آخر 10 مشاركات
لعنتي جنون عشقك *مميزة و مكتملة* (الكاتـب : tamima nabil - )           »          رواية قصاصٌ وخلاص (الكاتـب : اسما زايد - )           »          مشاعر من نار (65) للكاتبة: لين غراهام (الجزء الثانى من سلسلة عرائس متمردات)×كاملة× (الكاتـب : Dalyia - )           »          530 - حلم الطفولة - باتريسيا ولسن - ق.ع.د.ن (الكاتـب : ^RAYAHEEN^ - )           »          هل حقا نحن متناقضون....؟ (الكاتـب : المســــافررر - )           »          سجل هنا حضورك اليومي (الكاتـب : فراس الاصيل - )           »          نبضات حرف واحاسيس قلم ( .. سجال أدبي ) *مميزة* (الكاتـب : المســــافررر - )           »          جنتي هي .. صحراءُ قلبِكَ القاحلة (1) * مميزة ومكتملة* .. سلسلة حكايات النشامى (الكاتـب : lolla sweety - )           »          إلَى السماءِ تجلت نَظرَتِي وَرَنـت (الكاتـب : ميساء بيتي - )           »          54 - نصف القمر - أحلام القديمة - ( كتابة / كاملة ) (الكاتـب : * فوفو * - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات القصيرة المكتملة (وحي الاعضاء)

Like Tree3Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 20-09-20, 12:13 AM   #1

الاء العزاوي
 
الصورة الرمزية الاء العزاوي

? العضوٌ??? » 476431
?  التسِجيلٌ » Aug 2020
? مشَارَ?اتْي » 15
?  نُقآطِيْ » الاء العزاوي is on a distinguished road
افتراضي قلب خارج نطاق التغطية (10) .. سلسلة لؤلؤة في محارة مشروخة * مكتملة ومميزة *








بسم الله أبدأ معكم نوفيلا
قلب خارج نطاق التغطية








قلبان جعلتهما صدمات الحياة خارج نطاق التغطية، التقيا وسط زوبعة من تحدٍّ وعناد لتفتح في كليهما جراح جديدة..
اللؤاؤة العاشرة من لآلئ سلسلة: لؤلؤة في محارة مشروخة




أوقات ممتعة أرجوها لكم مع قصة سهر، وأرجو أن ينال قلمي رضاكم..




روابط الفصول

الفصول 1، 2، 3، 4، 5، 6، 7، 8، 9 .... بالأسفل
الفصل 10 الأخير




ندى تدى and Mini-2012 like this.


التعديل الأخير تم بواسطة ebti ; 03-10-20 الساعة 02:15 PM
الاء العزاوي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-09-20, 12:19 AM   #2

الاء العزاوي
 
الصورة الرمزية الاء العزاوي

? العضوٌ??? » 476431
?  التسِجيلٌ » Aug 2020
? مشَارَ?اتْي » 15
?  نُقآطِيْ » الاء العزاوي is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الأول

أغلقت (سهر) هاتفها كي تعدّ حقيبتها لتسافر صباح الغد لكن أفكارها عمّن كانت تحدثها بخصوص تلك الرحلة التي تثير قلقها وحماسها لم تغلق في عقلها.
(وداد الوعد)، اسم على مسمى فقد كانت شديدة الودّ معها ورسمت أمامها وعدا مضيئا في عتمة أيامها فلم تكن وداد مجرد صحفية وكاتبة مهتمة بجمع قصص من الحياة الواقعية عن النساء اللاتي قضين سنوات من حياتهن في السجن لتضعها في كتاب أسمته (لؤلؤة في محارة مشروخة) ويا له من اسم دلّ على محتواه بكل قسوته! لقد صارت وداد وبعد وقت قصير من تعارفهما، صديقة تتبادل الحديث معها كل حين وتخبرها بما استجد في حياتها.
ابتسمت سهر وهي تتذكر تواصلها الأول مع وداد عبر موقع التواصل الاجتماعي قبل سنوات، وبعد مرور عامين تقريبا على خروجها من السجن...
قرأت سهر رسالة وداد التي لم تقرأ اسمها من قبل على موقع الفيس بوك.
(السلام عليكم. هل يمكن أن تتصلي بي؟ سأترك لك رقم هاتفي. هناك أمر ضروري أريد مناقشته معك. أرجو ألا تهملي رسالتي فالأمر مهم وسيعود بالنفع عليك ربما أكثر مني).
زاد فضولها وانتابها قلق رسم أثره على ملامحها. ماذا
تريد منها تلك المرأة؟ أم تراه ذكرا ينتحل شخصية امرأة؟ لقد سمعت كثيرا عن أولئك الذكور المنسوبين خطئًا الى الرجال، ممن يستخدمون أسماء النساء على الفيس بوك كي تشعر الفتيات نحوهم بالأمان ويتواصلن معهم بحرية
ثم يبدؤون بعدها بابتزازهن بالصور وغيرها.
دخلت سهر صفحة وداد الشخصية فعرفت أنها إحدى عضوات المجموعة النسائية المغلقة التي انضمت إليها قبل فترة قصيرة والتي تضم نساءً يعانين اضطهاد المجتمع لهن.
بعد تردد، انضمت سهر لتلك المجموعة كي تساعدها ولو قليلا في التخفيف من معاناتها جراء نبذ المجتمع لها بعد خروجها من السجن حيث كانت تضم الكثير من النساء اللاتي قضين فترة في السجن دون وجه حق مثلها، وأخريات معنّفات من قبل أزواجهن أو إخوتهن أو آبائهن والقائمة تطول في ذكر أنواع الاضطهاد ضد النساء حتى من قبل نساء أخريات.
تأملت سهر صور وداد الوعد في صفحتها الشخصية وبعد
أن تأكدت أن وداد امرأة، دفعها الفضول لمعرفة ما تريد
منها فردّت على الرسالة ولم تتصل برقم هاتفها.
(وعليكم السلام. ما هو الموضوع الهام الذي تريدين محادثتي عنه؟)
بعد دقائق، أتاها الردّ من وداد (الموضوع طويل فالأفضل أن نتحدث عنه هاتفيا. أرجو أن تتصلي بي أو تكتبي رقم هاتفك وأتصل أنا بك).
بعد تحليلات ومشاورات مع عقلها، قررت سهر الاتصال بوداد لمعرفة ما تريده منها. ماذا يكن أن يحدث لو كلمتها؟
اتصلت بالرقم فأتاها صوت وداد التي كانت متوجسة من ردّة فعلها على ما ستقوله فقد عرفتها قليلة المشاركة في المجموعة شديدة الانطواء وكتومة فيما يتعلق بطرح تجربتها في السجن وأسباب دخولها إليه، وذلك أكثر
ما شدّ انتباه وداد لها من بين العضوات في المجموعة.
- مرحبا. شكرا لاتصالك سهر.
ردّت سهر والتوجس والفضول يربكان نبضها كما صوتها: - أهلا. ما الموضوع المهم الذي تريدين التحدث معي حوله؟
بدأت وداد آملة في تعاون سهر: - أنا إحدى عضوات
مجموعة (معا ضد تعنيف المرأة).
علقت سهر بصراحة: - عرفت ذلك حين تصفحت ملفك الشخصي قبل قليل على الفيس بوك، وعرفت أنك صحفية وكاتبة.
ابتسمت وداد لصراحة سهر ودخلت في الموضوع مباشرة: - أعمل على مشروع كتاب أتحدث فيه عن نساء قضين عقوبة في السجن، لذا تواصلت مع عدد من المسجونات من عضوات المجموعة وغيرهن.
توترت سهر وهي تقول:
- إذن تريدين مني أن أكون مادة دسمة لكتابك. أعتذر! ليس لدي نية في التحدث عن ذلك الأمر مع أحد.
قالت وداد مقدرة تحفظها:
- لن أذكر اسمك أو أي معلومة عنك. أنا حريصة مثلكن على سرية شخصياتكن.
قالت سهر ساخرة: - وكأن السرية تهمني! لقد فُضِحتُ منذ دخولي السجن فهل سأهتم الآن بكلام أحد؟ الأمر أنني لا أريد الخوض في تفاصيل تلك الفترة من حياتي.
قالت وداد بلهجة حانية وهي تتصور ما قد تعانيه فتاة
في السجن وما بعده:
- عدم ذكر الماضي لن يمحوه بل العكس، سيبقيه جرحا غائرا مخفيا في زاوية بعيدة من فكرك لينفجر في أول فرصة. الحديث عمّا مررت به سيفيدك ويخفف عنك، ويفيد غيرك من النساء ممن مررن حديثا بتجربة مشابهة.
سألت سهر بنفس السخرية رغم اضطرابها بسبب الذكريات القاسية التي هاجمتها:
- وكيف ستفيدهن قصتي برأيك؟
أجابت وداد متوجسة من التالي في حوارها مع سهر التي اتضح أنها أشد يأسا مما ظنّت:
- سيستفدن من قصتك في تخطي أزمتهن.
أطلقت سهر ضحكة استشفت منها وداد مدى المرارة التي تشعر بها.
- وهل تخطيتها أنا كي أستطيع مساعدتهن على تخطيها؟ وهل يمكن تخطي البشاعة والقهر والظلم الذي ذقته لسنوات على يدي كل من حولي بهذه البساطة؟ وبعد مرور عامين فقط على خروجي من ذلك الجحيم؟
بلعت سهر غصة احتلت بلعومها وأكملت بصوت لم
تستطع إخفاء اختناقه: - عمر بأكمله لا يمكن أن يمحو ما
عشته في السجن وما بعده.
استغلت وداد لحظة اندفاع سهر تلك وبوحها ببعض ما يعتمل في صدرها من ألم فقالت بإلحاح:
- لذا أقول إنك يجب أن تتحدثي عن كل ما مررت به كي تخفّفي من هذه المرارة والألم وإلا قضت عليك.
بدأت سهر بالاعتراض: - أخبرتك أني..
فقاطعتها وداد: - فكري ولا ترفضي فورا وسأكون دوما
بانتظارك.
مع أن سهر أنهت تلك المكالمة برفض نهائي لطلب وداد، إلا أنها غيرت رأيها بعد فترة فقد شعرت أن تلك الذكريات بدأت بالفعل تخنقها كما قالت وداد فحتى (مختار) صديق والدها المقرب وزوجته (حياة) التي رأت منها حنوّا ذكرها بحنان والدتها، لم تجرؤ على الحديث معهما عمّا مرّ بها بالتفصيل.
بدأت تنتابها حالات الاكتئاب وعادت لأخذ حبوب المهدئ يوميًا تقريبا لذا قررت الأخذ بنصيحة وداد والتحدث معها عن كل ما عانته علّها تتخلص من بعض حملها الذي أرهقها منذ سنوات ومع هذا كانت ترفض مشاركته مع أحد!
أخيرا اتخذت سهر قرارها واتصلت بوداد بعد شهر قضته الأخيرة في انتظار وترقب مع أن شيئا داخلها كان يطمئنها بأن سهر ستقبل في النهاية أن تبوح لها بما عانته في السجن وما بعده، وكم سُرّت وداد بسماع قرار سهر بالحديث معها عن كل ما مرّ بها في السجن وما عانته بعد خروجها!
عانت سهر كثيرا خلال الدقائق الطويلة التي أخبرت فيها وداد بالتفصيل عمّا حدث في تلك الليلة المشؤومة التي تسببت بقلب حياتها رأسا على عقب وتسببت بعدها بموت والدتها كمدًا وحزنًا عليها وهي تقضي أجمل سنوات شبابها في السجن وبسبب ما عانته من نبذ زوجها لها واتهامه والمجتمع لابنتها المظلومة سهر بدل الوقوف معها.
رنّ هاتف سهر ليأخذها من ذكرياتها فأجابت وعلى
وجهها ابتسامة. جاءها صوت مختار وحياة وهما يسألاها إن كانت أنهت استعدادها للسفر.
قالت وهي تقفل حقيبتها الصغيرة التي ضمّت عطورها وأدوات زينتها: - أنهيت كل شيء تقريبا.
أوصتها حياة: - اتركي الأشياء التي لن تأخذيها معك وأنا سآخذها غدا الى منزلنا حين نأتي لوداعك أنا وعمك
مختار.
ودعتهما وهي تفكر كيف ستتحمل فراقهما. لن تفيهما حقهما مهما فعلت! لقد فتحا لها بيتهما لتعيش معهما بعد خروجها من السجن فوجدت فيهما حنان الوالدين ووجدا فيها تعويضا عن أبنائهما الذين فارقوهما كي يستقروا خارج البلاد منذ سنوات وكانا الوحيدين اللذين احتضناها في أزماتها إكراما لذكرى والدها الذي كان رفيق عمر مختار وصارا الملاذ الآمن لها حين لفظها أقاربها واعتبروها عارا على العائلة بل ووصل الأمر مع بعضهم الى التبرؤ منها.
وكأنها اختارت أن تقضي أجمل سنوات حياتها في ذلك المكان الذي ذاقت فيه الأمرين، سواء على يد إحدى مشرفات السجن أو بعض المسجونات ممن
انعدمت في نفوسهن الأخلاق والإنسانية!
وضعت سهر مجموعة ثياب في حقيبتها وهي تفكر بذلك اليوم الذي يشعرها تذكره بالقرف والمهانة، حين تحرشت بها إحدى المسجونات الشاذات من ذوات السطوة داخل السجن. لولا وصول مجموعة من زميلاتها في آخر لحظة لأضيفت إلى قائمة كوارثها كارثة أخرى.
تنهدت بحرقة وهي تتذكر العقوبات التي كانت تتعرض لها وباقي المسجونات على يد إحدى المشرفات من معدومات الضمير، ولامست الآثار التي ما تزال شاهدة على الضرب الوحشي الذي تلقّته.
نفضت تلك الذكريات من رأسها وهي تشعر بضيق في صدرها ككل مرة تمر في خاطرها تلك الأيام البشعة ثم أكملت ترتيب ثيابها استعدادا للسفر صباح الغد.
🚫 🚫 🚫
دخلت سهر مزرعة (شهم) بسيارته حيث أرسل لها السائق الى مرآب السيارات في المدينة لإحضارها فتألقت عيناها بنظرات انبهار وسرور بذلك المنظر الساحر للّون الأخضر الذي أعلن سطوته على المكان.
سارت السيارة على الطريق المرصوف بالأحجار الحمراء نحو المنزل الذي توسط المزرعة.
خفق قلبها حماسًا لبدء عملها الجديد وهي تتذكر لحظة أخبرها مختار أنه رشّحها لهذه الوظيفة التي كانت طوق إنقاذ لها وسط الضائقة المالية التي كانت تمر بها بسبب إجبارها على الاستقالة من عملها في المستشفى الخاص الذي كان مختار يديره قبل أن يستقيل ليرتاح من العمل.
كان أغلب المسئولين في المستشفى راغبين بطردها من
العمل لأن لها سابقة في دخول السجن لكن مختار كان حجر العثرة في طريقهم فهو من كفلها لدى مالك المستشفى وكان المدافع دوما عنها وعن حسن سلوكها واجتهادها اللذين أثبتتهما خلال سنوات عملها.
ليت جميع الناس لديهم رحمةً وعقلاً مستنيرًا كمختار ومالك المستشفى!
لقد حمّلها الكثيرون ذنبا لم ترتكبه ووضعوها هي الضحية موضع الجاني، فاتهموها بسوء الأخلاق والانحلال بدل إظهار الرحمة لها والأخذ بيدها بعدما جرى لها.
لمعت عيناها فرحا حين قال مختار وهو يشد على يدها: - أخيرا وجدت لك عملا، والحمد لله أن بعض شروط الوظيفة متوفرة فيك.
سألته سهر مستغربة رغم لهفتها:
- ما هي الوظيفة؟ ومن اقتنع بمنح عمل لامرأة مثلي؟
- ستعملين لدى شهم، ابن أحد رفاقي.
سألته سهر: - الذي يتصل بك كل فترة؟
أومأ مختار وبدأ يشرح لها طبيعة العمل:
- تعرض ولده لتمزق في أوتار كاحله وكسر في ذراعه
بسبب سقوطه عن ظهر الحصان لذا يحتاج أخصائية علاج طبيعي وممرضة في الوقت نفسه ولا يقل عمرها عن ثلاثين عاما. أخبرتني جدة الطفل أنه يحتاج الى الاهتمام بحالته النفسية خلال الفترة القادمة فهو يعيش منعزلا دون أصدقاء وهذا أثر على مزاجه كثيرا لذا قد تستمرين بالعمل عدة شهور. الراتب كبير وسينقذك من أزمتك المالية.
تمتمت بحمد الله ثم عادت تسأله بشك:
- لكن سنوات خبرتي بالعمل قليلة.
طمأنها مختار: - لا يريد شهم دخول أيّ كان منزله لذا طلب مني اختيار شخص موثوق.
تساءلت بمرارة: - وهل يعرف السيد شهم أن هذا الشخص الموثوق دخل السجن؟
هزّ مختار رأسه نفيا وقال:
- لا داعي لإخباره عن الأمر وهو لن يسألك ما دمت أنا من رشحك للوظيفة، فهو يثق في حكمي على الناس. تمسكي بهذه الوظيفة فأنت بحاجة لها، ولا تدعي الغضب والأحكام المسبقة تقود تصرفاتك.
فكرت سهر بحنق “إذن هو عاهة من عاهات المجتمع ما دام عمي أخفى عنه أمر دخولي السجن ويوصيني بالصبر عليه!”
رمقت مختار بعينين ضيقتهما بتساؤل:
- يبدو أنه شخص يصعب التعامل معه ما دمت توصيني بالصبر عليه!
قال مختار دون إفصاح: - ليس الأمر هكذا بالضبط. مرّ شهم بالكثير ووفاة زوجته أثرت فيه جدًا. لا أستطيع
الإفصاح أكثر فتلك أشياء خاصة وليس من اللائق أن أتحدث فيها. أهم شيء الآن هو أن أؤمن لك وظيفة وحياة مستقرة فقد تسببت بطردك بسبب تقاعدي من العمل في المستشفى. مع أني لا أزال معترضا على استقلالك في السكن عنّا أنا وخالتك حياة. لو عدت للسكن معنا لانتهت مشاكلك.
تجمعت الدموع في عينيها حين قالت له وهي تشد على كفّه الذي رسمت السنوات آثارها عليه:
- من تسبب بطردي أولئك الهمج الذين لم تضف لهم شاهداتهم ذرّة من التحضر والثقافة، ممن يعملون في ذلك المستشفى الذي ما كنت لأعمل فيه لولاك. أما عن سكني المستقل فأنت تعرف أنني لن أغير رأيي.
أومأ بعدم رضا ثم قال وهو يخفي قلقه من توجسها من الرجال:
- ستقيمين بشكل دائم في منزل شهم طيلة فترة علاج ولده فهو يسكن منذ سنوات في مزرعة في إحدى المحافظات الشمالية.
رمقته بقلق ونظرات متوجسة فأسرع مضيفا:
- أعرف شهم منذ صغره كما أعرفك يا ابنتي، ولولا أنني متأكد من حسن أخلاقه لما عرضت عليك الوظيفة أساسًا. كما إنه لا يقيم مع ولده فحسب بل تقيم معه
والدته إضافة لمدبرة منزله.
بعد مضيّ عام على خروجها من السجن، أرادت سهر العمل كي لا تكون عالة على مختار وحياة وتستقل بحياتها. لم يرق الأمر لمختار الذي اعتبرها ابنته وقرر مساندتها والتكفل بكل ما يخصها لكنه لم يمانع بل شجعها كي يجعل من ذلك الأمر سببًا في عودتها الى الحياة التي هربت منها واعتزلتها منذ خرجت من السجن.
قالت سهر بنظرات حزن ويأس:
- أعرف أن الأمر صعب مع سابقة دخولي السجن لكنني مستعدة لعمل أي شيء. أيمكن أن أعمل في قسم
التنظيف؟ لا أظن أنها وظيفة تحتاج سيرة ذاتية.
تساءلت حياة بحنق وهي تستغرب كمختار إصرار سهر
على العمل: - ولمَ هذا العناء؟ لا أفهم إصرارك المفاجئ على العمل الآن!
قال مختار بابتسامة: - بل ستعملين في التمريض.
التخصص الذي درسته في الجامعة.
سألته والأمل في نفسها ضعيف: - وهل يوافقون؟
- سأكلم مالك المستشفى. إنه رجل متفهم ولا أظنه
يرفض.
اعترضت حياة بانزعاج:
- أتساعدها بدل أن تقنعها بعدم حاجتها للعمل!
أوضح مختار وهو يربت على يد زوجته:
- دعيها تعمل. ذلك سيجعلها تعود الى الحياة والناس الذين تهرب منهم.
رفعت سهر حاجبيها معاتبة وهي تقول:
- وأنا التي استغربت موافقتك ومساعدتك لي في إيجاد عمل! أيّ حياة وأيّ أناس أولئك الذين تريدني أن أعود إليهم يا عمي؟ الناس الذين علقوا لي المشانق وحكموا عليّ بالانحلال والإجرام قبل صدور قرار المحكمة؟ الناس الذين تخلوا عني واعتبروني عارا عليهم؟
نهضت لتهرب الى غرفتها وهي تمسح دموعها وتلعن حظها الذي أجبرها على طلب العمل والعودة الى الاختلاط بالمجتمع.
ما لم يعرفه مختار وحياة أن سبب إصرار سهر على العمل كي تستطيع الاستقلال بسكنها لاحقا والابتعاد عنهما هو طلب ولدهما الأكبر فقد اتصل بها ليطلب منها بلهجة وكلمات أشعرتها بالذلّ أن تخرج من منزل والده.
نفذت سهر أمره الجائر دون تأخير حالما تمكنت من دفع
إيجار شهري لشقة صغيرة مستقلة في الطابق العلوي لأحد المنازل التي تقع قريبا من منزل مختار.
عادت سهر من ذكرياتها المؤلمة لأرض الواقع الغامض الذي ينتظرها وهي تسمع صهيل أحد الأحصنة ثم ابتسمت بسخرية وهي تتذكر كيف كانت حزينة يوم
عرفت أن مجموعها في الثانوية لم يمكنها من دخول كلية العلوم التي كانت تريدها وأدخلها كلية التمريض.
كم نفعها هذا الأمر بعد خروجها من السجن!
مع سابقة دخولها السجن، لم يكن أحدًا ليمنحها فرصة عمل لكن مختار كونه مديرا للمستشفى فقد استطاع منحها تلك الفرصة وتوظيفها وحينها رجت مختار أن تعمل في قسم الأطفال فهم الوحيدون من الناس الذين تستطيع التعامل معهم ودوما ما أحبتهم بشدة.
ما أن طرقت سهر باب منزل شهم حتى فتحت لها امرأة
جمعت ملامحها السرور والقلق.
- مساء الخير. أنا الممرضة سهر.
استحثتها الخادمة بابتسامة مضطربة أن تدخل:
- أهلا. ادخلي بسرعة من فضلك فالسيد شهم يشتعل غضبا!
رمقتها سهر بنظرة امتعاض وهي مقطبة الجبين ثم سارت معها الى الصالة ليتناهى الى سمعها صوت شهم الغاضب.
- ألم أقل لكِ أنها لن تحضر؟ لا بد أنها غيرت رأيها في
آخر لحظة. أي امرأة ستقبل بأن تسجن في هذا المكان المنعزل، خاصة من اعتادت العيش في العاصمة؟
فكرت سهر “هل يمزح ذلك الغاضب؟ المكان هنا كأنه جنة على الأرض وهو يصفه بالسجن”
أكمل شهم: - وفوق ذلك يتوجب عليها الاعتناء بطفل
مريض مشاغب.
دخلت سهر الغرفة بينما كانت تسمع امرأة تقول:
- اهدأ يا ولدي!
كان صاحب المنزل واقفا بوضع جانبي بالنسبة لها فرمقته بنظرة امتعاض وهي تتفحصه.
قامة طويلة تميل الى النحافة، وجه طويل وجبين
عريض رسمت أعوامه الثمانية والأربعون عليه تجاعيد خفيفة، تحيطه لحية غزاها الشيب كما شعره. حاجباه الطويلان اللذان انعقدا وعيناه الواسعتان اللتان ضيقهما وشفتاه المزمومتان دلّت على مدى غضبه.
أما المرأة الواقفة قربه فكانت على العكس منه تماما، هادئة وملامحها تُشعِر المرء بالدفء.
"لا بد أنها سامية جدة الطفل" فكرت سهر ثم اقتربت
وأعلنت عن وجودها الذي لم يلاحظاه بسبب وقوفها
خلف الفاصل المزخرف الذي يفصل الصالة عن الممر المؤدي الى مدخل المنزل: - مساء الخير.
التفت شهم نحوها لتتلاقى نظراته الحادة بنظراتها الممتعضة من غضبه ليعود ويشيح بوجهه عنها سريعا بينما ابتسمت سامية وقالت وهي تمد يدها نحوها:
- مساء النور، تفضلي.
لكن شهم قال بحدة حالما تقدمت سهر خطوة واحدة:
- قفي مكانك!
رمقته الاثنتان مستفهمتين فأوضح دون أن يلتفت:
- ما دامت لم تلتزم بالموعد منذ البداية فلست بحاجة
لأمثالها.
رمقته سهر باستغراب وحنق. لقد فعل أكثر ما يزعجها، قاضاها دون محاكمة! قالت بامتعاض:
- أصدرت حكمك عليّ واتهمتني بالتقصير قبل أن
تسمعني وتعرف سبب تأخّري!
التفت نحوها بوجه متجهم وقال: - من يستهتر بدقيقة من الزمن فلن يلتزم بأي مسؤوليات.
حاولت سهر شرح سبب تأخرها: - تلك الساعة التي..
لكنه قاطعها وهو يرمقها بنظرات حادة:
- تلك الساعة غير مهمة بنظرك، لكن دقيقة واحدة فقط يمكن أن تغير مجرى حياة بأكملها.
كتمت غضبها من حدَته غير المبررة وغضبه وتنفست بعمق قبل أن تقول:
- أعمل في المستشفى منذ ثلاث سنوات، وأعي جيدًا أن لحظة من الزمن وليس دقيقة يمكن أن تغير حياة إنسان. فالحياة تأتي في لحظة وتذهب في لحظة. يحدث ذلك أمام عيني كل يوم تقريبا.
توترت ملامحه أكثر فاستغربت سهر غضبه الذي زاد بعد
كلماتها بينما قالت سامية: - فلنسمع منها أولا!
قال شهم بانزعاج:
- ستخترع حجة كي تبررَ إهمالها. كلهم متشابهون!
سألته سهر بامتعاض زاد من تجهم وجهه:
- من تقصد بقول كلهم؟
أجاب دون النظر لها: العاملون في المجال الطبي.
شعرت سهر أن وراء كلماته تجربة سيئة أثرت فيه فقالت بهدوء: - ربما صادفت في المستشفيات أشخاصا مهملين لكن هذا لا يعني أن الجميع متشابهون.
رمقته بانزعاج بعدما رمقها بنظرة سخرية ليشيح بوجهه عنها من جديد وشعرت ألا جدوى من النقاش معه فقالت وهي تفتح ذراعيها قليلا:
- لو نظرت إليَ جيدا لأدركت أنني لا أختلق أعذارا وأنني لم أتأخر متعمدة.
وسط غضب شهم ونقاشه الحاد معها، غاب عنهما هو
وسامية الانتباه إلى آثار الطين على حذاء سهر وأسفل سروالها وآثار البلل على ثيابها وشعرها.
رمقها منتظرا توضيحها فقالت:
- تعطلت السيارة بعدما علقت ببقعة وحل تسببت بها الأمطار، واضطررت وباقي الركاب للانتظار حتى مرّت سيارة أخرى أقلتنا الى مرآب السيارات في المدينة. لم تكن هناك تغطية لشبكة الهاتف في تلك المنطقة لذا لم أستطع الاتصال بالسائق وإخباره بما حدث.
رمقته سامية معاتبة إياه على سرعة غضبه وعدم التماس العذر للآخرين لكنه بدل أن يعتذر عن سوء ظنه بها واتهامه لها بالإهمال، تساءل وقد لاحت في عينيه نظرة تحدٍ:
- هل ستبقين معنا أم يعيدك السائق الى المدينة؟
وهل تملك خيارا غير العمل عند هذا الرجل الفضّ
الغاضب بعدما أجبِرت على ترك عملها في المستشفى؟
قالت بابتسامة هادئة لا تعكس حنقها عليه:
- عندما أطلعني عمي مختار على طبيعة عملي هنا، رغبت بالحصول على العمل فلماذا سأغير رأيي الآن؟
ابتسمت سامية وهي ترى ملامح الاستغراب التي لم
يستطع شهم إخفاءها فهذه المرأة هزمته بصبرها وعدم انسياقها وراء تأثير غضبه عليها.
قالت سهر محاوِلةً إخفاء ابتسامة انتصار فضحتها عيناها وتقوس حاجبيها أمام شهم: - فليرشدني أحد الى غرفتي لآخذ حقيبتي إليها ثم أبدأ عملي.
قالت سامية بابتسامة دافئة:
- لنعارف أولا. أنا أم شهم، جدة (سيف).
قالت سهر بتهذيب وهي تصافحها:
- تشرفت بك. وأنا سهر.
تكلم شهم وهو يتجه الى الأريكة ليجلس ويتطلع الى سهر هذه المرة: - أخبرينا قبل ذهابك، ما هي مؤهلاتك؟ لم يخبرني العم مختار عن التفاصيل.
"أخطأ من سمّاك شهم! أين أنت من الشهامة حين تحتجز امرأة بهذه الحال من بلل واتساخ ثياب كي تعاقبها بحجة طرح أسئلة مهمة عليها؟"
كتمت سهر تلك الكلمات الحانقة في نفسها وأجابت:
- عمري اثنان وأربعون سنة، أعمل ممرضة منذ ثلاث سنوات في قسم الأطفال. تخصصت في العلاج الطبيعي منذ سنة بعد دخول عدة دورات إحداها في علم النفس.
لدي كل الشهادات في حال أردت الاطلاع عليها.
رغم شكوكه تجاهها، قال وهو يضيق عينيه:
- أنا أثق برأي عمي مختار. أرجو ألا يخيب ظني.
لم تعلق على كلامه ووجهت سؤالها لسامية:
- متى سقط سيف عن الحصان؟ ومتى ستُرفع الجبيرة
عن ذراعه؟
أجابت سامية وهي ممتعضة من احتجاز ولدها لسهر وهي على تلك الحال: - سقط قبل أربعة أيام. أما الجبيرة فسيرفعها له الطبيب بعد ثلاثة أسابيع تقريبا.
دعت سهر بشفاء سيف مشفقة عليه وقلقة من بقائها مع والده المتعجرف مدّة لا تعرف أمدها أما سامية فأضافت: - لقد ساءت حالته النفسية وزاد غضبه وحدته منذ تعرض للحادث.
علق شهم ساخرا: - وكأنه كان هادئا مطيعا قبل الحادث!
قالت سهر وهي تستغرب الجفاء الذي طغى على لهجة شهم وهو يتحدث عن ولده:
- سأفعل ما بوسعي إن شاء الله لكن الأهم هو شعوره
باهتمامكما. لا يحتاج الطفل حاد الطبع شيئا أكثر من إظهار الحنان والاهتمام به من قبل عائلته.
رمقها شهم بنظرة عدم رضا وهو يقول بلهجة باردة:
- دعك منّا وقومي بعملك الذي وظفناك من أجله.
احتقن وجه سهر غضبا للحظات لكنها لم ترد كي لا
تجاري شهم الذي يبدو مصرا على استفزازها لسبب لا تعلمه أما سامية فقالت وهي تتقدم سهر لتنهي ذلك الموقف:
- سأريك غرفتك ثم نذهب لتلتقي بسيف. يجب أن تغيري ثيابك بسرعة وإلا مرضت. غرفة سيف تقع يسار غرفتك.
كان المنزل مريحًا ومنسقا بشكل يدل على ذوق راقٍ فألوان الأثاث والستائر متناسقة واللوحات الجميلة التي زينت الجدران تتلاءم مع بساطة التحف الموضوعة على الطاولات والرفوف. كانت غرفتها أيضا مريحة رغم صغر مساحتها.
شعرت سهر بالراحة بعد حمام ساخن وثياب نظيفة دافئة. تركت شعرها منسدلا بعدما جففته بسرعة ثم اتجهت الى غرفة سيف. طرقت الباب فوصلها صوت سامية: - ادخلي يا ابنتي.
لاحت على وجه الصبي الجميل ذي الثامنة ملامح عدم الارتياح، وبدت في عينيه نظرة متفحصة للمرأة التي ستعتني بصحته وأكثر متطلباته بينما ابتسمت هي واقتربت منه.
- مساء الخير. كيف حالك أيها الشجاع؟
قال بلهجة لم تخلُ من السخرية: - جالس في سريري ولا أستطيع الحركة. هل ستجعلينني أسير ثانية؟
جلست قربه على السرير وقالت بابتسامة:
- لست أنا من سيفعل ذلك..
قاطعها بانزعاج: - لماذا جئت إذن؟
كتمت سهر ابتسامتها وهي تفكر "ما أشبه الولد بأبيه!"
كتفت ذراعيها وهي تقول بابتسامة:
- قبل كل شيء، ستسير بإرادة الله. لا يحدث شيء في هذه الدنيا دون إرادته ثم..
عاد لمقاطعتها: - جدتي تقول نفس الشيء كلما سألتها لماذا كنت سببا في موت أمي.
لم تستطع سهر إخفاء دهشتها ونظرت نحو سامية التي كانت تراقب حوارهما بترقب. سألته بحذر وصوت لطيف لترى إن كان على استعداد للتحدث عن الأمر وإخبارها المزيد:
- وهل يمكن أن يكون الولد سببا في إيذاء والدته؟
قال سيف بإصرار وحزن:
- أنا كنت سببا في موت أمي.
قالت بثقة وهي تضع يدها على يده المتشنجة:
- لا بد أنك فهمت الأمر بشكل خاطئ.
سحب سيف يده من يدها وقال بلوعة وقد لمعت الدموع في عينيه: - لقد قتلتها كي آتي الى الدنيا!
وجّهت سهر نظرة استفهام سريعة نحو سامية التي ندمت لأنها لم تحدثها عن وضع سيف قبل لقائها به ثم لمعت الدموع في عينيها ولم تتمالك نفسها من ضمّ سيف بقوة وحنان وهي تقول:
- ما حدث إرادة الله وليس لك دخل فيه!
أكد سيف وهو يبعد سهر عنه:
- بل أنا من تسببت بموتها كما قال لي!
سألته بانفعال وقد فقدت هدوء أعصابها أمام شعوره
القاتل بالذنب بسبب جرم لم يرتكبه:
- من الخبيث الكاذب الذي أخبرك بهذا؟
صرخ مجيبا: - أبي. وهو ليس كاذبًا!
حدقت به سهر حين ذكر آخر اسم توقعته وكأنها غير مستوعبة لما سمعت..

