الفصل الثالث
,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,,
يشرد في ثاني لقاء لهما كأن الصدفة مصرة على جمعهما بدون ارادتهما ...
(يجلس في منزل خالته الوحيدة منتظرا إنهائها الطعام يشاهد التلفاز بملل ..لقد دعته لتناول الافطار معها ولكنه يعلم ماسبب هذه العزيمة والاهتمام فخالته تأمل منذ صغره ان تزوجه من امينة بنت خالته ولكنه لا ينظر اليها الا انها امينة الصغيرة المراهقة ذات ١٦عاما ...فآماله اكبر بكثير مما يتخيلوها ...يأمل بعد تخرجه ان يكون من اشهر طيارين العالم ويلتحق بشركة عالمية لمزاولة مهنته التي يعشقها، وأمر الزواج هذا من اخر اهتمامته ...فتفريش اسنانه اهم مرتبة من التفكير في الزواج والارتباط ..لم يتبق الكثير حتى يكمل حلمه فهذه سنته الأخيرة بأكاديمية الطيران وبعدها يطير لأحلامه كما خطط لها .....يقطع تفكيره
صوتا يصدر من الداخل يدندن بكلمات اجنبية بوضوح يعقد حاجبه بشدة ليقول :
-هي البت امينة ثقافتها اتغيرت ولا ايه؟
يقترب من باب غرفتها بحرص شديد مع كل خطوة يزداد وضوح الصوت فتصدح ضحكة انثوية من الداخل يعقد حاجبيه من هذا الصوت الغريب عليه فابنة خالته لا تملك مثل هذا الدلال الانثوي الذي يسمعه ...ترى صوت من ؟!..عندما قرر طرق الباب المغلق تسمرت يده في الهواء قبل ان يلامس جداره عندما سمع صوت أمينة تتسائل بضيق:
-يابنتي اتهدي بقى تعبتيني ..واحكي من الاول أنا مافهمتش منك كلمتين عربي راكبين علي بعض ...
ظلت تراقب تلك الفراشة التي لم تمل او تكل من الدوران حول نفسها بسعادة على أطراف أصابعها بخفة مع فتح ذراعيها بالهواء ..هذه الحركات لا تتعبها مطلقًا بل تشعر بان حياتها منطلقة بحرية فمنذ نعومة اظافرها حرصت والدتها الإيطالية تعليمها رقص البالية رغم صعوبة الأمر علي طفلة لم تكمل من العمر الخمس أعوام الا انها ثابرت وكافحت حتى أصبحت من اشهر راقصات البالية بإيطاليا ..رغم صغر سنها ....لتنهي دورانها بالارتماء فوق فراش امينة تلتقط انفاسها المتسارعة بسعادة تقول بانبهار :
-أنا مش عارفة اشرحلك كويس ...كل اللي اقدر أقوله انه بشع ..حاجة كده فوق الخيال ...طويل وعريض ولون بشرته اسمها ايه دي لونه اللي بتقول عليه ..تفتكري معايا ..الألوان ايه ؟!!!....
امينة بتفكير تضع طرف أصبعها فوق شفاهها تعد الألوان العربية
-عند ياستي موف واحمر ممكن... واسود ماشي
لتزفر شيراز بملل من غباء امينة لتقول بطفولة :
-موف ايه واحمر ؟؟..هو أنا بسألك علي لون فستانك ،.اف ...بشعة
خلاص خلاص كان لون بشرته brown
(بني)....بس so cute
امينة بانتباه لما قالته لتحذرها من حديثها الهائم حتى لايسمعه اي فرد من أفراد المنزل :
-اسكتي وطي صوتك ...الكلام ده هنا يطير فيها رقاب
فتعتدل شيراز في جلستها تواجه امينة مهدئة إياها بإشارة من يده تقول بجدية
مش هعلي صوتي ..بس تصدقي رغم ان حلو اوي بس هو (very arrogant)
....لتستفهم أمينة عما تقوله فتتساءل بضيق:
-هو ايه البتاع اللي قولتي عليه ده ..بالله عليكي انزلي بالترجمة عشان المرارة ...
تزم شيراز شفاهها بضيق واضح لتفهمها معنى حديثها :
-اقصد انه متكبر جدا ...تصدقي رفض ياخد مني (شيكولاتة )chocolateيلا وفر اكلها أنا .....
تعترض امينة علي حديثها منبهة إياها بصرامة لتشير بإصبعها تقول :
-شيراز احنا قولنا ايه بلاش شيكولاتة والكلام ده ..وبطلي إهمال في صحتك أنا مش عارفة واحدة المفروض باليرينا في خف الريشة تتحمل تأكل كل الحلويات دي ازاي ؟!....
