آخر 10 مشاركات
دجى الهوى (61) -ج1 من سلسلة دجى الهوى- للرائعة: Marah samį [مميزة] *كاملة* (الكاتـب : Märäĥ sämį - )           »          56 - الندم - آن هامبسون - ع.ق (الكاتـب : pink moon - )           »          روايتي الاولى.. اهرب منك اليك ! " مميزة " و " مكتملة " (الكاتـب : قيثارة عشتار - )           »          شيءٌ من الرحيل و بعضٌ من الحنين (الكاتـب : ظِل السحاب - )           »          لا تتحديني (165) للكاتبة: Angela Bissell(ج2 من سلسلة فينسينتي)كاملة+رابط (الكاتـب : Gege86 - )           »          ❤️‍حديث حب❤️‍ للروح ♥️والعقل♥️والقلب (الكاتـب : اسفة - )           »          سحر التميمة (3) *مميزة ومكتملة*.. سلسلة قلوب تحكي (الكاتـب : كاردينيا الغوازي - )           »          رحلة امل *مميزة*,*مكتملة* (الكاتـب : maroska - )           »          السر الغامض (9) للكاتبة: Diana Hamilton *كاملة+روابط* (الكاتـب : بحر الندى - )           »          أُحُبُّكِ مُرْتَعِشَةْ (1) *مميزة & مكتملة * .. سلسلة عِجافُ الهوى (الكاتـب : أمة الله - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

Like Tree1Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 23-12-20, 03:45 AM   #71

شيماء_يوسف

? العضوٌ??? » 474730
?  التسِجيلٌ » Jul 2020
? مشَارَ?اتْي » 61
?  نُقآطِيْ » شيماء_يوسف is on a distinguished road
افتراضي


الفصل السابع والعشرون


"يا وَأَصَلاً بِالمَعانِي، وَهاجِرِيّ فِي الكَلام

مُخاصِمَيْ فِي نَهارَيْيَ، مُصالِحَيْ فِي المَنام

مِن العـــــبوس كَلام، معــناه مَعْنَى ٱِبْتِسام

وَلَن يُغِير جَسَّمَ الوِداد، ثَوْب الخــــــصام ".

-الرافعي.

للحظات تعطلت xxxxب الساعة من حولها وحل الصمت المكان، وكأن الأرض قد توقفت عن الدوران، وابتلع السكون كل شيء ألا من دقات قلبها التي شرعت في الخفقان وكأنه يريد ترك أضلعه والثوران، ثم راحت عينيها تلتهم قسماته في جوع كمن رأى مُغيثه بعدما ضاع في عرض البحر أو الصحراء، ثَوَانٍ معدودة غاصت في تفاصيله وكأنها دهرًا كاملًا، تتأمل هيئته الجديدة في انبهار تام بعد فقدانه القليل من الوزن الأمر الذي أدي إلى بروز قسمات ذراعه أسفل البذلة الكتانية بشكل يخطف الأنفاس، حتى أنه قام بتقصير شعر رأسه والتخلص من جميع خصلاته المنسدلة، وعلى عكس توقعها وجدت نفسها تستحسن ما قام به كثيرًا، خاصةً وقد اختلفت هيئته تمامًا عن توأمه، الأمر الذي بعث بالراحة على روحها، قبل انزلاق عينيها إلى ذقنه والتي شُذبت هي الأخرى بعناية فأضحت الشعيرات البيضاء الصغيرة المنتشرة على طولها أكثر وضوحاً، وأكسبته مظهرًا أَرْبَعِينِيًّا زائفًا لاءمه كثيرًا، ومع كل تلك التغيرات الظاهرية وجدت صعوبة بالغة في الحفاظ على ذراعها بجانب جسدها وعدم رفعها إليه تتلمس عظمة وجنته، مقررًا عقلها التدخل في تلك اللحظة والفصل بين لهفة الوجدان إليه وخيبة أملها به، وتذكيرها بما عانته في الأشهر المنصرمة بسبب غيابه، فسارعت تعنفه في حدة وقد عاد إليها كامل غضبها حتى كحل الغضب عينيها :
-(( أنت بتعمل أيه هنا ؟!.. وفين مدير المكان.. أيه التهريج ده !! )) ..

اتسعت ابتسامته المرحة اللامبالية، متخذًا وقته الكامل في قطع المسافة الضئيلة الفاصلة بينهم ومجيبًا بترو بعدما وقف أمامها وأخذ يطالع ملامحها المتفجرة بحمرة الحنق منه في استمتاع :
-(( المدير قدامك.. أهو )) ..


كان متلذذًا بالموقف ككل، صدمتها، تخبطها، الغيظ الذي بدأ يعتلي ملامحها، كل ذلك قابله بابتسامة ارتياح عابثة، حتى ظن بأنه قد فقد السيطرة على جوانب فمه إذ يستمر في التبسم دون داعٍ، بينما ظلت هي تتراجع للخلف مبتعدة عنه بالقدر الكافي وقائلة في غيظ :
-(( يعنى أيه؟! )) ..