نهاية الفصل الأول

تغريد& likes this.

الاء العزاوي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-09-20, 12:21 AM   #3

الاء العزاوي
 
الصورة الرمزية الاء العزاوي

? العضوٌ??? » 476431
?  التسِجيلٌ » Aug 2020
? مشَارَ?اتْي » 15
?  نُقآطِيْ » الاء العزاوي is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الثاني

سألت سهر الصغير بانفعال وقد فقدت هدوء أعصابها أمام شعوره القاتل بالذنب بسبب جرم لم يرتكبه:
- من الخبيث الكاذب الذي أخبرك بهذا؟
صرخ مجيبا: - أبي. وهو ليس كاذبًا!
حدقت به سهر حين ذكر آخر اسم توقعته وكأنها غير مستوعبة لما سمعت فنهضت سامية وقالت لسيف بابتسامة:
- ستذهب الآنسة سهر الآن وتعود فيما بعد.
ابتعد شهم مسرعا قبل خروجهما من الغرفة فقد كان يقف قرب الباب المفتوح مستمعا الى الحديث كي يقيم أداء سهر في أول لقاء لها مع ابنه المشاكس كما يسميه مع أنه هو من زرع كل صفة سيئة في ولده بسبب معاملته
القاسية.
وقفت سامية أمام باب غرفة سهر وبادرتها قبل أن تسأل أحد الأسئلة الحانقة التي أنبأت بها نظراتها:
- مهما شرحت لك فلن تفهمي قصدي. من الأفضل أن تعرفي بنفسك. سأعود بعد لحظات.
تابعتها سهر بنظرات ترقب ثم دخلت غرفتها لتنتظر عودتها.
حين دخلت سامية الغرفة بعد قليل، كانت تحمل كتابا. جلست قرب سهر التي كان قلبها يخفق حزنا على سيف وغضبا على والده الذي زرع تلك الفكرة المرعبة في رأسه، ولم تستطع منع نفسها من طرح سؤالها الغاضب على سامية:
- كيف استطاع السيد شهم قول ذلك لولده وزرع تلك
الفكرة المرعبة في رأسه؟ وكيف تسمحين له بفعل ذلك
بحفيدك حتى وإن كان ولدك؟
بدأت سامية الحديث:
- اهدئي يا ابنتي ولا تحكمي فورا على شهم.
رمقتها سهر باستغراب وهي تتساءل:
- وهل يوجد تفسير أو مبرر ليتصرف الأب مع ابنه بهذا الشكل؟ ألم تري نظرات سيف وهو يخبرني أنه قتل والدته كي يأتي الى الدنيا؟ ذلك حمل ثقيل على طفل بريء.
قالت سامية بصوت لم يؤثر الحزن الذي سكنه على هدوئه: - لا أقول إن تصرّف ولدي يمكن أن يبرر لكن
قلبي يلتمس العذر لمن شهدت معه معاناته كل دقيقة كما أن شهم قالها لسيف دون قصد، في لحظة حزن وانفعال شديدين. أصر سيف يوما على الاحتفال بعيد مولده، ذلك اليوم الذي يذكرنا برحيل أمه عن الدنيا. انفعل شهم أمام إلحاح سيف وبدئه بالصراخ مطالبًا بإقامة حفل عيد مولد له فصاح دون وعي منه "أتريد أن تحتفل باليوم الذي ماتت فيه أمك؟" حينها عرف سيف أن والدته ماتت أثناء ولادته. لقد كذبت عليه وأخبرته سابقا أنها توفيت بعد أشهر من ولادته.
فكرت سهر وهي ترمق سامية بنظرات لم تخف استغرابها "عن أي عذر تتحدث؟ وكيف تدافع عنه هكذا؟ صحيح أنه ولدها لكن سيف حفيدها أيضًا"
لمست سامية في سهر حنانا ورحمة وذلك ما يحتاجه حفيدها من شخص غريب ليستعيد حبه لنفسه ويخرج من حالة التمرد التي زرعها في نفسه إهمال والده له لذا قررت إطلاعها على القصة التي تجعل قلبها يغص بالألم كلما تذكرتها، عسى أن تتفهم سهر الأمر ولا ترفض البقاء للاعتناء بسيف.
ناولتها الكتاب الذي أحضرته معها وهي تقول:
- هذه ذكرى من ابنة أختي (نجوى) والدة سيف.
كان الكتاب قصة بعنوان (عاشق رغم عجزه).
رمقتها سهر مستفهمة فأوضحت:
- هذه القصة كتبتها نجوى رحمها الله. عنوانها يصف قلبها، وأحداثها تروي قصة حبها وشهم مع تغيير الأسماء والأماكن. أرادت توثيق تفاصيل حبها وشهم كقصة يقرأها الناس فتمنحهم الأمل وتبعد عنهم اليأس ولم تكن تعرف حينها أن الحياة لا تمنحنا السعادة الى الأبد.
خرجت سامية وأغلقت الباب خلفها لتترك سهر غارقة في دوامة من حيرة وتوجس من هذه العائلة الغريبة.
أسرعت سهر بتصفح القصة والفضول يتصاعد في نفسها لمعرفة أحداثها. لم يكن فضولا لمعرفة قصة حب كبير فذلك آخر اهتماماتها لكنها كانت تريد معرفة الرسالة التي تكمن وراء إعطاء سامية لها القصة وعلاقتها بتفسير تصرفات هذه العائلة وأهمها سرّ تصرفات شهم مع ولده.
في الصفحة الأولى من تلك الصفحات التي غيرت السنوات لونها، قرأت إهداءً:
(إليك يا من ملكت أول خفقة وأول نظرة)
قلبت الصفحة لتبدأ رحلة غريبة وتجربة تخوضها لأول مرة، أن تقرأ قصة تعرف أن أحداثها حقيقية ورأت أحد أبطالها في الواقع...
لم يكن ذلك اليوم كباقي أيامها. شعرت (لبنى/ نجوى) أن ما أحست به اليوم سوف يغير الكثير في حياتها. لا تعرف ما الذي حدث لها حين وقعت عيناها على ابن خالتها (أدهم/ شهم) في الوليمة التي أقيمت احتفالا بعودته من لندن بعد حصوله على الشهادة الجامعية وشهادة الماجستير.
ست سنوات مضت لم تره فيها لأنه بقي في لندن كي يحصل على الجنسية البريطانية ويكمل دراسته، فتلك فرصة لن تسنح له ثانية خاصة وأن باقي عائلته كانت معه خلال السنوات الثلاث الأولى لأن والده كان يعمل في مقر السفارة العراقية في لندن.
ما إن تلاقت نظراتهما حتى خفق قلبها بطريقة غريبة وسرت ترددات غير متزنة في جسدها فقد رأت في وجهه وعينيه ما أسر نظراتها التي طالت حتى انتبه لها وأبعد عينيه فعادت لوعيها وخفضت نظراتها وهي تحمد له سلامة العودة بصوت مهتز.
أما صوته الذي يملك جاذبية غريبة بسبب مسحة الحزن فيه فقد تسلل الى قلبها وجعل نبضها يتمايل مع انسياب الحروف من شفتيه حين ردّ لها التحية وسأل عن حالها.
لم تره وتشعر به يوما بتلك الطريقة. ربما لأنها كانت
صغيرة فقد سافر حين كانت في الخامسة عشر من عمرها.
بعد عدة لقاءات، بدأت تشعر بنظرات مختلفة في عينيه نحوها فرجت أن يكون ما تفكر به حقيقة لا وهما.
كان نهارا ربيعيا عذب النسمات، لذا قررت عائلة الشقيقتين تناول الغداء في حديقة منزل والدة لبنى. جلس والدا لبنى وأدهم الى طاولة الحديقة وأمامهما لعبة الشطرنج وأحدهما يتوعد الآخر بالخسارة بينما دخلت الشقيقتان لإعداد مائدة الغداء. أما أشقاء لبنى وأدهم الأصغر فكانوا يلعبون كرة القدم.
كان أدهم جالسا على كرسي قريب من الأرجوحة التي تجلس عليها لبنى حيث كانت المسافة بينهما وبين والديهما كافية لتحول دون سماعهما شيئا.
- أحبك، لبنى!
يا لها من كلمة سببت الجنون لنبضاتها والارتجاف
لأوصالها والاصفرار ثم الاحمرار لوجهها حين سمعتها بصوته العذب!
أبعدت نظراتها عنه حالما نطقها وقد هجم عليها الشعور
بالخجل في وقت غير مناسب.
عادت للنظر إليه بعينين مستفهمتين لتتأكد مما سمعت فأتاها الرد بنظرات عشق طالما حلمت برؤيتها في عينيه.
كم تمنت لو طالت تلك اللحظات دهرا!
كم تمنت سماع كلمات الحب التي ترجمتها رفّة جفنيه ونظرات عينيه وابتسامته!
همس مؤكدا بتساؤل: - ماذا فعلت لي كي أقع في
هواك بهذه السرعة والطريقة؟ أول مرة أعرف أنني يمكن أن أحب بهذه القوة. أول مره يجنّ نبضي عند النظر لامرأة.
وماذا عن نبضها؟ ألا تجعله كلماته تلك يجنّ؟ ألا يهوي قلبها بمجرد ذكر اسمه أو رؤيته من بعيد؟ كم تمنت لو أنها تملك القليل من الشجاعة كي تبوح له بتلك الكلمات!
اختنق الهواء في صدرها وأرهق قلبها بتلك النبضات القوية السريعة فلم تجد بدّا من النهوض والدخول بسرعة الى المنزل، وعلى وجهها ابتسامة كبيرة لم تفصح
عن كمّ السعادة التي شعرت بها رغم اتساعها.
أسابيع قليلة مرت، كانت الأجمل في حياة لبنى حتى
ذلك الحين. نظرات مخفية ومكالمات تارة قصيرة وأخرى طويلة ومشاعر رائعة عاشتها مع أدهم.
دخلت لبنى الصالة بقلب خافق بعدما سمعت صوت أدهم ووالديه. ألقت التحية وجلست قبالته بعدما سلمت على الجميع فشعرت بشيء غريب في ابتسامته ونظراته. حتى خالتها كانت ترمقها بشكل مختلف وتوزع نظرات المكر بينها وبين أدهم. تراه أخبرها عن حبهما!
بعد قليل، تلاقت نظراتها وأدهم فتأكد بنظرة سريعة ألا أحد يراه فوضع إصبعه الأيسر على بنصره الأيمن حيث يوضع خاتم الخطوبة وفي عينيه نظرة حب وفرح.
اضطربت وبلعت ريقها بصعوبة وقد راحت الخفقات القوية تتواتر في قلبها بسرعة.
نهضت من فورها وخرجت من الصالة مخفية ابتسامتها بصعوبة ثم وقفت خلف الباب وهي مغتاظة من عدم إخبار أدهم لها بمجيئه ووالديه لطلبها. أذلك أمر يخفى حتى لو كان يقصد مفاجأتها؟
ابتسمت بسرور وانتظرت سماع زوج خالتها وهو يطلبها
من والدها. كانت الابتسامة تملأ وجهها ودموع الفرح في عينيها وهي تنتظر ردّ والدها لكن تلك الابتسامة تبخرت ودموع الفرح جفت في عينيها وهي تسمع والدها يقول بلهجة حازمة:
- أدهم ولدي كما هو ولدك لكن أرجو أن تنسوا أمر زواجه من لبنى.
سأله والد أدهم مستغرب كما ولده وزوجته:
- لماذا؟ هل في أدهم ما يعيبه حتى ترفضه زوجًا لابنتك؟
نفى والدها سريعا: - كلا! أدهم أفضل من يمكن أن أفكر بائتمانه على لبنى لو أردت تزويجها. أرجوكم، لا تسألوني عن السبب. كل ما أستطيع قوله لكم أن سبب رفضي ليس متعلقا بأدهم.
سأل أدهم أخيرا بصوت وشى بخيبة أمله ودهشته:
- لماذا إذن يا عمي؟
لم يجب فقالت والدة أدهم بإصرار: - لن أتقبل رفضك
دون معرفة السبب ثم ماذا تعني بقولك لو أردت تزويجها؟ أتقصد أنك لا تريد تزويجها لأي أحد؟ كيف ولماذا تحرمها هذا الحق؟
أيدها والد أدهم حين قال: - تعلقك الشديد بلبنى وحبك لها لا يعطيك الحق بحرمانها من الزواج وعيش حياتها. إنك تقترف إثما كبيرا!
لم ينبس والد لبنى ببنت شفة فعادت والدة أدهم للومه فنهضت والدة لبنى لتقول بانفعال مدافعة عن زوجها الذي أبى الكلام كي لا يخوض في الأمر الذي يؤلم قلبه:
- كفوا عن لومه! هل يمكن أن يفكر بحرمان ابنته من عيش حياة مستقلة مع زوج وأولاد؟ أو حرمان نفسه من عيش تلك الفرحة التي يحلم بها أي أب وأم؟
تساءلت نظرات أدهم ووالديه فأكملت رغم اعتراض والد لبنى: - لا يمكن للبنى أن تتزوج. أنسيتم أنها تعاني عجزًا
في القلب؟
أجاب أدهم متفائلا وهو يظن أنه خوف طبيعي من
والدها عليها: - لم ننسَ يا خالتي لكن حالتها ليست بهذا السوء. أليس كذلك؟
قطبت لبنى جبينها وهي تفكر بحنق "هل يحاول والداي تهويل أمر مرضي ليقنعا أدهم وخالتي بعدم إمكانية زواجي؟ في كل مرة أزور الطبيب يخبرني أنني بخير حتى أنني لا أعاني التعب إلا عند انفعالي بشكل كبير، في فرح أو غضب".
هزت والدتها رأسها نفيا والدموع في عينيها لتقول بحرقة:
- منذ سنة تقريبا، أكد لنا الطبيب أن حالتها ساءت. ومن خلال الفحوصات التي أجراها لها ومتابعة حالتها، أكد أنها إن تزوجت فلن تستطيع تحمل الإنجاب. لن تكون
أما يوما. أعرفتم الآن لماذا يرفض والدها تزويجها؟
تباينت مشاعر أدهم بين صدمة من الحقيقة التي عرف
وحزن على حال حبيبته.
قال والدها محذرا: - لا تعرف لبنى شيئًا عن الأمر. وأرجو أن يبقى بيننا ولا تخبروها أي شيء.
حينها لم تتحمل لبنى أكثر فدخلت الى الصالة وقالت
ليلتفت نحوها الجميع:
- هل تريد أن أجهل حالتي لباقي عمري يا أبي؟ لماذا أخفيتم عني الأمر؟ هل تخافون موتي حزنا مما عرفت لأن هذا القلب الضعيف العاجز لن يتحمل سماعي خبرا كهذا؟
أسرعت والدتها وخالتها نحوها كي تعانقاها ووالدتها تقول بلوعة: - حماك الله! لا تقولي هذا يا حبيبتي.
- كم آلمه قلبه وهو يراها بتلك الحالة وأثر الصدمة
والحزن على وجهها! وكم تمنى الإسراع نحوها وأخذها بين ذراعيه.
تلاقت نظراته بنظراتها فالتفت نحو والدها وقال بإصرار:
- ذلك ليس سببا يمنع زواجنا. ما دامت حالتها تسمح بزواجها فالإنجاب لا يهمني.
رمقته لبنى بجفنين مضطربين بينما ظهرت ابتسامة ساخرة مريرة على وجه والدها حين قال:
- انظر الى وجه والديك أولا قبل أن تندفع وتقرر ما لن يرضيهما.
أراد والد أدهم التبرير والحرج بادٍ على وجهه فرفع والد لبنى يده مقاطعا إياه وهو يقول:
- لا ألومكما أو أعاتبكما. من حقكما كأي أب وأم أن تفرحا بأحفادكما من ولدكما البكر لذا رفضت الخطوبة من البداية. لستما وأدهم مضطرين للتضحية بأمر مهم
كهذا.
صمت والداه لكنه قال بإصرار:
- حياتي ملكي يا عمي، مع جلّ احترامي لوالديّ. أنا متمسك بلبنى وأريد الزواج بها.
نزلت دموعها بألم وحرقة وهي ترى تمسكه بها لكن والدها قال بحزم وهو يتجه نحوها لينهي الجدل وهو يرى عدم الرضا في عيني والدي أدهم عما يقوله:
- أرجوك يا ولدي، كفى كلاما في الأمر!
ثم عانق لبنى فبكت بين ذراعيه وبدأت تشعر بألم حاد في قلبها وصعوبة في التنفس فأجلسها على الأريكة وراح يفرك يديها بينما أسرعت والدتها بإحضار دوائها.
أسرع أدهم ووالداه نحوها والخوف في عيونهم وقال أدهم بصوت مرتجف: - لنأخذها الى المستشفى.
هزّ والدها رأسه:
- لا حاجة لذلك. ستتحسن بعد أخذ الدواء.
لامست خالتها رأسها وقد جثت قبالتها وهي تقول:
- لا تخيفينا عليك حبيبتي! اهدئي أرجوك!
هدأت نبضاتها قليلا واستعادت أنفاسها وتيرتها بعد قليل من أخذها الدواء.
قال والد أدهم بعدما اطمأنوا على لبنى:
- لنذهب الآن ثم نعود في وقت آخر.
همس أدهم بحنق: - هل نتركها الآن؟
اقتربت خالته منه حيث كان يقف قريبا من لبنى وقد أبى الجلوس وهو في تلك الحالة من الاضطراب والقلق لأنه يرى لبنى لأول مرة بتلك الحالة.
قالت وهي تربت على ذراعه:
- اذهبوا يا ولدي. لبنى بخير لكنها تحتاج الى الراحة.
بعد انصرافهم، تمددت لبنى في سريرها
وقربها والداها. والدتها تحتضن رأسها ووالدها يمسك يدها. قال وهو يمسح على شعرها:
- آسف يا حبيبتي لأننا أخفينا عنك الأمر. كنا ننوي إخبارك لكن فيما بعد.
لم تستطع معاتبتهما أو الشعور بالغضب منهما وهي التي تعرف مدى حبهما لها وخوفهما عليها خاصة بعدما أصيبت بعجز القلب قبل سنوات.
أما أدهم فكان في تلك الأثناء جالسا مع والديه، يحدثهما محاولا إقناعهما بدعمه في إقناع والدي لبنى بالموافقة على زواجه بها بدل الوقوف ضد رغبته بسبب عدم قدرتها على الإنجاب.
لم يكن إقناع والديه سهلا لكنهما رضخا أخيرا لرغبته بعد أيام من الجدال.
آخر ما قاله والده هو تحذيره من الندم الذي سيشعر به
بعد زوال عاصفة العواطف بعد سنوات قليلة من زواجه بلبنى وأكد له أنه سيندم على تضحيته بالحصول على الأبناء كما أنه رفض الذهاب معه ثانية لخطبة لبنى ما لم يوافق والدها على زواجها بأدهم كي لا يتعرض لنفس الموقف المحرج من جديد.
ذهب أدهم ثانية لخطبة نجوى وهو مصر على إقناع
والدها بالموافقة.
(لبنى تعني لي العالم بأسره. سأكتفي بها طوال عمري عن الأطفال. لن أخاطر بحياتها من أجل طفل ولن أتزوج غيرها لأنجبه، فإن لم يكن طفلي منها فلا أريده) كلمات تمنت لبنى أن تنقشها على قلبها وهي تسمع أدهم يقولها.
تدرك أنها كانت أنانية حين غمرها السرور عندما
سمعته يقولها لوالدها محاولا إقناعه بالموافقة على زواجه
بها وزادت فرحتها حين أكد ذلك على مسامع والدها
الذي قال له بحكمة رجل خبر الحياة:
- تقول هذا الآن باندفاع لكنك بعد سنوات من الزواج ستفكر في الأطفال.
أكد أدهم بإلحاح: - أرجوك افهمني وصدقني! هل يقف أمامك شابٌ طائشٌ لا يدرك ما يقول وغير مسؤول عن قراره؟ أدرك جيدا ما أريد وأدرك ما سأتخلى عنه لأجل لبنى. أكررها ثانية، إن لم تكن لبنى أم أبنائي فلا أريدهم.
كم تحبه! تعشقه وتدعو الله ليل نهار أن يجمعها به.
كلماته تلك كانت كبلسم شافٍ يخفف عنها حقيقة
حرمانها من الأطفال كلما تذكرتها ويجدد الأمل في
نفسها بموافقة والدها على زواجها بأدهم يوما.
لكن الأمل ذبل والصبر ملّ من صبر ذينك العاشقين اللذين حاولا بكل الطرق إقناع والدها بالموافقة على زواجهما دون جدوى..
توقفت سهر قليلا عن القراءة لتريح عينيها لكنها لم تطق صبرا فراحت بعد لحظات تقلب الصفحة تلو الأخرى وعيناها معلقتان بتلك الكلمات التي وصفت قصة حب وصبر ولوعة نجوى وشهم بطريقة رائعة ودقيقة تجلت فيها مشاعرهما ومعاناتهما حتى شعرت وكأنها عاشت كل لحظة معهما وراحت الخيالات ترتسم في عقلها عن كل ذكرى وموقف كتبته نجوى وكأنها تشاهد فيلما على التلفاز.
ربما لأن نجوى برعت في كتابة تلك الذكريات وربما
لأن نفس سهر ذات الطبيعة الرقيقة كانت تتوق دون إدراك منها لذلك الشعور الإنساني الراقي، العشق.
سنوات ستّ مضت بحزنها وفرحها، بلوعة الفراق فيها ولهفة اللقاء. كل ذلك ولم يغير والد لبنى موقفه ويصدق بأن أدهم لن يجازف بحياة لبنى أو يحزنها كي يكون له طفل. وبعدما كاد اليأس أن يتمكن من قلبي لبنى وأدهم، أرسل والدها في طلب أدهم ووالديه.
أيّ يوم ذاك الذي جمع أكبر ألم وسرور في حياتها؟!
حدقت لبنى بوالدها كالجميع والدهشة على وجهها حين قال: - مع أني قد أرحل عن الدنيا قريبا لكن لا تجعلني
أندم على منحك ثقتي وائتمانك على أغلى ما أملك
يا أدهم.
أشرق وجه أدهم وقبل يد والد لبنى وهو يطمئنه:
- لن يحدث ذلك، عمي، وستعيش إن شاء الله لترى بنفسك أنك سلمت غاليتك لمن يحافظ عليها بروحه.
أما لبنى فقد ترقرقت الدموع في عينيها وهي تفكر، ناظرة لوالدها "لماذا لم تمن عليّ بموافقتك إلا حين أدركت أننا شارفنا على فقدك؟ لماذا اخترت أن تكون سعادتي ناقصة؟ كيف سأعيش فرحتي بزواجي وأنا أعرف أني قد أخسرك قريبا، مع إيماني بأن الأعمار بيد الله. لِماذا لم توافق سابقا كي أحلم بدخولي قاعة عرسي متأبطة ذراعك قبل أن تسلمني لأدهم؟ كي أحلم بتقبيل يدك قبل خروجي من منزلك الى منزل زوجي؟ لماذا يا أبي الغالي؟"
كأنه قرأ أفكارها فاكتسى وجهه الشاحب بابتسامة وربت على يدها وهو يقول:
- كل شيء بأوان كتبه الله. لم أكن لأرحل عن الدنيا دون منحك السعادة التي انتظرتها كثيرا. فأنا أعرف أنك ما كنت لتتزوجيه بعد وفاتي ما دمت غير موافق.
ضمّت لبنى والدها وهي تجهش بالبكاء وماتت فرحة تلك اللحظة في قلبها أمام منظر وجهه الشاحب وعينيه الغائرتين.
الحزن الذي خيم على الجميع بسبب مرض والد لبنى،
جعل أدهم يقترح أن يتزوجا هو ولبنى في حفل عائلي بسيط لكن والدها أبى إلا أن يقام لهما حفل زفاف كبير على أكمل وجه وكما تمنى دوما لابنته.
لحظة اعتصر الألم فيها قلب لبنى وهي تسير وأدهم نحو
والدها لراقد في سريره قبل خروجهما من منزله الى قاعة الحفل في موكب الزفاف.
أمسك أدهم يدها بقوة وهو يقول:
- اهدئي كي لا تتعرضي لوعكة!
مسحت دموعها وحاولت التماسك كي لا تحزن والدها
ببكائها في هذا اليوم لكن أنى لها الهدوء وهي تراه ملقى على سريره، لا يستطيع حتى النهوض كي يسلمها لعريسها؟!
ابتسامة شاحبة بدت على وجه والدها وهو يمدّ يده نحو أدهم الذي جثا قرب سريره. همس بصوت متعب:
- ابنتي الآن أمانة عندك.
همس أدهم والدموع تتجمّع في عينيه بصوت غصّ بالشجن: - في عينيّ وفي قلبي يا عمي.
رمت لبنى رأسها على صدر أبيها وأجهشت بالبكاء..
أجهشت سهر بالبكاء هي الأخرى وهي تقرأ ذلك الموقف المؤلم الذي وصفته نجوى بكل دقة، وهي تتذكر والدها الذي حرمت من حنانه مبكرا وهي طفلة في العاشرة.
قلبت الصفحة وهمّت باستئناف القراءة لكن طرق أم رائد على الباب جعلها تنظر صوب ساعة الحائط التي
أشارت الى التاسعة ليلا لتدرك أنها منكبّة على القراءة منذ ثلاث ساعات.
دخلت أم رائد وهي تحمل صينية فيها أصنافا من الطعام وهي تقول:
- أم شهم أرسلتني إليكِ بطعام العشاء.
شعرت سهر بالامتنان لسامية التي أعفتها من تناول العشاء معها وشهم في أول يوم لها هنا وأتاحت لها الفرصة لتكمل قراءة هذه القصة التي شعرت وكأنها تشاهد أحداثها أمامها.
قالت بابتسامة بينما وضعت أم رائد الصينية على الطاولة: - سلمت يداك. انقلي شكري للسيدة أم شهم.
نهضت وهي تحاول إرخاء عضلات كتفيها وظهرها التي تشنجت بسبب جلستها الطويلة ثم جلست الى الطاولة، ممسكة القصة بيدها لتبدأ بتناول القليل من الطعام باليد الأخرى وهي تكمل القراءة.
مع كل ذلك الحزن والألم، حاولت لبنى أن تعيش الفرحة التي تمناها لها والدها وكذلك فعلت والدتها وشقيقاها.
راقبت أدهم وهو يغلق باب منزلهما الصغير ثم تقدم نحوها بمشاعر متضاربة من قلق وسعادة وحزن وشوق
وترقب تعتمل في صدرها. ضمها بشوق وهو يهمس:
- أخيرا انتهى ذلك الانتظار والصبر!
فقد السيطرة على مشاعره وأطاح الشوق بهدوئه لكنه ابتعد عنها حين بدأت أنفاسها بالاضطراب وهو يهمس بصوت مرتجف قلقا:
- آسف! نسيت أن الانفعال القوي يتعبك.
تنفست بعمق كي تهدأ بينما أجلسها على الأريكة ثم ناولها قدحا من الماء وهو يتفحص ملامحها بقلق.
ابتسمت وهي تلامس وجهه ليرف جفناه ثم يسدلا فاقتربت منه لكنه قال:
- أمامنا العمر بأكمله. يجب أن نتأنى قليلا. ارتاحي الليلة حبيبتي.
همست قرب أذنه بصوت يفيض شوقا وكأنها لم تسمع ما
قال: - فقط ناولني حبة من دوائي المهدئ، وكن صبورا
هادئا وترفق بي حتى أستطيع تحمل روعة هذه الليلة.
رمقها بعينين مندهشتين فخفضت رأسها حياءً وهمست: - هل سأنتظر كثيرًا كي تحملني أم أسير وحدي الى السرير؟
نظرات شوق جارف بدت في عينيه وهو ينهض ليحملها الى السرير، ويهمس بمكر:
- سأهدأ وأصبر وأترفق لكن ترفقي بي أنت أيضا كي لا أذوب فيك عشقا.
وذاب الاثنان عشقا وشوقا ثم غابا في نوم هانئ حتى أشرقت شمس أول أيامهما معا لتنير صفحتي وجهيهما.
فتحت لبنى عينيها لتراه يتأملها بشوق ولهفة فقال بصوته الذي يسحرها:
- لن أقول إنني أشعر وكأني في حلم، فما عشته أمس تعدى أجمل أحلامي في روعته وسحره. لأول مرة أخشى
على قلبي من التوقف فرحا.
لامس شعرها وهو يتساءل بلهفة: - أحقا نمتِ أمس على ذراعي وغفونا وأحدنا ينظر في عيني الآخر؟ أحقا بعد سنوات الشوق واللوعة والحرمان، فزت أخيرًا أمس بأروع امرأة في العالم؟ بزهرتي التي أخشى أن تجرحها قطرات الندى إن حطت عليها؟
تألقت عيناها بلمعان السعادة والانبهار بروعة كلماته
وهي تهمس له: - بل أنا التي فزت بأروع الرجال في عالمنا وكل العوالم! ما عشته معك كان أجمل واقع تصورت يوما أنني سأعيشه.
دفنت وجهها في صدره وهي تتذكر كم كان مراعيا وصبورا وقلقا، يتأمل ملامحها بعد كل لمسة شوق جارف أو عناق خشية أن يؤدي انفعالها الى تعرضها لوعكة.
أخيرا انتهت معاناة لبنى وأدهم وانتظارهما الطويل!
أخيرا هزم حبهما عجز قلبها العاشق! أخيرا تغلب الأمل على اليأس الذي كاد يسيطر عليهما!...
تساءلت سهر وهي تغلق القصة وتضعها جانبا لتتمدد
على السرير وتريح ظهرها "أيحمل ذلك الحانق كل تلك
المشاعر الجارفة والرقيقة التي تناقض بروده وعجرفته الآن؟ وكيف لا يتغير وتتجمد مشاعره بعد فقدانه الحبيبة والزوجة التي عشقها بجنون؟"
عادت لتعبس وتقطب جبينها وهي تفكر بحنق "لكنه
مخطئ بتحميل فلذة كبده والذكرى الوحيدة الباقية من حبيبته آلامه وحزنه على وفاتها"
لم تنم سهر تلك الليلة مبكرا فقد ظل عقلها يفكر بما قرأته محاولا إيجاد طريقة لمساعدة ذلك الطفل الذي حرّك في نفسها محبة وتعاطفا منذ جالسته أمس.
سيكبر الطفل مليئا بالعقد ما لم تساعده في تغيير فكرته
عن نفسه. لو أنها تتمكن من التقريب بينه وبين والده! لكن كيف والوالد يحمله مسؤولية موت أمه؟
عليها أن تعرف غدا من سامية تفاصيل حمل ووفاة
نجوى، وكيف سمح لها شهم أن تجازف بحياتها لتحمل وتنجب أم أنه كما توقع والد نجوى، تغير بعد سنوات من الزواج وتغلبت رغبته بالإنجاب على خوفه على نجوى؟
"ما أكثر الحقراء من الرجال!"
تمتمت سهر بحنق وهي تشد الغطاء على جسدها ثم أغمضت عينيها على حيرة وفضول لمعرفة ما حدث.

