تركته بحق الجحيم....التوى فمه و تجاهل قلة الاكترات التي تبديها:
"حتى الحرب لها شرف لا نطعن في الظهر"
" كلام صائب من عاهر مثلك... فأنت مثال حي للرذيلة ..." زمجرت بكراهية.
تردد هسيس أنفاسه بينما تطاير الشر من عينيه، أطبقت يده على ذراعها، تأسرها و تسيطر عليها،كان هناك الآن توتر معين بينهما، ليس فحسب الغضب المشتعل و الامنتهي، يعرف هذه النظرات، يا الله... كم يكره قدرتها على ان تجعله يشك في كل شيئ حتى نفسه، غطى المسافة بينهما بخطوات قليلة غاضبة، على حساب جهد كبير ، قرر تجاهل هذه الفورة من المشاعر، إلى جانب ذلك ، على أي حساب يتم تأسيسها؟
" أذكرك بأنك انت من تركني في الماضي و ليس العكس..." تصاعد من حلقه صوت يشبه الهدير:" دورك بلعب الضحية يثير القرف حقا.. "
" أنا من تركك؟؟ هل استمريت بالكذب على نفسك طيلة هذه السنوات الى ان انتهى بك المطاف لتصديقها؟!"
" تصديق ماذا بالضبط؟" سألها:" ساعديني للفهم رجاءا..."
" كما أرى فالغباء في جينات العائلة برمتها و الان أترك يدي و لا تقترب مني مجددا..."
لكنه لا ينوي ترك الموضوع الأن بينما تتهرب من خوضه منذ ما حذث تلك الليلة المشؤومة، حيث وجد ملابسه خارج شقتها و طلبت منه الرحيل... يكره أن تهتز شكوكه نحوها، يعرف بأنها تلاعبت به، بأنها طموحة للغاية و أدركت بأن كيليان أكثر قيمة مما بين يديها، أخبرته تلك الليلة بريتني بعلاقة الاثنين السرية، أخبرته بأنه أحمق كي يصدق امرأة مثل ميغان.
" لا تتوقفين عن ردعي دون اي تفسيرات واضحة..."
" أي تفسيرات أكثر من خيانتك لي مع 'بريثني'؟؟ أنت عاجز عن الوفاء... هذا في طبعك اليس كذلك؟"
أقطب بينما يرى بأنها جادة، انها تمثل بإحترافية شديدة، وجدت بسرعة الطريقة التي تدير فيها القصة لصالحها:
" لم أخنك يوما مع أحد لسيما المحامية، هي كانت تهتم ببعض القضايا المشتركة بين أعمالي و أعمال أرشيبالد و نسهر أحيانا عندما لا يتوفر الوقت نهارا لمنحي تقريرا... كنا صديقين لفترة طويلة"
رآها تهز عينيها الى السماء:
" هي بنفسها أخبرتني تلك الليلة التي أمضيتها في سريرها... أخبرتني بأنني غبية جدا ان ظننت بأن رجل مثلك سيكون وفيا... "
" هيا ميغان... تكادين تكونين مقنعة... استمري في ابداعك..." ابتسم ابتسامة سيئة: "أنت بضاعة فاسدة "
تمتمت من بين أسنانها:
" و أنت لست ربحا و لا انجازا، دعني أذكرك بأنك من يلاحقني و ليس العكس، و الأن تنحى من أمامي..."
هذه المرة تركها تبتعد، لكن ابتسامته لم تدم، هذا الوجع برؤيتها في كل مرة تهرب منه يؤذيه بشدة... و ان رغب بأجوبة فعليه البحث عنها بعيدا عنها.
* * *

ملك جاسم likes this.

أميرة الحب غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 05-11-20, 02:59 PM   #3807

أميرة الحب

مشرفة وكاتبة في قلوب أحلام وكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء وعضوة في فريق الترجمة

alkap ~
 
الصورة الرمزية أميرة الحب

? العضوٌ??? » 53637
?  التسِجيلٌ » Oct 2008
? مشَارَ?اتْي » 14,442
?  مُ?إني » فرنسا ايطاليا
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Morocco
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » أميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   cola
¬» قناتك fox
?? ??? ~
https://www.facebook.com/الكاتبة-أميرة-الحب-princesse-de-lamour-305138130092638/
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