أجابها ببساطة بعد نجاحه في دفع خطواتها عن عمد نحو الحائط حتى يُحكم حصاره من حولها ويمنعها من الهرب :
-(( يعنى أنا صاحب الشركة.. وأنتِ مرات صاحب الشركة اللي المفروض تستلم مكانها )) ..

انزلقت عيناها إلي شفتيه المبتسمتان رغمًا عنها تتابع انفراجهما في قلة حيلة، وعند شعورها بخطورة ما آل إليه وضعهم همست تستجدي تعقله :
-(( طاهر.. لو سمحت.. أبعد خليني أخرج )) ..

أطلق آهة ساخنة من داخل جوفه فور سماعها تهمس اسمه من بين شفتيها المرتعشتين، تمامًا كما حلم بها ليالٍ وأيام، وعلى عكس رغبتها ألتصق بها أكثر حتى كاد جسديهما يلتحمان، بينما تناثرت الكلمات غير المرتبة من فوق شفاها رغم قوتها، تطلب منه في حدة أخفت خلفها الارتباك المحتل كافة خلاياها:
-(( لو فاكر أني هقبل أشتغل معاك بعد التمثيلية العبيطة دي تبقى مجنون.. سبني في حالي وأبعد عني وعن حياتي وشوف حد غيري يمسك شركتك دي.. سامعني )) ..

أبتعد عنها فور ملاحظته ارتفاع وتيرة أنفاسها، يعطيها الحرية الكاملة في التحرك، ورغم ذلك حافظ على مسافة قليلة بينهم حتى يتسنى لعدستيه تشرب كافة ملامحها التي أشتاقها، قائلًا في خبث :
-(( يمكن هتقبلي عشان أنا " الرجل الرمادي" .. الشخص اللي قلبك بينط من مكانه كل ما بتفتكريه .. واللي مش عارفة المشكلة فيه ولا في ساعة أيدك )) ..

شهقت فزعة وقد فرغ فاها متذكرة كلماتها التي يرمي بها في وجهها الآن، ثم تمتمت حانقة وهي ترفع إبهامها في وجهه محذرة، وقد تصاعد الغضب بداخلها من وقاحته الزائدة في التعامل معها منذ رؤيته:
-(( أنت قليل الذوق.. وعلي فكرة مش من الأخلاق أنك تقري كلام حد مادام مسمحلكش تقراه.. ولو سمحت تبعتلي الدفتر بتاعي.. ودلوقتي أبعد عشان أتحرك )) ..

تحرك ملبيًا رغبتها حتى وصل إلى حافة مكتبه وأستند بجسده وكلتا ذراعيه فوقه، قائلًا في هدوء يُحسد عليه :
-(( طلبك الأول بسيط.. بكرة هيكون الدفتر معاكي.. لكن بالنسبة للطلب التاني اسمحي لي أقولك أنه مرفوض )) ..

رفع معصمه ينظر في ساعة يده ثم أردف يقول في عملية:
-(( بعد ساعة ونص من دلوقتي عندنا اجتماع مع وفد صيني ومحتاج حد يترجم لي.. وطبعًا مش هلاقي حد أحسن من مراتي تساعدني.. على فكرة نسيت أقولك أن المكتب هنا تابع "لإيواء".. يعني شغله الأول والأهم لينا وبعدها تيجي طلبات الشركات التانية.. وأنتِ تحديدًا كل شغلك هيكون معايا.. أظن كده أفضل )) ..

ضيقت عينيها فوقه تتفرسه متسائلة في حيرة، متى أكتسب زوجها هذا الكم من الوقاحة والجنون، حركت رأسها في عدم مبالاة وقد قررت إنهاء هذا اللقاء المدمر لخلاياها العصبية، فيبدو أن التحول الذي طرأ عليه ليس ظَاهريًا فقط كما لاحظت في بادئ الأمر، وعندما أوشكت على التحرك نحو باب الخروج، اندفعت الموظفة التي استقبلتها منذ قليل تقتحم الغرفة دون استئذان تتساءل في دلال:
-(( طاهر بيه بفكرك باجتماع الشركة اللي على المفكرة.. تحب أجهز عشان أتحرك معاك ؟! )) ..
تسمرت خطواتها وطفقت تحرك نظراتها بينهم هاتفة في تأهب :
-(( أيه ده بقى ان شاء الله !! )) ..

نظرة ازدراء واضحة مع إشارة من عينيه إلى الموظفة الوقفة أمامه، كانت كفيلة في دفعها إلى الانصراف وغلق الباب ثانيةً من خلفه، بينما استطردت رحمة تستفسر في عصبية زائدة :
-(( وأنت بقي سايب شركتك والدنيا من حواليك وقاعد هنا !!.. وبعدين أنا عايزه اعرف إيه المكان اللي مفيهوش موظف راجل ده !! ))..

رغم السعادة التي غمرته فور رؤيته الغضب الذي كسي ملامحها من تجرأ الموظفة الفج، ألا إنه سرعان ما تلاشاها عند سماعه باقي جملتها فهتف يسأل في تأهب واضح :
-(( وانتِ بتسالي عن رجاله ليه عشان أبقى فاهم ))..