نهاية الفصل الثاني


الاء العزاوي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-09-20, 06:16 PM   #4

الاء العزاوي
 
الصورة الرمزية الاء العزاوي

? العضوٌ??? » 476431
?  التسِجيلٌ » Aug 2020
? مشَارَ?اتْي » 15
?  نُقآطِيْ » الاء العزاوي is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الثالث

عليها أن تعرف غدا من سامية تفاصيل حمل ووفاة نجوى، وكيف سمح لها شهم أن تجازف بحياتها لتحمل وتنجب. أم أنه كما توقع والد نجوى، تغير بعد سنوات من الزواج وتغلبت رغبته بالإنجاب على خوفه على نجوى؟
"ما أكثر الحقراء من الرجال!"
تمتمت سهر بحنق وهي تشد الغطاء على جسدها ثم أغمضت عينيها على حيرة وفضول لمعرفة ما حدث.
في الصباح الباكر، استيقظت سهر لتسرع بالاستعداد ثم اتجهت الى غرفة سيف. كانت ترغب برؤية وجهه
البريء عله يمدها بالطاقة اللازمة لتعمل على مساعدته.
كان نائما في سريره كأجمل لوحة تجسد
البراءة. لامست شعره ووجنته ففتح عينيه ببطء ليحدق بها غير مستوعب وجودها وعقله ما يزال بين اليقظة والنوم. استعاد وعيه كاملا فزفر منزعجا فقالت سهر بابتسامة وهي تساعده على رفع جذعه عن السرير:
- صباح الخير. هيا لتغير ثيابك كي تفطر.
تأفف ثم قال: - لا أفطر حالما أستيقظ.
قالت وهي تفتح خزانة ثيابه: - يجب أن تفطر..
قاطعها بامتعاض وهو يظن أنها فرد جديد أضيف الى
قائمة الأشخاص الذين يملون عليه ما يجب أن يفعل:
- أعرف ما ستقولين عن أهمية الفطور!
أخرجت أحد ثيابه ليرتديها وهي تقول مقطبة جبينها
باستغراب: - ومن قال إنني سأتحدث عن فوائد وجبة
الفطور؟
دهشة وتقطيب جبين دفعتا سهر للتبسُّم وهي تقول:
- كنت سأقول إنه من الرائع أن تفطر في الحديقة في هذا الجو والوقت من الصباح، والأروع هو تناوله مع جدتك ووالدك.
قطب جبينه وهو يقول بحسرة استشفتها سهر من صوته: - لا يتناول أبي الفطور. إنه يشرب الشاي وحده في شرفته.
جلست قربه على السرير وهي تسأله:
- ولِمَ لا تطلب منه أن يفطر معك؟
عبس وهو يجيب: - طلبت فلم يوافق. أبي ينزعج مني ولا يحب البقاء معي لأني مشاغب.
هزّت سهر رأسها نفيا وهي تقول لتصحيح مفهومه الذي
لا تظن أنه خاطئ كثيرا:
- لا يوجد أبٌ ينزعج من البقاء مع أولاده.
أراد المجادلة وإثبات صحة قوله فقاطعته بكلمات مراوغة صرفت ذهنه عما أراد: - لو كان لي أب وأقارب لما تركت متعة الجلوس معهم الى المائدة!
سألها وقد تغيرت نظراته غير المبالية الى أخرى مترقبة ومتوجسة: - أين والدك؟ هل..
ترك سؤاله معلقا ولم يكن قادرا على قول تلك الكلمة التي ارتبطت بقدومه الى الحياة فقالت سهر بحزن:
- منذ صغري، حتى أني لا أتذكر الكثير من ذكرياتي معه.
سألها وقد اكتست ملامحه بالحزن والتعاطف: - وأمك؟
لمعت الدموع في عينيها وهي تجيب بصوت مهتزّ:
- ماتت أيضا، منذ عدة سنوات.
سقطت دمعة منها فأمسك سيف كفّها بقوة
ليواسيها فضمته بقوة.
شبك ذراعيه حولها وهو يشعر بالودّ نحوها. لم يشعر بهذا الحنان والصدق في احتضان أي غريب له بل حتى
والده لم يضمه بقوة وحنان هكذا سوى مرة أو اثنتين. أما باقي المرات فكان عناقه باردا قصيرا.
"لا بد أن هذه الممرضة طيبة حتى تحتضنني بهذه الطريقة مع أنها لم ترني إلا أمس كما أنها لطيفة وبلا أم مثلي"
فكّر سيف ثم ابتعد عن سهر فقالت وهي تمسح دموعها: - سنخرج لتناول الفطور مع جدتك ثم نقوم بالعلاج الطبيعي وسط تلك الخضرة الرائعة.
سألها بابتسامة: - هل تحبين المزرعة؟
- ومن لا يحب اللون الساحر والرائحة
العطرة للأشجار والزهور؟
عاد لسؤالها وفي عينيه نظرة ترقب وعلى وجهه الوسيم ابتسامة صافية: - ماذا عن الخيول؟
ردّت بحماس وملامحها تترجم ما تقول:
- بالتأكيد أحبها لكنني أتوق أكثر لمقابلة ذلك الحصان المشاغب الذي أوقعك كي أوبّخه.
أطلق سيف ضحكته أثناء دخول سامية فعلت وجهها ابتسامة ونظرتها استغراب. قالت بسرور:
- صباح الخير. ظننت أن سيف ما يزال نائما فجئت أوقظه. كيف أقنعته بالنهوض باكرا؟
تبادلت سهر مع سيف نظرة مكر وقالت: - لنقل إننا تفاهمنا بسرعة. هيا سيف، غيّر ثيابك وسأنتظرك في الحديقة.
خرجت سهر والابتسامة على وجهها
لسرعة تغيير سيف نظرته نحوها لكن تلك الابتسامة هربت ليحل محلها عبوس وتقطيب جبين خفيف لم تفوتا من تسبب لها بهما.
كانت تنظر لشهم وأحداث حياته مع نجوى تدور في رأسها وسؤال ملح يتردد في عقلها "لماذا سمح لنجوى أن تجازف بحياتها بالحمل ما دام عشقها لذلك الحد؟"
نظرة سريعة رمقها بها شهم وهو يتساءل في نفسه عن سبب عبوسها الغريب في وجهه.
"تراها انزعجت من ولدي المشاغب وقررت الرحيل؟ إنها مثل جميع العاملين في المجال الطبي ولا فرق فيها عنهم لذا لن تتحمل الاعتناء بطفل مشاغب مثل سيف"
لهجة باردة خاطبها بها وهو يسألها ليتأكد من شكه دون
حتى أن يلقي تحية الصباح ودون أن ينظر
إليها مباشرة: - متى ستبدئين تمارين العلاج الطبيعي مع سيف؟
أجابت بابتسامة وهي تتوقع استغرابه:
- حالما يكمل فطوره معنا في الحديقة.
رمقها مستغربا عدم اعتراض ولده على غير العادة حين يطلب أحد منه تناول الفطور في وقت مبكر فبدت في عينيها نظرة انتصار كالتي أزعجته بها أمس حين نجحت في تمالك نفسها أمام استفزازه لها.
كان شهم يرتشف الشاي في شرفة غرفته المطلة على الحديقة ويراقب سيف باستغراب وهو يتناول الطعام ويتحدث الى جدته وسهر.
"كان متحفظا أمس في حديثه معها فلماذا تغير اليوم؟"
ابتسامة حانية بدت على وجهه وهو
يسمع صوت ضحكة سيف العالية من بعيد. كم تمنى لو أسرع نحوه وضمه بين ذراعيه كأي أب لكنه لا يستطيع! كلما ضمّ سيف قفزت الى مخيّلته صورة نجوى وهي ملقاة على سرير الولادة جثّة هامدة بعدما أنجبته.
تنهد بحرقة وهو يحوّل نظره الى خاتم زواجه الذي لم يخلعه بعد وفاة نجوى.
🚫 🚫 🚫
بدأت سهر تمرّن كاحل سيف فتأوه وهتف بجزع:
- لا أريد العلاج الطبيعي! إنه يؤلم.
لامست وجهه وهي تقول بابتسامة:
- لا يمكن أن تحقق شيئا دون أن تتعب لأجله. ألا
تريد المشي قريبا؟ بالتأكيد تريد. يجب أن تتحمل قليلا
إذن! لن نكرر التمرين كثيرا.
سألها مشككا وهو يرفع وجهه الصغير نحوها:
- هل يساعدني على الشفاء؟
عبست مازحة وهي تكتف يديها وسألته:
- لماذا إذن جئت من بغداد الى هنا؟ أليس من أجل أن أعالجك بهذه التمارين؟ أم جئت كي ألعب؟
ارتفع حاجباها بمكر واتسعت عيناها بنظرة مشاغبة وهي
تضيف: - مع أني لا أمانع أبدا في اللعب معك!
ابتسم فجثت قربه وبدأت التمرين ببطء قدر استطاعتها كي لا يتألم كثيرا.
راقبتهما سامية بابتسامة وهي تشعر أنها لم تخطئ في الحكم على سهر. ستنجح هذه المرأة الحنونة في مساعدة حفيدها على شفاء روحه وجسده. حتى هو شعر بطاقة الحنان
والمحبة لديها فانسجم معها بسرعة غريبة.
جاءت أم رائد لرفع صحون الفطور فطلبت سامية منها أن تأخذ سيف الى غرفته ليرتاح قليلا وما أن ابتعدت أم رائد حتى قالت سهر بلهفة:
- يجب أن نتكلم فهناك كثير من الأسئلة ترهق رأسي!
أومأت سامية وهي تقول: - تريدين معرفة ما لم تروِه القصة من حياة نجوى وشهم، حملها وولادتها.
أومأت وهي تجيب: - نعم! لا أفهم كيف سمح لها أن تنجب وهو يحبها بهذا القدر. صحيح أن الأعمار بيد الله لكن الله أيضا أمرنا بأن لا نلقي بأنفسنا الى التهلكة.
وضّحت سامية بعد تنهد حار وصف حزنها:
- الأعمار بيد الله! ذلك ما قالته نجوى لشهم حين أقام
الدنيا بعدما عرف بحملها. كانت حاملاً في الشهر الثاني
حين اكتشفنا الأمر. لم ترد أخبار أحد كي
لا نجبرها على الإجهاض خوفا على حياتها.
سألتها سهر: - متى حدث ذلك؟
- بعد سبع سنوات من زواجهما مع أنها كانت تحتاط جيدًا كي تمنع الحمل. لم تفلح كل محاولاتنا لإقناعها بالإجهاض حفاظا على حياتها. حتى الفتوى التي سمعتها بأذنها من أحد علماء الدين بجواز الإجهاض في حالتها لحفظ حياتها لم تقنعها بالإجهاض.
سألتها سهر: - ألم تلح عليها والدتها كي تجهض؟
هزت سامية رأسها نفيا وهي تجيب:
- لقد ألجمت أفواهنا حين قالت "الله سبحانه رزقنا هذا الجنين رغم حرصنا على منع الحمل فهل نرد رزقه؟ لقد كتب الله موعد أجلي على جبيني وأنا جنين في رحم
أمي. إن نجوت بعد الولادة فذلك فضل
كبير من الله عليّ وإن لم أنجُ فذلك الوقت الذي سأموت فيه سواء كنت في المخاض أم لا".
ربتت سهر على كفّ سامية وعيناها دامعتان فمسحت سامية دموعها وأكملت:
- لم نعرف ماذا نقول لها وهي تتحدث بذلك اليقين بالله لذا احترمنا قرارها ورحنا نبتهل الى الله أن يحفظها ويسعدها بطفلها.
تمتمت سهر متسائلة: - وأبو سيف، ماذا فعل؟
غصّ صوت سامية بالحزن وهي تقول:
- لم يتقبل قرارها لكنه لم يستطع إجبارها على الإجهاض فصار كالمجنون. غاضب طوال الوقت ومهمل لعمله ولكل شيء. ظل مجاورا لنجوى في المنزل كي يبقى
قربها أطول فترة ممكنة قبل رحيلها فقد
كان موقنا بوفاتها أثناء الولادة لذا تأثر أكثر منا جميعا خلال تلك الأشهر. كثيرا ما كانت نجوى تصحو ليلا فتجده ساهرا يحدق بها والدموع في عينيه. نحل جسده وشحب وجهه بسبب ذلك الحداد المبكر الذي عاشه.
صمتت لحظات ثم أضافت:
- حتى تلك اللحظة التي جعلت نجوى تطير فرحا عندما تحرك سيف في بطنها لأول مرة، لم يسر بها فبينما أخذت كفه ووضعته على بطنها كي يشعر بحركة سيف والسرور يشع من عينيها، وضع هو كفه الآخر على خدها وهو يقول بصوت تشوبه غصّة البكاء وعينان دامعتان "سيقتلك هذا الذي تفرحين به الآن. سيفرقنا" ثم راح يجهش بالبكاء ورأسه ملقى على صدرها. نهضت
وأبعدته وقلبي يتألم فضمني وبكى بحرقة.
غصّة حزن سرت في صدر سهر وهي تفكر بِكمّ الحب والمشاعر التي حملها شهم في قلبه لنجوى. أيعقل أن يحب الرجل هكذا؟
أكملت سامية وقد أرهقت الذكرى صوتها وملامح وجهها: - يوم ولادة نجوى كان كالمجنون، يركض يمينا ويسارا وهو يبحث عن طبيب كي يساعدها. وحين بدأت
الطبيبة بمساعدتها أخيرا بعدما تأخرت في المجيء مما زاد حالة نجوى سوءا، راح يذرع ممر المستشفى وهو يدعو تارة ويبكي أخرى حتى خرجت الطبيبة لتخبرنا أن نجوى أنجبت صبيا لكنها لم تستطع النجاة.
لحظات ساد خلالها صوت بكاء سامية الخفيض وتفكير سهر "لهذا هو حانق على الكادر الطبي"
استأنفت سامية الحديث:
- راح يصرخ ويضرب الجدار بيديه حتى أدماهما فأسرع شقيقا نجوى نحوه لمنعه فدفعهم بينما كنت أهتم بوالدة
نجوى التي جلست متهاوية على الكرسي وقد ارتفع ضغط دمها. أسرع بدخول الغرفة ورمى رأسه على
صدرها وهو يجهش بالبكاء حتى أبعدتُه بالقوة عنها وضممتُه ليزداد نحيبه.
نهضت سهر واستأذنت وهي تمسح دموعها فتساءلت سامية بصوت يتخلّله البكاء:
- أعرفت لماذا أعذره فيما يفعل رغم خطئه؟
أسرعت سهر بالدخول الى المنزل لكن خطاها المسرعة
توقفت وسط الصالة حين رأت شهم خارجًا من غرفته.
قطب جبينه استغرابا من احمرار عينيها الذي أخبره ببكائها
بينما رمقته بنظرة تعاطف وحزن وذقنها
يرتجف من أثر البكاء قبل أن تسرع بدخول غرفتها.
🚫 🚫 🚫
خرجت سهر من غرفتها ظهرا الى الصالة واتجهت نحو الركن الذي وضعت فيه طاولة الطعام. كان شهم جالسا الى الطاولة، شارد النظرات والذهن حتى سمع وقع خطواتها فرفع رأسه نحوها ثم عاد ليخفضه.
سألها حين جلست: - كيف كان التمرين؟
سألته بحذر: - لِمَ لا تسأل سيف؟
قال بانزعاج لم تغفل عنه: - سألتك كونك الممرضة المعالجة.
نظرت إليه مباشرة بينما كان يتجنب النظر إليها وهي تقول: - وما المانع إن سألت سيف عما شعر به أثناء التمرين؟ علمًا أنك لست في حاجة لسؤاله فقد كنت
تراقبه أثناء التمرين وعرفت أنه تألم.
وجّه لها نظرات حادة لم تهزّ ثبات نظراتها وهو يقول:
- طرحت عليك سؤالا فأجيبي عنه بدل أن تمطريني بأسئلة لا يجب عليك طرحها.
قالت بصوت خافت وهي تلمح سيف يتقدم نحوهما بمساعدة جدته: - سأسأل عن كل ما يخص سيف ويؤثر على علاجه فهذا واجبي الذي وظفتني من أجله.
قال بصوت خافت هو الآخر وقد سمع خطوات والدته وابنه وفي عينيه نظرة تحذير:
- من الجيد أنك لم تنسي أني من وظفك!
تقدمت سامية وهي تشعر بالتوتر الذي عمّ المكان كما
علا ملامحهما. جلست وهي توجه لسهر ابتسامة بينما عيناها ترصدان تجهم وجه ولدها.
ساد الصمت بينما الجميع يتناول غداءه
حتى قطعته سهر بسؤال وجهته لسيف:
- متى تريني الحصان المشاكس الذي أوقعك؟
توترت ملامح شهم وقال سريعا ليسبق ولده الذي كاد يتحدث والحماس يعلو وجهه:
- سيف ممنوع من الاقتراب من الأحصنة.
تأفف سيف وقال: - أرجوك أبي! أنا..
قاطعه شهم بلهجة حادة كنظراته المحذرة:
- لا جدال يا سيف!
ترك سيف الملعقة ونهض عن الطاولة فأسرعت سهر
بالنهوض وأسندته بينما أمره شهم: - اجلس!
قال سيف بحنق ووجهه يعكس مدى غضبه:
- شبعت. أريد الذهاب الى غرفتي.
سألته سهر بابتسامة وهي تساعده في السير،
متجاهلة نظرات شهم الممتعضة من تدخلها:
- ما رأيك بالذهاب الى ساقية الماء؟ لم أرَها عن قرب حتى الآن.
تمتم سيف على مضض: - سآخذك إليها.
تحدثت سهر مع سيف في مواضيع كثيرة عن المدرسة وأصدقائه فيها لتصرف انتباهه عن غضبه على والده. اكتشفت أنه منطوٍ على نفسه ولا يملك أصدقاء فقررت أن تغير ذلك وتجعله أكثر انفتاحا مع أقرانه.
دخلت سهر وسيف المنزل فوجدت شهم جالسا في الصالة وعلى مقربة منه جلست سامية التي عكست نظراتها توترًا أخبر سهر أن شهم لن يترك تدخلها بينه وبين ولده دون حساب.
بعدما نام سيف عصرا وهو يسمع من سهر
بعض ذكرياتها مع زميلات الدراسة والتي أملت أن تجعله يدرك أهمية الصداقة فيتقرب من زملائه، خرجت متجهة نحو سامية وشهم.
جلست قبالته فقال والامتعاض يملأ صوته:
- لا أريد أن يتكرر ما حدث ظهرا. لا تتدخلي ثانية
حين أكلم ولدي.
قالت ببساطة استفزته: - كل ما في الأمر أني صرفت انتباه سيف كي لا يزداد غضبه.
ذكّرها وهو يقول بحنق: - لقد أخرجته فكسرتما أمري ببقائه جالسا الى المائدة!
رمقته سهر بدهشة وخرجت الكلمات منها بحنق لم ترد له الظهور في صوتها لكن طريقة تفكير شهم استفزتها:
- إنه طفل ولم يخطئ لدرجة أن تعاقبه
بإجباره على الجلوس الى المائدة.
نهرها بحزم: - لن تعلميني كيف أتصرف مع ولدي!
سألته مستغربة: - لماذا وظفتني لهذا العمل إذن؟
رمق شهم والدته بنظرة عتاب لأنها من أصرت على
توظيف ممرضة تجيد التعامل مع نفسية الأطفال لتغير سلوك سيف ثم أجاب سهر وهو يدير وجهه عنها كي لا ينفعل أكثر: - وظفتك كي تهتمي بصحته لا كي تنمي روح التمرد فيه.
تساءلت بلهجة احترام لينة علّها تخفف من غضبه وعناده: - وماذا عن صحته النفسية؟ قبل أن نهتم بقدمه وكسر ذراعه يجب أن نجبر خاطره لا أن نكسره. يجب أن نحاول فهم سبب تمرده بدل أن نعاقبه باستمرار.
أضافت حين صمت ولم يعلق:
- أما عن تدخلي فاعذرني يا أبا سيف، سأتدخل ما دامت مصلحة سيف تقتضي ذلك. إنه واجبي تجاهه
وتجاهك أولا لأنك وظفتني للاهتمام به.
قبل أن يضيف شهم شيئا آخر يعيد التوتر للموقف، قالت سامية وهي تشد على يده:
- تفضلي الآن الى غرفتك ونكمل الحديث لاحقًا.
استغلت سهر الفرصة وانسحبت الى غرفتها قبل أن
تفلت أعصابها وتحدث شهم بطريقة لا تليق به كصاحب العمل. أما شهم فجلس ممتعضا وهو يسأل والدته:
- لماذا أنهيت النقاش مستغلة عدم كسري كلمتك؟
ربتت سامية على ذراعه وهي تقول:
- لا حرمني الله من برّك يا ولدي. ألا تريد أن يبرّك
ولدك حين يكبر كما تفعل معي الآن؟
كيف سيفعل ما دام لا يلقى منك سوى الغضب؟
صمت يفكر في كلمات والدته التي أضافت:
- دع سهر تقوم بعملها وتفعل ما تراه مناسبا لسيف فهي صاحبة الاختصاص يا ولدي. كما أنها تبدي محبة وحرصا حقيقيين تجاه سيف.
سألها رافعا حاجبيه: - هل استطعتِ تقييمها بعد يوم
واحد من بدء عملها؟
أومأت سامية مبتسمة وهي تقول: - العيون لا تكذب يا ولدي وقد رأيت محبة وتعاطفا في نظراتها لسيف وهذا ما يحتاجه.
تنهد بنظراته تعكس عدم اقتناع وقال:
- سنرى في الأيام القادمة كيف ستتعامل مع سيف
حين يصل غضبه وتمرده الى أقصاه.
مرّ أسبوعان على وجود سهر في منزل شهم بسرعة لم تتوقعها ربما بسبب وجود سيف قربها فقد صار يقضي أغلب الوقت معها، أما في العلاج الطبيعي أو في مذاكرة دروسه كي لا تتراكم عليه بسبب تغيبه عن المدرسة بعد الحادث حتى وقت الاستراحة صار يفضل قضاءه معها في الحديقة أو في غرفته.
قالت سامية لشهم وهي تنظر بسرور نحو سيف وسهر بينما كانت الأخيرة تحمله كي يقطف بعض ثمار الفاكهة من الشجرة:
- تغير سيف كثيرا منذ دخول سهر حياته.
قال شهم رافعا حاجبه ونظرة مشاكسة في عينيه يحاول بها عدم الاعتراف بصحة ما قالته والدته:
- تبالغين يا أمي لأنك منحازة لها.
رفعت سامية حاجبيها اعتراضا على كلامه وسألته:
- أخبرني، منذ متى لم يغضب سيف أو يتمرد على كل شيء كما كان يفعل دوما؟ حتى الدروس صار يحبها بسبب طريقة سهر الممتعة في تدريسه.
صمت وأبعد نظراته عن سهر وسيف فسألته والدته:
- لماذا تتحامل عليها؟ لقد اثبتت الفتاة جدارة في كل ما فعلته حتى الآن.
نهض متهربا من إكمال النقاش مع والدته وهو يقول:
- قلتِها بنفسك، حتى الآن.
🚫 🚫 🚫
كان شهم يحمل كوب الشاي بيد وبالأخرى يحمل هاتفه حين تقدمت سهر نحوه حيث كان جالسا في شرفة غرفته
المطلة على الحديقة فقطب جبينه
متسائلا عن سبب مجيئها في ذلك الوقت من الصباح.
اجتازت البوابة المؤدية الى شرفته وألقت التحية فردّ دون النظر إليها كعادته معها ومع كل النساء.
- أرجو أن تتناول الفطور في الحديقة مع سيف بدل جلوسك هنا وارتشاف الشاي وحيدا.
رفع نظره نحوها مستغربا جرأتها في التدخل بشؤونه
فاستدركت موضحة:
- سيسعد سيف كثيرا. إنه يتمنى أن تشاركه الفطور ويظن أنك لا تفعل ذلك لأنك تنزعج من البقاء معه.
ألا ينزعج حقا من البقاء قرب ولده بسبب مهاجمة ذكرى ذلك الموقف البشع لعقله، لحظة موت نجوى على سرير الولادة بعدما أنجبته؟
توترت ملامحه فاستغربت سهر. أحقا ينزعج
من ولده الوحيد؟ عادت تقول محاولة إقناعه:
- لماذا ترفض؟ إنه مجرد فطور عائلي ومن المفترض أن يحدث يوميا دون الحاجة لطلب من أحد. لماذا تضع حدودا بينك وبين ولدك؟ إنه في أمس الحاجة للشعور بحبك له.
ضاق ذرعا بإلحاحها وتدخلها وذكرياته القاسية التي هاجمته دون رحمة فقال بحدة وصوت مرتفع فاجأتها:
- المفترض هو عدم تدخلك في شؤوننا. المفترض هو أن تعتني بسيف كممرضة لا أن تتصرفي وكأنك الوصية عليه. المفترض ألا تتدخلي بيني وبين ولدي وتكفي عن التصرف كمصلحة اجتماعية!
دهشتها تغلبت على غضبها بسبب هتافه الغاضب غير المبرر في وجهها، وعجزها عن الردّ دفع الدموع الى عينيها.
كيف يعاملها بدونية ووقاحة لمجرد أنها
طلبت منه تناول الفطور مع ولده للتقرب منه؟
أسرعت بالابتعاد لكنه لمح ما حاولت إخفاءه عنه كي
لا تهدر كرامتها أكثر أمامه.
جلس وهو يشعر بالضيق والحنق على نفسه. ليس من عادته التصرف بوقاحة مع الناس فكيف صاح بوجهها هكذا حتى جعلها تبكي؟
لماذا يتصرف معها دوما بحدة وحذر؟ تراه يخشى تعلق ولده الذي بدأ يزداد بها؟ أم أنه يخشى اقتحامها حياتهم بهذا الشكل وهي الغريبة عنهم رغم كفالة مختار لها؟
تقلقه وتزعجه جرأتها وثباتها الأقرب للتحدي حين تظن أنها على حق لكنه لا يملك إلا الاعتراف بأنها الوحيدة التي نجحت في تغيير سلوك ولده.
كيف استطاعت كسب مودة سيف وثقته
خلال أيام قليلة؟
خرجت سهر وهي تقود سيف وخلفهما سامية الى الحديقة حيث الشمس التي سطعت أكثر من باقي الأيام لتشيع بعض الدفء في ذلك الصباح من أوائل الربيع.
كانت تمازح سيف ببعض الكلمات حين لمحت شهم جالسا الى الطاولة. توقفت وعلت الدهشة وجهها كما حدث لسيف وسامية.
ابتسامة فرح كبيرة خطفت قلب شهم حين بدت على
وجه ولده لكنه خفض بصره بدل أن يبادله بأخرى
مماثلة. تقدم سيف محاولا بصعوبة الإسراع نحو الطاولة فانحنت سهر وحملته لترضي حماسه وتسرع معه الى الطاولة فابتسم لها شاكرا.
- ستتناول الفطور معي؟
سأل سيف والده بسرور حين وصلا حيث المائدة التي جهزتها لهم أم رائد كالعادة ولم يبق إلا أن تحضر الشاي والأطعمة الساخنة.
أجاب شهم ولده بابتسامة صغيرة فتقدمت سهر وأجلست سيف على الكرسي عن يمين شهم متجنبة النظر الى وجهه وقد طغى العبوس على ملامحها وهي تتذكر صياحه بوجهها.
جلست سامية وهي تلقي التحية وعقلها يتساءل عن سبب تغيير شهم لعادته اليومية والجلوس معهم الى مائدة الفطور.
سؤال آخر بلهجة سرور وجّهه سيف لشهم:
- هل ستفطر معنا كل يوم؟
اتجهت نظرات شهم لا إراديا صوب سهر
الجالسة قرب سيف فتلاقت بنظراتها لتتغير ملامحها الى الاستغراب.
"أحقا فعل ما أريد وجلس الى المائدة كنوع من الاعتذار الصامت المبطن بالكبر؟"

نهاية الفصل الثالث


الاء العزاوي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-09-20, 06:24 PM   #5

الاء العزاوي
 
الصورة الرمزية الاء العزاوي

? العضوٌ??? » 476431
?  التسِجيلٌ » Aug 2020
? مشَارَ?اتْي » 15
?  نُقآطِيْ » الاء العزاوي is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الرابع