الفصل الثامن

يتصرف خوسيه ككلب مسعور ازاء طفليه، يستخدم جسده كسلاح ودرع، لا أحد من حقه لمسهما و لا تقبيلها و عندما يأتي أحد يتعرض لتعقيم كامل، مهووس النظافة خائف بشدة من العدوى على الصغيرين، لا تتذكر دانيلا كم من مرّة طهرت يديها كي تلمس البشرة الهشة لأوزلوم، كانت طفلة وديعة بينما توأمها متوحش و لا يتوقف عن إبراز موهبته في الصراخ، لكنه قطعة من الحلوى، دانيلا أغرمت فورا بالتوأمين و انفجر قلبها حبّا بهما، و تعذر الأب الجديد على تملكه و حمايته الزائدة، مكانه ربما كانت لتتصرف بالطريقة نفسها و ربما أكثر، ولا يبدو أن هذا يزعج الأم الجديدة، فهي على ما يبدو مسايرة زوجها في جنونه و قوانينه الصارمة، هي ايضا حذرة جدا فيما يخص ابنيها، و تعترف أنهما يُكملّان بعضهما البعض، الكثير من التواطؤ بينهما، شيئ حقا لا يصدقه عقل، هما اللذان كانا لا يطيق أحدهما وجود الأخر في نفس الغرفة، تتمنى حقا أن تكون هذه الولادة العسيرة بداية حياة جديدة لوصيها... أو والدها هي لا تعرف، فقد نجحت في الحصول على عينة من خوسيه و الموضوع كان مستحيلا لأن هذا الأخير غير مهمل بالمرة و لا يترك شيئا خلفه، و أرسلت العينات الى مختبر أمريكي بدل اسباني، ستتلقى النتائج في عنوانها بنيويورك، خشيت ان تسقط تلك الرسالة بشكل أو بآخر بين يدي وصيها، أخبرها اليساندرو أنه سيتصل بها فور توصله بالنتائج.
بعد أن ملأت ذاكرة هاتفها بالصور مع التوأمين رن هذا الأخير و كشفت الشاشة المضائة على اكثر الأسماء محبة لقلبها، اليساندرو... اعتذرت من سيسيليا و عائلة آيا و خرجت لتتكلم في باحة المستشفى الخارجية بعيدا جدا عن أي تصنت، كلما اتصل اليساندرو كلما آملت أن يملك أخبار جديدة.
مع فلول النهار و مجيئ الليل تركت الشمس الوان بنفسجية في السماء، استنشقت هواء نقي بدل الذي كانت تتنفسه في جناح المستشفى، كان منتصف النهار في نيويورك ، ولابد أن خطيبها يستغل فترة الغداء ليكلمها:
" اليساندرو..."
" كيف حالك كارا؟؟ كيف كان يومك؟"
" مليئ بالرقة و الحنان... عمرهما يومين فقط و أشعر بأنه قضي علي تماما..."ضحكته ليست حقا صادقة أقطبت قليلا، بينما تلتقط رذاراتها بأن شيئ ما على غير ما يرام:" كيف كانت صفقتك الأخيرة التي من أجلها وضعت كل مجهوذك؟؟"
رده أتى هادئا:
" خسرتها... أخدها مني منافس آخر... "
" من هو هذا المنافس؟"
" لا أدري... هذه الصفقة كانت ستفيد بشدة سكاي... "
شعرت بالحزن لهذا الخبر، لقد عمل بجهذ كبير مؤخرا، تعرف بأن اليساندرو يعيش بصعوبة خسائره، لا يتقبل مطلقا اخفاقه في شيء، ندمت لأنها ليست معه لتخفف عنه، عموما فلن تتأخر كثيرا كي تلتحق به، أتت لتحضر ولادة آيا و الحصول على عينة من خوسيه:
" أنا آسفة حبيبي..."
" انسي الموضوع... انها أمور طبيعية تملأ عالم الأعمال... هناك شيئ آخر عليك معرفته فأمامي نتائج تحاليل الحمض النووي"فتحت فمها و عادت لتغلقه بينما تسمع قلبها ينفجر في صدرها من شدة التوثر، كانت تنتظر بشدة هذه اللحظة و الان تشعر بنفسها غير مستعدة لمعرفة شيء، اذن فقد توصل بها؟!:" حبيبتي هل مازلت معي؟"
كانت متجمدة مكانها، أحست بصدره يتمدد وهو يسحب نفسا عميقا بدوره و كأنه متوثر:
" أنا ابنته... اليس كذلك؟" سألته بصوت هش.
ردّ و كأنه شخص لم يعد قادرا على كبح مشاعره في أعماقه:
" الينور لم تكن صادقة كارا ! ..."ماذا؟ بالتأكيد هي لم تسمع جيدا... وضعت يدها على جبينها بينما لفها دوار عنيف، لقد كانت متأكدة مليون في المئة من انه والدها:
" أنت لست منه..."
" اذن انا ابنة من؟؟" صرخت به بينما الشكوك التي تولدت لديها مؤخرا انفجرت فيها مثل الديناميت.
" انت ابنة والديك المتوفيين ببساطة..."
هزت رأسها بالنفي..."
" في مذكرات الينور لمحت بأن والدتي خضعت لإزالة الرحم بعد زواجها بسنة... أي أنني لست منهما... أنا ابنة اليونور... أنا صورة طبق الأصل منها... و اذا لم يكن خوسيه والدي فمن هو والدي؟؟"
" بما ان الينور كذبت بشأن خوسيه أتوقع ان تكون بقية ادعاءاتها كاذبة..."
دون وعي منها انسالت الدموع على وجنتيها، منذ البداية تريث اليساندرو كان في محله، عقله العملي أدرك بأن ثمة خطأ ما في الموضوع، لكن لما اليونور تختلق قصص لا صحة لها؟! ربما خوسيه ليس والدها و هذا الخبر أقصم ظهرها و صدمها بشدة لا تعقل اذن فمن هي؟! لم تعد ركبتيها تتحملان ثقلها، جلست على الدرج المؤدية لمدخل المستشفى و أمسكت رأسها بيدها:
" انسي أمر تلك المذكرات 'كارا'..." سمعته ينصحها بصوت ضيق:" عودي الى البيت... أنا أفتقدك بشدة! "
جاء في صوتها بحث مؤلم عن الحقيقة عندما أردفت:
" قد تكون اليونور مجنونة... وقد تكون تلميحاتها صائبة... أريد الحقيقة، حياتي لم تعد كما كانت من قبل..."
سحبت نفسا لأنها بدأت تشعر بالاختناق، حقيقة أن خوسيه ليس والدها نزلت عليها مجددا كالصاعقة.
" سأغلق الخط..."
" تمهلي دانيلا... تعرفين بأنني أساندك دوما..."
هزت وجهها الى السماء، الهواء البارد يثلج دموعها، لكن النار في صدرها تأبى الانطفاء، قالت بصدق:
" أنت أجمل ما حذث في حياتي اليساندرو و أنت تعرف كم أحبك.. لكن اريد الاستمرار حتى النهاية في هذه القصة... أريد أن أعثر على المكان الذي حبست فيه اليونور، المستشفى التي تمت فيه عملية الاستئصال لوالدتي... أريد أن أحصل على البراهين التي تؤكد أو تنكر ادعاءاتها فهل تفهمني؟؟"
عم الصمت،سمعته يبلع صوته ببعض الصعوبة، لا بد أنه غاضب لهذا القرار الذي لا تنوي التراجع عنه فيه، بعد أن لفتها عاصفة الشك المريبة، لن تعيش في سلام دون الحصول على توضيحات.
" بالتأكيد... أفهمك..."
بعد أن أغلق الخط، بقيت دانيلا جالسة مكانها، غير قادرة على التحرك أو التفكير، قصة خوسيه و اليونور أكثر تعقيدا مما يمكن أن يستوعبه عقلها، اعتقدت أنها أمسكت برأس الخيط لكنها أخطأت، اليونور تتلاعب بمن يقرأ مذكراتها، أو تعمدت هذا للاستمرار في تعذيب خوسيه فقط؟ لكن... عندما نحب لا نلعب بعواطف من نحبه، و لا تفهم أسباب المرأة، عموما... ستجد الأجوبة لكل اسئلتها ان استعانت بمتحري جيد، لما لا؟؟ انها تملك المال لتستأجر أجذرهم...
رجعت اذراجها عندما استعادت سيطرتها على عواطفها و منحها حل - استخدام المتحرّي - بعض الغبطة النفسية، استعملت بالتأكيد وسائل الوقاية دون ان تحتاج تنبيه جديد من خوسيه، كانت والدة آيا تتلوا بعض الصلوات على التوأمين قبل أن تعلن عن رغبتها بالرحيل:
" سوف أوصلك في طريقي..." اقترحت دانيلا وهي تلتقط حقيبة يدها التي تركتها حيث كانت تجلس قبل أن تستجيب لإتصال خطيبها.
" بهذه السرعة..؟" تدخل وصيها... كانت تتجاهل النظر اليه... تعرف بأنها ستنفجر في البكاء ما ان تلتق بنظراته الشبيهة كثيرا بنظراتها... كيف لهذه المعجزة أن تحصل بينما أثبتت التحاليل الا قرابة بينهما؟ لما تملك عيناه اذن؟.
" تأخر الوقت و من الأفضل أن نترككم تنعمون بأمسية هانئة... لن يتأخر السائق بإحضار طعام العشاء الذي طلبته من القلعة خوسيه..." هزت عينيها نحو سيسليا المنبهرة بألمادو و التي تقبل يده الصغيرة بنهم:" فلنمضي جدتي!"
" لا أشبع منهما..." اعترفت سيسليا..." أتحرق لإستقبالهما في القلعة..."
غدا ستخرج آيا و المادو من المستشفى بينما المستشفى سيحتفظون بأوزلام أسبوع آخر، و المفاجئة أن خوسيه من تناقص بقائه، أول تضحياته نحو ابنته، ما فهمته أن آيا يمكنها ارسال حليبها يوميا ايضا للمستشفى كي ترضع الصغيرة و تتفادى اطعامها بالحليب الاصطناعي، على ما يبدو ان المادو أكثر حظا... فما تزال الصغيرة تحت المراقبة.
" داني... تعالي معي أريدك لحظة..."
تبعت خوسيه الى خارج الغرفة صامتة، كان على وجهه الوسيم ألف سؤال، لكن نظراته قلقة، لم يتوقف في الرواق، بل أمسك بيدها و أشبك أصابعه بأصابعها، احترقت عينيها بشدة و قمعت مشاعرها، كيف لها ان تحكم عليه بقسوة في الماضي و تجده مستبد و خالي من الرحمة؟ انه فحسب ضحية ماضي مريب ... ماضي جعلها هي نفسها ضحية.
في الكافتيريا طلب جرعته من الكافيين بينما رفضتها هي، لا تتحمل القهوة لسيما في الليل، رأته يشرب منها و يكشر بطريقة لطيفة:
" أحستني برفضها فطعمها مريب..."
جاهذت بلابتسام، لكنه لم يرغب بالبقاء في الكافتريا، و وجدت نفسها خارجا في برودة الليل لثاني مرة في مدة قصيرة، لمحته يُخرج سجاره الوفي، و تشعل نار الولاعة تلك الملامح الاسبانية العتيقة، لكنه ليس والدها... آمالها سقطت في قعر بئر الخيبة... ربما تملك نظراته لكنها ليست منه.
" ما الأمر عزيزتي؟؟ غادرتي الغرفة متوهجة و عدتي بملامح مسودة و كأن القيامة قامت..." القيامة قامت بالفعل، اليونور تؤكد أنها ابنتها و هي حاليا في نقطة الصفر لأنها تجهل من هو والدها ان صدقت تلك الادعاءات !..." هل هناك مشكلة مع اليساندرو.؟"
" لن تكون هناك يوما مشكلة مع اليساندرو ... يريدني أن أعود لما أسماه بيتنا..."
ابتسم خوسيه برقة:
" تحررتي مني في النهاية..."
هذا الكلام احزنها لدرجة أنها لم تمنع دموعها من النزول مما زاد من قلق نظراته الذهبية... نعم ذهبية... مثل عينيها، دنى منها و مسح على وجنتها:
" دانيلا..."
" مسكينة أوزلام... ستعيش استبدادك... " ابتسمت من خلال دموعها:" أجمل استبداد على الاطلاق..."
لا يبدو أن خوسيه يفهم جيدا الى ما تنوي الوصول بكلامه، بدت سخيفة أمام اهتزازاتها الذهنية و المزاجية، كانت ترغب فحسب بأن تكون بمفردها.
" لدي سؤال لك و اتمنى الا تنزعج منه... " بدأت ببعض الحذر:" الم تجد أنه من الغريب جدا أن يضع والداي إسمك على وصيتهما في حال أن حذث لهما شيئ بدل عمّي ؟"
هز حاجبه مفكرا:
" بسبب علاقتي السابقة باليونور!..."
" شبهي الشديد بها لم ينذرك بأنني ربما أكون ابنتك...؟"
ابتسم لها :
" فكرت في الموضوع و قمت بتحليل الحمض النووي بعد استقبالي لك مباشرة و اتضح انك لست كذلك... حتى سيسليا كانت تملك شكوكها آنذاك ووالدي الذي فعل ما بجهذه كي لا أتزوج اليونور و أوفي بوعدي لإبنة الأمير الذي خطط لزواجنا منذ مراهقتنا... أعترف أن خيبتي كانت ساحقة... آملت حقا أن تكوني كذلك"
هذه الحقيقة كانت بمثابة الصفعة على وجهها، اذن فخوسيه أيضا كانت له شكوكه؟ و فعل ما يتوجب فعله منذ البداية؟! الأمور تتخذ منحنى عجيب...
" كنت آمل أن أكون مخطئ... و أن إبني لم يمت مع اليونور... اتضح أنني اخطأت... "
بلعت ريقها بصعوبة:
" أجد من الغريب أن أشبهها هي كثيرا بينما لا أشبه أمي!..."
" أنا أشبه عمي و لا أشبه أبي ..." عمّه الشاب توفي في الثلاثين بسبب حريق اندلع في شركة مارتينيز و للاسف لم يترك خلفه لا زوجة و لا طفل، هذه القصة تعرفها دانيلا.. " أرى بأن المذكرات أثرت عليك... أنت لست ابنة اليونور..."
" لما انت متأكد؟؟ لقد قطعت صلتك بها ما ان تزوجت بأخرى !.. نسيتَ أمرها و كأنها لم تمر في حياتك!."
صمت خوسيه و فضلت هي عدم الاستمرار في هذه المناقشة التي تدفعها للافصاح عن معلومات أكثر و التسبب له بالقلق بينما أتى على الحصول على حلمه الغالي، طفليه... عقله مشغول بأمور أخرى، ووضع أوزلام الصحي يقلقه بشدة." آسفة عزيزي... أعود مجددا لهذا الموضوع!... "
" تعالي الى هنا..." وفي لحظة أصبحت بين ذراعيه:" اليونور من الماضي، أريد نسيانها، أحتاج لنسيانها، السماء تمنحني فرصة أخرى و انوي استغلالها، تجددت حياتي بمجرد سقوط نظراتي على التوأمين... فقررت دفن الماضي الى الأبد... أنصحك بدفنه أنت أيضا... لكن ما أعدك به... أن مجيئ الصغيرين لن يغيرا من مشاعري نحوك... حتى و ان تزوجتي من اليساندرو.. ستبقين الأخت الكبرى لهما...لست بحاجة لتحليل دم كي أحبك مثل ابنتي"
لم تكن يوما مقربة من وصيها كما اللحظة، منذ خطوبتها باليساندرو توقف التوثر بينهما، بدأت تفهم أن وحشيته معها عائدة لخوفه عليها، تماما كما أخبرها العرّاب ذلك المساء... مساء زواجه.
* * *
هناك تغيير جذري فيها، تصرفاتها مهذبة بشدة و تبدو روحها بعيدة عنه بآلاف الأميال، منذ عودته من التيلاند برفقة صوفي و سابرينا و الأمور تنفلث من بين يديه، وجد غرفته فارغة من ملابسها، أخبرته بأنها تفضل العودة الى شقتها بما أن والدته عادت الى البيت، هذا الجذار الذي نصبته بينهما يجعله في كل حالاته، بدأت تنزلق مجددا نحو المرأة التي تعرف عليها المرة الأولى، يجهل سبب هذا الانقلاب... و ربما... في أعماقه.. يعرف شيء ما.
في سهرتهما الأخيرة قبل رحيله الى التيلاند كانت ترتدي قناعها البارد، لم تتكلم كثيرا كعادتها، و طرحت عليه عدة أسئلة غريبة، اسئلة متعلقة بأعماله الأخرى، في كل مرّة تحاول التوغل أكثر في حياته القاتمة الثانية، تلك التي ينوي حمايتها منها بأي ثمن، لقد صدّقها في الماضي عندما أخبرته بأنها لا تهتم حقا بنوع الحياة التي يعيشها بما أنها تعي جيدا جوهره، بأنها تريده كما هو... مالذي حصل بالضبط؟ و هل هو مستعد لهذ التغير؟ بالطبع كلا... وجد ما تمناه دوما في شريكة... انها نصفه الثاني، وهو لا ينوي التنازل... بريانا رأت الوحش فيه... رأته حقا كما هو... وهو رآى فيها ملاك الرحمة الذي جلب معه ما احتاجه بحق في حياته..
كانت تجلس على يمينه في هذه الكنيسة العملاقة حيث تقام مراسم دفن الجد سيفيرانو بينما تجلس سابرينا على يساره، المكان مكتض بالمعزين، سيزار من يدفع كرسي جده كوستانسو، هذا الأخير أتى ليودع آخر أصدقائه، مد يده ليلتقط يد بريانا القابعة في حجرها، تحسس الحجر الماسي لخاتم خطوبتها، تركته يفعل لكنها لم تضغط عليه بدورها كما هي عادتها، بقيت جامدة مثل الصخر... هل فقدها؟ انها بصدد الابتعاد عنه ببطئ... وهو يعيش أول حالة رفض أنثوي في تاريخ حياته... يعترف أن هذا مؤلم.. لسيما منها هي... الوحيدة التي قرر حقا الزواج بها.
انحنى نحوها وهمس لها:
" هل أنت بخير؟"
هزت رأسها بالايجاب لكنها لم ترد، ثم سحبت يدها و ابقت عينيها على المراسم الدينية التي بدأت، و استرسل رجل الدين في التعريف عن الميت و حياته الغنية بالانجازات، ثم بقراءة سفر المزامير لداود النبي الذي يحكى حياة المسيح، بعد ان انتهى أتى دور أفراد عائلته لإلقاء كلمة، روبي اختنقت في كلماتها لأكثر من مرة، كانت ترتدي فستان أسود و تضع شال من الدانتيل على رأسها:
" كان من المؤلم فقدان جوزيف قبل سنوات... و اليوم، أودع حبيب آخر... جدي الغالي... أتمنى أن ترقد روحك بسلام..."
جوزيف سيفيرانو كان شاب في مقتبل العمر، و اختطفه الموت بغتة، سبق و تعامل مع ذلك الشاب الحيوي و اللطيف، رجل أعمال قاد أعمال السيفيرانو بقبضة من حديد، حياة هذه العائلة لم تعد كما كانت منذ رحيله.
" من هو جوزيف؟" سألته بريانا بخفث.
" شقيق روبي الأكبر... موته خلق صدمة عنيفة للعائلة و للجزيرة برمتها... كان انسانا رائعا..."
" تبدو منهارة... " علقت بتعاطف" الموت يختطف بإستمرار الناس الجيدون ".
............
عندما حطت عليها أهالي صقلية هذه النظرات كانت برئيهم المرأة المنحلة أخلاقيا و التي خانت أميرهم الغالي، اليوم الكل يتطلع اليها بعين مختلفة، لأنها لم تحني رأسها و ردت لهم نظراتهم المتفحصة الا ان اجبرت كل فرد على نكس رأسه المتعالي، تغيرت المواقف و أيضا المكانات، ليست الجميلة التي افثن الأمير بجمالها و تزوجها ليسخر من بروتكولات والديه، بل زوجة نيوس ليونيداس و حفيدة السيفيرانو، أهل صقيلية يعشقون بشدة الأقاويل، تعرف بأن حياتها هي أول مواضيع أحاذيثهم عندما يستيقظون و آخرها عندما ينامون، روبي لا تتوقف عن مناداتها شقيقتي بدل اسمها، فخورة أمام الكل أو ربما طريقتها في رد الاعتبار لشخصها الذي تعرض للقهر في هذا البلد، لكنها أقوى مما كانت، و لا تهتم بالمرة لمواقفهم العنصرية، تعلمت الدوس على آراء الأخرين، الحياة كانت من القسوة بحيث علمتها كيف تكون قوية، و الا تأبه سوى لنفسها.
رفضت ترك كلمة لقاتل جدّتها، عموما فلن تنافق نفسها، لا تملك عاطفة نحو هذا الرجل ببدلته الفاخرة و الممدد في نعشه، لا يمكنها ان تردد كلمات لا تقصدها، كانت تتمشى بجانب نيوس الذي يحيط خصرها بذراعه، هذه الذراع التي لا تبتعد عنها بالمرّة و يمكنها الإعتماد عليها مؤخرا كما لم تكن في الماضي، الجميع يتبع العربة التي تأخد النعش الى مقبرة العائلة، عربة مذهبة ومزينة بأشكال مختلفة من الصلبان والملائكة وسعف النخل وأغصان الزيتون، وتجرها خيول مطهمة مغطاة بفرش زاهي الألوان إشارة إلى زفافه للعرس السمائي. يسير وراءها المشيعون إلى المقبرة... عنوانه الأخير.
يمكن لإذنيها التقاط انتحاب روبي و خالتها، الوحيدتين اللتين تبرزان علامات الحزن و الشجن لمصاب العجوز، هي شخصيا أفرغت كل دموع الجسد لموت سبيروس... لم تكذب عندما أخبرت سيفيرانو بأن اليوناني هو الجد الوحيد الذي عرفته في حياتها، فراقه كان موجع للغاية، و هي تفتقده بشدة أيضا، تأسف لأنه لم يعد موجودا ليعيش فرحة حملها الثاني.
رأت داركو تتأبط ذراعه فلورانس متشحين بالأسود معا، تحتفظ مثل المعتاد بزوجها بعيدا عنها، لابد أن الجميلة ما تزال تعاني مع مشكلة الثقة...ما زالت تخشاها حتى وهي تراها منتفخة البطن برفقة زوجها، ستعتبرها بإستمرار غريمتها و لن تصير يوما صديقتين.
في المقبرة انتبهت الى أن كل سلالة السيفيرانو هنا، الحفرة التي تم تجهيزها للفقيد بجانب قبر زوجته الثانية، تركت نيوس و الجميع الذين خلقوا حلقة حول الحفرة و بحتث عن قبر جوزيف، لا تعرفه سوى مما حكت لها روبي، أخبرتها بأنه كان انسان بخصال مميزة جدا، الشاهد مكسو بالرخام يحمل صورة لشاب قاتم العينين، بإبتسامة رائعة، لم يكن قد تجاوز الثلاثين من عمره... وهذا بالضبط ما يشير له تاريخ الولادة و الوفاة... كان عمره السادسة و العشرون فقط... يالها من خسارة!
عادت الى الحشوذ الملتفة حول النعش بينما رجل الدين يتلو قراءة فصول من الكتاب المقدس لتعزية العائلة و يقدم الشكر لله و الخضوع لإرادته، بدأ الصندوق بالنزول الى قلب الحفرة، عند دفنه أخذ الكاهن في يده حفنة من التراب وذراها في الهواء قائلًا "أنت يا آدم تراب وإلى تراب تعود".
أمسك نيوس بيدها لكنها رفضت لمسه، تريد حقا البقاء بمفردها، بدأ الكل بهجر المقبرة بإنتهاء المراسم، رأت روبي تزور قبر جوزيف، تجلس على ركبتيها بجانبه و تنفجر في البكاء، انه يوم حزين و مليئ بالمشاعر، بقي سيزار بعيدا عنها يمنحها ما تحتاجه من حميمية، لكنها لم تستطع حذو حذوه، أخرجت مناديل ورقية من حقيبة يدها و مدتها اليها، هذه الاخيرة اخدتها شاكرة:
" انا أفتقده بشدة..." شرحت بصوت تعس:" كان يشبه الجبل في شموخه و اراه دوما كبيرا... رحيله مبكر جدا... لم تسنح له الفرصة بعيش حياته كما يجب..."
بقيت تستمع الى كلماتها الشجنة بعض الوقت قبل أن تقف هذه الأخيرة مجددا على قدميها و تمنحها رؤية لوجه متورم من شدة البكاء.
عانقتها لمساندتها و دعمها، بذراع فوق و أخرى تحت توجهتا التوأمتين نحو مخرج المقبرة الى بيت سيفيرانو حيث سيتم استقبال المعزين للمرة الأخيرة... بعد قراءة الوصية ستطير الى اليونان... لن تتحمل ليلة أخرى في صقلية، فقد انهت ما اتت من أجله.
..............
تشعر بأنها فارغة عاطفيا، بين كومة المعزين الجالسة في باحة المنزل تدردش بهدوء و متشحة بالسواد و بين حزنها الشديد تحس روبي بأن الدقائق تمر ببطئ شديد للغاية، هذه الأيام الأخيرة كانت صعبة عليها، فراق جدها مؤلم، أشد ألم مما ظنت.
التقطت أنفاسا عميقة و ابتسمت شاكرة لزوجها الذي جلب لها كوب قهوة سوداء طلبتها منه.
" الا ترغبين بالذهاب الى غرفتك و الارتياح قليلا؟"
" ليس قبل أن يقرر المعزين العودة الى بيوتهم... و كأنهم ينون البقاء هنا حتى المساء..."
مسح على وجنتها باصابعه بينما عينيه الرصاصتين تتطلعان اليها بتعاطف:
" أنا هنا... سأظل هنا..."
" أشكرك على وقفتك الرائعة... أنا محظوظه بك... أحبك بشدة سيزار..."
" أنا ايضا أحبك... " قبل يدها بدفئ :" ارى بأن المحامي يستعجل بقراءة الوصية... هل أتت فيوليتا؟؟"
فيوليتا كانت خطيبة جوزيف و حبيبته، اختفت بعد موت هذا الأخير مباشرة، من ضمن رغبات جدها الأخيرة أن تحضر المرأة لقراءة وصيته، لكن فيوليتا لم تمنحها ردا، و لا تنوي العودة الى صقلية بعد أن هجرتها منذ سنوات و قلبت صفحة الماضي على ما يبدو.
" لا... لم ترد على رسائلنا... يمكنك أن تخبر المحامي انتظارنا في المكتب ريثما نودع المعزين..."
لكن وشوشة من حولها نبهتها بوصول زوار جدد، كانت امرأة متشحة بالسواد لا تعرفها و لم يسبق أن رأتها، تمسك بيد صبي صغير أسود الشعر، شدتها فورا ملامح وجهه القوية... رأت والدتها تقصدهما و تسلم عليها.
" ظننتها هي ... أعرف بأنها لن تأتي... إختفت من فوق سطح الأرض"
فرك مجددا على يدها داعما قبل أن يقصد المحامي و يطلب منه تبعه، أتممت قهوتها التي منحتها طاقة جديدة و رأت والدتها تلقي نظرات قلقة نحوها قبل أن تقرر الالتحاق بها و بالزائرة الجديدة، هذه الأخيرة لا تبدو ايطالية بالمرة، كانت تتكلم بالانجليزية:
" يجب أن نتكلم..." قالت لها والدتها وهي تشير الى الزائرة:" نحن الثلاثة... "
في ظرف دقيقة كان ثلاثتهم في الجناح الخاص لوالدتها، المرأة الأنجليزية تحملق اليها ببعض الفضول، عرّفتها على نفسها:
" بيرتا دابل... أنا من أريزونا..." اذن فهي امريكية؟ لما لم تنتبه من لهجتها؟ " أنا قريبة فيوليتا... "
شعرت روبي بأن قلبها ينفجر في صدرها:
" لما لم تأتي ؟؟ ارسلت لها ايمايلات لا منتهية فلم أحصل على معلومات تخصها..."
ابتسمت المرأة ببعض الحزن:
" لم اكن أعرف بأنكم حاولتم الوصول اليها... فيوليتا توفيت منذ عامين... أنا هنا لأنها طلبت مني المجيء ان سمعت بوفاة السيد سيفيرانو... "
فيوليتا توفيت؟؟ ماهذا الجنون؟؟ لكن... رمشت روبي بعنف كي تفهم بالضبط ما يحذث اللحظة.
" كيف هذا توفيت؟؟ و لما تنظرين موت جدّي كي تأتي الى هنا؟ لم أعد أفهم شيئا؟"
رأتها تلتقط أنفاسا عميقة و تقول:
"هل يمكن أن يسبب الحزن السكتة الدماغية أو النوبة القلبية؟ نعم ، يمكننا أن نموت بقلب مكسور... فيوليتا لم تتحمل أبدا نهاية خطيبها المأساوية...الحزن (والضغط الذي يسببه) أدي في النهاية إلى موتها... لكن هناك شيئ آخر عليكما معرفته..."
فتحت حقيبة يدها الكبيرة و أخرجت ملفا أصفر و غلافين:" لا أعرف ما حذث بالضبط بين فيوليتا و جدك الا انها قطعت علاقتها بإيطاليا بسببه... لقد كانت حامل من جوزيف عندما هربت الى أمريكا...ومعي كل الاثباتات و الأوراق التي تؤكد صحة كلامي... الطفل لا ذنب له و هو بحاجة لدعم عائلته... شخصيا لم اعد قادرة على اعالته أكثر... لسيما و أن الرجل الذي خشيته فيوليتا رحل... قالت أنها تثق بك كثيرا..."
طريقة سمعها لهذا الكلام تشبه التشويش الذي تتعرض له عندما تقوم بالغطس، الكلمات ليست واضحة و المعنى يبدو مستحيلا، عندما اختفت فيوليتا قبل سنوات أشيع عنها الحمل نعم ، لكن العائلة نسيت فورا هذه الشائعات، وهاهو الماضي يعود اليوم بقوة، هل يعقل أنها عاشت هذه السنوات كلها محرومة من طفل جوزيف؟؟ شقيقها الغالي الذي كانت لتضحي بنفسها من أجله؟؟ فتحت فمها لتلتقط أنفاسها وهي ترى والدتها تلتطق الأوراق التبوثية و تتفحصها بتركيز شديد، كانت هذه الأخيرة شاحبة شحوب الأموات... ماذا ان لم تكن هذه المرأة صادقة؟ وهي هنا فقط تستغل موت سيفيرانو كي تنصب عليهم و تسلبهم بعض المال؟
" الطفل الذي رافقك هو ابن أخي؟ كم عمره؟" سألتها روبي بحذر وهو تمسك بوثيقة رسمية من الجهات الامريكية الموثقة.
" عمره الست سنوات و النصف..."
باشرت بالتطلع الى الوثيقة التي تحمل اسم الولد ...{ أنجلو جوزييف سيفيرانو.... ابن جوزيف توماسو تيتو سيفيرانو...}
وضعت يدها على صدرها أمام تاريخ الميلاد، ان صدقت الاشاعات السابقة فإن فيوليتا كانت حامل بأربعة اشهر عندما مات حبيبها؟ هل جوزيف كان على علم؟ لا تظن ذلك... لأن شقيقها لم يخفي عليها شيئا.
" فيوليتا قامت بترك فحوصات أيضا تثبت بأنه ابنها.."
" لما لم تعود مع ابنها ان كانت هذه القصة صحيحة؟" سألت روبي بإندفاع.
" كانت تقول بأن جدّ جوزيف لم يتقبلها يوما لأنها يتيمة و من دون اي اسم عريق، كانت خائفة جدا منه، من ان يسلبها الطفل ما ان يعرف بأن هناك وريث للسيفيرانو... لكنها رحلت بعد ان بلغ الصغير الأربع سنوات... لم تتمكن من نسيان جوزيف و لا قلب صفحة الماضي، تمكن الاكتئاب منها و تعرضت لجلطة أنهت حياتها... قمت بتبني الصغير كما وعدتها و أنا هنا لأن هذه أيضا رغبتها... أظن أن من حق آنجلو التعرف على أصوله الايطالية... من حقه العيش في بيت والده"
ملأت الدموع عيني روبي، المرأة لا تطلب المال بقدر طلبها لاهتمام بالطفل الذي يُفترض أنه يحمل دماء شقيقها، هل جدّها كان يعرف لهذا طلب حضور فيوليتا خلال قراءة وصيته؟ ذلك الطفل الذي فقد والده ووالدته في ظروف مؤلمة؟
تركت الجناح بخطوات ثملة و عادت حيث تركت المرأة الصبي أمام سندويتش و كوب من العصير، لمحته روبي جالسا بهدوء رجل بالغ أمام الصحن الذي لم يلمس منه شيئا، بحتث عن شقيقها في ملامحه ووجدته في تلك النظرات و الخصلات الحالكة السواد بالرغم من أنه ورث عيون والدته الزرقاء، الطفل يبدو ضائع في مكان لا يعرفه، وهي... لم تجرؤ بالإقتراب منه، نار قوية تتآكل صدرها، وجدت سيزار في المكتب مع أصدقائه، روكو و اليخاندرو و داركو ثم المحامي، انفجرت في المحامي ما ان أغلقت الباب خلفها:
" كنت تعرف بأن فيوليتا ماتت و تركت خلفها وريث السيفيرانو؟؟ لهذا رغب جدّي بحضورها اثناء تلاوة وصيته؟؟"
هذا الأخير بدى متصلبا لكنه قال بهدوء:
" أنا من دفع ثمن تذاكر الطائرة... ذلك الصبي هو ابن جوزيف حقا... لم يتوقف جدك عن البحث و البحث خلال السنوات الماضية لأنه كان يأمل بأن الشائعات مصيبة... قبل موته بشهر تأكدت شكوكه... توصلنا الى مكانه و وجوده، فهو يحمل شهرة أمه في المدرسة، من القانون الأميركي ان يحمل الطفل شهرة والديه معا ان لم يكونا متزوجين..."
انهمرت الدموع على وجهها الشاحب، اذن فهي عمّة، الحقيقة أخلتها توازنها، لم يعد بإمكانها تحمل كل هذه المفاجآت المتتالية، أصبح سيزار بجانبها و التقطها ليجبرها على الجلوس فوق الكنبة، وضعت رأسها الثقيل على كتفه، كانت سعيدة و حزينة لهذا الواقع... هي التي طالما تألمت الا يترك شقيقها أثرا خلفه... منحها أجمل مفاجئة... هدية لا تُقدر بالأموال.
" أكاد لا أصدق أن جوزيف ترك خلفه وريثا؟"
لاحقا بينما المحامي يقرأ وصية الجد، كانت نظراتها لا تفارق الصبي اليتيم الذي يتطلع الى أثاث المكتب بنظرات منبهرة، لا يبدو انه عاش الرخاء، فيوليتا عملت نادلة خلال الأربع سنوات و نصف التي قاومت بعيشهما بعد موت حب حياتها، يبدو ضائع النظرات ايضا و كأنه خائف مما هو قادم، قسّم سيفيرانو تركته على أفراد عائلته المتبقية، ديامانتي وهي تملكان اليوم 20 في المئة، والديها ال30 في المئة و البقية لآنجلو... لهذا قرر الجد أن تكون فيوليتا حاضرة... أو بالأحرى إبنها الذي صار ثريا اللحظة.
" أمنح حقي لهذا الطفل... لست بحاجة لأمواله..." تدخل ديامانتي قائلة بهدوء:" هل هناك اجراءات ما أم أنه يتوجب علي فقط التوقيع على تنازل كليّ؟"
غريب كيف أنها فكرت في الشيئ نفسه، تدخلت المرأة التي يُفترض انها قريبة فيوليتا.
" من ضمن رغبات فيوليتا الأخيرة ان تتبنى روبي بنفسها آنجلو..." فتحت فمها من هول المفاجأة:" اتمنى ان يتم احترام رغبتها...."
و ان لم يقبلوا ستحصل على ارث السيفيرانو و تعود الى أمريكا مستغلة الصبي!؟؟ هذا لن يحذث.... ابن جوزيف سيبقى في صقلية، نظرت الى سيزار الذي لا يبدو ان المنحنى الذي يتخذه الموضوع يُعجبه.
" نحن سنهتم به..." سمعت والدها يتدخل بصوت حازم:" روبي لديها حياتها مع زوجها... الصغير بين عائلته اليوم... لن ينقصه شيئ..."
ابتسمت المرأة متفهمة:
" بلا أدنى شك... لكنني أحمل رسائل لروبي... حيث تخاطبها فيها فيوليتا و توضح لها لما اختارتها هي كأم بديلة..."
حكت روبي جبينها، رأسها يكاد ينفجر من شدة الصداع، كل هذا مفاجئ جدا و تفضل الإنفراد بنفسها و قراءة تلك الرسائل، وقفت من مقعدها و قالت لديامانتي:
" هل أنت متأكدة بترك حصتك للصبي؟"
" كل التأكد... ليس ارث الجدّ ما سيشعرني بأنني جزء من السيفيرانو... أنا سعيدة بموقعي الحالي..." رأت نيوس يمسك بيدها و تبتسم له هذه الأخيرة بدون أي حرارة، تحولت هذ الفتاة الى آلة بلا إحساس في وجوده، متى سيفلح نيوس بربحها مجددا يا ترى.؟.
" فليكن عزيزتي..." أردفت روبي وهي تعيد اهتمامها نحو بيرتا:" هل من الممكن ان تعطيني رسائل فيوليتا؟ أحتاج للانفراد بها"
* * *
المراهقة البدينة و التي تعشق الحلوى تحولت الى بجعة حقيقية، كان يلبقها ب candy وهي كرهت هذا اللقب ، فعل هذا مرارا خلال لحظات لقائهما المتباعدة، ناومي كانت تملك ضعف شديد نحوه، القصة التقليدية للمراهقة التي تحب صديق شقيقها، بينما الحقيقة هو اعجب بشقيقتها الكبيرة التي تهتم أكثر بنفسها، ذلك الاعجاب الذي تلاشى فورا ما ان تذوق الحلوى، مشكلته المستعصية هي السأم... لا يجد سعادته مع امرأة، في النهاية تتشابه كلهن، و اليوم ناومي مارشال لا تشبه بتاتا التلميذة المجتهدة التي في ذاكرته، لم يراها منذ سنوات وهاهي امامه بحلة تسلب الألباب.... تحولت الى من بدينة بطاقم تقويم الأسنان و بشرة دمرتها البثور الى رشيقة بتموجات أنثوية مبهرة، غرتها الشديدة الشقرة و المهملة سابقا ، لامعة فوق كتفيها، هذا التغيير يصيب عينيه بالعمى.... واو.
" دافيد ريتشي... منذ متى لم نلتقي؟" سألته ناومي بدفئ وهي تقبل وجنته.
تملك عيب خلقي مما يجعل عينيها بنفسجتين تقريبا، هذا التغير طالما أفقدها رشدها في الماضي، و بما انه يناديها أيضا بكاندي فهذا لم يحسن من ثقتها في نفسها، لكن من أمامه اليوم هي سيدة أعمال وسط فستان رائع لا يخفي شيئا من تفاصيله الرائعة و بحداء عالي الكعبين... تلاشت ناومي كاندي البدينة...و.... واو.. شيء لا يُعقل.
" بالكاد اصدق ما أرى, بالكاد أعرفك..."
انفجرت في الضحك، نغمتها جمدته فورا في مكانه:
" لقد كبرت... لا تقلق لم أعد مغرمة بك!..."
كشر دافيد:
" هذا من سوء حظي..."
استدارت نحو 'كين'، هذا الأخير يبدو مفتونا بدوره، رأها تمد يدها الأنيقة نحوه و تصافحه:
" لا بد انك ابن عم دافيد"
" كين ريتشي... سعيد التعرف عليك انسة مارشال، دافيد لم يعطيك حقك"
" هل اخبرك بأنني بدينة ووجهي مليئ بحب الشباب و عيوني بنفسية تذكر الناس بمصاص دماء مقيت في فلم ممل؟"
هذا بالضبط ما اخبره به، سمع كين ينفجر في الضحك، ما اتى به اليها هو صديقه الوكا الذي لا يتوقف عن مدح انجازات شقيقته الصغيرة التي اصبحت مهندسة لامعة جدا و ناجحة، البطة تحولت لبجعة، و ليست أي بجعة!
" انصحه بإرتداء نظارة طبية..." سمع ابن عمه يعلق متهكما.
عادت ناومي تحملق اليه بعينيها المتميزتين، لم تكن مرعبة بهما بل فاثنة جدا و استثنائية، بعد اتصاله بها قبل ثلاثة أيام دعتهما لزيارتها في مكتبها، الذي يحتل الطابق الأوسط لناطحة السحاب في أرقى بقاع منهاتن، مكاتب لوكا في البناية نفسها:
" لا يبدو ابن عمك في صفك!..."
" لم يكن يوما في صفي..." أجابها بإبتسامة:" لكنني اصريت على توجيهه الى ألمع إسم في نيويورك... كين يوسّع نشاطاته، و يبحث عن مهندسة لمكاتبه الجديدة في بوسطن..."
هزت رأسها بإهتمام و تحولت نظراتها الى كين مجددا، ابن عمه مميز بملامح انقسمت بين والده الايطالي و امه اليابانية-الكورية، لكنه حصل بدوره على عيون آل ريتشي الشهيرة، طالما حصل على معجبات بفضل هذا التجاوز، لكنه رجل جدّي و ليس لعوب بالمرة، و هذه النظرات التي يحطها على ناومي لا تعجبه بالمرة، كين الذي لا تعجبه امرأة عادة مأخود بما أمامه... ناومي تستحق هذا التقدير الذكوري، انها فاثنة... تفوقت عن ايموجين... بل تفوقت على كل حسناوات نيويورك:
" لكن... ان كنت شديدة الانشغال عزيزتي يمكنني ايجاد شركة هندسة أخرى..."
قولي بأنك مشغولة هيا...!
" يمكنني الاطلاع على تفاصيل المشروع حول طاولة العشاء هذا المساء لأنني اليوم مشغولة... ما رأيك؟؟"
كانت تقصد كين بكلامها، هذا الأخير اشرق وجهه و تجاوب فورا:
" سأكون سعيدا بالتأكيد... يمكنني المرور لأخدك..."
" نلتقي في مطعم الزهرة الذهبية عند السابعة... سكرتيرتي ستقوم بحجز طاولة لإثنين فلا تزعج نفسك.." ثم استدارت نحوه أخيرا، ابتسامة شاسعة على وجهها، اسنانها البيضاء تتلألأ تحت الأضواء:" سررت برؤيتك مجددا دافيد... سأهتم بزبونك فلا تقلق... "
لكنه غيّر رأيه، لا يريدهما أن يعقدا صفقة مع بعضهما، هذا التواطؤ السريع بينهما لا يريحه، عندما ودعتهما الجميلة و منحتهما رؤية شاملة لوركين رائعين، شد على ذراع ابن عمه وقاده نحو المصعد.
" انها مناسبة..." سمعه يقول بصوت مليئ بحماسة قناص أتى على الحصول على فريسته..." مناسبة جدا..."
" ليست مناسبة بالمرّة... ستتواصل مع شركة أخرى و تنسى أمر ناومي... انها الشقيقة الصغيرة للوكا، ان غازلتها فسيقوم بتحكيم أسنانك الجميلة..."
انفجر كين في ضحك متهكم.
" دافيد... هل يجب أن أذكرك بأن صاحبة السمعة السيئة في الريتشي هو أنت و ليس أنا؟"
تجاهل ملاحظته:
" سوف تتصل بها بعد ساعة و تخبرها بأنك غير قادر على المجيئ هذا المساء لأن تمة عمل عاجل يستدعيك بمغادرة نيويورك..."
أغلق كابين المصعد عليهما، تطلع اليه كين بنظراته الزرقاء الحادة الذكاء:
" رأيت عملها، انها تهمني دافيد و أنوي الذهاب لهذا العشاء... ما سيعقب لا يهمك بشكل أو بآخر... هل هذا واضح؟"أصبحت السخرية عميقة الجذور وهو يضيف:" هل تغيرت رؤيتك فجأة فور رؤيتها مجددا بحلة مغايرة؟؟ تريدها لنفسك؟؟ دافيد.. انت غير منصف بحق تلك الفتاة ان فكرت بإغوائها وقد خرجت مع شقيقتها الكبرى..."
" لم أخرج مع إيموجين... كانت بيننا مغامرة صغيرة و انتهت... كما أنني لا انوي اغراء ناومي... أعترض فحسب على طريقتك في تفحصها..."
" طريقتي انطبقت على طريقتك في التطلع اليها... "كين يملك ردا لكل شيئ، و يتسلى كثيرا بإستيائه، لكنه محق، فيما يهمه أن يجد هذا الأخيرة كاندي على ذوقه؟ اختفت الحلوى و حل محلها غزل البنات:" ان كانت تعجبك فسأنسحب..."
" انها لا تعجبني كإمرأة... انها فحسب شقيقة لوكا المدللة.... لا أهذف لمشاكل معه..."
ابتسم كين:
" سأكون حذرا... فكما تعلم... أشبه أكثر طباع مارك انطونيو... أنا وفي بطبيعتي و أكره العلاقات العابرة... هذا بالتأكيد ان كنت أهم المعنية بالأمر أكثر من مجرد زبون تنوي عقد صفقة معه..."
" أشك في أنك صنفها ... في الماضي كانت مغرمة بي..." أكد بغرور على كلماته الأخيرة.
إنفتح باب المصعد على ردهة الاستقبال، عدّل كين ربطة عنقه الفاخرة و دفع بخصلات شعره الشديدة السواد الى الوراء و هو يرد باليابانية بطريقة متسلية لم يفهم معناها.
" مالذي قلته..؟"
" سنرى ما سنرى.." ثم غمز له و ابتسم معززا الغمازة في خده." أغرمت بك البدينة و ليست المثيرة الرائعة التي أتينا على رؤيتها قبل قليل...كانت تتصرف و كأنك شفاف "
وهذا ما لاحظه هو ايضا... الجميلة نسيت أمره كليا و لم يعد فارس أحلامها تماما كما تبخر أيضا بالنسبة لبيانكا.
* * *
كانت الأمسية كئيبة، ينقصمهم وجود خوسيه، لا أحد من الرفاق حسن المزاج، داركو يحاول تلطيف الجو، اليخاندرو يعترف أنه هو نفسه تنقصه الحماسة، لسيما بوجود خافيير منذ أيام في بيته، التشابكات بينهما لا تقل، و هذا الأخير لا توقفه الكلمات، انه بارع جدا في صد هجومه بطرقه المتعددة، لا ينوي تغر رئيه بشأن المكوث في بيته و لم يقبل بكل اغراءاته، لم يجد بعد الفرصة للتكلم مع روكو الذي عاد بالأمس من التايلاند برفقة ابنته ووالدته، وهذا المساء عن غير عادته يبدو مبالغا في الشرب، مشاكل مع صوفي؟؟؟ هذه الأخيرة أصبحت صعبة المراس منذ الحاذثة، صديقه يعاني بشدة من سلوكها السيء، لا يتدمر أبدا، لكن اليخاندرو ليس غبيا كي يتكهن الموضوع... يعرف بأنها تكره من يتحكم في حريتها و حياتها.
" حتى و ان قررت روبي قبول شرط فيوليتا و تبني الصبي..." قال فجأة روكو عائدا للموضوع الذي دفع سيزار لإفراغ قنينة من الوسيكي هذا المساء:" الموضوع لصالحك..."
هز سيزار عينيه المحرّتين نحو صديقه، ثملا أم لا روكو لا يفقد سيطرته عن نفسه:
" فيما يجب أن يفيدني تبني صبي لا أريده؟؟ هناك والدي جوزيف و هما مستعدين للقيام بدور الأب و الأم على أكمل وجه... أما فيما يخصني... أريد أطفالا من صلبي, منذ أشهر و نحن نحاول و نحاول و لا شيئ يحذث... ان تبنت روبي ابن شقيقها فستنسى موضوع الانجاب مني كليا ..." حملت رنة صوته ألم مدفون، يبدو ان موضوع الانجاب يؤثر عليه أكثر مما ينبغي... منذ ان فقدت روبي حملها و هو يخاف على الا تحمل منه مجددا، تنهذ روكو، كان يجلس على الكنبة، وقد فك ربطة عنقه و فقد شعره تسريحته، ملامح وجهه مسترخية بفضل الكحول بينما نظراته السوداء مشتعلة:
" فكر في ما سيجلبه لك هذا الطفل ان تبنيته... لقد ورث نصف ثروة السيفيرانو و سيحتاج لمن يديرها و لا يوجد غيرك، فقد تورطت في تلك العائلة منذ أن قررت الوقوع في حب ابنتهم... و روبي... ستنسى موضوع الشهرة و مهنتها الفنية... "
بدى الاهتمام على وجه سيزار، لا يبدو أنه فكر في هذا الاحتمال، تدخل اليخاندرو لأنه أيضا فكّر في هذا منذ ان عرف بأن جوزيف رزق بطفل من خطيبته:
" ذلك الطفل يتيم... شخصيا أعرف ما يعنيه أن تكون وحيد و خائف..."
تابع روكو بهدوء:
" تعاني مع المسافة و الوضع برمته، اليس حلمك أن تستقر زوجتك معك في نفس البيت و تبنيان الأسرة التي تحلم بها؟ أنت غير قادر على الوقوف أمام أحلامها الفنية لذا أرسلت لك السماء من سيجبرها على البقاء...... نصيحة... ان اقترحت روبي تبني ابن اخيها فلا تجاذلها لأنها، هي، قبلت بإبن لوسيا قبل ان تعرف بأنه ليس منك ...الوضع مشابه"
" ستغير مسار حياتها من أجل ابن شقيقها بينما لم تشأ ذلك من أجلي أنا؟؟ أنا أمام منافس حقيقي... و الحقيقة أنني لا أريد أحد في حياتي... لا أريدها أن تصب اهتمامها على أحد غيري... كانت تكن الكثير من العاطفة لجوزيف... ذلك الصبي سيخطف زوجتي مني ... لن اتبناه... "
" انت غيور من صبي الست سنوات ؟؟ قل شيئا منطقيا سيزار..." تدخل داركو مقطب الجبين:" انها فرصتك لإجبار زوجتك على البقاء... وصدقني... بإبقائها بجانبك ما سيمنحك فرصة الحصول على أطفال و ليس بملاقاتها مرّة كل أربعة أسابيع...أم أنك تأمل جعلها حامل بالمراسلة؟!"
عمّ الصمت، بدى الجميع غارق في أفكاره، دمدم سيزار فجأة و هو يفرغ كأسه في جوفه:
" لا نعرف فيما تفكر النساء حقا بينما نعيش حياتنا يقنين اننا نشفر كل ما توفر من السلوكياتهن المعقدة... أحاول أن أكون كما تريد... و هذا الوضع لا يشعرني بالارتياح، أبدو متناقضا مع نفسي... الحقيقة أنني أكره بعدها بشدة... تنازلت على حساب هنائي الشخصي... لا أستهجن خيارتي لا.... فرؤيتها سعيدة هي من أولوياتي المقدسة... لكن حلم الحصول على طفل يزداد حدة يوما بعد يوم... عندما رأيت صورة طفلي خوسيه... فكرت بحمل زوجتي الذي لم يتم... قمت بحساب سريع... في هذا الوقت كان سيدخل شهره التالث"
" أتيتما على الزواج سيزار... بعض الازواج ينتظرون سنوات قبل أن يفكرون جديا في الانجاب... أم أنها طريقتك لضمنها بجانبك؟؟ لازالت تتآكلك الشكوك نحوها؟" سؤال اليخاندرو المباشر جعل سيزار يهز رأسه بالنفي:
" أثق بشدة في روبي... كانت مستعدة بالتضحية و التضحية للبقاء معي... أنا من قرر احترام كلمتي و دعم فنها... أريد طفل منها لأنها زوجتي و قطعة منها ستزيدني سعادة و تضمن أكثر استقرار عائلتنا..."
ابتسم اليخاندرو:
" انت قلتها... تضمن أكثر استقرار عائلتكما... مازلت متخوف من أن ينهي حلمها الفني زواجكما... أنت تتنازل و لست راضي كليا بهذه التنازلات و تضع اللوم على السلوكيات التي فقدت طريقتك الصحيحة في تشفيرها... "
وقف فجأة روكو من مكانه، و التقط سترته عن ظهر الكنبة التي كان مسترخي عليها:
" سأعود أذراجي... أنا مرهق و أرغب بالنوم، يمكنكم اتمام سهرتكم بسلام..."
اعترض اليخاندرو طريقه بينما يستعد للمغادر:
" يجب أن أراك ايها العرّاب... هناك موضوع أريد أخد رأيك فيه..."
هزّ روكو رأسه موافقا واستدار نحو البقية:
" المعذرة يا رفاق... سأعوضكم قريبا بسهرة أكثر دفئا... فكرت بمفاجئة خوسيه و الهجوم عليه في نهاية أسبوع ما... بعد أن يخرج بالتأكيد من تلك المستشفى حيث قرر إمضاء أيامه في حراسة أميرته الصلعاء الصغيرة..."
" تضحيات أب مثالي..." علّق داركو بإبتسامة" ابنته شقراء على حد قوله ...".
" طالما كان خوسيه مثاليا... إنه من الوفاء بحيث لا نتكهن ذلك من خلال ذرع القسوة و الا مبالاة... و ابنته صلعاء و ليست شقراء... هيه... سيزار... تبنى ذلك الطفل اليتيم... انه بحاجة لأب... و أنت بحاجة لزوجة حقيقة و ليس ظلها... فكر في الموضوع... لن تخرج أبدا خاسرا... النساء تعشقن الرجال الكريموا الأخلاق... ستحبك اكثر و تحترمك لحد التقديس...و ستحصل على دزينة أطفال بدل الذي فقدته "