كادت ان تجيبها شيراز عن سبب نقص وزنها ولكنها صمتت عندما صدح صوت ام أمينة من الخارج كأنها تحدث احدهم وتدعوه للطعام ....
لتقول امينة برعب وتضرب بخفة فوق وجنتها كحركة أنثوية:
-يامصيبتي ...هو مالك هنا !!...مصيبة لا يكون سمع كلامك عن الشاب اللي قابلتيه ....ده يدبحني ومش بعيد مايدخلكيش البيت ده تاني ...
تجلس شيراز بثقة فوق الفراش وتضع ساقا فوق الآخر وتهزها برتابة لتقول مستفهمة:
-مين مالك ده ؟...انتي مش قولتيلي ان مالكيش اخوات ...
ليصدح صوت ام أمينة من الخارج تقول بصوت امها الصارم:
-يلا يا أمينة الفطار هيبرد وهاتي صاحبتك معاكي ....
-حاضر ياماما جاية اهو .....
تكمل حديثها لشيراز الواثقة تدعوها للخروج رغم اعتراض الأخيرة عن توقيت وجبة الإفطار لديهم التي تتم بعد صلاة الظهر .....
تتحرك شيراز بخفة خلف صديقتها يظهر علي وجهها بعض الخجل فهي غير معتادة علي هذه التجمعات الأسرية فعادات البلد مختلفة عن الدول الأوروبية فكل أسرة تعيش بمحيط خاص بها بعيدا عن الاختلاط والزيارات كما يعتاد هذا الشعب ...لتلمح فوق طاولة الطعام الكثير من الصحون مختلفة الألوان والأنواع فتصيب اعينها بتلوث بصري
هذا الطعام بكمياته يطعم منطقة كاملة وليس عدد أفراد قليلة مثلهم لتنتفض عند سماع صوت ام امينة الخارجة من المطبخ باخر صحن بيدها يقبع به شيئا غريبا باللون البني وتضع فوق الطاولة وهي تقول لها:
-قربي ياشيراز واقفة ليه كده ؟..ولا اكلنا مش قد المقام ؟!.....روحي ياأمينة إدي لابن خالتك حاجة ينشف فيها ايده ....وتعالي ياشيراز جنبي .....
ترفع شيراز أناملها المهتزة تزيح خصلات شعرها الذهبي الشاذ مع مجتمعها تعتذر بلباقة
-آسفة ياطنط ..شكرا لحضرتك ...اصل فطرت الصبح قبل ما أجي لأمينة ...احنا يدوب نلحق معاد الكورس .......
ولكن مع إصرار ام أمينة خضعت شيراز لإلحاحها وعند بدأ ارتشافها كوب المياة الموضوع بجوارها انضمت اليها أمينة تجلس في الكرسي المجاور لها وتشعر بسحب الكرسي المجاور الموضوع على رأس الطاولة على يمينها ليجلس عليه بجسده الطويل العريض القمحي ويمد يده بتناول قطعة من الفلافل الشهيرة مع تثبيت عينه على تلك الشقراء ومضغه للطعام بغير شهية ...اثناء اندماجها بحديثها مع صديقتها شعرت بانها مراقبة من ذلك الشخص الذي احتل المقعد المجاور لها منذ لحظات وخشيت من رفع اعينها لترى شكله بسبب وصف امينة لها عن شديته وقسوته فخيل لها ملامحه وصرامته وسلوكه البدائي مع ملابسه الفلكلورية ....من المؤكد انه يحمل الان سلاحا سيخرجه من جيبه ويطلق عليها الرصاص ويريق دمائها بسبب كشف شعرها ...لقد لاحظت ارتداء صديقتها للحجاب والملابس المحتشمة قبل خروجها من حجرتها ..فهي الان الغريبة المتبرجة الوحيدة بالمكان ..شعرت بجفاف حلقها عند هذه النقطة فتهتز حدقتيها باضطراب لتمسك بقطعة خبز تمضغها بملل وخوف استطاعت إخفائه مع ثرثرة ام صديقتها مع المدعو مالك عن أشياء لا تعلمها ولم تفهمها وثرثرة صديقتها أيضا...ما اجمل هذه الأسرة!.. المجتمعة حول بعضها على طعام واحد !...لا تتذكر متى اخر مرة اجتمعت مع والدها على طعام واحد بعد وفاة والدتها ...والدها الذي بسبب عمله كسفير لدولته حكم عليه كثرة تنقله من بلد لأخرى مع إقامتها الدائمة مع والدتها (چينا).....وبعد وفاتها اضطر والدها نقل إقامتها لبلده الأم خوفا عليها من تأثير عادات الدول الأوروبية على مراهقة في عمرها ..مع اصراره لإتقان اللغة العربية ..يقطع شرودها حديث ام أمنية للمدعو مالك التى تجهل ملامحه حتى الان تقول :
-وأنت يا مالك بعد ماتتخرج من أكاديمية الطيران ناوي تعمل ايه يابني؟.....