سؤال آخر بلهجة سرور وجّهه سيف لشهم:
- هل ستفطر معنا كل يوم؟
اتجهت نظرات شهم لا إراديا صوب سهر الجالسة قرب سيف فتلاقت بنظراتها لتتغير ملامحها الى الاستغراب.
"أحقا فعل ما أريد وجلس الى المائدة كنوع من الاعتذار الصامت المبطن بالكبر؟"
حتى إن كان كذلك وحتى أن لم يكن اعتذاره بمستوى إساءته لها إلا أن تصرفه أرضاها قليلا كخطوة أولى فيبدو أنه من الأشخاص الذين يُثقِل كاهلهم الاعتذار والاعتراف بالخطأ!
وصول أم رائد حاملة الشاي والبيض المقلي جعل شهم
يبعد نظراته عن سهر ويقول لسيف متهربا
من إجابة سؤاله: - هيا لنأكل قبل أن يبرد الطعام.
خاب ظن سيف وسهر وسامية حين عاد شهم في اليوم التالي لعزلته الصباحية مع كوب الشاي في شرفته فعرفوا أن ذلك الفطور الجماعي لن يتكرر.
🚫 🚫 🚫
استيقظ سيف بحماس ذلك الصباح. أخيرا سيتخلص من الجبيرة الموضوعة على ذراعه! كانت سهر بانتظاره في السيارة حين خرج مع جدته من المنزل.
قام الطبيب بفحص كاحل سيف ومدح التقدم الذي لاحظه بسبب العلاج الطبيعي ثم أزال الجبيرة عن ذراع سيف وهو يسأله بابتسامة:
- من رسم لك هذا الوجه الغريب الضاحك على الجبيرة؟
نظر سيف نحو سهر وأجاب مبتسما:
- الخالة سهر. إنها لا تجيد الرسم.
ابتسم الطبيب وأتم عمله ثم أعطى بعض النصائح لسهر قبل خروجهم من العيادة.
لم تكن سهر لتضيع فرصة خروج سيف من المزرعة فاقترحت أن يمروا على إحدى محلات المثلجات.
وبعدما تناولوا المثلجات ذهبوا الى متنزه صغير للألعاب
وهناك، كانت سهر حريصة على أن يقضي سيف
وقتا ممتعا دون أن يؤذي كاحله الذي لم يُشفَ تماما حتى الآن.
حين وصلوا الى المنزل كان شهم قرب الاسطبل، يعطي السائس (نعيم) بعض التعليمات.
نظرة سيف نحو حصانه جعلت سهر تشعر بالأسف نحوه.
أمسكت يده وقادته نحو شهم فتبعتهما سامية.
لن تسمح سهر لذلك المنعزل عن ولده بالاستمرار
بالهرب.
ألقت التحية فأومأ لها شهم وسلم عليها نعيم بمودّة.
لم تستطع سهر كسب محبة سيف في وقت قصير فقط بل حازت على محبة الجميع لها إلا شهم الذي كان حذرا في التعامل معها ومتجنبا لها. قالت تخاطب سيف:
- أرِ والدك ذراعك الطليقة.
رفع سيف ذراعه بسرعة وحماس فتأوه متألما فانحنى شهم نحوه وأمسك ذراعه وهو يقول بقلق:
- لا تحركها بسرعة!
امتعضت سهر من طريقة شهم في التعبير عن خوفه
على ولده رغم سرورها بذلك الاهتمام والحرص فبدل
أن يسأله عن ألمه ويبدي له قلقه عليه،
خاطبه بلهجة حادة. كيف ستغير سلوك هذا المنطوي الخائف من التعبير عن حبه لولده والمنفعل دوما؟
صهل حصان سيف حين رآه فاقترب سيف مسرعا
وراح يمسد جسده ويحدثه فأطلق الحصان صهيلا
منخفضا وحرك رأسه وكأنه يفهم ما يقول صاحبه.
لم تدُم ابتسامة السرور التي علت وجه سهر بسبب لهجة شهم الحادة وهو يأمر سيف:
- ادخل الى المنزل، سيف! ألم أخبرك أنك ممنوع من الاقتراب من الحصان؟
تقلّص فكّا سهر انزعاجا لكنها تداركت الموقف وهي ترى الدموع تلمع في عيني سيف فأشارت إليه كي يقترب وهي تقول: - ألا تشعر بالجوع بعد كل ذلك اللعب؟ هيّا
لنتناول الغداء فأنا جائعة!
سار سيف نحوها بخطوات متعبة بينما سألها شهم وهو
مقطب الجبين: - أي لعب؟ ألم تكونوا في عيادة الطبيب؟
أجابت وهي تراقب سيف:
- ذهبنا بعدها الى المنتزه ليلعب سيف قليلا.
زاد تقطيب جبينه حدّة وقال بانزعاج:
- بالكاد يستطيع السير ورفع الجبيرة عن ذراعه للتو. كيف تأخذينه الى ألعاب قد تعرضه للسقوط؟
قالت بثقة لم ترُق له:
- أستطيع حماية سيف وأعرف كيف أجعله يستمتع دون أن يؤذي نفسه. كما أن كاحله تحسن كثيرا حتى أن الطبيب سمح له بالعودة الى المدرسة منذ الغد.
كتمت سامية ابتسامتها بينما ابتسمت سهر لسيف حين
وصل قربهم ثم سارت معه بخطوات بطيئة
تشابه خطواته.
مع انزعاج شهم من روح التحدي التي يلمسها في تعامل سهر معه، وإن لم تظهرها لكنه لن يجازف بإنهاء توظيفها. لقد نجحت في تغيير سلوك ولده خلال فترة قصيرة جدا. عرفت كيف توجه مشاعره الى أشياء مفيدة تلهيه عن المشاكسة والتذمر.
🚫 🚫 🚫
نظرت سامية لسيف معاتبة وهي تقول بينما كان يستعد للذهاب الى المدرسة:
- لو كنتُ من ستأخذك الى المدرسة لما تحمست وفرحت هكذا! كل هذا الحماس لأن سهر ستذهب معك الى المدرسة.
شعر سيف بالأحراج فتقدم نحو جدته
وضمها فربتت على ظهره وهي تقول مبتسمة:
- أمزح معك! وأنا أيضا أحب سهر مثلك ويسعدني أنها من ستذهب معك الى المدرسة.
قبّلته ثم مشطت شعره وأوصته:
- انتبه لقدمك ولا تسِر أو تقف كثيرا كي لا تتعب.
تردد وخوف سكن قلب سيف وهو يدخل مدرسته من جديد بعد غياب دام شهرا تقريبا بسبب كسر ذراعه وإصابة ساقه. سألته سهر بعدما لاحظت تباطؤ خطواته:
- ما بك؟ هل تؤلمك قدمك؟
هزّ رأسه نفيا وأمسك يدها طالبا الحماية والشعور بالأمان وهو يتذكر يومه الأول في المدرسة حين كان يقف وحيدا في أحد الممرات بينما كان أغلب زملائه يقفون
ممسكين بأيدي آبائهم أو أمهاتهم.
في ذلك اليوم رفض شهم الذهاب معه ونهره مطالبا إياه بأن يتخلى عن الاعتماد عليه أو على جدته. أما سامية فكانت يومها مريضة فلم تستطع مرافقته.
سألته سهر وهي تلمح الخوف في عينيه:
- أجبني حبيبي، ما بك؟
اعترف بصوت غير متزن وهو يشد على كفّها بأصابعه الصغيرة: - خائف من سخرية التلاميذ إن مشيت بشكل غير متزن أو سقطت متعثرا.
كانت هي الأخرى خائفة عليه من ذلك فلو سخر منه زملاؤه فسيؤثر ذلك على نفسيته ولن تستطيع إقناعه بتكوين صداقات معهم. أخفت مخاوفها وقالت بابتسامة تفاؤل:
- ستسير جيدا ولن تسقط. وإن حدث
ذلك وسخر منك بعض الأولاد، ستنظر في أعينهم بتحدٍ وتقول إنك أشجع منهم لأنك تحملت آلام قدمك وكسر ذراعك التي ربما لن يتحملوها هم. لا تدع أحدا يشعرك بأنك ضعيف. اتفقنا يا بطلي؟
ابتسم وهو يسألها: - هل أنا حقا بطل؟
أجابت وهي تجثو قربه لتنظر في عينيه:
- بالتأكيد أنت بطل! يكفي أنك لم تبك حين كنت تتألم أثناء العلاج الطبيعي. أنت أجمل بطل رأيته في حياتي!
عانقها بسرور ثم مشى معها بخطوات أكثر ثباتا وثقة وهما يتقدما نحو غرفة المديرة. رحبت المديرة بسيف وسهر التي عرفت عن نفسها ثم استدعت إحدى مشرفات المدرسة لتأخذ سيف الى صفّه.
تحدثت سهر مع المديرة مطولا لكن بحذر
عن وضع سيف في المدرسة والمنزل وانطوائه على نفسه لكنها لم تتطرق الى علاقته بوالده. أبدت المديرة تعاونا ووعدت سهر بأنها ستتحدث مع معلمي سيف كي يغيروا تعاملهم معه في الفترة القادمة بما يناسب وضعه.
قالت سهر وهي تستعد للمغادرة:
- أود مقابلة الأستاذ (منذر) معلم الرياضيات لأنها المادة الأكثر صعوبة على سيف أو لنقل إنها المادة التي لا يحب دراستها.
ابتسمت المديرة وهي تقول ببعض استغراب:
- اهتمامك بسيف يتعدى كونك ممرضة بعمل مؤقت. أنت تهتمين بدراسته ووضعه النفسي أيضا. وقد لاحظت أنه سعيد بوجودك.
وضحت سهر بابتسامة:
- دخل سيف قلبي منذ رأيته فهو حساس ومطيع جدا لكنه يحتاج من يعرف كيف يتعامل معه، إضافة لكوني أحب الأطفال كثيرا وكنت قريبة منهم طيلة السنوات الثلاث الماضية بحكم عملي في المستشفى.
نهضت المديرة وصافحت سهر متمنية لها النجاح في مهمتها مع سيف ثم نادت إحدى المشرفات لتدل سهر على غرفة المعلمين لتنتظر الأستاذ منذر حتى يحين موعد الاستراحة.
ألقت سهر التحية على المعلمة التي كانت في الغرفة وفي يدها عدة أوراق امتحان لطلابها تعمل على تصحيحها. رحبت بها المعلمة وبعدما جلست سهر قريبا منها سألتها:
- هل جئت للسؤال عن المستوى الدراسي لولدك أم
ابنتك؟
هزّت سهر رأسها نفيا والفكرة تدغدغ غريزة الأمومة فيها. كم هو رائع لو أن لها بنتًا أو ابنًا جميلا كسيف لكن أنى يحدث ذلك دون زواجها؟! وكيف لها أن تتزوج بعدما عاشته؟ كيف لها أن تتحمل فكرة لمس رجل لها وهي التي الى الآن تتوتر حين تضطرها بعض المواقف للوقوف قريبا من أي رجل؟
من الرائع أنها عملت السنوات الثلاث الماضية في قسم
الأطفال حيث أرضى غريزة الأمومة فيها الاعتناء بهم وتطبيبهم وقضاء أغلب وقتها معهم لكن إنجاب طفل يكون قطعة منها شيء آخر بالتأكيد! لقد رغبت كثيرا أن تتبنى طفلة لكن القانون لا يسمح بالتبني إلا لزوجين.
انتبهت سهر الى نظرات المعلمة التي كانت تنتظر إجابتها
وهي تستغرب شرودها وسحابة الحزن التي
علت ملامحها فقالت بابتسامة: - أنا ممرضة الطالب سيف شهم في المرحلة الثالثة. هل تعرفينه؟
أجابت المعلمة ببعض امتعاض: - ومن لا يعرف ذلك الطفل المنعزل غير المحب للمدرسة والمتمرد أحيانا؟ لقد حدثتني عنه إحدى معلماته.
قالت سهر مدافعة عن سيف وقد أزعجتها طريقة حديث المعلمة عنه:
- سيف له وضع خاص. طفل فقد والدته يوم ولادته ويعيش مع أشخاص كبار في منزل ضمن مزرعة بعيدة عن مركز المدينة، لا بد أن يكون مختلفا عن باقي الأطفال ويكون صعبًا عليه تكوين صداقات مع زملائه. وأظن ابتعاد زملاء سيف عنه هو أحد أساب عدم حبه
للمدرسة.
- كثيرا ما تساءلت عن سر تصرفاته! شكرا لأنك شرحتها.
التفتت سهر والمعلمة الى الباب حيث وقف الرجل الذي قال تلك الكلمات. تقدم نحوهما وهو يقول مرحبا بسهر:
- حضرتك إذن الخالة سهر التي تحدث عنها سيف بحماس ومحبة!
ابتسامة صغيرة بدت على شفتي سهر لتقول بعدها مستفهمة: - حضرتك أحد معلمي سيف؟
- نعم. أنا معلم الرياضيات.
قالت سهر وهما يجلسان: - كنت بانتظارك، أستاذ منذر. أريد مناقشة وضع سيف معك وما يمكن أن نفعله كي يتحسن مستواه الدراسي ويتقبل المدرسة، بما أنك الوحيد الذي يهتم به ولا يوبخه باستمرار من بين
معلميه.
قال منذر رافعا حاجبيه وعلى شفتيه ابتسامة سرور:
- لم أظن أن سيف سيحدث أحدا من منزله عني.
قالت بابتسامة وقد شعرت بالارتياح لمنذر وهي ترى تهذيبه وغضّ بصره وهو يحدثها:
- أخبرني عن تفهمك وعدم توبيخك له مع أنه ضعيف في مادة الرياضيات.
قال منذر وهو ينظر الى ساعة الحائط:
- وأنا أيضا أود سؤالك عن الكثير من الأشياء بما أنك عشت معه الفترة الماضية. ستنتهي الاستراحة قريبا للأسف وعليّ العودة الى الدرس. كيف يمكن أن نتواصل؟
كانت تلك المرة الأول التي ستتواصل فيها بشكل خاص
مع رجل بعد الحادثة والسجن لذا حارت جوابا فقال وهو
يرى تغير لونها: - يمكن أن تعودي بعد
يومين. ستكون استراحتي في الدرس الثالث.
كان الافضل لها أن تتواصل معه عن بعد فقالت:
- أفضل أن نتحدث عبر موقع التواصل.
أخرج منذر هاتفه النقال وأراها حسابه الشخصي
على موقع التواصل وهو يقول:
- جيد! وبذلك سأتمكن من إرسال بعض المقاطع المرئية لطرق مفيدة وممتعة لشرح دروس الرياضيات. ستنفعك في مراجعة الدروس مع سيف.
شكرته فاستأذن ليذهب الى الدرس.
فضّلت سهر انتظار سيف حتى ينتهي دوام المدرسة فيعودا معا الى المنزل فاتصلت بسامية لتستأذنها. رحبت سامية بالفكرة بعدما سألتها بلهفة عن سيف وحال
قدمه.
طلبت سهر من السائق أخذها الى سوق قريب من المدرسة لتقضي الوقت حتى خروج سيف من المدرسة. اشترت علبة كبيرة تضم قرطاسية جميلة للشخصية الكارتونية المفضلة لدى سيف ثم سارت في أزقة السوق.
نظرة السرور والمحبة التي خصّها سيف بها حين رآها واقفة بانتظاره قرب السيارة جعلت قلب سهر يخفق حبا لذلك الصغير ففتحت ذراعيها له فتقدم وعانقها.
حالما ركبا في المقعد الخلفي، ناولته العلبة وهي تقول:
- هدية بمناسبة عودتك الى المدرسة.
شكرها ونظراته تتساءل عن ماهية ما يختبئ تحت ذلك
الغلاف الجميل ثم أزال الغلاف ليخفت حماسه فكل ما
يتعلق بالمدرسة لا يثير اهتمامه.
رمقته بمكر وهي تخرج شيئا من حقيبة يدها وتقول:
- مع أني ضد هذه الأشياء لكن لا ضير
إن لعبت ساعة يوميا بعد أن تنهي واجباتك المدرسية.
تألقت عيناه بالفرح وهو ينظر الى قرص اللعبة في يدها ثم مدّ يده ليأخذه لكنها أبعدت يدها وهي تقول:
- قبل أن تحصل عليه، ستعطيني وعد شرف أنك ستلعب اللعبة بعد أن نكمل دراستك وألا تلعب أكثر من ساعة.
نظر سيف الى قرص اللعبة التي كان قد أخبر سهر أنه متشوق للحصول عليها منذ شهرين لكن جدته كانت ترفض كي لا تلهيه عن واجباته المدرسية التي كان يؤديها بعد عناد وتذمر.
أخيرا قال على مضض:
- أعدك أنني لن ألعب حتى أكمل واجباتي لكن عديني أنك ستلعبين معي.
قطبت جبينها وكأنها تفكر ثم قالت: - ليس كل مرة. ربما مرة أو اثنتين فأنا لا أحب الألعاب الإلكترونية.
- ماذا تحبين أن تلعبي إذن؟
- أحب لعبة الدومينو. سأعلمك إياها.
اعترض بحماس وقال: - أنا أعرفها! ألعبها وأبي مع عميّ وخاليّ حين يزورونا لكنهم لا يدعوني ألعب وحدي فألعب كفريق مع ميزو.
ابتسمت وهي تسأله: - من هو ميزو؟
أجاب بنظرة شوق: - خالي مازن.
حين دخل سيف وسهر المنزل، كان شهم وسامية في
الصالة. تقدم سيف نحو جدته بعدما ألقى
كلمة وحيدة للتحية ثم رفع قرص اللعبة وعلبة القرطاسية وهو يقول: - أهدتني إياها الخالة سهر.
سألته سامية: - مبارك! وهل شكرتها؟
حيتهما سهر وجلست وهي تقول بابتسامة:
- مهذب مثل سيف لا ينسى الشكر.
قطب شهم جبينه حين تقدم سيف نحوه وأراه الهديتين. أمسك قرص اللعبة وهو يسأل سهر بنظرات عرفت من خلالها أنه سيفسد فرحة سيف وفرحتها:
- مع علمك أنه بالكاد يحضر واجباته المدرسية، أحضرت له لعبة كهذه! لقد رفضت أمي شراءها له منذ شهرين كي لا تلهيه أكثر عن الدراسة.
ابتسمت سهر لسيف الذي علا العبوس ملامحه ثم
التفتت لشهم وقالت بابتسامة مصطنعة
كي لا يزيد توتر سيف: - وعدني سيف أنه لن يلعب إلا بعد إتمام واجباته ولمدة ساعة فقط.
ابتسامة جانبية ساخرة شقت وجه شهم مرفقة بضحكة استهزاء قصيرة خافته جعلت الحنق يغزو وجه سهر والغضب يعلو ملامح سيف الذي ابتعد مسرعا الى غرفته حين تساءل شهم ساخرا: - أعطاكِ وعدا؟
نهضت سهر وسألته بامتعاض ونظرات حنق:
- لماذا كسرت فرحته؟
أراد الكلام لكنها أسرعت خلف سيف دون أن تنتظر ردّه فاكتست ملامحه بالغضب وقال لوالدته:
- تلك الممرضة تتمادى كثيرا!
رمقته سامية بعدم رضا وهي تقول وقد طفح كيلها من
تصرفات شهم القاسية مع سيف وصمتها
عنها: - أنت من يتمادى في تجاهل ولده! لماذا أحزنته؟
اعترض شهم متسائلا:
- ألا يحق لي التدخل بما يخص دراسة ولدي؟
رفعت حاجبيها استغرابا وذكّرته:
- ما دمت لا تعرف شيئا عن دروسه ولم تكلف نفسك يوما بعناء الذهاب الى مدرسته فلا داعي لتدخلك
الآن كي توبخه. أما كنت قادرة على لوم سهر لأنها اشترت له اللعبة؟ لم أفعل لأنها صارت المسؤولة عن تدريسه وهي أدرى بطريقة التعامل الصحيحة معه كي يتحسن مستواه الدراسي.
رمقها شهم بامتعاض وهو يقول: - أرى أنك بدأت تأخذين صفّها ضدي!
تساءلت سامية معاتبة بامتعاض:
- وهل كنت ضدك يومًا رغم خطأ أسلوبك مع سيف؟ لكنني ضقت ذرعا بغضبك الكبوت وتوبيخك المستمر له. ألا ترى كيف استطاعت سهر تغييره بالتشجيع والحنوّ؟ لا يفعل الغضب شيئا سوى زيادة تمرده وعناده.
نهضت سامية هي الأخرى لتتركه في الصالة وحيدا، يفكر بكلماتها.
أما سهر فكانت في تلك الأثناء جالسة قرب سيف. ربتت على كفّه وقالت بابتسامة رغم أسفها على حزنه:
- لا تغضب من كلمات والدك فأنت السبب في قوله إياها.
رمقها مستغربا فأوضحت: - لقد أعطيته انطباعا بأنك غير قادر على رفع مستواك الدراسي فقد كنت طوال
السنوات الماضية مهملا في واجباتك وبالكاد
تحصل على درجات النجاح لذا لم يصدق والدك أنك ستفي بوعدك وتؤدي واجباتك ولن تتهرب منها كي تلعب.
رمقها بنظرة حزن وطرح عليها سؤالا عجزت عن إجابته: - لماذا صدقتني أنت إذن؟
لحظات صمت قالت بعدها لتغير الموضوع دون أن تجيب:
- إذا كنت تريد لوالدك أن يثق بك ويصدقك فيجب أن تفي بوعدك لي ولا تلعب حتى تنهي واجباتك ويجب أن تحسن مستواك الدراسي. أعرف أنك تريد لوالدك أن يكون فخورا بك ويمدحك.
هزّ سيف رأسه إيجابا فقالت: - ذلك لن يتحقق إذا لم تتغير
وتريه أنك صرت الأفضل كما يريد لك أن تكون. والدك
يريد لك الأفضل لأنك أغلى ما عنده
وولده الوحيد.
كعادتها استطاعت إقناعه، وكعادته سلّم بصحة ما تقول فابتسم ووعدها مجددا: - سأفعل ذلك!
عانقته مشجعة وهي تقول:
- أحسنت! أعرفت لماذا أسمّيك بطلي؟
لا يمكن لأحد مقاومة الحنان وإغداق المحبة، فكيف بطفل حرم حنان الأم ليجده فجأة متجسدا في امرأة تفيض حنانا ومحبة للأطفال؟ امرأة دخلت حياته كممرضة لتصبح بعدها البديل عن والدته دون شعور منهما.
🚫 🚫 🚫
أجرت سهر اتصالا مطولا مع مختار وحياة حيث سألتها حياة عن الكثير من التفاصيل كالعادة لتطمئن عليها فطمأنتها
سهر أنها بأفضل حال، مرتاحة في
التعامل مع سامية وتشعر بمحبة كبيرة نحو سيف.
سألها مختار بلهجة ماكرة: - وماذا عن شهم؟ هل استطعت التفاهم معه بعد مرور هذه الفترة؟
أطلقت ضحكة قصيرة وقالت:
- تعرف أنني أتفاهم معه بصعوبة فلماذا تسأل؟ على كل حال، لم ينفع معي طبعه الحاد ومحاولته فرض الأوامر الصارمة علي. لا تقلق عليّ، عمي.
حين أنهت المكالمة كان الوقت ملائما فكتبت رسالة لمنذر تسأله فيها إن كان متفرغا لتتحدث معه عن سيف.
بعد ساعة تلقت الرد منه باعتذار عن تأخره في الإجابة بسبب انشغاله.
ضغطت زرّ الاتصال فردّ عليها منذر وكرر اعتذاره ثم
تحدثا عن سيف مطولا حول أمور
لاحظها منذر فيما يخص علاقته برفاقه وحول عدم إقباله على الدراسة. سألته سهر بعد تردد:
- اهتمامك بسيف يعتبر غريبا مقارنة مع طريقة تعامل باقي معلميه معه.
أجاب وفي صوته مسحة حزن: - ربما لأنني أحب الأطفال كثيرا لذا أهتم بالطالب الذي أشعر بغرابة في سلوكه وأحاول إيجاد أسباب ذلك بدلا من توبيخه. لقد وجدت المدرسة للتربية لا للتعليم فقط.
قالت سهر بإعجاب:
- يسعدني أنني تعرفت الى شخص مثلك، يحب عمله ويعطيه حقه. ومن حسن حظ سيف أن له معلما مثلك.
قال بسرور: - سلمت يا آنسة. هذا واجبي فطلابي أمانة
في عنقي.
خلال أسبوعين فقط، شعر معلمو سيف بتحسن مستواه في الدروس فبدأوا بتشجيعه ما دفعه ليشارك في النشاط الصفي ويترك الخوف من أن يعطي إجابات خاطئة. ذلك زاد من ثقته بنفسه ودفعه ليخرج قليلا من حالة العزلة التي كان فيها فبدأ بالتقرب من زملاءه وهم رحبوا به كصديق بينهم.
أما منذر فكان الأكثر سرورا بين معلميه وظل على تواصل مع سهر ليطلعا بعضهما على ما يستجد بخصوص سيف.
🚫 🚫 🚫
أول بطاقة درجات شهرية يأخذها سيف من يد مرشدة صفه وقلبه يخفق قلقا لمعرفة النتيجة فسابقا ما كان النجاح
والتفوق يعني له أهمية.
نظر إلى الدرجات بعينين جاحظتين دهشة وسرورا بينما أخذت المعلمة كفّه وهي تقول: - تعال لتقف هنا.
وقف سيف أمام لوحة الصف وقبالته كل التلاميذ فقالت المعلمة:
- سيف خلال شهرين فقط، استطاع رفع درجاته من خمسين وستين الى ثمانين. صفقوا لزميلكم المثابر الذي أثبت ذكاءه وقدرته على النجاح.
علا تصفيق الطلاب ولوّح له (غيث وأمير) صديقاه
المقربان بيديهما. دمعت عينا سيف فرحا بما حققه من إنجاز لكنه تماسك كي يحبس دموعه.
سألته المعلمة بسرور: - كيف استطعت فعل ذلك سيف؟ كيف تشجعت وقررت أن تتغير وتكون من الطلاب
المجتهدين فترفع مستواك هكذا خلال
فترة قصيرة؟
أجاب ونبضه يخفق متخيلا فرحة سهر به:
- بسبب الخالة سهر، هي التي شرحت لي الدروس
بطريقة سهلة وشجعتني كي أجتهد.
سألته المعلمة بابتسامة: - أما تزال ممرضتك معك؟ ظننت أنها تركت العمل بعدما تحسنت.
سحابة خوف وحزن علت ملامحه وهو يفكر باليوم الذي ستترك سهر فيه العمل. عاد لمقعده والحزن يعلو وجهه فسأله أمير الجالس قربه: - ما بك؟ لماذا أنت عابس هكذا؟
هزّ رأسه نفيا ولم يجب وظلت فكرة فقدانه لسهر تهاجم عقله.
حين دخل سيف المنزل، اتجه الى الصالة وهو يحمل
بطاقة درجاته. لوّح بها عاليا وهو يسرع نحو
سهر وجدته حيث كانتا جالستين. فتحت جدته ذراعيها
وهي تبتسم وقد عرفت أن درجاته مرتفعة فعانقها وهو يقول:
- انظري جدتي! لقد ارتفعت درجاتي في جميع الدروس.
- مبارك يا حبيبي!
قالتها سامية وقبلته بسرور ثم أخذت البطاقة منه.
عانق هو سهر بسرور وهو يقول: - شكرا!
لم يفت سامية اهتزاز صوت سيف الذي ظنت أن سببه الفرح فقط لكن سهر شعرت أنه ليس على ما يرام حين أطال احتضانها بقوة وبدأ بكاءً صامتا لم يستطع منعه في دفء حضنها. أبعدته ورفعت وجهه نحوها متسائلة، وسألته سامية بقلق: - ما بك، حبيبي؟
هزّ رأسه نفيا ولم يجب فناولت سامية بطاقة
الدرجات لسهر كي تراها ثم نهضت لتدخل غرفة شهم.
قالت سهر بفخر وهي تضم سيف ثانية:
- أحسنت يا بطلي! هل ستخبرني ما بك؟ أعرف أنك منزعج من شيء ما.
حين دخلت سامية غرفة شهم، أخبرته عن الدرجات المرتفعة التي حصل عليها سيف. ابتسم بسرور وقال بلهجة فخر أسعدت سامية: - استطاع تحقيق الكثير في شهر واحد ورفع مستواه الدراسي.
قالت سامية بسرور:
- الفضل في ذلك بعد الله لسهر التي استطاعت تغيير الكثير فيه الى الأفضل خلال شهرين فقط.
أومأ إيجابا وقال:
- لقد نجحت بالفعل بجدارة في مهمتها.
- هيّا لتبارك لسيف. ستعده بشراء هدية له.
حين خرج شهم وسامية كان سيف جالسا قرب سهر، يمسك يدها بقوة وهو يسألها بخوف:
- هل ستتركينني قريبا لأني تحسنت؟
قطبت سهر جبينها واتجهت نظراتها نحو شهم الذي لمحته واقفا عند باب غرفته المطلة مباشرة على الصالة وقربه سامية. غزا الامتعاض نظراتها ظنّا منها أن شهم من أخبره بذلك فعادت للنظر الى سيف وسألته:
- لماذا تظن أني سأغادر قريبا؟
أجاب سيف بصوت متهدج: - ظنت معلمتي أنك غادرتِ منزلنا لأنني شفيت. هل ستتركينني حقا؟
قالت وقد ندمت على سوء ظنها بشهم:
- هل يمكن أن أتركك قبل أن ننهي
العام الدراسي معا بدرجات كاملة إن شاء الله؟
هزّ سيف رأسه معترضا وهو يقول:
- لا أريد أن تتركيني أبدا، لا نهاية العام ولا في أي وقت! أريد أن تبقي معي الى الأبد.

نهاية الفصل الرابع


الاء العزاوي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 21-09-20, 05:56 PM   #6

الاء العزاوي
 
الصورة الرمزية الاء العزاوي

? العضوٌ??? » 476431
?  التسِجيلٌ » Aug 2020
? مشَارَ?اتْي » 15
?  نُقآطِيْ » الاء العزاوي is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الخامس

قالت سهر وقد ندمت على سوء ظنها بشهم:
- هل يمكن أن أتركك قبل أن ننهي العام الدراسي معا بدرجات كاملة إن شاء الله؟
هزّ سيف رأسه معترضا وهو يقول:
- لا أريد أن تتركيني أبدا، لا نهاية العام ولا في أي وقت! أريد أن تبقي معي الى الأبد.
لم تستطع سهر أن تعده بشيء لن يتحقق فهي لا بد ستتركه يوما. تلك هي الحقيقة غابت عن ذهنها أو تناستها وهي تنجرف وراء تعلقها الشديد بهذا الطفل الذي ملك قلبها وملأ حياتها. لم تجد منقذا لها من تلك الحيرة والحزن أمام نظرات سيف المتوسلة الباحثة عن أمل في
إجابتها سوى أن تقول له بابتسامة
مضطربة: - خذ البطاقة لوالدك كي يراها!
التفت سيف نحو والده الذي تأثر لرؤية الدموع في عينيه وتفاجأ بقوة العلاقة بينه وبين سهر وشدة تعلقه بها فقال بابتسامة ليجذب اهتمامه:
- أرني درجاتك كي أفكر بالهدية التي تناسبها.
أمام اهتمام والده وابتسامته، قرر سيف الاستمتاع بهذه اللحظات وتأجيل التفكير في مغادرة سهر أو عدمها.
بعد نظرة متفحصة لدرجات سيف، قال شهم وهو
يلامس شعر ولده: - أحسنت! ماذا تريد أن أهديك؟
استغل سيف الفرصة وقال:
- أريد أن أقضي الوقت مع حصاني.
احتدت نظرات شهم فأومأت له سامية بأن يوافق فقال
على مضض:
- لن تركب على ظهره! ستبقى قربه فقط.
أومأ سيف مع أن ملامحه دلت على امتعاضه.
🚫 🚫 🚫
كانت سهر غارقة في اللعب مع سيف في ذلك المرج
الأخضر وسط أشجاره وارفة الظلال التي أضفت
نسمات منعشة على الجو الذي مال الى الحرارة قليلا
بعد انقضاء فصل الربيع.
“كأنها تعرفه منذ سنوات لا أربعة شهور فقط! تعامله بمنتهى الحنان وتعرف كيف تسيطر على انفعاله وغضبه وتقنعه بسهولة بفعل ما تريد” فكر شهم وهو يراقب انسجامهما وسعادة سيف وتغير مزاجه حين يكون قربها.
“لكن تعلقه بها لهذه الدرجة خاطئ لأنها لا بد ستغادر
يوما. هي الأخرى متعلقة به لدرجة
أنهما يبدوان كولد ووالدته”.
نفض شهم تلك الفكرة من رأسه وكفّ عن التحديق بهما. شعر بالغضب من نفسه لتلك المقارنة وقد اعتصر الألم وشعور آخر قلبه، شعور صار يداهم قلبه كلما وجد نفسه يحدق دون وعي منه بسهر من بعيد.
أنهى سيف واجباته مبكرا في الخامسة عصرا فطلب من جدته وسهر مرافقته الى الاسطبل. رفضت سامية الخروج لأنها كانت مشغولة بإجراء اتصال هاتفي فنهضت سهر معه واتجها الى الإسطبل.
أخرجت سهر حصان سيف وسارا معا وهو يمسك اللجام. توقف عن السير وسألها: - أيمكن أن أمتطيه؟
- تعرف أن والدك لا يسمح بذلك.
رجاها وفي عينيه نظرة حزن يدرك تأثيرها
الكبير عليها: - أرجوك! سأمتطيه لوقت قصير فقط.
كتفت ذراعيها متسائلة بامتعاض ونظرات حازمة:
- هل تلمّح الى أن نخفي عن والدك الأمر؟ هذا تصرف خاطئ ومرفوض.
توسل إليها: - أرجوك خالتي! ستخبرينه فيما بعد ولن يغضب. لقد اشتقت لركوب الحصان.
استسلمت وقالت رافعة إصبعها ببعض الحزم:
- لأنك حصلت على درجات مرتفعة في الاختبارات الشهرية الأخيرة سأسمح لك بركوب الحصان لوقت قصير لكن سنشرح لوالدك ما حدث حين يعود الى المنزل. لا يجب أن نخفي الأمر عنه.
أومأ سيف إيجابا ونادى السائس نعيم بحماس كي يأتي
لمساعدته في امتطاء الحصان.
لم تعلم سهر من كان منهما أشد سرورا، سيف الذي حقق رغبته بامتطاء حصانه أخيرا بعد حرمان طويل أم هي حين رأت تلك الفرحة في عينيه لحظة استوى على ظهر حصانه.
لم تظن حين دخلت هذا المنزل قبل أشهر أنها ستحب سيف وتتعلق به لهذا الحد!
قاطع افكارها وضحكات سيف صوت شهم الغاضب وهو يتجه نحوهم ويهتف وقد تشنجت ملامحه غضبا:
- ماذا تظنين نفسك فاعلة؟ هل تريدين أن يسقط ثانية عن الحصان؟ كيف تسمحين له بامتطاء الحصان؟
التفت نحو نعيم وسأله غاضبا:
- وأنت كيف سمحت له؟ ألم أخبرك أنه ممنوع من امتطاء
الحصان؟ وتركته دون حتى أن تمسك
الحصان أو اللجام!
قالت سهر بهدوء رغم عاصفة غضبه وقد شفع له خوفه على سيف: - لا دخل لنعيم بالأمر. أنا طلبت منه مساعدة سيف على مسئوليتي.
أسرع شهم بإنزال سيف بعنف عن ظهر الحصان وهو
يقول: - وأنت، هل تريد السقوط ثانية؟ ألا تجيد غير
افتعال المشاكل؟
لم تفكر سهر بعد سماعها كلمات شهم الغاضبة التي جعلت سيف يحدق به بخيبة أمل بأنها تقف أمام صاحب العمل فجذبت سيف منه. كل ما أرادته تلك اللحظة هو إبعاد سيف عن شهم قبل أن يتفوه بالمزيد من تلك الكلمات التي تزيد الفجوة بينهما وتنسف ما فعلته
للتقريب بينهما.
طلبت من نعيم أن يأخذ سيف الى داخل المنزل بينما ظل شهم يحدق بها بنظرات غاضبة وحالما ابتعدا، سألته بامتعاض غير مبالية بغضبه:
- لماذا تتصرف مع ولدك هكذا؟
تساءل بحنق وهو مقطب الجبين: - وتجرُئين على الكلام بعدما خالفتِ أمري مستغلة غيابي عن المنزل؟
قالت معترضة بانفعال لأنه اتهمها دون أن يتحقق:
- لم أستغل غيابك عن المنزل. حدث الأمر صدفة أثناء وجودك خارجًا. لقد توسل إليّ كي أسمح له بامتطاء الحصان ففعلت لكنني كنت سأخبرك. أتظن أنني أعلم سيف التحايل وإخفاء الأشياء عنك؟
قال مذكرًا إياها: - أخبرتك سابقا ألا تتدخلي بما أمليه
على ولدي!
جادلته بإصرار: - وأخبرتك سابقا أنني لن أكف عن التدخل ما دامت مصلحة سيف تقتضي ذلك.
كان صوتها مرتجفا كارتجاف جسدها انفعالا فغضب شهم وقسوته على سيف مع أن الأمر لا يستحق وثورته بوجهها واتهامها ظلما باستغلالها غيابه، كلها ذكرتها بما
عانته من المجتمع من جور وأحكام دون دليل
واتهامات باطلة.
أضافت وهي تأخذ أنفاسا متسارعة:
- هل تدرك ما تفعله كلماتك بولدك؟ لماذا تبثّ السم في كل كلمة تقولها لذلك الملاك الذي تراه شيطانا صغيرا؟ تراك تحبه حقا؟ تراك أخبرته يوما وأنت تضمه الى صدرك بقوة أنك تحبه؟ أم أنك لا تجيد سوى تذكيره كل حين
أنه حمل ثقيل عليك، وزرع الشعور
بالذنب في نفسه بسبب جرم لم يرتكبه؟
مسحت دموعها وهي ترتجف بينما كان شهم يحدق بها مستغربا انفجارها بتلك الطريقة حتى أنه لم يثر عليها مع أنها تحدثت عن موت نجوى ولو تلميحا فقد عرف أنها قصدت ما قاله لها سيف في أول يوم كونه السبب في موت أمه.
قالت سهر والحزن يسكن عينيها وقد بدأت تشعر بالوهن في جسدها: - مع كل ما تفعله به فهو يحبك! يعتبرك قدوة وسندًا له ويتمنى منك كلمة طيبة تداوي جراحه وتطمئنه وسط حالة القلق التي زرعتها في نفسه كونه ولدا سيئا ومشاكسا لا نفع منه.
أمسكت صدرها وراحت تتنفس بصعوبة فاقترب منها وهو
يحدق بها بقلق. كادت تسقط حين أغمي
عليها لولا أن شهم أسندها ثم حملها ليدخل بها مسرعا الى المنزل ووجهه يعكس حالة الذهول التي عاشها أمام انقلاب حالها فجأة.
رأتهما سامية التي كانت في طريقها الى الخروج بعدما
أخبرها سيف أن والده غضب منه ومن سهر لأنه ركب الحصان.
اقتربت مسرعة وهي تسأل شهم: - ما بها سهر؟
أجاب وهو يضع سهر على أقرب أريكة: - كانت تتحدث بانفعال ثم فقدت وعيها فجأة. هل هي مريضة؟
تذكرت سامية علبة الدواء التي رأتها أكثر من مرة قرب سرير سهر فأسرعت لتجلبها من غرفتها وهي تقول:
- سأحضر دواءها.
نادى شهم أم رائد وطلب منها جلب الماء
بينما كان يربت على وجه سهر كي تستيقظ وهو يشعر أنه السبب فيما حدث لها فلو لم تنفعل بسبب تصرفه مع سيف لما حدث لها ذلك. جلبت أم رائد الماء وهي تسأله بقلق عمّا ألمّ بسهر فنثر قطرات من الماء بخفة على وجه سهر دون أن يجيب. فتحت سهر عينيها بصعوبة فشعر شهم بالراحة أخيرا بعد ذلك القلق. لم تكن قد استوعبت ما حدث فأغلقت عينيها لحظات وأعادت فتحهما.
وصلت سامية قربهما فقالت لشهم:
- ابتعد كي أعطيها الدواء.
لاحظ شهم أخيرا أنه كان جاثيا على الأرض أمام سهر وقلبه يخفق قلقا بسرعة ويداه قرب رأسها وعيناه تحدقان بها بخوف. أسرع بالنهوض فاعتدلت سهر لتجلس
بمساعدة سامية التي قالت:
- وجدت هذا الدواء قرب سريرك. هل تريدين حبة
منه؟
أومأت وهي تراقب شهم الذي انسحب الى الخارج دون كلمة وقلبها هي الأخرى يخفق اضطرابا وخوفا بسبب اقترابه منها لذلك الحد.
لم تكن سهر الوحيدة التي استغربت تصرف شهم فقد
استغربت سامية هي الأخرى لهفته وخوفه على سهر.
حالما شعرت سهر أنها بخير، أسرعت الى غرفة سيف كي تحدثه. لا يجب أن تترك تلك الكلمات التي قالها له شهم قبل قليل أثرا سيئا في نفسه. ستوظفها كأداة تقرب بينه وبين والده بدل أن تبعده عنه.
طرقت الباب ودخلت لتجده جالسا على السرير يحاول
تمزيق غطاءه علّه يخفف بعضا من الغضب
الذي تأجّج في نفسه. ترك ما كان يفعل ورمق سهر بنظرة لم تخلُ من الخجل فقد وعدها بالهدوء وعدم الاستسلام لنوبات غضبه. وبعكس ما توقع، لم تعاتبه بل جلست قربه وعلى وجهها ابتسامة هادئة ثم راحت تروي له بعض الحوادث التي تتذكرها لوالدها حين كان يغضب منها خوفا عليها.
دموعها وهي تتذكر تلك الأيام وارتجاف صوتها لذكرى حنان والدها الذي حرمت منه منذ الصغر، جعلت سيف يصدقها ويقتنع بكلامها فيزيد حبه لوالده بدل أن يغضب منه حتى أنه قال بصوت متحشرج زادها حبا فيه وحزنا عليه وحنقا على والده:
- أعلم أن أبي يحبني ويخاف عليّ لهذا غضب حين
صعدت على ظهر الحصان. لقد خاف
عليّ من السقوط ثانية.
أما ذلك الأب الغاضب فكان يعيش حالة من ندم وألم وهو يتذكر كلمات سهر عن حب سيف له. لم يظن أن ولده يحمل له كل ذلك الحب رغم قسوته عليه. نعم، قسوته! لم يعد قادرًا على إنكار معاملته القاسية لولده بحجة الحرص عليه.
فكر معنّفًا نفسه "حزني الشديد على نجوى أعمى بصيرتي فلم أرضَ بقضاء الله بعكسها هي حين قررت التسليم لأمر الله وعدم التخلص من جنينها إيمانًا منها بأن ساعة الأجل لا تتغير. وبدل أن أنظر لولدي كامتداد لها وذكرى منها وأحاول تعويضه عن حنانها الذي لم ينعم به ولو يومًا واحدًا، حمّلته ذنب موتها فعاملته
بجفاء وقسوة. كيف استطعت التفريط
بالذكرى الوحيدة الباقية لي من حبيبتي الغالية؟ كيف استطعت أن أقسو على ولدي وأبتعد عنه هكذا؟"
🚫 🚫 🚫
تقدم سيف من شرفة غرفة والده التي تطل على الحديقة بمدخل خاص. توقف وهو يشعر بالقلق ثم التفت نحو سهر ليناشدها بنظراته عدم تركه في تلك المواجهة وحده. تقدمت وعلى وجهها ابتسامة مطمئنة ثم أكملا طريقهما ودخلا الشرفة حيث كان شهم جالسا وأمامه بعض الأوراق الخاصة بإيرادات المزرعة ومصروفاتها.
نظر نحوهما للحظة مستفهما لتعود الى ذاكرته مشاهد أمس حين تحدث مع سيف بقسوة وحين فقدت سهر وعيها بسبب شدة انفعالها.
خفض بصره كي لا يلمحا الخجل والندم
منعكسا في عينيه وتظاهر بانهماكه بالعمل ما جعل سيف يتراجع عن التقدم نحوه وقد ظن أنه غضب منه مجددا لكن سهر ربتت على كتفه مشجعة فتقدم نحو والده ليعانقه بقوة دون مقدمات.
حانت نظرة دون إرادة من شهم نحو سهر والدهشة بادية على وجهه بسبب تصرف سيف المفاجئ فقد ظن أن ولده غاضب عليه بعدما حدث.
ابتعدت سهر لتترك لهما مساحة من الحرية وأيضا كي لا ترسل لشهم نظرة حادة وقد تذكرت موقفه أمس.
همس سيف في أذن والده بصوت ساده ارتجاف خفيف:
- أحبك أبي، وأعرف أنك تحبني وتخاف علي.
غصّة ألم سرت في صدر شهم وهو يشعر بدفء ذلك الجسد
الصغير على صدره وتلك الأنفاس
المرتجفة التي دغدغت عنقه لتذيب مرارة وقسوة عدة سنوات. منذ متى وهو يتمنى أن يعانق ولده هكذا لكن هواجسه وأفكاره المريضة حالت دون فعله ذلك؟ أحاط ولده بقوة كما لم يفعل قبلاً، كما لم يضمه يوما منذ ولد فقرن مجيئه للحياة بفقدان نجوى.
ابتعد سيف حين شعر باهتزاز جسد والده. نظر إليه وسأله بقلق: - لماذا تبكِ، أبي؟
مسح شهم دموعه بسرعة ثم نظر في عيني سيف وهو يقول بشوق: - لأني أحبك. أحبك كثيرا لأنك قطعة مني ومن والدتك رحمها الله. أحبك لأنك أغلى ذكرى منها.
قال سيف بابتسامة كبيرة وهو يلف ذراعيه حول عنق
والده، سعيدا بما يسمعه ويشعر به من حب في كلمات
ونظرات والده: - وأنا أحبك كثيرًا.
عاد شهم لضم ولده بقوة وكلاهما متعطش لذلك الشعور الرائع الذي غسل قلبيهما فشعر بقلب سيف الصغير يخفق بقوة فوق صدره.
مسحت سهر دموعها وابتسمت وهي تراقبهما من بعيد. كم كان منظرهما رائعا! رفع شهم رأسه لتتلاقى نظراتهما من بعيد فابتسم لها بامتنان لأنها كانت السبب في التقريب بينه وبين ولده فهي الوحيدة التي ضربت كل أخطائه في وجهه ولم تصمت عنها وهي الوحيدة التي أجبرته على مواجهة نفسه بالحقيقة.
ذلك اليوم كان نقطة تحول كبيرة في علاقة شهم بسيف وبكل من حوله، وكأن الغضب المكبوت والحنق والحزن والبعد عن ولده جعله يتجنب العلاقات مع الآخرين
وينطوي على نفسه معتزلا العالم في
المزرعة.
موت نجوى جعله يرغب باعتزال الحياة والناس واللجوء الى عالم خاص منع الجميع من الدخول إليه. أما تلك القوية رغم هشاشتها من الداخل، المثابرة رغم يأسها وخيباتها فقد أصرت على اقتحام ذلك العالم لتفعل ما في وسعها كي تجمع سيف به.
حب سهر لسيف وتفانيها في مساعدته جعل شهم يرى حقيقة أخطائه ويقرر تغييرها، ولم يكن ذلك العناق رغم روعته هو الحدث السحري الذي قلب علاقته بولده فقد قطع خطوات كبيرة نحو التغيير منذ بدأت سهر محاولاتها للجمع بينه وبين سيف.
كل المحيطين بشهم لاحظوا تغيره وكانت سامية وسهر
وسيف هم الأسعد بذلك التغيير. إحدى
تلك التغييرات المهمة رغم بساطتها في الحالات العادية هي مواظبة شهم على تناول الفطور مع سيف صباحا فذلك التقليد الصباحي صار ينعش قلبه.
قالت سامية لشهم بعدما أنهى سيف فطوره ونهض:
- غدًا موعد اجتماع أولياء الأمور في مدرسة سيف. ستذهب، أليس كذلك؟
قال وهو يشعر بالحرج: - لكنني لا أعرف معلميه.
قالت سهر تطمئنه بحماس: - سيعرفك هو إليهم.
قال ببعض تردد: - سأرى غدًا.
أصرت سامية: - أنا وسهر لا نغني عن وجودك مع سيف.
عادت سهر لتحثه على الذهب:
- سيشعر بالفخر حين يمدحه معلموه أمامك فهو يريد أن
يثبت لك في كل مناسبة أنه تغير. من
فضلك أبا سيف!
أبعد شهم نظراته عن سهر وشيء يزعج نبضه كما يزعجه ضعف حزمه أمام طلباتها التي تخص سيف. نهض وهو يقول ليقطع حبل أفكاره ويتخلص من إلحاحها ووالدته عليه: - حسنا!
🚫🚫 🚫
طرقات أم رائد على باب غرفة سهر صباحا جعلها تسرع بلفّ الرداء حولها وفتح الباب.
- صباح الخير، السيدة أم شهم تخبرك أنها تشعر بالتعب ولن تستطيع الذهاب مع سيف والسيد شهم الى اجتماع أولياء الأمور وتطلب منك الذهاب بدلا عنها.
ابتسامة سرور قفزت الى شفتيها وقالت على عجل كي
تسرع بالاستعداد: - سأستعد حالا.
مررت ثيابها قطعة تلو الأخرى ونظراتها تعكس حيرة وحماسًا. اختارت أخيرا طقما بسيطا وأنيقا ثم تزينت ورتبت شعرها لتخرج بعدها مسرعة الى الحديقة حيث كان شهم وسيف قرب السيارة.
تلاقت نظرات شهم المترددة بنظراتها المرتبكة وخشيت أن تكون قد بالغت في زينتها أو ثيابها حين رأت منه تلك النظرات التي عاندته لتمر سريعا عليها.
قاطع سيف سيل نظراتهما حين سألها بحماس:
- هل ستأتين معنا؟
أومأت بابتسامة فأوضح له شهم: - جدتك متعبة قليلا
ولا تستطيع تحمل ضجيج الاجتماع فطلبت من سهر
الذهاب معنا بدلا عنها.
سأله سيف بقلق: - هل هي بخير؟
أومأ شهم وفي رأسه تساؤل عن ذلك التعب المفاجئ
الذي أخبرته عنه والدته فقد سَهِرا ليلة أمس معًا ولم تكن تشكو من شيء.
لم يكن سبب عدم ذهاب سامية للاجتماع سوى رغبتها بالتقريب بين ولدها وسهر وخروجهما وقضاء الوقت معًا أما التعب فكان مجرد كذبة.
كانت سهر مضطربة ومتحمسة لأنه الاجتماع الأول الذي سيحضره سيف مع والده، تلك هي الحجة التي أسكتت بها جرس إنذار عقلها الذي أدرك أن السبب هو خروجها مع شهم لأول مرة.
لم يكن هو الآخر بأقل منها اضطرابا أو حماسا وترقبا وحين
جلست على المقعد الأمامي للسيارة الى يمينه، زاد
اضطراب نبضه لذا استخدم نفس حجتها
لتبرير حاله المضطرب لعقله الحانق عليه مضيفا إليها كون سهر أول امرأة يتعامل معها عن قرب ولفترة طويلة.
انقضى الطريق الى المدرسة بحديث سيف الذي لم
ينقطع والذي دل على مدى سروره بذهاب والده الى مدرسته لأول مرة. تحدث عن معلميه وذكر لوالده اسم معلم كل مادة واسم المديرة ثم أسهب في مدح أستاذ منذر.
عقبت سهر على كلام سيف:
- أستاذ منذر كان مهتما جدًا بمساعدة سيف وتعاون معي كثيرا في الأشهر الماضية.
قال شهم وهو ينظر لسيف عبر المرآة: - يسرني إذن أن أتعرف إليه اليوم.
قال سيف بحماس: - سأعرفك إليه حالما نصل.
نظرات السرور والفخر التي رآها شهم في
عيني سيف وهو يعرف كل من يصادف من زملائه ومعلميه عليه، جعلته يشعر بالندم على تقصيره في حقه.
لم يظن أن سيف يحبه بهذا القدر ويسعى لنيل رضاه رغم القسوة التي كان يعامله بها لكن الفخر الذي شعر به سيف لم يكن ليضاهي افتخار شهم به وهو يسمع مدح معلميه لذكائه وقدرته على رفع مستواه بذلك الشكل خلال فترة قصيرة.
كان سيف يكلم صديقه فالتفت شهم نحو سهر وفي عينيه الواسعتين لين اعتادت عليه خلال الشهرين الماضيين. قال بامتنان وابتسامة أضفت على ملامحه هدوءًا:
- شكرا لكل ما فعلته لأجل سيف.
حانت منها نظرة حنان نحو سيف ثم عادت
لتنظر الى شهم فترى في عينيه إعجابا لم يستطع إخفاءه. إعجاب بحنوها واهتمامها بولده، بشخصيتها وأخلاقها، بخجل يزيدها جمالا وجاذبية.
صوت سيف وهو يجذب ذراع شهم ويخبره بحماس باقتراب منذر، أيقظه من شروده في أفكار يحاربها ضميره ووفاؤه الذي لم يفلح في إقناعهما بأن لا دخل لقلبه بإعجابه بسهر.
تقدم منذر بخطوات يقودها الحماس نحو سيف ومربيته التي غزت دنياه خلال تلك المكالمات والنقاشات التي كانت تدور حول سيف وبعض المواضيع العامة وخلال المرات القليلة التي التقاها فيها في المدرسة.
صاح سيف بحماس وهو يتقدم نحو منذر:
- هذا أبي! أتى معي اليوم الى الاجتماع.
تقدم منذر وعلى وجهه ابتسامة ومدّ يده مصافحا شهم وهو يقول: - تشرفت برؤيتك يا أبا سيف.
قال شهم بامتنان: - أنا الذي تشرفت بمعرفتك وقد كنت متشوقا للقائك بعد كلام سيف وسهر عنك.
تبادل منذر التحية مع سهر وعيناه تفصحان عن سروره برؤيتها ثم قال وهو ينظر إليها مباشرة: - لا يذكر ما فعلته أمام ما قامت به الآنسة سهر لأجل سيف.
اتشحت ملامحها وابتسامتها بالخجل بينما انطفأت ابتسامة شهم حين لاحظ نظرات منذر التي باحت بإعجابه بسهر. بعدما قدم شهم شكره لمنذر، استأذن عن نفسه ونيابة عن سهر: - عن إذنك، سنقابل باقي المعلمين.
ابتسم منذر رغم خيبة أمله لقصر اللقاء ثم قال لسهر:
- سأرسل لك نماذج عن الاسئلة والحلول
في موضوع الزوايا.
شكرته سهر بابتسامة وهي تستأذن، مستغربة تغير ملامح شهم وعودتها للحدة. سألها شهم وهما يسيران برفقة سيف نحو أحد المعلمين:
- هل.. تتواصلان كثيرا؟ أنت والأستاذ منذر؟
أجابت دون تحميل سؤاله معنى غير اهتمامه بسيف:
- كلما دعت الحاجة لذلك.
بعد انتهاء الاجتماع، سأل شهم ولده: - هل تشعر بالجوع؟ ما رأيك بتناول الغداء في أحد المطاعم؟
"كم تغير خلال الشهرين الماضيين! هل سمة التغيير السريع وراثة في العائلة؟ ما أشبه الوالد بابنه!"
فكرت سهر وهي تكتم ابتسامة ساخرة وأخرى متشوقة
وقلبها يخفق لفكرة تناولها وشهم الغداء
خارج المنزل. كان المطعم الذي ذهبوا إليه هادئ ومصمم بطريقة بسيطة رغم رقيّها.
اتصل شهم بوالدته ليخبرها أنه سيتناول غداءه مع سيف فابتسمت سامية وهي تفكر بأنها أحسنت صنعا بتلك الخطة. أوصته بأن يستمتع بوقته مع سيف ودعت له براحة البال كعادتها.
وصلت الأطباق التي طلبوها فبدأوا بتناول الطعام. قربت سهر علبة الصلصة الحمراء من سيف لأنها يحبها مع البيتزا ثم قربت علبة الفلفل الأسود من شهم.
توترت وهي تفطن لتصرفها ورمق هو رأسها المطرق
وعلى وجهه ابتسامة سرور تحدته وأبت إلا الظهور.
"أن تعرف ما يحب سيف فذلك أمر عادي بحكم أنها
تحولت من ممرضة الى مربية تقريبا لكن
ما السبب وراء معرفتها ذوقي في الطعام؟"
اختفت ابتسامته حين نهر نفسه عن التفكير في الأمر وبدأ بتناول طعامه.
لم تفطن سهر أنها تحفظ الكثير من عادات شهم إلا عند تلك اللحظة حين بدأ عقلها يعرض عليها الكثير من التفاصيل الصغيرة في تصرفاته وعاداته لتجد أنها طبعت في ذاكرتها. حسنا، ربما بحكم وجودها معه في المنزل منذ أشهر لكن لماذا لا يسري ذلك الحكم على سامية
مع أنها تقيم معها أيضا؟
تحدت أفكارها ونفتها محاولة تذكر تفاصيل عن سامية لكنها لم تفلح. لم تتذكر إلا شيئين أو ثلاث!
🚫 🚫 🚫
أنهت سهر مكالمة صوتية مع مختار وحياة وهي
تشعر بشوق نحوهما فهي لم ترهما منذ قدمت الى المزرعة.
خرجت من غرفتها واتجهت الى الصالة حيث كان الجميع جالسون. جلست لتقول بعد قليل:
- أبو سيف، أريد أخذ إجازة لأسبوع كي أسافر لرؤية عمي مختار وخالتي حياة.
ترك سيف عصا اللعب الإلكترونية من يده والتفت
نحو سهر وعلى وجهه تقطيب حزن ماثل تقطيبًا خفيفًا على وجه والده..