بلع سيزار ريقه لكنه لم يجيب، الموضوع يزعجه بشدة، رؤيته بصدد تقاسم حب حياته مع صبي الست سنوات الذي يمثل بالنسبة اليه منافسة قوية، قاد سانتياغو رئيسه خلال الحشوذ الغفيرة لرواد الملهى الخاص به الى الخارج حيث سيارة بإنتظارهما، في سكون ليل صقلية العطر انطلقت السيارة بين الشوارع المظلمة، و عندما انتبه الى أنه يقوده في الطريق الخاصة لقصر ايميليانو طلب منه العروج على شقة بريانا، كانت الساعة متأخرة للغاية، يعرف انها غارقة في النوم... المعجزة التي لم تحصل معه منذ مغادرتها بيته... عاد الأرق ليمزقه مجددا.
" توقف هنا..." أمره روكو بينما يخفف سانتياغو من السرعة و يتوقف بمواجهة مكتب بريانا حيث الضوء في شقتها الفوقية ما يزال مشتعلا، هي أيضا لا تتمكن من النوم بسبب هذا البعد الذي تُفرضه على كليهما.!؟
فرك بقعة حساسة في موقع قلبه، الضغط نفسه الذي يحسه كلما تعلق الموضوع بها.... يكره رؤيتها ضعيفة وحزينة ، على عكس المرأة الزاخرة التي عرفها... وهذا ما أصبحت عليه مؤخرا... مهمومة... بعيدة... غريبة عليه...هو لا يزعم بأنه قديس... أنه يخطئ نعم... وربما أخطأ أكثر عندما وثق بها وهي تخبره بأنها لن تتركه... مهما حذث... لقد وعدته و لم تحترم وعودها... الوحش الذي اكتشفته فيه لم يروقها و بدأت بالابتعاد... شكل الغضب والعجز كوكتيلًا سامًا بداخله!
وضع يده على مقبض الباب و قفز خارجا متجاهلا سانتياغو الذي يحاول ردعه بلا ادنى شك، توجه نحو بيت المرأة التي أخدت معها نومه و هنائه الأخيرين، فتح الباب الخارجي بسهولة وصعد السلالم الداخلي، ترك نفسه أمام بابها يحاول اقناع نفسه بعودة أذراجه، وضع يده على الباب الخشبي، مجددا يجد نفسه في نفس المكان، يأمل في الا تكون المرة الأخيرة...
فجأة فُتح الباب دون ان يقوم بطرقه و ظهرت بريانا وسط قميص نومها... كانت أنفاسها عالية، عينيها حمراوين و كأنها كانت بصدد البكاء، مظهرها مظهر من أتى على التأكد من أن حدسه لا يخطئ أبدا:
" عرفت بأنك هنا..." سمعها تقول بصوت منخفض.
" أنت من تركني و ليس أنا... " قطعت المسافة بينهما و ارتمت بين أحضانه، شعر بروحه تعود الى مكانها و أغمض عينيه بينما ذراعيه تعصران جسدها اليه بشوق شديد...
انه هنا... فكرت بريانا وهي تمرغ وجهها في عنقه، تتمسك به مثل منبوذ على وشك الغرق. رأسها على صدره ، ويديها تتشبث بقميصه ، تركت نفسها تستسلم لهذا اللقاء... دموعها ترافق نبضات مكتومة من نبضه. فوضوية ، عنيفة ، مفجعة. الجسم الذي هزته تنهدات فظيعة ، أخلي كل الحزن المتراكم في الأسابيع الأخيرة. أحست به يدفن أنفه في رقبتها ، روكو يضغط عليّها لخنقها ، لكنها لا تهتم. التنفس فجأة لم يعد مهمًا جدًا بالنسبة لها. أنفاسه الدافئة تجتاح شعرها ، وتغطي بشرتها حجاب من العرق. على فترات متقطعة ، يرتفع صدرها ، مغطى بالتشنجات الصامتة...في هذه اللحظة ، تود أن تندمج مع جسده ، قلبه ، روحه ، لا تريد تركه مرة أخرى.
و انغلق باب شقتها خلفها... الزمن يعيد نفسه... في ذلك المساء الذي أخدها روكو في يخته الى مونتي كارلو.... لكن هذه المرة.. روكو يملك نسخة المفتاح، ابتعدت عنه لتتطلع الى عينيه القاتمتين و المتوهجتين في العتمة الخفيفة، لم تعد قادرة على تحمل هذه الحرب في صدرها، تحبه و تخشاه و تكره التفكير فيما يمكن ان يحصل ان تدمرت كليا حياتها بتعرضه لحاذث مأساوي!.
أدلف يده في جيب بنطلونه و اخرج نسخة المفاتيح، انحنى عليها و تسللت يده خلفها ليفتح الباب و دفعها الى الداخل، كانت تنبعث منه رائحة الكحول القوية، لكنه لا يبدو ثملا:
" لم أنم منذ رحيلك ... ان كان هذا اختبار لي بريانا... بأنني متشبث بك و صادق نحوك... "
هزّت رأسها بالنفي، تمسح بقايا دموعها:
" أنا أحبك و أنت تعرف روكو..."
" طريقة حبك مؤذية بريانا... بعدك يؤلمني... فقط لو تخبريني ما يحذث...!"
بُعدها لم يكن مؤذي له فحسب بل مريب لها أيضا، كانت مخطئة بشكل جسيم في اعتقادها بتحكمها في الموضوع، انها تفتقد جسده قربها ليلا، تفتقد طقوس الاستعدادات الذكورية كل صباح و التي تتركها متأثرة، تفتقد اهتمامه بحياتها التافهة و التي لا جمال فيها، و كل هذا... لم يدفعها لتناسي الموضوع و العودة بكل بساطة، مازالت توقن ان الزواج به هو خطأ جسيم... خطأ فادح، لكنه رجل حياتها... الدخول الى حياته مثل الدخول الى الجنة... أو... مكان فاحش مثل دخول الجحيم... غير قادرة على البقاء بالقرب منه دون لمسه ، انتقلت إلى الجانب الأخر لإقامة مسافة آمنة بينهما، الشيء السخيف بالتأكيد بعد ارتمائها عليه قبل لحظات...
رفض هذه المسافة، رأته يقطع الخطوات بينهما و يأخدها مجددا بين ذراعيه، فكرت في تعقيد المشاعر التي اشعلت غضبه وراء الجبهة الباردة التي أظهرها، أغمضت عينيها بينما يهمس لها بنبرة قاطعة:
" لا تبتعدي عني مجددا... أنا لا أتسلى... لا أتسلى"
بعد فحص مشاعرها ، كان عليها أن تعترف بأنها في حالة يأس، الوقت بطيء جدًا لمن ينتظرون ، سريعًا جدًا لمن هم خائفون ، طويل جدًا على المنكوبين ، قصير لأولئك الذين يبتهجون ، ولكن بالنسبة لأولئك الذين يحبون بعضهم البعض ، فالوقت هو الأبدية... لا يهمها أن تكون وقحًة ، فكونها نفسها أكثر أهمية بالنسبة لها من التظاهر.
" أريده خارج حياتي..." قالت له وهي تبتعد عن أحضانه لتحملق الى عينيه مباشرة.
" من هو؟؟"
" يانيس... العرّاب... المافيا... أريدك دون تلك الاسلحة و بدلات الوقاية من الرصاص... " لا يبدو متفاجئا من هذه الاتهامات، فقط العجز ما أثقل نظراته التي تثقل على صدرها مثل الصخور.:" ظننت بأنه يمكنني أن أغيرك..."
" انت غيرتني بريانا... أنا رجل آخر... لا أنتمي لا للعراب و لا لروكو نفسه... لا تفسدي كل ما بيننا فقط لأنني أنوي حماية مصالح أناس أحبهم "
" و من يحميك أنت؟؟" صرخت به من خلال دموعها:" فكر في نفسك روكو... كن أنانيا و فكر في نفسك، آمل أن تختار الاقتراح الثاني... ان رغبت بأن أبقى بالتأكيد..."
رأته يأخد نفسا و بقى بمواجهتها، نظراته أصبحت مجنونة، تتجول في وجهها بضيق واضح:
" لن تذهبي الى اي مكان ... لا شيء يستحق أن تعودي لإبتزازي مجددا بنفس المعايير... أنا رجل مستقيم، رجل مهم، ان اتنقل بالسلاح و طاقم حراسة مرتديا شخصية العرّاب تفرضها ظروفي!... تعودين لتناقضين نفسك بريانا... أنت بنفسك من أخبرني بأنني لا اشبه والدي و بأنك تتفهمين طريقة عيشي!... لما تنوين معاقبتي عن حياة لم أخترها !" صرخ بكلماته الأخيرة... نجحت بإفقاده صبره..." لم أختر أن أكون ابن يانيس... لم أختر أن أكبر وسط هذه الاشواك الواخزة و الثعابين السامة و أن أدخل حرب سياسية لا منتهية!... أنت وعدتني بالبقاء مهما يحذث... وحدك من يغير رئيه و يحاربني بما تمنيت أن يتم دعمي فيه ... لا يمكنك تغير من أكون ظاهريا... العرّاب صاحب النفوذ و السلطة... لكنك معمية عمّا غيرته فيّ داخليا... لم أحب أمرأة كما أحبك و لا يمكنني تركك ترحلين أو الخروج من حياتي فقط لأنك جبانة و ترفضين المحاربة بجانبي... أين حبك في كل هذا؟؟؟ أين ولائك؟؟ أنا مستعد للتضحية من اجلك... و أنت؟؟ هل انت مستعدة لتحمل العرّاب من فينة لأخرى؟؟ اليس هذا هو الحب الذي تكلمت انت عنه ذلك المساء بينما تعترفين لي به للمرة الأولى ؟؟ الحب أفعال و تضحيات و ليس مجرد كلام فارغ بلا أي معنى... "
صمتت بريانا...
روكو أتى على الاعتراف لها بحبه.... هل فقه لزلة لسانه؟ يال المعجزة...
انفجر أخيرا... و تعترف أن مطالبته لتضحياتها صائبة... الحب تضحيات... الحب لا منطق له... ان احبت حقا فعليها نسيان البقية... تحب بقلبها و بعقلها... أي لا تفكير ... لا منطق.
" تخافين من أن يتم اغتيالي يوما من الاخرين؟؟ تجهلين بأنك من يقوم اللحظة بإغتيالي و بأبشع الطرق؟... "
" رباه..."
" وعدتني ببناء أسرة... زواج.. أطفال... لذا أطالبك بالوفاء بوعودك اللعينة... منذ البداية كنت تعرفين من أنا... من أكون و كيف هي حياتي!... منحتك فرصة التراجع عندما اكتشفت أبوتي لصوفي... لكنك أصريتي... أخبرتني بأنك تفهمين... أخبرتني بأنني انسان جيد.... بأنني أستحق فرصة مسامحة نفسي و التوقف عن معاقبتها... أخبرتني بأنني أنا من على حق و ليس يانيس... ثم تقررين فجأة الانسحاب... و كأن الموضوع برمته منذ البداية لم يعني لك شيئ أكثر من رحلة خطرة قررتي قطعها و العودة الى ديارك... لكنك مخطئة بريانا... أنا ديارك..."روكو المتحفظ عادة لا ينوي التوقف عن الترثرة، تمكنت من تفجيره و إطلاق لسانه، دنى منها ليمسك بوجهها بين يديه و يجبرها على النظر الى عينيه المتوهجتين من شدة الغضب:" برهني لي بأنني أهمك و لست مجرد تجربة سئمت فورا من اكتشاف أبعادها... تجربة اكتشفت فجأة بأنها لا تستحق العناء"
ترك وجهها، دون ان تتمكن من ايقافه كان قد تمكن من مغادرة الشقة تاركا كلماته تتعالى خلفه و تتردد بلا انقطاع أو توقف في داخلها.
* * *
ما أن أغلقت ناومي باب المكتب خلفها حتى أدارت رقم صديقتها جيم، هذه الأخيرة ردت عند أول رنة، جيم محامية و ناشطة اجتماعية قوية الارادة، أدخلت محاذتتهما فورا مع صديقتهما ايفا هي أيضا عدلية و تعمل في نفس الدار التي تعمل بها جيم، ارتمت ناومي على مقعدها و زمجرت:
" الا يمكنكن الإنتظار؟؟"
" نريد أن نعرف كيف مرّ اللقاء؟ الايطالي الوسيم صدمته رؤيتك؟؟"
هي التي هربت من لقائه منذ ان قررت تفادي سخرية المجتمع لوزنها و أخد زمام الأمور بيدها، دافيد ريتشي هو ايقونة، انه الرجل الذي حلمت به كل فتاة أمريكية على الأقل مرة واحدة في حياتها، انه الوسيم الاكثر شعبية، وهي كانت تملك ضعف شديد نحو ابن المغنية الذي اختطف مع شقيقته الأضواء من والدتهما.
" كان ينتظر adel القديمة..." قالت متهكمة.
" و صدمته adel الجديدة..." انفجرت جيمي ضاحكة:" هل تمكنت من اثارة انتباهه اخيرا؟؟ "
" فقد كلماته... بعد اعادة التفكير يا فتيات... ليس ذنبه ان حطم قلبي في سن السادسة عشر، لم أكن لأثير انتباه نجم مثله بينما ايموجين الرائعة تحوم حوله بتلك الابتسامات المغرية و الجسم المتناسق... في ذلك العمر و بتلك الغرامات الزائدة و الوجه الممتلئ بالبثور و أيضا جهاز تقويم الأسنان لم أكن لأثير اهتمام حتى كلب متشرد..."
" ناومي المسكينة..." أردفت ايفا :" دعيني اخبرك أنك قطعت شوطا كبيرا و أن النتيجة تستحق التقدير... أنت فاثنة عزيزتي... "
جلسات الليزر الطويلة للتخلص من البثور التي سببتها هرموناتها الغير متوازنة و أيضا الرياضة و الرجيم المضنين للحصول على هذا الجسد الذي يثير الاعجاب، نفس الاعجاب الذي رأته في النظرات الزرقاء التي كانت تراها دون ان تراها... الفضل يعود لدافيد... تغيرت بسبب تجاهله لها، اصبحت مهندسة ديكور لامعة و صاحبة شخصية قوية ايضا بفضله... ذات مرة نصحها الا تدع قبحها يؤثر على شخصيتها و حياتها... كلماته جرحتها بشدة... و هي سعيدة بإعادة الصاع صاعين له اليوم، سعيدة ان تبرهن له بأنها أصبحت تشبه تماما نوع النساء اللواتي يظهر معهن في الصحف و المجلات.
" هل مازالت المراهقة بداخلك تميل للوسيم الايطالي ؟" سألتها جيمي متنهذة.
" ردة فعله قبل قليل تُشعر المراهقة المنبوذة بداخلي بالاكتفاء..." قالت بصدق و هي تبتسم برضى:" هناك شيئ آخر... جلب معه ابن عمه، انه مزيج من الاروبي و الاسيوي، لا يشبه دافيد سوى في عينيه الزرقاوين..."
" أملك ضعف نحو هذه النكهات المختلطة..." قالت ايفا:" عرّفيني عليه..." و هي ليست متفاجئة لهذا الطلب، هذه هي ايفا، ملكة الاغراء " رغم كل هذه التفاؤلية الا انني لا أرك مكتفية بحق... هل تنوين وضعه في سريرك لنسيان الموضوع برمته بعدها؟"
كشرت ناومي، لم تفكر في هذا الاحتمال، صحيح انها شعرت بالاكتفاء من مواجهتها مع الرجل الوحيد الذي أشعل مخيلتها المراهقة في الماضي، لكن ان تعيش معه مغامرة.... عموما فدافيد مشهور بمغامراته القصيرة المدى... يملك حساسية مريبة من الارتباط الجدي.
" أنا أبني ألف فرضية أكثر إثارة للقلق الواحد تلوى الأخرى... هل يمكنك الاجابة بنعم أم لا.؟" سألتها جيم.
" المرة الوحيدة التي نويت فيها جديا اغراء رجل في فيغاس تبين انه شريك لوكا و صديقه... هل يُعقل أنني انجذب دوما للايطالين الذين لا أحرك فيهم ساكنا؟؟"و كان في صوتها الحاجة الى شيئ من السيطرة.
" اليساندرو ايميليانو... أممم... انه خارج مجال الرهان للاسف... و حاليا نتكلم عمن كان يهديك الحلوى و يطلق عليك اسم كاندي من باب المودة... "
" حذوت حذو كل فتاة تريد أن تشعر بأنها على صواب في مسيرتها... حتى و ان سنحت لي الفرصة... أرفض مغامرة سرية مع 'دون جوان' متمرس عاشر نصف نساء الكرة الارضية...عدم قدرته على البقاء وفيا لإمرأة هو معرفة شائعة" القت نظرة على ساعة يدها، كان حبها لدافيد بثقل الرصاص على قلبها، ترفض قطعا العودة مجددا الى هذه التفاصيل المؤلمة، أصبح الحديث صعباً فجأة. :" سأترككما الى اعمالكما يا فتيات... ألغي موعدنا هذا المساء لأني على موعد عشاء عمل... أحبكما"
" مع كين ريتشي؟؟" سألتها ايفا متحمسة."سيأتي الى هذا العشاء مع تصورات مسبقة"
" ما ان أتأكد من ميوله الجنسية حتى ارشحك له... بالرغم من انه وسيم جدا و استثنائي الا انني غير مهتمة بالمرّة...و من الافضل له الا يأتي مع تصورات مسبقة."
" ككل مرّة... "
"لماذا أشم رائحة السخرية في كلماتك؟"
" ستموتين عزباء يا طفلتي... لا أحد يصل للدفة التي تتعمدينها مرتفعة جدا جدا... "
" انا لست متطلبة..." اعترضت ناومي بما يشبه الذعر في صوتها:" أملك حساسية من العلاقات العابرة، من حقي انتظار الحب الحقيقي و ان لم يأتي فمهنتي أسبق... كبرت مع شقيق يستعمل سحره للصول لمبتغاه الذكوري... أحب لوكا من قلبي لكنني أكره طريقة عيش حياته... آملت لو يحتفظ بميغان أكثر... أحببت تلك الفتاة بشدة"
" الحب انقرض مع أحلامك الرومانسية ناومي... كوني واقعية و عيشي حياتك... بإنتظار أن تحذث المعجزة سنستمر بالصلاة لك..."
علّقت جيم متهكمة قبل ان تقرر قطع المكالمة و العودة الى قضاياها الامنتهة.
* * *
كيليان أرشيبالد ترأس طاولة اجتماعاته طيلة الأسبوع، لا يدعم التهاون و يرفض الكسل و تم فصل من لم يكن في المستوى المطلوب خلال غيابه، السباقات على الابواب و تجربة محركاته الجديدة، ينوي النزول الى الحلبة لتجربتها شخصيا، ميغان غرقت في العمل الشاق لدرجة انها لم ترى لونا خلال الأمسيات السابقة، كانت تعود متأخرة في اللية و تكون هذه الأخيرة نائمة في سريرها، المربية التي اضطرت لتوظيفها تهتم بها بعد خروجها من المدرسة، لكن كيليان الصعب الرضى يدفع الجميع الى حالة الاكتئاب النفسي، لا شيئ يرضيه... يرفض قطعا الا يتم الاهتمام بأقل التفاصيل التي يعطيها أهمية بالغة، طلب منها الطيران الى موسكو مما اضطرها لترك لونا في عهدة جارتها، منذ يومين تعاني الارق و الاجهاذ النفسي و الجسدي، بينما هو يبدو مسترخي و سعيد بدور الديكتاتور، لكن شيئ ما تغير في هذه النظرات الزرقاء، لم يعد يعبس كثيرا مثل السابق، راقبته يجري على المستنذات أمامه، سكرتيرته الخاصة عابسة و مزمومة الشفاه، بينما طاقم الادارة ينتظر بفارغ الصبر نظرة رضى منه، هز فجأة وجهه نحوهم، لكنه لم يشر الى العمل المضني الذي قاموا به، بل خضع لموضوع مغاير تماما:
" أريد لائحة متجددة بأسماء الجميعات الخيرية التي تقوم ارشيبالد بدعمها ماديا..." التقت نظراتهما، ولم تمنع نفسها من رفع حاجبها متسائلة، هذا العمل من اختصاص سكرتيرته، لما يشارك الجميع به؟ يفضل خوض موضوع محايد ليبرهن عدم رضاه بعملهم؟؟ الرسالة وصلت بطريقة سريعة للفريق الذي بدأ و بالتحرك في أمكنتهم بإنزعاج :" بفضل قيمتنا المالية... ندعم أناس في كل ارجاء العالم... الشيئ الذي سيتوقف بالتاكيد مع فريق يفتقر للكفاءة... ان استمريتم على هذا النحو... سنسد أبوابنا قبل نهاية هذه السنة..."
بدأ الجميع يديرون رؤسهم إلى اليمين ثم إلى اليسار ، مثل حيوانات عاجزة تبحث عن مخرج، وهاهو كابوسها يتحقق أمام عينيها رغم تضحياتها بساعات لا منتهية من العمل الشبه استعبادي، عندما امرها كيليان بالطيران فورا الى موسكو ادركت بأن مصيبة بإنتظارها، بأمر منه بدأ الفريق بالانسحاب مطأطأ الرأس و مسلوب العزيمة، وقفت بدورها تضم تقاريرها الى صدرها، لكنه اشار لها بالعودة الى مكانها ففعلت، سكرتيرته اقتربت منه:
" تريد لائحة الجمعيات فورا سيدي؟؟"
كان ينقر بأصابعه الطويلة و الانيقة على سطح طاولة الاجتماعات العملاقة، شعره الحالك السواد يداعب جبينه، ملك على عرشه بهبة السلاطين...
" أريدك ان تظيفي اسما..." سمعته ميغان يقول لسكرتيرته:" انها جمعية خيرية ايطالية مبتدئة تحت اسم ' لا حدود بيننا'... أناس يساعدون المهاجرون الغير شرعيون و يحتاجون الدعم المالي و القانوني... ارسلي شيكا بمليونين و رشحي 'فيرونيكا جياكي' كسفيرة رسمية لشركتنا..."
فتحت ميغان فمها، أعمال كيليان الخيرية دائعة الصيت، و ليس هذا ما يثير اهتمامها، لكن البريق الذي لمع في عينيه وهو يضغط على الاسم الايطالي، ظهرت بداية ابتسامة طفيفة - غير إرادية - على وجهه ، ثم اختفت بالسرعة نفسها التي لاحت بها... عندما اصبحا بمفردهما صبت لنفسها فنجان قهوة بينما رفضها هو:
" المقارنة بين ما حصادنا السنة الماضية و هذه السنة غير عادل، ان استمر الامر على ما هو عليه فلن أطرح جديدا في الأسواق... لن يكون هناك سباق تجريبي لما تنتظره الصحافة على أحر من الجمر!"
" انت غير متفائل بالمرة بالرغم من اننا نسير على خطواتك كيليان... ما الأمر؟ لما تخشى الا يكون المحرك الأخير بالقوة التي تخمنها؟؟ التجريبات الأخيرة كانت مرضية للغاية أنا شخصيا من أشرف عليها"
" مرضية؟؟ شطبي فورا على هذه الكلمة من القائمة ما اتوقعه منك و من بقية المهندسين الذين أدفع لهم أكثر من كفائتهم....ما تطرحونه لا يختلف تماما عما قدمناه في سباقات السنة الماضية... ليس هذا الهذف ميغان... ليست محركات خارقة و لن نسلم من الانتقاضات، وهذا لا يخدم سمعة ارشيبالد التي طالما تفوقت على نفسها في السنوات الأخيرة... السباق بعد ثلاثة أسابيع و انا لا أؤمن بالمعجزات... "
أطل رأس سكرتيرته مما دفع حاجبي رئيسها للالتقاء، كان غاضب جدا لهذه المقاطعة:
" ماذا؟"
" هناك..." وقبل ان تتم كلامها اندفع جسد انثوي الى الداخل.
شعرت ميغان بالتوثر يعلو فورا في الجو، ايموجين هي هذه الزائرة التي دفعت كيليان للتكمش في مكانه، تلك المتعة السرية و النشوة التي لمحتهما على وجهه طيلة الاجتماع الناري اختفت و اصبحت من الماضي، لا يبدو مسرورا بالمرة برؤية زوجته، بدى فجأة و كأن الــ 1.500 حصان التي لم يرضى على قوتها الجبّارة في المحرك الجديد قد مرّت كلها على جسده، ببطئ ترك مقعده، بينما صاحبة الشعر الأحمر الرائعة في طاقم أبيض شديد الأناقة تقترب منه، تبتسم بحرارة ،و انتبهت مع كيليان في الوقت نفسه لوجود ابنته ايضا، هذه الأخيرة ركضت مثل السهم نحو والدها الذي فتح ذراعيه اليها و التقطها بسهولة، اختفى الرئيس و حل محله أب طبيعي متشوق لابنته:
" مفاجأة اليس كذلك؟" صرخت به الصغيرة و هي تقبله على وجنته و تتعلق بعنقه بذراعيها الصغيرتين.
" مفاجأة نعم يا طفلتي... لم أتوقع قدومك..." سمعت رئيسها يقول بلكنة يحاول بالتأكيد اخفاء غضبه تحتها... تراه يتجاهل التلميح لايموجين في كلامه، هل اصبحت شفافة بالنسبة اليه لهذه الدرجة؟؟
" أخبرتني أمي بأننا سنعيش مجددا معا..." صرخت اوكتافيا بحماسة بريئة.
حط كيليان نظراته على ايموجين، وقفت ميغان ببطئ من مكانها، لا تعرف الطريقة التي تتباها في هذه المواقف، هل تتركهما؟ تبقى؟ تأخد الصغيرة؟؟
" تركت العمل..." سمعت ايموجين تقول:" فعلت ما طلبته مني... أنت و أوكتافيا أهم من في حياتي... "
رأته ينزل ببطئ ابنته الى الأرض، أعطاها انطباعًا بأنه مختوم، بأنه لم يتوقع هذا الاذعان من امرأة قوية مثل زوجته، بقي يتواجه بنظراته معها قبل ان يحول فجأة اهتمامه نحو ميغان:
" خذي الصغيرة رجاءا ميغان... "
اعترضت أوكتافيا:
" أريد البقاء معكما... أريد سماعك تقول بأننا سنعود اسرة كما كنا في السابق..."
نقطة ضعف كيليان هي ابنته، ايموجين تستعملها جيدا للضغط عليه، انه الكيد الانثوي، لكنها تنزل من نظرها بهذه الطريقة، عيون اوكتافيا كلها أمل، كلها رجاء، الوضع يؤلمها بالتأكيد لأنها تحبهما معا، كل طفل في الدنيا يريد رؤية والديه معا.
" اعدك أن نتكلم لاحقا..." وشوش لها كيليان برقة:" لدى السكرتيرة برّاد به مثلجاتك المفضلة..."
رشوتها صعبة لكنها قبلت بعد أن أكدّت لها والدتها بأن كل شيئ على ما يرام، أمسكت بيد الصغيرة و قادتها نحو الباب الخارجي لقاعة الاجتماعات، آخر ما رأته هي النظرات القاتلة التي حطها رئيسها على زوجته.
* * *
ابن جوزيف لم يكن ترثارا بل متحفظا و حذرا للغاية، لكنه لم يخفي خوفه عندما أعلنت له بيرتا بأنه ربما يبقى للعيش في هذا القصر الجميل الذي يملك مسبح و حديقة، التهمت روبي رسائل فيوليتا، هذه الأخيرة أحبت جوزيف أكثر من ابنهما لأنها لم تتمكن من التخلص من اكتئابها الذي تسبب لها بجلطة، و من لم يحب شقيقها؟ هي نفسها عانت بشدة بسبب موته، عاشت فقط من أجل أمها التي رفضت ان تفقدها هي أيضا، راقبت آنجلو يجلس بمفرده في الحديقة، لا يلعب مثل الأطفال في سنه، ربما فيوليتا أبعدته عن بطش جدّها لكنها نقلت اليه جذورها الايطالية، كان يتكلم اللغة بإثقان بالغ، شعرت بالحنان يغزوها، لكن قرار أن تتبناه يقلقها، فالأمر لا يتعلق بها فقط... هناك سيزار، مهنتها، أحلامها... تبني هذه الطفل سيجبرها على التخلي كليا عما حلمت به دوما.
جلست بالقرب منه على الكرسي الحجري في الباحة المواجهة للمسبح، هذا الأخير اتسعت عيناه وهو يراها.
" الجو بارد للسباحة... يكون الصيف رائع جدا في صقلية.... سوف ترى... ستحب العيش هنا..."
" أريد العودة الى أريزونا... هناك أصدقائي و مدرستي..." كان صوته تتخلله غصة.
فهمت لما فيوليتا تصر على ان تتبناه شابة و ليس عجوزين، ستكون الأقرب لعمره، و تتفهمه أكثر نعم.
" سيصير لك هنا اصدقاء..." اشارت بيدها نحو الثلال المنخفضة التي تحيط القلعة: " هناك... كنا نلعب الغميضة أنا ووالدك..."تاهت نظراته في تلك التلال و كأنه يحاول تخيل والده صغيرا يركض في التلال خلف طفلة صغيرة قمحية البشرة." هل تريد ان أريك غرفته؟"
هز رأسه بالنفي و امتلأت عيناه بالدموع:
" أريد العودة الى البيت"
ظهرت بيرتا فجأة، المرأة فاقدة للصبر، تنوي تسوية الموضوع قبل أن تطير مجددا الى أمريكا، وهي تتفهمها، انها بصدد التخطيط للزواج من رجل تعرفت عليه مؤخرا و وجود طفل يُعيق حياتها، حاولت لمس شعره الاسود لكن الصبي فرّ هاربا.
" لا تقلقي... سيعتاد قريبا على البيت..." قالت بيرتا وهي تجلس بجانبها.
" أراه متعلق جدا ببيته في أريزونا..." قالت روبي منتنهذة.
" ليس البيت بحد ذاته..." قالت بيرتا بصوت حزين:" المقبرة غير بعيدة عن المنزل، عندما يستهلكه الشوق يركض الى قبرها و يمضي ساعات بجوارها، وفي كل مرّة... اضطر للتفاوض معه كي يعود الى البيت... ما يلبث ان يمر اسبوع أو أسبوعين حتى يعيد الكرّة... أحيانا يتكفل بإعادته الجيران و أحيانا أخرى الشرطة... برئي الطبيبة آنجلو مضطرب عاطفيا، و برئي أنا هو طفل بحاجة لأم و أب حنونين يعوضانه ما فقده، و أنتم عائلته و الأسبق به..."
شعرت بقلبها يتمزق بقسوة للوحة التي عرضتها عليها المرأة، هذا الطفل يحمل دماء شقيقها، هل كان ليقبل بهجر {ابنتها او ابنها} لو فقدت هي الحياة؟ أبدا... تعرف جوزيف، تعرف كم يضع أهمية على اعضاء العائلة، كم هو حنون و رقيق، و بالتأكيد لم يكن يسمح لإبنها أن يعيش الفقدان دون التدخل... وجدت نفسها تتخذ قرارها الصعب، عليها التكلم مع سيزار... عليها اقناعه بوجوب تبني هذا الطفل الذي فقد والديه في أشد الظروف بؤسا... وليس أي طفل... انه ارثها من جوزيف.
* * *
أعاد تقييمها ببطئ و تأن من فوق الى تحت، لا يمكن لأمرأة أن تكون اشد أناقة مما هو أمامه، لا يمكن أن يقول اشد حسنا، ايموجين تهتم بشدة بشكلها الخارجي، لا خطأ في هذا الوجه الجميل التفصيل ولا خطأ في هذا الجسد الذي يعرفه جيدا، عندما رآها أخر مرّة نصب أمامها تحدي كان واثق جدا بأنها لن تقبل به، تجاهل اتصالاتها مؤخرا... لأنه كان يعيش في الجنة... مع امرأة مختلفة تماما، وسمح لنفسه للمرة الأولى بأن يشعر بشيء... فيرنا كسبته بأشد الطرق سذاجة و بساطة، هل يحق له أن يقول بإنها استهلكته بابتسامة؟ أن ضحكتها هي أجمل صوت سمعه في حياته؟ صارا صديقين و غدت مسترخية في حضوره، تقاسما الوجبات البسيطة في المعصرة التي استقبل فيها موظفيه الجدد... الأسرة المحمية من طرف فيرنا الرائعة... اعترف بأنهم اناس يستحقون فرصة عيش نبيل و حصلا على الوظيفة و عقد العمل الدائم الذي سيسمح لهما بالاستقرار و العيش بإيطاليا.
فيرنا تنير حياة الأخرين، تهدر طاقتها و وقتها لرسم البسمة على وجوه بائسة، و قد أمضى أسبوعين من الغبطة النفسية و تعلم منها الكثير، العودة الى كيليان كان صعبا، والوداع أصعب، لكنه وعد نفسه أن يعود, ما ان يضع محركه الأخير رهن الاستعمال... لكن وجود ايموجين يعيده بطريقة موجعة الى الواقع... نسي أنه متزوج، و يملك عائلة... أحلامه بشأن الفاثنة و اللطيفة فيرنا تبدو سخيفة الأن... و الأسخف أن يصدق ادعاءات سيدة أعمال ناجحة كزوجته... يعرف بأنها عاجزة عن العيش بدون مستشفياتها... هي هنا لربح الوقت.
" لما لم تخبريني بأنك قادمة الى موسكو..؟ كنت لأرسل لك الطائرة...!"
هزت كتفيها... هذه الأناقة تتنافض بشدة مع ثنورة فيرنا المتآكلة الأطراف... ورغم كل حسن ايموجين، الا أن هالة فيرنا تعمي بصيرته... أين كان عقله بينما يسمح لنفسه بـ... الشعور؟؟ صحيح الا شيئ بينه و بين تلك الفتاة، حتى انه لا يؤثر في أنوثتها كما تؤثر هي بشدة في رجولته و تستيقظ ذكورته بوجودها، لا تجاوزات حصلت، لا شيئ يتجاوز علاقة أفلاطوينة لرئيس بموظفته، أحب أحاذيثها بشدة و أدمنها، تمنى لو تتطور الأمور... لو يحصل على نفس النظرة التي ترمقه بها زوجته اللحظة... و لم يحصل سوى على الروح الرائعة التي تتمتع بها امرأة لا تهتم مطلقا بحسابه البنكي... او حتى بوسامته... امرأة تهز كيانه لكنه لا يحرك فيها ساكنا.
" حاولت اعلامك..." سمع ايموجين تقول:" كنت قد اختفيت و منعت اتصالاتي كلها، ما ان عرفت بأنك في موسكو حتى استغليت عطلة اوكتافيا و طرنا الى هنا..."
نعم العطلة بالتأكيد... اين كان عقله؟
" كنت مشغول جدا..." برر بصوت ناشف.
" انت دوما مشغول..." التمع خاتم زواجها وهي تلتقط يده و تعصر عليها:" اسمع كيليان... لقاءنا الأخير تكلل بالفشل، أعدت حساباتي نعم و أدركت بأن زوجي و ابنتي أهم من مهنتي... لذا... قررت ترك هذا الدور للطاقم الطبي، سأستمر بالعمل عن بعد، و أمنحك كل الوقت الذي تريده... أسرتنا أهم من أي شيئ آخر..."
" كم سيدوم هذا الكلام؟؟ شهر؟؟ سنة؟؟"
ابتسمت و تلألأت أسنانها الناصعة البياض:
" الى الأبد ... سيدوم الى الأبد... سعادة أوكتافيا فوق أي شيئ... أعرف بأنك ستعمل جاهذا ايضا لتوفر لنا الوقت و تضحي من أجلنا كما فعلت أنا... "
لم يجبها... هذا الحوار لا يعجبه... ستعود لغيرتها و للومه و التدخل في حياته و استفزازه... و ليست فقط هذه هي الاسباب الحقيقية... لا مشاعر له نحوها، تشارك معها أوقات جميلة نعم، لكن من تأبى الخروج من عقله تسكن بيت متواضع في أطراف قرية خضراء و بيتها مكسو بالورود، تملك عاهة جسدية صارت بالنسبة اليه علامة جمال حقيقة... كيف يمكنه ... في مكانته... التفكير بأدنى علاقة مع المُحسنة الفقيرة بينما ايموجين تملك كل ما يليق بكيليان أرشيبالد؟؟ عندما تتأبط ذراعه في حفلات الاستقبال فهما يكملان الصورة التي يتطلبها منه المجتمع، جميلان، مثقفان، ثريان، ولامعان جدا... فيرنا لا تدخل أبدا في القائمة... لن تكون يوما مناسبة له... ربما عودة ايموجين لتذكره بإبنته و بواجباته أتت في وقتها، عليه نسيان المُحسنة الايطالية التي أيقضت في سانتو كل معالم المشاعر الجياشة... فيرنا خطر عليه... أفقدته المنطق... أفقدته عقله... تمكنت من خلط كيليان بسانتو و جعلهما شخص واحد.
" توافقين على الاقامة في موسكو؟؟" سألها بحذر.
" بالتأكيد... " قالت بثقة:" عليك فقط الانتظار الى أن تُنهي أوكتافيا دراستها هذه السنة... و سنجهزها نفسيا خلال هذه الفترة، لا تنسى أنها متعلقة بشدة بلوكا و ناومي و والداي... كما ان هناك أصدقائها، لا يمكنك انتزاعها من محيطها في وسط السنة..."
كلامها منطقي جدا، انها تمنحه الحياة التي يريدها على طبق من فضة، أسرة متكونة من زوجة متوفرة و ابنة هو مستعد بالتأكيد للتضحية بهنائه من أجلها.
" أوكتفيا تتعذب بشدة لانفصالنا... و أنا... فعلت ما طلبته مني... لأنني أحبك كيليان... طالما أحببتك، و أرفض أن أخرب بيتنا بسبب أحلام مهنية... فقد لمعت بفضلك، أنت ساعدتني ووقفت بجانبي، و يبدو أنني... لهتث خلف النجاح و أهملتكما... لكن... كل شيئ سيتغير... أرفض فقدانك... و أوكتافيا تحلم بالحصول على أخ أو أخت لتكتمل اسرتنا... يمكنني الحمل مجددا متى راقك ذلك كيليان... أطلب مني ما تشاء، أرجوك انسى خلافاتنا و أقبل بما اقترحه ..." ضغطت على اصابعه:" من أجل أوكتافيا..."
من أجل أوكتافيا بدأت قصتهما أصلا، الحمل آنذاك وضع حدا لقرار الانفصال الذي كان قد اتخذه بينه و بين نفسه، حاول أن يكون زوجا جيدا و أبا جيدا، لكن خيبته كانت عظيمة، الشعاع الوحيدة في هذا السواد هو ابنته.
" يبقى هذا قيد التنفيذ... لن اصدقك بالكلمات..."
" أنت لا تفهم... لا أنوي التمثيل أمام ابنتنا... في السنوات الأخيرة امتهنا التمثيل أمامها و تدمرت علاقتنا... لم نتناقش كي نجد حلولا جذرية للوضع... أنا هنا لأنني أرغب بإنطلاقة حقيقية... كزوج و زوجة و ابنتهما... أطلب منك أن توقف معاملات الطلاق كيليان..."
" هل أذكرك بأنك أنت من طلب الطلاق و ليس أنا؟" سألها بجفاف.
" كنت حمقاء... أنا آسفة.." تركها تفصل المسافة بينهما و تلف عنقه بذراعيها و تضمه اليها بكل قوة:" لم أكن زوجة جيدة أعترف بهذا... أرجوك سامحني... أنت حب حياتي كيليان... من المستحيل أن أتخلى عنك..."
مشاعره متجمدة لذا لم يرد، صار يعرفها جيدا، لكن مالذي يملكه امام طلبها فرصة أخيرة بينما أوكتافيا تتعذب لهذا الوضع؟ اليس هو من تحداها و راهنها بعملها؟؟ ها هي اليوم هنا، تستجيب لمطامعه، لا يحق له ردعها بينما ابنته تتمنى هذا الصلح...، هزت ايموجين وجهها نحوه تنتظر تعقيبا... لا يمكنه منحها وعودا بينما تملأ رأسه امرأة أخرى... امرأة لا تناسب البتة وضعه ولا مكانته... كيف سيجد التوازن بين قلبه و عقله؟ ثم أن فيرنا... لا تبدي أي انجذاب نحوه، كيف يمكنه ملأ رأسه بإمرأة تنظر من خلاله و كأنه شفاف؟ بأي طريقة سيقنع نفسه بينما أتى على تسريب مليونين لجمعبتها ووضعها هي سفيرة ارشيبالد؟
ملأت زوجته البوصات القليلة التي تفصلها عنه ، مررت يديها على رقبته ووضعت شفتيها على شفاهه بعاطفة، كانت متفجرة بين يديه، تحاول كسبه مجددا، تريده أن يشعر بكل شيء تحاول قمعه، تطمح لإيقاض البركان الذي تفجر بينهما ذات يوم، اشعال النار الخامدة، لا يوجد عيب في المحاولة، لكن عندما أغمض عينيه متجاوبا لم تكن ايموجين من هو بصدد تقبيلها، بل امرأة متفجرة بكل ما هو رائع في العالم...يستمر وجودها فيه بالظهور باستمرار.... كانت تدفعه للجنون ، تستحوذ علي كيانه. لم يرغب أن ينتهي كل شيء ، رغب ببقائها... ماتزال موجودة فيه و هذا يعذبه!.. لم يسبق أن قبل امرأة بهذه الطريقة...ما يشعر به نحوها يُخيفه ،الرغبة تحرقه وتستهلكه... بدا وكأنه بركان على حافة الاندفاع ، على استعداد لتجريف كل شيء في طريقه، لم يملك شيئا من قبل و الان أمكنه ملك ما أراده من طفولته، الحصول على شيء نقي و صادق خاص به، كبر في الزيف، في المعاناة و في حياة مأساوية، حياته ستتغير منذ اللحظة... خرج من ضجة المشاعر المشتبكة فيه و ايقن خطئه بينما يرى شفاه ايموجين المنتفخة، كانت تتطلع اليه و كأنها تراه للمرة الأولى.. تجاوبه بهذه الطريقة يغمرها بالأمل ... تبدو سعيدة... لا ينوي طرح أسئلة لا مكان لها... مالذي حذث ليمزج بين أحلامه و الواقع؟ ترك ما حذث بلا شرح أو تفسير... لا ينوي جرحها، قد يجدا مجددا انجذابهما السابق و ينقذان زواجهما، سمعها تقول بصوت منخفظ:
" قل نعم..."
" نعم..."
نعم من اجل اوكتافيا...
هذه المرة هو من قربها منه ليضمها اليه، يجب أن يفرغ رأسه من فيرنا و ان يركز على زوجته و ابنته... يرفض قطعا ايلام أوكتافيا... و ان تركت ايموجين عملها من أجله فهو مستعد أيضا لمنحها فرصة لإنجاح زواجهما.
* * *
كان مزاج صوفي سيئا مثل المعتاد، عندما ترددت عليها بريانا لزيارتها و بالمرّة رؤية روكو الذي اختفى منذ ذلك المساء لم تبدي هذه الأخيرة أدنى حماسة، في وضعها، يمكنها تخمين كمية الاجهاذ الجسدي الذي تقوم به، الممرضات اللوتي تم جلبهن من التيلاند يقمن بعمل جيد، صوفي ايضا تتجاوب، فلا يبدو انها تطمح لتمضية بقية حياتها فوق كرسي متحرك.
وجدت سابرينا في المكتب، روكو ايضا كان هنا، و يبدو أنها قاطعت حوارا محتدما، رأت ملامح هذا الأخير تتغير ما ان سقطت نظراته عليها، بلعت ريقها ببعض الصعوبة، أمضت أوقات مريبة ببعده، و كل ما قاله ذلك المساء كان منطقيا، فالمشكلة ليست فيه انما فيها هي... انها جبانة جدا لتحضى برجل بقوة العرّاب.
" عزيزتي أدخلي.." قالت سابرينا وهي تجرها الى الداخل و تغلق الباب خلفها:" روكو من يتكلف كل سنة بأعيد الميلاد في تاورمينا و أيضا يمنح منح مالية للاسر الفقيرة... لما لا تشاركينا في التجهيزات..."
ابتسمت بريانا معتذرة:
" لا يمكنني... وعدت عائلتي أن اقضي العيد معهم..."
" أه..." هذا فقط ما خرج من بين شفاه سابرينا، بدت منزعجة من هذا الخبر.
تجرأت بهز عينيها نحو خطيبها الذي عاد يتفقد حزم لا منتهية من الشيكات التي سيدفعها كتبرعات للناس، ما يزال غاضب منها، تمنت لو أن سابرينا تفهم و تخلي المكان، شعرت بالعصبية لهذا التجاهل الذي يتعمده، ففي النهاية ليست هي وحدها من احتفظ بالمسافة هو ايضا وضعها أمام خيار و انتظر ان تقوم بالخطوة الأولى، حطت عيناها على سابرينا:
" أرغب بالبقاء قليلا مع روكو..ان كان هذا لا يزعجك "
آه.." وضعت يدها على صدرها و انتقلت بينهما بالنظرات و كأنها أتت على الفهم بأن تمة توثر بينهما:" بالتأكيد.. اعذراني..."
عندما أصبحا بمفردهما، أبتعد بإهتمامه عن الشيكات التي قامت شخصيا بتعبئتها قبل شهر من اليوم، الفي أسرة ستحصل على ستمئة يورو من جيب العرّاب، انه رجل كريم... ربما ايضا هي عادة ورثها عن والده... الذي كان يشتري بهذه الشيكات احترام وولاء و صمت المواطنين.
اهمل ما بين يديه و احتواها بنظراته القاتمة، لم تكن هذه النظرات لملاك! كان حذرا، حذرا جدا... و كأنه ينتظر هجوما تماما كما حصل المرة الأخيرة، قبل أن تتكلم رأته يدخل يديه في جيوب بنطال و يقول:
" عندما نمتلك أسرة فلا نمضي العيد بعيدا عنها... يمكنني التكفل بأسرتك مجددا كي نمضي العيد معا...أسعدت والدك الاقامة في هذا البيت..."
" روكو..."
" انت هنا لاتمام ما بدأته اليس كذلك؟ تنوين انهاء كل شيء؟" أحست بقهره في هذه الكلمات.
لهذا اختفى، كان يخشى من ان تدير له ظهرها بينما هي ايضا تخشى من أن خيبته فيها ربما خفت من الحب الذي اعترف لها به في أول مرة منذ تعارفهما..." انا لستُ الرجل الذي حسِبتِهِ... لستُ بطلا و لا خارقا... "
امتلأت عيناها بدموع القهر:
" لو كنت خارقا لما قلقت على مصيرك... أنت بطل كل هؤلاء، وقبلهم بطلي أنا... "
أحست فجأة بالتعب و السقم في أعماق قلبها، فجأة ، انحنى إلى الأمام ،واستراح بيديه على مكتبه يبدو مُجهدا و محبطا:
" سبق و أخبرتك بأنني لا أملك الخيار... هذا الطريق تم رسمه لي... لا يمكنك تغيره بريانا... أنا لا أهاجم، اقوم بردع الضربات فحسب... تبقين نظراتك على ما لا أهمية له... تتجاهلين التطورات التي حذتث بالفعل بفضلك... " هز عينيه نحوها و أجزم بصوت هادء:" طلبتي من طفلا و رفضت... أردتك حرة الاختيار، انبهرتي بي في البداية لكن الحقيقة سرعان ما انفجرت في وجهك و ابعدت اللمعان... لم اكن لأجبرك على البقاء بسبب طفل تفهمين؟ ربما أخطأت في الوثوق كثيرا بحماستك نحوي منذ البداية"
" توقف... " اكتفت و لا تريده ان يقول ما ستندم هي عليه لاحقا:" هذا صحيح... الحقيقة انفجرت في وجهي لكنك مخطئ جدا ان اعتقدت بأنني أخاف على نفسي... أو بالأحرى... أنت محق... أنا أخاف على نفسي... أخاف أن أتدمر ان أصابك مكروه لأن الحياة... نعم الحياة... لا قيمة لها بدونك... "
" المكروه الوحيد الذي سيصيبني هو رحيلك من حياتي..."
" لن أرحل روكو... اكتشفت بأنه لا يمكنني الرحيل... " صرخت به لتتمكن من تغطية صوته المرتجف غضبا:" أخبرتني فلورانس بأن الخطر أهون من الاستسلام... انها محقة... أفضل عيش خطرك على الا أعيش بالمرّة..."
لانت ملامح وجهه أخيرا، حمدا لله... انه بصدد اخفاء انيابه التي كشّر عنها وهي بصدد استعادته، شعرت أنه متصلب في اللمسة بينما تحط يدها على ذراعه، ستضطر الى القتال بقوة لإستذراجه:
" لا تخفي عني شيئا من أعمالك روكو... عندما تنغلق على نفسك... الشكوك تفسد ايامي... أخبرتني ذات ليلة بأننا شريكين! لا انتظر منك الكلام فقط... بل الأفعال..."
" كما فعلت انت؟ أوهمتني بالكلام وكل شيء تبخر فور شعورك بالخطر؟ "
" أنا آسفة... كما أوضحت لك فلست خائفة عن نفسي بل عليك... "
" انا لا ادعم الكذب و لا الخداع... و لأكن صريحا معك... كنت اعرف بأن هذا سيحذث بالنهاية... سبق و أخبرتك بأنه أنت من سيتركني و ليس العكس..."
نعم سبق و أخبرها بهذا، نجحت بزعزعة ثقته بها، أمسكت بذراعه ووضعتها حول خصرها قبل ان تتعلق بعنقه وتضمه اليها، أغمضت عينيها عندما شعرت به يتجاوب مع هذا الاتصال، تنهدت في عنقه، كم افتقدت هذا الالتحام في اعصار شكوكها المريبة، العيش سهل مع روكو، كل شيء معه جميل، سوى الخوف من المجهول بالتأكيد، لا تعرف متي سيقرر أحدهم سرقته منها، ربما هذا لن يحذث يوما... كانت تملك الخيار بين أن تمضي في طريق سبيلها أو تحتفظ على أهم ما حصل في حياتها... اختارته هو.
غرزت أصابعها في غرة شعره الناعمة و الكثيفة وهزت نحوه وجهها لتغرق في عينيه المشتعلتين:
" ذلك المساء... قلت بأنك تحبني..."
تكهربت نظراته وهو يهمس لها بصوت مغر:
" لا أظنك تستحقين سماعها مجددا..."
انفجر قلبها في صدرها، فلم تتوهم، أخبرها بأنه يحبها، بأنه يحبها كما لم يحب امرأة من قبلها:
" مالذي يجب أن أفعله لشراء غفرانك؟؟"
بدى عليه التفكير... التفكير الجدي الذي دفع الابتسامة الى شفاهها:
" أعيدي ملابسك الى خزانتي... أفتقدها..."
هزت حاجبها متسائلة:
" تفقتقد ملابسي فقط؟"
انتفخ صدره بالهواء:
" عودي بريانا... فهمت الدرس و لن أعيد الكرّة... عودي فحسب... الفراغ الذي تركته خلفك مستعصي التقبل و العيش..."
كرد عليه قربت شفاهها منه و ضغطت على فمه بشراهة، التقط وجهها فورا بين يديه و انفجرت رغبته في وجهها، كانت تحاول الوقوف على أصابع قدميها للوصول اليه، أمسكها من خصرها ووضعها فجأة على المكتب، يمكنها التهامه بكل راحة الأن، لقد افتقدته بشدة مؤخرا.
فُتح باب المكتب فجأة، ابتعد روكو عنها بينما صوت صوفي يصل الى مسامعها التي فقدت وظيفتها خلال الثواني السابقة:
" رباه... هل يوجد حمام هنا كي أتقيأ بكل حرية؟" كانت تقوم بنفسها بدفع كرسيها المتحرك، لا تبدو بخير و نظراتها تلمعان بغضب... مالذي حذث لها مرّة أخرى؟؟ انها مستحيلة العيش" في المرة القادمة استعمل غرفة النوم و لا تجعلني أعيش كابوس مماثل... أنتما مقرفين..."
" أنت فتاه غيورة..." سمعت روكو يقول وهو يدنو منها...: " ما الأمر مجددا صوفي؟ مالذي يُعكر مزاجك؟"
" ما يحذث أنني أبقى مقعدة رغم كل جهوذي... أنت تثبت مهاراتك كحبيب بينما لا يحق لي بالحصول على صديق..."
" بعيدا عن هذا الموضوع الذي تكررينه بلا أي كلل مثل الببغاء... مالذي يحذث لك؟؟ تريدين الخروج قليلا؟؟ سئمتي؟؟ مالذي يمكنني فعله لك يا ابنتي؟"
" الرجل الذي يحق له مناداتي بإبنتي مدفون في الحديقة الخلفية.." ردت صوفي بجليدية:" ضقت ذرعا بحياتي معك... سأطلب من اليساندرو استقبالي ما ان اقف مجددا على ساقاي, لن أبقى معك روكو... و الان سأعود الى غرفتي... و ان كنت تنوي متابعة ما قاطعته فأنصحك بإغلاق الباب بالمفتاح..."
غضب بريانا من تصرفات صوفي صعد لحد الفوران، رأت روكو يغلق الباب خلف ابنته بالمفتاح متبعا نصيحتها، لا يبدو غاضبا من تصرفاتها بالعكس، كانت عيناه تلمعان بشدة، رأته يبدأ بخلع ملابسه:
" مالذي تفعله؟؟"
" أتبع نصيحتها... "
أقطبت لتخفي تأثرها برؤية مبدئية لعضلات صدره:
" عليك ان تضعها في مكانها... طريقة كلامها معك غير عادلة، لسيما بعد كل ما فعلته لأجلها..."
" برئيها أنا المتسبب في كل ما يحذث..." قال وهو يدنو منها و يبدأ بتحرير أزرار قميصها:" علاقتنا تحرز تقدما فلا تقلقي، ففي السابق كانت ترفض تبادل كلمة معي، اما اليوم فهي تبحث عني لتكلمني, مع الوقت ستفهم بأنني فعلت ما فعلته لحمايتها، ربما طريقتي مخطئة لكنها الطريقة الوحيدة التي أعرفها..."
لم يعطيها الوقت لإضافة أي شيء، ثم... تلاشى كل شيئ من حولها بينما يجردها مما يمنع تواصلهما، لقد افتقدته و ما يهم اللحظة هي لمساته النارية على جسدها المتعطش.