تعقد حاجبها مما سمعته مع استمرارها في تناول قطعة الفلافل التي ناولتها لها صديقتها التى لم تذقها من قبل ...لتتخيل شاب بجلباب صعيدي مثلما رأت بالتلفاز يقود طائرة ركاب ...وعند هذا التخيل رفعت عينيها بفضول لترى ذلك الحالم المتمني قيادة الطائرات لتصطدم اعينها الزرقاء بعينيه السوداوين وملامحه الحادة لتفرغ فاهها وتتسارع انفاسها بقوة ثبتت كتمثال من الشمع الذي يذوب من شدة الحرارة وينصهر قطرة قطرة لتجده يبتسم لها بسخرية ..نعم سخرية لن تخطئ في تفسيرها ليرفع حاجبه الكثيف بتحدي لها ،...انه هو !!..هو من تصادمت معه بالمصعد ...وتحدثت عنه منذ قليل ...من ساعدها وقامت ب...ب...ما هذا الموقف لقد عمدت على اتساخ حذائه بمكر انتقامًا لرفضه هديتها ...من المؤكد انه سينتقم منها الان ......
تراه يفتح فمه الغليظ يجيب خالته بعملية شديدة لاتعلم هل بسبب وجودها ام طبعه الحاد :
-دي اخر سنة ليا ..بعد كده هقدم مع اي شركة طيران ..بس الموضوع مش سهل زي ما انتو فهمين ...لازم وسايط وتدريبات كتير ...
فتشيح خالته يدها بالهواء معترضة :
-هما هيلاقوا زيك فين بس.....هما اللي خسرانين ...مع أني شايفة ان ابوك كبر ومحتاجك هناك اكتر ...وأنت كده يابني القطر هيفوتك مش هتلحق تتجوز وتخلف وتفرح بعيالك.....
يجيب عليها باقتضاب يعلم هدف حديثها ليقول منهيًا حديثها :
-الجواز ده اخر شئ افكر فيه ..لانه هيعطلني عن مستقبلي ..مأجل الفكرة حاليا ....
لم يعجب الحديث خالته لتقول بنزق وضيق:
-انت حر يابني ...بس أنا نبهتك ان اللي بينشغل بشغله وحياته بيفوته القطر يامالك ...
لم يجبها مالك ليظهر علي وجهه ابتسامة متكلفة ويعود لتناول وجبته بعدم شهية رغم روعته فيشعر بعينين صغيرتين تراقبه فيرفع عينه ليواجهها بتحدي واضح لعلها تخجل من تفحصها فتجفل من قبضه عليها متلبسة بمراقبتها اياه فتسرع بخفض وجهها بالصحن التي لم تتذوق مثله من قبل فتحاول الهروب من هذه الجلسة لتقول بخجل:
-ميرسي ياطنط علي الفطار الحلو ده
ليشاهدها تتحرك من مكانها تمسك بصحنها تحمله بين يدها بتوتر متسائلة (Where's the kitchen) ?فين المطبخ ..
انتظرت اجابة ام أمينة ليطول الصمت فتمرر نظراها على وجوهم لتجد ام امينة ممسكة بقطعة خبز كادت ان تلتهمها لتقف يدها بالهواء مثبته نظرها على تلك الفراشة ثم تنظر بجوارها علي امينة فتجدها عاقدة جاجبيها بتعجب كادت ان تتتساءل عن سبب صمتهم ربما اخطأت في شئ لا تعلمه لتسمع صوته الأجش يستفسر بصرامة يشوبها بعض السخرية :
-وانتي بقى بتسألي عن المطبخ ليه ؟!...أوعي تقولي راحة تغسلي المواعين!!!...
شعرت ببعض البرودة تسري بجسدها البض فترطب شفتاها بلسانها لقد شعرت بجفاف حلقها فجأة تجيبه بثقة:
-أنا فعلا كنت عايزه اعرف مكانه عشان اغسل طبقي ....
لتجذبها أمينة بقوة جعلتها تجلس مرة اخري بجوارها تضحك ضحكة مغتصبة تلطف الجو:
-ايه ياشيراز ياحبيتي؟!...تغسلي ايه بس ؟...اومال ست الكل راحت فين ..ماتتعبيش نفسك احنا لما بنخلص بنكسر الأطباق مش بنغسلها....
تنظر اليها بذهول لتعقد حاجبها ثم ترفع حاجبا بتعجب من حديث امينة لتقول بلهجتها المثيرة لمن يسمعها :
-انتو بتكسروا الأطباق كل يوم ؟!...معقول
وكمان مين "ست الكل "دي ..يعني ايه ؟!!....