نهاية الفصل الخامس


الاء العزاوي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 21-09-20, 06:00 PM   #7

الاء العزاوي
 
الصورة الرمزية الاء العزاوي

? العضوٌ??? » 476431
?  التسِجيلٌ » Aug 2020
? مشَارَ?اتْي » 15
?  نُقآطِيْ » الاء العزاوي is on a distinguished road
افتراضي

الفصل السادس

خرجت من غرفتها واتجهت الى الصالة حيث كان الجميع جالسون. جلست لتقول بعد قليل:
- أبو سيف، أريد أخذ إجازة لأسبوع كي أسافر لرؤية عمي مختار وخالتي حياة.
ترك سيف عصا اللعب الإلكترونية من يده والتفت نحو سهر وعلى وجهه تقطيب حزن ماثل تقطيبا خفيفا على وجه والده لكن الأخير سيطر عليه واخفاه بسرعة.
سألها سيف: - لماذا لا يأتيا الى هنا فتريهما؟
ابتسمت وهي تجيب: - الأصغر هو الذي يذهب لرؤية الكبار. أنا أيضا لا أريد مفارقتك لكنني اشتقت لهما كثيرًا.
أومأ سيف على مضض وقال:
- حسنًا. هل ستذهبين قريبا؟
أومأت وهي تقول: - من الأفضل أن أذهب هذه الأيام قبل اقتراب اختباراتك النهائية وانشغالي معك.
قالت سامية لحفيدها بابتسامة:
- لم تأخذ الخالة سهر إجازة ليوم واحد حتى منذ بدأت العمل. من حقها أن ترتاح قليلا.
قال شهم دون أن ينظر إليها مباشرة:
- أخبريني حين تريدين السفر كي يحجز لك سالم سيارة سائق يعرفه ليوصلك حتى منزل العم مختار.
قالت ممتنة: - سلمت. لا داعي لذلك. يكفي أن يوصلني العم سالم الى مرآب السيارات.
أصر وهو يلتفت نحوها وفي قلبه ضيق:
- لا تجادلي! أخبريني متى تودين الذهاب.
اجابت بابتسامة امتنان: - بعد غد.
أومأ ونهض ليكلف السائق سالم بحجز السيارة التي ستوصل سهر الى بغداد.
دخلت سهر غرفة سيف قبل خروجها من المنزل صباحا. قبّلته ففتح عينيه فقد ظل فكره مشغولا بمغادرتها لذا استيقظ بسهولة. اعتدل وعانقها وهو يقول:
- خفت أن تذهبي قبل أن أصحو.
قبلته ثم تساءلت: - وهل يمكن أن أذهب قبل رؤيتك؟
سأعود إليك ظهر الثلاثاء إن شاء الله.
مع أن الطريق متعب وطويل لكن سهر لم تشعر بالتعب بسبب شوقها لملاقاة مختار وحياة.
كانت حياة واقفة أمام الطباخ، تعد الغداء حين فتح الباب فالتفتت وهي تسمع ذلك الصوت الحبيب:
- هل يوجد طعام كافٍ لي؟
شهقت وتجمعت الدموع في عينيها وهي تفتح ذراعيها لسهر التي سارت نحوها بخطى مسرعة ومتوترة. تبادلتا العناق وهما تبكيان ثم سألت حياة معاتبة مع أن المفاجأة كانت رائعة: - لماذا لم تخبرينا بقدومك؟
قالت سهر وهي تعانقها من جديد: - أردت مفاجأتكما.
مع أنهم كانوا يجرون معًا مكالمات مرئية باستمرار ويتبادلون الأحاديث والهموم والأخبار إلا أنهم افتقدوا بعضهم كثيرا. كم افتقدت سهر حضن حياة الدافئ وابتسامة مختار الحانية!
دخل مختار المطبخ مسرعا حين سمع صوت سهر فأسرعت نحوه، تعانقه بشوق وهي تقول:
- كم اشتقت لكما!
طالت وجبة الغداء أكثر من المعتاد فقد ظل الثلاثة
يتبادلون الأحاديث وهم يتناولون الطعام.
سألها مختار ليطمئن أكثر مع أنها كانت تخبرهما أنها بأفضل حال: - أخبريني يا ابنتي، هل الأمور تجري بخير في منزل شهم؟ هل أنت مرتاحة هناك؟ شهم طيب القلب لكن طبعه الحاد قد يضايقك.
أمسكت سهر يده وهي تقول بابتسامة حانية:
- أخبرتك سابقًا أنني بخير حال فلا تقلق. صحيح أنني تعبت في البداية من حدّة طبع شهم وتعنته في كثير من الأمور لكن الوضع اختلف بعدما نجحت في التقريب بينه وبين سيف. لقد تغير مع الجميع بعدما تقرب من ولده.
قال مختار بارتياح: - الحمد لله.
قالت حياة بنطرة حنين بعدما أنهوا شرب الشاي بعد وجبة الغداء: - ما تزال غرفتك القديمة على حالها. هيّا
لتغيري ثيابك وترتاحي قليلا من تعب
السفر فالنعاس يكاد يغلق عينيك.
ابتسمت سهر وهي تنهض متثاقلة بسبب التعب والنعاس وقالت: - أنا متعبة جدا بالفعل لكنني أريد استغلال كل ساعة أقضيها معكما.
قال مختار مازحا: - أساسا لن نسمح لك بالنوم أكثر من ساعة. سأرسل خالتك كي توقظك عنوة.
دخلت سهر الغرفة التي كانت تقطنها في منزل مختار قبل أن تستقل بسكنها. كانت أياما جميلة شعرت فيها سهر بدفء العائلة قبل أن تترك منزلهما قسرا.
الأغراض التي لم تأخذها معها الى المزرعة، وجدتها في الغرفة حيث رتبتها حياة بعد سفرها.
🚫 🚫 🚫
مرّ الأسبوع سريعا ولم يروِ شوق سهر وآل
مختار لبعضهما لكنها لم تستطع تمديد إقامتها معهما أكثر فقد اشتاقت لسيف الذي كان يكلمها يوميا ليخبرها كم يفتقدها ويسألها كم بقي على موعد عودتها.
اشتاقت أيضا لمنزل المزرعة ومن فيه وكأنه صار منزلها لا محل إقامة عمل بالنسبة لها فحسب. اشتاقت لسامية وأحاديثهما معا والعاملين في المنزل. ولتكون صادقة مع نفسها، اعترفت بأنها اشتاقت لشهم.
اشتاقت لنظرات عينيه الواسعتين الناعستين اللتين
يسكنهما اللين حين يبتسم، لحضوره الطاغي وشخصيته القوية، للحنان الذي صار يكسو صوته الجذاب وهو يكلم سيف. كم افتقدته بكل حالاته وتفاصيله!
أنزل السائق حقيبتي سهر أمام باب المنزل في المزرعة فقد
عادت بحقيبة إضافية مليئة بالهدايا وأدوات
تجميل وثياب جديدة. لا تعلم لماذا صارت في الفترة الأخيرة تهتم بزينتها وثيابها أكثر من السابق وبما أنها تعرف أسواق العاصمة أفضل، قررت شراء أشياء جديدة لها من هناك أثناء شرائها الهدايا.
حين طرقت باب المنزل، فتحه سيف الذي كان يحصي الدقائق لوصولها وعلى وجهه ابتسامة واسعة تألقت لها عيناه فرحا برجوعها. رفع ذراعيه نحوها وهو يهتف باسمها فانحنت لتعانقه بشوق وهي تقول: - كم اشتقت إليك!
قبّلها وقال: - وأنا أيضا، كثيرًا!
خفقات مضطربة اجتاحت صدر شهم وهو يسمع صوت سهر تسلم على والدته الجالسة في الصالة، وكأن خفقات الترقب التي عانى منها طوال النهار لم تكفِ!
توتر وانتظار حاول الهرب منهما بالانهماك
في العمل وتفقد كل صغيرة وكبيرة في المزرعة ثم الدخول الى الحمام والبقاء تحت المياه الدافئة طلبًا للاسترخاء علّه يهرب من اضطرابه بسبب قرب لقائها بعد ذلك الأسبوع القاسي الذي افتقدها فيه، مع أنه أنكر ذلك بادئ الأمر ثم اعترف به وعزاه الى تعوّده على وجودها يوميا معه طيلة الأشهر الماضية. كتعوّده على أم رائد وسالم ونعيم مثلا!
مشط شعره الرطب ووضع أفضل عطر لديه وأكثر منه ثم ارتدى قميصا داكنا. ألقى نظرة على نفسه في المرآة ثم خرج من غرفته المطلة على الصالة مباشرة.
نهضت سهر حال رؤيته ليزداد توترها الذي شعرت به
حين كانت تنتظره. زينت الابتسامة وجهها فبادلها بأخرى
لم يستطع منع اتساعها وهو يقول:
- حمدا لله على السلامة.
علت الخفقات في صدرها ودعت ألا ينعكس ارتجافها
على صوتها فقالت بما يشبه الهمس: - سلمت.
رفع سيف علبة المكعبات الكبيرة التي في يده وهو يقول: - انظر يا أبي! أحضرتها لي خالة سهر، هدية من بغداد.
حجّة أخرى سمحت له بالنظر إليها وهو يقول:
- سلمت يداك.
قالت سامية بابتسامة: - وأحضرت لي هذا الوشاح الجميل والعطر. كذلك أحضرت هدايا لأم رائد وسالم ونعيم.
قالت سهر بخجل: - إنها أشياء بسيطة اشتريتها على عجل. أرجو أن تعجبكم.
"أيعقل أن تهدي الجميع وتنساني؟ لم تقدم لي شيئا"
تساءل شهم وهو يسير نحو مائدة الطعام ثم
قال: - أظن أن الطعام جاهز، أمي.
قالت سامية وهي تنهض: - نعم. سأخبر أم رائد أن تسكبه حالا.
قالت سهر وهي تنظر الى الساعة: - تأخر موعد الغداء بسببي. آسفة!
قالت سامية وهي تربت على ظهرها قبل أن تتجه الى المطبخ: - لا عليك! المهم أنك وصلتِ سالمة.
سارت سهر نحو شهم وقالت حين وصلت قربه:
- تفضل. أرجو أن تعجبك.
منذ متى وهو يفرح بالهدايا حتى تجعله هديتها يسعد بذلك القدر الذي جعل ابتسامة عريضة تشق ملامحه وهو ينهض ويأخذ منها العلبة الصغيرة؟
فتحها ليجد ساعة يد أنيقة فقالت مبتسمة
بلهجة لم تخل من العتاب: - بما أنك تهتم بالوقت ودقيق في المواعيد، أحببت أن أهديها لك.
تذكر اتهامه لها بالإهمال وعدم احترام الوقت فقطب جبينه وعلى شفتيه ابتسامة جعلت جفنيها يرفان اضطرابا وشوقا.
- أبعد كل تلك الأشهر ما زلت تتذكرين؟
أطلقت ضحكة قصيرة خافتة تراقصت معها أنفاسه ثم قالت وهي تناوله علبة أخرى فيها ربطة عنق بلون مائل الى الذهبي: - أرجو أن يعجبك ذوقي.
قال وهو ينظر في عينيها اللتين أوجعه الشوق لرؤيتهما رغم إنكاره: - أنيقة جدا. سلمت يداك.
أثناء الغداء كان الاثنان يفكران في الشيء ذاته، ما
افتقده أحدهما في الآخر خلال الأسبوع الماضي.
كم مرة خُيّلَ إليه أنه سيجدها جالسة في الصالة حالما يفتح باب غرفته أو في الحديقة حين يجلس في شرفة غرفته ثم يتذكر غيابها عن المنزل!
وكم مرة شرد عقلها لحظات فتصورت أنها ستراه حال خروجها من غرفتها ثم تذكرت بعدها أنها في منزل مختار في بغداد، بعيدة عنه آلاف الأمتار!
طلب شهم علبة الفلفل من سامية فنظر نحو سهر كما نظرت نحوه ثم أشاحا نظراتهما وهما يتذكران الغداء الذي تناولاه في المطعم.
طرح سيف السؤال الذي لم يغب عن فكره منذ راوده لكنه كان يخشى سماع ردّ لا يرضيه فلم يطرحه مجددًا لكن بعد الفراغ الذي شعر به بغياب سهر، قرر أن
يتشجع ويطرحه.
- هل ستتركينني وتذهبين الى بغداد الى الأبد بعد انتهاء العام الدراسي؟
غصة سكنت قلوب الجميع وهم يتصورون لحظة الفراق.
كيف لذلك الصغير أن يفارق من منحته الشعور بحنان الأم الذي حرم منه مع أن جدته حاولت تعويضه عنه وقد نجحت حتى جاءت هي ليشعر أنها أكملت الكثير مما كان ينقصه وما لم تستطع جدته تعويضه إياه، ربما بسبب عمرها أو تحيزها أحيانا لولدها وعدم معارضته.
وكيف لمرهفة المشاعر تلك تجاه الأطفال أن تتمكن من مواصلة حياتها بعد فراقها الملاك الذي دخل قلبها منذ رأته، وعاشت معه مشاعر أمومة تمنت تجربتها منذ سنوات؟
وكيف لذلك الذي ذاب الجليد بينه
وبين ولده والعالم على يديها أن يعتاد على خروجها من حياته التي أعادته إليها بعدما نفى نفسه خارجها لسنوات؟
وكيف للأم التي أحبتها ورجت أن يعود قلب ولدها للنبض على يديها أن تتقبل ابتعادها؟
نظرة قصيرة تبادلتها عينا شهم وسهر لتعكسا التشوش والقلق بينما كان سيف ينقل نظره بينهما منتظرا إجابة تهدئ روعه وتطمئن قلبه.
- إن كانت مستعدة للبقاء في سجننا الأخضر فذلك يسعدنا.
قالها شهم بابتسامة مترددة ونظرة حملت قلقا من الردّ.
ابتسمت سامية وحدقت به سهر لحظات، مسرورة ومستغربة دعوته لتبقى في حياتهم الى أجل غير مسمى. ومع
استغرابها شعرت بغصة من قلق وشعور
بالذنب عند ذكر كلمة السجن.
لم يكن يهمها حين بدأت العمل إن عرف شهم بدخولها السجن أم لا. أما الآن فعدم معرفته وسامية لهذا الأمر صارت تثقل كاهلها. لقد ائتمناها على أغلى ما يملكان كي تعتني به وتكون المسؤولة تقريبا عن كل ما يخصّه لذا ليس من العدل أن تخفي عنهما أمرا كهذا.
نقل شهم نظره نحو ولده هاربا مما دفعه لذلك القول وما يشعر به في نفسه من قلق لرفضها الدعوة بينما غرقت هي بأفكارها.
أمسك سيف كفّها لتنتبه أخيرا من شرودها حين قال متوسلا: - وافقي أرجوك على البقاء في السجن!
ضحك عاليًا فابتسم البقية ثم ضرب رأسه وهو يقول
مصححًا زلة لسانه: - أقصد في المزرعة.
تأملته بلهفة فرجاها بعينين قلقتين دامعتين لأنه لم
يسمع موافقتها حتى الآن، وكأن قرارًا كهذا سهل لهذه الدرجة:
- ألا تريدين أن نبقى معًا؟ ألست تحبينني؟
ذاب قلبها وهي تراقب اختلاجات عينيه وملامحه ترقبًا فتساءلت: - وهل أحب إليّ من النظر الى وجهك كل صباح واللعب معك ورؤيتك قبل نومي؟
تطلع إليها بحيرة وعجز وسط قلقه عن تحليل مغزى كلماتها التي جعلت قلب والده يضطرب في صدره فيكتم ابتسامته بصعوبة.
ابتسمت سهر لنظرة البراءة والتساؤل في عينيه وهو ينتظر
منها كلمة واضحة بينما قالت سامية مطمئنة ومبشرة:
- بالتأكيد ستبقى معنا!
نهض سيف من مكانه وعانقها بقوة حتى شهقت حين ارتد جسدها الى الخلف قليلا بسبب عناقه القوي. طبعت قبلة عميقة على شعره وهي تشم رائحته الزكية التي تنعش روحها كلما عانقته ثم رفعت رأسها لترى تسمر عيني شهم التي لمعت بدموع خفيفة عليهما. سامية هي الأخرى لاحظت لمعان عينيه.
نهض من فوره عن المائدة ودخل غرفته.
مسح شهم دموعه مرارا وتكرارا وقد فقد السيطرة عليها وهو يفكر بنجوى. يعلم جيدًا أن سرّ تعلق ولده بسهر هو رغبته بالشعور بحنان الأم الذي لم يذقه في حياته.
حتى لو كانت جدته تغدق عليه الحنان والرعاية لكن مع سهر التي أحبته بصدق وكأنها ليست امرأة غريبة عنه
وفعلت كل ما في وسعها لأجله الأمر
مختلف، لذا صار يرى فيها الأم التي حرم منها.
نهضت سهر واتجهت الى غرفتها هي الأخرى.
"لا بد أن تعلق سيف بي ومنظرنا وهو يعانقني بذلك الشكل جعل شهم يفكر بنجوى"
فكرت سهر وهي تدرك أن سيف يحاول تعويض حنان الأم معها كما تعيش هي شعور الأمومة معه. وضع سيف امرأة أخرى مكان والدته صعب جدا على شهم بالتأكيد.
انقبض قلبها وهي تفكر بذلك الحب الكبير الذي عاشه شهم مع نجوى. حبُّ مثل ذلك، هل يمكن أن يستبدل يوما بآخر؟ هل يمكن أن يعشق شهم يوما امرأة أخرى كما أحب نجوى؟
تلك الليلة، لم يستطع الثلاثة النوم كما يجب فقد داهمت
الفرحة قلب سيف فطار النوم من عينيه
وظل يتقلب في سريره ثم تناول ألوانه ودفتر رسمه وظل يرسم حتى غلبه النعاس فدخل الفراش، وظلت سهر تفكر في أحداث اليوم. أحزنها انطواء شهم على نفسه فقد بقي في غرفته ولم يتناول العشاء معهم.
كان شهم أكثر من جفاه النوم من بينهم فقد ظل ساهرا يقرأ قصة نجوى التي حفظها لكثرة ما قرأها بعد وفاتها فقد كان يقرأها كل يوم تقريبا ويعيد في ذاكرته أحداثها التي عاشها ونجوى حتى يغلبه النعاس وينهكه الحزن.
توتر خفي ساد علاقة شهم بسهر منذ ذلك اليوم فقد صار يتجنب البقاء في المكان الذي تكون فيه ويتعامل معها بحذر.
مثل سمكة تقاوم التيار الجارف بصعوبة، كان يقاوم
مشاعره تجاهها وينكرها بل يهرب من التفكير
فيها وتحليلها أما هي فتعبت من المقاومة والإنكار منذ عادت من بغداد وأدركت الفرق بين الوجود قربه
وبين فراقه، لذا قررت الانقياد لتلك المشاعر النقية التي أحست بها لأول مرة تجاه رجل. وهل هو أي رجل؟ إنه عاشق حتى النخاع، وفيّ بكل جوارحه ومشاعره لحبيبة عنه رحلت منذ سنوات.
ربما استطاع اختراق أسوار مخاوفها تجاه الرجال منذ الحادثة المشؤومة وامتلاك قلبها بتلك الصفات وبما عرفت عنه من خلال وصف نجوى له في تلك القصة! ومع أنها تشك في استطاعتها عيش حب مثله مع شهم إلا أن قلبها مستمتع بتجربة تلك المشاعر.
🚫 🚫 🚫
خرجت سهر إلى الشرفة الجانبية حيث كان
شهم جالسا يستمتع بهدوء المكان.
- أبو سيف!
ترك قدح العصير من يده وتمتم دون النظر إليها كعادته
مؤخرًا: - قولي!
ابتسمت وهي تتوقع ردّ فعله على ما ستطلب منه:
- أريد إقامة حفل لسيف بمناسبة نجاحه.
أجاب دون الالتفات إليها كعادته حين لا يعجبه كلام المقابل: - لا أحب صخب الحفلات.
كانت تعلم ذلك فقد أخبرتها به سامية حين اقترحت عليها الفكرة كما أنها من خلال معرفتها به توقعت
رفض شخص منعزل مثله لأمر كهذا.
تنهدت بحزن وهي تتذكر اعتزالها الناس منذ الحادثة،
في السجن وبعدما خرجت وحتى حين
عملت في المستشفى كانت شديدة الانطواء على نفسها وبالكاد تتكلم. لم تستعد بعضًا من مرحها السابق وألفتها مع بعض الناس إلا خلال العام المنصرم.
ما أشبه عزلتيهما مع اختلاف الأسباب! وما أشبه قلبيهما حين قررا إخراجهما عن نطاق التغطية! هو وفاءً لحبيبته وهي خوفا من الرجال. وها هو قلبها يعود الى الحياة من جديد على يديه ليخفق حبًا لأول مرة!
قالت راجية:
- لكن سيف طلب ذلك بنفسه. أرجوك وافق! ستكون الحفلة في الحديقة فإن أزعجك صخبها تستطيع الدخول الى المنزل والانعزال عن الضوضاء.
أصرّ وهو يقول بحزم: - أخبرتك أنني أكره إقامة الحفلات
في منزلي لذا لا تحاولي عبثا.
لكنها كررت المحاولة: - أرجوك، لا ترفض طلب سيف. يجب أن تشجعه على الاختلاط بالناس أكثر بدل أن تعزله عنهم.
زفر بانزعاج ثم سألها: - لِمَ أنت لحوحة هكذا؟
اقتربت وواجهته لتنهي هروبه وتشبع عينيها منه فقد اشتاقت له بسبب قلة جلوسه معها. رفع نحوها نظرات
حزم قصد بها كبح نبضه المتمرد قبل كبح إلحاحها فأجابت بابتسامة: - لأنني أحب سيف كثيرا وأريد له الاستمتاع بحفل نجاح كما فعل أغلب رفاقه.
تساءل بانزعاج:
- ألم تكفِه حفلات رفاقه التي حضرها كي يستمتع؟
جلست قبالته دون دعوة وقالت راجية بإلحاح:
- ولأنه استمتع بها زادت رغبته في إقامة
حفل خاص له كما فعلوا هم فهو لا يختلف عنهم بشيء.
نهض وهو يقول ممتعضًا:
- لا تهدئين حتى تسلبين الآخرين هدوءهم!
ابتسمت وهي تكتف ذراعيها وتقول:
- لن أغضب مع أن ما وصفتني به غير صحيح. فقط وافق على إقامة الحفل كي تدخل السرور الى قلب سيف!
رمقها بنظرة سريعة لم تروِ افتقاده النظر لوجهها وقال:
- سأرى فيما بعد. دعيني الآن أجلس بهدوء! هل يكمن؟
تمتمت قبل أن تنصرف بابتسامة مشاكسة صارت تنير وجهها وعينيها اللتين اكتستا ببريق غريب منذ عرفت معه الحب: - ليس شرب العصير في هذا الهدوء أهم من ولدك
لذا فكر في الأمر وأنت تشربه.
زفر بحنق ليقول: - اللهم صبرا!
غادرت مبتسمة وقلبها يخفق لرؤية التقطيب على جبينه لتتبعها عيناه بنظرة ظاهرها امتعاض وباطنها شوق يضطهده محاولا السيطرة عليه قبل فوات الأوان.
🚫 🚫 🚫
هتفت سهر مشجعة سيف على تعليق آخر ثلاثة بالونات من تلك الملونة التي علقا الكثير منها على أشجار الحديقة حيث سيجتمع رفاق سيف مساءً:
- هيّا سيف! بقي القليل فقط.
كان شهم يراقبهما بعينين ممتعضتين وقد ارتفع حاجبه الأيسر اعتراضا على ضعفه أمامهما وأمام والدته حين اجتمع الثلاثة كي يقنعوه بإقامة حفل نجاح لسيف.
كيف له أن يرفض وسيف يتوسل إليه
بتلك النظرات التي صار حزمه هشًا أمامها؟ كيف يرفض الاحتفال بتفوقه لأول مرة؟ إضافة الى إلحاح تلك
السيدتين اللتين اجتمعتا عليه، ويا للنساء حين يجتمعن على الإصرار على أمر ما!
لكن كلا! الأمر ليس إصرار النساء الذي لم يكن يهزم عزمه سابقا بل الأمر هو ذلك القلب الذي تغير حين سكنه اللين والرغبة في تعويض صغيره عن كل ما اقترف بحقه من قسوة وتجاهل.
قد تبدو إقامة حفل نجاح لطفل أمرًا عاديًا بالنسبة لغيره لكن بالنسبة له هو المنعزل عن الناس المتجنب لصحبتهم فالتضحية بإقامة حفل صاخب للأطفال في منزله أمر كبير.
زفر بانزعاج وهو ما يزال حانقا على والدته
لأنها وضعته أمام الأمر الواقع فهي لم تكتفِ بإقناعه بإقامة
حفل لرفاق سيف بل فعلت الأدهى!
تذكر ما دار أول أمس من حديث بينه وبين والدته حين هتف بغضب: - أتخبرينني الآن يا أمي بعدما دعوتهم؟! لماذا لم تسأليني قبل دعوتهم؟
سألته سامية بحنق:
- أليس هذا منزلي كما هو منزلك ومن حقي دعوة من أريد إليه؟ أم أنك طلبت مني العيش معك هنا لأكون مجرد مربية لطفلك ومشرفة على شؤون منزلك فليس لي الحق بالتصرف فيه كما أشاء؟
اضطرب عند سماعه تلك الكلمات وسكن الندم عينيه وهو يقول ممسكا بكفيّ والدته: - حاشا يا أمي! تعرفين
أنني لا أقصد هذا لكنك تعرفين أيضا
انزعاجي من التجمعات والاختلاط بالأغراب.
سألته مراوغة: - هل خالتك (سلمى) وعائلتها أغراب؟ إنهم أهل نجوى!
قال بنفاذ صبر وهو يضغط على أسنانه:
- أمي! لا تثيري جنوني! تعرفين أنني لا أقصدهم وأنني أتحدث عن أهل رفاق سيف ومعلمه منذر الذين دعوتهم للحفل. لو كان زواج سيف وليس احتفالا بنجاحه لما دعوت هذا العدد من الناس!
قالت بلهجة هادئة مع علمها أنها تستفزه:
- لا تضخم الأمر! إنهم خمس رفاق وعائلاتهم والأستاذ منذر فقط.
تنفس بعمق قبل أن يسألها مجددا: - ولماذا دعوتهم؟ ألم
تخبراني أنت وسهر أن الحفلة مخصصة
لرفاق سيف؟ أم أنكما أخفيتما الأمر عني لتضعاني أمام الأمر الواقع؟
أجابت سامية بامتعاض: - لا علاقة لسهر بالأمر. أنا دعوتهم. كفاك عزلة وهربا من الناس يا ولدي!
عاد من شروده ليراقب سيف وسهر من جديد والاثنان منهمكان في العمل وكأنه أهم شيء بالنسبة لهما.
حين انتهيا من تعليق البالونات، التفت سيف نحو سهر وسألها: - هل علقتها بطريقة جميلة؟
ردّت بلهفة وهي تضغط على أسنانها وتقاوم رغبتها
بقرص خديه الناعمين: - علقتها بطريقة رائعة!
كما احتل حب ذلك الصغير قلبها، احتلت الخفقات المضطربة قلب والده وهو يراقب حركتها تلك حتى راودته
رغبة بالإسراع نحوهما وضمهما معا! نهر نفسه
وهو يدخل من فوره الى الحضيرة ليتم العمل الذي خرج من أجله قبل أن تشغله مراقبة سهر وسيف عنه.
اقتربت سيارة ذات دفع رباعيّ زرقاء اللون وأخرى صغيرة حمراء من المنزل فصاح سيف بسرور: - لقد أتوا!
ركض مسرعا نحوهم وراح يعانقهم بشوق بعد نزولهم من السيارة.
سارت سهر نحوهم وحيتهم باحترام فقال سيف بحماس: - هذه الخالة سهر.
إذن هذه هي سهر التي جاءت سلمى خصيصا لأجل رؤيتها لكثرة كلام سيف عنها. ما كان يقوله سيف عن سهر أعطى سلمى فكرة واضحة عن مدى تعلقه بها وأشعرها كأنه وضعها مكان ابنتها نجوى التي حرم منها
فقد صار أغلب حديثة في كل مكالمة
هاتفية بينهما عن سهر.
ردّت سلمى التحية بابتسامة رسمية ثم عرفتها الى الرجلين الواقفين قربها: - ولداي مصطفى ومازن، خالا سيف.
أمسك سيف يد خاله الأصغر مازن وهو الأقرب لقلبه:
- هذا هو ميزو.
ابتسمت سهر فتقدمت منها المرأة التي نزلت حاملة
طفلتها ذات الأعوام الثلاث ومعها زوجها لتقول:
- أنا (نهلة) زوجة (حكم) عمّ سيف.
وقال الرجل الرابع الذي تولى إنزال الحقائب الصغيرة:
- وأنا (كرم) عمّ سيف الأصغر.
رسمت سهر ابتسامة على شفتيها لا تعكس تشوشها
بسبب كثرة من تعرفت إليهم للتو:
- تشرفت بمعرفتكم.
قال مازن وهو يرمق سيف بنظرة عتاب:
- أخيرا رأيت منافستي!
أكدت سهر: - لا يمكن أن أنافسك في محبة سيف، سيد مازن فهو لا ينفك يحدثني عنك.
قال مازن معترضا: - نادِني مازن فقط. سعدت بمعرفتك.
دخل الجميع الى المنزل واتجهت سهر الى المطبخ حيث
أوكلت سامية لها الإشراف على عمل أم رائد والفتاة التي أحضرتها لتساعدها اليوم في الطبخ وتقديم الأطعمة للضيوف.
شهور مرت لم ترَ فيها سامية ولديها وحفيدتها الصغيرة (شهد). عانقتهم بشوق كما عانقت سلمى وولديها.
حين دخل شهم الى المنزل متلهفا للقاء
الجميع بعد رؤيته السيارتين، عانقهم وعاتبهم بقدر افتقاده لهم: - أشهر ست مرت لم نر أحدًا منكم فيها. ألم تشتاقوا لنا؟
أجابه حكم بعتاب هو الآخر:
- ولماذا لم تأت أنت وتحضر أمي وسيف؟
تعرف أنني وكرم مرتبطان بعملنا ولا نستطيع أخذ إجازة لأسبوع حتى.
قالت سلمى وفي عينيها لمحة حزن: - تعرف أن شقيقك لا يطيق البقاء في بغداد. منذ سكن هنا لم يزرها سوى عدة مرات.
ابتسم شهم لخالته ممتنًا لتفهّمها.
كانت سهر تتنقل بين المطبخ والصالة حيث وضعت
طاولتي الطعام لترتيبهما بينما كانت سلمى جالسة قرب
سامية تراقبها بعين عدم الرضا وهي تقول:
- أراها تشرف على الحفلة بدلا عنك وكأن المنزل منزلها!
أوضحت سامية: - أنا طلبت منها ذلك. ما عادت لي طاقة لهذه الأعمال.
تساءلت سلمى معترضة: - ألست تثقين بها أكثر من اللازم؟ إنها غريبة دخلت بيتك منذ أشهر فقط. وأراها تتصرف بشكل لا يناسب كونها موظفة عندكم.
قالت سامية بابتسامة زادت من قلق شقيقتها:
- هي ليست مجرد موظفة. لقد صارت جزءًا من العائلة كباقي العاملين معنا منذ سنوات، كما أن الموظفة لا تفعل ما فعلته سهر مع سيف.
من صمت شقيقتها، عرفت سامية أن في رأس سلمى الكثير من الشكوك حول سهر فقالت لتطمئنها:
- سترين بنفسك كيف تتعامل سهر مع
سيف وستشعرين كم تحبه ولا تعتبر الاهتمام به مجرد عمل.
لم ترد سلمى مجادلة شقيقتها فأومأت وهي تفكر "وهذا بالضبط ما يقلقني!"