ملك جاسم likes this.

أميرة الحب غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 05-11-20, 03:00 PM   #3808

أميرة الحب

مشرفة وكاتبة في قلوب أحلام وكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء وعضوة في فريق الترجمة

alkap ~
 
الصورة الرمزية أميرة الحب

? العضوٌ??? » 53637
?  التسِجيلٌ » Oct 2008
? مشَارَ?اتْي » 14,442
?  مُ?إني » فرنسا ايطاليا
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Morocco
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » أميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   cola
¬» قناتك fox
?? ??? ~
https://www.facebook.com/الكاتبة-أميرة-الحب-princesse-de-lamour-305138130092638/
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

الفصل التاسع


يعرف هذه النظرات، انها تتأهب لرمي أمنياتها في وجهه، وبالتأكيد تنتظر منه تعاون و تفهم، هو الذي بصدد عيش وضع لم يخطط له من قبل، تحمل مسؤولية طفل يتيم ليس في خططه بالمرّة، ربما أصدقائه محقون، وهو في وضع مثير للشفقة لأنه فعلا يشعر بالغيرة السوداء من طفل الست سنوات.
حط عينيه الرصاصيتين على وجهها الشاحب، كانا يتقاسمان طعام الفطور في شرفة شقته التي يقيمان فيها كلما عادت من لوس انجلس، انه يعرف كل تقاطيع هذا الوجه الرائع التفصيل، المتوازن، الذي لا شائبة فيه، رغم شحوبها تبدو متفجرّة أنوثة، كانت ترتدي روبها الحريري الأحمر، المفضل لديه، خصلات شعرها الحالكة السواد تلتمع مثل المرآة تحت أشعة شمس الصباح الخجولة، مد يده لإبريق العصير بعد أن افرغت كأسها، اشارت له رافضة بلطف و سألته:
" اذن ما هو برنامجك اليوم؟؟"
" مؤثمرين فيدو من الهند و شانغاي، انتظر تقارير عن مشاريعي القيد التنفيذ، سأطير عند الظهر الى باريس لأتفاوض بشأن عقد اوليفر الذي لا ينوي حتى الان اتخاذ قرار بيني و بين منافسي، لكنني ضقت ذرعا بالانتظار و انوي حزم الموضوع الليلة... أنا رجل قليل الصبر"
لا يبدو انها تستمع حقا اليه، كانت تعض شارذة على شفتها السفلى، تعذبها بلا شعور، ان سألها عما بها فستدخل موضوع التبني فورا، من الأفضل أن يهرب فورا من هنا، فمساعدته 'هيلدا' و مثل العادة جهزت له كل شيئ، لحسن حظه انه يملك مساعدة متمكنة و متفرغة مثلها، رغم سنها الا انها بنشاط شابة في العشرين، لا يعرف ان كان سيجد ذراع يمنى مماثلة بعد أن تأخد تقاعدها، القى نظرة على ساعة يده:
" قد أتأخر كثيرا الليلة حبيبتي لا تنتظريني..."
هزت رأسها بالايجاب، هذا الكسر في عينيها اشعره بالذنب، لكنه اناني ولا ينوي تقبل ما سيضر زواجه بلا أدنى شك، مرت بالكثير من المصاعب هذه العلاقة و ما تزال تترنح على خيوط منتصبة في الهواء و يحتاج لأرض صلبة كي يبني عشه الابدي، ثم يأتي الماضي و يحشر أنفه فيه.
ترك مكانه و عدّل على سترته الكحلية و ربطة عنقه الحريرية قبل أن ينحني عليها و يغرس أنفاسه في عنقها و يسرق منها قوة يومه، هذه المرأة هي نبضات القلب، بدونها يستحيل عليه العيش:
" أحبك روبي..."
شعر ببشرتها ترتجف تحت شفاهه، يتجاوب معه جسدها كما هو الحال دوما، إنهما على وفاق تام في كل المعايير و الأبعاد الممكنة، أخدت وجهه بين أصابعها لتقبله بحرارة بالغة:
" أحبك أيضا... "
تركها بوخز ضمير أكبر، أتت على دفن جدّها الذي تحبه بشدة و هاهو يتركها حائرة أمام الوضع الجديد الذي تجد نفسها عالقة فيه، ليس فحسب نفسها، انهما لا يشكلان سوى وحدة واحدة، ما يصيبها يصيبه، مجيئ ذلك الصبي يربك كل شيئ... كل شيئ.
سمعها تقول في ظهره بينما يخطو مبتعدا:
" أريد تبنيه سيزار... ان كنت ترفض فلن أجبرك..."
شعر بالغضب لهذه الكلمات التي تدس الكثير من المعني و الأبعاد، استدار نحوها بينما ملامح وجهه متيبسة:
" ماذا يعني لن أجبرك؟؟ نحن متزوجين... لا يمكنك تبنيه و حدك ان قررتي بدون موافقتي... الا ما تلمحين؟؟ أن تتركيني من أجله؟"
رآها تشحب تحت هذه الكلمات لكنها لم ترد، انكمشت في مكانها فحسب، رمت بقنبلتها في وجهه و ستتركها فيه بشظاياها المؤلمة و المريبة طيلة اليوم، و هذا فعلا ما حصل، أمضى يوما سيئا، مرت نشاطاته في أجواء سوداء و كان متطلبا مع مدرائه القابعين في شاناغاي و الهند، لا شيء برئيه يسير بالطريقة الصحيحة، روبي هددته ببساطة، ان لم يقبل بإبن شقيقها الراحل فستتبناه بمفردها، لا أحد يجبره على ما لا يريده، لا أحد... عواطفه القوية نحوها تشوش رؤياه، يعرف بأنها عاجزة عن هجره فقط لأنه يرفض طلب سخيف مماثل، هناك والديها، يمكنهما تبني حفيذهما و الاهتمام به... لما اختارت تلك الفيوليتا اقحام زوجته في الموضوع؟
كان بصدد الاستعداد للطيران الى باريس عندما اقتحمت روبي مكتبه في روما، في البداية لم يصدق بينما يراها أمامه متفجرة أنوثة في طاقم كلاسيكي من توقيع دار الازياء المفضلة لديها، رغم كل جمالها الا أن نظراتها تبقى حزينة للغاية:
" مالذي تفعلينه هنا؟"
" أنوي الذهاب معك الى باريس... " كانت الحمرة تغزو خديها وهي تقترب منه قائلة ببعض الارتباك" لا تجيب على اتصالاتي... لم يمكنني البقاء في البيت و انتظارك بينما أعرف بأنك غاضب مني..."
" أنا لست غاضب منك" كان يكذب بالتأكيد، في الحقيقة هو غاضب من نفسه لأنه يحبها لدرجة يرفض تقاسمها مع صبي الست سنوات:" روبي... عودي الى البيت... سنتكلم بروية لاحقا... لن أكون متفرغا لك اليوم ..."
" اريد البقاء معك... لن أزعج أعمالك أعدك... أحتاج للخروج من ايطاليا... فالكثير من الأمور حصلت مؤخرا, أشعر بالاختناق"
كان يتهرب منها، منذ معرفته بشان أمنيات فيوليتا الأخيرة وهو أخرس، وهل يمكنها ملامته؟ تبني طفل ليس من صلبه بينما يحلم كل شهر أن تكون نتائج حملها ايجابية، الشيئ الذي لم يحذث اليوم أيضا، قبل الفطور هذا الصباح استعملت فحوصاتها البولية التي جائت سلبية مثل المعتاد، اذن فتأخر دورتها له علاقة بالظروف النفسية المريبة التي تعيشها و ليس لأنها تحمل طفل سيزار، كانت خيبتها مريرة لدرجة ان عقلها مجددا استرجع جحوذها الماضي ازاء حملها الأول... الله ينتقم منها و يرفض منحها فرصة أخرى.
ماذا ان فشلت كليا في الحمل؟ هل سيستمر سيزار معها؟ هو المتحرق و المتلهف بشدة لهذا؟ ليست غبية كي لا ترى تعابير وجهه عندما توصلا بصور توأمي الاسباني، كان سعيدا له، و مقهورا أيضا... هل فكر... مثلها، بطفلهما الذي لم يشهد النور؟ كيف لها أن تكون أنانية لدرجة ان ترغب حينها بالاجهاض حبا في مهنتها؟
رأته يتقدم نحوها بكل رجولته المجيدة، بدلة رجل الأعمال الناجح تليق به، انها فخورة به، بإنجازاته و أعماله و فخورة أكثر لأنها هي روبي... كسرت حصون رجل مثله و تزوجته.
الى متى؟؟
ان لم تمنحه ما يريد... لن يتأخر بالبحث عن بديلة.
آه كلا...أفكارها هي حفنة من الهراء... سيزار يعشقها، لن يتركها يوما ان فشلت في منحه وريث... انه يحبها أكثر مما يمكن أن يحب رجل امرأة.
رغما عنها استحوذ الخوف عليها، انها تثق بمشاعره، تثق بحبه الشاسع لها، تثق به خالصا و مخلصا... بيد انه توجد تلك الـ... لكن! فلم يأت أي طفل ليبارك هذا الاتحاد.
" انت على عجلة من أمرك لتحصلي على اجابة سريعة بشأن ابن شقيقك!..."
" لا تريد تبنيه أعرف... " أجزمت بهدوء وهي تهز نحوه وجهها:" أخبرتك بأنك لست مجبر.."
" و بأنك ستفعلين بمفردك ان انا رفضت؟"
عادت عيناه تلمعان بغضب، هذا الموضوع يثير ريبته هي تعرف، لقد فكرت فعليا في تبني الصغير، لن تتمكن بدون موافقة زوجها، فهي لم تعد عزباء لتحقق ذلك، سقط صمت كهربائي بينهما. دنى منها أكثر و ببطئ، فجأة شعرت بأنها صغيرة جدًا أمام جبل العضلات أمامها بسواعده المكشوفة التي يعرّي عليها كلما عزم على حسم أمر ما،متى تخلص من سترته؟!
" هذه المرّة روبي... لا يمكنني تحقيق أمنيتك، أتمنى أن تتفهميني فلن أمنح ذلك الصغير الأبوة التي يبحث عنها اذ أنني لم أتمرّن بعد عليها مع أطفال من صلبي... "
شحب وجهها، وهي بالتأكيد السبب في هذه المنيعة، فتح باب المكتب و ظهرت هيلدا... الذراع الايمن لسيزار، بدت على عجلة من أمرها، عليهما الطيران الى باريس، المرأة الخمسينية لا تمزح عندما يتعلق الأمر بأعمال رئيسها، انها آلة في جسد بشري و لا تتعب أبدا.
" سيزار.. علينا الرحيل.." قالت هيلدا بصوت عملي.
" فقط لحظة... اغلقي الباب خلفك..."
رأتها تقطب قبل أن تنفذ أوامر رئيسها، حط سيزار يده على كتفها، و تطلع عن قرب شديد الى عينيها:
" العقد الذي اتفاوضه في باريس هو الأكثر ربحا مما سبق و تفاوضته منذ فترة طويلة، لن أكون متوفرا لك طيلة بعد الظهر، فهل ترغبين بالمجيء رغم كل شيء؟ "
هزت رأسها بالموافقة:
" بينما تتناقص عقودك لتملأ أكثر حسابنا البنكي سأقوم أنا بالتبضع في الشانزليزيه و الاقتصاص من بطاقاتك المصرفية ... "
أقطب قليلا، متجاهلا سخريتها اللطيفة:
" أنت تكرهين التبضع..."
" أعرف... أحتاج لك سيزار و لوجودك قربي... "
هذه الكلمات نعّمت نظراته الرصاصية، شعرت بالراحة تغمرها لتجاوبه، مسح على شعرها قبل أن يمسك بدقنها بين أصابعه و يلتقط شفاهها في قبلة حارة، هذا بالضبط ما تحتاجه في لحظات ضعفها الحالية... تريد أن تشعر بأنها مهمة له، بأنه سيدعمها دوما و أبدا... تريد أن تشعر بالأمان مع الرجل الوحيد الذي أحبته في كل حياتها.
* * *
عزيزي خوسيه...
أم أبدأ بمناداتك بعزيزي الغريب...!؟
فالرجل الفوضوي المشاعر، المتفجر، المحموم القلب، الرائع بكل المقاييس لا أعرفه.
وهذا يخيفني اكثر مما يسعدني، فلم نكن متواطئين ... و لم نكن مكملين لبعضنا البعض كما الان...
عزيزي الغريب...
هل تؤمن بشعلة الروح؟!
بعيد قليلا عن النطاق الرومانسي لأنه أكثر واقعية...فأنا أعرف بأنك عملي و لست رومانسي بالمرة... ذلك الخوسيه الذي سقطت بين ذراعيه معتقدة انه اليخاندرو، الخوسيه الذي ساومني ليحصل علي... الخوسيه الذي لم يكن بالمرّة نزيها و خطط لحملي رغما عن أنفسي.
الشخص الذي أوجه كلامي له اليوم هو نقيضه...
انه الرجل الذي طالما حلمت به، شعلة الروح.
اللهب المزدوج يكون ثمرة فصل نفس الروح في جسدين مختلفين: إحداهما بطاقة ذكورية ، والأخرى طاقة أنثوية...شيء أكثر عمق من توأم الروح... أكثر ايحاء.
فتوأم الروح هو الشخص الذي يتحداك ، ويثير مشاعرك العميقة ويدعم حيث يؤلمك ، يجعلك تتساءل عن قيمتك الخاصة ، ما تريد - والأهم من ذلك ، ما لا تريده - في الحب.
شعلة الروح هو أنت... في جسد آخر.
إنهما نفوس متعاكسة ولكنهما متممتان ، ولهما نفس الاهتزاز النشط والذي يجذب كل منهما الآخر... ما يحذث منذ ولادة التوأمين قوي... قوي لدرجة أن نوره يعمي بصيرتي.
أنت رجل حياتي... لكن الى متى؟
عزيزي الغريب... أرجوك ارحل.. فقد خليت توازني العاطفي و اسقطت رأسي و صرت سعيدة كما لم أكن يوما في حياتي... منحتني الحياة المتوازنة التي أريدها... لكن بأي ثمن؟؟
أريدك أن تعيد لي خوسيه... معه أعرف الى اين تقودني خطواتي... معه أعرف بأنني مخاطة بالخطر و أنني اسير على خيط رفيع فوق فوهة بركان.
أعرف بأن وجودك مؤقت... كما اعرف بأنني لست امرأته المناسبة و لا شعلة روحه بالرغم من كل المؤشرات الايجابية...
فهذه القلعة ليست بيتي، و هذا الغريب ليس زوجي الذي قررت الانفصال عنه و انقاذ نفسي منه...
عزيزي الغريب ارحل... فكل يوم يمر أقع في حبك أكثر.
* * *
"تبدين مهمومة... ما الأمر..؟"
هزت بريانا نظراتها نحو وجه حماتها الفضولي، عيناها الشفافتين تلمعان بذكاء خارق، اليست هي والدة الرجل الذي يحتاج المرء الى دليل كي يفهم تعقيداته؟ كانتا بصدد ترتيب آخر تجهيزات العيد، والديها سيصلان قريبا فروكو خطط و بالتأكيد وصل لما يريده دوما، لن تذهب الى اليونان بل اليونان من ستأتي اليها...
" كيف كانت حياتك مع يانيس؟ لابد أن تكون المرأة قوية جدا لتتحمل طباع نارية و شخصية فذة كشخصيته اليس كذلك؟" السؤال خرج من شفاهها دون ان تتحكم فيه.
عموما فلن يقف شيئ في طريقهما هي و روكو، هذا الأخير معقد و عليها تقبله كيفما هو ببساطة لأنها كانت صادقة عندما أخبرته بأن فكرة هجرانه اصبحت خلف ظهرها.
ملامح سابرينا لم تتحرك، كانت تتطلع اليها في هذه اللحظة بنفس التعبير المحايد لابنها، غريب كيف ان يكونا معا على نفس الموجة من الحذر و الجليدية... سابرينا امرأة قوية جدا.. كيف لا و قد كانت زوجة يانيس و انجبت منه رجلا مثل روكو؟ لم تتنازل عن حقها في حياة هذا الاخير الذي حاول تبخيرها من حياته بلا جدوى... انها هنا، مثابرة و صامدة.
" ان كنت تعتقدين ان روكو هو يانيس فأنت مخطئة..." سمعتها تقول بصوت محايد:" كيف يمكننا الاستمرار في تجاهل أننا مجرد أقمار اصطناعية ضئيلة تدور حول عبقريته الضخمة؟ انه ابن والده عبقريا ربما... لكن يا نيس كان يملك شيئ خصه هو فقط... يمكنك الثقة في روكو... و ليس في والده، أظنك عمياء للغاية كي لا تلاحظين انه متيم بك... فعادة يضع مشاعره جانبا... ظننته في البداية يثوق لوضعك في سريره كما هي عادته و كما كانت عادة والده الذي لم يخلص يوما لي، لا شيئ يضاهي هذا التغيير الذي الم به... و لا تقرني بين الاثنين اكون ممنونة... ابني لن يكون ذلك الرجل ... أبدا..."
التقطت الزينة أمامها ووضعتها جانبا لتهتم أكثر بالتبرعات التي بدأت بتوزيعها سلفا على العائلات و الجمعيات الخيرية.
" هل أحببته يوما ما؟" فضولها لا يبدو أنه يروق لسابرينا.
" كنا مضطرين للزواج..."
" صفقة زواج تقليدية دون حب؟؟"
هزت سابرينا عينيها نحوها و ابتسمت ابتسامة جليدية:
" عاطفية يانيس تشبه جبل ثلج، كان يأخد ثم يأخد ثم يأخد دون أن يعطي شيئا..."
" ورغم ذلك بقيتي معه..." استخلصت بريانا، بما أنها بدأت هذه المحاذثة التي قد تفيدها لمعرفة الفوارق بين الاب و الابن فلا تنوي التراجع بسبب تصرف حماتها الجليدي.
" لا أحد يهجر يانيس... لا أحد..." جمعت الأوراق على مكتب ابنها ثم جلست فجأة على مقعده، تجهل بريانا كم عمرها، الا أنها ما تزال صلبة للغاية و صاحبة ارادة قوية أيضا:" كل نساء الجزيرة اغرمن بيانيس، فهو يكون ودودا جدا عندما يريد ذلك، كما أن سيطرته تعدت الحدود الايطالية، و هذه السطوة تثير بشدة نوعي من النساء، ظننت بأنني قادرة على الوصول الى ما يستحيل الوصول اليه، ربما مع الوقت... قد أصبح أكثر من مجرد السيدة يانيس ايميليانو، لم أملك من حظك شيئا... لأن روكو... يحبك بحق و يخاف عليك، يملك القلب الذي تجرّد منه والده... "
شعرت بالراحة لهذه الاشارة بالرغم من انها تعرف جيدا بأن روكو عاطفي تحت غلاف الحديد الذي يرتديه عادة، و ليس هذا ما أبعدها عنه، بل أعماله الأخرى، خوفها الشديد على أن تفقده ذات يوم.
" لم تعيشي خائفة من أن تصابي بالأذى بسبب حياة زوجك الخطرة؟"
" هذا ما يخيفك أنت؟؟ " أعادت لها السؤال دون منحها ردا.
" لست خائفة على نفسي... أحبه لدرجة انني حائرة الخطوات... لا أملك الخيار ... أجهل كيفية التعامل مع الوضع... أحلم بأن أكون بقوتك..."
تسلل الحزن لنظراتها، لوهلة فقدت سابرينا قوتها وصلابتها و أصبحت مجرد امرأة أذاقها زوجها المرار، و تغيرت لكنتها و هي تقول:
" قوتي؟ ترينني قوية؟ أتمنى الا ترتكبين في حياتك نفس الاخطاء نفسها التي ارتكبتها ... يانيس لم يكن بشريا و أنا ...لم أخف ممن حولي كخوفي منه... و كيف لا وهو الذي يُحجّم بنظرة أشد الرجال صلابة ؟ "
جلست بريانا بدورها على المقعد قبالة حماتها، عبق البرغموت ، المريمية البرية ، العرعر و خشب الصندل تسبح في المكان... رائحة روكو التي أصبحت هويتها:
" لم تتغير الأمور حتى بحصولكما على أطفال؟"
اللوحة الزيتية للمسؤول على كل هذه الدراما معلّقة على الجدار خلف حماتها، شعرت بصاحبها ينظر مباشرة الى عينيها، الفنان الذي صمم هذه التحفة الفنية لم يلجأ إلى لوحة حيوية. تم منح يانيس بشرة مرمرية المتناقضة تماما مع خصلات شعره الشديدة السواد و كأنها جناح غراب، عيناه الزرقاوين مفتقدان لأي دفئ، يمكنها أن تشعر بخوف الفنان بينما يحاول اعطاء هذا الرجل شيئ من الأدمية و الانسانية... غريب... انه صورة مطابقة لسانتو فارينا... ولي العهد المنبوذ من عرشه، فهل سابرينا تعرف بوجوده؟
" انا تغيرت كي أساير روتين زوج متطلب و صارم... كان يجب أن أخطو خطواته كي لا أنزلق و أدق عنقي... استمرت هبته حتى بعد موته... في ذلك الوقت... كان من المستحيل تخيل أنه لم يعد حقا موجودا...تلاشى... من الصعب تخيل أن رجل مثله يمكن أن يموت و يختفي... بهذه البساطة"
" رحل كي يترك أثره في ولي العهد الذي هيئه جيدا ليسلك نفس الطريق..."
" روكو مستقيم جدا و لم يدنس نفسه بدماء أحد... تخوفاتك مبالغ فيها، عليك أن تعرفي بأنك محظوظة لإثارة اهتمامه و دخول حياته، تعاملي مع الوضع بطبيعية و لا تعقدي حياتك مجانا... انه على رأس امبراطورية حقيقة و من الطبيعي ان يكون حذرا و موضعه الحساس يجعله عرضة هجوم في اية لحظة..."
في النهاية لم تلتقط شيئا جديدا من كلام حماتها، عادت بريانا تهز عينيها نحو لوحة كابوس حياتها، بدى و كأنه يسخر منها بنظراته الزرقاء الشفافة، حتى وهو ميت... يملك موهبة محو العالم من حوله... يالها من سطوة... يالها من مغناطيسية... حتى أمام الصورة لا يبدو روكو المتمرس في هبة والده.
نواح نسائي مدوي إستعجل سابرينا بترك مقعدها الجلدي الزيتوني، بدى الارتباك على وجهها، تفقد سيطرتها على نفسها ما ان يتعلق الموضوع بصوفي:
" مالذي يحذث معها مجددا؟؟" سمعتها تقول وهي تسرع نحو الباب..." مزاجها سيئ جدا مؤخرا..."
تبعتها بريانا بصمت، منذ متى لم يكن مزاج صوفي جهنمي؟؟ الفتاة اللطيفة قبل الحاذثة اختفت و حل محلها وحش حقيقي، تباطئت خطواتهما بينما تريا صوفي في الحديقة على الأرض ترفض قطعا ان يقوم فريقها الطبي بمساعدتها، انحنت عليها سابرينا لكن هذه الأخيرة ضربت على يدها كي تُبعدها عنها، كانت تلهث، خصلات شعرها على جبينها ووجنتيها مبللتين بالدموع، الجو صقيع في الخارج ولا يبدو أن برودة الأرض الندية تؤثر بها، دنت منها بدورها و انحنت عليها:
" دعينا نساعدك صوفي..."
" أريدكم ان تتركوني و شأني... أحاول أن أمشي بمفردي و الكل يلتصق بمؤخرتي... أنا لست عاجزة... لست عاجزة"
عادت للاستواء مجددا في وقفتها، تحاول ان تتقرب منها لكن صوفي قررت معاداة كل من في البيت، الوحيد الذي لا يتأثر بسلوكها فهو روكو... على ذكر هذا الأخير رأت سيارته تقتحم من بعيد مدخل القلعة، عندما استيقظت هذا الصباح لم يكن بجانبها، ضمت اثره اليها مطولا قبل أن تقرر استقبال يومها بطبيعية متجاهلة معدتها التي تتلوى من القلق عليه، هذا ما سيكون عليه الحال كلما ابتعد عنها.
السيارة توقفت في الجهة الاخرى للحديقة، صوفي تحاول مجددا الاعتماد على نفسها للوقوف على ساقين يرفضان الاستجابة اليها، شعرت بالشفقة عليها، بدت تتعذب بشدة في هذه اللحظة، فجأة فهمت لما تتكبد الصغيرة كل هذه المعاناة، اليساندرو خرج من السيارة في الوقت نفسه الذي خرج فيه روكو، اذن فقد اتت لإستقباله و مفاجئته بوقوفها على ساقيها؟؟
تجمعهم الصغير أثار انتباه الشقيقين الذين اسرعا نحوهما، ظنت أن اليساندرو سيمضي العيد في اسبانيا مع عائلة خطيبته، يبدو أن الايميليانو لا يتساهلون في هذه الأمور الذي تم تقديسها منذ عقود، انحنى الرجلان في الوقت نفسه عليها، رفضت بالطبع ملامسة روكو بينما تركت اليساندرو يأخدها بين ذراعيه:
" يمكنني الوقوف... "
اطبق الصمت بينما الكل يشد انفاسه أمام ما تحاول اثباته بالفعل لا بالقول، ترك روكو مكانه ليدنو منها، ذراعه تسللت الى خصرها و لفها دفئه في برودة كانون الأول...
" أنا فخور بك..." سمعت اليساندرو يقول لها مشجعا بينما تتمكن أخيرا من الوقوف و تهز ذقنها بفخر.
" قريبا سأشفى و ارحل للعيش معك في نيويورك ..."
القت نظرة حذرة الى روكو، لكن ملامحه جامدة امام تصريحات ابنته، انها تتعمد استفزازه و هو لا يأخد كلامها قلبيا، يتجاهلها بكل الهدوء الذي تحتاجه شخصيا لتخفي ورائه استيائها... تفقد رشدها عندما يتعلق الأمر به.
تبع الجميع المريضة و شقيقها أو بالأحرى عمّها الى الداخل بينما أبقت روكو بجانبها، راودته ما ان أصبحا بمفردهما:
" لم تخبرني بأن اليساندرو سيأتي اليوم!... ظننته سيطير رأسا الى مدريد ليمضي العيد مع خطيبته .."
" خطيبته في طريقها الى صقلية... خوسيه يعرف بأنني أحب جمع أفراد عائلتي حولي... "
لكنها تشعر بأن هناك ثمة سر آخر وراء مجيئ اليساندرو الى صقلية، لم تترك روكو و شأنه، عندما يتعلق الأمر بأمور خاصة جدا يبدأ بلعب دور صعب المراس، تبعته الى المكتب و أغلقت الباب خلفهما:
" مالذي لا تريد اطلاعي عليه؟؟"
" لا تبدئي..."
هزت حاجبها متسائلة وضمت ذراعيها اليها:
" تعجّل بإخباري اذن..."
أخذت وقتها للإجابة ، كما هو الحال دائمًا. لم تكن واحدة للتحدث دون تفكير. جودة يقدرها في الأوقات العادية... لكن اللحظة... يريد أن يبقى بسلام:
" اسمعي ... أعدك الا شيئ يخصك لذا لا تشغلي بالك بالتفاهات ..."
" ظننتني فردا من هذه العائلة!... تستمر بإخفاء الأمور عني..."
يبدو أن ملاحظتها أزعجته بشدة، رأت عضلة فكّه تتصلب ببعض الحدة دون ان تفارق نظراته القاتمة وجهها، فجأة هز رأسه و كأنه فشل أمام الصراع بداخله:
" اليساندرو يتعمّد ابعاد دانيلا عن مدريد..."
" هناك مشاكل مع الزوجة الجديدة؟؟"
هز رأسه بالنفي:
"تملكت دانيلا شكوك نحو أبوة خوسيه لها... "
المفاجأة الجمت لسانها، صحيح ان هناك شبه في بعض التفاصيل الصغيرة لكنها لم تتوقع ان يكون هناك احتمال في القرابة..
" وهل هي كذلك؟"
" ليست ابنته... بالطبع ليست كذلك فقد قام بإختبار الدم ما ان وطئت قدميها أرض بيته... قامت بدورها بفحص نووي استلمه اليساندرو... "
لا تفهم بالضبط ما يزعج روكو ان لم تكون دانيلا ابنة خوسيه:
" و؟؟" استعجلته.
" بالطبع سلبية... "
بدأت تفقد تسلسل الأحذاث:
" ليست ابنته! لما ينوي اليساندرو وضع مسافة بينهما اذن؟! "
رأته يأخد نفسا عميقا، رأت خلف مجددا صورة والده الزيتية و قامت بمقارنة ذهنية سريعة، كانا متقاربين في الملامح، لكن الشبه التام ورثه سانتو بالتأكيد.ألقى عليها نظرة جادة
" القصة... لا تخصك كما ترين... هل يمكنك اعلام المطبخ بتحضير قهوة قوية لي لأن رأسي سينفجر"
تطلعت الى قسمات وجهه النبيلة تبحث عما يخفيه ايضا،منذ البداية أخضعها لمشروع إغواء ثبت أنه من الصعب مقاومته،لن تنس الطريقة التي ترك بها جمره المتوهج أثرًا متوهجًا على جميع بقع جلدها التي جرفتها منذ اللقاء الاول... شبيه بالاستحمام في شيء حلو مثل الشوكولاتة المذابة، اليوم لم يكن يرتدي بدلة العراب... كان روكو حبيبها بكل بساطة، من الجلد الناعم لسترته السوداء ينبعث عطر خفيف لخشب الصندل و العرعار و الفانيلا ، عانق الجينز الأزرق الداكن عضلات فخذيه القوية. لحية وليدة تظلل فكيه... هذه اللحية التي يحلقها صباحا لتظهر بعد منتصف النهار... كان يتطلع اليها بنفس التعبير الذي يوقفها مكانها و يقول لها.. كفى... انسي الموضوع.
" سوف أحضر لك القهوة بنفسي..." قالت بهدوء.
" أنا محظوظ بك..." سمعته يقول في ظهرها و ابتسمت في سرها... هو المحظوظ بها أم العكس؟
التفتت اليه وهي تضع يدها على مقبض الباب، معجبة بقوة رجولته للمرّة ثانية في ظرف دقيقة، قبل أن تجيب تلك الابتسامة الكسولة على شفاهه تحرك مقبض الباب في يدها و دخل الياسندرو، كاد أن يرتطم بها لو لا ان تجمد على بعد سنتمترات منها، لا شيء يمكن أن يضاهي كمال هذا الرجل، انه مختلف تماما عن روكو و ربما يشبه أكثر ملامح سانتو، لكنه متفرد الملامح و استثنائي، ابتسم لها ابتسامه بشفاهه المتماسكة، دون أن تكون خالية من الحلاوة.
"آسف يا خطيبة شقيقي... اتمنى انني لا أقاطع شيئا مهما!"
" أتركه لك... " قالت بلطف:" هل ترغب أنت أيضا بقهوة؟؟!"
" نعم شكرا لك..."
ما ان أغلقت بريانا الباب خلف ظهرها حتى اختفت الابتسامات و تواجه روكو مع شقيقه الذي بدأ حواره قبلا دون ان يتوصل معه لجواب أو يدفعه للاعتراف بإي شيئ، يعرف روكو جيدا هذه النظرات المتهمة، ولا يبدو أن كل دفاعاته قبل اللحظة أردعت محاولات شقيقه الصغير بترك الموضوع و نسيانه:
" أحب دانيلا..."
" تراني سعيدا بهذا الخبر..." قال روكو وهو يلتقط سكارا من العلبة الخشبية أمامه.
" أنوي حمايتها و بالتأكيد لن يتحقق ذلك ان استمريت بلعب لعبة الغميضة معي..."
" لما لا تختصر الموضوع و تلقي بأسئلتك مباشرة على خوسيه؟؟" سأله بينما اصابعه تتلمس السيكار دون ان تشعله.
" تظن أنها فكرة جيدة الأن؟؟ لسيما و قد أتى استبدال صفة الأرمل البلاي بوي بأب جديد متحمس و سعيد ؟"
رآه يتشنج مكانه، بالتأكيد روكو يحمي مصالح خوسيه بكل قوته، لكن يجرحه الا يثق فيه كفاية ليخبره الحقيقة... نعم الحقيقة... لأن روكو لا يخفى عليه شيئا، كما لم يُخفى شيئا على والده من قبله، و يانيس... كان الصديق الروحي لألمادو ماتينيز.
" هل تقرب دانيلا خوسيه؟"هز كتفيه:" التحاليل تقول بأنها قد لا تكون ابنة خوسيه لكنهما قريبين بسبعين في المئة.... " ارتفع صوت اليساندرو بنفاذ صبر، ان لم يطر مباشرة لمدريد لملاقاة خطيبته فلأنه فضل الحصول على توضيحات:" بما انها قامت خفية بتحليل نووي فلا شيئ سيوقفها للحصول على أجوبة...اليونور تركت مذكرات غريبة، أسرار مُربكة، قمت بالتحرك قبل دانيلا كي أجنبها أي صدمة، آملت الا يكون ما افكر به صحيح، اتصلت بمكتب نينو و طلبت منه ان يتحرى على ناديا كورتيز... يُفترض أن هذه الأخيرة أصيبت بسرطان رحم بعد زواجها بسنة... أي قبل أن ترزق بدانيلا... اتضح أن اليونور لم تخطء بالاشارة الى الموضوع، توصل نينو ان هذه الاخيرة استئصلت رحمها فعلا... دانيلا ليست ابنتها... اذن من هي؟؟؟ أعرف بأنك مطلع على الحقيقة و ترفض اخباري بها... لكن الشبه بينها و بين اليونور يفضح كل شيئ... انها ابنتها... اليس كذلك؟؟"
ما ان قررت دانيلا بدأ تحرياتها بصمت حتى سبقها هو، و يعترف أن وحشية هذا البيان مثل ضربة موجعة موجهة مباشرة للمعدة. لقد كان اكتشاف لا يمكن تصوره!
" الأمر.. أكثر تعقيدا..." سمع روكو يقول بصوت ناشف.
" أنت تعرف الحقيقة... لكن خوسيه يجهلها اليس كذلك؟؟ خوسيه يجهل بأن دانيلا ابنة اليونور؟ "
أمام صمت روكو شعر اليساندرو بحرارة خانقة تنتشر في جسده، يتحرق لمعرفة المزيد و في نفس الوقت هو خائف مما سيعقب.
" لما اتصلت بنينو؟؟ لقد كان متحري يانيس الخاص..."
" لهذا السبب تحديدا اتصلت به..." قال اليساندرو بتحد:" سألتك عدة مرات لكنك تصبح أخرس ما ان يتعلق الأمر بخوسيه... أخبرني الحقيقة... تلك الحقيقة التي ستكتشفها قريبا دانيلا لأنها اشترت خدمات متحري لن يتأخر بمنحها ما سيعذبها طويلا... فكما يبدو... ليست وحدها الغافلة بل خوسيه أيضا...."
يكره عندما يتعمد شقيقه بأخد وقته في التفكير و الرد، عادة لا يمنحه ما ينتظره منه، أخيرا قام بإشعال سيكاره، هز عينيه نحوه قائلا:
" خوسيه يعرف بأن ثمة قرابة بينه و بين دانيلا...."
" كيف يُعقل أن تكون دانيلا ابنة اليونور و قريبة خوسيه.... أريد أن أعرف..."
ثم تعاقبت الثواني، آه روكو.... تكلم بحق السماء!
" الموضوع لا يستحق... هو الذي عاش على ذكرى امرأة كاملة... لن أكون الوحش الذي يسود ذكرياته...."
كان قلب الساندرو يخفق بشدة لدرجة انه يهدد بالخروج من فمه:
" الأرقام قريبة جدا في نتائج التحاليل... "
" انها شقيقته..." فتح خوسيه فمه ثم عاد ليغلقه، الأمور تبدو مستحيلة التقبل، لا بد أن هناك ثمة خطا فيما سمع:" عندما قام خوسيه بالتحاليل اكتشف ان ثمة قرابة قوية جدا بينه و بين دانيلا، سيسيليا أيضا شكت بالموضوع بسبب الشبه كي تعود بعد أسبوع و تروي له قصة غريبة... أخبرته بأن المادو ربطته علاقة عابرة مع ناديا..."
" لكنه كان مع اليونور و ليس شقيقتها!..."
" الحقيقة أن اليونور كانت مع المادو قبل خوسيه ثم اعجبت بالابن اعجاب دفعها لاستعمال كل الوسائل لاستمالته، خلال السنوات التي جمعتهما كان المادو يجهل كليا ما يحذث وراء ظهره، يانيس نبهه في النهاية كي يجبر خوسيه على الزواج من المرأة التي يُفترض أنها خطيبته منذ سنوات، اليونور لم تتمكن من التلاعب مع رجل مثل يانيس الذي أمسكها من الذراع التي تؤلمها، في تلك الفترة كانت حامل و أمام جبروت يانيس لم يتردد أهلها بإخفائها كليا الى أن تنجب، ناديا تبنت الطفلة فور ولادتها بينما خوف اليونور من بطش يانيس جعلها تلتزم الصمت فألمادو كان يخشى من الفضيحة أمام طموحاته السياسية، لم يكن يعرف حينها ان كانت الصغيرة ابنته أم حفيذته، لكن التحاليل أكدت بأنها منه، أخد معه السر الى القبر و لم يصارح به حتى سيسيليا..."
هذه المرة اليساندرو الذي التزم بالصمت، فلا يجد ما يقول أمام كل هذا... لما دوما يجد يانيس في كل الدرامات؟! عندما قرأ مذكراتها المختفي أدرك فورا بأنها زائفة الأحذاث... كان هناك غموض... و كأنها تحاول خلق حياة لها... تمثل على نفسها قصة ترغب بتصديقها، أم أن حتى اليونور كانت تجهل ان كان حملها من خوسيه أو المادو؟!...
" أظن... ان الوقت حان ليعرف خوسيه بأن تلك المرأة كانت تتنقل بين سريره و سرير والده..."هز روكو رأسه، بدى ساهما في أفكاره، أقطب اليساندرو وهو يتذكر شيئا:" كيف تعرف أنت بهذه التفاصل..؟"
" يانيس دقيق جدا... أعاد كتابة حياته و كأنها دليل كي أسير عليه ببساطة... "
هذا صحيح... الثقل على كتفي روكو كبير جدا... لا يعرف كيف بإمكانه تحمل كل هذا الضغط.
" قلت بأن سيسليا اختلقت القصة كي لا تجرح خوسيه... كيف عرفت هي بالحقيقة؟"
" أظن أن عمّ دانيلا المزعوم قبل البوح مقابل النقود... أخبرها بكل التفاصل التي ترغب بمعرفتها، وواجهتني بهذه الحقيقة بعد ان تبنى خوسيه رسميا دانيلا، أرادت معرفه ان كنت على دراية بسرها، لم أتمكن من الانكار، أظنها شعرت بالراحة لأن هناك من يتقاسم معها العبء... لم أملك يوما الجرأة للبوح لخوسيه... كما أنني وعدت والدته بإلتزام الصمت... أوافقها على رؤيتها ... فهذه الحقيقة لن تجلب سوى التعاسة لخوسيه...."
" الكل فكّر في خوسيه و لم يفكر في دانيلا؟!" زمجر اليساندرو بصوت ناري بينما يشعر بقبضة فولاذية تضغط قلبه بشكل مؤلم." مالذي سيحذث عندما تصل الى ما ينوي الجميع اخفائه؟؟؟ كيف ستكون صورتك أنت أمام صديقك عندما يعرف بأنك لست بالولاء الذي طالما ظنه؟!"
أقطب روكو" فعلت هذا لحمايته..."
" مشكلتك روكو... أنك تقرر دوما مكان الأخرين... " قال اليساندرو بغضب:" تراه عازفا على الزواج، متئلما أمام ضميره المعذب اذ يعتقد ان حب حياته انتحرت بسببه، و تتركه مريرا كل هذه السنوات فقط كي لا تلوث صورة ساقطة؟"
" لم ارى الأمر من هذا المنظار..."
" أنت لا ترى شيئا بالمرّة..."كانت اللهجة اتهامية بشكل واضح. صدى صوته مغلف ببرودة المعدنية.
" لا تكلمني بهذه الطريقة..." حذّره روكو بهدوء.
" أكلمك بالطريقة التي تعجبني..." أكد بجليدية:" ما يحذث أنك جبان... تقوم بنفس الخطأ مع صوفي... متى تنوي اخبارها بأنك والدها؟ لما تعتقد بأنك دوما على صواب بينما يتألم الأخرين من حولك؟؟ "
ترددت طرقات خفيفة على الباب وظهرت بريانا مجددا، صينية نحاسية بفناجين البورسلان و رائحة قهوة محمّصة تقبع في المكان، كانت تحط عليهما نظرات فضولية، هل سمعت حوارهما؟ اليساندرو لا يدري لكن ما يهمه اللحظة هو ايجاد حل لكل هذه المصيبة، عليه حماية دانيلا من الصدمة العنيفة التي تنتظرها. هذه القصة تركته محبطًا بشكل رهيب.
" الن تشرب القهوة؟؟" سألته بريانا بينما يدير ظهره متأهبا للرحيل.
" افضل شربها في مكان آخر ..."
راقب روكو شقيقه يدير ظهره و ينسحب، تولد اليه انطباع بأن سحابة سوداء تحجب السماء و قد غمره مزيج من الذنب والاستياء.
يانيس ترك له شتى أسرار، و كأنه ينتقم منه عبرها، يسخر منه ويراقبه عن بعد ليعرف كيف سيتمكن من فك الموضوع بدبلوماسية، لكنه مايزال عند رئيه... خوسيه أحب اليونور بطريقته... أن يعرف بأنها تقاسمته مع والده سيؤلمه بشدة، لسيما ان المادو كان على طريق يانيس، كلاهما نذلان و بعيدين عن الوفاء، لكن الاسباني المهتم جدا بالسياسة ترك لصديق عمره حل مشاكله مع اليونور ما ان افتضح الأمر و برزت الحقيقة، الشيء الذي يثقنه يانيس بالتأكيد الابتزاز و التهديد.
قمع القلق الغريزي بينما يتسلل صوت بريانا الموسقي الى اذنيه:
" وصل اليخاندرو وهو يدردش مع سابرينا "
القى نظرة الى ساعة يده، صديقه في موعده تماما:
" انا من طلب منه المرور..."
" الن تخبرني لما يبدو اليساندرو غاضبا؟"
تناسى سيادته الاسطورية وتمتم ببرود:
" الإستياء هو هواية كل فرد من هذه العائلة و أحيانا كثيرة لا يحتاجون لاعذارا حقيقية "
رشقت عليه النظرة القاتمة التي يعرفها جيدًا ، واشتعلت خديها بشدة.راقبها تعض على شفتها ببعض العصبية لكن وصول اليخاندرو دفعها لهجر المكتب للمرة الثانية اغلاق الباب خلفها، انه عاجز عن نسيان محاولتها الفرار من حياته، هو الذي أمنها على قلبه ووثق في كلامها و مشاعرها، محاولتها في الفرار زادته حذرا فحسب، رغم أن الأمور تسير مجددا في طريقها الصحيح الا انه يتوقع منها خيانة جديدة، اهتزت ثقته للاسف...
" روكو..."
ابتسم لأليخاندرو الذي قطع المسافة بينهما ليقبض بحرارة على يده، يعرف صديقه جيدا ليدرك أن وراء هذه الابتسامة استياء مرير، منذ وصول خافيير الى بيته و هذا الأخير مهموم بشدة و قلق على حياة توأمه، لقد تحذثا بالأمر، اليخاندرو يطلب دعمه لحماية مؤخرة خافيير الذي يفترض أنه مُعرض للخطر و أنه أثار في ماضيه القاتم غضب الكثير من العناصر الخطرة... على حد ادعاءاته لتوامه بالتأكيد.
" اين خافيير؟" سأله روكو بينما لم يخفي اليخاندرو دهشته.
" رغبت بلقائنا معا؟"
" الم تكن رسالتي واضحة؟؟" سأله بهدوء وهو يخرج هاتفه ليتصل فورا بسانتاغو:" أجلب لي خافيير ميندوزا فورا... أظنه في بيت اليخاندرو..."
تكمشت ملامح صديقه وجلس ما ان أشار له بذلك، لكنه لم يتأخر بالهجوم عليه بالأسئلة:
" قمت بتحرياتك؟؟ وجدت أؤلائك الناس الذين يهددونه؟؟"
ان وجد أولئك الناس؟؟ لكن من اين يبدأ ليروي قصة خافيير الحقيقية لشقيقه؟؟ وبدل الدخول في سخافات الشروحات التي ستتسبب فحسب بإبعاد هذفه عنه حاول أن يجعل صوته مطمئنا:
" انه في أمان هنا... لا أحد يقتنص في أرض العرّاب و أنت تعرف هذا..."
بدت الرّاحة العارمة على وجهه:
" لا أعرف كيف سأرد لك جميلك روكو... أنت لا تجهل بأنه آخر فرد متبق لي من عائلتي... ربما هو سيئ للغاية لكنه ينوي التوبة و يرغب بأن نمنحه فرصة... ما الذي تخطط له بشأنه؟؟"
هز روكو كتفيه:
" انه محارب مميز، أمضى حياته في القتال كما انه يحسن استعمال الاسلحة... سأتركه تحت امرة سانتياغو.. "
سانتياغو لا يحب خافيير و هذا التفصيل لن يكشف عليه أمام اليخاندرو بالتأكيد...
" شخصية خافيير متمردّة..."نبهه اليخاندرو بقلق..." قد يخلق لك الكثير من المتاعب أجهل السبب الذي يدفعك للاحتفاض به جانبك... أريد فحسب أن تضمن له الحماية، اما فيما يخص العمل فسأجد له مكان في شركتي..."
جعّد روكو أنفه:
" في شركتك؟ رجل مثل خافيير لن يتحمل امضاء يومه وراء مكتب و أمام حاسوب... انه رجل ميدان"
تنهيذة اليخاندرو اتت عميقة، لابد أنه توصل لنفس الخلاصة خلال الأيام التي أمضاها خافيير تحت سقف بيته، أخبره صديقه بأن الرجل يمضي وقته في اعادة طلاء بيته و تمرين الكلاب و الرياضة، بأن جيرانه من النساء اصبحن يلقين التحية مرارا خلافا لعاداتهن في السنوات الماضية، خافيير يعرض قسمه العلوي مكشوفا في الحديقة بينما يسقي النباتات و يجمع المعجبات من حوله و يوزع ابتساماته، يظن نفسه في أمريكا.
" عادت بيانكا من لندن ؟؟" سأله بهدوء.
" ستعود غدا، كما ان داركو ينوي الاستجابة لدعوة حماه ، الأمير سيليو بالمقابل يرى بنظرة سوداء خطوبتي من حفيذته و يحاول تجاهلي في كل التجمعات العائلية، لذا أوضح لي بكل بساطة بأنه غير مرحب بي في بيت الكونت أندريس بلندن.."
أقطب روكو، الأمير سيليو يمنح الاسم أهمية شديدة، بالنسبة اليه اليخاندرو مجهول الهوية و لا يناسب سلالة نبيلة مثلهم تعود جذورها للقرون الوسطى:
" لن يتأخر داركو بوضعه في مكانه..."
هز اليخاندرو رأسه معترضا:
" علاقتهما مهتزة للغاية و لا أنوي حفر خندق جديد بينهما... سوف يتأقلم مع الوضع مع الوقت شاء ذلك أم أبى، ما يهم هو أنني حصلت على مباركة داركو... البقية غير مهمة..."
" أنت بلا أدنى شك محق... ما يهم هو موافقة داركو و ابنته... سيدرك سيليو بأن هناك أشياء أكثر قيمة من مجرد اسم بالتأكيد"
ترددت طرقات على الباب، لم يكن سانتياغو بل صوفي التي تقدمت بكرسيها المتحرك الى الداخل، وقف كليهما لإستقبالها، يعرف بأن ليس وجهه من تريد رؤيته بل الرجل الذي فضل بيانكا عليها، و هذا الرجل هو نفسه الذي انقلبت ملامحه ببعض العصبية و يبدو غير مستعد لهذا اللقاء:
" مرحبا اليخاندرو... لم تأتي لرؤيتي منذ عودتي الى صقلية... تتصرف و كأن ثمة عداوة بيننا ..."
اقترب منها هذا الأخير وانحنى عليها ليجلس القرفصاء أمامها و يمسك بيديها، راقب روكو ارادة اليخاندرو القوية في ضبط انفعالاته امام ابتزازاتها، صوفي مغرمة به بشدة، لم تستطع الامتناع عن شربه بنظراتها مثل عطشانه تشرب بعد يوم في الصحراء.
" آخد بإستمرار أخبارك من روكو... كنت أنوي المرور لرؤيتك بالتأكيد بعد اجتماعنا..."
ابتسمت له ابتسامة لم تصل الى عينيها، يمزقه رؤيتها تتعذب بصمت:
" سوف تمضي العيد معنا هذه السنة كما آلفت السنوات الماضية؟ آه... نسيت... الوضع اختلف هذه المرة، مكانك في طاولة الأمير فالكوني بعد أن خطبت ابنته" هزت عينيها أخيرا نحوه:" أليس كذلك روكو؟ اليخاندرو اختار الفريق الأخر..."
منحها نظرة خارقة مثل شعاع الليزر لكنه لم يرد، بينما اليخاندرو يحاول تهدئة الموضوع:
" ليست مسألة منافسة صوفي... نحن كلنا عائلة واحدة... ستبقين شقيقتي الصغيرة "
يعود ليضعها في مكانها، رآها تبلع ريقها، لكن كبريائها أبعد ظلمة التعاسة التي سودت ملامحها الجميلة:
" بالتأكيد... أنا سعيدة برؤيتك... ان غيرت رئيك يمكنك دوما الانضمام الينا..."
" سينظم الى عائلته... " تدخل روكو واضعا اياها بدوره في مكانها.
أظلمت عيناها أكثر و هزت رأسها بالايجاب،على ما يبدو تبقى متشبثة بأحلامها السخيفة نحو رجل لا يبادلها حبها:
" هل تريد شرب القهوة معي؟" اقترحت على اليخاندرو متجاهلة اياه:" يمكننا أخدها في غرفتي... لدي الكثير لأخبرك به"
ابتسم لها اليخاندرو تلك الابتسامة التي تخفي ورائها الكثير من الموانع، عاد ليقف في مكانه و يواجهه:
" أنا مدين لها بحذيث طويل... ان كنا قد انهينا كلامنا..."
" كلا... لم ننهه..." هذا التدخل لم يروق لصوفي التي رمته بنظرات حقودة:" صوفي تتذلل كثيرا مؤخرا و عليها أن تعرف حدودها... نحن نعمل... وهو ليس متوفر لك... و الأن أخرجي من هنا..."
فتحت فمها لتعترض لكنه حجمها بنظرة صارّمة، زمت شفاهها بكراهية لكنها لم تقل شيئا سوى ان استدارت بكرسيها على عقبيها و غادرت المكان... هكذا أفضل... عليها أن تتعلّم عدم مقاطعة زياراتها و معها السيطرة على مشاعرها، اليخاندرو يبدو مرتاحا و متوثرا لرفض طلبه، ربما حان الوقت ليكون واضح معه هو أيضا:
" أريدك أن تبتعد عن ابنتي اليخاندرو... أنت اخترت المرأة التي تنوي امضاء بقية حياتك معها، صداقتك بصوفي تتوقف هنا... و اليوم، اعرف بمشاعرها لك و هي تكون جارحة جدا و مؤذية عندما نسيء اليها، تحكم في رقتك معها، أفضلك أكثر صرامة، عليها أن تقلب صفحتك و تنقل لشيء آخر... هل أنا واضح؟؟"
ان كانت صراحته تفاجئه فعلى الأقل لم يبدي اي اعتراض، رآه يهز رأسه بالايجاب:
" أنت لا يُخفى عنك شيئا؟؟"
" لا يمكنك أن يُخفى عني شيئا..." أكد له بهدوء:" لسيما كل ما يتعلق بعائلتي"
* * *