ليهز رأسه من تلك الغريبة زاهية الألوان كألوان قوس قزح ...التي قامت بدهس قدمه عمدًا ليقول في نفسه "انتي طلعتي حكاية ياست شيراز".......).)))))
ينتفض من ذكرياته الجميلة المؤلمة علي رنين هاتفه ليظهر اسم خطيبته وسط شاشته فاسرع ليضغط علي زر الرد الا ان أصابعه توقفت فجأة مستشعرا عدم الرغبة في الحديث معها الان بعد غمرة الذكريات التي حلت عليه منذ قليل لا يريد افسادها بحديثه مع غيرها ليستلقي فوق فراشه بعد ان ضغط زر إغلاق الصوت فتشق شفاه ابتسامة عندما تذكرها مرة اخري
في احد الفنادق وبالأخص احد الغرف المشتركة قامت بإلقاء هاتفها فوق الفراش بملل بعد ان حاولت مهاتفته بعد ان وجدت العديد من الاتصالات منه اثناء غلق هاتفها لتجلس بقوة فوق فراشها بإرهاق وتقوم بالانحناء للأمام لتخلع عنها جواربها السوداء التي تغطي ساقيها أسفل تنورتها القصيرة الضيقة ذات اللون الأزرق الخاصة بالزي الموحد للمضيفات على خطوط للطيران وترفع يدها بإرهاق تسحب مشبك معدني يجمع شعرها الأسود اعلى رأسها فيتتحرر خصلاتها بعشوائية ..تحركت من فوق فراشها بإرهاق تنزع سترتها فهي تحتاج حمام ساخن يريح عضلات جسدها المتشنج والنوم عدة ساعات وعند تحركها سمعت رنين هاتفها لتتجه اليه بعجالة ظننا منها انه مالك ...ولكن عند رؤية المتصل ظهر على وجهها المتشنج الضيق الواضح وتزفر بقوة فهي مضطرة للاحابة على اتصالها فإذا لم تجبها فلن تمل من تكرار اتصالها والالحاح حتى تخضع في النهاية وتجيبها ..ترفع الهاتف بملل وحاولت ان تخفي ضيقها الواضح فتقول بنبرة معتدلة :
-ايوة ياماما.....في حاجة ؟!....
تجيبها امها بلوم زائف فهي تعلم قسوة ابنتها ولكنها مضطرة لنيل رضائها حتى لو ادعت مشاعر لم تكنها ابدا لابنتها الوحيدة لتقول بلوم وعتاب معتاد:
-هي دي ازيك ياماما ...وحشتيني ...هو أنا مش امك ياغادة وليًا حق عليكي تساءلي عليا..ولا خلاص عليتي ونسيتي امك......
تبعد غادة الهاتف عن أذنها بضيق تحاول التحكم في أعصابها لتقربه مرة أخرى تقول باختصار :
ازيك ياماما..عاملة ايه !!..وحشتيني .....
تلوح ثريا بيدها كأن ابنتها تراها وتجلس على الأريكة المتهالكة خلفها تثني ساقا أسفلها :
-عايشة يابنتي ...هعمل ايه ؟...ماليش حد يسأل عليا ولا يطل عليا ...ده لولا الفلوس اللي بتبعتيهالي كل شهر كان زماني بشحت .....
تفهم غادة سبب اتصال أمها بها فهي معتاده علي مثل هذا الاتصال كل اخر شهر لتقول غادة منهية وصلة الحب الزائف :
-هو الفلوس اللي بعتهالك خلصت ؟
امها بتوتر حقيقي من ابنتها تجيبها:
-والله يابنتي الدنيا بقت غلا ومش ملاحقة كهربا وغيروا ...حتى الأكل بقى نار ...ماانتي هتعرفي منين ليكي حق...ماانتي بتسافري من بلد لبلد وتاكلي احسن اكل وتنامي في احسن فنادق ببلاش ...هتحسي ولا تعرفي ازاي اللي احنا فيه .....
تضيق غادة من أسلوب أمها في التسول ..تسول العطف قبل المال :
-خلاص ياماما هبعتلك الشهرية ...معلش مضطرة اقفل عشان مانمتش من امبارح ....
تتلهف امها في القول قبل إنهاء ابنتها الحديث :
-استني ياغادة ...كنت عايزة أسالك عن خطيبك ...هو انتو مش ناويين تتجوزوا كتب كتابكم طول اوي وانا مش شايفة سبب للتأخير ولا هو فقير ولا لسه هيكون نفسه ده من كبارات الصعيد ...الحقي نفسك ياغادة امسكي فيه أوعي يضيع منك ده علي قلبه قد كدة وهيعيشك ملكة.....