نهاية الفصل السادس


الاء العزاوي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 22-09-20, 10:41 PM   #8

الاء العزاوي
 
الصورة الرمزية الاء العزاوي

? العضوٌ??? » 476431
?  التسِجيلٌ » Aug 2020
? مشَارَ?اتْي » 15
?  نُقآطِيْ » الاء العزاوي is on a distinguished road
افتراضي

الفصل السابع

من صمت شقيقتها، عرفت سامية أن في رأس سلمى الكثير من الشكوك حول سهر فقالت لتطمئنها:
- سترين بنفسك كيف تتعامل سهر مع سيف وستشعرين كم تحبه ولا تعتبر الاهتمام به مجرد عمل.
لم ترد سلمى مجادلة شقيقتها فأومأت وهي تفكر "وهذا بالضبط ما يقلقني!"
بعد برهة، دخلت سامية المطبخ لتطمئن أن كل شيء يسير على ما يرام. اقتربت من سهر وهي تقول:
- غرقت في العمل ونسيتِ الاستعداد للحفل. سيصل الضيوف بعد ساعة.
قالت سهر وهي تضع آخر لمسة لها على أحد صحون
التقديم: - انتهيت الآن! سأستعد بسرعة.
قالت سامية هامسة بابتسامة:
- أتعلمين؟ ربما أكون أكثر سعادة من سيف بهذه الحفلة! لقد افتقدت هذه الأجواء منذ أقمنا في المزرعة.
سألتها سهر: - حقا، متى انتقلتم للعيش هنا؟
- بعد وفاة نجوى بثلاثة شهور تقريبا، حالما نظم شهم عمله وجهز هذا البيت ليكون مناسبا للسكن الدائم. لقد عزل نفسه عن العالم منذ وفاتها.
تمتمت سهر وفي قلبها غيرة أزعجتها مع أنها تحب نجوى لشدة حب شهم لها: - رحمها الله وألهمه الصبر.
خرجت سهر أخيرا من غرفتها بعدما قضت وقتا ليس بالقصير بالاستعداد للحفل. انتقت أحد ثيابها الجديدة واختارت زينة وجهها وحليها بعناية بما يتناسب مع فستانها
الأخضر.
كانت هي الأخرى متحمسة للحفلة كسامية واعتبرتها اختبارا لها على قدرتها على التفاعل مع الناس وكانت متحمسة أيضا وهي تضع اللمسات الأخيرة من الزينة على وجهها لترى ردّ فعل شهم على مظهرها المختلف عن المعتاد.
دخلت الصالة التي ضمت عددا من آباء وأمهات رفاق سيف ومنذر وعائلة شهم. أما سيف ورفاقه فكانوا يحتفلون في الحديقة. بدت رائعة بفستانها الأنيق وزينة وجهها التي زادتها جمالا فلم يستطع شهم سوى النظر إليها بنظرات عكست إعجابه بينما كانت هي مشغولة بالسلام على الحضور الذين تعرفهم من خلال لقاءاتها معهم في مدرسة سيف.
وقفت سامية قرب شهم وهي غافلة عن
عينين كانتا تراقبانها بحنق حين قالت له بمكر لتوقظ عقله وتعيد تصارع المشاعر الى نفسه: - تبدو رائعة!
أبعد شهم نظره عن سهر وقال هاربا من إعجابه تحت
قناع الاستياء: - إنها غير معقولة! تزينت وارتدت فستانا كهذا في حفل بسيط!
تساءلت سامية معترضة لتشاكسه وهي تكتم ابتسامتها:
- ما به فستانها؟ أراها مكتملة وفاتنة به! كما أنه لا
يختلف كثيرا عما ترتديه نهلة زوجة أخيك وباقي المدعوات.
أنهى شهم الحوار بابتعاده عن سامية والأهم هو ابتعاده عن تلك التي أرهق مرآها أعصابه.
تقدم منذر من سهر بخطى حثيثة وألقى التحية وعيناه
لا تفارقان عينيها، ما جعلها تتوتر وتهرب
بنظراتها منه وهي تستغرب تصرفه لتصطدم بنظرات شهم الحادة التي كانت مسلطة عليهما.
ارتبكت وفرحت وهي تحلل سبب انزعاج شهم من
وقوفها مع منذر وسبب مراقبته لهما بينما أبعد هو نظراته متظاهرا أنه لم يكن يركزها عليهما فابتسمت برضا وتأملته بشوق وهي تراه ببدلة أنيقة تتناسب وربطة العنق التي أهدتها له. رفع يده ليخلل أصابعه في شعره كي يخفف من توتره فرأت الساعة التي أهدتها له تزين معصمه. اتسعت ابتسامتها فأفاقت من شرودها وخشيت أن يكون منذر الواقف قربها لاحظ نظراتها نحو شهم.
وهل هو أعمى كي لا يلاحظها؟!
حمد منذر الله أن الأمر لم يتطور وأنه في بداية الطريق
وقرر الانسحاب فورا حين قال لسهر:
- لا بد أن لديك مشاغل كثيرة. أستأذن.
ابتسمت مجاملة ثم سارت خارجة من المنزل نحو الحديقة كي تتفقد سيف ورفاقه وتعرف إن كانوا بحاجة لشيء ما.
لم يكن منذر الوحيد الذي رأى نظرات سهر المتقطعة المتكررة نحو شهم فمن كانت تراقبها باستمرار وعن قصد، احترقت غضبا وهي ترى وتترجم معاني نظرات الاثنين
نحو بعضهما.
كم كانت سلمى سعيدة في البداية حين أخبرتها سامية
عن تغيير سيف على يد ممرضته لكن حين عرفت أن
سيف بدأ يتعلق بها بشدة ثم عرفت أنها جميلة في عامها
الثاني والأربعين وأنها استطاعت التأثير على شهم فتغير مع ولده، بدأت الشكوك والمخاوف تساورها.
دخلت سهر الى المطبخ كي توصي أم رائد
ومساعدتها ببدء تجهيز الطعام، دخل مازن لأخذ قدح من الماء. قال لسهر بسرور:
- سيف محظوظ بوجودك في حياته. لقد فعلت معه ما عجزت خالتي ووالده عن فعله.
قالت بنظرة حنوّ لمعت في عينيها: - سيف طفل حساس وعنيد بعض الشيء لذا يحتاج معاملة خاصة كي يصبح مطيعا، كما أن الأهل بحكم خوفهم على أبنائهم يعجزون أحيانا عن إيجاد الطريقة المناسبة للتعامل معهم.
قال مازن: - الاهتمام بالأطفال مسؤولية كبيرة. كان
الله في عون كل الآباء والأمهات!
بعد مغادرة الضيوف، شعر شهم بغرابة فقد مرّ وقت طويل منذ آخر اجتماع له مع مجموعة كبيرة من الناس ومع هذا لم
يكن الأمر بذلك السوء.
جلس الجميع في الصالة فبادرت سهر بالقول لنهلة:
- تبدين متعبة. كان الله في عونك فالطريق طويل وأنت حامل. دعيني أهتم بشهد.
شكرتها نهلة بامتنان حقيقي: - أشكرك! بالفعل أنا بحاجة للراحة.
فقالت سهر بلهفة وهي تحمل شهد وتجلس قرب نهلة:
- بل أنا التي تشكرك لحضورك مع هذه الرائعة.
قالت نهلة بابتسامة ودودة وقد ارتاحت لسهر:
- تحبين الأطفال كثيرا، ذلك واضح من طريقة تعاملك مع
سيف.
قالت سهر وهي تتأمل سيف الذي اقترب ليجلس
بجانبها وفي عينيه شرارة الغيرة: - لقائي بسيف أجمل ما
حدث في حياتي منذ سنوات طوال!
ابتسم سيف لسهر وجلس قربها. أمسك يد شهد التي وضعتها سهر في حضنها وراحت تلاعبها، ما أثار الغيرة في نفسه. أعلن بصوت عالٍ لجذب الاهتمام: - لقد تسليت كثيرا مع رفاقي. شكرا أبي لأنك أقمت لي الحفل.
قال شهم وهو يضع إصبعه على خدّه:
- لن أكتفي بكلمة شكرًا!
أسرع سيف نحو شهم وعانقه بقوة وطبع قبلة على خده فقالت سامية معاتبة:
- وأنا وسهر إلا نستحق عناقا كهذا؟ ألم ننظم لك الحفل؟
ابتسم وهو يقترب من سهر الأقرب إليه ليعانقها فتضمه وتبتسم ثم يخفق قلبها وهي تشمّ عطر والده الذي التصق
به فمن عادة شهم وضع الكثير من العطر.
عانق سيف جدتيه أيضا ثم قال وقد
بدأ النعاس يثقل جفنيه: - سأذهب للنوم. تصبحون على خير.
نهضت سهر أيضا وهي تقول: - وأنا أيضا أستأذن. تصبحون على خير.
قالت سامية بابتسامة: - تعبتِ كثيرا اليوم. نوما هانئًا.
تبعهما نهلة وحكم ومعهما صغيرتهما ليصعدوا الى الغرفة في الطابق العلوي حيث سيقيمون.
🚫 🚫 🚫
دخلت سهر غرفة سيف لتطمئن عليه كعادتها يوميًا فتفاجأت برؤية شهم مددًا قرب سيف النائم على السرير.
وقفت مكانها وهي تشعر بالحرج لرؤيته إياها بقميص وسروال منزليين بقماش قطني أظهر تفاصيل جسمها
الممشوق بينما اعتدل شهم جالسا على
السرير وهو يحارب ابتسامة ونظرة لهفة لرؤيتها بذلك المظهر البسيط الذي أضفى عليها جمالا من نوع آخر.
قالت بصوت مضطرب حرجًا:
- آسفة! لم أعر ف أنك هنا. أنا معتادة على تفقد سيف ليلا فهو يُسقِط الغطاء عنه وهواء التكييف البارد قد يؤذيه.
قال بابتسامة وعيناه تأبيان إلا النظر إليها بينما كانت
تتجنب النظر صوبه: - تركت غرفتي لكرم ومصطفى ومازن وجئت أنام قرب سيف.
ابتسامة مضطربة ونظرات محبة نحو سيف سبقت قولها:
- وهل هناك أجمل من ضمّ سيف والنوم قربه وأنت تشمّ رائحته وتداعب شعره الناعم؟
قال بابتسامة وما تزال عيناه تتحديانه وترمقانها بنظرات
إعجاب: - الحمد لله الذي أدخلك حياته.
خفقات شوق غزت قلبها ونظرة لهفة قفزت الى عينيها
وهي تفكر "والحمد لله الذي أدخلك حياتي" قبل أن
تشيح بنظرها وهي تقول: - تصبح على خير.
ردّ بابتسامة وهو يراقب خطواتها السريعة:
- تصبحين على خير.
ضمّ شهم ولده وأغمض عينيه وهو يشم رائحته ويلامس
شعره متذكرًا وصف سهر النوم قرب سيف فعلت ابتسامة واسعة وجهه. أما حواسه فقد أُنعِشَت برؤيتها قبل نومه.
ظلت سهر تحدق في الجدار الفاصل بين غرفتها وغرفة سيف حيث سريره الذي ينام عليه شهم حتى غلب النعاس شعور الشوق الذي اجتاح قلبها.
كانت المائدة مكتظة صباح اليوم التالي، ما أسعد سيف
كثيرا.
فضلت سهر تناول الفطور في المطبخ وترك الجميع ليأخذوا
حريتهم كعائلة كبيرة لا تجتمع كثيرا.
بعد الفطور، ذهب سيف ومازن الى الإسطبل بينما خرج شهم ومصطفى في جولة في المدينة أما سلمى فخرجت الى الشرفة الأمامية للمنزل حيث جلست
سهر. جلست قربها لتبدأ استجوابا مغلفًا باسم التعارف وتبادل الأحاديث.
- اخبرتني أم شهم أن الدكتور مختار من رشحك للعمل هنا.
أومأت سهر إيجابا فسألتها: - هل كنت تعملين معه في نفس المستشفى؟ أهو مستشفى مخصص للأطفال؟
ذكرت سهر اسم المستشفى الذي كانت تعمل فيه ومختار
فقالت سلمى: - ذلك مستشفى خاص له
سمعة جيدة. هل تسمحين لي بسؤال شخصي؟
مع أن سهر اضطربت لكنها قالت بابتسامة: - تفضلي.
رسمت سلمى ابتسامة ودودة كاذبة وهي تقول:
- شابة جميلة ومحبوبة بشهادة من حولها مثلك، كيف لم
يخطفها أحد حتى الآن ويضعها في قفص الزوجية؟
تنحنحت وبلعت ريقها وحاولت السيطرة على ملامحها كي لا تعكس توترها ثم قالت أخيرا الجواب التقليدي الذي لم يُرضِ فضول سلمى: - كل شيء نصيب.
خرجت نهلة من المنزل لتنضم إليهما فشعرت سهر ببعض الراحة وظنت أن استجواب سلمى لها انتهى لكنها لم تكتفِ ولم تنتهِ أسئلتها لذا قالت:
- الوحدة شيء صعب. أخبرتني سامية أن والديك توفيا
وأنك عشت وحيدة مدّة طويلة وعشت
أيضا في منزل الدكتور مختار.
قالت سهر وفي كلامها بعض الصدق لترضي فضول
سلمى الذي أقلقها وأخافها حين بدأت تتطرق الى
العائلة: - بعد وفاة والدتي، عشت في منزل عمي مختار وخالتي حياة. كانا وحيدين مثلي ويفتقدان العائلة فقد غادر أولادهما خارج العراق منذ سنوات. بعد فترة وحين عملت، قررت الاستقلال بحياتي فانتقلت الى سكن صغير قريب منهما.
استرسلت سلمى في أسئلتها الفضولية التي جعلت سهر تستغرب طرحها عليها مع أنه لم يمضِ على لقائهما سوى يوم واحد: - كيف تركك أقاربك وحيدة هكذا بعد وفاة والدتك؟ اعذريني على تدخلي لكنه وضع غريب. مهما
كانت علاقة الدكتور مختار قوية بوالدك
سابقا لكنه رجل غريب وأقاربك أولى منه بضمك الى عائلاتهم للعيش معهم.
قررت نهلة وضع حدّ لتطفل سلمى وفضولها الذي نبّأها كما نبّأ سهر بالريبة التي تحملها سلمى في قلبها تجاه سهر والتي لم تعلما سببها لذا نهضت وهي تقول لسهر:
- أتذهبين معي في جولة في المزرعة؟
نهضت سهر من فورها مرحبة بعرض نهلة.
تنفست الصعداء حين ابتعدت عن سلمى والضغط النفسي الذي وضعتها تحته.
قالت نهلة وهما تسيران: - لا تنزعجي من الخالة سلمى.
إنها متشككة في كل ما يتعلق بسيف.
رفعت سهر كتفيها وهي تقول: - إنه حفيدها وأغلى ما
تركت ابنتها رحمها الله. من حقها أن
تخاف عليه وتتعرف على من تهتم به.
قالت بابتسامة: - لكن خالتي سامية على العكس منها فهي تثق بك كثيرا وهذا هو المهم. بالتالي هي من ربت سيف واهتمت به وهي من يجب أن تقيمك.
حين دخلت سامية المطبخ لتوصي أم رائد بتجهيز المائدة، اقتربت من سهر لتقول:
- ستتناولين الغداء معنا وليس هنا كما فعلت صباحا.
قالت سهر موضحة: - أردت أن تفطروا كعائلة وتتحدثوا بحرية دون وجودي، خاصة وأنكم لم تجتمعوا منذ أشهر فأنا لم أرهم يزوروكم منذ قدمت الى المزرعة قبل ستة أشهر.
أمسكت سامية ذراعها وهي تقول بمحبة:
- وأنت صرتِ جزءًا من عائلتنا يا سهر.
الدفء في صوت سامية ونظراتها جعل عيني
سهر تدمعان وهي تقول:
- هذا شرف لي، خالة أم شهم.
حين ابتعدت سامية، شعرت سهر بالذنب لما تخفيه عنها
وعن شهم بخوص ماضيها. لا بد أن تصارحهما بكل
شيء! لن تستمر بالعيش مع هذا الشعور المزعج بالذنب طويلا.
صحيح أنها غير ملزمة بسرد ماضيها لهما لكن أمرا هامّا كدخولها السجن يجب أن يعرفا عنه لكن ماذا لو تغيرت نظرتهما نحوها؟ ماذا لو خافا من ترك سيف تحت رعايتها؟ هل ستتحمل البعد عن شهم وسيف لو فكر الأول بإنهاء توظيفها؟ ولماذا لا يفعل؟ هو أساسا يرتاب من الناس فكيف لو عرف بدخولها السجن؟ ذلك الأمر الذي
يعتبره المجتمع وصمة عارٍ بكل المقاييس.
"سأنتظر قليلا حتى يحين الوقت المناسب فأخبرهم"
هكذا قررت سهر مع كل مخاوفها من حرمانها القرب من شهم وسيف.
جلس الجميع الى طاولة الغداء الكبيرة ومعهم سهر.
ذلك الأمر لم يرق لسلمى التي كانت ترى بشكل جليّ نهاية وضع سهر في بيت زوج ابنتها شهم، من خلال نظرات سامية وتقديرها لها ومن خلال تعلق سيف الشديد بها وحبه الكبير لها والأهم، من نظرات شهم
الخاطفة نحوها. تلك النظرات التي أشعلت في قلبها نار الغضب من شهم الذي يبدو أنه نسي ابنتها نجوى.
سألها ولدها مصطفى ليأخذها من تلاطم أفكارها:
- متى سنعود الى بغداد؟ لدي عمل مهم غدا ظهرا.
أجابت وهي تشعر بانزعاج فقد كانت ترجو
البقاء أكثر:
- سنذهب صباح الغد وسنصل بغداد ظهرا فلا تقلق.
في المساء، أحضر سيف علبة لعبة الدومينو وقال لسهر:
- أخبرتك أني أجيد لعبها. سنلعب جميعا بما أن ميزو هنا.
ابتسم الجميع بسبب حماس سيف الذي لا يعرف سوى القليل عن اللعبة.
قالت سامية: - أنا وجدتك سلمى لن نشترك في اللعب.
وكذلك اعتذر مصطفى عن اللعب لرغبته بالنوم باكرا كي يرتاح لأنه سيقود مسافة طويلة غدا فجرا. حكم وزوجته انسحبا أيضا للنوم باكرا كعادتهما.
اقترح مازن على سيف وهو يأخذ علبة الدومينو ويسير نحو طاولة الطعام:
- لنلعب أنا وأنت كفريق. سنغلبهم!
عبس سيف وتقوست شفتيه نحو الأسفل ثم قال معترضا: - أنت تخدعني! تقول هذا لأنك تظن أنني لا أجيد اللعب مثلكم.
تصنع مازن العبوس وهو يسأل سيف: - أنا أخدعك؟
حاجَجَه سيف: - لماذا إذن يلعب الجميع وحدهم وأنا
الوحيد الذي ألعب معك؟
رفع شهم حاجبيه وكأنه يقول لمازن "جد له حجة مقنعة"
نهض شهم وسهر وكرم وساروا نحو الطاولة فقال سيف بلهجة قيادية: - إن كنت سألعب معك كفريق فستلعب سهر مع بابا كفريق آخر. عمي كرم سيلعب وحده فهو جيد في اللعب وكثيرا ما يفوز علينا.
قال كرم بابتسامة وهو يجلس الى رأس الطاولة:
- بأمرك أيها الرئيس!
جلس مازن قرب سيف الى يمين الطاولة وفي الجهة المقابلة يسارا، تعالت الخفقات في القلبين وتعثرت الانفاس بغصة الشوق في الرئتين حين جلس العنيدان قرب بعضهما لأول مرة بذلك القرب.
بدأ مازن بتوزيع قطع الدومينو فأخذ شهم القطع السبع الخاصة به وبسهر.
بدأت اللعبة وتناوب الجميع في وضع القطع حتى وصلت اللعبة الى مرحلة مهمة فنظر شهم وسهر الى القطع المتبقية لديهما وقاما بحساب القطع الموضوعة على الطاولة
ليعرفا أيًا من قطعهما يمكن أن تفيدهما في اللعب.
اقترب شهم منها قليلا فاضطربت ونظرت في عينيه
ليضطرب هو الآخر وينسى للحظة ما كان سيقول.
همس أخيرا: - هل نضع هذه القطعة؟
أومأت إيجابًا وهي تبعد عينيها لتنظر الى القطع على الطاولة.
ابتسامة عابثة بدت على شفتي مازن وكرم وهما يراقبانهما. كأنهما لا يتفقان على أيّ من قطع الدومينو
يضعان بل يتغازلان! ذلك ما بدا عليه حالهما.
عينان أخريان تجلى فيهما الغضب والحسرة كانتا أيضا تراقبان تلك العاشقة بقوة بعد إضرابٍ عن الحب والرجال وذلك العنيد المنكر لمشاعره، الخجول أمام ضميره.
انتهت اللعبة أخيرا بفوز كرم كأغلب المرات فاعترض مازن: - ألا تخسر إلا نادرا؟
قال كرم بمكر وهو يشير لمازن: - تعلم اللعب بدل أن
تشكو الخسارة.
🚫 🚫 🚫
شعرت سهر بالراحة بعد سفر سلمى فقد كانت تلمح في عينيها تجاهها عدم الرضا وتحس في لهجتها بالشك.
مع غيرته بسبب اهتمام الجميع بها وبحركاتها المحببة الى
القلب، استمتع سيف كثيرا بوجود ابنة عمه شهد ولعب معها. أما سهر فكانت تلاطف الصغيرة حين يكون سيف بعيدا عنها كي لا تثير غيرته مع أنها تعشق الصغار خاصة إن كانت طفلة محبوبة ومرحة لا تتجنب الأغراب كشهد.
إحدى تلك المرات التي استغلتها سهر كان سيف أثناءها في صالة المنزل، مشغولا مع كرم بالتنافس على الفوز في إحدى الألعاب الإلكترونية.
جلست مع الصغيرة في الحديقة وراحت تلاعبها وتلك
تطلق الضحكات القوية التي زادت من شغف سهر بها
فحملتها عاليا وهي تقول لها مازحة:
- سآكلك إن لم تتوقفي عن الضحك!
ثم مسحت أنفها بأنف شهد وراحت تقبلها بقوة وهي
تشمّها بشغف.
شخص آخر انتابته رغبات ورغبات!
رغبة بتقبيل تلك الشفتين اللتين طالما تحدتاه بكلماتها الصريحة التي نقلته من حال الى حال، رغبة بضمّ ذلك الجسد النحيل الذي سقط يوما بين يديه مغشيا عليه بسبب تأثرها وغضبها لأجل ولده، رغبة بشمّ خصلات شعرها الذي كان يتناثر وهي تلاطف شهد فتتناثر معه دقات قلبه.
تعالت أنفاسه وهو يراقب كل حركة ويستمع لكل كلمة
وضحكة من تلك الغافلة عن وجوده على بعد عدة أمتار
الى يمينها حيث كان يسير متجها الى
المنزل فتسمر في مكانه ليحدق بها وهي تلاعب شهد بذلك الشغف والمرح الذي تطلق له العنان حين تكون مع الأطفال. صورة جديدة يراها بها لأول مرة، فهي وإن تحررت قليلا في تصرفاتها مع سيف بوجوده إلا أنها لم تكن بهذه العفوية القاتلة لقيوده وتحفظه وخوفه من تركيز النظر عليها والتفكير بها.
تعرق جبينه وجفاف حلقه وغصّة الشوق في صدره
وأنفاسه العالية جعلته يفطن أخيرا لأفكاره التي أخذته بعيدا فزفر ممتعضا غاضبا من نفسه وتحاشى مناقشة ما انتابه من أحاسيس ومشاعر حتى مع عقله فاستغفر وأسرع بالدخول الى المنزل ظنًا منه أنه قادر على الهرب طويلا!
مرت الأيام الأربع التي قضتها عائلة شهم في المزرعة
سريعا وحان موعد رحيلهم. انسجمت سهر
ونهلة خلالها مع بعضهما كثيرا وذهبتا الى السوق والى بعض الأماكن الترفيهية الخاصة بالأطفال بصحبة سيف وشهد. أما شهم وسامية فكانا مسرورين جدا باجتماع العائلة الذي يحظيان به على فترات متفرقة منذ استقرا في المزرعة.
بعد تناول الفطور معا، وقف الجميع عند باب المنزل ليودعوهم. قالت نهلة وهي تعانق سهر:
- سررت بالتعرف اليك كثيرا.
قالت سهر بعدما قبّلت يد شهد الممتلئة الصغيرة فأثارت في عقل شهم ذكرى لعبها مع شهد فاضطرب:
- وأنا أيضا سعدت كثيرا بمعرفتك وبالأيام التي قضيناها معا.
عانقتهم سامية بقوة ثم قالت:
- لا تغيبوا عنا كثيرا. زورونا كلما سمحت
ظروفكم بذلك فأنا أشتاق إليكم كثيرا.
رمق حكم شقيقه بنظرة عتاب وهو الذي كان معترضا منذ البداية على قراره بعزل نفسه في المزرعة في تلك المحافظة البعيدة. تساءل وهو يعانقه:
- ألا يكفيك بعدًا عنا؟ متى ستعود؟
ربت شهم على كتفه وتنهد دون أن يعلق ثم عانق كرم وقبّل شهد.
دمعت عينا سهر وهي تستغرب حرمان شهم لنفسه من هذا الدفء العائلي، تلك النعمة التي حرم منها الكثيرون وهي أولهم. منذ صغرها كانت تعاني حرمانها من الأشقاء والأب. كانت والدتها الملاذ الآمن وكل عائلتها،
وقد فارقتها هي الأخرى بينما كانت قابعة في السجن ولم
يتسنى لها حتى وداعها ورؤيتها لآخر مرة.
فلتت دموعها وخرجت عن سيطرتها فأسرعت بدخول المنزل وهي تلوح بيدها مودعة نهلة.
قطب شهم جبينه مستغربا تأثرها الذي عرف أن سببه لحظة الوداع تلك.
"تراها تأثرت لأن لها ذكريات مؤلمة عن وداع أحد من
عائلتها؟" فكر وهو ينظر في أثرها وانتبه الى عدم معرفته ووالدته الكثير عن حياة سهر فقد اكتفى بما أخبره به مختار من معلومات بسيطة.
🚫 🚫 🚫
كانت سهر تسير قرب الإسطبل عصرا وهي تقرأ رواية عاطفية فقد صار ذلك النوع من الروايات يستهويها منذ
خفق قلبها لشهم وكأن في تلك السطور الحالمة التي تقرأها
مواساة لها ووسيلة لتتحمل جفاف واقعها،
فمع أنها تلمح أحيانا في عيني شهم نظرات تخبرها أن في نفسه شعورا خاصا تجاهها إلا أنه يكبح تلك النظرات بسرعة ويهرب ليسود البرود بعدها تصرفاته معها، وكأنه يعاقب نفسه ويعاقبها لأنه كسر عهده بالوفاء لزوجته حين شعر بميل نحوها.
حين سمعت سهر صوت سعال نعيم القوي آتٍ من الحضيرة، دخلت مسرعة لتتفقده فوجدته جالسا على الأرضية ويسعل بشدة. أسرعت بمساعدته لينهض ويخرج من الحضيرة كي يستنشق الهواء النقي وربتت على ظهره بطريقة جعلت السعال يخف ثم يتوقف.
سألته بقلق: - هل تشعر بتحسن؟
أومأ وقال وهو يتنفس بصعوبة: - أفضل قليلا.
عاتبته وهي تخرج هاتفها من جيبها:
- ترفض ترك التدخين وفوق هذا تهمل صحتك ولا
تراجع الطبيب حين تمرض!
قال مبتسما وهو يشاكسها: - طلبت منك وصف دواء لي فأنت ممرضة وتعرفين في هذه الأمور لكنك رفضت.
عاتبته بحنق: - لا مزاح في الصحة يا نعيم. يجب أن يراك
طبيب مختص لا أن تصف لك ممرضة الدواء.
قد تتفاقم حالتك. على الأقل، امتنع عن التدخين أثناء إصابتك بالتهاب المجاري التنفسية!
وعدها وهو يتنفس بصعوبة: - سأذهب غدا الى الطبيب.
عاودت نعيم نوبة السعال فقالت سهر وهي تبحث عن اسم سالم في دليل هاتفها:
- بل الآن! سيأخذك سالم الآن الى المستشفى. ألا ترى
حالتك؟ أنت بالكاد تستطيع التنفس!
ردّ سالم على اتصالها فقالت:
- من فضلك سالم، تعال بسرعة كي تأخذ نعيم الى المستشفى فحاله سيئة ولديه نوبة سعال متكررة.
حاولت سهر التخفيف من نوبة السعال التي هاجمت نعيم بينما كان سالم يقترب منهما مسرعا. أسرعا بوضع نعيم في السيارة ثم انطلق سالم مسرعا لأخذه الى أقرب مستشفى.
جلست سهر على إحدى الطاولات الصغيرة على مقربة من الحضيرة، مستظلة بإحدى الأشجار وهي تشعر بالقلق على نعيم وكي يمر الوقت حتى تتصل بعد فترة بسالم لتطمئن على نعيم، فتحت الرواية لتستأنف القراءة مستغلة لعب سيف وعدم حاجته إليها.
رائحة مزعجة عكرت نقاء الهواء وجعلت سهر تشعر
بالانزعاج فوضعت الكتاب جانبا ونهضت
وهي تتلفت باحثة عن مصدر تلك الرائحة المزعجة.
خفق قلبها خوفا وهي ترى دخانا يخرج من الحضيرة.
ركضت مسرعة نحو الحضيرة وكل ما علق بعقلها هو إنقاذ الجياد التي في الداخل.
أخرجت هاتفها أثناء ذلك واتصلت بشهم لكنه لم يجب فأعادت الهاتف الى جيبها وأسرعت بدخول الحضيرة حيث رأت النار وقد بدأت بالانتشار في القش.
لم تتراجع خوفا بل أصرت على إنقاذ الجياد الثلاث حين رأت مدى رعب كل واحد منها وهو يصهل عاليا ويركل الأرض بحوافره باحثًا عمن يفك وَثاقه ليهرب من تلك النيران.
أسرعت بفك وثاق الجياد وهي تتلفت حولها كل حين
وترى النيران تزداد استعارا. وبينما كانت
مشغولة بتحرير الجياد من وثاقها، كانت النار تزداد انتشارا والدخان يزداد كثافة داخل الحضيرة..