أن تصل بيوم قبل موعدها يحمسها أكثر لرؤية ردة فعل اليخاندرو، عطلة العيد المدرسية تمنحها فرصة امضاء وقت أكبر في حميمة خطيبها، كما أنها تثوق للقاء توأمه أخيرا، لقد كلمها عنه بإختصار هاتفيا كما انه لم يأتي لزيارتها في لندن منذ قدوم خافيير، يقول بان توأمه صعب العيش و لا يمكنه تركه وراء ظهره دون مراقبة... يخاف أن يستبب بالمصائب.
فريق حراسها بالتأكيد اعلموا والدها بعودتها المبكرة لصقلية، لم تتفاجئ عندما وجدت فرانكو بإنتظارها بالسيارة في المطار، لكنه كان لطيفا جدا بعدم الاعتراض على رغبتها برؤية حبيبها أولا، هذا ربما يُشعر داركو بالغيرة، لكنها تعرف بأنها لن تخرج من بيته ان وطئت قدميها هناك، فلورانس لن تتركها ترحل بالتأكيد، كما ان اشتياقها لأخاها الصغير سيسجنها بجانبه لبقية النهار, لذا خططت برؤية اليخاندرو أولا قبل عائلتها.
قفزت من السيارة ما ان توقف فرانكو أمام بيت اليخاندرو و هرولت نحو الباب متجاوزة الحديقة، انتبهت فورا الى أن سيارة اليخاندرو غير موجودة بينما هناك سيارة غريبة في المرآب، استعملت مفاتيحها الخاصة و استقبلها نباح باكي التي هزلت ذيلها بسعادة ما ان تعرّفت عليها، وضعت بيانكا ركبتيها على الأرض تتلمس فراء الكلبة الناعم:
" اشتقت اليك يا طفلتيّ..."
لكن نباح كلب آخر جعل شعر قفاها ينتصب، وقفت ببطء من مكانها بينما كلب ضخم الجثة يظهر أمامها مثل الدايناصور، هل توجد كلاب بهذه الضخامة؟؟ مالذي يعلفه هذا الحيوان؟ هذا الأخير توقف عن نباحه في الوقت نفسه الذي أمره صوت حاد بالتراجع عن هجومه، فتحت فاهها بينما يظهر أمامها رجل يلف وسطه بمنشفة حمام، يبدو و قد خرج فورا من الحمام، و ربما تنبيه الكلب ما استعجله، لم يكن هذا فقط ما سمّرها في مكانها، بل تصويبه لمسدس نحوها، الشبه بينه و بين اليخاندرو مذهل، اذا كانت نظرات خطيبها رمادية فنظرات خافيير رمادية شفافة للغاية، كبركة مياه في يوم ماطر، جسد اليخاندرو نحيف و عضلي بينما خافيير بعضلات أضخم، تكاد تمزق البشرة التي تخفيها تحتها... كل هذه الوشوم الغريبة لا تخفي شيئا من روعة هذا الجسد، يالها من طريقة غريبة للتعارف، رأته ينزل سلاحه ببطء:
" لا بد أنك خافيير..." قالت له ببعض العصبية.
" و أنت بيانكا... حبيبة شقيقي..."
هزت رأسها بالايجاب:
" أظن أنني أتيت في الوقت الغير المناسب... كنت أنوي مفاجأة اليخاندرو... هو ليس هنا كما أرى..."
تخلى خافيير على ملامحه الحذرة و رسم ابتسامة مغواء متمرس، شعرت بالاحمرار يغزو خديها، حتى اليخاندرو لا يحط عليها نظرات بهذه الجرأة.
"توقع وصولك غدا... و هو يفعل ما بوسعه ليرمي بي خارج بيته قبل عودتك ..."
ابتسمت بيانكا ملئ فمها:
" صدقني هو ليس مستاءا من وجودك في بيته... "
ارخى شفاهه المغرية في حركة خاصة جدا:
" انه غيور... يعتقد بأن اختيارك قد يقع علي في النهاية..."
هزت عينيها الى السماء قبل أن تنفجر ضاحكة:
" يمكننا مناقشة ميولاتي بعد أن..." أشارت بدقنها الى جسده:" تغير هذه المنشفة بملابس لائقة!..."
احنى رأسه لينظر الى المنشفة التي تتوسط خصره النحيف، تهدد بالسقوط في أية بحظة:
" هل أثيرك الى هذه الدرجة ايتها الأميرة...؟"
جعّدت أنفها:
" سبق و حذرني منك اليخاندرو فلا تضيع وقتك معي... سأصنع القهوة ريثما تنهي استحمامك و تتخلص من مسدسك، ان رآه توأمك فلن يتردد جديا في رميك خارج بيته"
كشر بطريقة مسلية:
" هل سيبقى هذا الأمر سرّا بيننا؟؟"
" بالتأكيد... ان توقفت عن مغازلتي لتثير غيرة توأمك فسأحتفظ بالأمر لنفسي...."
أطلت السخرية من نظراته لكنه لم يعلق بشيء، بعد أن القى عليها نظرة أخيرة منحها ظهره و عاد الى غرفته، بعد دقائق ظهر مجددا مرتديا جينز قديم و تي شرت أسود و حذاء رياضي شهد حروب أهلية لا محالة، غريب كيف أن هندامه متناقض تماما مع أناقة توأمه الشديدة، كانت قد حضّرت القهوة و قدّمت اليه فنجانا ثم جلست مقابلا له على لوحة المطبخ الخشبية:
" اذن... فأليخاندرو ينوي الزواج من أميرة..." ثم عاد ليرمقها بطريقته الخاصة:" المحتشمة"
" ليس لدينا نفس مفهوم الحشمة" ردت وهي تبتلع من قهوتها.
وضعية استرخائه كشفت جسده بكل رجولته المدمرة، مع مرور الدقائق تراه لا يشبه حقا خطيبها الهادئ و الرصين، لا يجب للمرأة أن تنخدع بالبنية المدمرة لهذا الرجل فلن يتردد في سحقها تحت كعبه... وسامته مذهلة لا محالة ! و بغض النظر عن مدى تحذير اليخاندرو لها من احتمالية الإغواء ، لم يعدها شيء للصدمة التي شعرت بها عندما ظهر فجأة أمامها... رؤية نسخة ثانية من حبيبها أمر غريب حقا... لكنها متأكدة بأنها ستعتاد الأمر قريبا.
" أميرة لا تحتفظ بلسانها داخل فمها..."
"هيا خافيير... ربما تكون طريقتك الاستثنائية لحماية شقيقك من فتيات سهلات لكنني مختلفة، يمكنك الوثوق بأنه بين ايادي أمينة... أحبه من كل قلبي "
عاد ليسترخي مجددا وهذه المرّة اختفت السخرية و التسلية من نظراته ليرمقها بشيء يشبه ... التقدير؟
" أميرة... فاثنة.. وذكية؟" اشتعلت نظرته في مزاج لاتيني نموذجي:" و ماذا أيضا؟"
" أظنك تشعر بالغيرة لأنني آخده منك..." علّقت متهكمة بإبتسامة كسولة.
" يصدمني عزمك الثابت..." غمز لها بتواطئ.
"أنا أزدهر في التحديات التي تفرضتها علي المواقف .." أعادت له غمزته المتواطئة :"سوف أضيع في بيئة أقل تحفيزًا..."
هذه المرّة انفجر في ضحك صادق و استرخى الجو بينهما و اختفى التوثر، و تغير تعامله معها، اذن فقد نجحت في امتحانه و كسبته، طرح الكثير من الأسئلة التي تتعلق بحياتها، و دراستها في لندن، بدى مفثونا بحذيثها، و مهتما أيضا لإلمامها بعالم الحيوانات... مثله.
ترددت طرقات على الباب مما دفع الكلاب للنباح مجددا، خافير من اهتم بفتحه لمحت فورا سانتياغو بطاقمه الرسمي و تسريحة شعره الصارمة، تفقدها خلف كتف هذا الاخير و رقت نظراته برؤيتها:
" أيتها الأميرة..."
" مرحبا سانتياغو..."
ردت بيانكا تحيته وهي تترك مكانها لتقترب من الرجلين بدورها، ذراع روكو الايمن استعاد صلابة نظراته و حطّها على خافيير:
" العرّاب يريد رؤيتك فورا "
" رؤيتي أنا؟!" سمعت صوت خافيير يستعيد حذره.
" رؤيتك أنت نعم... "
عارض ذلك بحركة رأس قصيرة :
" أنا لا أعرف لما يهتم فجأة رئيسك بأمري؟ أو ربما... هو لم يقم بإرسالك... أحدهم يستعملك للايقاع بي!.. "
لا يبدو أن سانتياغو يملك الوقت أو حتى المزاج لتحمل تماطل خافيير في اللحاق به:
" لو كنت انوي الإيقاع بك لكنت سلفا في صندوق سيارتي... و الأن تفضل أمامي... العرّاب يكره الانتظار"
استدار نحوها خافيير، نظرة متهكمة تطل من عينيه:
" ان اختفيت فإنت تعرفين هوية الخاطف..."
اتسعت ابتسامتها:
" سانتياغو محق... العرّاب يكره الانتظار... أراك لاحقا خافيير و سعدت بالتعرف عليك أخيرا"

* * *
إيموجين تتصرف بمثالية، و يبقى حذرا للاستسلام لنعيمها التام، أمضت الأسابيع الأخيرة في تدليله و تدليل فكتوريا، منحتهما كل الوقت و الاهتمام، حتى انها أحذتث الكثير من التغيرات في روتينه، مثلا أن تجلب الطعام بنفسها الى الشركة ليتقاسموا الغذاء كعائلة، لم يكن هذا فقط ما يتقاسمه معها... غرفة نومه أيضا، تحاول اعادة الشغف الذي جمعهما في الماضي، وهو يحاول أيضا التجاوب مع هذه البادرة، هدم الجدار الشفاف بينه و بين مشاعره، يكفي رؤية ابتسامة ابنته المشعة و السعيدة ليدرك بأنه يقوم بالأمر الصحيح، انهما عائلته، و ايموجين تطالبه بفرصة لإنقاذ زواجهما، ليضع حسما في الموضوع اتصل بمحاميه و جمّد اجراءات الطلاق.
بدوره يحاول تنظيم أوقات عمله، المحرّك الجديد منحه بعض الرضى بعد تعديلات فريقه الأخيرة، أمكن هذا ميغان بالعودة أخيرا الى ميامي، كم فقدت من وزنها بسبب هذا الضغط؟ ثلاثة أو أربعة أرطال لكنه لا يتهاون عندما يتعلق الموضوع بسمعة ارشيبالد.
للمرّة الأولى في سنوات زواجهما الست زيّنوا شجرة العيد بأنفسهم، و كم أسعد هذا ابنته، كانت تنط مثل جرو صغير، تدور من حولهما و تتعلق برقابهما، تألقها اسعده، فهو يحب ابنته بشدة و ان كان منح ايوجين فرصة تغيير فلن يتردد في سبيل رؤية هذه النظرات الزرقاء مشعة مثل الشمس...
لأول مرة ايضا بالأمس شارك في صنع كعك العيد، ايموجين تجد دوما شيئا جديدا تقوم به، بعد عودته من الشركة و في فضاء شقته استقبلته رائحة الفانيليا و التوت البري و القرنفل، زوجته و ابنته اصرتا على وضع مريول على بدلة رجل الاعمال التي يرتديها، بعد ان تخلص من سترته و شمر على ساعديه ساير خطواتهما في صنع 'سانتا كلوز بالعجين'، النتيجة كانت حسنة و انتهى الموضوع بتمريغ وجه ابنته بالطحين بحيث فرت هاربة من هجومه المفاجئ.
وهذه الليلة سيحضران رسميا و منذ أشهر انفصالهما في حفل خيري لجمع التبرعات كما كانت عادتهما كل سنة، ايموجين تتأقلم بسرعة مع أي وضع، كانت متألقة بشدة بجانبه، يدها في يده، كل الأعين مصوبة على أشد الأزواج شهرة، اسم ارشيبالد لامع بشدة كما لا يخفى عن أحد في موسكو وزن اسم مارشال، عرّف زوجته على بعض الشخصيات البارزة من عالم الاقتصاد والثقافة في لوكسمبورج ، وكذلك من المجتمع الروسي. قبل أن يحيط خصرها بذراعه ليمنح اهتمامه للدكتورة كارمن لاوبيز التي تترأس جمعية الأطباء الحرين في جنوب أفريقيا، يقومون بإيصال الخدمات الصحية للمناطق النائية، بسب هذا التوغل مات بعض من أعضاء الجمعية مما تطلب تحسين ظروف عملهم و طلب المساعدات المادية.
" أحب بشدة عملك... أنت أيقونة الطبيبة الناجحة و الطموحة، لابد أن كيليان فخور بك..."
كانت كارمن تتكلم بحرارة لإيموجين التي تورد وجهها من شدة الفخر.
" أنا فخور بها..." تدخل كيليان من باب اللباقة...
" أضع حاليا مهنتي بين قوسين.... أنا وكيليان نفكر في توسيع العائلة..."
هذه الملاحظة لم تروقه بالمرة اذ انها سرعان ما انتشرت من حولهم مثل النّار، حضر عروض الرقص الكلاسيكي و صفق لمغني الأوبرا بصمت، ايموجين شعرت بإبتعاده لكنها لم تعلق بشيءـ، بل تصرفت كزوجة مثالية خلال القائه كلمته و تبرعهما بشيك قيّم للغاية لجمعية كارمن، بحيث تلقت أيضا وعودا بإرسال طائرة محملة بالمساعدات الغذائية و الأدوية من قبل مستشفيات ايموجين، هذه الأخيرة كانت تطير فوق غيوم وردية، خلال رحلة عودتهما لم تتمكن زوجته من امساك لسانها و هما في الليموزين التي تقلهما الى البيت:
" أرى مزاجك سيء"
القى عليها نظرة ثاقبة، ايموجين نفسها و لم تتغير، مازالت المناوزة التي يعرفها، تستغل فكتوريا للوصول الى مبتغاها كما تستعمل الناس من حولهما.
" عدنا لبعضنا منذ أيام قليلة و تتكلمين بثقة عن توسيع العائلة... مالذي تنوينه هذه المرة؟ التعمد مجددا للحمل ؟"
رغم الانارة الطفيفة التي يلقيها الشارع على الليموزين الا انها شحبت تحت زينتها العالية، سبق ووعد نفسه أن ينسى هذا الموضوع، لكنه لا يثق بها، انه عاجز عن منحها ثقته بكل بساطة.
" لا أعرف عما تتكلم..." سمعها تنكر بهدوء... تستحق جائزة الاوسكار لأدائها الرائع.
" أريد أن أكون صريحا معك... حاليا.... انا مكتفي تماما بفكتوريا، خططي المستقبلية لا تتضمن الحصول على أطفال آخرين، الأمور تسير حاليا بشكل جيد لذا لا تفسديها بنشر الاشاعات حولنا كما هي عادتك ايموجين... تعرفين أنني أكره كليا ملاحقة الصحف لي و لحياتي و تعريض ابنتي لخطر التعقب... حاولي تغيير عاداتك لأنها تثير قرفي"
بقيت متصلبة للحظات قبل أن تلتقط نفسا عميقا و تقطع المسافة بينهما و تقبل شفاهه بحرارة:
" أنا آسفة ان طرحت أماني بصوت مرتفع... أنت مهم جدا بالنسبة لي حبيبي... انسى موضوع طفل آخر... فكتوريا ستتعود على أنها طفلة وحيدة و تنسى كليا رغبتها في الحصول على أخ أو أخت..."
تعود للتلاعب بورقة ابنتهما...
" ايموجين... توقفي... أرى جيدا في لعبتك... كوني معي مستقيمة أكون لك زوجا جيدا... لا تتلاعبي معي مجددا ان رغبت بأن يدوم ما بيننا...."
" سأتعلم التحكم في صراحتي..."
" اللؤم لا يدخل في قائمة الصراحة فهناك فرق.... وصلنا..."
اقتحمت الليموزين المرآب الشاسع لناطحة السحاب التي تخص ارشيبالد و يسكن هو في عُليتها، خرج من السيارة قبل ان يفتح له السائق الذي اهتم بإيموجين، هذه الاخيرة كانت متوثرة خلفه، يمكنه الشعور بأنفاسها عليه، لكنه يرغب بالاختلاء بنفسه، منحها فرصة لانجاح زواجهما من اجل فكتوريا لا يعني تقبل عاداتها السيئة، مراوغتها و لؤمها يفوقان حدود تحمله، عندما رافقها الى المصعد الخاص و امتنع عن تقاسمه معها تدخلت ببعض الحدة:
" لا تنوي التهرب فقط لأنني قلت جهرا ما أفكر به؟"
" أريد العمل قليلا... "
" كيليان..." اعترضت بصوت منخفض و قد فقدت نظراتها حدّتها:" لا تبتعد عني مجددا أتوسل اليك... كنا سعيدين جدا مؤخرا..."
" نحن نمثل على بعضنا... لا يمكنني تقبل شخصيتك المسيطرة و المناورة ايموجين... تغيري بصدق و لا تمثلي علي دورا أرفض قطعا تبعك فيه..."
" لا أمثل عليك في حبي, تعرف بأنني متيمة بك..."
{ أنا لا أحبك...} لكنه لم ينطق بما يفكر فيه، ايموجين تملك كبريائها و فكتوريا هي من ستتعدب من شقاقهما مجددا، تعرف زوجته كيفية حشو رأس الصغيرة بالأكاذيب و تعرف أيضا كيفية قلبها ضده، التقط نفسا عميقا:
" أحتاج للعمل قليلا... سألتحق بك "
هذه المرة لم تعترض و انغلق الباب الذهبي لينهي النظرات بينهما.
انه بحاجة لاستعادة سانتو و العمل لحد الارهاق، الطابق الاول هو مساحة التجارب لمحركات ارشيبالد، ضغط على الرقم السري و انفتح الباب امام المحركات التي تعود الى قرن مضى، اقترب من الخزانة ليلتقط بدلة الميكانيكي القاتمة و تخلص من بدلة رجل الاعمال ليعود فورا الى جذوره، العبئ انزاح تلقائيا من كتفيه... لكن هوية أخرى التصقت به... تلك التي تذكره بأن دم يانيس ايميليانو يجري في عروقه، ذلك الصقلي البدائي الذي قتل والدته لأنها أحبته و رمى به في 'هو' كخرقة بالية في الدير... لكنه رغب بذلك أم لم يرغب... يعود له الفضل أيضا بإمتلاكه اليوم محركات ارشيبالد... كيليان ارشيبالد موجود لأن يانيس قرر خلقه بالطريقة التي يريدها و الأغرب أن خططه في تكوينه و انشائه نجحت... بئس هذه الليلة التي يعود فيها يانيس الى تفكيره... ربما لا ينساه يوما... انه يعيش فيه... لقد ورث وجهه اللعين.
مرر أصابعه من خلال شعره الأسود الكثيف ثم تجاهل توثر مشاعره و دنى من المحرك الأخير الذي ينوي تقديمه للعالم قريبا، لقد كان شبه راضي على جهوذ طاقمه، نعم شبه راضي، و ليس راضيا بالمرّة، لأن كيليان مؤخرا اهتم اكثر بالشؤون الادارية و نسي أن ما يحبه أكثر هو الأعمال اليدوية، الفرق بين المحرك الحالي و الأخير هو 35 ثانية عند الفرملة، ربما يكون رقم قياسي لكنه ليس كافيا...
تذكر فجأة انبهار فيرنا بعمله بينما يُعيد الحياة لخردتها المتهالكة، لقد جعلها بقوة مقبولة و لن تعاني مجددا معها بالتأكيد.
" أنت مليئ بالمفاجآت..."
عاد صوتها حيا الى ذاكرته.
فجأة شعر بأن اشتياقه اليها ما يجعله جافا جدا الليلة مع ايموجين و ليس ادعاءاتها الفارغة أمام المدعوين، الحفل الخيري ذكّره بمجهوذ الايطالية صاحبة الشعر الطويل بأمور المهاجرين الغير شرعيين،كان مترددًا جدًا في التخلي عن وحدته الحبيبة لدرجة أنه أخر اللحظة المصيرية لأطول فترة ممكنة للتفكير بها... فيرنا تقلب كيانه ما ان يسمح لها بالدخول الى تفكيره... غريب.... هي التي لا يبدو أنها مهتمة لأمره كإهتمامه لأمرها.
انحنى على المحرك ليركز على كل خلية منه، و اختفى العالم من حوله ليغوص فيما يعرف التحكم فيه حقا أما حياته الشخصية فقد فقد سيطرته عليها منذ أن حطت عيناه على فتاة بوجه فاثن و شعر طويل جدا و اعاقة تتقبلها بكل بساطة.
عندما عاد الى الواقع تفاجئ بأن الساعة تجاوزت السادسة صباحا، أمضى ليلته في اضافة نجمة أخرى للمحرك الجديد و قد أفلح فيما عجز به فريقه المختص، الأن يشعر بأنه ليس شبه راضي... بل سعيد.
الفضل يعود لفيرنا... التفكير في شخصها ايجابي جدا... و سيعمّد محركه الأخير على اسمها... تستحق ان يكون لها وجود...
جلس على الأرض دون ان يتوقف عن النظر الى انجازه، كان يؤلمه كل انش من جسده و بحاجة تامة للراحة، لكنه اخرج هاتفه و كتب رسالة خاصة جدا... رسالة امتنع عنها منذ عودة ايموجين لحياته مجددا.
{ عيد مجيد يا صاحبة الشعر الطويل...}
هناك فرق ساعة بين موسكو و كابري، لابد أن الجميلة ما تزال نائمة، لدهشته وصله الرد:
{ مازلت تتذكرني دون سانتو؟ ظننت أن مخلوقات فضائية قامت بإختطافك}
أقسمت ابتسامة وجهه الى نصفين، لقد تحايل للحصول على رقم هاتفها، استغل توظيفه لإصدقائها و حصل على رقمها بدعوة الاطمئنان منها عن الوضع من فينة لأخرى.
{ ما زلت حيا... و أفكر بك أيضا... انت مبكرة}
{ أنا في سوق السمك.. أشتري ما يلزم للعجزة كما هي العادة...}
قرأ رسالتها مرّتين... ثلاثة... ثم تجرأ بالسؤال:
{ هل يمكنني الإتصال؟}
{ أنت من سيدفع ثمن المكالمة اذن لا مانع لدي}
عاد ليبتسم مجددا أمام روحها المرحة و فعل ما لا يحق له... اعادة التواصل معها، مجرد سماع كلمة مرحبا جعلته يغمض عينيه و يبقيهما كذلك الى نهاية الحوار:
{ سنمضي العيد في ملجئ المقيمين الغير الشرعيين... و نقدم لهم الوجبات للمناسبة و الهدايا لأطفالهم... }
{ لن يكون والدك مسرورا...}
{ لا أحب أعيد الميلاد.... } اعترفت له بهدوء { وقعت الحاذثة ليلة العيد و هذه الفترة تُذكّرني بالفاجعة... آلف والدي و شقيقي العيد في صقلية مع عمّتي و ابنائها ...}
عندما يأتي أحدهم على ذكر صقلية يترآى له فورا أفراد عائلة الايميليانو... لسيما أخاخ الغير الشقيق روكو.
{ أنت وحدك اذن؟}
{ أنا محاطة بأسرة شاسعة.... سانتو... اعذرني لكن... نسيت أن أشكرك على الدعم المادي...}
رباه... هل اكتشفت بأنه هو نفسه كيليان ارشيبالد؟؟
{ لم أفعل شيئا} قال بحذر.
{ ارشيبالد منحت الجمعية المئات و المئات من آلاف الدولارات... و بما ان الشركة معمّدة أمريكية و روسية فقد فكرت بأنك وراء هذا السخاء... أنت الوحيد الروسي الجنسية الذي أعرفه...}
سمع حركة من حوله و أيضا صوت الباب يفتح، لا أحد قد يأتي في هذا الوقت غيرها هي... زوجته.
{ ربما مجهوذاتكم الجبّارة ما أثارت اعجاب ارشيبالد...}
سمعها تضحك ضحكة ناعمة ثم تستعيد جديتها:
{ أنت وراء ذلك الانعام... اخترتني انا سفيرة أرشيبالد... هل هو صديقك؟؟ لا يوجد تفسير آخر قد لا يربطك بما حذث}
{ ربما حمّست بضع أسماء لهذفكم السامي... }
{ أنت رجل شرف و كلمة أيها الروسي... سأرد جميلك بالطريقة التي تريدها}
' أريدك أنت...' احتفظ بالطبع بهذه الملاحظة لنفسه، أغلق الخط في الوقت نفسه الذي ظهرت فيه ايموجين في المكان، كانت ترتدي ملابس رياضة لا تخفي شيئا من جسمها الرائع، بشرتها الشديدة البياض تتناقض من حمالة صدرها الكحلية، شعرها الأحمر المتوهج مربوط في تسريحة ديل حصان، في يدها فنجان قهوة فوّار:
" لم يكن يجذر بي تصديقك عندما وعدتني بعدم التأخر للالتحاق بي.... على ما يبدو أمضيت ليلتك في العمل..." تقدمت منه و منحته فنجان القهوة قبل أن تجلس بجانبه" قمت بتطوير المحرك الاخير؟"
" أضفت بضع تعديلات نعم"
" لما تثق بفريقك عندما تكون الاجدر في الميدان؟!.." قالت بمنطق لا هوادة فيه.
" الفريق عمل بلا انقطاع و لا الومهم, ميغان هجرت لونا كي ترضي تطلباتي"
" الراتب الذي تتقاضاه يستحق هذه التضحيات... ربما يستحسن ايجاد دكتور ميكانيك أمهر ليأخد مكانها، فلا أراها مناسبة لهذا المنصب العالي"
ادار وجهه نحوها و التقت عيناهما، تمتم مُقرّا بهدوء:
" ميغان في مكانها المناسب...!"
" تمنحها الكثير من الأوليات وربما تفهم كرمك بشكل مغاير... مثلا أنك معجب بها!"
هز سانتو حاجبه متهكما:
" كرمي؟؟ تظنين أن ميغان مديرة فروعي الأمريكية لأنني كريم معها؟؟ أنا لا أستعمل الاحسان في الأعمال و ان كانت وراء صورة ارشيبالد فلأنها أكفئ سيدة أعمال قابلتها، انها ذكية لامعة و مثابرة, انصحك الا تمزجي بين غيرتك و عملي اتفقنا؟ لا تحشري انفك في أموري"
رآها تهز كتفيها، و كأنها تعتذر عما تلفضت به:
" لا أنوي التدخل حبيبي، و أظن أن غيرتي مشروعة، لسيما و أنها حرّة منذ انفصالها عن لوكا و تمضي معك من الوقت أكثر مما تمضيه أنت في البيت معي و مع ابنتنا... أعتذر ان تفوهت بكلمات خرقاء... أعرف بأنك مستقيم جدا و أنه خلافا لكل سمعات رجال الأعمال التي تظهر بلا تردد في صفحات الفضائح لم تقم بخيانتي يوما... كما لم أقم أنا بذلك..."
لأن يانيس كان زير نساء متمرس و يغير النساء كما يغير جواربه، يرفض أن يترك جيناته الفاسدة تؤثر به و بروتين حياته الذي جاهذ بشدة كي تكون ما هي عليها اليوم... لكن انجذابه الغريب لفيرنا... هل يجعل منه رجل مستقيم؟
" متى سنتطير الى ميامي؟؟ الكل بإنتظارنا لتمضية العيد...."
" ميامي؟؟"
" نعم ميامي،كما تعودنا كل سنة مع أفراد عائلتي..." شرحت له بينما نظراتها الزمردية اسودت من قلق الرفض الذي يتهيئ له" هذه السنة مهمة جدا لمصالح والدي و تصوير العائلة كاملة سيخدم انتخاباته بالتأكيد... لقد جهزّ أبي جلسات تصوير عائلية و بضع ..."
" ايموجين.."
"..... و بضع لقاءات صحفية لنا... علينا تكذيب شائعة انفصالنا لأن هذا سيضر بأبي..."
ثم تعود لنفس الموضوع، و كأن عودتها الى حياته متعلقة فحسب بمصالح والدها السياسية...
" في كل حياتي... لم أقدم يوما لقاء صحفي واحد... تعرفين بأنني أكره كليا الكشف عن وجهي أمام الكامرات..."
" ربما حان الوقت ليتغير هذا الشيء... أنت رجل لامع جدا كيليان، من حق المجتمع أن يضع صورة حقيقية على اسم ارشيبالد ... "
وضع كوب القهوة جانبا و قفز على قدميه، حان الوقت ليضع حدا لهذه المناقشة السخيفة:
" ان رغبتي بالعودة الى ميامي للاحتفال بالعيد مع أهلك فلا مانع لدي... خدي فكتوريا و استمتعا بوقتكما، أما فيما يخصني فلا نية لي بالظهور على أغلفة الصحف لدعم حملة والدك الانتخابية... "
* * *

متى يُفترض أن تتلاشى هذه التمددات المريبة على بطنها؟ تسائلت 'آيا' وهي تتطلع لجسدها في مرآه الحمام،علامات التمدد أمر شائع في الحمل. وقد أثقل معنوياتها منذ أن بدأت بفقدان وزنها الزائد و فقد جسدها روعته السابقة، استعملت كل المرهمات الممكنة لمنعهم مع اتساع الجلد عندما يبدأ البطن في التبلور،بحيث يتم اختبار مرونة الجلد بشدة أثناء الحمل.
أخبرتها الطبيبة أنه خلال الحمل ينتج الجسم المزيد من الكورتيزول ، وهو هرمون يضعف الكولاجين في الجلد ، وبالتالي أليافه. والأدمة هي التي تتأثر وتقلل من أنسجة الألياف والكولاجين. أول علامات حمراء تتحول الى بيضاء و قد تبقى لبقية العمر...
لا يبدو أنها لم ترث صلابة بشرة والدتها التي تملك بشرة نقية لا تحمل آثار ولاداتها السابقة، كيف سيراها خوسيه بعد الان عندما يعاود محاولاته في اغراءها؟ يمكنها تخيل صدمته أمام هذا التحول المريب، هو الذي يعشق الكمال، يعشق الجمال، هو الذي يتصرف تماما مثل زوج حقيقي معها منذ الولادة، زوج يرغب بعيش زواج طبيعي معها و مع التوأمين...
بالتأكيد يظن بأن جسمها الذي طالما اشعل رغباته الحامية سيتعيد رشاقته و بشرتها تستعيد نضارتها، هي نفسها لا تتحمل رؤية ما آل اليه وضع جسمها... فجماله أصبح من الماضي، البشرة الشابة والواضحة والناعمة هي أيضًا رحلت بلا عودة.
التمددات لم تترك صدرها و شأنه... يبدو بحالة سيئة أيضا... ان كانت نفسها تقترف من نفسها... فمالذي تبقى لها؟؟ ما ان يدرك خوسيه بانها فقدت مع حملها ما جذبه بشدة اليها حتى يرميها كليا كي يستبدلها فورا بجسد جديد... فليس الحب ما شده اليها في البداية بل التفاصيل الانثوية التي الهبت حواسه، كانت مجرد لعبة ممتعة له - لعبة جنسية - حتى يقرر البحث عن المرشحة المناسبة لدور الزوجة الشرعية.. لكن الأمور اتخذت مجرى آخر... وقع الحمل و تزوجها كي يوفر عليها عداء أبدي مع عائلتها...
ثم قرر بعد حصوله على الطفلين أن يكون ما بينهما حقيقيا، لم يصارحها بالكلمات، لكنها شعرت به مختلفا... محبا، رقيقا و متوفرا لها و لإبنيهما، خوسيه مغرم بشدة بحياته الحالية، منذ ثلاثة أسابيع و هو يطفو على سحابة وردية، اعطاء اجتماع هاتفي في مكتبه بينما المادو الصغير ينام على كتفه أصبحت من بين عاداته، بدأت تفتقد أطفالها عندما يأخدهما منها لوقت طويل ولا يعيدهما سوى ليأخدا و جبتهما من صدرها، ثم يبقى هنا... يراقبها تطعمهما كل واحد على حدة، يتجرّعها... تعلم أن كل تفاصيل المشهد ستبقى محفورة في ذهنه إلى الأبد...كما ستبقى فيها شخصيا.
كان من حقها الحلم... الحلم بمستقبل مختلف... بمستقبل جميل.
الحلم بأنها ستستلم لنعيمه، و ستكون نهايتهما شبيهة بنهايات القصص الخرافية، تعرف بأنها السبب في تغيره، التوأمين غيرا حياتهما معا، و تعلق خوسيه الشديد بهما يبعد عنها فكرة ابعادهما عن حضانته و لو جزئيا... وهو بالتأكيد اكتشف الشيء نفسه، اذ انه يكلمها أحيانا عن المستقبل دون ان يتطرق لإنتهاء صلاحيتها في حياته...
لكن الواقع سيعود أذراجه اليه ما ان يخف ولعه بالتوأمين... سيبدأ بإغرائها... و سيكتشف بأنها تغيرت... و أنها... مريعة... سيقرف منها... سيهجرها بـأسوأ الطرق.
ابتعدت عن مرآة الحمام وارتدت روبها لتخفي بشاعة تمدداتها الحمراء التي قرأت عنها بأنه من الصعب جدًا التخلص منها بسهولة.
نصحتها أيضا الإختصاصية بأنه عليها الإنتظار حتى نهاية الحمل والرضاعة، فهناك علاجات مزعجة للغاية تعتمد على كريم فيتامين أ و تطبيقه محليًا. يمكن أيضًا استخدام الجراحة التصالحية. ثم هناك تقشير أو علاجات بالليزر لتقليل الرؤية. ومع ذلك ، فإن النتائج ليست دائما مذهلة.
خوسيه ... المتطلب.. المحب للكمال... لن يتأخر بفقدان اهتمامه بها فور رؤيته لها عارية، يستحسن بها الا تحلم كثيرا بمستقبل معه... هذا لن يحذث اطلاقا، لسيما مع رجل مثله، و عليها ان تحمي نفسها قبل أن يجرحها هو بطريقة قد لا تُشفى منها يوما... ترفض قطعا أن تعري له عن هذه النذوب و التمددات البشعة، لن تمنحه فرصة التقليل منها، ربما هو مثاليا مؤخرا... لكنه في الحقيقة ما يزال هو نفسه... الوحش الذي يستعمل العنف عندما لا يروقه الأمر.
اذا كان يتفادى الكلام في موضوع الطلاق لأنه يعتقد بأنه سيبقيها في سريره و معها أطفالهما بجانبه فعليها هي الا تنسى أبدا بأن أفضل وسيلة الدفاع هي الهجوم، البقاء محايدة سيخدم مصالح قلبها... انها تحبه... تحب الرجل الذي أصبح عليه، تحب النظرات الناعمة التي يرشقها بها، و تلك الابتسامة السعيدة التي ترتسم على وجهه كلما أخد أوزلام ووضعها على كتفه كي تتجشأ بعد انهاء الرضاعة، وكي تكون صريحة مع نفسها... أغرمت ايضا بروتينهما اليومي، بتفاهمهما، نظراتهما المتبادلة، ابتساماتهما المتواطئة، أغرمت بكل ما يجمعها بذلك الساحر الذي أشعرها بأن لها كيان ووجود...
خوسيه يسرق منها ألمادو هذه المرّة بينما أوزلام غارقة في نوم عميق، حان الوقت لتهيء نفسها لطعام العشاء، فهذه الليلة لن تكون دانيلا على طاولة العشاء، هذه الأخيرة طارت الى صقلية كي تمضي العيد مع الايميليانو، هي التي ظنت أن خوسيه سيعترض على هذا... يبدو أن حبه لتلك العائلة يجعله في صفهم و ليس ضدهم.
ارتدت فستان أسود، هذا اللون لا يبرز وزنها الذي ما يزال زائدا بعض الشيء، ربما ستفقده كليا قريبا، بإنتظار ذلك عليها أن تجد الطرق السهلة لتظهر بمظهر لائق.
سمعت خطوات قرب باب الجناح بينما تقوم بتمشيط خصلات شعرها التي تضاعف طوله خلال اشهر حملها، دخل خوسيه جناحها، الصغير بين ذراعيه، كان هذا الأخير غارقا في النوم، كانت آيا تود أن تبقي عينيها مفتوحتين لأخرهما لتسجيل أدنى ثانية من هذا السحر ، لكنها لم تستطع تدلى جفنيها على الرغم من أنها استسلمت لكآبتها الداخلية... خوسيه اكتسب القليل من الوزن الذي فقده سابقا، عاد ليشع وسامة مجددا:
" استدعيت المربية كي تبقى برفقتهما... أنت بحاجة لليلة كاملة من الراحة..." سمعته يقول وهو يضع بكل كياسة و حذر الصغير في سريره.
" انا قادرة على الاهتمام بهما..." اعترضت بصوت جاف.
" لن تناقشيني آيا... سيسيليا ايضا ترى بأنك تهتمين بهما كل الوقت و لا تأخدين قسطك الكافي من الراحة... أنا أريدكم جميعكم بصحة جيدة..."
{ أريدكم جميعكم بصحة جيدة} ياله من وعد جميل... نضارة هواء الشتاء في الخارج لم تساعدها بالتنفس بحرية، أفكارها القاتمة وو عدها بحماية نفسها من غدر هذا الاسباني الوسم يحولان حولها و حول الحلم بالمستحيل... انها عاطفة مؤقتة... خوسيه لن يحبها، و لن يضعها يوما في نفس مرتبة أطفاله... أو بالأحرى أطفالهما.
وضع يديه على كتفيها فشعرت بقشعريرة تسري على طول عمودها الفقري، التقت نظراتهما خلال المرآة.
" ما الأمر كوراسون؟ تبدين شاحبة...؟"
" أتيت منذ أسابيع قليلة على الولادة... تحتاج وجنتاي القليل من الوقت لتستعيد لونها الطبيعي..." ردت بخفة وهي تقف من مقعدها و بالوقت نفسه تبتعد عن لمسته.
عندما أصيبت أوزلام باليرقان و احتاجت لجلسات علاج ضوئي بقي خوسيه معها يومين اضافيين بعد الأسبوع الذي لم يفارقها فيه لحظة واحدة، كل هذا الحب و الولاء يبرهن بأنه مستعد حتى بالتمثيل عليها كي يحتفض بالطفلين معه دون ان تنتزعهما من احضانه حتى لفترة قصيرة في الاسبوع، خوسيه مهووس بطفليه...
وصلت المربية في هذه اللحظة و تركاها مع الصغيرين في الجناح ثم قصدا معا- في جو صامت- غرفة المعيشة، كانت تملئ رئتيها بنكة كوكتيل مسكر الذي اتى على شربه، كانت تمشي مثل الالة بجانبه و قد اتت على اتخاذ قرارها بصده لحماية نفسها من تجريح و هجران قد لا تتحملهما منه،كل شيء تفعله عادة بدون تفكير يأخذ بعدًا جديدًا وغريبًا. سواء كانت تمشي أو تتنفس ، كانت بحاجة إلى التركيز مع كل خطوة ، مع كل نفس.
جذب لها الكرسي لتجلس عليه عندما وصلا أخيرا الى غرفة المعيشة، كانت سيسيليا بإنتظارهما، تهز نحوهما وجهه سعيد و ابتسامة شاسعة، سعيدة بهذا التقارب بينهما، فقد كان هذا هذفها منذ البداية، أن يضحي زواج ابنها حقيقيا:
" مسائك سعيد 'دونيا سيسيليا'..." بشارتها آيا بنبرة تتمناها هادئة، خوسيه جلس مكانه، مقابلا لها، كيف يمكنها التركيز على طعامها بينما تشعر بنظراته المصهورة بالذهب مركزّة عليها بهذه الطريقة؟
" مساء الخير عزيزتي..." ردّت حماتها بلطف:" أمرت بتجهيز غرفة التوأمين كي تنتقل الليلة المربية معهما و تركك تنعمين بالراحة"
" هذا ما قلته لها بالضبط... صحتها مهمة و هذا الشحوب لا يروقني، سوف آخدك غدا الى المستشفى"
هزت عينيها نحوه، تسللت كلماته بحرارة في صدرها... تمتنع عن تذوق هذا الإحساس الخطير... أيها الملاك... أخرج فورا من هذا الجسد الذي سكنه شيطان بقرنين... من أمامها ليس خوسيه... ليس الرجل الجارح و المسيئ:
" أنا بخير... لا تقلق نفسك بشأني..." جاءت كلماتها ممتنة رغما عنها.
" أنت والدة طفلاي... " هذا التأكيد لم يزد سيسيليا سوى ابتهاجا:" من الطبيعي أن أقلق بشأنك..."
مرّت الوجبة في حماسة غير طبيعية، حماتها لا تتوقف عن تدفئة الأجواء بروحها المرحة، كانت تنوي الانسحاب بعد العشاء الا أن هذه الاخيرة أجبرتها تقريبا على الالتحاق بهما في الصالون لشرب القهوة.
" العيد أجبر أقرابنا و اصدقائنا الالتزام ببيوتهم و التخلف عن زيارتنا لرؤية التوأمين... أظن ان الوقت حان لنحدد تاريخ نحتفل به بمعمودية وريثي المارتينيز..." قالت سيسيليا وهي تشرب من فنجان شايها المعطّر:" التحضير يستحق الإعداد له بعناية... دعوة أفراد العائلة والأصدقاء المقربين والعراب والعرابة..."
" روكو اقترح نفسه سلفا بأن يكون عرّابهما... أما العرّابة... فدانيلا بالتأكيد لم تخفي رغبتها بذلك..." قال خوسيه.
لما ليست متفاجئة بشأن اختبار روكو ايميليانو كعرّاب التوائم؟؟ بالنسبة لدانيلا فبالتأكيد سبق و طلبت منها ذلك من قبل و لم تتمكن آيا من رفض طلبها... أين عائلتها هي من كل هذا؟؟
" جيد اذن... " قالت بعد ان انتبهت ان زوجها ووالدته ينتظران رئيها بالموضوع...
تقطيبة خوسيه نبهتها بأنه يقرأ فيها ككتاب مفتوح، مظاهر حساسيتها شديدة الوجود أمام هذا الرجل، ابتعدت عنه بإهتمامها لتحط نظراتها على سيسيليا التي تخطط لإقامة أضخم حفل معمودية شهدتها اسبانيا على ما يبدو:
" غدا عزيزتي يمكننا البدأ بكتابة قائمة معارفك الذين ترغبين بدعوتهم ... أكون سعيدة ان شاركتني بالتجهيزات ..."
كانت تلمح بالتأكيد لتماطلها في تجهيزات زفافهما هي و خوسيه:
" سأكون سعيدة دونيا سيسيليا...ّّ"
حان الوقت للهرب الى غرفتها، قبل أن تتلفظ بكلمة سبقها خوسيه الذي وقف فجأة و مد نحوها يده:
" سنتمشى قليلا في الحديقة قبل أن تخلدي للنوم... هذا سيساعد معدتك بهضم الطعام بشكل أفضل..."
ارتسم الارتباك على ملامحها،الطريقة التي وقف بها شعرها على ذراعيها كإشارة تحذير جعلتها تتكمش مكانها، للحظة ، رأت بصيصًا خيريًا يضيء هذه العيون الذهبية و نسيت حذرها كالسحر، تركت يدها تلتحم بيده، اللمسة متفجرة مثل المعتاد بينهما، بعض الأمور من المستحيل تجاهلها، ظهرت فجأة الخادمة تحمل معطفها الذي أخده منها خوسيه ليساعدها بإرتدائه، تأخرت يديه على كتفيها، لمسته تحرقها بشدة:
" هذا سيُشعرك بالدفئ!"
الشتاء في مدريد بارد وجاف - حتى لو لم يكن هذا شائعًا - يمكن أن تتساقط الثلوج في أواخر كانون الأول و الثاني ، وهو أبرد شهر في السنة بمتوسط 6 درجة مئوية. ومع ذلك ، هناك العديد من الأيام الصافية تمامًا ، مما يسمح بالإحماء تحت أشعة الشمس الظهيرة... ما لا يحذث في بلادها المجرّ... استقبلتهما برودة الليل، البدر ليس كاملا لكنه ينير السماء بشكل مرضي، الأنوار الخافثة للحديقة تنير طريقهما، طول خوسيه يتجاوزها بعدة أقدام، و تشعر بنفسها صغيرة قربه، كان قد ارتدى أيضا معطف الكاشمير الذي يشبهه أكثر بعارض أزياء في مجلة فوغ على رجل أعمال سيد قلعة شاسعة تعود الى قرون مضت... قلعة شُيدت لجدته العربية التي وقع في حبها نبيل اسباني و قرر الزواج بها.
هل النبيل الاسباني... بقي على حبه للأميرة العربية بعد ولادتها؟ مع تمدداتها المريعة؟ أم أنها كانت من الحظ بحيث لم تصاب بشرتها بأذى؟ التقطت أنفاسا عميقة... انها لا تثق بالمرّة بخوسيه... لذا تمنح كل هذه الأهمية للتغيرات التي حذتث على جسمها، فهذا الأخير يمنح الكثير من الأهمية للمظاهر، سينبذها ما ان يكتشف ما تنوي اخفائه عنه بكل قوة:
" أراك صامتة... و مهمومة..."
التقطت أذنيها صوته بينما يصلان الى أشجار اللوز العارية، تعرف بأن هذا المكان سيكون خياليا خلال الربيع، أصلا القلعة بطبيعتها الخلابة و أنهارها تسلب الألباب، مازالت تتذوق طعم الصيف الذي تنفسته في الخارج ، في الشوارع الحيوية.
" صامتة نعم... مهمومة لا..." ردّت بهدوء.
خوسيه ليس غبيا كي لا يفهم بأن ثمة شيئ يزعجها بشدة، منذ الولادة وضعت 'آيا' حذرها جانبا و تجاوت معه بطريقة عفوية، هو الذي قرر نسيان أمر العقد بينهما، ذلك العقد بشروطه القاسية التي تحمي مؤخرته شخصيا، استعمل القواعد الأساسية لكل مساومة جيدة ،بدأ بمقترح غير لائق ، للتأكد من أنها ستقبل بامتنان أقل تنازلاته، و تفاوضت لتحصل على حقها الشرعي، ما كان في بطنها أصبح خارجه... اليوم هو يتعامل مع الوضع بشكل أكثر واقعيه... انه أب لكائنات حقيقية و ليس أراضي البن أو فنادق خمس نجوم ينوي ضمها لأعماله.
وهذا التغير فيها يدق بداخله ناقوس الخطر، لا يريدها ان تبتعد مجددا بعد أن عاشا السلام في الاسابيع الأخيرة.
في غرفة المؤتمرات أمام الشاشتين الكبيرتين حيث مدرائه التنفيدين من Martinez Enterprises و هم يناقشون تقارير مشاريعه المختلفة قيد التنفيذ تحتل 'آيا ' كل أفكاره، في جميع ساعات النهار والليل. كان يستولى على جميع الذرائع لزيادة التواصل بينهما.... أصبح وجودها أمرًا حيويًا مثل الهواء الذي يتنفسه... انه يلعب مع نفسه... لعبة خطيرة تحدها الماسوشية... لسيما وهو يعرف بأن صداقتها وحدها لن تكون كافية... يريدها زوجته.... بكل ما للكلمة من معنى.
يحاول أن يكون أقل أنانية و أكثر تفهما ... مثلا في المستشفى عندما اصابتها "متلازمة اليوم الثالث" التي تحدث للأم في الأيام الأولى بعد الولادة. ... بحيث ظهرت عليها أعراض التهيج و القلق و الضعف و تقلبات المزاج - رد فعل عابر تفسره التغيرات الفسيولوجية - كان بجانبها و ساندها بشدة، لقد قرأ الكثير على اكتئاب ما بعد الولادة الذي يسببه الإنخفاض الهرموني الكبير،في معظم الحالات ، تهدأ الأعراض من تلقاء نفسها دون تدخل، فهل هو وضع 'آيا' أم أنها ما تزال تعاني من هذه التقلبات الهرمونية؟ او من المحتمل أنها لم تعد تعاني من متلازمة اليوم الثالث ولكن من اكتئاب ما بعد الولادة؟وفقا للدراسات ، فإن معدل اكتئاب ما بعد الولادة أعلى بشكل عام بعد ثلاثة أشهر من الولادة وينخفض تدريجيًا بعد ذلك... تغيير جو القلعة قد يفيدها كثيرا، يمكنهم السفر بعد العيد... سيفعل كل ما بجهذه لإسعادها و توطيد علاقتهما.
" تم تجهيز جناح خاص لعائلتك..." شعر بها تتصلب بجانبه:" لست مضطرة لوضعهما في بيتك الصغير" توقفت عن المشي، بدت متفاجئة لمعرفته بالأمر:" لم تأخدي رئي قبل أن تقومين خلسة بشراء البيت.."
" لم أقم بما هو ممنوع أو محرّم... ننوي الانفصال بعد ولادتي و من الطبيعي أن أؤمن لنفسي سقفا... "
هزّ رأسه معترضا:
" مكانك هنا في القلعة... أظنك قد فهمتي نواياي بالإحتفاظ بك بجانبي... بأن نمنح الصغيرين أسرة متلاحمة"
" تعود لتقرر بنفسك!.. لم يكن هذا اتفاقنا منذ البداية... وعدتني أن تمنحني حرّيتي بعد الولادة... لن أغير خططي فقط لأنك تعود مجددا لتبعثر كل شيء في طريقك... عليك أن تتعلم احترام خصوصية الأخرين خوسيه... أنت ترغب بأسرة... أنا أريد حياة أخرى... و أنت لا تدخل في قائمتها..."
نزل الصمت عليهما، كل كلمة تكلفها الكثير، لكنه عليها حماية مصالحها، لن تتأثر بهذه الملامح، و لا هذه النظرات، هي شخصيا لا تهمه... وهذا الملاك أمامها ليس حقيقيا، هذه الأجنحة سيتم قصّها، و يتحول لونه الابيض الطاهر الى الأحمر القاني... لون شياطين الجحيم، ثم ستفقد قلبها... ستحطمها الغيرة عندما يقرر استبدالها لأنها لم تعد تثيره كالمرة الأولى.
" لن أخد كلامك على محمل الجد...سأضع هذا على حساب أعصابك التالفة ... " لم يحمل صوته شيئا من التفهم، بل كانت نبرته جليدية، مهددة، و كأنه يمنحها فرصة التراجع قبل أن يقوم بسحقها تحت نعله:" افهي آيا.. بأنني لا أمنح للمرء فرصتين... قمت بطرح موضوع جدي و انت تهدرين وقتك بالرفض، فكري في المادو و أوزلام... أمامنا طريق طويل لتربيتهما معا.. حشوهما بالكثير من المبادئ و الأخلاق النبيلة... لن يعيش طفلاي في بيتين منفصلين... لن اسمح بهذا ابدا... أمامك العرض... اما ان تقبلي أو ترفضي فلا أحد سيجبرك على وضع سذاجتك جانبا و التفكير بعقلانية اكبر... "
أعمت الدموع عينيها... اكثر ما تريده هو البقاء معه و مع الطفلين، لكنها تعرفه جيدا... تعرف معدنه الفاسد، تعرف ما هو قادر عليه ما ان يفقد اهتمامه بها، وهي ليست امرأة هشة ولا ضعيفة، لن يقتلها الاكتئاب كما حذث مع زوجته الأولى فقط لأن زوجها لم يكن قادرا على الوفاء لها، كيف ستُفهمه بأنه هو المشكلة و ليس هي؟ كيف ستخبره بأن الجسد الجميل الذي تغزل به في الماضي رحل لغير رجعة؟ لو تزوجا عن حب...كانت الأمور لتتغير بالتأكيد.
" أعرف بأنني أثيرك آيا..." تغيرت رنّته وهو يدنو منها ليضع أصابعه على وجهها:" يمكننا استغلال هذه الكيميائية بيننا لانجاح زواجنا... هل تتوقعي مني أن أعيش مثل الراهب؟ وأنت ، هل تنوي العيش مثل راهبة؟ بينما كل منا مشدود للأخر؟!... آيا... هل تتذكرين ليالينا الحارّة في جنوب افريقيا؟! لم يهم نوع الاتفاق بيننا حينها كما همّ نوع الانجذاب الكبريتي الذي جمعنا..."
تغلب صوت رغبته الأجش على دفاعاتها الأخيرة... أغمضت عينيها بينما تلامس أصابعه خطوط فكها،كانت تغلي من العواطف المسلوقة فيها... جاهزة للانفجار في أي لحظة.
" ذلك لم يمنعك من الخروج فورا مع حبيبة الثلاث سنوات... جوليانا..." الغيرة خنقت صوتها.
" انتهى ما بيننا منذ فترة... ظننت بأنه يمكنني نسيان رغبتي بك بين أحضانها... لقد أخطأت التقدير..."
انهى علاقتهما؟؟ الخبر صدمها، تعرف بأن خوسيه كان متعلق جدا بتلك الصهباء الرائعة التي تشبه زهور الربيع في نضارتها...تجعد أنفها في عبوس مرتبك.
" و يجذر بي تصديقك؟!"
لقد تحدثت غريزيًا ، دون التفكير في المعنى الأعمق لكلماتها... خوسيه لا يختبئ أبدا وراء الكذب... انه رجل صريح، وصراحته تكون مؤذية أحيانا... في بادئ الأمر، ظل صامتًا ولم يرد على استفزازها ، وجهه خالٍ من التعبير، رأته يمد يده مجددا ويلمس خدها بأطراف أصابعه.
كان يجب أن تهرب بعيداً ، عندما تبدأ بإستعمال عاطفتها فهي تفشل تماما في السيطرة على الوضع، خوسيه لا يستحق أن تضع حذرها جانبا، لأنه لن يتردد بسحقها ان قررت المضي في قرارها... سيجد كل الوسائل الممكنة للضغط عليها كي لا تُخرج التوأمين من القلعة...
" تحتاجين لبرهان ملموس...؟؟"
فهمت مقصده عندما أمسك بدقنها و انحنى بهيئته المميزة عليها، شعرت بأنه سيغمى عليها من قوة انفعالاتها عندما لامس فمه شفاهها المرتجفة، غريزيا تعلقت بكتفيه كي لا تقع، خوسيه يريد اثبات شيء بقبلته... و ربما... اثبات شيئا لنفسه، لأن قبلته الرقيقة انسلخت لشيء أكثر عمقا ... و بدل الهرب... استسلمت له بكل كيانها..هي تهرب بمجرد أن يكون لديها انطباع بعدم السيطرة على الوضع... خوسيه محق... الكيميائية بينهما قوية بقوة الزلازل و البراكين... لايمكن لشيء ان يقف أمام ما يدفع كل منهما للأخر، نسيت تشوهات بطنها و أفكارها القاتمة و تحول برد الشتاء الى صحراء، النار التي يشعلها فيها خوسيه أقوى من اي احساس دخيل... انهما هنا... في العتمة، بين أحضان الاشجار العارية من الاوراق، بإنتظار الربيع لتزهر مرة أخرى، جسدها يرتجف بشدة بين ذراعيه، شفاهه تلتهمها... تمتلكها حتى الأعماق.
تسللت يديه داخل معطفها، فرضت احتكاكًا مستمرًا على بشرتها مما تسبب لها بسكتة دماغية مرارًا وتكرارًا في الدقائق المتعاقبة ، مهما كان المكان أو الزمان أو الظروف... يكفي ان يضع عليها يده لتتلاشى كليا.
" تعالي الى غرفتي..."
هذه الدعوة أتت مثل دلو مياه مثلجة على النار التي الهبتها لحد الانصهار، انها انثى بإحتياجاتها و لم تتذوق الجنس مجددا منذ علاقتهما الماضية، وهي بالتأكيد تثوق لذلك... لكن... لن يحب مطلقا ما سيراه.
" لم... لم يكن يجذر بنا فعل هذا..." ابتعدت عنه مما اجبره على استعادة يديه، كسر الاتصال الجسدي لم يمنعها من الشعور بخيبة مريرة.
" لم يكن يجذر بنا ماذا؟؟ الاستسلام للرغبة التي تغلي بذاخلنا؟؟ هيا ... أنت زوجتي... يمكننا التمادي أكثر واستهلاك زواجنا بالطريقة التي تريحنا..."
" هذا بالضبط ما يجب تجنبه..." اعترضت بصوت صارم " لأن زواجنا صوريا و لا أنوي تغيير ركائزه..."
حتى في العتمة، يمكنها رؤية الغضب الذي أخد مكان الرغبة التي كانت تغلف نظراته الذهبية، هذه الأخيرة لم تعد ساحرة أو آسرة، بل خطرة... كلامها نجح بجرحه:
" رئيك بلا أهمية آيا... في هذا الزواج، أنا وحدي من يقرر... تحديني و سأعرّي لك عن الوجه الأخر..."
تفضل هذا الخوسيه الذي تعرفه جيدا، على الأخر الذي يربكها و يجعلها غريبة عن نفسها.
" سبق و تعاملت مع وجهك الأخر خوسيه..."
" انت مخطئة... هذه المرّة... لا تقتصر اللعبة علينا وحدنا، هناك أوزلام و المادو... و أنا... لن أخاطر بهما..."
استفزت الحيوان فيه، هذا سيضع بينهما المسافة المطلوبة، انها تقف أمام أخطر الحيوانات المفترسة في العالم ...ولم يكن هناك جدار بينها وبينه، و بما أنها نجحت في اخماد رغبته بها فيمكنها الاتجاء الى غرفتها بسلام.
" ليلة سعيدة خوسيه..."
قلبها كان يتمزق بينما تدير له ظهرها استعدادا للهروب:
" هل هذا حقا ما تريدينه؟؟ أن أنشغل عنك بإمرأة أخرى؟"
لا... ليس هذا ما تريده، الغيرة ستحرقها و تقودها الى الجنون، أمسك بمعصمها بعنف لدرجة انها شعرت بعضامها تتصدع تحت أصابعه الحديدية، تطلعت اليه بتحدي، لن يفلح في جعلها تغير رئيها... سينبذها ما ان يكتشف بأنها لم تعود جميلة.
" أخبريني لما تتصرفين بهذه الطريقة؟؟"
" لأنني لا أحبك خوسيه..."هذه الضربة القاضية لم تكن له فحسب، بل أفشلت أيضا ركبتيها و سمعت قلبها يتحطم داخل صدرها:" أنا مكتفية ذاتيًا... مستقلة عاطفيا... أحب حياتي كما هي ، ومشاركتها مع شخص مثلك ستكون في أحسن الأحوال محفوفة بالمخاطر ومعقدة ... في أسوأ الأحوال ، كابوس مريع... بيننا عقد خوسيه... أريدك أن تطلقني و أن تحترم كلمتك"
ترك معصمها هذه المرّة، فشلت في تشفير أي تعبير على وجهه، اختفى خوسيه الملاك و عادت لتقف بوجه من ساومها بعذريتها، الرجل الذي لم يتردد بصفعها في تركيا عندما اكتشف بانها أخفت عنه حملها... كل هذا لا يُشعرها بالرضى، انها تتمزق ذاخليا... تثوق لهذه العائلة المتلاحمة التي كلمها عنها قبل قليل بكل حماسة... تعرف بأن هذه الأماني تبقى أحلام مستحيلة... خوسيه سيتبذلها ما ان تستأمنه على سرّها... لن يمكن لرجل - يعشق الكمال - تقبل شكلها الجديد، هي نفسها لا تتقبله أو حتى تتحمل النظر اليه.
" ليلة سعيدة..."
* * *