صدقت أمها في هذه النقطة فقد طالت فترة الخطوبة بشكل غير لائق لا تعلم سببًا للتأخير ...تُرى هل هي من تخاف على مستقبلها كمضيفة جوية ام هو من يخاف على مكانته كطيار مدني والزواج يعيق أحلامهما معًا........؟!
هبط درجات الدرج الخشبي بثقة عالية يبحث بعينه عن هدفه ولكنه لم يجدها ..فجسده وعقله متحفزًا لمعاقبتها على تطاولها الغير مسموح ..لقد اقسم ان يذيقها شتى أنواع الذل والمهانة حتى تعود لرشدها وتضع نفسها في مكانتها الصحيحة لعلها تتراجع هي عن فكرة الزواج منه وترفض هذا العرض السخي ...يصدح صوته مناديا :
-ام سعد !!....ام سعد!!!
تخرج سيدة في منتصف العقد الخامس بجلبابها الأسود ووشاحها بيدها قطعه قماش تجفف بها يدها ..لتجيبه مسرعة :
-نعم يا بني ...تؤمر بحاجة !؟...
يمرر نظره خلفها ويشير لها باعينه اتجاه المطبخ متسائلا بضيق ..فاخر مايتمناه ان يشعر بوجودها أمامه:
خديجة فين ؟...مش ظاهرة ...هي مش بتساعدك في المطبخ ....؟
لترتبك السيدة من سؤاله المباغت وتجيب مدافعة عن الأخيرة :
-مين قال كدة يابني ؟...خديجة لتساعدني طبعًا ..بس هي .....بس هي يعني .....
ليضيق عينيه يحثها علي الحديث لعله يصل لشئ يعاقبها به اليوم :
-بس ايه ؟...اتكلمي....
-اصلها تعبانة شوية من بليل ...وسيبتها ترتاح انهاردة ...وكمان الحاج حافظ موصيني انها ماتشتغلش ولا تمد أيدها في حاجة ..بس هي اللي.......
يقطع استرسالها في الحديث بقوة بكل مايسيطر عليه فكرة ادعائها للمرض للهروب من الخدمة وكسب بعض التعاطف ممن حولها فيأمرها بقوة:
-الدلع ده مش عندي ...تدخلي حالًا تقوميها تشوف اللي وراها وهي اللي تشتغل انهارده بدالك ...هي مش ضيفة ولا من صحاب البيت ..وجودها هنا تحت مسمى واحد بس انها خدامة في بيت الحاج حافظ ..سمعتي....
كادت ان تدافع عنها باستماتة فهى تعتبرها ابنة لها منذ ان حلت على هذا البيت في ظروف غامضة وظلت طريحة الفراش مدة كبيرة لم تجد الا هي تساعدها وترعاها ...لتتفاجأ بخروجها من حجرتها القريبة من غرفة الطهو بملابسها وغطاء وجهها كالمعتاد عليها منذ سنوات تقف بكبرياء تربت عليه منذ نعومة أظافرها الا ان قلبها هو من حطم هذا الكبرياء فترة من الوقت لتعود وتشمخ مرة أخرى قاتلة اخر نبض ينبض بين غيابيب قلبها ....ليراها تشمخ بوجهها وتنظر له بحدة غريبة فيبادلها نفس الحدة ونظرة استهزاء وتقول منهية هذا الموقف :
-أنا موجودة يا ام سعد ...وزي ما أستاذ مالك امر ..هقوم أنا بكل الشغل انهاردة وريحي انتي ....
ارادت ان تبرر لها ان لا ذنب لها في قرارة لتجد مالك يأمر خديجة بصرامة غريبة عليه :
-تعمليلي قهوتي وتجبيها لحد عندي في المجلس ...وانهاردة في رجالة جايين على الغذا اعملي حسابك ساعة واحدة ويكون الأكل خلصان فاهمة ......
ينصرف من امامهما لتقترب منها ام سعد تربت على كتفها بمواساة قائلة:
-أنا مش عارفة ليه بيعمل معاكي كدة ..عمره ماعمل ما حد كده ....معلش يابنتي هو انتي لسه تعبانة ؟
لتهز رأسها بانكسار واضح وتخفضها تحاول كبت دموعها بقوة ..فتشعر ام سعد بارتعاش جسدها تحت كفها لتقول بخوف :
-هو انتي ما اخذتيش علاجك يابنتي ؟!....
تغمض خديجة عينيها بقوة فأمر علاجها هذا يسبب لها الاحراج كل شهر فعند انتهائه تخجل من ان تطلبه من الحاج حافظ وعند ملاحظته تعبها يعلم بانها خجلت من طلبه ليرسل فزاع بسرية تامة لجلبه لها ....لتقول خديجة بتعب واهتزاز :
-أنا هدخل اعمل القهوة ..وبعد كده هطلع الحاج حافظ اطلبه منه .....