نهاية الفصل السابع


الاء العزاوي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 22-09-20, 10:50 PM   #9

الاء العزاوي
 
الصورة الرمزية الاء العزاوي

? العضوٌ??? » 476431
?  التسِجيلٌ » Aug 2020
? مشَارَ?اتْي » 15
?  نُقآطِيْ » الاء العزاوي is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الثامن

أسرعت بفك وثاق الجياد وهي تتلفت حولها كل حين
وترى النيران تزداد استعارا. وبينما كانت سهر مشغولة بتحرير الجياد من وثاقها، كانت النار تزداد انتشارا والدخان يزداد كثافة داخل الحضيرة.
سمعت في الخارج أصوات أم رائد وسامية وشهم وشعرت بعد قليل برشق المياه التي دخلت الحضيرة من منافذها ومدخلها فتشجعت وراحت تتخبط باحثة عن طريق الخروج وهي تسعل بقوة وقد بدأت تشعر بالاختناق.
لمحت خيوط الضوء الذهبي لشمس الغروب تتسلل وسط الدخان فأسرعت نحوها وهي تقاوم السقوط قبل الوصول إلى مدخل الحضيرة.
وكأن مقاومتها انهارت حالما شعرت أنها
بأمان بعد خروجها من الحضيرة سالمة فسقطت أرضًا بعدما ملأت رئتيها بالهواء عبر شهيق عميق ثم استسلمت لذلك الشعور بالخمول ثم الخواء. وقبل أن تغلق عينيها، لمحت شهم يركض نحوها مسرعًا وقد غاص قلبه حين رآها بذلك المنظر. وجهها ملطخ بالدخان وشعرها وثيابها مبللة قليلا وجسدها يترنح معلنًا عن ضعفها.
جثا قربها ثم دسّ ذراعه تحت ظهرها ليرفعها عن الأرض ويقربها إليه، ضامًّا إياها وهو يربت على وجهها ويهمس:
- سهر! أفيقي أرجوك!
في تلك اللحظة، أدرك شهم أن إنكار ما يشعر به نحوها ما عاد يجدي نفعًا فما أحس به بسبب احتمال فقدانها لو أنها لم تتمكن من الخروج من الحضيرة سالمة، لم يكن خوفا
على روح كسائر الأرواح لا يريد لها الأذى
وحسب بل كان هلعًا من فقدان امرأة صارت جزءًا من روحه وقلبه وحياته. امرأة ليس شأنها شأن أي شخص آخر قريب منه.
نهض وحملها مبتعدا بها عن الدخان الذي أحاط المكان حتى وصل الى أحد المقاعد الخشبية المنتشرة في المزرعة
فأجلس سهر وما تزال ذراعه تحيط ظهرها ثم عاد يربت على خدها كي تفيق وصوته المضطرب يكرر اسمها ونظراته عكست تصاعد قلقه.
فتحت عينيها اخيرا فشعر ببعض الطمأنينة وسألها بصوت متلهف قلق: - هل أنت بخير؟
أخذت شهيقا عميقا قبل أن تصدر عنها إيماءة صغيرة بالإيجاب. قال بصوت شبه هامس:
- حمدا لله على سلامتك.
القلق في صوته واللهفة والحنان في عينيه جعلتها تنظر في عينيه وشفتاها ترتجفان خوفا لذكرى الموقف الخطير الذي كانت فيه فأطلقت العنان لدموعها وهي تحمد الله في نفسها على النجاة من المكان الذي تحول الى فرن كبير كاد يحرقها حيّة.
خفق قلبه خوفًا حين تخيل أنها كانت ستصاب بمكروه فأمسك وجهها بكفّه وهمس:
- أنت بخير الآن. لا تخافي!
هدأ بكاؤها لكن مشاعره ونظراته لم تهدأ وهو على تلك الحال مع المرأة التي اعترف لنفسه للتو بحبه لها. المرأة التي طالما تساءل في زاوية مضطهدة من عقله عمّا تختلف فيه عن باقي النساء حتى تحرك فيه مشاعر وخفقات ظنّ
أنها ماتت مع نجوى ولن تحيا ثانية.
يجلس بذلك القرب الخطير المهلك لحواسه منها وكفّه الأيسر يلامس وجهها وذراعه الأيمن تحيط ظهرها وتضغط عليه لتترجم اضطراب مشاعره وتغلب شوقه ورغبته على قيود التحفظ والخوف.
أما مشاعرها فكانت تتخبط بين شوق وعدم تصديق وهي ترى حبه ولهفته في نظراته وبين خوف مما سيتبع ذلك.
لأنها معتادة بعد كل مرة يظهر نحوها بعض المشاعر والنظرات على الجفاء والهروب، شعرت بالخوف من ردّ فعله بعدما صرحت نظراته ولمساته بحبه لها ورغبته بها.
كانت سهر تدرك أنها لم تكن مجرد رغبة مكبوتة لرجل حرّم النساء على نفسه سنوات طويلة بل كانت رغبة
عاشق بحبيبته فقد أكدت لها نظراته أنه
يعشقها ويفزع لفكرة فقدانها.
- سهر! هل أصبت بمكروه؟
نداء سامية القلق أفزع الاثنين فابتعدت سهر وسحب
شهم ذراعه التي كانت تحيط ظهرها.
حالما وصلت سامية وأم رائد قربهما وقد حثتا الخطى نحوهما حالما رأتا سهر بذلك المظهر الذي أوضح أنها كانت وسط النار، عانقتها سامية وهي تقول بقلق:
- حمدا لله على سلامتك. هل آذتك النار؟
هزّت رأسها وهي تهمس كلمة النفي فعادت تسألها:
- ماذا كنت تفعلين داخل الحضيرة؟
وسألتها أم رائد: - ولماذا لم تخرجي فور اشتعال النار فيها؟
قال شهم وهو ينهض:
- لندخل المنزل أولا فسيف وحده هناك.
أسرع الجميع بالدخول الى المنزل وسارت سهر وهي تستند على أم رائد، مضطربة الخطوات خوفا مما عاشته وسط النيران وشوقا ولهفة بسبب ذلك القرب من شهم ولمساته التي أوقدت في كليهما نيرانا أخرى.
هرع سيف نحوهم حالما دخلوا المنزل والدموع في عينيه والخوف مرسوم على وجهه الذي صار بلون ثمرة الليمون فقد عرف أن أمرًا خطيرا حدث بسبب صوت الجياد الذي سمعه الجميع ومنظر النيران التي رآها من الشباك.
ومع قلقه وخوفه إلا أنه لم يخالف أمر والده ويخرج فقد حذره شهم من الخروج من المنزل خشية أن يصاب بأذى لذا عانى الفزع وهو ينتظر عودة الجميع وحيدا في المنزل.
أسرع شهم نحوه وحمله وراح يمسح على شعره
كي يهدأ وهو يقول مطمئنا:
- لا تخف حبيبي، انظر! كلنا بخير والجياد بخير أيضًا. لم يصب أحد بسوء ولم يحترق من المزرعة سوى جدران الحضيرة.
ضمّه شهم فزاد بكاؤه وقال من بين شهقاته:
- خفت كثيرا وأنا وحيد هنا، أرى النيران تخرج من نوافذ الحضيرة. خفت عليكم وعلى الجياد.
حينها اقتربت سهر وربتت على ظهر سيف وهي تقول مؤكدة: - لا تخف حبيبي، لقد حررت الجياد قبل أن تصاب بأذى.
قطب شهم جبينه وهو ينظر إليها وقد تباينت المشاعر داخله بين إعجاب بإنسانيتها وغضب عليها لتعريض نفسها للخطر. لقد ظن أنها كانت في الحضيرة أساسًا لحظة نشوب
الحريق ولم تستطع الخروج منها بسبب انتشار
النار ولم يخطر بباله أنها دخلت وسط النار لإنقاذ الجياد.
كم تشعرها بالسعادة نظراته حين تبوح بما يأبى لسانه وتصرفاته البوح به!
رمقتها سامية وأم رائد بدهشة وسألتها الأولى بابتسامة وقد زادت بها إعجابا ومحبة:
- دخلتِ الحضيرة المشتعلة بالنار وعرّضتِ نفسك للخطر كي تنقذي الجياد. كل يوم تجعلينني أوقن أنني لم أخطئ في حكمي عليك.
أدار سيف نفسه وانحنى ليعانق سهر وهو يرى آثار الدخان عليها فتركه شهم لتحمله هي. همس وهو يضمها بقوة: - شكرا لأنك أنقذتهم. هل تأذيتِ؟
ضمته بقوة تستمد من حضنه الدافئ بعض الراحة
وتمنحه الاطمئنان في الوقت ذاته وهي
تقول: - كلا! أنا بخير، حبيبي.
بعد ذلك الاعتراف الصريح الذي أدلت به نظراته الخائنة ولمسته المتمردة على تحفظه وشعوره بالذنب، كان لا بد أن يحاول كما في كل مرة يظهر أي مشاعر خاصة تجاهها أن يتجاهلها أو يتخذ منها موقفا غاضبا وقد وجد فيما فعلته سببا مقنعا لذلك.
طلب من أم رائد أخذ سيف الى غرفته ليرتاح ثم قال بحدّة حالما ابتعدا وقد بدا الغضب على وجهه وفي صوته:
- كيف تتصرفين دون تفكير هكذا؟ كان يجب أن تبلغيني حالما رأيت النار بدل أن تدخلي وحدك الى هناك.
زفرت وهي تفكر "كنت أعرف أنك لن تدع تلك اللحظات
الرائعة تمر دون معاقبة كلينا عليها!"
قالت وهي ترمقه بنظرة حانقة:
- أكان يجب أن أدع الجياد تحترق حتى أناديك فتأتي؟
هتف دون تفكير وقد عاودته ذكرى سقوطها مغشيا عليها أمام باب الحضيرة:
- وماذا لو احترقت أنت أو تأذيت؟
محت نظرات الخوف في عينيه غضبها منه فبدا شبح ابتسامة على وجهها فأبعد نظراته عنها مؤنبًا نفسه على قول تلك الكلمات بتلك النظرات والصوت القلق.
ما به لا يستطيع التحكم في نظراته وردود أفعاله؟
أضاف متسائلا ليتدارك ما فضحته زلة لسانه من خوف عليها: - ونعيم، أين كان حين شبت النار في الحضيرة؟ أين اختفى هو وسالم؟
أجابت ممتعضة من هروبه المتكرر من
مشاعره:
- انتاب نعيم ضيق تنفس ونوبة سعال فطلبت من سالم أخذه الى المستشفى وأوصيته بأن يعيده بعدها الى منزله. أما عن إخباري لك عن الحريق..
كتفت يديها وصرحت نظراتها عن امتعاضها وهي تضيف:
- لو نظرت في هاتفك ستجد اتصالا مني قبل دخولي
الحضيرة. اتصلت لأخبرك بما حدث لكنك لم تجب فهرعت
لإنقاذ الجياد.
خفض بصره وغدت الكلمات عصيّة عليه وسط الصراع
الدائر في نفسه بين خوفه عليها وندمه على ثورته عليها بين رغبته بإبداء الحدّة والجفاء نحوها ليضع حدّا لنفسه قبلها كي لا يتمادى بمشاعره تجاهها فيؤذيها
ويؤذي نفسه.
وكأن ذلك أمرٌ يمكن التحكم به والسيطرة عليه!
أخفت سامية ابتسامتها وهي توزع نظراتها بينهما وذاكرتها تعيد حدة شهم وعدم سماعه سهر لتوضح له سبب تأخرها في القدوم في اليوم الأول الذي قدمت به الى المزرعة لكن شتان بين حالما ذلك اليوم وحالهما الآن!
دخل شهم غرفته فقالت سامية لسهر:
- اذهبي لتأخذي حماما وترتاحي قليلا يا ابنتي.
كانت سهر في حوض الاستحمام، تنظف جسدها وهي شاردة النظرات مشغولة البال بذكرى ذلك الموقف وتلك
النظرات واللمسات التي أفصحت عن حب شهم لها بما لا يقبل الشك.
لامست خدّها حيث وضع كفّه ثم لامست من ظهرها
المكان الذي استقرت عليه ذراعه حتى
شعرت بحرارتها من خلف ثيابها. وفي ذلك المكان من ظهرها، ذكرى أخرى قديمة مختلفة. ذكرى بشعة لسياط انهالت عليها لأكثر من مرة. تنهدت بحرقة ألم وخوف وهي تتذكر أنها عاهدت نفسها على إخبار شهم وسامية عن ماضيها.
كان شهم هو الآخر يتذكره لكن مع تخبط المشاعر بين إحساسه بالذنب تجاه حبيبة راحلة من سنوات وبين شوق لأخرى اقتحمت عالمه منذ أشهر فملكت قلبه.
فكر وهو غاضب من نفسه:
"بماذا تختلف سهر عن باقي النساء حتى أقع بحبها وأنظر لها كامرأة لا كإنسانة بخلاف نظرتي لباقي النساء؟ كيف وقعت بحبها وخنت حبيبتي وزوجتي؟ أنا آسف نجوى، سامحيني.
كانت مشاعري أكبر من وفائي، وقلبي
الذي عاهدك على الحب مدى الحياة خان العهد. لم أقصد الوقوع في حبها ولا أعرف كيف تسلل ذلك الشعور اليّ!"
دخل سيف غرفة سهر تلك الليلة وهو يستأذن:
- هل يمكن أن أنام قربك الليلة؟ كلما أفكر بأنك كنت في الحضيرة وسط النار أخاف كثيرًا.
فتحت ذراعيها له فأسرع بدس جسده في حضنها وهو يقول بصوت مرتجف وعقله يعقد مقارنة مرّت في رأس أبيه أيضا بين فقدان والدته التي لم يره يومًا وفقدان سهر التي صارت كأمٍ له: - لا أريد أن تفارقيني.
أدركت سهر مخاوفه التي لم يقلها صراحة فضمته أكثر وهي تهمس مداعبة شعره:
- لن تفقدني إن شاء الله. لن أفارقك.
كانت لها مخاوفها هي الأخرى وهي تفكر بردّ فعل شهم
حين تحدثه عن ماضيها، تلك المخاوف التي تدفعها مرارا لتأجيل مصارحته وسامية بالأمر.
🚫 🚫 🚫
أوقف سالم السيارة صباحًا أمام المرآب في المزرعة بعدما أحضر نعيم من منزله كالعادة بالسيارة التي تبقى كل ليلة معه في منزله. أما سيارة شهم الخاصة فتبقى في المزرعة في حال حدوث طارئ. أسرع الاثنان نحو الحضيرة والدهشة تعلو وجهيهما حين شاهدا آثار الحريق ثم هرعا الى المنزل للاطمئنان على ساكنيه.
طرق سالم الباب بينما كان نعيم مشغولا بما سيقول ولم
يفق من شروده حتى فتحت أم رائد الباب فقال سالم
لينبهه: - هيا لندخل!
في طريقهما الى الصالة، صادفا سهر التي خرجت للتو من
غرفتها بعد ليلة هانئة مع أنها لم تنم منها إلا القليل فقد تعاون الابن والأب على سلب النوم من عينيها.
جعلها الابن تستيقظ أكثر من مرة لتضمه بقوة وهو نائم بجانبها كي تنعم بمشاعر المحبة والدفء والاطمئنان التي تشعر بها كلما ضمته الى صدرها أما الأب فكان يُقلِق بعض ذلك الاطمئنان حين تفكر باعتكافه في غرفته منذ دخلها بعد الحريق.
ألقت سهر التحية على نعيم وسالم وانضمت إليهما ليدخلوا الصالة معًا.
نظرة جمعت شوقا وبقايا شعور بالذنب وجهها شهم نحو سهر
حين تلاقت نظراتهما لتقابلها بأخرى تعكس الحب
والرجاء. لو أن أحدًا أخبرها قبل أشهر
أنها سترجو حب رجل وتبحث عنه في نظرات عينيه لاتهمته بالعته، ولو أن أحد أخبره بأن قلبه سيخفق ثانية لامرأة لكان هاجمه لنيله من وفائه وتجاوزه أكبر خطوطه الحمراء.
هذا هو الحب! مع كل مخاوفها وأحزانه وإصرارهما على اعتزال الحياة، أبى إلا أن يخضعهما لسلطانه مخترقا دفاعاتهما كأقوى مقاتل عرفه التاريخ.
بعدما حمد سالم ونعيم السلامة للجميع، سأل سالم عن تفاصيل ما حدث فأخبرته سهر ببعضه وسرد شهم الجزء الآخر. تساءل سالم مستغربا:
- كيف يمكن أن ينشب الحريق فجأة هكذا؟ لا يوجد في
الحضيرة بل في المزرعة كلها ما يمكن أن يحدث شرارة
حريق.
قالت سامية: - ونحن أيضًا نتساءل باستغراب منذ أمس عن ذلك يا ولدي.
قال نعيم أخيرًا بصوت خفيض وهو ينكس رأسه:
- سامحوني فقد كان إهمالي السبب.
اتجهت نظرات الدهشة في عيني الجميع نحوه فأكمل دون أن يرفع رأسه:
- كنت أدخن حين تعرضت لنوبة السعال فسقطت لفافة التبغ من يدي. نسيت ذلك حين ساءت حالتي ثم خرجت بمساعدة سهر من الحضيرة. لا بد أنها سبب الحريق.
رمقه الجميع بنظرات حنق، يلومونه على إهماله وعلت سحابة الغضب ملامح شهم وهتف متسائلا:
- ألا يحلو لك التدخين إلا في مكان مليء بالقش؟ ألم
أحذرك من التدخين داخل الحضيرة؟
قال نعيم بخجل: - معك حق. أعتذر كثيرًا.
عاد شهم يهتف بحنق: - اعتذر ممن كانت ستخسر حياتها لو سقطت وسط النيران اختناقًا دون أن ندرك وجودها هناك! اعتذر من سهر التي جازفت بحياتها كي تنقذ الجياد التي تحت مسؤوليتك والتي كدت تقتلها بإهمالك!
شعرت سهر بالحزن على نعيم الذي شحب اللون في وجهه بسبب الحرج والشعور بالذنب فقالت:
- اهدأ، أبا سيف. المهم أننا بخير ولم..
قاطعها بحنق وقد عاوده الشعور بالضيق وهو يتذكر خوفه من فقدانها، ذلك الهاجس الذي صار يراوده حول كل من يحب منذ فقد نجوى:
- كيف أهدأ وقد عرضنا للخطر بسبب إهماله؟ نحن في
مزرعة وأقل حريق قد يؤدي الى كارثة.
لولا لطف الله بنا لانتشرت النار في كل مكان.
قال نعيم وهو يدرك ما تسبب: - أنا مستعد لفعل ما تريد يا أبا سيف. إن أردت فسأترك العمل حالاً.
اعترضت سامية:
- كلا يا ولدي! أنت معنا منذ سنوات، هل نتخلى عنك من أول غلطة مهما كانت كبيرة؟
تنفس شهم بعمق ليهدأ وقد عزّ عليه هو الأخر التفريط بنعيم ثم قال: - لن تُدخِل علبة التبغ الى المزرعة ثانية.
تهلل وجه نعيم وهو يقول: - لن أضع لفافة تبغ في فمي ثانية يا أبا سيف. ما حدث كان درسًا لي.
اقترب وهو يضيف بامتنان:
- شكرا لأنك منحتني فرصة أخرى.
اشار بيده وهو يقول: - أمامك عمل طويل.
يجب أن ترمم ما أتلف من الحضيرة. افعل ما يلزم لذلك.
أومأ نعيم وشكر شهم والجميع ثم خرج وسالم الى العمل.
على مائدة الفطور، قال شهم بعدما سعلت سهر لأكثر من مرة: - استعدي كي آخذك الى الطبيب.
رمقته سهر وسامية باستغراب فقال مبررًا وهو يهرب بنظراته: - لا يستطيع سالم أخذك لأنه سينشغل بالعمل مع نعيم على ترميم الحضيرة.
كتمت ابتسامتها وهي تقول: - لا داعي لذلك، أبا سيف فأنا بخير.
- نعم، بخير! بدليل أنك كنت تسعلين ليلا.
هذه المرة تمردت عليها ابتسامتها فلم تستطع كبحها وهي تسمعه يقول تلك الكلمات بامتعاض، رافعا حاجبيه وفي
عينيه نظرة تعاتب استصغارها المشاكل
الصحية التي قد تنتج عن اختناقها بالدخان أمس.
حصرت سامية نظراتها في صحنها مجنبة ولدها الإحراج وهي تفكر بسرور "أخيرًا استطاعت هذه الشجاعة كسر قوقعتك!"
مرة أخرى تجلس قربه على المقعد الأمامي للسيارة، مرة أخرى يخرجان من المزرعة بسيارته الخاصة. الفرق هذه المرة أنهما وحيدان فلم تذهب معهما سامية وأقنعت سيف بعدم الذهاب معهما بحجة الاهتمام معًا بالجياد بما أن نعيم سيكون مشغولا بترميم الحضيرة مع سالم.
اضطراب وسرور سيطر على الاثنين طوال الطريق من المزرعة الى مركز المدينة حيث عيادة الطبيب المختص بالأمراض الصدرية الذي أخذها إليه.
أما نظرات شهم فكانت أقل تحفظًا فقد
ضاقت عيناه ذرعا بالحصار الذي فرضه عليهما وملّ شوقه من الإقامة الجبرية التي حكم عليه بها.
كان قلبها يخفق كلما لمحت إحدى تلك النظرات التي باحت بحبه لها.
حين أخبر الطبيب سهر بعد الفحص أن الدخان سبب لها تهيجا في المجاري التنفسية وذلك ما سبب نوبات السعال وضيق التنفس، رمقه شهم بقلق فاق قلقها فطمأنه الطبيب بابتسامة:
- لا تقلق هكذا! ستتحسن بعد يومين ويختفي السعال. (أضاف مازحا) احرص على راحتها لتشفى سريعا ما دمت تخاف عليها هكذا.
لم يتجرأ شهم على النظر في عيني سهر التي علت
الابتسامة وجهها وخفق قلبها بسبب آثار
حبه التي صارت تنعكس على تصرفاته العفوية.
حين أوقف شهم السيارة أمام باب المنزل عند عودتهما، قالت سهر بنظرة ممتنة وقلب خافق وهي تنظر لشهم:
- شكرا لأنك أخذتني الى الطبيب.
تزاحمت الكلمات في صدره وهو يفكر بمكانتها الكبيرة في قلبه ومع أنها لم تخر من فمه إلا أنها انعكست في نظراته التي جعلت قلب سهر يغصّ بالحب كما قلبه.
كان شهم أول من انسحب من احتدام النظرات ذاك حين قال قبل أن ينزل مسرعا من السيارة:
- سأرى العمال في الحضيرة.
أومأت وتبعته وعلى وجهها ابتسامة عنيدة تأبى إلا إقامة الأفراح.
كان سيف واقفا قرب الحضيرة، يتابع عمل
سالم ونعيم وعاملين آخرين أحضرهما الأخير لترميم الحضيرة. ابتسم حال رؤيتهما يتقدمان نحوه ثم قال بحماس:
- يقول العم نعيم أن الحضيرة ستعود كما كانت.
لامس شهم شعر ولده وهو يقول: - ستعود إن شاء الله.
أخفت سهر ابتسامة ماكرة مشاكسة وهي تنظر صوب سيف وتقول له قاصدة غيره ومتمنية لو كان باستطاعتها مناداته بتلك الكلمة:
- بعض الأشياء تعود مثل ما كانت وبعضها من الصعب أن تعود لسابق عهدها بعد تَغَيُّرها يا حبيبي.
نبضة عنيفة احتلت قلب شهم الذي نبّأه أن الكلمة الأخيرة له لا لولده.
متى سيحسم أمره؟ ماذا ينتظر بعدما تأكد كلاهما من أنهما
يكنّان نفس المشاعر لبعضهما؟ سؤال دار
في خلد كليهما وهما يتبادلان نظرة خاطفة باحت بالكثير.
🚫 🚫 🚫
دخل مازن المزرعة بسيارته والى يمينه والدته سلمى، جالسة على المقعد الأمامي. سألها مستغربا وحانقا:
- ها قد وصلنا الى المزرعة! ألن تخبريني ما الذي يحدث؟ لماذا ترفضين إخباري بالسر وراء مجيئنا الى هنا على عجل هكذا والسبب في هذا الغضب الذي يعلو ملامحك منذ تلقيت آخر اتصال هاتفي؟
- ستعرف حالاً!
قالتها سلمى وهي تفتح باب السيارة حالما توقفت.
كان سيف يلعب مع حصانه حين لمح سيارة خاله مازن
فركض نحوها ثم أسرع بمعانقة جدته وخاله والسرور يملأ
قلبه بسبب هذه الزيارة المفاجئة.
دخل الثلاثة الى الصالة فتفاجأت سامية وشهم ونهضا وعلى وجههما ابتسامة سرور وعلى شفتيهما كلمات الترحيب. تبادلا العناق مع مازن ثم عانقتهما سلمى على عجل وهي مضطربة، ملامحها تعكس الغضب وتجهم وجهها يوحي بأن وراء قدومها المفاجئ سوءًا. تلفتت وهي تقول بحنق زاد من قلق شهم وسامية وأثار استغرابهما:
- مالي لا أرى عزيزتكما سهر؟ أين هي؟
أجابت سامية وهي تتفرس في وجه شقيقتها علّها تعرف منها ما تخفيه خلف ذلك الغضب:
- في غرفتها. ماذا يحدث، سلمى؟ قدومك المفاجئ وراءه أمر خطير كما يبدو على ملامحك.
هتفت سلمى بحنق وهي تقترب من
مدخل الصالة ناحية غرفة سهر: - ما حدث أنكما
تعرضتما لأكبر خداع واستغلال في حياتكما.
قطب الاثنان جبينهما وكذلك مازن فقالت له سلمى:
- خذ سيف الى الخارج ولا تعُد حتى أخبرك. لا أريد لحفيدي أن يتعرض لصدمة.
سألها مازن بامتعاض: - ما بالك اليوم تتكلمين بالألغاز، أمي؟ ماذا يحدث؟
وسألتها سامية بانزعاج: - أخبرينا الأمر بوضوح! ماذا هناك؟
أشارت سلمى لولدها بحزم لينفذ ما طلبت منه وحال خروجه من المنزل، راحت تنادي سهر بصوت عالٍ وحازم: - أين أنت يا سهر؟ تعالي!
خرجت سهر مسرعة وهي تستغرب مناداة سلمى لها بتلك
الطريقة. دخلت الصالة وهي تقول
بصوت عكس اضطرابها: - مرحبًا.
قالت سلمى بسخرية قاسية وهي تفتح ذراعيها:
- أخيرا جئت يا خريجة السجون!
شحب وجه سهر وصار بلون الليمون وضاق صدرها بغصة ألم وخوف وهي تنقل نظراتها الوجلة بين سامية وشهم. تمسكت بالأريكة القريبة منها واستندت إليها وهي تتساءل في نفسها عن الطريقة التي عرفت بها سلمى سرّها بينما وجه لها شهم ثم لخالته نظرة استفهام.
أما سامية فسألت شقيقتها بامتعاض بعدما وجهت نظرة سريعة نحو سهر التي هربت بعينيها منها ومن شهم:
- ماذا تقولين؟ من أين أتيت بهذا الكلام؟
رفعت سلمى حاجبيها وهي تنظر في عيني سهر وتقول
بسخرية وحنق:
- أخبريهما! أم أن الخوف ألجم لسانك؟
لم تنبس سهر ببنت شفة ولم تجرؤ على رفع عينيها كي لا ترى ما خشيت رؤيته في عيني شهم وسامية.
قالت سلمى وهي تشعر بالغضب على سهر والرضا عن نفسها لأنها كشفت خداع المرأة التي أخذت مكانة ابنتها في قلب شهم: - اسمعا أيها الغافلان عن حقيقة الأفعى التي أدخلتماها منزلكما وجعلتما حفيدي تحت رعايتها، اسمعا ما عرفته عنها! هذه التي تدعي البراءة قضت ست سنوات في السجن.
قالت سامية راجية أن تكشف سهر عن سوء فهم سلمى فهي لم تصدق أن ما قالته عن سهر حقيقة:
- سهر، أوضحي لنا الأمر!
وهمس شهم بصوت زاد شجنه وهو ينظر
صوب رأس سهر المنكس: - سهر، تكلمي!
بدأت أنفاس سهر تضيق وهي تسمع مطالبة سامية وشهم لها بالكلام والتوضيح. أي توضيح وشرح يطلبانها به وهي غير قادرة حتى على أخذ أنفاسها إلا بصعوبة؟
ألجم لسانها الخوف من فقدان مكانتها في قلبيهما فظلت صامتة والشعور بالقهر والظلم يعاودها بسبب قسوة سلمى
ليذكرها بكل ما تعرضت له منذ تلك الليلة المشؤومة.
أغمضت عينيها ففاضت دموعها ولم تجرؤ على الإتيان بحركة.
سرت غصة ألم وحرقة غضب في صدر شهم وجلست
سامية على الأريكة وهي تشعر بالصدمة والخيبة بسبب
خيانة سهر لثقتها وإخفائها أمرا كهذا عنها.
سهر التي دخلت قلبها ورجت أن تكون
شمعة مضيئة في عتمة أيام ولدها كما كانت منارة قادت حفيدها نحو برّ الامان. سألتها بصوت خافت مهتز:
- كيف أخفيت عنا أمرًا كهذا كل هذه المدة؟ كيف خنت ثقتنا بك؟ ربما كنا في البداية مجرد أرباب عمل مؤقت بالنسبة لك لكن لماذا لم تخبرينا بعدما صرت واحدة منا لا مجرد موظفة تعمل لدينا؟
همست سهر بصعوبة وهي تحاول السيطرة على دموعها:
- لم أستطع! عزمت على إخباركما منذ مدة لكنني في كل مرة كنت أخاف وأسوّف.
أخذت شهيقا بصعوبة وأكملت بصوت مرتجف:
- خفت من رؤية النظرات التي أراها في عينيكما الآن.
خفت من اتهامي بالغدر الذي سمعته للتو في كلماتك.
خفت من ابتعادي عن سيف. الله وحده
عالم بالصراع الذي عشته مع خوفي وشعوري بالذنب.
لم تجد الكلمات الى فم شهم طريقها ووقف ينظر صوبها بقلب مصدق للصراع الذي عاشته بين ضميرها وخوفها وعقل عاجز عن تقبل تبريرها كتمان أمر كهذا عنه.
استمرت سلمى بكشف الحقائق وهي تمعن في الضغط
على جراح سهر المخفية التي تفتح مع أي ذكرى
للماضي الأليم:
- لقد تأكدت من الأمر بنفسي من العاملين في المستشفى الذي كانت تعمل فيه. لقد سجنت لأنها قتلت ابن زوج أمها.
رفّ جفنا شهم وهو يتأمل وجهها الذي كانت تشيح به
عنه وعن سامية. كان ممزق المشاعر بين حبه لسهر
وصدمته بما سمع عنها. أيعقل أن التي
زرعت الحياة في روحه وروح ولده تقتل فتسلب شخصا حياته؟ لكنها لم تنكر! لحظة خاطفة جمعت عينيهما ليرى الخجل والندم وترى الخيبة والحنق.
سألت سلمى بغضب وصوت حاد زاد من اضطراب سهرها وتشنج أعصابها: - كيف استطعت خداع الناس الذين وثقوا بك وائتمنوك على أغلى ما لديهم؟ لكن لما العجب ما دام الغدر من طبعك أيتها القاتلة؟!
عندها انفجرت سهر بكل ما تراكم في نفسها من ظلم وقهر
وقلة حيلة لتصرخ مقاطعة سلمى: - نعم قتلته!