ملك جاسم likes this.

أميرة الحب غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 05-11-20, 03:01 PM   #3809

أميرة الحب

مشرفة وكاتبة في قلوب أحلام وكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء وعضوة في فريق الترجمة

alkap ~
 
الصورة الرمزية أميرة الحب

? العضوٌ??? » 53637
?  التسِجيلٌ » Oct 2008
? مشَارَ?اتْي » 14,442
?  مُ?إني » فرنسا ايطاليا
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Morocco
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » أميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   cola
¬» قناتك fox
?? ??? ~
https://www.facebook.com/الكاتبة-أميرة-الحب-princesse-de-lamour-305138130092638/
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

الفصل العاشر


اصرار 'وارين جانيس' على الخروج مع ميغان جعل هذه الأخيرة تقبل منحه فرصه، فلا برودها و لا بعدها تمكنا من افشال كل محاولاته، 'وارين' مصور محترف، الحصول على عقد معه هو انجاز في حد ذاته، كان من أم أمريكية افريقية و أب كندي، لذا فإن بشرته السمراء و عيناه الملوّنة يجعلا وسامته استثنائية بشكل كبير، قبل سنتين وارين من استلم تصويرها مع دعاية ارشيبالد لمحركاتها الجديدة و هذه السنة تعاقدت مجددا ارشيبالد معه و لا يبدو أنه ينوي التأثر بالمسافة التي وضعتها بينهما، ثم انها بحاجة ماسة لرجل في حياتها... لأنها كلما رأت لوكا...تتقاتل أمام رغبتها بإلقاء نفسها عليه لتقطيع وجهه المتغطرس بمخالبها.
'وارين' لم يتردد بدعوتها لإمضاء العيد مع أهله و أصدقائه، الشيء الذي لا تنوي قبوله بالتأكيد، قبول هذا الشيء سيضع طابع رسمي على ما لا يوجد حقا بينهما، انه عشائهما الأول الرسمي... تتمنى فحسب أن يكون خفيف الظل كما يبدو عليه في كل لقاءاتهما القديمة.
تفقه لكمية هوسه بها، انها تمنح فرصة لرجل لم يعد يرى غيرها هي في المدينة و ينوي بكل الطرق كسر مقاومتها ، قلبت الأشياء في رأسها وفحصتها و حللتها من جميع الزوايا الممكنةـ.. حسبتها ، و وزنتها و اكتشفت بأنها ان لم تمنحه فرصة فلن تعرف ان كان حقا الرجل المناسب لها أو العكس.
طالما كانت حذرة فيما يخص الرجال، لوكا لم يكن حبيبها الأول و لن يكون الأخير، لكنها تستثنيه عن غيره لأنه الوحيد التي لم تستعمل معه رذاراتها و اهملت الاستماع الى حاستها السادسة، أغرمت فورا بإشراقة نظراته، الغمازة الصغيرة على ذقنه ، و صوته وضحكته المعسولة التي تجعلها تثوق لفركه مثل هرّة الى أن يخرخر... في النهاية لم يكن يشبه القطط في شيء... كان ببساطة فهد يقض يعرف تمام ما يريده من فريسة ساذجة.
" لا تفكري به ميغان... لا تفعلي..."
نهرت نفسها و هي أمام المرآة تثبت قرطها الذهبي في أذنها و تتفقد زينتها و هندامها... كانت قد اختارت لهذا العشاء فستان أخضر غامق بحزام ذهبي يتماشى مع حذائها العالي الكعبين، فيما يخص الاناقة فميغان بالتأكيد تتربع على عرشها... تعترف بأنها تملك ضعف شديد اتجاه الملابس و الأحذية.
أمسكت بقارورة عطرها ورشت رشة هنا و هناك قبل أن تكشر، امتنعت عن استعمال عطرها السابق بسبب لوكا الذي لا يتوقف عن مدحه، و هو يفكرها به دوما، الكثير من العادات تخلت عنها بسبب السافل مارشال، هو الذي يعود لمحاولة الاصطياد في المياه العكرة بدعوى علاقتها الواهمة مع زوج شقيقته.
" أنت رائعة..." علّقت لونا ما ان سقطت عيناها عليها في الصالون.
الصغيرة كانت ترتدي البيجاما، تتأهب للنوم، ابنة جارتها المراهقة تقوم بدور المربية من فينة لأخرى و تدفع لها ميغان جيدا، كما أن لونا تحبها كثيرا و تتفاهم معها.
" و أنت رائعة يا عزيزتي... لا تتأخري اتفقنا؟؟ عليك ان تنامي جيدا الليلة لأننا سنتسوق غدا لننهي هدايا العيد..."
أعطت لوارين موعدا في المطعم الذي اختاراه معا، انه الوحيد الذي لم تتردد اليه مع لوكا، فمعه زارت كل بقاع البلاد و حتى خارجها، حياتهما كانت جميلة، لغبائها ظنت أن الموضوع سيستمر، و لما لا أن يتزوجان و يمنحان لونا أختا أو خا.؟ عودتها الى أرض الواقع كانت مؤلمة جدا...
بعده حاولت استبذاله فقط لتمضية الوقت و تتسلى كما تفرضه عليها وحدتها و أيضا حريتها الجنسية، في المرة الأولى التي سقط اختيارها على رجل في حانة قبلت بتحرشه بها، لكنه لم يكن بالمستوى المطلوب و عندما رفضته انفجر في وجهها و طالبها بسداد ثمن الكؤوس التي دفع ثمنها، تبعته سلسلة لقاءات طويلة و لم تجد من يسد الثغر الذي تركه لوكا خلفه، كانت متطلبة للغاية، و كل رجل فشل في الوصول اليها... انغلقت بعد ذلك على نفسها و اهتمت بالمهام التي تركها لها كيليان، و اليوم تقوم بالمحاولة مجددا، وارين وسيم، يملك جسد رائع، و مع القليل من الحظ قد يكون رائعا في السرير، ان كانت تصدق طرقه في التهامها بنظراته فمن الممكن انها عثرت حقا عما بحتث عنه لسد احتياجاتها المتعلقة بلوكا... ذلك السافل لا يستحقها... و لم يستحق الحب الذي تكون تذريجيا في قلبها نحوه.
لقد مرت بالضبط ثلاث سنوات وأربعة أشهر أسبوعين و ثلاثة أيام منذ أن مارست الحب آخر مرّة مع رجل... و هذا الرجل هو لوكا... حان الوقت لقلب الصفحة بشكل نهائي... مهما يكن وارين فلن يصل لحقارة لوكا مارشال.,, الليلة هي متوهجة... و مستعدة لقبول دعوة وارين ان دعاها لتمضية الليل في شقته...الجنس خيارًا بالنسبة لها من أجل تخفيف آلامها الداخلية... ترفض التفكير بأنها ربما تتصرف كعاهرة.
تحتاج ببساطة لقاء رجل...لا تستطيع نسيانه... رجل ينجح بحذف لوكا كليا من رأسها.
تصرف وارين بطريقة متحضّرة، عكس كل أمانيها فلا يبدو بأنه مستعجل عل اغوائها، كانت السهرة لطيفة جدا و هو كان رائعا بالمعنى الحرفي للكلمة، رؤية أحد افراد مارشال في هذا المطعم الحميمي قطع شهيتها، ناومي مختلفة تماما على ايموجين، انها صديقة لها نوعا ما، فلنقل أنها الوحيدة التي تأثرت من انفصالها عن لوكا، لم تكن بمفردها بل مع شاب بملامح أروبية-أسيوية، قدمته لها على أساس كين ريتشي، أحد عملائها، لم يكن هذا فقط... هذه الأخيرة قررت انهاء سهرتهما معهما في الطاولة مما أخفق اي محاولة حوار حميمية.
" دعيني أخد صورة..."
التقطت لهما صورة سيلفي، تستطيع ميغان أن تتنفس اخيرا بعد ان تركتهما و شأنها، رفيقها لم يبدو متأثرا بهذه المقاطعة، أما فيما يخصها فقد فقدت كليا رغبتها في اتمام السهرة... طلبت كؤوس زيادة من التيكيلا... تحب أن تشرب... ليس لدرجة فقدان عقلها ، لا ، لكنها تحب النسيان ، الطريقة التي تخفف بها بعض المشروبات حدود ذهنها وتقلل من الحاجة الماسة في داخلها لوجود لوكا...
ما يجعله حاضرا بقوة في عقلها هي صورته المنتشرة في كل الجرائد الورقية و الالكترونة، والصحافة مهتمة بشدة بالمرشال لأن والوالد مرشح سياسيا... لوكا بلأمس ظهر مع امرأة جديدة... كانت تتأبط ذراعه و هما يخرجان من أحد مطاعم ميامي الشهيرة.
" أرقصي معي..."
لم تتردد أمام طلب رفيقها، الكل يتمايل على لحن عذب فوق منصة الرقص، أمسك بيدها.. أصابعهما متشابكة.. وقادها إلى منتصف الحلبة... وقربها منه... يده على مقاس خصرها تماما، ضمها اليه أكثر مما تدعوه الحاجة.
لقد مر وقت طويل جدًا منذ أن رقصت مع شخص ما ، و زمن منذ أن حطت أيادي بشرية عليها، لكنها تشعر بنفسها منفصلة تماما عن الواقع... رغما عن أنفها لوكا يحتجز عقلها و تفكيرها.
" مالذي تفكرين فيه؟" تسلل صوته الى أذنها.
" لاشيء..."
في كثير من الأحيان يكون الجواب كذبة.
لا أحد يفكر في أي شيء... العقل البشري لا يتوقف أبدًا عن التفكير ولا يصبح فارغًا أبدًا ، دائمًا ما يعود إلى مشكلة أو فكرة ، حتى عندما يبدو أنه في حالة راحة....
الأوقات الوحيدة التي لا تفكر فيها في أي شيء تقريبًا هي عندما تغرق في العمل .. بقية الوقت أفكارها مثل السنجاب على العجلة ، فهي تدور بلا نهاية دون الوصول إلى أي مكان...ما حذث بينها و بين لوكا في أول لقاء... نادرا ما يعيشه المرء في حياته...كانت ثقتها به عمياء بفضل تصرفاته معها... ثم تحولت الأمور لكابوس...فقد كانت تفتقر للخبرة ... هذه الحقيقة و عليها التعايش معها...
" أممم... رائحتك لذيذة"
وارين يحب اظهار المودة علنا على ما يبدو، هزت دقنها و ابتسمت له:
" و أنت راقص جيد..."
ركزت عليه ، ابتسامتها تفقد القليل من جانبها القسري بينما تسمع اقتراحه:
" ما رأيك أن نتمم سهرتنا في مكان أكثر راحة من هنا؟"
هذا ما كانت نواياها هي أيضا منذ مغادرتها بيتها، لكن الأن بينما يصبح الموضوع واقعا بدأت تشعر بالتراجع، هل هذا حقا ما تريده؟؟ مشاركة حميمية وارين لأن غضبها فاق الحد المعقول بسبب حياة لوكا الماجنة؟؟ اليس من الأفضل أن تتريث اذ سيعتقد وارين بأنها فتاة سهلة المنال؟؟ عكس توقعاتها سمعت نفسها تقول:
" فلنمضي اذن..."
ربما شربت كثيرا، لكنها تعي أيضا ما تفعله، انها بصدد منح رجل آخر فرصة اخراج لوكا كليا من كيانها، من الصعب جدا أن تسكن المرأة نفس المدينة مع رجل حطّم قلبها، و تضطر لمقابلته و التعامل معه ايضا بسبب العمل و ربما بسبب قرابته مع رئيسها، و لوكا مؤخرا لا ينتظر الفرص المناسبة ليظهر أمامها و يملئها بسموم كلماته.
" سوف أدفع الفاتورة و أبحث عن سيارتي في المرآب انتظريني خارجا"
التقطت معطفها من الموظفة و اتممت اغلاق ازراه خارجا.
كان الثلج يتساقط، تتمتع نيويورك في كانون الأول بجو ساحر، جو عيد الميلاد موجود في كل مكان. تلقائيا عادت بها الذاكرة إلى الطفولة و تزلجها في حلبات الجليد في موسكو مع شقيقتها، لا شيء تبقى لديها سوى ذكريات عزيزة... و لونا... الطفلة التي فقدت والديها باكرا جدا.
البرد هنا لا يشبه بالتأكيد البرد في بلادها لذا فهي تتحملّه بكل طبيعية، لكن زينة العيد في الشوارع تدفعها للاعجاب رغم قتامة أفكارها، عندما ظنت بأنها تملك مستقبلا مع لوكا و قبل أن تفقد شقيقتها في ذلك الحاذث المريب الذي سلبها آخر أفراد عائلتها، قبلت دعوة مارشال لتمضية ليلة العيد في بيتهم الريفي، أخبروها أنها أول امرأة يجلبها ابنهم الى البيت، لغبائها ظنت أنها تهمه و ربما يجدها مختلفة.
صرير قوي لسيارة سبور سوداء أخرجها من أفكارها، السائق ترجل من سيارته و اغلق الباب خلفه ببعض الحدة، تباطئ هيجانه بينما يراها خارجا، هذا الرجل لم يكن سوى لوكا مارشال، بحق الجحيم مالذي يفعله في نيويورك؟؟ الم ترى هذا الصباح بأنه في ميامي مع انجازه الأخير..؟ رغم الدم الذي تجمّد في عروقها لكنها تجرعته بعينيها مثل التاكيلا التي بالغت بشربها، كان معطفه الكاشمير يصل الى ركبتيه، تحته بنطال قاتم و قفازين سوداوين يحميان يديه من البرد، خصلات شعره السوداء علقت بها بضع بلورات دقيقة من الجليد.
لا يمكن أن يكون مجيئه الى هنا مصادفة، تفهم من تلقى سيلفي ناومي هذه الليلة، لوكا هنا من أجلها و ليس من أجل شقيقته.
" تعالي معي..."
" أتركني..." صرخت به وهي تنتزع ذراعها من يده بقوة:" من تعتقد نفسك لتجرني خلفك بهذه الطريقة؟!.."
أمن المطعم تدخل فورا لحمايتها من محاولة اختطاف بديهية، اختلطت انفاسهما في برودة ليلة شتوية، هز لوكا ذراعه نحو الرجلين الضخمين الجثة الذين اقتربا منهما:
" بهدوء يا رفاق... هذه المرأة هي صديقتي..."
" كنت صديقته..." صححت بصوت جليدي:" اليوم أنا أخرج مع رجل آخر و أنتظر جلبه سيارته من المرآب..."
" أنت تضيعين وقتك ووقتي لأنك لن تذهبي معه الى أي مكان..." ثم عاد ليطبق على ذراعها مجددا و يتوجه بكلامه هذه المرة الى الحارسين " نزوات نسائية... "
التفاهة أصبحت عنوان ما يحذث الان، سيارة رمادية أخرى توقفت خلف السيارة الأولى و رأت وارين يخرج منها و يقصدهما فورا، لابد انه لاحظ فورا بأنها في موقف مريب:
" انت... ابتعد عنها..."
لكن وارين لم يتمكن من تكرار هذه الكلمات الصلبة الأمرة لأن هيجان لوكا كله وضعه في لكمة سددها فورا الى فك غريمه، الصدمة شلت ميغان بينما ترى شراسة الهجوم الجسدي أمامها، وارين لم يسمح له بالتأكيد تحجيمه و ابرز مواهبه في البوكس، اشتبكت الأيادي و تدخل الأمن لتفرقتهم، سمعت صوت ناومي خلفها:
" مالذي يحذث بحق الجحيم؟"
" شقيقك ينوي قتل الرجل الذي كنت أنوي تمضية الليلة معه"
عندما فهمت ناومي بأن شقيقها هو من في الاشتباك تدخلت فورا ووضعت نفسها بينهما في محاولة يائسة مع الأخرين لحد النزاع، ميغان لم يعد بإمكانها تحمل سخرية ما يحذث أمامها، لوكا يكره بالتأكيد أن يخسر و رفضها المستمر له مؤخرا ضرّ بشدة غروره الذكوري، تحت ستارة الثلوج المتهاطلة فرت دون الرؤية خلفها، أشارت الى سيارة أجرة التي توقفت فورا لها، بينما تتسلل الى المقعد الخلفي القت نظرة أخيرة الى الحلقة المتجمهرة أمام المطعم... توقفت الاشتباكات، لوكا بصدد البحث عنها.
* * *
ان كان قد قطع كليا صلته بديل ماريا فوالدته و شقيقاته لم يحذون حذوه، و قد وجدها ببيت أهله الليلة، حاول التواصل مع والده طيلة اليوم و لكن هذا الأخير اقترح عليه في النهاية المرور الى البيت للتكلم في مكتبه.
" مساء الخير داركو و عيد مجيد..."
هكذا استقبلته المرأة التي ظنت بأنه بمقدورها جرّه من أنفه فقط لأنه كان غبيا جدا للوثوق بها، لكنه لم يعد حتى بإمكانه التظاهر أمامها، القى نظرة سوداء الى والدته، لا يفهم لما تستمر في صداقتها مع هذه العائلة بعد كل ما تسببت به من دمار في زواجه.
" لا تقتربي مني فكتوريا..."
"لا تخاف... فأنا لا أكل لحم البشر..." قالت متهكمة.
" لست خائفا على نفسي بل عليك... خطوة أخرى نحوي و سأقوم بقتلك..." هي ليست من النوع الذي يلعب دور الحياء الزائف، لا تخفي عن العيون الأنثوية بأن ما تريده منه ما يزال قائما و ليس رفضه ما سيحبط عزيمتها، تجاهلها كليا ثم سأل والدته بجفاف:" أين والدي؟؟"
" في مكتبه مع سيزار..."
سيزار؟ مالذي يفعله قريبه من سيليو؟؟ أم أن الأمير العجوز تعمّد دعوته أيضا؟ واع بنظرات الجميع عليه قصد مكتب والده، و دون ان يطرق الباب دخل للمكان الذي يجمع كل صور أسلافه الزيتية عدا صورته، كان سيزار يتواجه مع سيليو، من ملامح وجهه يبدو متقددا من الغضب، ثم ابتعد عنه يحاول استعادة سيطرته على نفسه:
" مالذي تفعله هنا؟؟" سأله داركو مباشرة.
" اتصل بي والدك كي أحضر نقاشكما الذي لا أؤيده تماما ... "
" لأنه يعرف بأنني هنا كي أنصحه بالا يحشر أنفه في حياتي اللعينة..." زمجر داركو وهو يواجه سيليو الذي لا يبدو متأثرا بإنزعاجه:" أنت السبب في توقيف شحنة اليخاندرو في جينوفا؟؟"
" لا أعرف عما تتكلم؟؟" قال سيليو، صوته يفتقد بشدة للمصداقية.
" هو من فعل نعم..." أكّد سيزار الذي عاد صوته ليرتجف من الغضب:" روكو اهتم بالموضوع وفك الحصار على سلعة اليخاندرو... "
هز سيليو عينيه الى السماء، داركو أصبح غير قادر كليا على التحكم في هيجانه:
" أي لعبة تلعبها معه بحق الجحيم؟؟ لما تسلط لعنتك على رجل بلا مشاكل و يتاجر بشرعية تامة؟؟ "
" لا يريده مع بيانكا..." شرح سيزار بإشمئزاز.
" تريد ابعاده عن صقلية فقط لأن اسمه لا يليق بالفالكوني؟ " قال داركو بعنف " هل يجب ان اذكرك بأن بيانكا غير شرعية ايضا؟ لم اتزوج يوما من والدتها لتحصل على شرعيتها الكاملة لذا فهي ليست حقا أميرة و ذلك اللقب حصلت عليه شفاهيا فحسب الوحيد الذي يحمل كل الشروط المطلوبة ليكون اميرا هو نيكولاي"
" لا مكان لذلك الرجل في عائلتنا..." قال سيليو بلهجة متعالية:" حتى انه ليس ايطالي... وهو أكبر منها و أنت جاهل كي تفكر بأنهما يليقان ببعضهما..."
" من يجب أن تقلق بشأنه هو اليخاندرو..." قاطعه داركو بجليدية:" أجهل لما يتشبث بإمرأة غير قادرة على منحه وريثا!...."
سقط الصمت فورا على المكتب، هل بدأ سيليو يفهم بأن الأمتيازات التي يظن أن غريمه سيأخدها من هذا الزواج واهمة؟
" انه يحبها أبي... لذا أرجوك... أتركه و شأنه... " انخفضت لهجة داركو الحّادة:" اليخاندرو صديقي قبل أن يكون صهري... لن أسمح لك بالضرار بمصالحه فقط لأنه ليس ايطالي كفاية كي يتزوج حفيذتك...ّّ"
" بيانكا صغيرة جدا على الزواج..."
قاطعه بهدوء:
" سيتزوجان بعد انهائها دراستها فهل هذا يرضيك؟" لم يرد سيليو مما اضطره للسؤال " تظن بأنك تحبها أكثر مني أبي؟"
"ما اظنه هو ان ذلك المكسيكي لا مكان له في عائلتنا"
"إذن فالمشكلة ليست بيانكا انما في عنصريتك؟"
" لا تملك بعد نظر يا بني..." لامه سيليو ببرود:" لو أنك منحت دافيد ريتشي فرصة لما التقطت بيانكا من زبالة المجتمع... تحريت عن ذلك الرجل... تلتصق بكتفيه فضيحة جعلته يهرب من المكسيك... هل هذا حقا ما تريده؟؟ الم تتسائل ان كان قد ورث من جينات والده المجرم؟؟ الا تتعرض بيانكا لما تعرضت له والدته؟"
شعر داركو بالاسى لسفالة هذه الكلمات، يؤلمه بشدة أن يتم انتقاض صديقه بهذه الطريقة المريبة:
" أمرك بإنهاء هذه المهزلة فورا..."
" تأمرني؟؟" سأل داركو دون ان يخفي مفاجئته:" تظن بأنك في مكان يؤهلك اليوم بأمري بأي شيء؟؟ ربما هناك احتمالات ضئيلة في أن يرث اليخاندرو من جينات والده... أما فيما يخصك سيليو... فأنت تفتقد للشرف الذي يتمتع به ذلك الرجل... و اقسم لك... ان اعترضت مجددا طريقه... ان آذيته... فسأخرجك كليا من حياتي... لن يكبر نيكولاي مع رجل مثلك"
لم يعد بإمكانه تحمل هذا اللقاء المريب أكثر، بغض النضر عما فعله دافيد بقلب بيانكا الا ان سيليو يراه دوما المرشح المناسب بينما هو سعيد لأن الأمور انتهت على هذه الطريقة المسالمة، ابن فرجينيا اخرج كليا بيانكا من رأسه، حتى انه لن يأتي الى أروبا لتمضية العيد كما آلف كل سنة، هذا يجعل أخته غاضبة و حزينة، برئيها دافيد لم يسامح فرجينيا تركها والده، أما فيما يخصه فهذا الخبر أراحه بشدة، لسيما أن الكونت أندريس يصر على مجيء بيانكا و خطيبها الى بيته للاحتفال بالعيد.
سيليو لا ينوي الهبوط في نظر رجل مثل الكونت عندما يقدم رسميا خطيب حفيدته الذي لا يحمل سوى أرقام ثروته التي اكتسبها بمجهوذه الخاص، هذا الزواج سيمنح اليخاندرو هوية حقيقية، و هذا ما يجعل و الده مجنون من الغضب... لكن صديقه لا يهتم بهذا الاسم بقدر اهتمامه بالمشاعر التي يحملها منذ سنوات لبيانكا، وهو يستحق كل التقدير.
لحق به سيزار فهو بدوره لا يملك ما يضيفه لزوج عمته، اعترضت مجددا فكتوريا طريقه، هذه المرة تجاهلها لا يسمع ما هي بصدد قوله، ضرب كتفها بذراعه مما جعلها تتأفف و تحمي نفسها فورا، هذه المرأة مثل سيليو، لا تفهم حدودها، و لا تملك أي شرف بالمقابل.
اعترض فرانكو طريقه عندما خرجا الى الحديقة المسترخية في أولى نسمات الليل، مده بهاتفه الاسلكي شارحا:
" دون روكو ايميليانو...."
التقط منه الهاتف و آتاه صوت العرّاب جافا بشدة من الجانب الأخر، أقطب داركو ما ان تسللت له نبرته:
" ما الأمر روكو؟"
" تأخرت"
" مقابلة عاجلة مع سيليو..."
" كل مقابلات سيليو عاجلة فهو لا يتوقف عن ارتكاب الحماقات الواحدة تلوى الأخرى... تركت رسالة لسيزار... أتمنى انه تمكن اقناع روبي بتناول العشاء في بيتي..."
ان يدعوهم روكو بهذه السرعة أمر غريب للغاية، لابد أنه بحاجة ماسة لرؤيتها و خطط على الا يرفض أي منهم دعوته بحجة النساء.
* * *
" كيف هو الأمر؟؟" سالت صوفي رفيقتها بنعومة.
هزت نحوها دانيلا عينيها الذهبيتين متسائلة، كانتا مثل العادة، تجلسان معا على الصوفا المقابلة لشرفتها العملاقة:
" أي أمر؟"
" مقاسمة الحب مع رجل؟"
شعرت دانيلا ببعض الانزعاج، علاقتها باليساندرو قوية جدا، ترفض خضوع التفاصيل مع شقيقته الصغرى، أو بالأحرى ابنة شقيقه.
" اليساندرو عشيق رائع للغاية..."
اتسعت ابتسامة صوفي، لقد آلفتها بهذه القصة القصيرة متخلية عن شعرها الطويل، صوفي جميلة جدا، لكنها مريرة أيضا، هناك اختلاف شاسع للغاية في تصرفاتها، أصبحت عصبية و تعسة أكثر من اي وقت مضى.
" وصلت لمرادك و ستتزوجينه...."
" سبق و شرحت لك بأن هذه الخطبة تفاهة فأنا صغيرة على أن أصبح السيدة ايميليانو، اليساندرو يحترم بالتأكيد رغبتي في عيش حياتي قبل أي استقرار و هو من رئي، أحب حياتنا الحالية، نحن نعمل معا، نسافر معا و نمضي عطلتنا معا"
جعّدت صوفي أنفها ببعض الاشمئزاز:
" يبدو الأمر مملا..."
" ربما مع شخص آخر... اليساندرو رجل ممتع و مسلي ... و عكس ما تفكرين... لا نمضي وقتنا في السرير..."
انفجرت صوفي في الضحك و علّقت ساخرة:
" كنت بنفسك مستعجلة اكثر مني على اكتشاف الحب..."
" اكتشافه مع الرجل المناسب نعمة أكبر... سترين... ليست فحسب مسألة جسدية... انها العواطف و الأحاسيس صوفي...."
" أصبحت فيلسوفة قبل أم بعد فقدانك عذريتك؟" سألتها متهكمة.
" منذ ان وقعت في حب الرجل الذي تفضل سابرينا فصل غرفتينا محترمة بالتأكيد القوانين في بيتها..."
نعم... هي تشغر الغرفة التي تنزل فيها عادة كلما أتت الى صقلية، شعرت بالخيبة اذ انه تم الفصل بينهما.
" ليست تعليمات أمي..." أكدّت لها صوفي:" بل الوحش المتجمد العواطف..."
" روكو؟؟ " تسائلت بصوت مشكك:" لكنه يتقاسم جناحه مع بريانا فلما يتدخل في حميميتي مع اليساندرو؟"
" لأنه يحق له بما لا يحق لغيره... " أجابت صوفي ببساطة.
التقطت صوفي هاتفها و مرت بسرعة على حسابات المشاهير، هوايتها المفضلة بينما دانيلا اهتمت أكثر بأضافر رجليها، تنهي طلائهما تحاول الابتعاد قدر الامكان عما وعدت خطيبها بتناسيه هذه الفترة من السنة، فترة العيد...
فتح الباب كي تظهر سابرينا، لكنها لم تكن بمفردها، بيانكا فالكوني الرائعة جدا وسط فستان شتوي من التافتا الرمادية، حذاء كريمي عالي يصل الى ركبتيها، بينما شعرها الشديد السواد مندسل حول كتفيها، رأت صوفي تبعد اهتمامها على الهاتف لتتعلق نظراتها بالقادمة، هذه الأخيرة كانت تبتسم ابتسامة صافية تماما مثل روحها العذبة التي تعرّفت عليها كثيرا خلال الفترات المتقطعة التي جمعتهما الصدف.
" آه... بيانكا... يالها من مفاجئة...." تركت دانيلا مكانها لتصافح القادمة.
" كيف حالك دانيلا؟"
" جيدة و سعيدة جدا برؤيتك مجددا"
لا يبدو ان صوفي تشاركهما حماسة اللقاء، كانت جليدية النظرات لدرجة ان دانيلا شعرت بتشنج بيانكا، و رغم كل هذا تحاول الاميرة ان تكون طبيعية، الا تعير اهتمام لاستقبالها لها، شرحت سابرينا تلطف الجو المشحون:
" لقد وصل الجميع و بيانكا فضلت عدم الالتحاق بروبي و بريانا و فلورانس و المجيئ لغرفتك للاطمئنان عليك"
صلّت دانيلا في داخلها كي تأتي اجابة صوفي مسالمة، حصدت الأميرة حقد و كراهية ابنة العرّاب بسبب رجل حرك مشاعر كلتيهما بشدة، كان خاتم خطوبتها الجميل يلمع في أصبعها الشيء الذي أثار انتباه صوفي مطولا قبل أن تبتسم فجأة و تقول:
" الاطمئنان علي؟؟ منذ أسابيع طويلة و أنا في صقلية... الم تجدي الفرصة قبلا كي تقومين بزيارتي؟"
تركتهم سابرينا و اختفت لتلتحق بمدعواتها الأخريات، أغلق الباب خلفهن هن الثلاثة:
" لم أكن في صقلية بالمقابل..." شرحت بيانكا بإبتسامة مؤدبة:" استأنفت دراستي و أقيم حاليا في لندن..."
هزت صوفي حاجبها متعجبة، مما دفع دانيلا للصلاة مجددا في ذاخلها 'أرجوك... لا تكوني لئيمة'
" استأنفتي دراستك؟".
" أدرس في الجامعة الملكية للطب البيطري..."
استرخت نظرات صوفي الزرقاء:
" برافو بيانكا... أنت تدهشينني... و مع من تقيمين في تلك البلاد الأنيقة؟ كيفن غراي؟ دافيد ريتشي؟؟ غزواتك كثيرة لم أعد أعرف مع من تخرجين الأن..."أغمضت دانيلا عينيها، لم تتقبل السماء صلواتها، صوفي كثلة غضب متنقلة، و بيانكا عدوتها اللدودة الأولى، هزت صوفي كتفيها مبررة:" رأيت الفيديو الذي تتبادلين فيه مع دافيد قبلة شغوفة... أعتقد أن الأمور عادت لمجاريها بينكما..."
لا يبدو أن بيانكا تنوي السقوط في شرك ابتزازات غريمتها:
" غريب هذا التعقيب من أمرأة تعشق التدخل في حياة الأخرين... لا أصدق بأنك تجهلين خطوبتنا أنا و اليخاندرو!..."
اتسعت ابتسامة صوفي:
" انه نزوتك و ستنتهي صلاحيته قريبا... ميندوزا لا يدخل القائمة مع كيفن و دافيد... "
شعرت دانيلا بأن خديها تحترقان بشدة بسبب الموقف المحرج، لم تعرف كيف تتدخل لتخفف من التوثر الذي انتشر في المكان، جسدها وعقلها قد انجرفوا أسفل منحدرات هذا المسار الحواري الناري:
" مخطئة الرؤية و التقدير صوفي..." عقبت بيانكا بلكنة مغلفة ببعض الجليدية، يمكن لدانيلا أن ترى بوضوح العاصفة تلعب فوق رأسها.
" هل تقتصر على خداع نفسك في أوهام حول تفوقك المزعوم؟"
" لا أرى سبيلا لمهاجمتك الغير منصفة لشخصي..."
" لا تدّعين البراءة بيانكا فالكوني... ان كنت اليوم هنا و أمامي فلكي تثبتي شيئا لنفسك... عندما التقيتك آخر مرّة اربكك ان أشير لعجزك و مرضك و اليوم تطيرين على فرصة التطلع لي في كرسي متحرك معتقدة أن هذا يجعل منا متساويتين؟؟ دعيني أثبت لك شيئا..." ثم رأتها دانيلا تجمع كل قوتها لتنهض من مكانها، ببطئ لكن بشجاعة تمكنت من الوقوف على قدميها دون مساعدة أحد:" أنا يمكنني الوقوف و سوف أشفى قريبا... أما أنت... فلن تفلحي حتى بمنح اليخاندرو طفلا لأن مرضك يمنعك من أن تكوني امرأة كاملة..."
" صوفي..." تدخلت دانيلا هذه المرة بصرامة:" لكن من تعتقدين نفسك ...."
" لا بأس دانيلا..." قاطعتها بيانكا بنبرة لا تحمل مطلقا أي حقد:" انها محقة... في البداية كنت أشعر بتأنيب الضمير لهذا الامر، و تكلمت مع اليخاندرو عن مخاوفي وسرعان ما وجدنا حل للموضوع، سنستأجر رحم أم بديلة عندما نقرر الحصول على أطفال ذات يوم فنحن لسنا مستعجلين في هذا الموضوع... قد لا أكون كاملة في نظرك صوفي لكنني كذلك في نظر خطيبي الذي لا ترى عيناه سواي... كرم أخلاقي ما يوقفني أمامك اللحظة لكن أرى بأن رذائلك تزداد سوءا يوما بعد يوم... أسفة لهذا الوحش الذي أصبحت عليه فلم تعودي الفتاة التي عرفتها في الماضي، اعذريني لخطئي الفادح بالمجيء للإطمئنان عليك..."
عندما دارت بيانكا على عقبيها لتغادر المكان لم تستطع دانيلا الانتظار مع صوفي، كانت غاضبة جدا منها لدرجة انها تقاوم رغبتها في القفز على عنقها لخنقها بشدة، تمكنت من امساك دراع بيانكا في الرواق قبل ان تصل للدرج المؤدي الى الطابق السفلي:
" رويدك بيانكا..."
" أريدك أن تكوني صادقة معي..." قالت بيانكا فجأة، عينيها الجميلتين مغرورقتين بالدموع:" هل صوفي مغرمة بأليخاندرو؟ّ"
لا بد أن التردد الذي ارتسم على وجهها منح الأميرة ردا، بقيتا واقفتين هناك، يد بيانكا المرتجفة الأصابع على جبينها، و كأنها تتمعن في هذه الحقيقة التي انفجرت في وجهها:
" اتوسل اليك بيانكا... أعرف بأن صوفي لا تستحق لكن... حالتها النفسية سيئة جدا، كل من في هذا البيت يعاني من اكتئابها الحاد، هي لا تقصدك شخصيا بل تصوب مزاجها السيء على كل من يقف أمامها... سامحيها أرجوك و انسي كل التفاهات التي قالتها... ما ان تعود لروتين حياتها الطبيعي حتى تعتذر بنفسها لقسوتها"
كانت تنوي بالتأكيد الاعتراض بكلمات ما لكنها بلعت ريقها و ابعدت يدها التي تفرك جبينها، و كأنها اصيبت بالشقيقة فجأة:
" لم تكن صوفي بحاجة لذريعة كي تتصرف معي بهذه الطريقة... اليوم أفهم بأن اليخاندرو السبب... برئيها اختطفته منها بينما توفر لي كيفن و دافيد"
" صوفي ليست ابنة عادية لأمير متفتح الأفكار... روكو يخنقها بشدة... الوحيد الذي كان مقرب منها بلا رقابة شقيقها فهو اليخاندرو... الوقوع بحبه أتى تلقائيا بإعتقادي... أنا آسفة"
لكن بيانكا لا تنوي مطلقا سماع تبريرات أخرى، أخفت محنتها وراء ابتسامة و ربتث على كتفها بلطف قبل أن تنهي مسيرتها نحو الدور السفلي، بقيت دانيلا مكانها، ثارة تنظر بإتجاه جناح الفتاة التي تنوي رميها بكل الكلمات الجارحة، و ثارة تنظر بإتجاه جناحها الخاص، في النهاية قررت التوجه الى غرفتها و تغير ملابسها لإستقبال الزوار.
لكن في غرفتها وجدت خزانتها فارغة من ملابسها و كل أغراضها، رحلتها الى جناح اليساندرو لم تكن بالطويلة، سمعت صوت مياه الدوش عندما دخلت و اغلقت الباب خلفها، قصدت خزانته ووجدت كل أغراضها هناك، بحق الجحيم...
توقف صوت مياه الدوش و ماهي الا لحظة حتى ظهر أمامها، منشفة زرقاء مئة بالمئة رجالية حول وركيه، و أخرى يفرك بها خصلات شعره السوداء التي صوبت أطرافها نحو السقف، شعرت بجسمها يتجاوب تلقائيا مع هذا العرض المغري:
" لو كنت اعرف بأنك هنا لما تأخرت تحت الدوش..." بادرها بصوت معسول وهو يرمي بالمنشفة التي التقطت قطرات المياه من وجهه و يمسك بذراعها ليقربها منه:
" هل انت من قام بتحويل أغراضي لغرفتك؟؟"
أقطب بينما يرى تعابيرها الجادة:
"اكتفيت بإعطاء الأوامر للخدم... الم يكن يجذر بي؟ "
اتسعت حدقاتها الذهبية بفضول:
" ظننت انها رغبة روكو..."
ظهرت السخرية في نظرات اليساندرو:
" يعرف شقيقي بأنك لم تعودي البريئة الخجولة منذ بعض الوقت... يتعمد فحسب جس النبض عن بعد... مكانك في سريري... أم أنك تفضلين حميمتك؟"
هزت كتفيها متجاهلة قصده، في الايام الأخيرة كانت مشتثة العقل بسبب قصة حياتها الغامضة، تحترم وعدها لأليساندو بشأن نسيانها الموضوع خلال أيام العيد:
" حميمتي هي أنت... "
" أممممم.... تعجبني هذه التأكيدات..."
ابتسمت دانيلا و تركته يأخد وجهها بين يديه:
" نسيت تماما كيف كانت حياتي قبلك..."
انفجر اليساندرو ضاحكا ثم انحنى ليمنحها قبلة شغوفة تركتها مترنحة مكانها:
" هل يجب أن اصدق كلماتك المعسولة دانيلا؟"
" على الأقل أقول لك كلمات معسولة..."
تبنى ملامح مصدومة:
" تتهمينني بالخمول العاطفي؟ الا أقول لك كفاية كلمات معسولة؟"
هزت كتفيها مؤكدة:
" لست ضد أن تؤكد لي اللحظة بأنني أجمل النساء اللواتي مررن في حياتك..."
" أممم... أجمل النساء لا..." وشوش لها في أذنها برقة:" لكنك مشحونة بشيء لم أجده في غيرك دانيلا... أنا أيضا لا أتذكر كيف كانت حياتي قبلك و لا أنوي تركك ترحلين يوما... أحبك و أنت تعرفين هذا بالتأكيد..."
نظرت إليه في عينيه وتبادلا تلك النظرات التي سيكون من المستحيل بالنسبة لهما أن يصفاها.
" سنتأخر عن المدعوين كارا... "
هذا صحيح، تعرف ما يعقب هذا الاتصال العميق بينهما، تنهذت و قصدت الحمام لتجد هناك ايضا معداتها، اذن فاليساندرو لم يتحمل امكانية تفرقتهما، ابتسمت بينما تتخيل سلفا ردة فعل روكو عندما يعرف.
* * *
{ عزيزي خوسيه... العيد بطعم الفلف الحار هذه السنة...
صرت فارغا منذ مواجهتنا و صرت أمامك شفافة...
شيء ما تحطم بداخلي... أشعر وكأنني أقف خلف باب مغلق ، مرتعبة من اللحظة التي سيفتح فيها...
أعتقد أنك تحاول قياس قدرتي على تحمل الصدمة ، بجليديتك التي تتعدى برودة الثلوج النادرة التي قررت زيارة مدريد أخيرا كي تضفي طابع العيد...
انا عاجزة عن التراجع...
اصبحت في الحالات القصوى من التعاسة}
" أدخل..."
صرخت آيا في الطارق و هي تغلق مذكراتها، لدهشتها كان خوسيه، مؤخرا يفضل ارسال الخادمة او المربية لجلب الصغيرين اليه و لم تطأ قدميه ارض جناحها منذ تلك الامسية التي قررت فيها انهاء محاولاته لمنح زواجهما طابعا حقيقيا.
انكمشت معدتها ودارت الحرارة بداخلها بينما تغزوها طاقته الخانقة، ان كانت للجذران السن فتنطق بسحر هذا الرجل الواقف امامها، تركت الصوفا و اخفت مذكراتها خلف احد الوسائد الوثيرة:
" خوسيه؟ بما أخدمك؟"
" لدي ما يكفيني من الخدم في هذا البيت و بالتأكيد لا أحتاج لخدماتك بقدر حاجتي بأن تقومي بدورك اللعين في هذا البيت بدل الاختباء كل الوقت في هذا المكان..." بصق كما لو أن الكلمات بها مذاق القيء..." سيصل بعد قليل المدعوين لوليمة ما قبل العيد و أرى بأن سيسليا بمفردها من يهتم بالتفاصيل كما هي العادة..."
انها وليمة يقدمها سنويا المارتينيز لكل عمالهم و يحصلون ايضا على دعائم مالية حصرية، لكن سيسيليا بنفسها من اخبرتها بأنها قادرة على الاهتمام بنفسها بالأمسية...
" انا لم أعش يوما كسيدة خوسيه... أجهل تماما كيف تتم هذه الأمور... والدتك بنفسها من طلبت مني الاهتمام بحسب بطفلاي..."
" طفلانا... انهما مني و منك ..."لم تكن لعصبيته أي علاقة بتجهيزات الوليمة، كما انه لا يمكنه أ يصرخ بوجهها أكثر لأن التوأمين نائمين في غرفتيهما، رأته يحاول السيطرة على مشاعره، كانت اصابعه متصلبة بينما يمررها على كثلة شعره الحالكة السواد:" تعلمي اذن ان تكوني سيدة..."
" ما نفع أن أتكبد مشقة البرتوكلات بينما سأرحل قريبا من هنا؟ " لفت ذراعيها حول خصرها:" اقامتي محدودة... لن أنتمي يوما الى كل هذه الفخامة خوسيه... أفضل شرائح الديك الرومي على الكافيار كما تعرف"
اخترقتها نظراته السوداء، نعم كانت سوداء اللحظة... فقدت جمالية لونها الذهبي:
" تنبذين مسوولياتك "
" التخلي عن مهمة باطلة وغير مجدية ليست نبذًا... هل نسيت؟ أتيت بي من المستنقع... و في المستنقع لا نهرب مطولا من محيطنا..."
" لم أنسى يوما جذورك آيا..." قاطع قسوتها الجليدية بأخرى أسوء:" ما لن تفهميه أن عودتك الى ذلك المستنقع - الذي لا تهربي من منه مطولا - ستكون رحلته فردية ... المادو و اوزلام يحملان دمائي النبيلة و أبدا لن يخرجا يوما من هذه القلعة..."
ان كانت تتعمد هذه القسوة فلأنها غير قادرة على تحمل مسؤولية الكلمات التي رمتها في وجهه ذلك المساء، رؤيته مجددا أمامها أخل توازنها اللعين، خافت من نفسها ان تلقي بجسمها على قدميه و تطلب منه نسيان كل كلمة سيئة قذفته بها، أن تخبره ببساطة بانها قلقة من ردة فعله ان اكتشف الاثار المريعة الذي تركها خلفه الحمل بتوأمين.
" وقعّنا اتفاقا..." ذكرته بهدوء:" سألتجئ للقضاء ان..."
قاطعها وهو يقطع المسافة بينهما و يلتقط شفاهها بأصابعه ليسحقهما بطريقة وحشية و مؤذية، طريقة موجهة لقطع كلامها الذي لا ينوي سماعه حتى النهاية:
" آيا... لا تهدديني... لا تدفعيني لأحرمك كليا منهما ... أنت لا تعرفين بأنني خصم فظيع عندما يتوجب عليه ذلك... أغلقي هذا الفم اللعين و ارتدي ثيابك و استعدي للظهور أمام الجميع بمظهر لائق... لا تفسدي الليلة بوعود أنت عاجزة عن تنفيذها... لا تنسي أنني مهم جدا، ابن سياسي عظيم و من عائلة ذات نفوذ، بتحريض صغير جدا مني... ستجدين نفسك مجددا في بلادك... بلا أطفال و لا حساب بنكي و لا كرامة... "
عندما تركت أصابعه شفاهها شعرت بحجمهما أكبر مما قبل، مذاق الدم على لسانها، تراجعت الى الخلف أمام هذا الهجوم الذي لم تتوقعه،بلا أطفال و لا حساب بنكي و لا كرامة ؟؟
" أنت وعدتني..."
" التوأمين ليسا عملة يمكنني التعامل معك بهما... انهما من دمي، لا أنوي العيش لغيرهما، بما أنك ترفضين التعاون لنوفر لهما العائلة المتماسكة التي هما بحاجة ماسة اليها فأنا أخلي بأي وعد سبق و منحته لك... أمامك عرض محدود الصلاحية... بعد العيد عليك اتخاذ قرارك نهائيا, اما ان تبقي بجانبهما... أو تختفي ..."
اصبح التقاط الهواء الى رئتيها صعبا و مستحيلا، شعرت بنفسها تتثابر لتبقى صلبة أمامه:
" مالذي تنوي فعله للتخلص مني خوسيه؟ استعمال ابتزازاتك القديمة التي اجبرتني بها للنوم معك و الحمل منك؟؟"
" لا تقارني الأمرين... فكفتك لا تساوي شيئا مقابلهما... التخلص من دودة مزعجة مثلك لن تكلفني حتى هز أصبعي الصغير... "
أخرج فجأة هاتفه و نبح فيه ببضع كلمات آمرة قبل أن تظهر المربية في العتبة:
" خدي الصغيرين الى جناحهما... السيدة بحاجة لتجهيز نفسها ..."
الكلمات أصبحت بمثابة حصى يصعب عليها رميه خارجا، بقيت مكانها تنظر اليه بينما المربية تغلق باب غرفة التوأمين خلفها و تمنحهما الحميمية و كأنه شعرت بالتوثر المجلجل في أركان الجناح:
" منذ الليلة لن أستئمنك عليهما... انت خطر عليهما و لا أثق بك"
" لا تثق بي؟؟" تمكنت من الكلام.
" أعرف ردود أفعالك عندما لا تجدين مسلكا... تلك الليلة في المجرّ... حاولت رمي نفسك من الشرفة بينما تحملين بهما... يمكنني الحصول بسهولة على وثيقة طبية تبرز هشاشتك العقلية ما رأيك؟؟"
لكنه لم يكن ينوي سماع ردها بعد الصدمة التي جمّدتها مكانها، بل استعجل المربية التي وضعت الصغيرين في سرير متنقل، هي التي حاولت ان تكون مؤذية و صارمة كي تربح المباراة تجد ان كل شيء بصدد الانقلاب عليها، لا يبدو ان خوسيه يمزح فيما يتعلق بالتوأمين، موجه القلق نجحت بإخراجها من حالة الصدمة التي تغلبت عليها، ما ان غادرت المربية برفقة ابنيهما حتى بادرته بعدم فهم:
" لما تفعل هذا؟؟"
" السؤال هو لما أنت تفعلين هذا؟؟ أمنحك فرصة البقاء... ترفضينها بالاساءة لي شفاهيا... لا أنوي منحك فرصة أخرى للاقتصاص مني عبر التوأمين..."
كانت تحاول التقاط أنفاسها:
" تظن أنني قادرة على ايذائهما؟"
" كنت ستؤذينهما بلا تردد في الماضي..."
ذكرته بصوت فاقد السيطرة:
" لم تترك لي الاختيار حينها..."
أكد بلكنة مسمومة:
" و لا أتركه لك اليوم... "
ثم دون أن يمنحها نظرة أخرى غادر الجناح بدوره و أغلق الباب خلفه بحركة جافة، راحتيها تؤلمانها بشدة ،نظرت إليهما لترى بأن أظافرها تركت أشكالا هلالية في جلدها. فركت يديها لمحو العلامات... الشيء الذي لن تتمكن من فعله ازاء العلامات في قلبها.لا تعرف حقًا ما يجب فعله ، لقد عرفت فقط أن أقل عضلاتها قد تقلصت بشكل مؤلم، وأقل حساسياتها تفاقمت لحدودها القصوية... انهارت على الكنبة... عينيها عالقتين في الفراغ، هل هي بصدد خسارة كل شيء لأنها ترفض هدنة خوسيه؟ و هل ستسمح له باحتلالها و نهب مقدساتها بهذه السهولة؟ لم تكن في حياتها سهلة التحجيم طالما ردت الضربات و خوسيه يعلم بانها لن تبلع هذه التهديدات و تحني راسها مثل المغلوبة على امرها، آه كلا... لقد أمضت اشهرها في تجهيز حياتها الجديدة، لن تسمح له مجددا بهدم أحلامها فقط لأنه سافل جدا كي يلاحظ بأن الخوف ما يجعلها في حالة تأهب... الخوف من أن تنطفئ صورة المرأة المغرية في مخيلته... الخوف من الا يبقى أدنى أمل في المستقبل..شعرت بأنها تفقد أنفاسها ، لدرجة أنها لن تستطيع التنفس مرة أخرى.
* * *
" تصويبة موفقة أيها الأمير..."
تصويبة رجل يعرف التصويب نعم، ملاحظة سيزار دفعت تقطيبة خافيير للتعمق أكثر لكنه لم يُعلق، هكذا يقضي الاصدقاء سهراتهم الذكورية؟؟ هذه الصالة الخاصة بتدريبات الأسلحة النارية المتطورة ستجعل f.b.i شاحبون من الغيرةـ ، كانت شاسعة، متغيرة الألوان و الطقوس، مجهزة جيدا لاستقبال عدد لا بأس به من المتمرنين، راقب الأمير يبعد السماعات من أدنيه و يمازح قريبه بكلمات ايطالية سريعة قبل أن ينفجر هذا الأخير بالضحك، لا... هما لم يتكلمان الايطالية بل الصقلية، لغة صعبة عليه، فهو يتكلم الايطالية بطلاقة و تتوثر مسامعه أمام اللهجة الصعبة، لا يعرف لأي هذف دعاه روكو لهذه الأمسية النارية، فهو لم يشاركهم طاولة العشاء مع نسائهم، لكن كان مسموح له حضور هذه المزاولات القوية، عادت الأهذاف لتستبدل بأخرى جديدة، أبعد هذه المرة، اليساندرو ايميليانو من التقط السلاح هذه المرة، ووضع السماعات على أذنيه ليحميهما، في ظرف ثانية تمزق الهذف تماما ليسقط نصفه أرضا كي يرتفع صراخ الرجال من حوله، روكو يبدو سعيدا بأذاء أخيه الصغير:
" أنت ممتلئ بالمفاجئات اليساندرو.." قال سيزار متهكما.
" أخي الصغير يحسن استعمال الأسلحة حتى قبل أن يدخل المدرسة الابتدائية... يانيس معلم جيد و محترف... " فجأة سلط نظراته الحادة عليه و كأنه تذكر وجوده.
هل يُفترض به الاجابة على هذا؟ انه يعرف من هو يانيس هذا، انه يتفحص ردة فعله بهذه المعلومة، لكن خافيير ممثل جيد الى جانب عميل متمرس، بقي فحسب يبادله نظرات هادئة.
يعترف... بأنه لم يلتقي رجل بذكاء هذا المخلوق أمامه، سبق و تعامل مع مجرمين، رؤساء مافيا و قطاع طرق، روكو يملك شيء يخصه فقط... انه يتعامل بأناقة غريبة... شيء فيه يشعرك بأنك أدنى مستوى منه رغم الثقة التي تكون للمرء في نفسه... انه يشكك في امكانياتك... يشكك في كل ذرة منك.
اللقاء بينهما كان غامض التبادل، فهم فحسب بأنه تحت حمايته، بأنه يضمه لفريقه بفضل اليخاندرو، الشيء الذي تتوقعه بالتأكيد الانتربول و الذي سيسهل تسلله في حميميته، السؤال هو لما تجاوب روكو بهذه السلاسة معه، وهل اليخاندرو حقا السبب في هذا الكرم؟ ... روكو ذكي جدا... و هناك تفسيرين... اما أنه يشك كونه قرصان سابق، أو يحب كثيرا اليخاندرو كي يعرض نفسه للخطر لحمايته.
" اليخاندرو..." ارتفع صوت الأمير داركو، صهر توأمه... يبدو الوضع سخيفا... بالكاد يمكن تصديق أن لهذا الرجل ابنة ينوي شقيقه الارتباط بها:" تعالى وجرّب..."
راقب توأمه يهز كتفيه مُعتذرا :
" الأسلحة ليست هوايتي المفضلة... "
العنف اجمالا ليس صحن شقيقه المفضل، يبدو وجوده متناقضا مع رجال بهذه الشراسة، انه المسالم الوحيد هنا... حان دور العرّاب... راقبه يرتدي قفازيه و يلتقط السماعات ليضعها على أذنيه، لم يختار هذف سهل، بل اختار ما يغير وضعه بسرعة عالية... ثم انطلق في ابداعه... رغما عنه شد خافيير أنفاسه لهذه البراعة الدقيقة ،لا يبدو أن هذه هي المرة الأولى التي يستخدم فيها سلاحًا أو مسدسًا معينًا ، أنه أمام محترف يثقن الرماية الدقيقة، ثم تغلب على الالة و لم يتبقى شيء من الهذف الذي أصبح فتاتا على الأرض، يبدو ان الجميع راقب هذه الخفة و أعجب بها مثله، ثم فجأة ابعد السماعات على أدنيه ووجه سلاحه الناري في وجهه، غير بعيد عن جبينه، يمكنه أن يشعر بحرارة المعدن الغير بعيد، التقت نظراتهما و شعر بنفسه صغيرا أمام جبل من جبال صقلية... كان يقوم بإمتحانه... لكن خافيير لم يرمش... أمام هذا التحدي الناري عليه الا يجفل أو يخون نفسه... ، سقط الصمت الثقيل في القاعة و الكل يتطلع اليهما، ثم انتظر... متبنيا هذا التعبير المحايد الذي يخفي تحته عدم الفهم... حركة العرّاب لا يفهم معناها... لكن حدسه يشير اليه بالبقاء صامدا و اعادة نظراته الجليدية...بعض الناس لديهم عدد قليل من أجراس الإنذار ... هو يملك الكثير.