-ربنا يشفيكي يابنتي ...أنا مش عارفة مستخبيلك فين بس.......
وقفت امام الموقد منذ الصباح الباكر بوجه وجسد متعرق باهت اللون تقلب إناء كبير به حساء وبعض قطع اللحم بشرود تشعر بازدياد ضربات قلبها ودورانها الذي لا يهدأ مع محاولتها السيطرة على اهتزاز جسدها الذي لايهدأ حتى ادى إلى تساقط الأواني اكثر من مرة من يدها وكسر كوبان من الزجاج لتطلب منها ام سعد الحنونة أخذ بعض الراحة والجلوس على الطاولة لتقطيع الخبز لإعداد الوجبة الدسمة
تدخل عليها ام سعد وفي يدها عدد من الصحون تقول بعجالة :
-همي يابنتي الناس على وصول ....مش عايزين مشاكل مع سي مالك ....
تهز رأسها بإرهاق وكادت ان تتحرك سمعتها تقول بلهفة :
-ياحزني ....اديني نسيت أقولك ان فزاع جاب الحاجة وعايزك بره ...بسرعة روحي قبل ما سي مالك يطلب نوزع الأكل يلا
تشعر بان روحها ردت اليها ففزاع هو ثاني شخص بعد الحاج حافظ يعلم بجزء
من سرها ...تكن له معزة خاصة ..دائمة متلهف لخدمتها وهي أيضًا تشعر معه براحة عجيبة لا تعلم سببها .....تخرج من حجرة الطهي ببطء وتعب بعد ان تأكدت من وضع غطاء وجهها ممروا بمجلس الرجال القابع فيه مالك ..تسللت خارج البيت ليصدمها حرارة الجو في مثل هذا الوقت من اليوم تغمض وتفتح عينيها اكثر من مرة حتى اعتادت على ضوء الشمس الحارقة فتلمحه يقف بملابسه المكونة من قميص وبنطال مواليا لها ظهره العريض فهو قوي البنية ...عند وقوفه منتظرا إياها كان شاردا فيها ليزداد ضربات قلبه كلما فكر بها وشرد في ملامحها الساحرة البريئة التي سرقت عقله منذ رؤيته لها من اول لحظة ..ليتذكر انه فاتح الحاج حافظ اكثر من مرة بل وألح عليه حتى ينال الرضا ويكمل نصف دينه ويعقد عليها الا ان طلبه قُبِلَ بالرفض الصارم ..حتى شك في امر الحاج الكبير ان يكون لديه خطط أخرى تجمعه معها كزوجة له .....يفيق من تفكيره ودوامته عندما سمع صوت نحنحتها من قبل ليلتف بسرعة ملحوظة كأنه لا يريد ان يضيع الوقت عليه ليستغل كل ثانية متواجدة معه فيها
فتشق الابتسامة شفاه الغليظة مع تثبيت عينيه على عينيها بغرام واضح يقول بصوت متلهف :
-عاملة أية ؟...ياست البنات
تحييه بامتنان واضح وصوت مهتز من التعب :
-الحمد لله يافزاع...وأنت عامل ايه ..بقالي كتير مش بشوفك عند الإسطبل ....
يشعر من صوتها المهتز بتعبها ليخفض نظره لكف يدها التي لم تتتوقف عن فركهما معا لتستشعر بعض الدفء فيهما وتسيطر على اهتزازهما معًا ليعقد حاجبه ويقول بخوف:
-أنا تحت النظر ياست البنات ....مقدرش ابعد عنك ..اقصد عنكم ...انتي بس لو احتاجتي اي شئ أنا خدامك...
تخجل من أسلوبه معها فهي تعلم جيدا انه يكن لها مشاعر جياشة ليست بالهينة ترفع عينها تحاول الهروب من تفحصه لوجهها المختفي خلف غطائه تنظر خلفه للفراغ لا تعلم علي اي شئ تنظر ..أما عنه فكان يستغل فرصة قربها منه كل شهر عندما يجلب لها طلباتها الخاصة حتي يشبع جوع مشاعره ويسكت أنينها لقد سحرته بسحرها عندما رأها لأول مرة ملقاه بين الزراعات مصابة إصابات متفرقة ليحملها بنفسه يستشعر نعومة جسدها ورائحتها الندية مع انبهاره بملامحها الغريبة ليلاحظه الحاج حافظ وينهره على مايفعل ...فهو دائما يخاف من امر النداهة كشئ خرافي ولكن من الواضح ان نداهته التي تقف أمامه لها رأي اخر ..لقد احب ندائها ...يقطع شروده صوتها الهامس باسمه الذي يخرج من فمها بنعومة ..متى كان بمثل هذه الحلاوة ...ليجيبها متلهفا:
-ها..بتكلميني ياست البنات ....