نهاية الفصل الثامن


الاء العزاوي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 23-09-20, 06:09 PM   #10

الاء العزاوي
 
الصورة الرمزية الاء العزاوي

? العضوٌ??? » 476431
?  التسِجيلٌ » Aug 2020
? مشَارَ?اتْي » 15
?  نُقآطِيْ » الاء العزاوي is on a distinguished road
افتراضي

الفصل التاسع

سألت سلمى بغضب وصوت حاد زاد من اضطراب سهرها وتشنج أعصابها: - كيف استطعت خداع الناس الذين وثقوا بك وائتمنوك على أغلى ما لديهم؟ لكن لما العجب ما دام الغدر من طبعك أيتها القاتلة؟!
عندها انفجرت سهر بكل ما تراكم في نفسها من ظلم وقهر وقلة حيلة لتصرخ مقاطعة سلمى: - نعم قتلته!
حدق شهم وسامية بها فأضافت محدثة سلمى وعيناها خائفتان من أن تلتقيا بعيني شهم أو سامية:
- قتلته دون قصد لأنقذ نفسي فعوقبتُ على دفاعي
عن شرفي. صرت الجانية وأنا المجني عليها من قبل عديم
الشرف ذاك. صرت عديمة الاخلاق التي غررت بالمجني
عليه ثم قتلَته!
رمقها شهم وهو يفكر ببعض ارتياح "كنت أعرف أنها غير قادرة على سلب أي روح عمدًا. هي تقتل؟ مع كل رقتها والرحمة التي تفيض من تصرفاتها؟ لا يمكن"
أخذت أنفاسا متسارعة عميقة وهي تصارع اضطراب جسدها ثم أضافت بنظرة ازدراء لسلمى:
- وها أنت من جديد تذكرينني بكل معتوه في هذا المجتمع المريض، يحكم على الناس كما شاء له الهوى دون أن يعرف شيئا عن الأمر.
أخيرًا تجرأت ونظرت صوب شهم وسامية وهي تقول:
- أي امرأة في.. في موقفي كانت ستفعل الشيء نفسه. ما فعلته مدعاة فخر جعله مجتمعكم المريض مدعاة خزي.
ضاقت أنفاسها أكثر وارتجف جسدها فاقترب شهم خطوة
منها وهو موقن بأنها ستنهار كما حدث
في المرة السابقة يوم حاسبته على قسوته على سيف
لكنها أسرعت الى غرفتها لتأخذ دواءها المهدئ وتقفل عليها الباب فآخر ما تريده هو السقوط مغشيا عليها أمامهم.
ظلت سلمى تحدق بوجه شهم الذي عكس خوفه على سهر رغم غضبه منها. غلى الدم في عروقها غضبا كتمته وهي تسأله:
- ستطردها بعد الذي عرفته عنها، أليس كذلك؟
التفت شهم نحوها ولم ينطق بكلمة ثم دخل غرفته ورأسه يعج بالأفكار المتضاربة بين خيبة وغضب من سهر وحزن وقلق عليها.
جلست قرب سامية وهي تقول: - يجب أن تطرديها بعدما خانت ثقتك فيها!
رمقتها سامية وفكرها مشوش وقالت:
- لا أعرف ما أفعل الآن. سأرى فيما بعد.
تغضن وجه سلمى بسبب ردّ فعل شهم وسامية الذي
لم يكن بمستوى توقعاتها وأصرت بصوت عكس انزعاجها: - وهل هناك تصرف آخر يمكن أن فعلاه مع قاتلة مثلها؟
قبل أن تعلق سامية، سمعتا صوت سيف ومازن وهما يتقدمان ليدخلا الصالة بعدها.
بعدما تناولت سهر حبة الدواء المهدئ وتمددت قليلا، نهضت لتسرع بجمع ثيابها وأغراضها ثم خرجت وهي تجرّ حقيبتيها الكبيرتين بصعوبة، متجهة الى سالم الذي نهض حالما رآها بتلك الحالة.
- ما بك سهر؟ هل أنت بخير؟
أومأت إيجابا وهي تقول على عجل:
- أريد أن تقلني فورًا الى مرآب السيارات دون أن يعرف أحد.
سألها مجددًا وهو يدرك أن أمرًا خطيرًا أصابها:
- أخبريني، ماذا حدث؟ لست بخير!
تنهدت بنفاذ صبر وقالت: - هل ستوصلني أم أخرج من المزرعة سيرًا وأبحث عن سيارة أجرة تقلني؟
أسرع سالم بالسير نحو السيارة وهو يقول:
- سأوصلك لكن اهدئي!
تأملت سهر المزرعة وقلبها يكتوي بجمرة الحزن بينما كان سالم ينطلق بالسيارة نحو الباب الخارجي. ندم وحزن سيطر على سهر وهي تفكر بعواقب تسويفها قول الحقيقة. لو أنها أخبرت سامية وشهم بماضيها قبل أن تفجره سلمى
كقنبلة في وجهيهما لربما اختلف ردّ
فعلهما. لربما سمعا منها ومنحاها العذر بدل أن تخبرها
كلماتهما ونظراتهما بقسوة خيانتها لثقتهما. تساقطت دموعها وهي تتذكر نظرات شهم وعجزه عن قول كلمة واحدة بعد الذي سمعه.
"هل يكفي حبه لمسامحتي وإعادة ثقته بي؟" فكرت سهر وهي تنظر الى إحدى صور شهم وسيف في هاتفها.
"آه من الحزن وألم الفراق الذي ينتظرني في بعدي عن سيف! كيف سأتحمل مفارقته هو الآخر؟ ليتني استمعت لصوت عقلي وأخبرت شهم أو الخالة سامية الحقيقة في الوقت المناسب!"
🚫 🚫 🚫
بعدما عاد سالم الى المزرعة، لم يستطع الصمت فاستأذن
ليرى شهم ويخبره بمغادرة سهر المفاجئة
دون علم أحد. كانت سلمى حينها جالسة قرب مازن، تشرح له سبب مجيئهما الى المزرعة بعدما ألحَّ عليها كثيرا
كي تخبره بسبب تصرفاتها الغريبة وكانت سامية مشغولة الفكر وهي تداعب رأس سيف على حضنها حيث غفى لشدة تعبه بعد لعبه مع مازن.
أما شهم فلم يخرج من غرفته وظل حبيس جدرانها وأفكاره المشتتة. قلبه يطالبه بالذهاب الى غرفتها للاطمئنان عليها وعقله يدعوه الى التأني والتصرف معها بما يتناسب مع خيانتها ثقته وحبه.
دخلت أم رائد الصالة لتخبر سامية أن سالم يريد التحدث
الى شهم فأذنت له بالدخول ونادت شهم ليخرج من غرفته. تلعثم سالم وهو يخبر شهم بما حدث فهو يعرف
مدى غضبه حين يخفي أحدا شيئًا عنه.
- في الحقيقة، لم أرد فعل شيء دون علمك، أبا سيف
لكن..
هتف شهم بانزعاج وهو يفرغ بعض غضبه في سالم رغما عنه: - ما بال الجميع يفعل أشياء دون علمي ويخفي أشياء عني؟ ماذا هناك؟
أجاب وهو ينقل نظراته بين سامية وشهم:
- غادرت سهر المزرعة متجهة الى بغداد.
غصة ألم اجتاحت قلب شهم وهو يحدق بسالم بغضب ويقول: - ماذا تعني؟ كيف غادرت؟
أجاب سالم مطأطئ الرأس: - أخذت حقيبتيها وطلبت مني إيصالها الى مرآب السيارات دون أن أخبركم.
أطل الغضب من عيني شهم وهو يقول:
- وفعلت ما أرادت دون أن تخبرنا!
برر سالم: - لقد أصرت على طلبها.
عاد شهم ليهتف بصوت غاضب: - وأوصلتها الى المرآب في هذا الوقت لتسافر وحدها! اذهب من أمامي الآن.
أسرع شهم الى غرفته وأخذ مفتاح سيارته الخاصة ثم خرج مسرعا فسألته سلمى بحنق: - الى أين ستذهب؟
أجاب وهو يرى الغضب في عيني خالته:
- لقد غابت الشمس وسيحل الليل. كيف أترك امرأة
خرجت من منزلي تسافر تلك المسافة الطويلة وحدها في هذا الوقت؟
سألته سلمى بحدة وهي تضيق عينيها:
- هل ستعيدها لتبقى هنا حتى الصباح؟ أم أنك ستذهب لتتوسل إليها كي تعود الى هنا وتنسون ما حدث؟
قطب جبينه وهو يفطن لتلميح خالته التي
لم تكتفِ بالتلميح فقط بل استرسلت وقد أفقدها
الغضب السيطرة على أعصابها:
- أهذا هو شهم الذي ظل وفيًا لنجوى كل تلك السنوات؟ ماذا فعلت لك تلك القاتلة كي تنسى زوجتك لأجلها؟
اهتز جفنا شهم حين ضغطت خالته على نقطة ضعفه
وعاد الشعور بالذنب يطرق باب قلبه وضميره.
أفاقت سامية من تشوش مشاعرها وأفكارها وهبّت مدافعة عن ولدها بغض النظر عمّا فعلته سهر فرمقت شقيقتها بحنق وهي تبعد رأس سيف عن حضنها بلطف لتنهض وتقول:
- هذا إذن سبب تحرياتك عن ماضي سهر! هذا سبب
كشفك لها أمامنا. لم يكن السبب خوفك
علينا وعلى سيف من امرأة قتلت فدخلت السجن. السبب الحقيقي هو رغبتك بإبعاد شهم عن سهر بعدما شعرتِ بميله نحوها. السبب أن أنانيتك لم تتحمل أن يبدأ شهم حياته من جديد. ألم تكف تلك السنوات التسع التي قاطع فيها الحياة والناس؟ هل يجب أن يقضي باقي حياته منسوبًا الى الأحياء وهو ميت القلب والمشاعر؟
هتفت سلمى وهي ترمق شقيقتها بغيظ:
- وكأن التي ماتت لم تكن ابنة أختك!
هتفت سامية بنفاذ صبر: - قلتها بنفسك، ماتت! ماتت منذ تسع سنوات تقريبا فمات قلب ولدي معها. ألا يحق له بعد سنوات الوفاء تلك أن يعود للحياة؟
استيقظ سيف من نومه وسألهم بقلق: - لماذا تصرخون؟
أسرعت سامية بالقول:
- لا تخف حبيبي. كنا نتحدث بصوت عالٍ أنا وجدتك.
قال مازن وهو يتقدم نحو شهم الذي كان غائبا في أفكار الماضي التي عادت تقتحم رأسه وتجلده دون رحمة:
- شهم، هيا لنأخذ سيف في جولة بالسيارة.
لم يجب شهم فجذب مازن ذراعه وهو يقول لسيف
بابتسامة أراد لها زرع الطمأنينة في نفسه:
- هيا سيف! سنذهب الى المدينة.
رفض شهم: - لا أستطيع القدوم!
همس له مازن بحزم: - ولدك خائف. دعنا نبعده عن هذا التوتر، ودعك مما قالته أمي. لو كنت أعرف نيتها لما أحضرتها الى هنا.
رمقه شهم باستغراب فقال: - بغض النظر عما فعلته
سهر، وإن كنت ستسامحها أم لا فقد
كشفتها أمي أمامك لمنعك من التقرب منها أكثر وليس خوفا منها عليكما أنت وسيف. لا يحق لها محاولة منعك من أن تحب من جديد وتؤسس عائلة.
من نظرات مازن، عرفت سلمى أنه في صف شهم وسامية فقالت بحنق: - هيا لنغادر مازن! لن أبقى هنا.
وكي لا تسمح له بالاعتراض، خرجت مسرعة من المنزل فاضطر للخروج خلفها وهو يعتذر من شهم وخالته سامية عمّا فعلته والدته.
جلست سامية وشهم ليلا في غرفته بعدما طلبت من أم رائد الاهتمام بسيف وإبعاده عنهما بحجة تناوله العشاء.
ربتت سامية على كفّ شهم وقالت:
- لا تدع كلمات خالتك تشعرك بالذنب. ليست مواصلة
الحياة بعد فقدان من نحب ذنبا، ولا تعني
أننا نسيناهم. هل نسيت والدك لأني لم أحبس نفسي في عالم خاص بعد وفاته؟ وهل سلمى التي تطالبك بعدم عيش الحياة بعد نجوى أقفلت على نفسها الدنيا بعد وفاة زوجها؟ الموت قدر الله ولا نملك سوى التسليم له وعدم الاعتراض يا ولدي. لقد سجنت نفسك هنا واعتزلت العالم سنوات طوال وكأنك معترض على قدرك. لا تعد لتلك الظلمة ثانية!
قلبه العاشق وروحه التي أتعبها الشعور بالذنب منذ بدأت
نبضاته تختل بوجود سهر وعقله الذي تعب من التخبط بين أفكاره المشوشة، كلها جعلته يرتاح لكلام والدته ويجد فيه السبيل الآمن بين سبله المشتتة فنظر في عينيها واستمد من نظراتها الحانية بعض الطمأنينة لكن الأفكار
أخذته من جديد نحو ما فعلته سهر.
هل يستطيع مسامحتها بعدما أخفت عنه أمرًا مهما كالذي أخفته وكذبت عليه كل تلك الفترة؟
عاد للنظر الى والدته وهو يتساءل بجملة واحدة لم يستطع إيجاد غيرها: - وما فعلته سهر؟
حسرة طويلة أطلقتها سامية ثم قالت بعدها:
- بخصوص سبب دخولها السجن، أي امرأة تريد صون
نفسها ستفعل ما فعلته سهر. ماذا يمكن أن تفعل لمن حاول سلبها شرفها؟
تغيرت ملامحها الى الغضب وهي تضيف:
- ما يغضبني منها هو كذبها علينا وعدم إخبارنا بأمر خطير كهذا. كيف استطاعت فعل ذلك بي حتى بعدما أخبرتها أنني أعتبرها جزءًا من عائلتنا؟
قال شهم وهو شارد النظرات:
- وكيف فعلت ذلك بي حتى بعدما شعرت بمكانتها مني؟
دخل سيف الغرفة مسرعًا وهو يسأل والده وجدته بعينين كشفتا عن خوف وقلق:
- أين خالة سهر؟ سألت عنها خالة أم رائد فأخبرتني أنها غادرت المزرعة.
تبادلت سامية وشهم نظرة مضطربة قبل أن تجيب:
- ذهبت لرؤية عمها مختار وزوجته. لا تقلق.
سألها والخوف في عينيه يعلن عن عدم تصديقه لتبريرها سبب سفر سهر فجأة ودون أن تودعه: - لماذا ذهبت دون أن تودعني؟ هل ستعود كما في المرة السابقة؟
تبادل شهم ووالدته نظرات الحيرة وتساءلت الأخيرة وهي تنهض لتشغله عن الاسترسال في الأسئلة:
- هل تحب سهر لهذا الحد؟ سأغار منها!
رمقها سيف بوجه حزين جعل شهم يهرب خارجا من الغرفة. أما سامية فأخذت سيف الى غرفته وحاولت قدر استطاعتها أن تشغله عن التفكير بسفر سهر.
🚫 🚫 🚫
كيف لقلبه الصغير أن يتحمل بعدها خمسة أيام دون أن يهاتفها ويسمع صوتها خاصة أنها لم تودعه بقبلة ووعد بعودتها سريعا كما في المرة الماضية؟
لم تفلح سامية هذه المرة كالمرات السابقة في إشغال سيف عن السؤال عن سهر والمطالبة بالاتصال بها وهو يمسك الهاتف. زفرت سامية بنفاذ صبر وأخذت هاتفها منه ثم نادت أم رائد. لم يهدأ غضبها على سهر بعد ولم ترغب بالاتصال بها من هاتفها -وإن لم تكلمها- لذا طلبت
من أم رائد أن تتصل بها ليحدثها سيف.
كررت أم رائد الاتصال بسهر عدة مرات لكن هاتفها كان مغلقا.
حين فتحت سهر هاتفها لوقت قصير كعادتها في الأيام الماضية، رأت اتصالات أم رائد فعرفت أن سيف ألح في طلب محادثتها عبر الهاتف. تنهدت وهي تضم الهاتف الى صدرها وعقلها يصور لها حالة القلق التي سيعيشها سيف حين يطول فراقهما. كيف سيتحمل أحدهما مفارقة الآخر وقد أتعبها فراقه منذ الآن؟
أسبوع واحد مرّ عليها لم تر فيه وجهه الصغير ولم تسمع صوت ضحكاته العذبة ولم تضمه الى صدرها وتشم فيه رائحة البراءة التي أدمنها قلبها قبل أنفها.
وماذا عن فراق والده؟ ألم يضن الشوق قلبها لرؤية عينيه
الناعستين وسماع الشجن المميز في صوته؟
ألم تذبل عيناها لكثرة بكائها خوفا من فراق لا يتبعه لقاء؟
أجهشت بالبكاء وراح قلبها يخفق ألمًا ككل مرة تفكر فيما حدث وسيحدث بسبب تسويفها في قول الحقيقة.
🚫 🚫 🚫
طريق بدت غريبة لمن سار فيها آخر مرة منذ سنوات.
ساعاتها كانت ثقيلة وطويلة. كيف لا وقد جمعت ألم الماضي وتخبط الحاضر؟
وقف شهم أخيرًا أمام منزل مختار وطرق الباب بيد مضطربة الحركة كنبضات قلبه. استقبله مختار بابتسامة تناقض نظرات القلق في عينيه فهو يعرف أن شهم لا يأتي الى بغداد إلا لأمر مهم جدًا.
حالما دخل وتبادل التحية مع حياة، سأل شهم دون أن
يجلس: - هل يمكن أن أتحدث مع سهر؟
الخوف الذي رسم ظلاله على وجهي مختار وحياة جعل قلب شهم يغصّ بالذعر. هل حدث لها مكروه؟
سأله مختار بصوت مرتجف بينما حدقت به حياة بنظرات ذعر: - أليست في منزلك؟
تغضن جبينه وهوى قلبه وهو يجيبهما:
- لقد غادرت المزرعة منذ عشرة أيام متجهة إليكما.
سألته حياة بحدة وخفقات قلبها الخائفة على سهر تؤلم صدرها: - ماذا تعني بأنها غادرت منذ عشرة أيام؟
لقد تحدثنا معها أول أمس ولم تخبرنا بشيء كهذا.
سأله مختار بقلق: - هل سافرت مع السائق الذي أوصلها المرة الماضية؟
نكس شهم رأسه وهو يجيب: - عرفت أنها تركت المزرعة
متجهة الى بغداد من سائقي الذي أوصته
بعدم إخبارنا بمغادرتها.
سألته حياة متوجسة وقد ظنت أنه أزعجها لدرجة أن تترك العمل رغم تعلقها الشديد بسيف:
- ماذا حدث لتغادر دون علمك وتترك العمل فجأة؟
جلس شهم حين شعر بوهن في ساقيه ثم أخبرهما بما حدث بشكل مختصر:
- أتت خالتي سلمى الى المزرعة أول أمس ثم نادت سهر وأخبرتنا عن دخولها السجن.
غطت حياة عينيها بكفّها وبدأت دموعها بالنزول وهي تتخيل سهر في ذلك الموقف المحرج ثم هتفت بحنق:
- ألم تخبركما خالتك أنها قتلت ذاك السافل حفاظا على شرفها؟
لم يجب وتساءل بصوت مهتز عكس مشاعره:
- الى اين ذهبت إن لم تأت إليكما؟
أسرع مختار للاتصال بسهر فقال شهم:
- ستجده مغلقًا. لقد اتصلت بها مدبرة منزلي كثيرا لأن سيف أراد محادثتها فكان هاتفها مغلقًا دومًا. لم نشعر بالقلق عليها لأننا ظننا أنها معكما.
تساءلت حياة وهي تشعر بأن الحيرة وقلة الحيلة تخنقها:
- أين ذهبت ابنتي؟ هل عليّ أن أصبر حتى تتصل هي فأسألها؟ كيف سأصبر؟
ربت مختار على يد حياة وقال ليطمئنها مع أن القلق ينهش قلبه: - المهم أنها بخير. ما دامت تتصل بنا باستمرار فهي بخير.
قال شهم وهو ينهض ويخرج هاتفه ليتصل بسالم:
- لن أصبر حتى تتصل!
طلب من سالم الذهاب فورا الى مرآب السيارات والتحقق من السيارة التي سافرت بها سهر الى بغداد ثم أرسل له من هاتفه إحدى صورها مع سيف لتساعد في تعرف السائقين عليها.
بعد انتظار مقيت، اتصل سالم ليؤكد لشهم أن سهر لم
تسافر الى بغداد حسب شهادة من تعرفوا الى صورتها من
العاملين في المرآب. سأله شهم وقد تضاربت مشاعره بين اطمئنان لأنها لم تغادر مدينته ما دامت لم تعد الى بغداد وبين قلق وتساؤل عن المكان الذي يمكن أن تكون فيه: - هل أنت متأكد يا سالم؟
أجاب سالم بصوت قلق هو الآخر: - نعم! لقد ورأوها تغادر المرآب.
التقط نفسا عميقا قبل أن يقول:
- أريدك أن تبحث في فنادق المدينة عنها ريثما أصل.
أغلق الهاتف ليخبر مختار وحياة بما أبلغه به سالم فقال مختار: - أحسنت بأمرك بالبحث عنها. إنها عنيدة ولن تخبرنا بمكانها ما دامت اختارت عدم المجيء إلينا وإخبارنا بما حدث.
اتصلت سامية بشهم وسألته بصوت قلق:
- أين ذهبت سهر ما دامت لم تذهب الى مختار وحياة؟ لقد أخبرني سالم الآن بما حدث.
زفر شهم أنفاسًا حارة دلّت على لوعته وخوفه ثم قال:
- سنجدها إن شاء الله اليوم ما دامت لم تغادر المدينة.
في تلك المدينة الكبيرة، بحث شهم ومختار وحياة فور وصولهم إليها عن سهر في الفنادق التي لم يكمل سالم
البحث فيها. وبعدما نال التعب منهم،
استبشرت وجوههم حين أكد موظف استعلامات أحد الفنادق وجود اسم سهر في قائمة النزلاء.
حالما فتحت سهر باب غرفتها الصغيرة في الفندق، اتسعت عيناها دهشة وهي ترى الثلاثة يرمقونها بعيون تعكس القلق والسرور. رمت نفسها في حضن حياة ورمت همومها التي كتمتها في صدرها منذ يومين حين أجهشت بالبكاء فضمتها حياة بقوة.
تلاقت نظراتها المترقبة بنظرات شهم القلقة التي لم تهدأ برؤيتها إلا قليلا. خفق قلبها قلقا وأملا. هل بحث عنها لأنه سامحها ولم يصبر على بعدها أم أن مختار وحياة عرفا بما حدث فأتيا الى المدينة بحثا عنها وطلبا مساعدته؟
جلست سهر قبالة شهم بين حياة ومختار، الاثنين اللذَين
كانا دوما السند لها بعد فقدانها والدتها ثم
بدأت الحديث:
- حلّ الظلام حين كادت السيارة تنطلق الى بغداد. كنت سأصل في الواحدة صباحًا. خفت أن أقطع ذلك الطريق وحدي فقررت الانتظار حتى الصباح وقضيت الليلة هنا.
الحشرجة في صوتها وهي تقول كلماتها الأخيرة جعلت نبض شهم يضطرب حزنًا عليها في تلك اللحظات التي قضتها وحدها وغضبًا على نفسه لأنه لم يحاول اللحاق بها أو القدوم خلفها إلى بغداد في نفس الليلة.
كان يود فعل ذلك لكنه كان ممزقا بين قلبه وعقله، بين رغبته في الإسراع إليها وإخبارها بأنه يمكن أن يغفر لها أي شيء سوى الابتعاد عنه وبين صوت عقله
الذي طالبه بالتأني كنوع من العقوبة
لأنها أخفت عنه ما لا يجب أن يخفى. وفي النهاية انتصر عقله فانتظر تلك الأيام حتى لحق بها صباح اليوم. ويا لها من عشرة أيام!
أما سهر فقضت تلك الأيام في دوامة من ندم وقلق وشعور بالوحشة والوحدة. دون وجود شهم قربها تكون وحيدة، دون رؤية سيف تكون تائهة.
سألها مختار ليأخذ الاثنين من أفكارهما:
- لماذا لم تأت في الصباح التالي؟
التفتت نحو مختار وأجابت: - شعرت بحاجة للبقاء وحدي. اعذراني لأني سببت لكما القلق لكنني لم أظن انكما ستعرفان بالأمر قبل وصولي المنزل.
قال شهم بحنق: - كنت واثقة أنني لن أتبعك (استدرك)
أعني كي.. أفهم الأمر جيدا منك.
نظرت إليه وهي تقول بصوت خافت:
- أخبرتكما حينها بما يجعلكما تفهما الأمر جيدا.
أشارت حياة لمختار بأن ينهضا ويدعا المجال لسهر وشهم كي يتفاهما فنهضا واستأذنا بالخروج لحجز غرفة قريبة من غرفة سهر كي يقضيا الليلة فيها.
نهض شهم من مكانه ثم جلس قربها فرمقته مستفهمة، تود معرفة موقفه. سألها معاتبا: - ألهذه الدرجة كنت واثقة بأنني لن أتبعك أو على الأقل أتصل كي أسأل عنك؟
حاولت السيطرة على دموعها وهي تقول:
- نظراتك يومها أشعرتني بذلك.
اعترض بانفعال: - كنت حينها متفاجئًا. لم أظن أنك يمكن أن تخفي عني أمرًا كهذا.
شعرت سهر برغبة في التخلص من ذلك
الحمل الثقيل الذي جثم سنوات على صدرها وبالحنق على شهم ظنّا منها أنه مهتم بمعرفة تفاصيل الحادث لذا قالت بمرارة:
- تريد أن تعرف ما حدث؟ استمع إذن ولكن لا تطالبني بالتوقف بعد ذلك!
أخذت شهيقا وبدأت: - بعد وفاة أبي بسنوات، تزوجت أمي رجلا مطلقا له أولاد يعيشون مع والدتهم. قبل عشر سنوات، جاء ولده ليمكث معنا في نفس البيت فترة. كان منفلت الأخلاق لذا حاولت أمي ذات ليلة، ذهبت أمي وزوجها إلى بيت جارتنا التي توفي زوجها وعلا صياحها في الشارع طالبا المساعدة فبقيت وحيدة معه في البيت. كنت جالسة في غرفتي بانتظار عودتها حين اقتحم
غرفتي فجأة.
مسحت دموعها وصمتت لحظات ثم واصلت الحديث قبل أن تخونها شجاعتها: - كان وحشا ثملا.. ضربني وقيدني ومزق ثيابي..
طالبها شهم بالصمت بصوت عكس وجعه وهو يستمع إليها لكنها أكملت وكأنها لم تسمعه:
- صرخت واستنجدت بلا جدوى. كاد يفعل ما أراد لكنني نجحت في تحرير يدي وغرس أظافري في وجهه. صاح ممسكا وجهه فدفعته بقدميّ حينها بقوة فسقط ليرتطم رأسه بحافة طاولة حديدية في الغرفة.
تنهدت بحرقة ومسح شهم دمعة قهر وغضب عن عينيه.
- مات فسجنت ست سنوات. حكموا عليّ بست سنوات
لأنني دافعت عن شرفي، وصار الناس يشككون في
أخلاقي بدل أن يتحدثوا عن انعدام
أخلاقه هو.
أضافت بصوت مرتجف من أثر البكاء:
- بسبب عديم أخلاق لا يملك ذرة إنسانية أو رجولة، قاسيت الضرب والإهانة والذل. وصمني المجتمع بالقاتلة. حرمت من رؤية أمي قبل موتها حزنا وكمدا عليّ. عانيت اكتئابًا وصار يسكنني الخوف عند وجود أي رجل على بعد مترين مني. حُرِّم عليّ العمل لولا عمي مختار.
راحت تنشج ببكاء شديد فلم يستطع شهم سوى أخذها بين ذراعيه بقوة وكأنه يحاول منحها الأمان الذي كانت في أمس الحاجة إليه بعد تلك اللحظات التي أعادتها إلى ماضٍ حاولت دوما نسيانه.
ابتعدت وهي تشعر بمزيج من خجل
وارتباك فقال بلوعة والغضب وقلة الحيلة يجعلان صدره يضيق بالأنفاس: - مثله لا يستحق الحياة! أي امرأة كانت ستقتله دون أن يرف لها جفن لكنك لم تفعليها عمدًا فمثلك لا يمكن أن تجرؤ على سلب حياة إنسان.
لمعت عيناها وبدا الارتياح على وجهها ثم عاد القلق يسكن ملامحها وهي تسأله:
- هل سامحتني الخالة سامية أيضا؟
رفع حاجبيه وهو يجيب: - كان غضبها منك بقدر مكانتك في قلبها لكنه هدأ بسبب افتقادها إياك وشوق سيف الكبير لك. لا ينفك بالمطالبة باللحاق بك الى بغداد بعدما يئس من محادثتك عبر الهاتف.
حزن اعتصر قلبها وهي تفكر بما عاناه سيف بسبب فراقها
وكأن ما عانته هي كان سهلا!
سألته متشككة وهي تنظر في عينيه: - وهل جئت كي تعيدني الى العمل في المزرعة لأجل سيف؟
أمسك كفّيها، يشدّ عليهما بقوة علّه يخفف قليلا من وطأة الشوق في نفسه وهمس والنظرات في عينيه والبحة في
صوته تتسابق مع كلماته لشرح ما عانى في غيابها:
- جئت أعيدك الى حياتي وحياة سيف التي ما عادت محتملة دون وجودك.
أغلقت عينيها لتفيض دموعها تأثُرًا بكلماته فكاد يهمس بحبها لولا أن مختار فتح الباب ودخل وحياة الغرفة.
🚫 🚫 🚫
ربما كان سيف الأكثر سعادة بين الموجودين في القاعة الصغيرة التي أقيم فيها حفل زفاف شهم وسهر، كيف لا
وقد أخبرته جدته سامية أن هذا الزواج
سيجعل سهر أمًا له الى الأبد؟! رقص واستمتع بكل دقيقة في الحفل ثم ودع سهر ووالده ليذهبا الى أحد الفنادق لقضاء الليلة ثم ذهب وجدته سامية وعمّاه الى منزل العائلة.
ارتباك وترقب وشعور غريب انتاب سهر وهي تتطلع الى شهم حين اقترب منها بعدما أقفل باب الغرفة. وكأنه شخص مختلف عن شهم الذي عرفت فنظراته الجريئة التي فضحت شوقه ولهفته لا تمت بصلة لتلك النظرات
المتحفظة التي كان دوما يرمقها بها.
ابتسم شهم وهو ينحني ليأخذ يديها ويجذبها كي تنهض فتصير إليه أقرب. همس وهو يرى اضطرابها وصفرة الخوف في وجهها: - أين تلك الشجاعة التي لم تكن تخشى
مجابهتي بأخطائي؟
مع أنها سابقًا تجاوبت مع لمساته كيوم حريق الحضيرة ويوم ضمّها مواسيا بعدما حدثته عن تلك الليلة المشؤومة، إلا أن الأمر هذه الليلة مختلف. إنها ليلة زفافهما وهو يريد امتلاكها بالكامل.
زاد قربه من خوفها وتساءلت في نفسها إن كانت قادرة على تجاوز مخاوفها بين ذراعي شهم فرغم حبها وشوقها له، ألقت عتمة تلك الليلة البشعة ظلالا سوداء على
عقلها وجسدها الذي اضطرب.
شعر بشدة اضطرابها من أنفاسها التي تعالت فضمها بقوة لتهدأ لكنهها ازدادت خوفا وارتجفت أنفاسها فهمس مطمئنًا:
- لن يحدث ما لا تريدين. سأنتظر حتى تكوني مستعدة.
أجهشت بالبكاء وقالت بصوت مرتجف:
- آسفة لأن عقلي يربط بين اقترابك مني وبين تلك الليلة البشعة. مع كل حبي لك لكني لا أستطيع السيطرة على تلك الأفكار ومنعها.
ترجمت حركات جسده مدى غضبه حين ارتجفت أنفاسه وتقلص فكّاه وقبضتاه اللتان كانتا تضمانها بشوق قبل قليل وهو ينزلهما الى جانبي جسده..

نهاية الفصل التاسع


الاء العزاوي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:18 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.