مرت عدة ثوان، بطرف عينه يمكنه رؤية اليخاندرو يترك مكانه، وجهه متشنج من القلق... ارتخت قبضة العرّاب على السلاح و بحركة رشيقة أدار قبضته بإتجاهه.
" حان دورك أيها القرصان... أرينا مهارتك..."
التقط منه خافيير السلاح دون ان يرمش... هناك فرق بين التصويب الذي سيفضح كونه شرطيا و التصويب الذي يبرهن بأنه عاش بريا و قضى عمره وراء بندقية... مازال العرّاب يمتحنه، و رغما عن أنفه... يشعر بالاعجاب لشخصه.
اختار خافيير هذف اسرع من الذي اختاره العرّاب... و ترك عنان سنوات لا منتهية من الخبرة تأخد مكانها لتبهر من حوله...و ما هي الا ثواني حتى سقط الهذف مستسلما لهجومه... لم يخطء اي هذف... دون انتظار فرصة اعادة هدية العرّاب اليه وجه الى رأسه نفس الفوهة التي حدده بها قبل قليل...
" أعشق روح دعابتك أيها العرّاب... "
ثم بنفس الرشاقة أعاد اليه سلاحه.لم يبدأ الجدال... استعاده بحركة بطيئة و وقفا وجها لوجه... خلال تلك اللحظات التي تستمر بضع ثوانِ فقط لكنها تبدو و كأنها أبدية... نظرات الصقلي تشبه شفرات الحلاقة الحادة، كان يحاول اختراق روحه ليكتشف من يختبئ وراء من يقف أمامه، ثم تحركت شفاهه بكلمات تشبه خشونة ورق زجاج:
" أنا لا أملك واحدة أيها القرصان..."
اذن ... فقد تعمّد تهديده.
لا يبدو أن هذا التبادل يروق لأليخاندرو، الذي اقترب ليضع نفسه بينهما، ان كانت لديه شكوك من قبل فهو متأكد الأن أن هذ الرجل القوي يكره وجوده و لا يثق به، لكنها آخر مهامه البائسة و سيرحل بلا عودة... انه يحلم بمزرعته البعيدة، بحياة خالية من المخاطر، يحلم بالنوم بجانب امرأة تجهل تماما عدد الرجال الذين قام بتصفيتهم... يحلم بقهوة الصباح و قبلة و تمنيات امضائه يوم جميل.
" الوقت متأخر... من الأفضل أن نرحل خافيير" اقترح اليخاندرو.
" بدأت السهرة اللحظة تأخد منحنى يروقني..." اعترض خافيير وهو يتفقد العيون المنصبة عليه، لا أحد يتحمله في هذه الصالة على ما يبدو:" اليست فرصتك أن تتعلم التصويب؟"
" لا أتحمل الأسلحة و أنت تعرف..."
" هيا اليخاندرو... لن أكون دوما هنا لحمايتك"
هذا الاستفزاز المتهكم أخرج شقيقه من رزانته الاعتيادية، دون أن ينتظر أخد السلاح الذي استعمله الأمير فالكوني و خلافا لكل التوقعات، لم يصوب نحو الهذف، بل صوب نحو الفراغ بين قدميه هو لتخترق الرصاصة الارض الامعة و تترك ورائها حفرة عميقة...
" أعرف جيدا التصويب فلا يمكنك العيش في امريكا لسنوات دون أن تتعلم حمل سلاح للدفاع عن نفسك... و الان تنتهي هذه اللعبة خافيير... فلنمضي الى البيت... "
كان جادا جدا، يبدو أن قلقه من تهديد روكو لرأسه تحول الى غضب أسود، لمح الخوف الشديد عليه و شيء ما اخترقه مثل شفرة حادة... اليخاندرو يخاف على مصيره؟ هو الذي ظن بأن كل ما يهمه هي حياته اللطيفة و الهادئة و ... خطيبته الفاثنة.
هذه المرّة لم يستطع الاستمرار في تحدي شقيقه أكثر، في باحة القصر اصطفت أرقى السيارات التي تزن ثروات خيالية، السيارة الوحيدة التي لا تملك شيئا من الرفاهية عائدة لتوأمه، دنى منها و أشعل سجارة ينتظر وصول هذا الأخير الذي ذهب ليودع خطيبته، نفث الدخان في الهواء و شعر بحركة قربه، انتبه فورا لوجود سانتياغو... هذا الرجل الغامض يشبه القتلة المتسلسلين، لا يفارقه أبدا باهتمامه عندما يكون في الجوار، لم يكن بمفرده هذه المرّة، حارس الأمير الشخصي معه:
" الا تملك عائلة تمضي معها العيد سانتياغو؟ أم أنك تعمل ليل نهار بحانب رئيسك؟"
لم يجبه سانتياغو، أبقى فحسب عينيه عليه، النظرات المصوبة عليه تشبه المسامير الواخزة، فرانكو بالمقابل لا يبدو بأنه يستلطفه، تجاهلهما عندما انتبه الى وصول توأمه، لم يكن بمفرده، الأميرة لفاثنة معه، كان يمسك بيدها، أصابعهما متشابكة، هذا الظهور جعل فرانكو يتحرك نحوهم تلقائيا، انتبه الى أن الأميرة في مزاج سيئ و شقيقه أيضا:
" لست بحاجتك فرانكو..." اعترضت بيانكا و هي تدلف الى السيارة ما ان فتح لها اليخاندرو الباب.
لم يتبقى أمامه سوى احتلال المقاعد الخلفية، راقب كتفي بيانكا أمامه مشدودة مثل الوثر، تصله من هذه المسافة رائحة خصلاتها الشبيهة بفواكه الصيف الطازجة، أدار شقيقه عجلة القيادة و خلافا لكل احتجاجات الأميرة أرسل فرانكو حراسه خلفهم.
عندما تجاوت السيارة قلعة الايميليانو و أخدت طريقا فرعيا ثم رئيسيا أصبح الصمت الدائر خانقا لدرجة أن الهواء أصبح ثقيلا جدا، راقب يد شقيقه تحاول التقاط يدها الا انها رفضت منه هذه الإلتفاثة.. أنفلثت منه تصفيرة طويلة و أعلن:
" لا يبدو كليكما بخير..."
" أغلق فمك خافيير..."
لم يكن هذا أمر اليخاندرو وحده، لقد قالا معا هذه الجملة و كأنهما توقعا أن يرمي بملاحظة ما على هذا الصمت الغير اعتيادي بينهما.
ما ان وصلوا الى البيت حتى اهتم بالكلاب - التي استقبلتهم بحفاوة- ليمنحها الطعام ، اليخاندرو و بيانكا انفردا ببعضهما في غرفة النوم، في البداية لم يكن يسمع شيئا، لكن سرعان ما ارتفع صوتها، يمكنه التقاط كلماتها بوضوح، لكن الصقلية صعبة الفهم...
جثى على ركبتيه أمام كلبه الوفي و بدأ بمسد فرائه الناعمة بينما هذا الأخير يتناول طعامه بشهية، عندما تردد اسم صوفي في أذنيه استيقظت رذاراته، هل يُعقل أن الموضوع متعلق بأعمال روكو؟ سرعان ما سقط هذا الاحتمال في بحر النسيان عندما ترددت منها جملة واضحة:
" كنت تعرف بأنها مغرمة بك اليس كذلك؟"
أقطب خافيير حاجبيه ينتظر رد شقيقه الذي لم يأتي الى مسامعه، كل هذه الدراما بسبب غيرة نسائية، تجاهل الموضوع برمته و أخرج بيرا من البرّاد قبل أن يخرج من بيت شقيقه ليدخن سجارة في الحديقة... حرّاس فرانكو ما يزالون خارجا... اذن فسيمضون الليل في حراسة بيت اليخاندرو حتى تقرر الأميرة العودة الى بيت أبيها.
بعد أن أنهى بيرته و سجارته اكتشف خلال عودته الى الداخل بأن أزمة الصراخ انتهت، في هذه المرة التنهذات ما تصل الى مسامعه و ليس العتاب، و لم يتبقى له سوى الالتحاق بدوره الى غرفة نومه... فكما يبدو، اليخاندرو لن يمضي الليلة بمفرده.
* * *
أمضت آيا سهرتها و كأنها تمشي على صفيح ساخن، كانت تتعمد عدم النظر مباشرة في عينيه، و عندما تفعل، الكراهية في عمقهما تجعلهما سوداوين، لكنه محصّن للغاية من سهام النار التي ترسلها اليه، مادار بينهما في أول الأمسية لم تكن فحسب وعودا سخيفة، بل كان يقصد كل كلمة، تجهل آيا تماما الى أي حد يمكنه النزول كي يحتفظ بطفليه معه، قد تملك الكثير من الأسباب التي تدفعها للرفض، حبها لأليخاندرو، حبها لأستقلاليتها، فشلها في حبه هو خاصة، رغم مجهوذاته الأخيرة الا أن آيا ترفض منح علاقتهما فرصة النجاح، فليكن...
كبريائه الذكوري سيشفى من رفضها، هناك أشياء أهم، يمنح طفليه كل الأسبقية، و ليست امرأة مثله ما ستربك حياته الحالية التي اغرم بشدة بها... لقد انتظر ان يصبح أبا طيلة سنوات و هذا الدور يروقه بشدة.
عاد يحط نظراته عليها بينما تتهرّب مثل عادتها من التأقلم مع من حولها، كانت ترتدي فستان سهرة أسود، فضفاض شيئا ما، فقدت بضع أرطال منذ الولادة، لكن صدرها كبر حجمه أكثر، هذه التفاصيل تجعلها أكثر أنوثة و رغبة، ربما يثيره هو لكن على ما يبدو يزعجها بشدة، تمضي و قتها في تفحص فتحة فستانها ان كانت تظهر أكثر مما ينبغي، بعد رحيل المدعوين لم تنتظر لحظة واحدة و اختفت... يعرف جيدا المكان الذي قصدته، ستقوم بإرضاع الصغيرين... لكنه أوصى المربية بمراقبتها جيّدا.
" هناك توثر بينكما...هل كل شيء على مايرام؟" سألته سيسيليا بينما يتأهب بدوره للذهاب الى مكتبه و شرب كأس في هدوء.
" منذ متى كان ما بيننا طبيعي؟" أعاد السؤال لوالدته.
لكنها استوقفته مجددا قبل أن يفر بدوره باحثا عن السكينة:
" أخبرني الفارو بأنك تواصلت معه بشأن دانيلا, مالذي يحذث؟ لما تعود لهذه القصة؟"
شعر خوسيه بعضلاته تتشنج، الفارو هو عمّ دانيلا، الفرد الوحيد المتبقى لها من عائلة والدها... أو الرجل الذي تبناها على أساس أنها ابنته، لكن أن تراقب سيسيليا تحركاته يشعل صفارات الانذار في عقله، غرس نظراته في نظراتها:
" كيف علمت بأنني تواصلت معه؟؟"
لا يبدو بأنها توقعت هذا السؤال، سيسيليا ذكية، ماكرة، و تحيك بسهولة بالغة القصص التظليليلة، تركها تبدع في الكذب عليه:
" بالصدفة... سمعتك تتكلم معه هاتفيا..."
لا يعرف في أي خانة يضع هذا الجواب، لكنه سيقبله حاليا...
" ظنت دانيلا بأنني والدها، قامت بتحليلات و اكتشفت بأن ثمة قرابة بيننا... هذه المعلومة لم أحصل عليها منها بالتأكيد، بل عمّها من أخبرني بأن أتوقع انفجارا قريبا, دانيلا تبحث عن اصولها بفضل متحر و لن تتأخر بإكتشاف الحقيقة..."
لايبدو أن الموضوع يروق لوالدته:
" عليك حمايتها من الحقيقة..."
" بل أظن أن الوقت حان لتعرف من هو والدها الا تظنيني؟؟ انا ايضا اكتشفت الموضوع صدفة، فلو لم أشك بأبوتي لها لما خضت لتلك التحاليل التي تثبت بأننا نتشارك نفس الدم بشكل أو بآخر..."
لكن سيسيليا لا تنوي التوقف هنا، تبعته الى المكتب، تركته يسقي نفسه كأسا قبل أن تبادره بنبرة جديدة:
" الموضوع سيكبر بشدة خوسيه... لسنا بحاجة لفضائح جديدة..."
أقطب خوسيه بعدم فهم:
" انها ابنة ناديا و الفونسو... عمّي... فيما يجب أ ن يسيء هذا لها؟"
" في الطريقة التي أتت بها الى هذه الحياة..." ردّت عليه سيسيليا بحزم:" الفونسو لم يكن ملاكا... "
" لا يمكننا اخفاء الأمر عليها مطولا لأنها ستكتشف بأنها من المارتينيز... بأن هذا هو السبب الذي دفع والديها لترك الوصاية لي... بأن كل الأموال التي ورتثتها تعود لوالدها الحقيقي, الفونسو... بأن زواج ناديا من الرجل الذي ظنته والدها كل هذه السنوات أتى فحسب لكبث الفضيحة..."ثم صمت مفكرا:" هناك شيء غريب في كل هذه القصة... ان كان الفونسو مغرم بناديا و رزقا بدانيلا، لما لم يتزوجها بكل بساطة؟"
" خطط والدك آنذاك مغايرة... الفونسو كان مخطوب لجويدا... شقيقة يانيس ايميليانو.."
" عمّة روكو؟؟" تفاجئ خوسيه بهذا.
" نعم عمّته... ثم ان ناديا لم تكن من عائلة مرموقة"
" تماما مثل اليونور... أبي كانت لديه حساسية بالغة جدا ازاء الأسماء التي لا تعني شيئا"
تجاهلت تعليقه:
" أين وصلت دانيلا بتحرياتها؟!..."
ابتسم لها خوسيه:
" بأنك كاذبة ماهرة جدا سيسيليا... أمنحك الفرصة تلو الأخرى لتقولين الحقيقة، لكنك تستمرّين في خلق القصص... لم تجمع يوما قصة حب بين الفونسو و ناديا اليس كذلك؟ "
صمتت سيسيليا، كانت الألوان تتغير في وجهها مثل قوس قزح، هو نفسه سيصل للحقيقة قريبا، انه يساند دانيلا في هذا، هو أيضا يثوق لمعرفة ما حذث قبل اثني و عشرون سنة، الفونسو مات في ظروف غامضة، رغم كل الأمن الذي تتمتع به شركته الا ان النار حاصرته و قتلته في مكتبه، المادو يخفي قصة شقيقه الصغير و رحل و معه هذا السر، لكن سيسيليا تعرف التفاصيل و تستمر بالتستر... لكن لمصلحة من؟
" لا أعرف أكثر مما تعرفه أنت..." سمعها تقول بصوت محايد:" حسّن الفاظك معي في المرّة القادمة و لا تتهمني عبثا... مكانك كنت أهتممت أكثر بزوجتي و ابنائي بدل الدخول في متاهة مرّ عليها العديد من السنوات..."
لاحقا...دفع خوسيه باب الجناح الذي خصصه للتوأمين، و كما توقع، آيا ما تزال في فستان سهرتها، المادو بين ذراعيها، ملتصق بثديها، ما ان لمحته حتى غطت نفسها بلحاف لتترك ظاهرا وجه الصغير فقط، حواره مع سيسيليا ترك على لسانه مذاق مرّ، تعب من الكذب، تعب من الاختباء خلف جدار الشوك، رؤية منظر آيا وهي تقوم بدورها الطبيعي في تغذية طفلهما أرخت أعصابه قليلا، رمى بنفسه على الكنبة المقابلة لها، يتحداها بأن تنظر اليه مباشرة.
" سوف أبقى..." سمعها تقول فجأة وهي تهز نحوه نظرات مليئة بالدموع و الكراهية.
هز حاجبيه:
" عفوا؟"
" سوف أبقى في القلعة... لا يمكنني تركهما لك خوسيه... أفضل الموت"
انفجرت... تصدعت... تحطمت مثل مزهرية كريستالية تضرب أرضية إسمنتية ، وطارت قطع منها في كل زاوية... لكنه راض لهذا القرار، حتى ان كان يضرها شخصيا فهذا لا يهمه... عاد الى أنانيته القديمة... هذا يجرده من الاحساس بالاخرين... هي السبب في أن يتجرد من الرأفة نحوها.
" قرار صائب... "
" اتفقنا اذن..." كانت تتكلم بصعوبة بالغة، لكن عينينها بقيتا شرستين:" يمكنني استعادتهما في جناحي؟"
هز رأسه بالنفي:
" أثق أكثر في المربية... سيقتصر دورك في اطعامهما الى ان نجد لهما بديلا... أعرف بأن تفكيرك لا يكون سليما عندما تغضبين... و ربما اقتراحك السلم عائد فحسب لخطة قمتي بإحاكها..."
" هل تعتقد حقا بأنني قادرة على ايذائهما فقط للإنتقام منك؟؟"
" يُقال أن الإجهاد العصبي والنفسي للأم المرضِعة، له تأثير على إفراز حمض “اللاكتيك” الذي يعمل على تخمر حليبها وتغيير طعمه... لذا أرفض قطعا أن يتأثر التوأمين ، لا تدفعيني لحرمانك من ارضاعهما أيضا...."
و كأن المادو يتفق معه، رآه يترك صدرها ليطلق العنان الى صوته القوي، أخده فورا منها بطريقة حمائية ووضعه على كتفه ليساعده في هظم عشائه، توقف عن البكاء بين ذراعيه... الشعور بجسده الصغير و الدافء عليه أجمل احساس في الكون، ركز على وجه آيا الشاحب و أمرها بصوت جليدي:
" اخلي المكان فورا... لا أريد رؤيتك..."
" خوسيه.."
" لن تقتربي مجددا منهما الا بإذني... " لكنها لم تتحرك، بقيت متصلبة مكانها، تتطلع اليه بعينيها الكبيرتين العائمتين في الدموع و التعاسة:" انت تحت الاختبار آيا... الى أن أتأكد من حسن نيتك أرفض قطعا ان تقتربي منهما بدون حراسة... بما انك اديت واجبك فإرحلي من هنا.. عودي الى غرفتك الى أن يتم استدعائك للوجبة التالية..."
لا شيء يعود لعهده، كسرت بيديها ما بدأ ينمو بينهما، لا ينوي مسامحتها رفضها له بتلك الطريقة المذلة، و ليكن صادق مع نفسه... انه مستعد لاستبدالها بأخرى ان تطلب الأمر... انه موهوب جدا في لعبة النسيان... الم يفعل الأمر نفسه مع اليونور التي أحبها حقا فيما مضى؟
" أكرهك..." الكلمات ، مثل قطرات المطر على النافذة ، تنزلق ، تنقسم ، كلمات قد تصل دائمًا لمسامعه، لكنها تتلاشى لأنها بلا معنى، كانت يتوقع ردة فعل منها، آيا تملك دوما ردا..، وهو لم يرد، ابقى يده على ظهر ابنه الذي ينتهذ في نومه. " سأصلي... سأتعبد لله و اتوسله كي تتلقى القصاص الذي تستحقه لكل ما فعلته بي و منذ البداية أيها السافل"
" بعد أن أنتهي منك تكونين قد فقدتي ايمانك عزيزتي... " ثم هزّ ذقنه نحو الباب:"و الأن اختفي من هنا قبل أن اقوم شخصيا برميك..."
* * *
العيد لم يكن ككل سنة هذه المرة، فهناك بروتوكولات لا منتهية بسبب انتخابات والدها، لكن خلافا لكل التوقعات، تخلف كيليان عن المجيئ الى بيت أهلها بينما قبل دافيد ريتشي دعوة لوكا، هذا الاخير لن يمضي العيد في أروبا كالعادة... و عيدها هي لن يكون كغيره بالتأكيد.
والدها لم يخفي غضبه من تصرف كيليان... وهي تعرف بأنه لن يقدر على مواجهته بهذا الغضب... كيليان لا ملموس، لا معاتب... ذلك الرجل يفعل تماما ما يريد، هو من يقرر، هو من يحط القوانين في عائلتها، ربما خيبة والدها أكبر لأن ظهور صهره المشهور في صورة العائلة جيد جدا لانتخاباته.
الروحانية لها أهمية قصوى في أرض العم سام ، وبالتالي ، فإن عيد الميلاد مقدس للأمريكيين، عائلتها ترفض أن يتخلف أحدهم عن موعدهم السامي كل سنة، حتى عيد الشكر الذي يسبق المناسبة بشهر، لا يبدو أن عائلة دافيد في أروبا تمنح نفس الاهمية كي يقرر هذا الأخير الاحتفال معهم بعيدا عن أهله.
ككل سنة... شجرة عملاقة في غرفة المعيشة كبيرة ورائعًة ومزينًة بأكاليل جميلة لإبهار الضيوف. والدتها تهتم بأقل التفاصيل الصغيرة ليكون كل شيء رائع و على اكمل الوجه.
تم تزيين كل شيء ، من المطبخ إلى غرفة المعيشة . تم لصق أكاليل كهربائية في كل مكان في المنزل. دون نسيان الكروب والنجوم التي هي أيضًا جزء من العرض،يبدو الجو أحيانًا هائجًا قليلاً ولكن هذا ما يجعل وقت عيد الميلاد مميزًا جدًا ، في شوارع الأحياء السكنية ، العديد من الجيران يحبون تزيين مساحتهم. كل متر مربع من العشب مناسب لوضع الثلج المضاء و بعض المنازل مذهلة حقًا.
أفراد عائلتها - من طرف والدتها ووالدها- منتشرة في بيت العائلة، هرج مألوف و جميل،اعتادت والدتها على إعطاء الأولوية للكمية بالتأكيد،كطبق رئيسي ومبدع ، يعتبر الديك الرومي المشوي أحد الكلاسيكيات. تماما مثل لحم الخنزير المطبوخ مع التوابل المختلفة.
للحلوى ، يتم تقديم فطيرة التفاح - فطيرة البقان فطيرة اليقطين لتذكير عيد الشكر .
تجاهلت كل الوقت دافيد بينما ايموجين الناعمة في حلتها العيدية لم تفارقه لحظة، عادت لتلعب بسحرها القديم معه، شقيقتها تحب أم تكون محور اهتمام الجميع، انها امرأة فاثنة للغاية و تستحق دوما أن تكون نجم الجمع.
كانت تتجرّع شكولا ساخنة قرب الموقد تتطلع للثلوج التي لا تتوقف من الهطول خارجا عندما قرر الايطالي الوسيم محاصرتها أخيرا، تطلعت اليه من خلال رموشها بينما يرمي بجسده الرياضي على الكنبة مقابلا لها، في يده شكولا ساخنة أيضا:
" اذن... ؟"
"اذن.." أعادت له استفساره.
" تملكون عائلة كبيرة جدا..."
" عائلتك كبيرة جدا أيضا... " قالت له برصانة بينما ضحكة ايموجين ترتفع في المكان، رأتها تتحاور ببعض الحماسة مع ابنة عمّهما الحامل في شهرها الأخير:" قررت هذه السنة التخلف عن العيد مع عائلتك..."
ملامح وجهه اسودت قليلا، لا يبدو أن ملاحظتها تروقه:
" لم أعد أملك عائلة حقيقية..."
رغم سنه الا أن دافيد لا يبدو أنه يتقبل انفصال والديه، ربما هذه طريقته لمعاقبتهما:
" فرجينيا تقدس الاعياد..."
" صار لفرجينيا أسرة أخرى غيرنا... "
برطمت قليلا:
" لا يبدو أن فلورانس متأثرة تأثرك..."
" لأن فلورانس ترى والدتها مع والدها الحقيقي، مواقفنا غير متشابهة، كما أنني لا أتحمل زوجها و الجميع في لندن سيمضي العيد معا..."
يمضي العيد للمرة الأولى في حياته بعيدا عن الأحباء، يبدو أن الأمر يؤلمه أكثر مما يحاول ابدائه، دافيد يملك مزاجا ساخرا، لا يمكن للمرء تنبئ ما يدور حقا في خلده:
" والدك سيمضي العيد بمفرده؟"
" نملك عائلة كبيرة في صقلية..." شرح لها دون ان يمنحها تفاصيل أكبر.
تركت نظراتها تحتظن هذا الوجه المألوف صحفيا، لن يكون مضطرًا للقلق بشأن أن يختفي بريق وسامته الزائدة ، فقد كانت لديه فرصة مجنونة في اللوتو الوراثي، ضغطت بعنف على اصابعها حول كوب الشوكولا كي لا تنحني الى الأمام و تبعد تلك الخصلة السوداء المتهدلة بنعومة على جبينه... عندما هز نظراته الزرقاء الشفافة نحوها نسيت لوهلة كل عزمها على تجاهله طيلة الوقت... الشيء المختلف هذه السنة... الى جانب تخلف الوسيم الايطالي على امضاء العيد مع عائلته اللندنية الراقية... فهو لم يظهر مع خطيبة جديدة كما آلف أيضا... لم تتمكن من طرح السؤال عليه، رأت ابتسامته تتسع:
" أتوقع أن تكوني أنت القادمة"
تعرف بأنه يمزح، فلم تهمه أبدا, ما زال يراها 'كاندي البدينة' و المغرمة و هو يتسلى بها اللحظة، سألته ببعض التحدي:
" من أخبرك بأنني حرّة...؟"
رأته يهز حاجبه في تساؤل فضولي، كل أثر للتسلية اختفى من وجهه الذي أصبح جادا:
" و هل أنت كذلك؟"
لكنها لا تنوي اجابته، ابتلعت المتبقي من كوبها و استقبلت بذراع مفتوح ابنة شقيقتها التي ترتدي فستان أبيض بثنورة واسعة و تشبه كثيرا أميرة القصص الخيالية، أمسكت بيدها و اعتذرت بحركة من رأسها للوسيم القابع أمامها، لا تعرف في أي خانة تحط ملامحه الحالية، و هي ليست واثقة ان كانت تنوي الاستسلام لرغبتها في تذوق ما كان لها محرّم يوم ما...
* * *
مثل كل سنة، كاثرين و ادواردو ريتشي يحتفلون بالعيد مع جميع أفراد العائلة في المزرعة بأوكسفورد، أنه ثاني عيد يمر على وفاة سارة ريتشي، جدتها الغالية، لكن خالتها تتشبث بالعادات و التقاليد، في هذا المكان الرائع و الجميل شهدت أعوام حياتها كل سنة لامضاء العيد مع أسرة عمها و خالتها، و هذه السنة تحتفل مع زوجها ليعوضا بؤس عيد السنة السابقة التي أمضياها في قلعة فالكوني، غرفة المعيشة المرحبة بشدة بزينتها الغنية و موقدها المشتعل تضم كل أفراد العائلة، ميا أيضا أتت مع خطيبها هاكان، سيتزوجان بعد ثلاثة أشهر، اليكس و بيلا بخاتم خطوبتها و لسانها المنطلق أفضل من الماضي، كان الريتشي لطيفون مع المرأة التي اصطفاها اليكس عن غيرها من النساء و اختارها زوجة مستقبلية، حفيدة السائس تحضى بشعبيىة كبيرة من قبل كل أطفال العائلة، لكن لا شيء يفصل توأمي مارك أنطونيو عليها، حبهما لها واضح بشدة، ابتسمت لجوشوا الذي كان يحمل بين ذراعيه اليسيا الصغيرة بينما غيرة اندريس جينيور دفعته للانتحاب مما دفع آنجلا لأخده بين ذراعيها، مكر جوشوا جعلها تضحك من قلبها... كان يتعمّد استفزاز ابنه.
في البداية...كانت متوثرة بشدة من مواجهة داركو بعمها، لكن الى الان لا شيء يدعو للخوف فهما يتصرفان بطريقة متحضّرة للغاية، الأمير سيليو و رغم هجومه الامبرر لأليخاندرو الى انه تركه و شأنه، الكونت أندريس أصر على وجوده و داركو فعل ما استطاع لإقناعه بالانضمام للعائلة الكبيرة، و يبدو بأن مارك أنطونيو و اليكس و هاكان سقطوا تحت سحره، اليخاندرو سهل العيش، و رؤية بيانكا متوهجة و سعيدة، نيكولاي بين ذراعيها يشعرها بالراحة و أيضا... بخيبتها الشديدة بتخلف دافيد على المجيئ متعمدا... لم يرد على مكالماتها الأخيرة... والدها روبيرتو أيضا و رغم كل محاولات ادواردو و محاولاتها الا أنه طار من صقلية الى مكان تجهله تماما...
شيء آخر هي ممتنة له...
نيوس رفض دعوة ادواردو و مارك أنطونيو... هو و زوجته الفاثنة يمضيان العيد مع عائلته في جزيرة والدته... ما فهمته أن ديامانتي رفضت أيضا دعوة روبي لتمضية العيد في صقلية... تظن فلور بأنها قلبت كليا صفحة الماضي منذ موت جدها.
" عزيزتي..." هزت عينيها نحو خالتها كاثي التي دخلت غرفة المعيشة محملّة بطبق من البسكوت :" تعالي لمساعدتي..."
نظرة كاثي لا تشير الى أنها تريد حقا مساعدتها، كما أن الراحة و دفئ الموقد يجعلها كسولة لتغادر مكانها، رمت بالوسادة التي تحضنها جانبا و مرّت بقرب أندريس جينيور محمر الوجه من استفزازات والده الذي أخده هذه المرة ليرضيه، لكن لا يبدو أن اهماله لابنته يعجبها الموضوع بينما تراه مثقل الذراعين و لا مكان لها، هذه الأخيرة لم تتأخر بالتعبير عاليا عن رئيها فيما يحذث.
في المطبخ، كان هناك مدبرة البيت و مساعدين لا منتهيين و هذا زاد من حذرها بطلب خالتها التي أخدت بيها جانبا لتقول لها:
" فرجينيا في غرفتها منذ نصف ساعة... محاذتها مع دافيد لم تمر على ما يرام، ان لم تقنعيها بالنزول فلن يتأخر أندريس بالانتباه لغيابها و هذا قد يُفسد سهرة الجميع..."
كما قالت كاثي، وجدت فلور والدتها قابعة أمام النوافد العالية للغرفة التي يفترض أنها تتقاسمها مع الكونت... طالما تقاسمت نفس الغرفة مع روبيرتو... هذه الأخيرة مسحت دموعها ما ان شعرت بوجودها:
" يمكنك البكاء بحرية أمي... أنا بمفردي..."
و كأن هذا التنبيه ضاعف شجنها، لكنها استمرت بذرف الدموع بصمت بدون أي صوت، جلست بجانبها و تطلعت متنهذة الى الثلوج:
" ليس ذنبك تخلفه عن المجيئ.."
" لقد حطمت قلبه ... انها المرّة الأولى التي يتخلف عن المجيئ..."
" ليس بسببك أو بسبب الكونت..." عادت فلور تؤكد لوالدتها و تمسك بأصابعها الأنيقة لتعصر عليها:" لم يتردد في السابق العروج على ستارهاووس لرؤية بيانكا... و هي السبب هذه الليلة... أخبرني ببساطة بأنه يرفض رؤيتها مع رجل آخر..."
هزت فرجينيا عينيها المتورمتين الى السماء معلقة بسخرية:
" لما يصر على الاختباء وراء هذه الكذبة؟ دافيد لم يحب امرأة في حياته..."
انها توافق على خلاصة والدتها المصيبة:
" انه مغرم بكبريائه فحسب, و لأكون صريحة... كنت لأتخلف عن المجيء أيضا لو وُضعت في نفس الموقف... رؤية حبيب سابق مع أحد أخر يسبب دوما التوثر"
يبدو أن كلماتها أقنعت فرجينيا التي تنهذت بحرقة ثم سألتها السؤال الذي انتظرته منها منذ قدومهم هذا الصباح:
" هل تملكين أخبار عن روبيرتو؟"
هزت رأسها بالنفي:
" لا تقلقي نفسك به... انه بالغ و يعرف كيف يمضي أوقاته... "
بان الحزن على وجهها، بدت تعاني بصدق بينما تهمس لها معتذرة:
" أنا آسفة لكل ما حصل في الماضي فلورانس... أسفة لأنني أخفيت عنك حقيقة أندريس,آسفة لأنني كنت من الانانية بحيث عدت للرجل الوحيد الذي طالما أحببته... آسفة لأننا لم نبقى العائلة المتحدة و السعيدة التي كناها من قبل..."
هل كانت تنتظر سلسلة الاعتذارات هاته؟ يمكنها رؤية موقف والدتها بزاوية أخرى... هي نفسها عاشت نفس تلك الظروف ، لقد نضجت خلال الأحذاث الأخيرة، ترفض ان تستمر في هدر جهذها ووقتها في عتابات فارغة، و برئيها أيضا على روبيرتو أن يقلب هذه الصفحة و يبحث له عن السعادة في مكان آخر...
" منحتي أكثر من نصف عمرك لروبيرتو... أظن أن الوقت قد حان كي تفكري في سعادتك... أنصحك ان تكوني اكثر أنانية ان رأيت بأن هذا سيعوضك على ما فاتك مع والدي..."
ظهرت ابتسامة مرتجفة في زاوية شفاه فرجينيا... هذه المرأة التي طالما رأتها قوية جدا و شرسة، ناجحة جدا و صلبة، ملكة على عرش لا يتمكن الوصول اليه أحد، ليست في الحقيقة سوى امرأة مثلها... امرأة تشعر بالعار من سعادتها التي برئيها تبنيها على تعاسة آخر.
" أحببت روبيرتو... بطريقة ما..."
" شششتتت... لا تفسري لي شيئا أمي... " و احتضنتها الى صدرها:" ما يهم الأن هو الحاضر...وواقع وجود عجوز شمطاء تحت سقف هذا البيت..."
اختنقت ضحكة فرجينيا في عنقها ابتسمت فلورانس بدورها و ابتعدت عنها لتتطلع الى عينيها و تبدأن بنميمة نسائية:
" هل رئيتي تسريحتها؟؟"
" تشبه كلاب البودل..." ردّت فرجينيا بصراحة وهي تمسح دموعها بكم فستانها.." الم ينصحها أحد بأن قصتها انقرضت تماما مع عصر النهضة؟؟"
هزت فلورانس كتفيها:
" ربما كانت تنوي مفاجئتكن..."
" هذا بالفعل ما حصل... نحن متفاجئون بشدة "
ضحكتا بتواطئ الى أن اغرورقت أعينهما ، ايستر أنيقة جدا عادة و لا تفهم فلورانس لما تخلصت عن خصلات شعرها الناعمة لتخضع للتجعيد الكيميائي و الاسمرار الليموني الذي اخفق فيه خبير تجميلها، حتى داركو لم يتمكن من الاحتفاض برئيه لنفسه في الطائرة التي أقلتهم، أخبرها ببساطة بأن منظرها مثير للضحك... تفهم ارتباك ايتسر ازاء هذه الدعوة، فكاثي و فرجينيا من أنيقات المجتمع اللندني و هي رغبت بالتفوق عليهما... مثل امرأة جميلة تخوض عملية تكبير الشفاه فتصبح وحشا.
فتح الباب و ظهر الكونت أندريس تماما كما توقعت خالتها قبل قليل، يبدو ان جلسته المكتبية مع الامير سيليو و داركو و ادواردو و مارك انطونيو انتهت.. لكن النظرات القلقة في وجهه اختفت ما ان رآهما غارقتين في الضحك، الراحة التي ملئت عينيه أشعرتها بالعاطفة نحوه:
" نساء حياتي هنا... "
" لسنا كلنا هنا... امرأة حياتك الثالثة تهدد سكينة أندريس جينيور و ليلي ... و من الأفضل أن أنزل لأشبع منها فأنا لا أراها كثيرا... عن اذنكما..."
في طريقها، وقفت على أصابع رجليها و قبلت الكونت على خده:
" أحبك أبي..."
شعرت به يتشنج تحت لمستها، أمسك بمعصمها ليمنعها من الابتعاد:
" هل بدأت بتفريق الهدايا قبل مرور سانتا كلوز؟؟ انها المرة الأولى التي تقولين لي فيها أحبك..."
ابتسمت له بحب:
" و لن تكون الأخيرة أيها الكونت..."
عندما عادت الى غرفة المعيشة لم تعد اليسيا بين ذراعي جوشوا، بل اليكس الذي فعل كل ما استطاع ليقنع الكونت أندريس بأن يصبح عرّابها، تظنه أكثر شخص مناسب للحصول على هذا الدور، بين ابن عمّها و أختها الميتة قصة حب قديمة انتهت بشكل مأساوي و لا بد أن عودة الاسم الى العائلة مجددا يسد جراحه بشكل أو بآخر، انحنت عليه لتلامس خصلات شعره القمحية:
" لقد كان دوري بعد جوشوا انت لا تلعب بنزاهة..."
" العرّاب يحق له بأخد ابنته بالمعمومدية متى أراد ذلك..." رد اليكس و هو ينحني ليقبل جبين الرضيعة التي ابتسمت ملئ فمها من تحت مصمصة السيليكون.
" لم تصبح بعد عرّابها لعلمي..."
" لن نتأخر بتحقيق ذلك... أنظري اليها... انها هائمة بي..." القت فلور نظرة على شقيقتها... انها الشقيقة الوحيدة من أبويها الحقيقين لأن دافيد و جوشوا من أم و أب مختلفين، اليسيا تحمل حقا كل جيناتها، لكنها تبدو رضيعة سهلة جدا و لطيفة، عكسها...
" انها هائمة بالجميع كفاك ادعاءا..."
ثم نجحت أخيرا بأخدها بدورها بين ذراعيها الشيء الذي لم يروق لنيكولاي الذي جاء دوره ليبرز غيرته بعد أندريس جينيور و ليلي، كان قد ترك ذراعي بيانكا و يلتصق اللحظة بقدميها يطالب بإهتمامها:
" أنا... أنا..." كان يردد مثل الببغاء.
" أنت غيور مثل والدك..."
رذارات داركو في كل مكان، لا تعرف من أين خرج لكنه أصبح الأن خلفها، ذراعه تحيط بخصرها بينما يوشوش لها في أذنها:
" والده فقط الغيور؟ فلورانس... لو كان بإمكان الغيرة أن تتجسد فلن تجد خيرا منك..."
" من تملك زوج مغو و مثير مثلك لا تملك الخيار كارو... "
يبدو أن هذه الاجابة أعجبته، انحنى ليلتقط نيكولاي بين ذراعيه و يقربه من اليسيا التي تلتمع عينيها الخضراوين مبتهجة بالاهتمام الذي يمنحه اياها الجميع، وضع نيكولاي أصبعه على وجهها، ليس ليكتشف ملامحها لكن بسلبها مصاصة السيليكون التي أعادتها اليها، في ظرف لحظة أصبحت في فمه مما دفع الصغيرة للتكشير:
" أيها المتوحش... حتى أنك تكره المصمصات فلم تستعملها يوما في حياتك..." انتزعتها منه :" عليك ان تتعلم بأنك لست الوحيد المهم على وجه الأرض..."
انتزاع شيء يريده نيكولاي مهمة صعبة، انه يرفض قطعا أن يتم حرمانه مما يريده، لكنها وضعته في مكانه بنظرة صارمة فصمت دون ان ينفجر في البكاء كعادته:
" يحتاج للتمرن قليلا..." قال داركو و هو يقبل وجنته المدورة:" يحتاج لتعلم التقاسم مع أخت صغيرة الا تعتقدين؟"
التقت نظراتهما:
" نيكولاي له أخت كبيرة..."
حماسته انسحبت قليلا و لم يناقشها، بل استمر بالابتسام لإبنه، و هذه ليست المرّة الأولى التي يُلمح لها فيها برغبته بالحصول على طفل آخر، آلام ولادة نيكولاي مازالت راسخة في ذهنها...الام المخاض و رائحة الدم و الأدوية، رباه... لا ترى نفسها مجددا في موقف مماثل... يكفيهما طفل واحد... فبرئيها هناك مجموعة أطفال مشاغبة فيه بمفرده و يحتاج لكل اهتمامهما و صرامتهما ليسيطرا على حماسته الزائدة... تخاف سلفا من نيكولاي مراهقا... ثم بالغا... فليرحمهما الرّب مما هو آت.
* * *
ليلة العيد كانت حامية في مركز الاستقبال الكابري، المتطوعون يقومون بتوزيع الوجبات على المستفيدين من مقيمين غير شرعيين و مواطنين بدون مأوى، طاولات لا منتهية من أناس لا يملكون مأوى لتمضية العيد، و لمحها هي أخيرا... ملاك الرحمة تتنقل بخفة رغم تلك الاعاقة التي تفسد هذا الجمال الرائع، كانت تضع يدها على كتف رجل مسن يبدو متسخ الوجه و كأنه لم يستحم منذ سنوات عدة، راسها منحني عليه، تستمع اليه بانتباه تام، ثم فجأة ابتسمت له برقة قبل أن تربث على كتفه مشجعة، اعتذر منه أحدهم ليسمح له بالمرور، كان شابا مثقلا بصينية بها شرائح لحم طازجة، عاد ليبحث مجددا عن فيرنا، كانت تتأبط صينيتها الفارغة، توزع ابتساماتها اللطيفة، و لم يكن بمفرده المأخود بهذه الابتسامات... ثم رأته أخيرا...
مرت تعابير الدهشة على وجهها قبل أن تتألق نظراتها و تتسع ابتسامتها أكثر, توجهت نحوه، و شعر بقلبه ينفجر في قفصه الصدري، المكان يعج بالناس و بجو عيد الميلاد و موسيقته المألوفة و لا يبدو أنهم يعطون وجوده اهتماما بالغا، توقفت فيرنا على مسافة سنتمترات منه، تهز وجهها الجميل نحوه:
" هل قذف بك سانتا كلوز من المدخنة؟"
ضحك لكلامها، و هز رأسه نحو الموقد المشتعل:
" كانت لتكون فكرة سيئة..."
" هذا صحيح... فلا أثار دخان على هذه الملابس الجميلة..." علقت بصوت رقيق:" مالذي أتى بك دون سانتو..؟ "
" ظننتكم بحاجة للدعم..."
هزت حاجبها متسائلة:
" أتيت من روسيا لهذا الغرض؟"
" لا ليس فقط لهذا الغرض..."
وهي لم تسأله توضيحا أكبر، وهو لم يمنحه لها، بقيا فحسب يحملقان لبعضهما... في بعض الأحيان يكون الصمت أكثر بلاغة من كل الكلمات.
لم تتركه فيرنا و جعلته يساهم في الأعمال التطوعية، عرّفته على البقية كلما سنحت لها الفرصة بالتعريف على عنصر جديد الى أن نسي الأسماء كلها في النهاية، نجح بالاسترخاء لاحقا و التخلص من آخر بقايا كيليان بداخله، ابتسامتها البطيئة والطبيعية تتسع على وجهها أكثر كلما التقت نظراتهما... و كان يعطيها جزء أكثر منه كلما رد عليها ابتسامتها، في نهاية الأمسية كان قد اعطاها أكثر مما يمكن أن يسمح لنفسه به مع أي مخلوق.
لكن لا يبدو أنه وحده الذي ينوي الاستحواذ على اهتمام الجميلة صاحبة الشعر الطويل، المتطوع الذي عرّفته به و يُسمى ب فيثو- 'طبيب أسنان كالبيري' - لا يتوقف عن التهامها بنظراته و يستغل كل فرصة للتقرب منها، لكن لا يبدو أنها تهتم لأمره... تماما كما لا تهتم بأمره هو شخصيا.
تفرقت هدايا ارشيبالد على المحتاجين لتنتهي السهرة الغنية بالضحكات و الهمهمات، تركت فيرنا الجميع.. بمن فيهمن طبيبها الولهان و اختارت لتبقى بجانبه:
" عيد سعيد دون سانتو..."
" هل هناك أمل بأن تناديني سانتو ذات يوم؟؟"
ابتسمت له برقة، تبدو مرهقة، و سعيدة أيضا... مكتفية.
" سانتو... "
" جيد..." و كان مسرورا لمجهوذها:" ما هي الخطو الثالية عندما يغادر الجميع؟؟"
هزت كتفيها:
" قرروا اتمام السهرة في بيت فيثو... "
هز عينيه نحو الطبيب الذي كان يثبتهما في هذه اللحظة:
" ستذهبين؟" سألها... لا يمنع نفسه من وخز الغيرة في صدره.
" هل تريدني أن أذهب؟" سألته فجأة... هذا السؤال الذي فاجأه بشدة..." أنت لست مدعو... و أنا لا أنوي تركك "
هذا حقا أكثر شيء لطيف سمعه اليوم، لا ينوي بناء أمل سخيف على هذه الكلمات، يعرف بأنها مؤذبة جدا و لن تتركه لهذا الغرض و ليس لأنه يعجبها و تريده لها:
" لا تغيري خططك من أجلي... "
" هل أصدق بأن هذا ما تريده حقا؟!... " سألته ببعض الغموض.
بقي ينظر الى عينيها الشاسعتين، شعرها الطويل مفتول و مجموع في تسريحة صارمة جدا خلف رقبتها، تسريحة تسمح لها بالعمل بحرية دون أن يقلق حركاتها، منع نفسه من تحرير هذه الخصلات التي اشتاق اليها كثيرا:
" كلا..." ردّ عليها بصراحة.
لم تتحرك أمام هذا الاعتراف الصريح.. ما يحذث في هذه اللحظة معادي تماما لمبادئه... انه رجل متزوج، زوجته و ابنته في هذه اللحظة تحتفلان مع العائلة ما وراء البحار... زوجته التي عادت و في نيتها تصليح الأمور ... منح عائلتهما فرصة.
في بعض الأحيان... و عندما تنكسر الأشياء... يمكن للمرء جمعها مجددا باستخدام الخيوط أو الغراء. .. و في بعض الأحيان... تستحيل هذه المهمة و تصليح ما تم تكسيره....فالقطع تتناثر في كل مكان، وحتى عندما يعتقد المرء بأنه يمكنه العثور عليها جميعًا... هناك دائمًا قطعة أو قطعتين مفقودة...
وهذا بالضبط ما حصل في زواجه.
هو يعرف أن فيرنا لن تكون يوما منافسة لإيموجين... مسافة شاسعة بين المرأتين... لكنه يشعر بأمور غريبة معها... يريد أن يعيش هذه الاشياء الغريبة... أن يسمح لنفسه بعيشها رغم منافاتها مع المنطق.
راقب الطبيب يترك مكانه ليلتحق بهما، فتحت فيرنا شفاهها الجميلة لتقول شيئا لكنها غيّرت رئيها بينما الشحوب ما كسى وجنتيها و فقدت فجأة كل السعادة التي كانت تعوم فيها طيلة الأمسية... هل هو السبب وراء هذا الوجوم؟!:
" فيرنا... سنمضي... هل ستأتين؟!"
" كلا... " القت بنظراتها نحوه:" أنا مرتبطة الليلة..."
لا يبدو أن جوابها راق الطبيب الذي لم يخفي عدوانيته و هو يحملق اليه:
" يمكن لصديقك المجيء..." لهجته افتقدت مصداقيتها.
هو ليس صديقها و لا ينوي أن يكون كذلك.. ما يريده منها أكثر من علاقة افلاطونية، حاولت الابتسام لفيثو:
" عيد مجيد فيثو... "
بعد أن ودّعت البقية و أصبحا خارجا، كان البرد قارس لدرجة أنه يجهل كيف لها الا تتجمّد وسط ملابسها القديمة، لكنه لن يعلق على هذا، فيرنا لا تبدو بخير، التبادل الذي حصل قبل قليل وضع مسافة بينهما، يجهل كيف سيقطعها اللحظة!:
" الا تملك عائلة..." سمعها تسأله وهي تقف أمام سيارتها القديمة.
" عفوا؟؟"
" انت تمضي العيد بمفردك..."
" أنا أمضيه معك..."
كلماته المباشرة لم يعد مرحب بها على مايبدو:
" سبق و أخبرتك بأنني لا أحتفل بعيد الميلاد... "
" لما انت غاضبة مني؟؟"
" لأنني اشعر بأنك تميل لي سانتو..."
هو بالتأكيد لم ينوي يوما اخفاء ميوله لها:
" الا يجذر بي؟!" لم تكن تتوقع هذا السؤال بالتأكيد:" أنا واع بأن هذا غير متبادل فيرنا..."
بان الانزعاج أكثر على وجهها لكنها لم ترد، دخلت الى السيارة و فعل الشيء نفسه، بعد محاولتين تمكنت من اشعال المحرك و الانطلاق بعيدا عن المركز المهجور في هذه اللحظة، في فصل الشتاء من الممكن للأمطار في كابري أن تهطل لمدة شهر كامل دون توقف، شعر بعجلات السيارة تنزلق في الطرقات، القى نظرة نحو الوجه الانثوي الرائع و النظرات التي لا تحاول الابتعاد عن الطريق أمامها، فجأة سمعها تقول:
" لا أسمح لنفسي بالتأثر بما لا أستحقه..."
هذه الكلمات نزلت عليه مثل الصاعقة، اذن فهو يعجبها ايضا؟!استدار عند سماع صوتها قادمًا ، و تعثرت عيناه على جبل الجليد الذي تشكلت عليه.
" لا تستحقينه؟"
" أنا لا أنتمي لعالمك سانتو... "
" لما تقولين هذا؟"
" لأنني واقعية جدا... و لأن هذه هي الحقيقة.." انحرفت بحذر نحو اليمين لتأخد مسلك البحر، أقرب طريق مؤدي الى القرية التي ينزل في بيت العجوز الذي استأجره ريثما تنتهي شركة البناء من معصرته.:" أنظر اليّ.."
" أنا أنظر و لست أعمى... تقصدين اعاقتك؟؟"
" بعض الأمور لا يمكن تجاهلها..."
" أملك اعاقات لا يمكنك رؤيتها بالعين المجردة و هي أسوأ مما لديك..." هو نفسه متفاجئ جدا بهذا التصريح.
لم ترد، لقد أمضيا تلك الأسابيع في تفاهم لا مثيل له، و ظن أنها فهمت بأن شخصه ليس سطحيا اطلاقا، فيرنا ليست غبية كي لا تفهم ان وجوده اليوم في كابري و رائه اشتياقه لها.
" كلا..." كان نفيها مزعجا للغاية اليه.
" كلا؟؟"
" أصبحت تردد كل ما أقوله مثل الببغاء..."
" لأن كلامك غير مفهوم..." رد بجفاف:" اشرحي لما لا يجب أن أعجب بامرأة رائعة مثلك؟"
" لأن فتاة مثلي لا تسعى لإثارة اعجاب أحد..." قالت بصراحة:" دعمك و تشهيرك لجمعيتنا رائع جدا و قد استفدنا منه و بفضل كرمك تمكنا من تثبيت اقامة لشتى عائلات... أرغب أن تبقى الأمور هنا... شيء آخر سيضر بالمصلحة العامة... كما أنني أنوي ترك كابري و الطيران الى كينيا... كنت قد قدّمت طلب الالتحاق بعناصرنا هناك و تم قبول طلبي... أحب بشدة مد يد العون... انه المجال الوحيد الذي أبدع فيه سانتو... "
الذهاب الى كينيا؟لأول مرة ، يسمح لنفسي بالاستماع ليس فقط لكلماتها ، ولكن المعنى المخفي وراء هذه الكلمات.
" أنا لا أطلبك للزواج فيرنا..."
" أعرف... تريد تمضية الوقت معي عندما تنزل في كابري..."
الطريقة التي نطقت بها بهذه الكلمات أنذرته بأن ثمة قصة وراء الموضوع:
" هناك رجل آخر؟" سألها وهي توقف السيارة أمام المنزل الخشبي و الحجري الذي ترك ناره و ضوئه مشتعلين قبل أن يلتحق بفيرنا في مركز الاستقبال، أدارت نحوه ملامح جدية:
" كان هناك واحدا نعم.. ولا أظن أن قصتي تهمك في شيء... وصلنا دون سانتو..."
" توقفي عن مناداتي بدون سانتو هذا لا يروقني بالمرّة و ليس بهذه الطريقة ما ستبعديني عنك..." هو أيضا يتكلم بجدية بحق الجحيم:" تعالي معي الى الداخل... يمكننا اتمام كلامنا حول النار و احتساء شراب ساخن..."
" لا أظنها فكرة جيدة..."
" تخلفت عن الذهاب لسهرة فيثو لأنك رغبت بالبقاء معي..." قال لها وهو يلتقط أصابعها المتجمدة على عجلة القيادة:" أم أنني مخطئ؟ أعرف بأنك تريدين البقاء معي فيرنا... لن أؤذيك انت تعرفين هذا جيدا"
هزت رأسها و لا يعرف ان كانت كإشارة على الموافقة أم الرفض، بقي مكانه ينظر أن تتخذ قرارها، سنوات من الخبرة العالية مع كل أنواع النساء و يجد نفسه اللحظة مبتدئا أمام امرأة لا تشبه البتة كل النساءـ عندما رآها تقطع المحرك شعر بالراحة العارمة تتخلله... كان يعرف بأنها على حق... حذرها في محلّه لكنه هو لا يجبر امرأة على ما لا تريده، قد يملك كل المساوء نعم سوى هذا...كان يريد رفقتها.. لأنه يعلم بأنها مستمعة رائعة...بأن رأيها مهما... يريدها أن تكلمه عن الرجل الأخر... و أن يمسك يدها... سيفعل ما بوسعه ليفهمها... سيخبرها أنها جميلة... مرغوبة... بأن اعاقتها لا تجعلها أقل شأنا...
يريدها أن تبقى...
وهي فعلت...