تهز رأسها بابتسامه شعر بها تكمل :
-ايوه ..اللي واخد عقلك ....كنت بسألك عن الحاجة جبتها لي....
ليتذكر فورًا سبب الإرسال اليها فينتفض يخرج كيس اسود ملفوف بإحكام يمد لها يده بهذه اللفة يقول متعجلا لها:
-اعذريني ياست البنات ..اصل الوقفة معاكي مايتشبعش منها ...خدي الحاجة بسرعة أنا حاسس انك تعبانة ..وكمان قبل ما تفسد ...
-شكرا يافزاع ..مش عارفة أقولك ايه بس ...
أراد التلميح لها برغبته بها ولكنه لا يعلم لما رفض الحاج حافظ له :
-أنا لو اقدر اجيبلك نجمة من السما مش هتأخر عنك ابدا ...بس أنا ...كنت ...عايز ...
ليقطع حديثهما صوت صارم قوي جعلهما يجفلا فزعا منه لينظرا خلفهما يجدانه قريب جدا منهما ليسمع حديثهما ...احتضنت لصدرها الكيس الأسود تستشعر ببرودة قطع الثلج الموجود معه ..كأنها ارادت إخفائها عن نظره ...حمدت الله ان فزاع لم يفسر بحديثه الموجود بداخله ...فيقترب خطوة خطوة الفهد ونظره يمرر عليهما بضيق يقول:
-انتي ايه اللي موقفك بره ومسيبك المطبخ ..
أنا مش منبه عليكي ان في ناس جايين على الغدا....
وأنت يافزاع كنت عايز ايه بقي منها؟!!...
يلقي عليها فزاع نظرة شفقة ليقول :
-كنت ..كنت بشتري حاجات لست البنات كانت طلباها
ليرفع مالك حاجبه بضيق واضح فلقد لاحظ ان فزاع دائما يلقبها بهذا اللقب التحببي كنوع من الدلال ليسأل بصرامة :
-حاجة ايه؟!
-حاجات المطبخ كانت ناقصانا ...
قالتها خديجة بسرعة منقذة الموقف ...
ليأمرها بضيق بالانصراف للداخل فتتحرك امامها بجسد متعب حاولت الا تظهر مرضها وضعفها أمامه
ليواجهه فزاع وقد اختلفت ملامحه عن ذي قبل للين ..ففزاع صديق الطفولة والدراسة الذي استمرا معا كزملاء للصف الثالث الثانوي ولكن كلا منهما سلك طريقا اخر ففزاع التحق بكلية الزراعة نظرًا لمجموعة وهو التحق بكلية الطيران لينفصلا بعدها عدة سنوات ...
فيقول مالك مستفسرا للأخير :
-مالك يافزاع ...شكلك في حاجة عايز تقولها ؟...
ينظر فزاع لمالك بضيق يقول:
-لازمته ايه المعاملة الناشفة دي معها. دي ملاك محدش حاسس بيه من سنين في البيت ....
ليسأل مرة اخري مالك أراد ان يصل لنقطة محددة استشعرها:
-ايه حكاية ست البنات دي ؟!..ملاحظ انك مش بتنده لها باسمها ....
-"عشان مش ..." اجابه فزاع مندفعا من غير تفكير
ليتدارك قوله الأخير الذي اثار ريبة مالك ليقول مصححا:
-اقصد يعني ...انها فعلا ست البنات ..والستات والحريم كلهم....
يرفع مالك حاجبه بمكر مع ظهور ابتسامه علي شفتيه ماكرة:
-هي عجباك !!!
يسرع مرة أخرى بالإجابة بانها تعجبه ويتمني قربها ورضائها...
فيعقد مالك حاجبة باستغراب وقد جاءت الفرصة أمامه للتخلص منها ببيته :
-طيب مادام نيتك خير ماطلبتهاش ليه من الحاج؟ ..هو أنت شوية ...متعلم وعندك فدانين ارض وأملاك وبيت بس انت اللي غاوي تقعد معانا وسايب حالك .....
يجيبه فزاع بحزن واضح :
-مين قالك أني مطلبتهاش من الحاج ..أنا من كتر ماطلبتها مش قادر افتكر عددهم ....نفسي اعرف رافضني ليه ....
-مش يمكن هي اللي رافضة .....
ليسرع ينفي ذلك يقول :
-لا لا...هي ماتعرفش الحاج منبه عليا ان مااتكلمش معها وهو اللي رافض ...