ملك جاسم likes this.

أميرة الحب غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 05-11-20, 03:02 PM   #3810

أميرة الحب

مشرفة وكاتبة في قلوب أحلام وكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء وعضوة في فريق الترجمة

alkap ~
 
الصورة الرمزية أميرة الحب

? العضوٌ??? » 53637
?  التسِجيلٌ » Oct 2008
? مشَارَ?اتْي » 14,442
?  مُ?إني » فرنسا ايطاليا
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Morocco
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » أميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond reputeأميرة الحب has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   cola
¬» قناتك fox
?? ??? ~
https://www.facebook.com/الكاتبة-أميرة-الحب-princesse-de-lamour-305138130092638/
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

الفصل الحادي عشر


التسلل في منتصف الليل وفي عيد الميلاد لرؤية عناصر المجلس يجعل روكو في كل حالاته، لكن هؤلاء الرجال المشاييخ لن يخرجوا من بيوتهم في هذه المناسبة المُقدّسة ان لم يكن الموضوع مهما، تقدم سانتياغو ليتفقد المكان بينما انتشر بقية رجاله في الارض المهجورة بحيث الباب الوحيد الموجود مؤدي الى طابق سفلي تتم فيه الاجتماعات السرية و أيضا... معاقبة الخارجين عن القانون، هذا المكان كان مكتب يانيس السري و مازال يحمل أثاره، اشتعلت الانوار عندما أخدا الأدراج المؤدية الى صالة باردة مظلمة و شاسعة... هنا عاقب أيضا يولاند كونتري لإخفائها عنه أمر أبوته لصوفي... هنا قام يانيس بتصفية عدد لا منتهي من اعدائه.
" أكره أن يخرجني أحدهم من بيتي في هذا الوقت..." بادر ما ان رآى الثلاث رجال مجتمعين، و كأنهم مستنسخون، نفس الشعر الرمادي، نفس القامة، نفس الملابس الشتوية الثقيلة و السوداء، شركا ءيانيس قدّر لهم العيش بينما القائد مات منذ سنوات... حتى هذا بالكاد يصدق حذوثه، كيف لرجل صلب منه أن يسمح للموت بالاقتراب منه؟ هو الذي كان يعشق الحياة... خُلق ليكون دكتاتوريا و مسيطرا.
" لو لم يكن الموضوع مهما..." قال أدولفو ريز، ثاني اكبر عائلات صقلية اجراما، أصبحت ثروته نظيفة بعد ان تعاقد مع الفاتيكان لتحقيق المعجزة... الدين ينفع المجرمين التائبين.
" أحدهم بلّغ بشأن حمولة الكوكاين ل'سوغارا'... يعتقدون أننا المسؤولون... "
أقطب روكو وهو يقف على بعد خطوات من الرجال الثلاثة، كان الجو صقيعا في هذا المكان المختبئ في قلب الأرض، القى نظرة على سانتياغو، هذا الأخير مترقب بشدة لكل ما يحوم حولهم...
" و ما علاقتي أنا بأعمال سوغارا الوسخة؟ ما دخلي في تجارتهم..؟" رغم برودة الجو انتزع روكو قفازيه، أنفاسهم تترك غيمة كثيفة من حولهم:" في المرّة الأخيرة التي رأيت فيها سوغارا الأب... كان بصدد تقبيل قدم يانيس كي يتركه على قيد الحياة...يعودون لأنهم يظنون ابنه أقل نفوذا؟"
" احتل سوغارا الأبناء فيليكس منذ نصف قرن في المخدرات حتى انهم سيطروا على المكسيكين و الكولومبين... الاشاعة تحوم حول قرصان شديد الحنكة... كان سبب خسائر شنيعة... يقولون أنه مختبئ في صقلية... لا نفهم من يقصدون بالضبط..." شرح مجددا أدولفو.
التقت نظراته بنظرات مساعده التي ازدادت قتامة بشدة:
" ما دخلي انا في ورطاتهم السابقة و الحالية؟؟ من يقصد صقلية و يطلب اللجوء و الحماية نقدمها له... "
" نريد ان نعرف من هذا الشخص الذي تقوم بحمايته دون استشارة المجلس روكو... انت تضع الجميع في خطر محدق.." هذا كان ليلوا غارسيا... تلميذ يانيس المجتهد جدا... ثروته من النبيذ... النبيذ الذي يساوى ثروة لكنه لا يُصنّعه أبدا... ليلوا لص محترف.
" تظن بأنني بحاجة لموافقة المجلس كي اتخد قرار يخصني فقط؟؟ سأعثر عمن تسبب في ايقاف شحنة هؤلاء... لكن الا تطأ قدم أحد منهم صقلية لأن المسألة ستتحول الى حرب عرناء ستكلفهم سمعتهم بالتأكيد... أخبروهم بأنني على استعداد لمد يد العون... ليس لأنهم يلقون الملامة علينا بل لنثبت حسن نيتنا نحو التعاملات عامة... "
تبادل الرجال النظرات قبل أن يتكلم أخيرا الرجل الذي احتفظ بصمته لحد الأن... كارميلو الوحش... ان كانت يده اليسرى تحوي اصبعين فقط فلأن يانيس تلذذ في الماضي بقصهم له الواحدة تلوى الأخرى.
" لن يتأخر المجلس بإكتشاف علاقتك بحماية قرصان، و هذا سيضرك روكو... سيُفقدك مصداقيتك..."
قست أكثر نظرات روكو...
" هل تخاف على شعبيتي كارميلو؟؟ أنت الذي فعل كل ما استطاع ليسحب مني الثقة بعد موت والدي؟؟ أنا ربما أدخل في صراعاتكم الوسخة لكن لا تنسى بأني بعيد عن المافيا... أعمالي لا علاقة لها بكم... نحن اسرة واحدة و هذا بالضبط ما تم تعميدي عليه... أنا العرّاب كارميلو راقك ذلك أم لم يروقك، لدي عائلة أحميها، وسأفعل الى آخر نفس... سأحل مشكلة 'سوغارا'، أعرف بخطورتهم... عرفت عنها من أبي... و في الوقت نفسه... عندما رأيت مؤسس العصابة ينحني ليقبل قدمه... أدركت بأننا الأكثر خطورة و ليس غيرنا... أبقى رسول السلام... لذا لا أحد منكم يتجرأ بملي تصرفاتي علي..."
اقترب منه ليلوا و قبض على يده ليعصرها بين أصابعه ثم قبّل وجنته:
" كنت خادم يانيس... تعرف بأنني في صفك..."
" من يقوم بخيانتي سأقوم بمسحه كليا من على وجه الأرض..." تمتم روكو بهدو وهو يسحب يده من الرجل ليمدها نحو كارميلو، هذا الأخير أمسكها فورا ليقبل كتفه:" لديك أسرة جميلة و أحفاذ رائعين... بفضلي استعاد حفيدك ما تم سحبه منه في اسبانيا... بفضلي انا يعيش كل فرد منكم في أمان... "
" لن أنسى جميلك و لا جميل يانيس ..."
" بالرغم من انه ترك لك عاهة أبدية؟؟"
" يانيس كان المعلم... و هذه العقوبة جعلتني أقوى في تجارتي...هذه العاهة شرف "
ياله من منافق، فكر روكو وهو يبتعد عن أنفاس الرجل المتسارعة، انه خائف منه... يشم رائحة خوفهم تثلاتتهم.
" جد لنا من نصب الكمين لهؤلائك الرجال كي نُهدأ الموضوع..." تدخل ادولفوا و هو يتقدم بدوره ليمنحه الاجلال:" توقع منا التعاون أيها العرّاب... أمام المجلس..."
" أحترم كل عضو من المجلس... " أقرّ روكو وهو يبتعد مجددا و يعيد ارتداء قفازيه:" الأوضاع السياسية متأزمة جدا مؤخرا في الشرق الأوسط مما يوثر تعاملاتنا بالمقابل، سوغارا مجرد دلافين صغيرة أمام حيتان مستعدة لابتلاعها... القرصان الذي طلب الحماية ليس قرصانا بالمرّة... انه غبي واقع في مأزق فحسب و للأسف أعجز رفض طلب خاص من صديق عزيز... كما ترون المسألة شخصية لذا لم أعلن عنها... " مد يده نحو سانتياغو الذي تقدّم فورا منه و مده بثلاث علب صغيرة مزينة بورق ذهبي:" عيد مجيد..."
منح كل منهم علبة، قلبوها ببعض الحذر:
" انه الكتاب المقدس... مقتطف يهوذا مثير للاهتمام، رغم رؤية معجزات سيده الفائقة للطبيعة، و التفاف الناس حوله، ومحبتهم الجارفة له، وتجاوبهم مع تعليمه.. خاصة الخطاة الذين تركوا حياة الخطية و بعد مناداته للثوبه فقد انتهى بخيانته... اقروه جيدا و استفيذوا... الفرق انني لست القديس ... فلا اتعاطف و لا ارحم ... ظهري ليس للطعن و اكون ممتنا ان يتذكر كل واحد منكم مكانه"
ثم دار على عقبيه، سانتياغو ورائه، لا وقت لديه ليضيعه في هذا المكان المريب مع رجال فقدت عقولهم ذكائها، المجلس يحتاج لشبان يافعين متطوري الافكار، مازال هؤلاء يعيشون بطريقة قديمة الطراز.
* *
أسوء عيد ميلاد في حياتها، كأسرة متدنة للغاية - بالنسبة لها و لعائلتها - العيد يمر في العبادة، حرمت هذه السنة و الديها من هذه المزاولات و كم تشعر بالعار من ذلك، القلعة تحتوي على بيت عبادة في الحديقة، غير بعيد عن مدافن العائلة التي لم ترمي فيها قدمها يوما، استغلت مع والديها هذا المكان للتعبد في منتصف الليل كما هي عادتهم خلال هذه المناسبة الشديدة التقديس.
الليلة مرّت في أجواء هادئة، تمكن خوسيه الوحش من التصرف معها بطبيعية أدمية أمام أهلها، سيسيليا مثل المعتاد حاولت التفوق على نفسها أمام بقية اسرتها التي أتت من الأندلس للاحتفال معهم، سبق و تعرفت على بعضهم خلال حفل الزفاف، لكنها اليوم أكثر من يوم زفافها تشعر بأن لا مكان لها بين هؤلاء الاثرياء البعيدين كل البعد عن عالمها البسيط العيش.
بعد التعبّد قصدت جناح التوأمين، كانت الساعة متأخرة للغاية يديها تؤلمانها من كثرت شبك اصابعها و الصلاة، لكنها لم تطلب من الرب معاقبة خوسيه، لم تتمكن حتى من ايدائه في صلواتها، فهو لا يستحق أن تهدر ليلة مهمة مماثلة في اخراج كراهيتها، الصلاة علّمتها أن تكون قوية الايمان، خوسيه مجروح و ينوي معاقبتها رفضها اقتراحه، وهي في وضعها الشرعي، ستستعمل ورقة زواجهما, العقد الذي يبرز بوضوح اتفاقهما، و لن تتردد في تحويل القضية للصحافة... خوسيه ضعيف أمام سمعته... قررت أخد موعد مع محامي لتناقشه حالتها.
غادرت المربية سريرها ما ان سمعت صرير الباب و أصبحت أمامها، عينيها منتفختين من النوم.
" لم يحن بعد موعد الوجبة..."
" اختفي من أمامي فأنا من يهتم بأطفالي..."
لم تكلمها يوما بهذه الطريقة، لكن خوسيه كلّفها بالتجسس عليها، و ان كان يظن بأن تهديداته قادرة على تغير أي شيء...
" لا يمكنني..." قالت المربية.
" قولي للسيد بأن يذهب الى الجحيم مع أوامره اللعينة... التوأمين سيعودان الى غرفتي..."
الوقوع في الحب لا يجعل كل شيء يختفي مثل السحر ! الرجال... لا يشبهون فرسان بدروع متلئلئة في القصص الخيالية...الرجال شواذ التصرفات، مختلون عاطفيا، مختلون، متنمرّون، مسيئون، و مجيئ الحب لا يجعلهم أكثر انسانية... مجيئه لا يغير أي شيء بل يزيده تعقيدا... يؤثر بالمرأة أكثر مما يؤثر بالرجل، و هي... ظنت أنها تحبه...كانت مخطئة بإعتقادها... عاش خيالها أقواس قزح و ورود بفضل فتات العاطفة التي رماها أمامها خلال ولادتها... اهتمامه الذي شغل كل تلك الأماكن الفارغة فيها... و التي أوجب ملؤها...
أحبت رجلا لأنها رأته فارسا مغوارا أخرجها من مأزق... و أحبت آخر لأنه دلك ظهرها خلال المخاض و ناداها بحبيبتي ثلاث مرّات... أحبت سراب انقضى بعصا سحرية و لم يصلح الأشياء... لا شيء تغير... لا شيء..
فكل الأمور أصبحت أكثر تعقيدا مما كانت...
هناك طفلين كادت أن تموت خلال وضعها لهما...
وهو... ينوي حرمان حقها فيهما و سلب شرعيتها...ينوي نهبها.
انحنت على جسد ابنتها الصغير و هزته بين ذراعيها، رائحتها المألوفة دفعت الدموع الى عينيها... الحب الحقيقي هو هذا ...و ليس ما شعرته لخوسيه.
الاحساس بأن كل قلبك يرتجف حقا... و بأنك مستعد للتضحية من أجل الأخر...
وهي مستعد للوقوف في وجه الاعصار و مقاتلة المارد... أوزلام تشبهها كثيرا في نفس العمر، شعرها الشديد الشقرة بدأت تظهر عوالمه، غرست أنفها في عنقها الصغير و ملأت رئتيها بعبيرها، تقسم الا تمنح مشاعرها مجددا لاحد غيرهما، فلا احد يستحق تنازلاتها غيرهما... بالنسبة لنزواتها العاطفية لخوسيه فقد اختفت تماما كما ظهرت...ذات يوم.. هي مؤمنة بأن تعثر على الحب الحقيقي.
للأسف ، وثقت بتحوله فصدمها...كانت تجهل بأن نعومة تصرفاته راحة يمكن أن تكسرها لاحقا ان قبلتها... و قد كسرها...دمّرها و صدمها... لا يمكنها تغيير وحش اعتاد بناء غروره على دمار الأخرين... وهي ليست أعلى شأنا من زوجته الراحلة... عاشت تعسة و ماتت أتعس.
وهي لن تلقى نفس المصير.
آه كلا...
ستجد طريقة تخرج منها رابحة... و تعيش حياتها مع طفليها... تقسم بذلك... الصلوات منحتها الكثير من القوة و من الايمان... وعدها خوسيه أن تفقد ايمانها ما ان ينتهي منها و هي تقسم أن يؤمن بمعتقداتها ما ان تنتهي منه بدورها.
" أحبك يا طفلتي..."وشوشت لها بينما تلامس بشرة وجهها المخملية بشفاهها:" أقسم لك الا يفرق شيء بيننا..."
انحنت لتضعها في عربة الاطفال و فعلت الشيء نفسه مع المادو الذي فتح عينيه ما ان شعر بتغييره لسريره، هذا الصبي موهوب بكاء و ان لم توقفه فورا فلن يتردد بإيقاض شقيقته، احتفظت به بين ذراعيها تهزهزه قليلا:
" مرحبا أنت..."علقت الكلمات في حلقها قبل أن تجبرها على الخروج. ..أحرقتها مثل خدوش مخالب... الدكر الوحيد الذي تحبه حقا هو هذا المخلوق:" أنا هنا... و لن يكون أحد غيري أعدك..."
تحتاج لسماع هذه الكلمات كي تتشبث بها، بمعناها... بمغزاها.
هي غير قابلة للأكل...
لحمها فاسد... و مذاقها مرّ... وخوسيه مخطئ جدا بإستضعافها.
ربما لا تملك الامكانيات لتقف في وجهه أمام القضاء، لكنها تملك ارادتها... ستسود سمعته و تجلب له الفضيحة ان لم يتركها و شأنها... تُقسم أن تنزل من قدره و شأنه ... تقسم أن تذيقه نفس المرار الذي تجرّعته منذ دخوله حياتها.
في جناحها تجاهلت غرفتيهما ووضعتهما على سريرها الشاسع و القادر على ضم أربعة بالغين، الحميمية التي لم يُسمح لها بها منذ ولادتهما، البروتوكولات الغبية، بالنسبة لخوسيه عليهما الاحتفاظ بمسافة آمنة مع الأخرين تجنبا للباكتيريا، في جناحهما الهواء المعقم يتغير بإستمرار، و ماذا بعد؟؟ مريض السيطرة و النظافة مهووس بفكرة أن الفايروسات قد تنهي حياتهما... هو لا يدرك بأنه أكبر فايروس في هذه القلعة... وهو من يجب التخلص منه.
وضعت الوسائد حولهما تجنبا لأي حواذث ثم غيرت ملابسها ببيجاما شورت و اندست بجانبهما تحت الأغطية قبل أن تطفء الضوء، رائحة أنفاسهما قربها دفعت مجددا الدموع الى عينيها... لا شيء يضاهي هذه السعادة... لا شيء يضاهي وجودهما بقربها في هذه اللحظة.
* * *
فقد سانتو الاحساس بالوقت معها، يعرف بأن الوقت تأخر للغاية و لكن رفقتها تشبه كثيرا الحلم الذي لا يرغب المرء بالاستيقاض منه.
الى جانب حلاوة شخصيتها و دماثة أخلاقها فهي ذكية للغاية و تعرف كيفية استعمال هذا الذكاء في كل المواضيع التي تتطرق اليها، لم يكن اهتمامها في آخر المجوهرات المعروضة على واجهة محلات فاندي كإهتمامها بآخر القوانين الايطالية التي تمنح حق ااقامة للعائلات التي تهتم بأمرها و تساعدها...
كان الصالون غارق في لون ذهبي، النار في الموقد و صوت المطر في الخارج يظفيان جو مختلف، وبدل البقاء على الكنبة جلسا بالقرب من النار، و انطلقا في الكثير من الأحاذيث الشيقة، لكن فيرنا تهرب كثيرا في الحذيث عن نفسها، تذكر فجأة شيئا:
" أخبرتني أن الفيضان الذي تسبب لك بالعاهة وقع في صقلية.. انت من هناك؟"
هذا السؤال أزعجها، لكنه لا ينسى التفاصيل الصغيرة التي ترويها لها... عموما... لا ينسى كل كلمة تقولها له... هذه المرأة هي هوسه.
" عمّتي مدبرة بيت عائلة شديدة الثراء و النفوذ .. ربتني في بيتها حتى وقع الحاذث و بعدها تكفل بي عمي..."
أقطب بينما يراها تعض على لسانها:
" شككت في الأمر... الحارس ليس والدك انتما تملكان نفس الشهرة لأنك ابنة أخيه؟ و ذلك الصبي ليس شقيقك..."
" ذلك الصبي يملك اسما..." ذكرّته بجفاف.
" اعتذر لم اقصد التقليل منه لكنكما لا تتشباهان اطلاقا..."
صمتت الجميلة و بقيت فحسب تحملق اليه، شعر بحاجة ماسة لمعرفة المزيد عليها... حاجته بمعرفتها تشبه حاجته للهواء.
" تكلمي فيرنا... أين والديك؟؟ لما اهتم بك عمّيك؟"
" فقد والدي حياته كي ينقذني من الموت..." قالت بنبرة مهتزة قليلا:" أخبروني انه رمى بنفسه في المياه بحثا عني و لم يجدوه سوء جثة هامدة و قد رمت به الانهار خارجا..."
القصة مأساوية، لابد أنها تشعر بالذنب لموته:
" انا آسف...."
" مرت سنوات على هذا... أظن انه تعمد رمي نفسه لأن حياته كانت تعسة بالمقابل و فضل الموت كبطل بدل الانتحار..."
المرارة غلفت كلماتها، التقت نظراتهما، كانت السنة اللهب تتراقص في الصفحة الرمادية لعينيها.. انها رائعة...مبهرة...و شديدة البراءة.
" ووالدتك؟؟"
" لا أملك واحدة..." أجابت بسرعة:" رمت بي لعمتي ما ان رأيت النور و لم تعترف بي يوما... "
كما رمى به يانيس! .. قصتهما متشابهة قليلا... و يحس بمعاناتها، شعر بأن من واجبه تشارك هذه الأمور معها لمكافأتها على بوحها :
" أبي ترك أمي بالمقابل.."
أمالت برأسها الى جنب، كانت ستكون لحركتها اغراءا اكبر لو أن شعرها حرا:
" لم تره يوما؟"
" بلى..." قال لها وهو يهز كتفيه:" عندما بلغت سن الرشد ذهبت اليه، فعاد ليرفضني للمرة الثانية.. أخبرني بأنه غير مرحب بي في حياته... أمرني أن أختفي و الا أضهر مجددا..."
بان التعاطف على وجهها و مدت يدها لتمسك بيده، انها اللمسة الأولى بعد ساعات طويلة من الانتظار، راقب أصابعها المقلمة و الأنيقة بشدة تضغط على أصابعه، هذا الاتصال سلبه أنفاسه :
" من الصعب عيش الرفض مرتين... أنا آسفة سانتو... والدك لا يعرف أي رجل رائع أنت..."
ابتسم للطافة هذا الحكم... لو عرفت من هو لما بقيت لحظة في هذا المكان... لسيما من هو والده، و من هو شقيقه...
" ووالدتك لا تعرف أي امرأة عظيمة هي ابنتها..."
ابتسمت له ببعض الحزن:
" بل تعرف... برئيها أضيع وقتي في الركض وراء اليتامى و المحتاجين... فلأكن صادقة أنا من يرفضها في حياتي... تأنيب ضميرها جاء متأخرا... كنت بحاجتها عندما مات والدي... اكتفت بدفع المصاريف العلاج و الدراسة و نبذتني كليا لأنني ... لأنها..." صمتت فجأة و قد شحب وجهها...
سانتو فهم الى أين تنوي الوصول:
" متزوجة؟"
الدموع ملأت العينين الرائعتين، و هي لا تنوي الدخول أكثر في تفاصيل ماضيها، هل تمكن من تكهن الحقيقة؟! أم هو بعيد جدا عنها؟! :
" هل يزعجك أن نتوقف بالتكلم في الموضوع؟؟"
بالتأكيد يزعجه، يريد التعرّف عليها، لكنها تصل الى حد لا يمكنها تجاوزه، خلافا لكل شيء فيبدو بأنها ماتزال تعاني بشدة من هذا النبذ... و ماذا عن الرجل الذي يفترض أنه جرحها؟؟ رغم كل محاولاته تتجاهل الاستجابة، مد يده لوجنتها ليمسح دمعة فارّة، فيرنا غامضة أكثر مما يوحيه مظهرها البسيطة، راقب فك وجهها الأنيق، حسنها الفاثن، انها أجمل ما سقطت عيناه عليه، و ليس هذا ما يجعل قلبه ينصهر في هذه اللحظة داخل صدره - قابل نصيبه من الفاثنات و تخلص منهن بعد ليلة غرام واحدة- انما اخلاقها، روحها الرائعة و هالتها التي تجعله هشا ... الشيء الجديد في روتينه.. افهو يدير أضخم شركة محركات في العالم، يدير الالاف و الالف من الموظفين و يسيطر على السوق بقبضة فولاذية و لا يتردد بالتكشير على اسنانه عندما يتوجب الأمر... يعود أدميا أمام فكتوريا... لكن...أصبح أدميا بفضل فيرنا و هذا يُحذث الفرق... بالرغم من انها لم تفعل شيئا سوى منحه الأمل بأن هناك صنف آخر من البشر يضع الأخرين قبل مصالحه الشخصية.
" أحتاج لمعرفتك أكثر..."
تأخر ابهمه على شرة مخملية شبيهة ببشرة الأطفال.
" أنا لست مهمة سانتو... بل ربما أكون اشد النساء مللا في العالم..."
ضغط أكثر بإبهامه على وجنتها لدرجة أنه توقع ترك أثر تحته:
" أريد الموت مللا اذن..." اتسعت حدقاتها بينما تركز بهما على وجهه، ثم اقترح الفكرة التي داعبته منذ رؤيتها في مركز الاستقبال، و تمناها معه في مكان بعيد:" في هذا الوقت من السنة... بينما الشتاء شديدة البرودة هنا... الصيف يستمر طوال العام في جزر الكناري، و أنا أملك بيتا هناك... ستستمتعين بروعة الأجواء الساحرة و الأراضي الشبيهة بالقمر ، والكثبان الرملية التي تلوح في الأفق، ومزارع الموز وغابات الصنوبر الخصبة المحاطة بالمياه الكريستالية..." أبقت فمها مفتوحا و كأنها لا تفهم اللغة فجأة: " اخبرتني بأنك في عطلة حتى رأس السنة... و أنا أدعوك كصديقة... اعتبريها هدية للتخفيف من ضغط العمل الذي قمتي به مؤخرا لمساعدة الأخرين..."
لكنها لم تجبه، بقيت فحسب تحملق اليه بطريقة يعجز عن تحليلها، انتظر بصبر رد فعل، عندما قررت الكلام جاء صوتها أجشا:
" لما انت لطيف جدا معي؟"
" سبق و اخبرتك بأنك تعجبينني بشدة..." رد ببساطة.
" أعجبك... و تنوي دعوتي لمكان فردوسي كصديقة؟"
" لن أجبرك على ما ترفضينه فيرنا... أريد أن أكون معك... يكفي أن تكوني بجانبي..."
راقبها تبلع ريقها بصعوبة:
" لا أحد... يهتم بي..."
" أنت من يهتم بالأخرين أعرف..." سقطت نظراته على شفاهها:" قولي نعم... و سأتصل فورا بالطيار... سنتناول طعام الأفطار أمام البحر و نتنفس هواء دافئ... و نسبح..."
" لا أعرف السباحة..." اعترضت بمنطقية و هي تشير لركبتها:" سأسبب لك الاحراج أكثر من الرفقة الممتعة... كما أنني... لم يسبق لي الخروج من ايطاليا... "
" تملكين جواز سفر.؟.. أخبرتني بأنك تنوين الذهاب الى افريقيا..."
هزت رأسها بالايجاب، و ابتسمت ببعض الاحراج و الخجل:
" لم يسبق لي أن ركبت طائرة..."
ابتسم لها برقة:
" ستعجبك الرحلة فيرنا... دعيني اقدّم لك هدية العيد... دعيني أذهب بك بعيدا و أهتم بك كما تستحقين"
" و أنت؟" سألته بقلق.
" أنا؟"
" ماهي هديتك؟"
" أنت تكوني معي خلال ثلاثة أيام فيرنا" وشوش لها بصوت لم يتعرّف عليه."... فقط ثلاثة أيام.."
* * *
شعرت به يدخل غرفة النوم بأقل ضوضاء ممكنة، فتحت عينيها بحذر و التقت نظراتها بقامته الضخمة تتخلص من سترة بدلته، ثم ربطة العنق، ثم القميص، ثم البنطلون و معه الحداء، لاشيئ بقي من العرّاب سوى جسده الرائع، عادة يجمع أغراضه ليضعها في سلة الملابس المتسخة، هذه المرة أهملها على الصوفا و توجه في عمق الغرفة حيث الدوش الشفاف الجذران يمنحها منظره شاملا، كان قد قاس درجة حرارة المياه قبل أن يضع يديه على الجذار الرخاي و يترك شلال المياه تضرب ظهره و رقبته بملايين القطرات الدافئة، منظره شبيه بفرسان العصور الوسطى، كان الضوء الأزرق الشاحب لسقف الكابين يظيف اليه طابع لا واقعي، لكن هذه الحميمة التي أغوتها أقلقتها أيضا... أين تأخر؟ و لما هذا الاستسلام العميق لمياه الدوش و كأنه يتركها تنظفه من أعباء مسؤوليته الامنتهية...
لا تعرف كم مر من الوقت و روكو لم يغير وضعيته، أبقت نظراتها على كل عضلة تتحرك تحت المياه التي تركت موجة من البخار حوله، لم يستعمل جل الاستحمام و لا الصابون... بقي فحسب يتلقى الشلالات على رقبته و رأسه و ظهره الى أن اكتفى، أدار الحنفية ليغلق المياه ثم اندفعت يديه في تموجات شعره الكثيفة ليرمي بها الى الوراء، بعيدا عن جبينه... كان الإغراء بعينه.
خرج من كابين الدوش و التقط المنشفة ليجفف نفسه سريعا قبل أن يرمي بها بعيدا و بنفس الاهمال... لكنه لم يأتي نحو السرير، بل رمى بنفسه فوق الكنبة و بقي في هذه الوضعية الى أن نجح القلق في استهلاكها... عندما يكون روكو في هذه الحالة، فمن الأفضل تركه و شأنه، مرّت الثواني... ثم الدقائق...
في النهاية قرر الالتحاق بالسرير، لكنها لم تغلق عينيها، أبقتهما مفتوحتين، مدت ذراعها نحوه ما ان أصبح فوقها، التقطها في يده ثم أخد مكانه بقربها، في ظرف ثانية كانت تتحكك بالجسم الذي ما يزال رطبا و لم تمنع قشعريرة بزيارة جسدها.
بقيا صامتين للحظات، أصابعه تداعب ذراعها، بينما رأسها يستريح على صدره:
" لدي ماجستير في علم الفلك... أنا متخصص في الميكانيك السماوي..." المفاجأة الجمت لسانها، علق الكلام في حلقها:" عشقي للابحار ليلا قادني نحو توجيه أخرج والدي عن طوعه... لم اتمم في ذلك الاتجاه أبدا... حتى انه هدد من يدعمني... عقلي بالنسبة اليه آلة حسابة ضخمة جدا... لا تتوقف عن العدّ... انتهى الموضوع بحصولي على دكتوراه في الشؤون الدولية..."
هي التي اعتقدت انه درس الاعمال فقط في فرنسا، هو بنفسه أخبرها بهذا، انه فائق الذكاء، لكنها لم تكن تعرف بأنه مثقف و ذكي الى هذه الدرجة... دكتوراه في شؤون الدولة... ما تعرفه أن الدراسة في الشؤون الدولية يشمل الدراسات العالمية والعلاقات الدولية والجغرافيا والثقافة والقسم الأعلى والدبلوماسية والمؤسسات الاقتصادية الدولية... يانيس كان يهيئ ولي عهد حقيقي.
" لم أملك الخيار لأختار ما أريده ... في البداية ظننت أن هوسه بمعرفتي و ثقافتي و شحني بكل ماهو متوفر هو حبه لي... يريد أن يفخر بوزني المعرفي و العلمي... لكنني أخطأت الظن... يانيس تركني في فخ أفاعي ضخم و أغلق الباب خلفه... قرر مستقلبي على الا يكون عاديا... قرر على الا أكون عاديا..."
" لا يمكنك ان تكون عاديا روكو... "وشوت له بينما تشعر بهذه الكلمات تؤلمها بشدة..." لأنك استثنائي, ربما يانيس أصر على دراستك لأنه لم يكن لامعا في هذا أيضا..."
ضحك روكو ضحكة لا متعة فيها:
" كان مع يانيس دكتوراه في علم النفس... غريب اليس كذلك؟؟"
ماذا؟؟ شيء لا يُصدق... حقا...
" ثم لمع في فهم من استحيل فهمهم و الوصول الى ما عجز عنه الأخرين... " اقتربت أنفاسه من عنقها، شعرت بشيء دافئ ينزلق على وجنتها و اكتشفت أنها بصدد ذرف الدموع بصمت، آلام روكو تنغرز بين ضلوعها بشكل مؤلم للغاية:" كان يعشق الشطرنج... ثم وضعني ضمن بيادقها..." هزت وجهها نحوه، منذ معرفتها به لم يطلق روكو العنان لنفسه و الكلام بهذه الطريقة: " أحببت أبي..."
" أعرف.." همست له برقة.
" يبدو أنه منح عاطفته لإبن المرأة الوحيدة التي قاومته و تحدّته و دفعته لحفر اسمها في معصمه... جنبّ سانتو مسؤولية أن يكون هو... حماه بمنحه وجود مغاير... خلافا لكل ما يعتقده ذلك المعتوه الا أنه يبقى المفضل لوالدنا... "
اقتربت من شفاهه و قبلتهما بعاطفة:
" مالذي حذث الليلة روكو؟؟ لما تبدو مريرا؟"
عاد ليضحك بنفس الطريقة التي لا تعني شيئا:
" آه لم يحذث أكثر مما يحذث عادة عزيزتي... فقط انتبهت... و أنا أدخل بوابة القلعة بأن لا وريث لي ... ثم اكتشفت بأنني وهبت حياتي ليانيس حتى بعد موته... "
" تتكلم و كأن لا وجود لصوفي..."
لكنه لم يجبها، غرق في الصمت الى أن ظنت بأنه استسلم للنوم، ثم قال فجأة:
"لا أؤمن بالمعجزات... لن تكون صوفي يوما ابنة حقيقية بينما أحبت يانيس بشكل عبودي تقريبا... انه الوالد الذي لن أجرؤ بإنتزاعه منها... لقد نافسني فيها هي أيضا... اختطف مني هذا الامتياز..."
هذا صحيح... صوفي لا تتحمل روكو و تبحث عن الفرصة للفرار بعيدا من صقلية فور شفائها، يانيس اختطف منه حق الأبوة.
" أنا مستعدة لتكبير العائلة..."
" أنت حاولتي هجراني في أول عائق بريانا..." ذكرها بصوت هش لا يليق بشخصه... الثقة... خيط رفيع جدا من نسيج العنكبوت... هش و سهل القطع، روكو دوما نزيه مع من حوله، و من أخطائه انه لا ينسى الاساءة بسهولة... أو ربما لا ينساها بالمرّة.: " و أعرف بأن هذا سيتكرر ذات يوم... اصرارك و تدخلك في مشاغلي يُعتبر قنبلة موقوتة لن تتأخر بالانفجار في علاقتنا... "
بلعت ريقها... انه يجسدها بسهولة في كلمات:
" أرفض خسارتك"
" لا تثقين بي كفاية... " صحح لها بينما يده تتسلل تحت الغطاء لتضغط على قلبها:" لا تحاولين رؤيتي كرجل أعمال فقط... تهتمين لتلك الأمور المعقدة و المتشابكة و تصرين على رؤيتي كرئيس عصابة احترافية... تريدين تغيير ما لن يتغير يوما... سأبقى مجرم لأنني ابن أبي ببساطة... مهما أبيضّت أعماقي فمظهري سيظل أسودا قاتما...في نظرك و نظر المجتمع أنا و يانيس وجهان لعملة واحدة"
لم ترد، كلماته تصفعها الواحدة تلوى الأخرى، نجحت بإيذائه و انتهى الأمر بالنسبة اليه، تبقى تحت الاختبار بالنسبة اليه الى أن تحصل المعجزة و يثق بها كليا كما كان يفعل في ما مضى... هذا الماضي القريب جدا... بحثت عن كلمات مجدية لتصليح الوضع :
" لم أخطئ بالقلق عليك..." دافعت عن نفسها.." أحبك و هذه دوافعي..."
كيف ستشرح له... بأنه كلما عبر باب القلعة بسيارته... تتسائل ان كانت المرة الأخيرة التي ستراه فيها؟ كيف ستخبره بأنها بدأت تطلع أكثر على أسرار عالم المافيا منذ معرفتها به و أن كل ما اكتشفته مرعب و مخيف؟ كيف ستقنعه بأنه رجل واحد ضد العالم بآسره و بأنه ذات يوم... سيتمكن أحدهم من التخلص منه بطريقة ما؟ لكنه لا ينظر للأمور من نفس الزاوية... خوفها ليس مرحب به بالمرّة... كما أخبرتها سابرينا... هي من اضطرت للتغير من أجل يانيس و لم يحذث العكس.
" دوافع جبانة لإمرأة رجل قوي...أحبيني بقوة بريانا و ليس بضعف... أحبيني و كأنني آخر رجل على كوكب الأرض و كوني معي و ليس ضدي" اقترب من جبينها ليحط عليه شفاه حامية من الكلمات النارية التي قذفها و قبله مطولا ثم همس " تصبحين على خير كارا... نامي جيدا"
لكنها لم تنم...
* * *
بقي خوسيه للحظات أمام سرير آيا ينظر الى اللوحة أمامه، التوأمين يبدوان مرتاحين جدا في سرير والدتهما، و ينامان بعمق أكثر من أي وقت مضى، كان منظر ثلاثتهم جميل لدرجة أنه لم يمنع نفسه من تخليدها في هاتفه، ملكة العصيان ممددة على جانبها، كانت ترتدي شورت بيجاما يبرز ساقين أكثر أنوثة من أي وقت مضى، الكاراكو الذي يغطي نصفها العلوي بلون الخوخ، يبدو صغيرا فوق حجم صدرها، خصلات شعرها منتشرة خلفها، كانت تشبه الحلم الناعم، صغيرة جدا على أن تكون أم التوأمين... صغيرة جدا على ما اقترحه عليها و رفضته بشراسة... لم ترى في الحياة شيئا بعد... و تفضل حريتها عليه.
دنى منها ليحصل على رؤية أخرى أكثر قريبا، مد يده و لامس نعومة خصلاتها التي ارتجفت مثل الحرير تحت أصابعه... رموشها تترك ظلال طويلة على وجنتيها، بدأ الفجر يلوح في السماء و على وجهها أيضا، عندما رآها في المزاد لأول مرة شدّته بشدة لأنها ذكرته بإليونور... في الحقيقة لا أوجه تشابه بين المرأتين... ما حذث معه تلك الليلة أنه أعجب حقا بها و بحث عن سبب مقنع ليبرر ما شعر به... شيء لم يعد من حقه الشعور به...بعدها لم تكفيه الأيام التي قضياها معا و بحث عن طريقة لإبقائها معه... لم يخطط أن تعجز عن مبادلته اعجابه بباسطة... شيء غريب لرجل آلف حصد التقدير الانثوي... انها فشله الأول.
بظهر يده تحسس وجنتها قبل أن يستعيدها بعدما رآها تتململ في نومها و يكشف الكاراكو أكثر منحنياتها الأنثوية، بدأ بطنها يستعيد نحوفه، لكن آثار معركتها مع الحمل ما تزال ظاهرة... يحسدها على احتفاظها بدليل مرور التوأمين في جسمها.
ابتعد عن السرير و ارتطمت قدمه بطاولة الشوفيه مما تسبب بسقوط كتاب ذهبي الغلاف، نفس الكتاب الذي لا تستغني عنه آيا... انحنى عليه و التقطه و قلب بسرعة ورقاته، خط راقي، لغة صعبة الفهم... هل هي التركية؟ مذكرات على صفحات لا منتهية... رائحتها الخاصة عالقة بين حروف لا يفهمها... أغلق الكتاب و بينما يحاول اعادته الى مكانه امتدت يد ناعمة و التقطته منه بعنف، التقت نظراته بأخرى مشتعلة بالغضب، اختفى الملاك النائم لتعود النمرة الشرسة لمواجهته.. كم يفتقدها و كم تعحبه:
" لا تلمس أغراضي و لا تدخل غرفتي دون إذني..."
" هذه القلعة ملكي أفعل تماما ما أريده في ممتلكاتي..." أشار الى التوأمين:" هما بالمقابل لي... لا تصدري أوامرك لي و لا تنسي موقعك في هذا البيت و حتى في حياتهما و حياتي... أنت لاشيء"
ابتعدت عن السرير و التقطت الروب على الصوفا لتخفي نفسها ورائه، طريقة سيئة لبدء النهار اليس كذلك؟؟ آيا في كل حالاتها هياجا... في كل حالاتها جمالا أيضا... بدل تفادي أزمة أنثوية يجد نفسه مأخودا ببريق شعرها الذي غطاها كستارة، الروب ضمّ منحنياتها البارزة بطريقة أيقضت رجولته، لكن مالذي يحذث معه في النهاية؟؟ لما يستمر جسده بالتجاوب مع امرأة تمضي وقتها في التفكير في رجل آخر؟ و هذا الرجل هو صديقه الحميمي...
" أنت مخطئ للغاية ان ظننت بأنني تحت امرتك..." قالت من بين أسنانها لكن بصوت منخفض كي لا توقض الطفلين.
" آه بلى كوراسون... أنت تحت امرتي ... و ستنفذين كل تعليماتي بحذاريفها ان رغبتي بالبقاء في هذا المكان..."
الأشعة الأولى للشمس غمرت سماء مدريد الصافية و معها ملامح هذا الوجه الذي يرفض عقله نسيان تفاصيله، تحديها يزيد من غضبه بالتأكيد و من نشوة الانتصار الذي يكره أن يأتي سهلا... يحتاج للتغلب عليها.
" تظن نفسك ذكيا؟ " سمعها تقول بسخرية:" أنت تختبئ وراء أوامرك الا أنك في الحقيقة مرتعب مني و مما أنا قادرة عليه.َ!.."
هز حاجبيه:
" لما يجب أن أرتعب منك بحق الجحيم؟! ملاحظة مثيرة للاهتمام كوراسون... أخبريني لما تستنتجين استنتاجا غبيا مماثلا؟؟"
اقتربت منه لتتطلع الى عينيه مباشرة، كانت قصيرة القامة مقارن به، يمكنه حملها نحوه بقبضة يده، و هذا فعله معها مرارا في الماضي، و لم يكن لمعاقبتها بالتأكيد... بل لإمتلاكها.
" لا تظني جاهلة فأنا أعرف حقوقي كافة خوسيه... لا تظن أن أموالك ستمنعني من شرعيتي نحو طفلين أنت كنت شاهد على معاناتي لمنحهما الحياة... الأمور لن تسير دوما كما تريد ايها الاسباني... هذه المرة أنت تواجه امرأة تجرعت كفايتها من غطرستك و قسوتك اللعينة... أملك كل الأوراق الرابحة أكثر مما تظن... و سأستعملها في الوقت المناسب... هددني مجددا خوسيه... و سأفاجئك..."
قطع المسافة الضئيلة بينهما لكنها لم تتراجع، بقيت واقفة أمام اعصار نظراته بكل صلابة... سقطت عيناه على شفاهها... انها عدوته الشهية جدا و المغرية:
" أوراقك الرابحة الوحيدة كونك زوجتي و أم الولدين الوحيدين الذين أملكهما, لا تظني بأنك قادرة على التسبب لي بأي ازعاج الا بما اسمح لك به آيا..."
ابتسمت بإستخفاف و نصحته بهدوء:
" لا تستضعفني خوسيه... لا تفعل"
أعاد لها ابتسامتها:
" يا طفلتي انت تجهلين تماما من أكون و ما أنا قادر على فعله بك ان تملكتني الرغبّة... أو ما يمكنني فعله بعائلتك !..."
الملاحظة الأخيرة أخدت ابتسامتها و زحف الشحوب الى وجنتيها، تقلصت ثقتها الغالية، يمكنه الشعور بضربات قلبها على بعد الانشات التي تفصلهما، أمسك بخصلة من شعرها لكنها ضربت يده بقوة، عينيها تتطايران شرا:
" لا تضع مجددا يديك القذرتين على هل تفهم؟... أنت تقرفني..." رغم تسليته بوقوفها في وجهه الا ان كلماتها تنجح دوما بجرح صدره اللعين:" لن تحصل علي مجددا ... سوف أهجرك عندما يحين الوقت المناسب و سأعمل على الا تؤذيني أو تؤذي عائلتي مجددا... أنا لست زوجتك السابقة... لن ينتهي بي الأمر في صندوق في قلب الأرض... أنت من سيقتله يأسه و ليس أنا خوسيه... ليس أنا...لن تدفعني للجنون"
و تعود لتهديده، لتحديه، تصفعه أنفاسها النارية لتوقض ليس غضبه بل آنته، شيئ بلا سيطرة يتحرك مثل الوحش في أعماقه، مد ذراعه نحوها و دفعها الى الخلف كي يلصقها تماما مع الجذار، فليرى الى اي مدى يمكنها الوصول في تحديه، من مقاومة اللمسات التي تُقرفها بحكمها، تسارعت أنفاسها و اتسعت حدقاتها بذعر بينما تفقد كليا قواها تحت قبضته الحديدية، تصلبت مثل الصخرة، صدرها مهتز و شفاهها مزمومة بكراهية... كل هذا... يوقظ كيانه أكثر... هي غير واعية ربما لكن هذه التصرفات بمثابة رمي المزيد من البنزين على نار متقددة.
" من أخبرك بأنني أنوي التخلص منك أو دفعك للجنون؟" سألها بنعومة خطرة بينما يفتح عقدة الروب و تتسلل يده الى المنحنيات التي توقض دكورته و التي ترفض الاستجابة لنساء غيرها:" تملكين لسان لسيط و تمتهنين العصيان و هذا ... لن يمنع بأن أستبيحك متى أردت . "
أوقفت يده عندما حاول تحسس وركيها، بينما تسابقت دموع الكراهية الى عينيها لكنها لا تقول شيئا: " فعلت هذا بينما لا تجمعنا أوراق و بنود، انتهيتِ بالاستسلام لي و جعلتك امرأة حقيقية... امرأة حيوية... امرأة متقددة من الرغبة و الشهوة...تعتقدين بأن هذه الكلمات ما ستمنعني ان اخدتني الرغبة بك مجددا؟ لسيما و أنت زوجتي شرعيا اليوم؟"
" تنوي اغتصابي؟" سألته بنبرة قوية مغلفة بقلق التقطه فورا... انها تهابه" لأنه لا توجد طريقة أخرى لتحقيق مآربك ..."
" لم أكن بحاجة لإجبارك.!.." همس في أدنها متجاهلا محاولاتها في ابعاد رأسها عنه، منحته رؤية جميلة لرقبتها و للشريان النابض بجنون في الأسفل:" في افريقيا... كنت تترقبين زيارتي كل ليلة بفارغ الصبر... هل أنعش ذاكرتك بالكلمات التي كنت تتنهذين بها؟ اسمي الذي تتضرعين له مثل الصلوات التي تجعل منك المؤمنة المثالية؟"
التقطت انفاسه رائحة بشرتها التي اصبحت ندية بفضل الادرينالين العالي في دمها في هذه اللحظة:" تنسلخين من جلد الطفلة البريئة و تخرجين كل مواهبك السريرية التي اكتشفتها بفضلي أنا... أعرف بأنني أثيرك، أؤثر بك، أعجبك..."
" تعرف أيضا بأنني أكرهك؟" سألته وهي تعود لتنصب عينيها في عينيه، مبعدة أذنها على شفاهه، كانت من القرب بحيث يلاحظ البقع الرمادية و الذهبية في عمق بؤبؤ عينيها الشفاف:" لا تمزج العاطفة بالمشاعر خوسيه... أنت آخر رجل يهمني... "
حاول تفادي هذا السهم الا انه نجح بإصابته في نفس المكان... كانت تعرف دائمًا أين وكيف تزرع اللدغة بين أضلاعه...هزها بقوة كافية لتصطدم أسنانها.
" و أنت لا تمزجي الرغبة بالعاطفة و المشاعر... ما أريده هو بعض التسلية بين فخديك عزيزتي... كإمرأة لا تهمينني.. قابلت نصيبي من النساء الجميلات و أنت لست استثنائية و لا مميزة..."
تركها في الوقت نفسه الذي أعلن المادو عن استيقاظه، لم يكن يبكي... بل يزقزق مثل طائر سعيد، كان يحرك ذراعيه و رجليه سعيد بؤيتهما، وضع أكبر مسافة بينهما، استعاد سيطرته على أنفاسه، أخرج من جيبه مرهم التعقيم و عقم يديه قبل أن ينحني على ابنه و يلتقطه بين ذراعيه.
" صباح الخير ... سعيد الا تبدأ يومك بالصراخ و العويل... أرى بأن مزاجك جيد... "
منحه تلك الابتسامة الرائعة التي تشعره أن كل شيء في العالم على مايرام، اقتربت منه آيا، مجددا الروب في مكانه و الحزام مشدود بحزم على خصرها، مدت ذراعيها نحوه:
" انه وقت فطوره... مرره لي..."
" لن تلمسيه قبل أن تغتسلي و تعقمي نفسك... رائحتك قذرة..."
استعادت ذراعيها، قالت من بين اسنانها بلهجة جليدية:
" عدوى قذارتك خوسيه مارتينيز... لا يمكنني منعها كلما لمستني... لا توجد معقمات تطهرك مما أنت عليه أيها السافل..."
ثم منحته ظهرها و قصدت الحمام، بقيت عينيه على الطريق الذي سلكته الى أن قرر المادو اثارة اهتمامه مجددا و منحه ابتسامة واسعة أخرى أنارت يومه الذي بدأ بطريقة سيئة.
" والدتك سيئة الطباع... لكنني سأقوم بترويضها"
* * *
" اذن مالذي يفسد مزاجك لهذه الدرجة؟" سأل دافيد صديقه لوكا سؤال مباشر.
كانا حول فنجاني قهوة في الحديقة الداخلية لبيت صديقه، لكن شيء ما يقف بينه و بين طبيعته هو يعرف، اصتدمت الكلمات في راس لوكا قبل أن يهز عينيه أخيرا نحو النظرات الشديدة الزرقة و التي تتطلع اليه بفضول:
" دعني أخمن... ميغان"
اتسعت ابتسامة دافيد... انه سافل محترف، دافيد أسوء من يمكن أن يمنحه النصائح:
" هيا لوكا... أعرف بأنها وراء هذه النظرة التي لا أجد لها تفسيرا سوى لرجل مدمر داخليا..."
" مدمر داخليا؟؟" كرر لوكا متهكما:" هذا ينطبق عليك عندما فشلت محاولاتك بالنسبة للأميرة بيانكا... " كما توقع انسحبت ابتسامته.." أنت ما زلت مغرم بها؟"
" بيانكا حالة استثنائية... لم أكن نزيها معها... سبق و شرحت لك" دافع صديقه عن نفسه بينما يبعد خصلات شعره الى الوراء.
" دافيد أنت لم تكن نزيها مع كل النساء اللواتي مررن في حياتك... لما هي أثرت بك لهذه الدرجة؟؟"
" لأنها ابنة زوج أختي... " شرح بصوت بارد:" نوع العلاقة بيننا ستؤثر دوما علينا... اللقاءات العائلية... المناسبات... لا يمكنني رؤيتها دون التفكير فيما فعلته بها و دون الشعور بالذنب... "
" و ليس زوج والدتك السبب لكن حضورها ما منعك من الالتحاق بالتجمع العائلي في لندن..." هذا كان تأكيدا:" تظن بأن هذا هو الحل؟؟ تحتاج لمناقشة جدية معها كي ينسى كليكما هذه القصة... "
" تظن بأنني لم أحاول؟" سأل دافيد ببعض العصبية.
" دخول كيفن في المعمة أيقض غيرتك فحسب بالرغم من معرفتك الأكيدة من عشق هذا الأخير لشقيقتك... أنت لم تناقشها حلولا دافيد... أنت شككتها في قدرتها على نسيانك..."
" تماما كما تفعل أنت مع ميغان؟؟"
هذا السؤال أخل موازين سيطرته:
" الوضع مختلف... هي من رماني من حياتها و كأنني بلا أهمية..."
" لا يوجد رد فعل بدون فعل... أنت لامع كي تفقه بأن ثمة أمر وراء انقلابها عليك... حتى انني متأكد من شكك في الأسباب..."
التقط لوكا فنجان قهوته و ارتشف منها القليل قبل أن يعيده على الطاولة:
" بعد ثلاث سنوات و نصف من الصمت عادت بقصة خيانة مع رئيسة محامين ارشيبالد..."
هز دافيد حاجبه:
"و بحتث في الموضوع لتعرف الحقيقة؟"
" بالطبع فعلت..." رد لوكا مكشرا:" بريتتني لا تفهم لما تتعدر ميغان بها... أظن انها فبركت الموضوع لتعلل تصرفاتها فحسب... و اليوم..."
" و اليوم أنت تريدها..." أتمم دافيد بإبتسامة شاسعة:" هيا لوكا... أنت تعس من دونها و لا تنفك عن تفحص هاتفك و كأنك تنتظر اتصال مهم..."
و كأن هذا التنبيه ذكرّه بهاتفه الذي التقطه ليتفحص الرسائل القادمة، آخر رساله لها كانت تهاني العيد، لم تجبه، و لم تجب على كل الرسائل التي أعقبت الاشتباكات التي حصلت بينه و بين وارين جانيس.
" أريد استعادتها..."
ضحك دافيد تلك الضحكة المتهكمة و الناعمة:
" ميغان بشخصية فولاذية...امرأة ذات طباع نارية... تحتاج لكل طاقتك لإستعادتها..."
لم يعلق لوكا، بعض الأمور لا يمكن نسيانها بينهما، تلك الحميمة و التواطئ و ليالي طويلة أمام التلفزيون و الفشار، فتح باب الحديقة الداخلية لتظهر شقيقته ايموجين، كان شعرها الأحمر يحيط وجهها و كتفيها، فستانها الأبيض لا يخفي شيء من روعة جسد تمضي وقتها في الاهتمام بأقل تفاصيله... انها زوجة رجل استثنائي تحيطه النساء من كل جانب و الاحتفاض به يتطلب مجهوذا.
" أنتما هنا!... "
وقف لوكا بينما أخته تأخد مكانها على الكنبة القريبة من دافيد، رآهما يتشاركان ابتسامة متواطئة.
" هل مجيئي ما يجعلك مستعجلا فجأة؟!..."سألته ايموجين بنعومة.
" لدي ما أقوم به..."
انسحب لوكا كي تمنح ايموجين كل اهتمامها لدافيد الذي عاد ليلتقط فنجان قهوته:
" كنتما تتكلمان عنها اليس كذلك؟"
" عنها؟ "
" ميغان..." ردت وهي تلعب بخاتم زواجها:" لوكا يفقد هدوئه عندما يتعلق الأمر بها... "
هزّ عينيه للمسلك الزجاجي الذي اتخده لوكا، الحديقة الخارجية غارقة في الثلوج البيضاء، كان يقصد سيارته عندما استوقفته ناومي، الجميلة بشال أسود، شعرها الشديد الشقرة مجموع في تسريحة ذيل حصان، يبدو ان لوكا يرفض خوض موضوع تنوي مكالمته به ثم يقفز الى سيارته، هذه الأخيرة بقيت مكانها تراقبه يدير محرك السيارة القوي قبل أن يتناثر الثلج من تحت عجلاتها و يبتعد... بلا أدنى شك... انه يقصد منزل ميغان.
ايموجين ادارت بدورها رأسها و لمحت شقيقتها التي هزت رأسها نحوهما في هذه اللحظة قبل أن تقرر العودة الى المنزل، تتهرب منه بإستمرار و بالكاد تنظر نحوه:
" كبرت كاندي و فقدت وزنها..." علّقت بإبتسامة صافية:" ما رأيك بها؟"
هز دافيد كتفيه:
" لما تسألينني رئي؟؟"
اتسعت ابتسامتها الماكرة:
" أرى بأنك لا تنفك عن ملاحقتها بنظراتك... "
تشنج دافيد وهز عينيه اليها ببعض الحذر:
" ناومي امرأة جميلة جدا... "
بسطت يديها الأنيقتين و المشذبين بعناية فائقة أمام عينيه:
" الفضل لهذه الاصابع السحرية... السمنة تركت مخلفات غير مرغوبة في جسدها، استعادت ثقتها بنفسها بفضل خبراتي الا منتهية... " شعر بالأسى لهذه التصريحات، يتخيل ردة فعل ناومي عندما تدرك بأن سرها لم يعد واحدا، لسيما امامه هو " و بالرغم من ذلك... لا تجد حبيبا..."
اذن فقد كذبت عليه و لا حبيب لديها؟ لكن لما تصده بهذه الطريقة بينما يحاول التقرّب منها بكل الطرق الممكنة؟ شعر برغبة عارمة لحمايتها و الدفاع عنها أمام شقيقتها، أخرج هاتفه و قلب في الصور ليخرج واحدة و يضعها أمام عيني ايموجين:
" صيف مع عائلتي في اليابان، كان عمري السبع سنوات... عشرون رطل اضافية لوزني الطبيعي... بسبب هذا الخلل عانيت من مشاكل كثيرة جدا في مراهقتي... و في صحتي الى أن قررت فرجينيا وضع حد للمشكلة و أدخلتني مدرسة داخلية خاصة بالحالات المماثلة.. قضيت فيه خمسة أعوام... تمكنت من الحصول على حبيبة حقيقية في عمر السابعة عشر فقط... "
أبقت فاهها فاغرا، لا يبدو انها توقعت اعترافه بهذا الجزء من حياته الذي لا يعرفه سوى افراد عائلته المقربة، هذه الصورة يحتفظ بها لأنها الفترة الوحيدة التى كانت اسرته فيها سعيدة للغاية، كانوا يتنفلون في العطل مع فرجينيا عندما تقيم سهرات في بلدان عديدة:
" كنت منبوذ أنثويا حتى حصلت على مظهر جيد... و احترم بشدة عزيمة ناومي و عملها الكبيرة في نفسها و شخصيتها، أصبحت امرأة رائعة جدا، بالاضافة لذكائها و لمعانها المهني..."
مشكلة ايموجين أنها ترفض أن يكون أحد أفضل منها... توقع أن تعترض عن كلامه، صدق تخمينه، في الماضي عندما عاشرها، أرادت معرفة ان كانت أشد النساء رغبة شاركهن الحب... الشيء الذي دفعه لنبدها فورا:
" تعرف بأنني حاليا من المع الطبيبات الأمريكيات في العالم؟؟ مستشفياتي حصدت الكثير من الأرباح الكثير من الشهرة... "
" بالتأكيد ايموجين... انت طبيبة رائعة و اتمنى لك التوفيق.. لكن... هناك طلب ... لا تخبري ناومي بانني على علم بعملياتها... أرفض التسبب بلاحراج لها..."
ثم دون أن ينتظر ردّها غادر المكان.
* * *
" اذن فهذا هو خافيير!.." انحنت دانيلا على درابيزن شرفة صوفي لتتمكن من استراق النظر اكثر:" يبدو play-boy مقارنة بهالة الطهارة التي تلف شقيقه... انهما مثل الليل و النهار..."
في التايلاند، خلال لقائهما الوجيز لمّح لها خافيير عن تعاملاته السابقة الخارجة عن القانون و ظنته يمزح، ثم تأكدت بأن صاحب العضلات القوية و الابتسامة المدمرة انسان سيئ للغاية، أخبرتها والدتها بأنه هنا تحت حماية شقيقها، و بأنه ينضم لفريقه أيضا... الشيء الذي خيب أملها في شخصه... ففي النهاية لا فرق بينه و بين العرّاب.
" أعترف بأنني أحب جسمه و أجده مرغوب بشدة..." ضحكت دانيلا وهي تعود بعينيها الى صديقتها الجالسة في كرسيها المتحرك،الرياح الباردة للجزيرة تداعب خصلات شعرها الجميلة و الامعة." كما أن هناك شيء في وسامته لا يشعرني بالراحة... أجده غامض للغاية... و كأنه يلعب دور..."
" أوووووووووه صوفي ما هذا التقدم السيكولوجي!..." قالت دانيلا بإبتسامة عريضة للغاية، رغم كل مساؤها الا انها تعشق صوفي.
كمشت هذه الأخيرة أنفها:
" هل كان يفترض بي أن أرتمي على قدميه فقط لأنه يشبه الرجل الذي فضل وضع خاتمه في اصبع امرأة أخرى..؟؟ ما أحببته في اليخاندرو يفتقده خافيير... الاثنين مختلفين بشكل مثير للدهشة..."
عم الصمت وعادا يتجسسان على الرجل الذي كان يقف مع سانتياغو قرب احدى سيارات روكو، لابد انهم بإنتظاره، خافيير لا يرتدي بدلة رئيس حرس شقيقها، كان يرتدي جنز قديم و جاكيت جلدية حالكة، و يشبه تماما ممثل هوليودي في فلم أكشن.
" حسنا... انه وسيم...." اعترفت صوفي.
" لن أختلف معك في هذا عزيزتي...انه مدمر" أقرت دانيلا بنبرة صادقة:" تعتقدين أنه عازب؟"
" لا أدري... كان مع صديقته عندما التقينا صدفة في المستشفى ثم نشب بينهما خلاف اذ انها انتبهت بأن حبيبها ليس بالوفاء الذي تظنه... اختلاف آخر مع شخصية اليخاندرو الوفية و المُحترمة... "
استدارت دانيلا نحوها، عينيها تبرقان بفضول:
" انجذب اليك؟؟"
" لا أدري لكنه كان يفضل امضاء الوقت معي بدل صديقته و لم يخفي هذا عليها... "
" صوفي..." ابتسمت متلهفة:" تم اللقاء بينكما و كان هناك انجذاب بشكل او باخر، برئي لديك المرشح المثالي جدا لخوض التجربة"
أقطبت :
" اخوض التجربة بكرسي متحرك و مع موظف روكو؟ هل تنوين ارسالي مبكرا للمقبرة؟ شقيقي سيقوم بقتل كلينا ان حاولت حتى مغازلته لا اغوائه"
و كأن روكو سمع اسمه ليظهر، كان مثل المعتاد يرتدي واحدة من تلك البدلات التي تزيد من هبته ووقاره، يتمشى على طول الطريق وسط المروج التي يتم صيانتها بدقة ، كانت الأشجار الطويلة التي يبلغ عمرها مئات السنين تنحني قممها بفضل الرياح و كأنها ترحب به، توجه نحو المرآب الشاسع الذي يضم مجموعة ضخمة من سيارات العائلة، تأهب الرجلين لاستقباله الا انه فجأة استدار نحو الشرفة و كأنه شعر بوجودهما و مراقبتهما له:
" يملك أعين خلف رأسه ايضا... رائع " علقت صوفي بسخرية قبل ان تمنحه نظرة جليدية و تدير كرسيها الى الداخل، لم يتبقى لدانيلا سوى ان تهز ذراعها نحو ملقية التحية، لكنه لم يردها اليها، راقبته يدلف الى السيارة ثم يحذو حذوه الرجلين، بعد دقاق انطلقت هذه الاخيرة مبتعدة نحو بوابة القلعة الضخمة..
" لما تستمرين بمعاقبته؟" سألتها ما ان عادت الى الجناح " اظنه يحاول بشتى الطرق التقرب منك فلما تغلقين كل الابواب في وجهه؟"
" لانني لست مجبرة على مسامحته... و هو لم يغير شيئا من سلوكه معي..."
دخل الجناح طاقم صوفي الطبي، تحجرت نظراتها لكنها لم تعترض، ساعات من الترويض بإنتظارها، تركتها ورائها و قصدت الطابق السفلي، ربما وعدت اليساندرو بنسيان موضوع قرابتها مع اليونور الا انها لن تجد فرصة أخرى للتحاور قليلا مع سابرينا، المرأة كانت صديقة مقرّبة جدا من والدتها و ربما تعرف ما هي بصدد البحث عنه... لأن خطيبها استيقظ هذا الصباح مع فكرة العودة الى نيويورك مساءا و هذا لن يترك لها فرصة التحري كما آملت.
وجدت حماتها المستقبلية في المطبخ بصدد مراجعة لائحة طعام الاسبوع مع رئيس الطباخين، مثل المعتاد المرأة شديدة الاناقة من رأسها الى أخمص قدميها، تحسدها بشدة على هذه الحماسة التي تستيقظ بها، كانت ترتدي تايور كريمي و حذاء عالي الكعبين، شعرها الاسود الحالك في كعكة انيقة خلف رقبتها التي يزينها عقد من الؤلؤ، ما ان انتبهت لحضورها حتى ابتسمت لها:
" عزيزتي هل كنت بصدد البحث عني؟؟"
" نعم حماتي... أريد التكلم قليلا معك..."
" لحظة واحدة أنهي الطلبات مع الموظف..."
ابتعدت دانيلا عنهما لتتمشى في مطبخ يليق بمطبخ مطاعم العالمية، صناديق خضر بيولوجية لا منتهية بصدد النزول من شاحنة النقل التي تقف أمام الباب الخلفي للمطبخ، موظفين يتنقلون بين العربة و غرفة التبريد الشاهقة، فواكه موسمية لا توجد في المحلات بهذا الوقت من السنة، لابد انه تم جلبها من القارات الساخنة و البعيدة... لا شيء مستحيل على الايميليانو.
" بريانا عزيزتي انهي الحسابات و اللائحة بدلا عني... دانيلا بحاجتي"
في الوقت الذي سمعت كلمات سابرينا كانت خطيبة العرّاب بصدد الدخول الى المطبخ بدورها، أنيقة بشكل ملفث في التايور الزيتوني تعترف دانيلا أنها ناسبة جدا لتكون السيدة روكو ايميليانو، ابتسمت لها:
" مرحبا دانيلا... لم نراك على طاولة الفطور..."
إحمرت وجنتيها تلقائيا... الفطور ما جاء لها صباحا... اليساندرو لم يتركها تهجر سريره... كان يملك خطط أخرى بدل تحمل شقيقه على طاولة الطعام:
" تأخرنا في النوم..."
هذا تأكيد آخر جعل وجهها مثل الطماطم لسيما و قد تبادلت المرأتان الابتسام، أخدت بريانا مكان حماتها التي أشارت لها بتبعها، كانت تتوجه نحو مكتب روكو عندما استوقفتها:
" هل يمكننا الكلام في مكان آخر؟؟" هزت سابرينا حاجبها الأنيق متسائلة بصمت مما جعلها تظيف:" أخاف أن يُقاطعنا أحد..."
هذا جعل نظرات المرأة حذرة لكنها لم تعترض بل أشارت لها بتبعها، رأتها تتوجه نحو المصعد الذهبي و تضغط على الزر كي تُفتح الأبواب أمامها، دعتها للدخول الى الكابين الذي اقلهما فورا الى الطابق السفلي كي يفتح أمام جناح شاسع تضع دانيلا قدميها فيه للمرة الأولى، المكان عبارة عن ورشة عمل أنيقة، الواجهة الزجاجية تطل مباشرة على المسبح الجنوبي، أبقت فمها فاغرا أمام أدوات النحث الموضوعة بعناية فوق طاولة خاصة، آلة النجارة، العديد من المنحوتات الشديدة الدقة:
" لم أكن أعرف بأنك تنحثين على الخشب..."
" هذا المكان ليس لي... انه ليانيس"
وقفت أمامها ووضعت يدها على منحوثة تمثل مجسد تجريدي:
"تحول الجسم والجسد العاطفي..."
" واو...لقد كان موهوبا..."
ابتسمت سابرينا ابتسامة لم تصل الى عينيها:
" هو كذاك..."
القت نظرة مجددا نحوها، هذا الرجل توفي منذ سنوات لما يبقى هذا المكان متوفرا بهذا الشكل و كأنه مازال يزاول هوايته كل يوم؟، فجأة رأت صورة على الجدار، انها المرة الأولى التى ترى يانيس مع زوجته في صورة واحدة... كم كان عمر سابرينا هنا؟؟ ثمانية عشر سنة؟ وسامة يانيس مدمرة... انه يتفوق على ابنيه بالتأكيد.
" عرّاب و فنان؟؟"
" يانيس موهوب في جمع التناقضات..." لما تتكلم عنه و كأنه مايزال حيا؟:" ما الأمر عزيزتي؟؟ لما رغبتي بمكالمتي و بعيدا جدا عن مكتب روكو؟!"
تنهذت دانيلا، وسرحت مجددا بنظرها في المكان الذي يفتح شهية أي موهوب، يانيس كان يحفر في الخشب عندما لا يكون بصدد تصفية أعدائه؟؟ اقتربت مجددا من الطاولة الامعة التي تم ترثيب كل الادوات الازمة للنحث...سؤال باغثها... هل سابرينا عشقت زوجها لدرجة انها رفضت التخلص من أغراضه؟ فما تعرفه هو أن لا أحد في هذا البيت يميل للنحث أو الفن بصفة عامة:
" يانيس و أنت كنتما صديقين مقربين جدا لوالداي..." بدأت دانيلا وهي تقترب من الصورة التي تعرض ثنائي جميل يتوافق بشدة:" كم كان عمرك هنا؟"
" التاسعة عشر..." ردّت سابرينا بنوستالجيا.
" و كم كان عمر زوجك؟؟"
" عمر كافي كي أتزوجه... "
ابتسمت دانيلا لردها:
" في نفس عمر اليساندرو اليس كذلك؟؟!"
" دانيلا عزيزتي..." اقتربت منها سابرينا و تطلعت مباشرة في عينيها:" القي مالديك فورا... لما تحومين حول يانيس منذ دخولنا المكان؟؟ ما الأمر؟"
لم تكون نوي طرح كل هذه الاسئلة على العراب الأب لو لم تندهش بشدة بهذا المكان الذي كانت تجهل كليا وجوده في القلعة، لكن الحقيقة أن كل المواضيع مترابطة، و لن تبدأ من البداية بل من النهاية، تواجهت مع سابرينا وقالت لها بهدوء:
" بما أنك كنت صديقة قريبة لوالدتي... فلا بد أنك تتذكرينها وهي حامل بي...؟"
لم ترد فورا، لم تتغير عضلة واحدة من وجهها، اكتفت بالقول:
" صادقت والدتك بعد ولادتك... لم يسبق لي رؤيتها حامل آسفة..."
برطمت دانيلا، وعادت تحدق بصورة يانيس الذي لا يبتسم... في نظراته شيئ يشبه النار، يشبه الجحيم... سابرينا تبدو مغرمة.
" البالغون... يتخدون القرارات ويظنون أن هذا يتماشى مع مصلحة أبنائهم..." همست دانيلا ببعض الحزن:" هل كان من حق زوجك تبني صوفي و الكذب على روكو طيلة هذه السنوات؟"
خط رفيع جدا اخترق جبين المرأة الأنيقة أمامها:
" اليساندرو أخبرك؟"
" منذ حاذثة صوفي و أنا أعرف الحقيقة... تلك الحقيقة التي ما زالت تجهلها الى الأن... الشيء المؤلم في الموضوع هو أنني أعرف بأن أحدهم يعرف أيضا حقيقتي و لا ينوي اخباري بها..." تجمعت الدموع في عينيها بينما ترى سابرينا تتراجع و تتأهب لنكران ما سيعقب:" أعرف بأن ناديا لم تحمل يوما في حياتها... قرأت مذكرات اليونور... كل الدلائل تشير الى أنني إبنتها... قفزت على امكانية أبوة خوسيه لي و قمت بالفحوصات لأعرف بأنه ليس كذلك..."
هذا المكياج ينجح بإخفاء اللون الذي يتغير تحته، لا يمكنها قراءة ردات فعلها انها عاجزة عن ذلك.
" هل انا ابنة اليونور؟؟ أرجوك... أجيبني بالحقيقة... و ان كان هذا صحيحا من هو أبي؟"
" آه أنتما هنا..." رن صوت اليساندرو في المكان، لا يبدو أنه أخد المصعد بل دخل ببساطة من الشرفة المطلة على المسبح، كان يتريض و ربما يبحث عنها في كل مكان، كادت أن تبكي لهذه المقاطعة، هذا سيعطي سابرينا الفرصة لتفكر في الاجابة التي ستعطيها اقترب منها، كان التي الشرت الذي يرتديه مبللا، لكن عينيه قلقتين... انه يشك في نوع الحوار الذي تتناوله مع والدته..." فكرت بأخدك في جولة حول الجزيرة... سنأخد معنا بضع ساندوريشات و نصعد الى الجبل ما رأيك؟؟"
أبقت عينيها على وجه سابرينا، هذه المرأة هي بئر أسرار هي تعرف... امرأة أبقت ورشة عمل زوجها المتوفاه على حالها و كأنه مازال موجودا تملك بالتأكدي عزيمة امرأة لا تقهر... مالذي تخفيه؟؟من هي في الحقيقة؟
" أرجوك سابرينا... ان أخبرتني... فستوفرين علي الكثير من الجهذ و الوقت..."
" دانيلا..." تدخل اليساندرو الذي اكتشف بأن اقتراحه لم يبعدها عن هذفها.
" أعرف بأنه لا يجدر بي الكلام في الموضوع لأنه العيد..." قالت له دانيلا:" لكنك تقرر أن نطير الليلة الى نيويورك و ابعادي مجددا عن أروبا... أنت تعرف بأنني أريد معرفة الحقيقة بأي ثمن... ناديا لم تكن أمي و اليونور تقول في مذكراتها بأنها أمي و بأنهم هددوها و انتزعوني منها ... هي انتحرت لأن أحدهم أفقدها عقلها و دفعها للموت... أريد الحقيقة..."
صوتها كان يعلو شيئا فشيئا لدرج أنها سمعت تردده في ارجاء الورشة ما ان انهته، كانا يتطلعان اليها، كل واحد منهما بتعبير مختلف... ملكة الجليد بقيت على حالها.ردت أخيرا لكن ليس بالمعلومات التي تتوقعها
" لما تسأليني أنا؟ لما لا تسألي خوسيه أو سيسيليا؟؟" .
" خوسيه بنفسه لا يعرف..." أجابت دانيلا بهدوء:" سيسيليا يصيبها الزهايمر كلما أتيت على ذكر الماضي... انها ماكرة و لا تنوي قول شيء... "
اقترب منها اليساندرو، يده على وجنتها يحثها للنظر اليه:
" اتركي الموضوع حاليا..."
" قلت بأنك تساندني ..." ذكرته بمرارة:" أرى بأنك تفعل كل مجهوذك كي أستسلم و أنسى الأمر برمته... أنت تخيب أملي اليساندرو... ليس هذا ما اتوقعه من الرجل الذي يُفترض بأنه يحبني..."
لم يكن ينتظر هذا الهجوم بالتأكيد.... عينيه اسودتا من المفاجئة الا انه لم يعلق، اكتفى بالنظر الى والدته:
" أخبريها..."
" اليساندرو..." حذرته سابرينا.
" كيف يمكنك العيش مع كل هذه الاسرار في هذا البيت؟؟ دانيلا ... صوفي... هذا يكفي أمي... ان كنت تعرفين شيءا عما تستعلم عنه فأرجوك أخبريها...."
بقيت صامتة رغم هذا الرّجاء، شعرت بالراحة لأن اليساندرو يساندها حقا، شعرت بيده تتسلل لتلتقط يدها فضغطت على أصابعه شاكرة دون ان تبعد عينيها عليها:
" دعنا بمفردنا..." همست له سابرينا:" أخرج من هنا..."
لم يناقشها رغبتها، وهي ارتاحت لأنه استجاب، ابتسم لها مشجعا لكنه انحنى عليها هامسا:
" مهما تكون الاجابة داني... أنوي أخدك في جولة الى البركان..."
" سوف آتي..." وعدته بلطف.
" أحبك..." هس لها وهو يقبلها على شفاهها بحنان دفع الدموع الى عينيها.
" أحبك ايضا..."
عندما أصبحتا بمفردهما أبقت سابرينا عينيها عليها دون ان تنطق بكلمة، الصمت امتد الى أن اصبحت عصبية للغاية:
" بعض الاشياء لاي مكنها الخروج لأننا لن نستفيذ شيئا من نشرها مجددا..." قالت سابرينا أخيرا:" و بعض الحقائق تكون مؤذية للغاية... لهذا فضلت اعفاء ابني منها... يبدو أنك تحبينه جدا كي تعديني بالا تخبريه يوما ما سأخبرك به..."
" أعدك..." ردت بصوت مرتجف من العصبية.
" جيد..." قال المرأة وهي تشير اليها مجددا لتبعها.
في عمق الورشة أزاحت لوحة و ظهرت مفاتيح ديجيتال، ضغطت على عدة ارقام لينفتح باب لم تتوقع وجوده أمامهما، ظهرت غرفة شاسعة أخرى عبارة عن مكتب، صورة زيتية جديدة ليانيس ايميليانو، كان شامخا مثل الجبال، هذا الرجل مهيب حتى وهو ميت، لا بد ان هذا هو مكتبه السري... خزانة ملابسة عملاقة تحمل سترات و بدلات لا منتهية، هل يعقل أنها ماتزال تحتفظ بملابسه أيضا؟ هل هذا وفاء أم مرض؟
" انت ذكية و عاقلة مقارنة بعمرك..." سمعت سابرينا تقول وهي تدعوها للجلوس على أحد المقاعد الجلدية أمام المكتب الامع و كأنه يتم استخدامه يوميا، جلست دانيلا بينما سابرينا تختفي في خزانة الملابس، ثم تعود اليها و في يدها مغلف أزرق، وضعته أمامها على المكتب قبل أن تجلس قبالتها.
" لا أحد يعرف..." قالت سابرينا وهي تدعوها بحركة من دقنها بفتح المغلف:" ولا أحد يجب أن يعرف..."
* * *
" أعجبتك الهدايا؟؟ هيه حبيبي؟؟ تعرف هي كلها لك...كلها..."
كيف لا بينما روبي اشترت له كل محلات الالعاب؟؟ تسائل سيزار وهو يرى انبهار الطفل بكل ما أمامه تحت شجرة العيد، روبي أمضت العيد معه و مع عائلته بينما رفض والديها الالتحاق بهم، لذا أمضو العيد بمفردهم مع حفيذهم، وها هي تحاول أن يتم مسامحتها على تخلفها، لم يتكلما مجددا بموضوع التبني ووضعاه على الحياد،أفهمها بأنه لن يغير رأئيه بينما هي تقبلت الموضوع بهدوء... هدوء شديد لم يعجبه... شيء في نظراتها تغير... أصبحت حزينة كل الوقت... انه يفضل رحيلها مجددا الى أمريكا و استئناف أعمالها الفنية على دخول هذا المخلوق الصغير حياتهما... لكن روبي وضعت كل أولوياتها لإبن جوزيف... ستستأنف عملها نهاية كانون الثاني... يعرف بأنها مددت الفترة لتستغلها مع الصغير.
" آنجلو حبيبي انظر الى هذه السيارة..." اخرجت سيارة صغيرة زرقاء و التقطت الو التحكم عن بعد "100٪ ثورية ومبتكرة يمكنها التدحرج على الجدران وحتى السقف بفضل تقنيتها المضادة للجاذبية!"
لكن آنجلو لا يبتسم أمام كل محاولات عمّته لإسعاده، رغم انبهاره بكل ما هو أمامه الا أنه يبقى متحفظا بشكل مريب، هذا الطفل بحاجة لمساعدة نفسية عاجلة.
" حتى سيزار غيور من حصولك على واحدة... انها مُسلية للغاية دعنا نجربها..."
انطلقت السيارة بقوة و بكل سلاسة بدأت بالتدحرج على السقف، كان فم آنجلو مفتوحا و يبدو مفتونا بالعرض مما اسعد روبي التي ابتسمت ملئ فمها:
" هل تريد أن تجرب؟" سألته.
لكنه هزّ رأسه بالرفض.
" مالذي قد يسعدك حبيبي؟؟ أرجوك أخبرني..."
هز الصبي عينيه نحوه، يعرف بأن وجوده يجعله أكثر انغلاقا، الاطفال حساسون في محيط أناس لا يحملون لهم الكثير من المودة... لن يصل بأن ينعث نفسه بالخالي من المشاعر أو الضمير، لكن في هذه اللحظة يُفترض أن يكون مع زوجته في شاليه منعزل في البيرينيه، لكنه يجد نفسه في صقلية و بصدد التودد الى طفل لا يتجاوب مطلقا مع محاولاتهما، راه فجأة ينحني عليها ليهمس لها بشئ ما في أدنها، من خلال الحزن الذي كسى وجهها أدرك بأن ملاحظة الصغير تخص والدته... مجددا.
" ما الأمر روبي؟؟" سألها وهو يدنو منها.
" آنجلو... يرغب بزيارة قبر والدته..."
ومالجديد؟؟ منذ عيشه في هذا البيت لا يتوقف عن ترديد الطلب نفسه.
وصلت حماته، بين يديها سندويتشات و حلوة و عصير لحفيدها، عرف أيضا أن شهية الصغير منعدمة تقريبا، يفقد من وزنه الكثير منذ وصوله، تنهدت روبي و تركت والدتها تهتم به، اشبكت أصابعها بأصابعه و حاولت الابتسام له لكنها لم تفلح، تبدو مهمومة بشدة... ابتعدا عن الصبي كفاية كي لا يسمع حوارهما:
" أفكر بأخده الى أريزونا... بالنسبة اليه فقد هجر والدته..."
السفر الى أريزونا؟ هو ليس بحاجة ليتبنى هذا الصبي كي يأخد منه زوجته... هو يقوم بسرقتها حقا.
" الطفل بحاجة لطبيبة نفسية..."
" لا أماكن شاغرة في هذه الفترة من العيد... " شرحت له بقلق:" أرجوك حبيبي... دعنا نأخده الى أمه..."
" أمه ميتة..." ذكرها بصوت جاف:" كما أنه يجدر بنا السفر لتمضية العطلة الشتوية قبل عودتك الى لوس أنجلس... "
" لم انسى بالتـاكيد..." لوت شفتها وهي تتطلع اليه... ثم بدأت لعبتها التي تثقنها جيدا:
" لا..."
" حبيبي..."
" رباه.. لا تنظري الي بهذه الطريقة...." زادت بلوي شفتها السفلى أكثر و أكثر و بدت تشبه طفلة صغيرة: " توقفي عن هذا... تعرفين بأنني عاجز عن مقاومتك عندما تفعلين هذا"
" أرجوك... دعنا نقدم له هدية العيد..."
" انت قمتي بشراء كل محلات الالعاب كي تسعديه..." ذكرها بنزق.
اتسعت أكثر حدقاتها الفيروزية... رباه... هذه المرأة ستصيبه بجلطة... جمالها يخدر حواسه كليا :
" ان وافقت فسأفعل كل ما تريده... " همست في أذنه بصوت حسي، العرض كان مغري لدرجة أن سيزار شعر بمقاومته تضعف شيئا فشيئا:" جاكوزي... تدليك...شامبانيا... حب حسب الرغبة..."
مقاومته تلاشت كليا، في مخيلته ترآت له صور رائعة جعلته يهمس:
" أنت شريرة..."
اتسعت ابتسامتها ووقفت على قدميها لتقبل شفاهه بحرارة، لكنه استوقفها قبل أن تبتعد:
" ان فعلت ما تريدين فستفعلي كل ما أريده روبي... كل شيء... "
" أعرف ما تعنيه بكل شيء... أنا موافقة... "
يعشق عقد هذا النوع من الصفقات مع امرأة تجعله مصهورا من الرغبة، لكن قبل أن يحقق هذا عليه أن يتصل بالطيار لينظم رحلة عاجلة الى أريزونا... راقب زوجته تقترب من الصبي و تهمس له بالاخبار السعيدة... و لأول مرة و منذ مجيئة... يبتسم الصبي... كان يملك غمازة في خده، تماما مثل عمته الحسناء.
* * *
" كل هذا... ملكك؟"
سؤال فيرنا جعل سانتو يتشنج، لا يعرف لما تتكلم بهذه الرهبة عن مكان يعتبر من اشد ممتلكاته بساطة، للأسف لم ينفذ وعده لها بالفطور قرب الشاطئ لأن سفرهما أخد وقتا، لكنهما هنا... الرحلة كانت متعة لا منتهية مع امرأة تعرف كيف تسعد لحظاته...
تم تهوية المكان كما طلب، الفيلا منعزلة قليلا على بقية الفلل السياحية، ايموجين لم تأتي يوما الى هنا، حتى انها تجهل أنه يملك منزلا على سواحل تينيريفي
جزيرة الربيع الأبدي.
الجزيرة تتكون من جزأين متميزين للغاية... الأول يتكون من منتجعات ساحلية سياحية للغاية ، ثم بقية الجزيرة -الجزء الأكبر - يعيشها السكان المحليون...حيث عاش معظم الكناريون لمدة خمسة قرون...
الجزيرة كبيرة بما يكفي لإيواء المدن العالمية مع المراكز التاريخية الصاخبة والقرى الصغيرة والأراضي الزراعية والمساحات الضخمة التي تشكل الحديقة الوطنية حيث يمكن المشي لساعات دون لقاء روح حية... وهذا بالضبط ما ينويه مع محبة الجمال و الهدوء، و لما لا جلبها الى جبل تيد المهيب- أعلى جبل في اسبانيا- في رحلة بالهليكوبتر... هي ستتمكن من الاستفاذة من هذه الزيارات الترفيهية التي قد تجدها ايموجين مملة للغاية... زوجته تحب الحفلات الصاخبة و زؤية الاعجاب في أعين الناس... تحب ارتداء المجوهرات التي لا تتوفر عليها غيرها من نساء المجتمعات الراقية الأمريكية... وهو سخي جدا ليقدم لها هذا النوع من النزوات.
" هل يعجبك المكان؟" سألها بينما يراها تحوم في الفيلا، تتطلع الى السقف و تلامس الكنبات في الصالون.
" هل تمزح؟؟ انه رائع جدا سانتو..."
تقدم من أحد النوافد العالية و فتحها، ظهرت فورا الحديقة بأكوام لامنتهية من الورود، المسبح يتلألأ تحت اشعة الشمس.
" تملك مسبح؟؟" سألته بإنبهار طفلة صغيرة.
" أنوي تعليمك السباحة..."
انفجرت في الضحك و ابتسم مجددا لهذه النغمة الجميلة التي تتغلغل فيه مثل الحلم.
" مالذي تملكه أيضا؟" سألته وهي تقدم وجهها لأشعة الشمس التي تغمر الصالون في هذه اللحظة.كان الجسم الأنثوي قريبًا جدًا لدرجة أنه شعر بانتشار حرارته داخله... ابتعد قليلا كي يمنع نفسه من الارتماء عليها كحيوان جائع... قبلت المجيئ بشروط... انها هنا بصفتها صديقة... وثقت به و لا ينوي خسارة ثقتها.
" لدي كابانا على شاطئ نيكاراغوا...واحة في دبي... ستعجبك.. أنوي أخدك معي في المرّة القادمة..."
أبقت شفاهها فاغرة:
" هل سافرت كثيرا؟"
" عندما رفضني والدي قررت اكتشاف العالم و سافرت كثيرا نعم... وصلت الى الأماكن التي يتعدّر البشر الوصول اليها... أظنني... رغبت بتعريض نفسي للخطر لكنني كنت أكثر حظا..."
" رغبت بالانتحار بطريقة مشروعة؟؟" سألته هامسة.
كما فعل والدها نعم... مات كبطل... لكنه لم يكن بطلا... مجرد انسان عجز عن عيش ظروف حياته...
" عندما سبحت في بركة تماسيح و فشلت في استفزازها لابتلاعي أدركت بأن روح أمي معي كل الوقت و تقوم بحمايتي!..."
" كنت غاضبا منه لهذه الدرجة؟؟"
" كنت غاضبا من نفسي لأنني تأثرت برفضه لي للمرة الثانية..."
رآها تبلع ريقها بصعوبة، ثم تبتعد عن النافذة، الشمس سلطت اشعتها على شعرها الذي كان لامعا لدرجة تؤذي عيناه، لون عينيها الرمادي أشد شفافية.
" بركة تماسيح؟ كيف تمكنت من النجاه؟"
" لم تكن هناك تماسيح تلك الليلة... قاموا بنقلها الى محمية في الصباح لتنظيف البحيرة التي تلوتث مياهها.. لم يتم التهامي لكنني عانيت لشهرين من حساسية جلد قوية"
انفجرت في الضحك مما جعله يبتسم مجددا، صارت عادته معها،صوتها يشبه العسل وهو يقطر في الشاي قطرة قطرة... نظراتها تغوي قديسا، عندما هدأت كتفت ذراعيها فوق صدرها:
" بعد نجاتك قررت أن تصبح ثريا؟"
" كنت ثريا منذ البداية... "
" ما هي تجارتك؟؟" سألته مهتمة.
" سبق و أخبرتك... أنا ميكانيكي..."
هزت عينيها الى السماء:
" طبعا... طبعا... نسيت الأمر... و سيارتي ممتنة لأصابعك السحرية، لم تعد تشخر عندما أقودها... "
ضحك لهذه الملاحظة، ثم غيّر الموضوع قائلا:
" تعالي معي لأريك غرفتك..."
ينسى اعاقتها في كل مرّة، عندما بدأت تجر مجددا رجلها خلفها شعر بقلبه يعتصر داخل قفصه الصدري، هذه الفتاة الرائعة، الجميلة، الانسانية و المتفائلة لا تستحق هذه الاعاقة... انها اكثر انسان معطاء قابله في حياته... ندم لأن الغرف في الطابق العلوي، معاناة فيرنا في صعود الدرج كانت بحدة السيف، تراجع عن اقتراحه لحملها بين ذراعيه، عندما أصبحا فوق، كانت وجنتيها شاحبتين من المجهوذ، و تبدو متألمة:
" هل أنت بخير؟؟"
هزت رأسها بالإيجاب... ابتسامة رائعة على وجهها.
" سأكون بخير... لا تقلق فأنا معتادة على الألم..."
لم يعلق... قادها الى غرفة بعيدا جدا عن غرفته، رغم بساطتها الا ان فيرنا تبدو منبهرة بها، راقبها تلامس أعمدة السرير الخشبية...الستائر الحريرية... الشراشف:
" انها رائعة سانتو شكرا لك..."
" سأجلب أغراضك من السيارة... يمكننا تناول الطعام في أحد المطاعم أو المنتجعات السياحية..."
" أو شراء الطعام و تناوله قرب البحر..." اقترحت بلهفة:" أنا جائعة جدا... "
" خبر رائع... فأنا أنوي تسمينك للغاية... لن تعودي الى كابري الا و حجم وجنتيك متضخم ثلاث أضعاف..."
ضحكت مجددا:
" تعتقد بأنني أهتم بوزني؟"
" كل النساء تهتم برشاقتهن..." ذكرها بلطف.
حطت نظراتها في نظراته و سمّرته مكانه، كان هناك شيء قوي جدا فيهما... شيئ يشبه المد و الجزر للبحر... شيء يشبه المغناطيس الذي يجهل كيفية مقاومة جاذبيته.
" لستُ كل النساء..."
في هذه اللحظة... تأكد بأنه مغرم حتى نخاع عموده الفقري...




ملك جاسم likes this.

أميرة الحب غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:36 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.