فيتعجب مالك من رفض زواج فزاع منها مع اصراره هو للزواج بها اصرارا مشكوك فيه
ليقول منهيًا هذا الحديث مع محاولته معرفة اي شئ عن مايخفيه والده عنه :
-سيب الموضوع ده ليا ..وانا هكلم الحاج ...بس عندي شرط
-شرط ايه؟
-تقولي انت مصمم عليها ليها مع انك ولا تعرف لها أهل ولا تعرف حكايتها ايه مش يمكن عاملة مصيبة وهربانة منها ..وحاجة تانية مش يمكن شكلها مايعجبكش ....
ليجيب فزاع بتوهان عند ذكر شكلها ...هل يذكر لمالك انه من ضمن القلائل الذين نالوا شرف معرفة ملامحها ام يجيبه بانه متقبلها حتى لو كانت دميمة الوجه ..هل سيقتنع بتبريره؟ ..فمنذ ان وجدها هو والحاج حافظ وقام برؤيتها عدة مرات بعدها امرها الحاج بإخفاء حالها مع تقديم تبريره ان جمالها فتنة يجب عليها إخفاءه عن عيون الطامعين رغم انه سببا مقنعا الا انه يشعر بان هناك سبب اخر لإخفائها ...عندما طال صمته
آفاقه مالك بحركة من أصابعه ليصدر صوت أنامله فيفيق على حديثه:
-ايه رحت فين تاني ..شكلك اقتنعت بكلامي .
لينفي فزاع ماوصل إلى رأس مالك ليلوح بيده كالملدوع :
-لا لا ....أنا فعلا مصمم على طلبي لسه ...اصل يعني أنا شفت........
يقطع حديثه رنين هاتفه ليقول مالك باعتذار :
-فزاع هنكمل كلامنا بعدين ..ها ...في مكالمة مستنيها ....
ليبتعد بعد فتح المكالمة تحت نظر فزاع الذي يملي قلبه ببعض الآمال لعل مالك يساعده فيما تمناه قلبه .......
دخلت مسرعة الي حجرتها تغلق بابها بإحكام تلهث من شدة الإرهاق كأنها خارجة من سباق الوثب تنزع عنها غطاء شعرها ووجهها بقوة فينسدل خصلات شعرها فوق وجهها الأبيض المتشبع بكثير من الحمرة نتيجة إرهاقها وارتفاع درجة حرارة الجو تتمني لو نالت حمامًا باردًا يهدئ من اشتعال جسدها وتنعم بعدها ببعض الراحة تتحرك ببطء نحو فراشها تجلس فوقه ممسكة بالكيس الذي جلبه لها فزاع فتقوم بإفراغ محتوياته فوق فراشها ليظهر عدة زجاجات صغيرة بها محلول ابيض شفاف وبعض الأكياس البلاستيكية المستطيلة الشفافة تحتوي كل واحدة منها علي إبر طبية خاصة بالحقن
تتحرك باتجاة خزانة ملابسها تخرج منها حقيبة سوداء صغيرة ذات سحاب تخرج منها جهازًا وقلما يشبه الإبر الطبية
وتتجه مرة أخرى باهتزاز محتضنه حقيبتها لتجلس حتى تستطع أخذ عينة من إبهامها ...مررت شريطا صغيرا يحمل نقطة من دمائها التي قامت بوخزه حتى تقوم بقياس نسبة سكرها لتحدد الجرعة المطلوب اخذها من الانسولين ...لتلاحظ ارتفاع نسبة السكر بشكل مبالغ فيه ..فهذا سبب لها كثرة التعب واهتزاز اطرافها وجسدها ..لتحقن الابرة الطبية بالزجاجة المملوءة بالمحلول الذي جلبه فزاع منذ قليل وتكشف عن ساقها اليمنى ليظهر فخذها النحيف الأبيض ان تختار مكانًا جديدًا لتحقن فيه الابرة فتضم جلدها بأصبعيها السبابة والإبهام وتضرب الابرة بشكل عمودي سريع اعتادت عليه منذ نعومة أظافرها فتفرغ كل الجرعة المطلوبة تحت جلدها ..
تجلس فوق فراشها مغمضة العينين تحاول نيل بعض الراحة بعد أخذ الجرعة .....تعلم انها إذا لم تأخذ جرعتها اليومية من الممكن ان تتعرض لغيبوبة سكر مفاجئة فأحيانا يصيبها انخفاض مفاجئ له ايضا ...تتمنى كثيرا ان تصيبها لتتخلص من حياتها للأبد ....لا تريد العيش وسط هذه الغابة الذى ينتهك فيها الإنسان أخيه الإنسان بكل قسوة وبرودة دماء .....
حياتها كانت اجمل ...لقد نالت من شتى أنواع الدلال التى لم تحصل عليها فتاة يوما لم تحسب يوما ان كل مانالته سراب ووهم لتفق على واقع اليم ...
(اعتقدت ان كل البشر ملائكة واتضح ان لا يسكن الأرض الا الشياطين) ......
يتبع،