صاحت تجيبه في غيظ :
-(( عشان حضرتك سايـب.. ساي..... )) ..

هتف يحثها على الاستمرار :
-(( أيوة.. سايب إيه بقي؟! )) ..

قالت بعصبيه بعدما لكزته في صدره :
-(( مش مهم سايب إيه.. أنت عارف.. انا ماشية وتولع انت وشركتك دي )) ..

سارع بالتحرك وجذب جسدها نحوه، يمحي بفعلته تلك المسافة التي ابتعدتها عنه، ثم أحكم لف ذراعيه حول خصرها يحاوطها من الخلف، مما أدى إلى التصاق ظهرها بصدره، بينما قاومت هي بكل قوتها تلكمه بمرفقها في فُم معدته مدفوعة بغيظها وغيرتها وتجاهله لها، تحاول بكل طاقتها الخلاص منه والابتعاد عنه حتى شعرت بالاختناق يسدل ستاره حول رئتيها، وما هي إلا ثوانٍ معدودة حتى بدأت مقاومتها له تتلاشي شيءً فشيء ، شعر طاهر بالوهن الذي أصابها ولم يحتج إلى كثيرًا من التخمين لمعرفة سببه خاصةً مع صفير أنفاسها المرتفع، فسارع بالركض نحو مكتبه يُخرج من أحد ادراجه بخاختها الطبية، ثم عاد ودفعها عنوة داخل فمها قبل معاودته إحاطة جسدها يدعم ثقلها متمتًا في ندم حقيقي :
-(( أنا آسف .. حقيقى أسف أني ضايقتك .. سامحيني يا وطني )) ..

أغمضت عينيها في إرهاق عند سماعها نبرته المهدهدة، فلا ضير من لحظات تسرقها من الزمن وترتاح بها فوق صدره قليلاً؛ لذا مالت برأسها إلى جهته، تستند بها فوق مضغته الثائرة مستمتعة بالدفء العجيب الذى غمر كيانها فور عناقه لها، بينما طبع هو قبلة ناعمة مطولة فوق شطر وجهها هامسًا بصوت متحشرج عذب :
-(( مش هتصدقي حلمت باللحظة دي قد ايه الفتـ... )) ..

قاطع جملته رنين هاتفه، فسارع يقول ويستوقفها وهو يشدد من لف ذراعه حولها عند شعوره بها تتحرك من بين يديه بعدما ضغط زر رفض المكالمة :
-(( هششش.. ده جواد.. تلاقيه بيطمن عليكي )) ..

أثار إصرار قريبه التواصل معه ريبته عندما هاتفه للمرة الثانية، فقبل مكالمته يجيب في قلق :
-(( في إيه ؟! )) ..

شعرت رحمة بإرتخاء قبضته فوق خصرها فاستدارت تطالع ملامحه الشاحبة قبل أن يقول هو في نبرة ضعيفة متقطعة :
-(( رحمة.. عمي أنور.. في العناية.. جاتله جلطة )) ..


*******************************

سلامًا على هؤلاء الذين يكتمون جذوات خيباتهم داخل أحشائهم، تاركين جمراتها تلتهم صدورهم، وإذا باحوا بما في ضميرهم، تطيح بهم رياح الندم بما لا تشتهيه سفن تمردهم، فيعودون عن طيب خاطر إلى قوقعة كتمانهم، مع جبال من الشعور بالذنب راسية تدك خفقاتهم.

ارتمت فوق كتف شجرتها الوارفة وروحها الإضافية، تحتمي به من لهيب شعور الذنب الذي يحرق دواخلها، وتخفي داخل صدره رأسها متمتمة من بين شهقاتها المرتفعة في قهر :
-(( أنا السبب يا جواد.. لو مكنتش قلت كل الكلام السخيف اللي قلته مكنش حصل فيه كدة )) ..

مسد شقيقها فوق ظهرها في إشفاق حقيقي وقد أحاط جسدها من جميع جوانبه، يود لو يحمل عنها جزء من الألم الذي تمر به، قائلًا في مواساة :
-(( أهدي بس يا علياء واذكري الله.. إن شاء الله الدكتور يخرج دلوقتي ويطمنا.. تعالي ندعيله بدل العياط اللي مش هيفيد بحاجة )) ..

أرتفع أنين بكائها حتى وصل صداه إلى الممر المفضي إلى المصعد، حيث خرج منه للتو طاهر ورحمة، والذي ركض فور سماعه بكائها يقطع الممر في ثوانٍ معدودة يسأله في لهفة، آتية من خلفه زوجته منقطعة الأنفاس :
-(( حصل إيه يا جواد.. طمني؟ مالها علياء )) ..

أجابه جواد مبررًا رغم جزع نبرته :
-(( مفيش.. الدكتور جوة لسه بيكشف ومخرجش )) ..

تنفس طاهر الصعداء وقد عصفت به الظنون عند سماعه انهيارها، بينما رفعت علياء رأسها من فوق صدر شقيقها تهمس في ندم :
-(( أنا السبب في اللي حصل.. كنا بنتكلم وأنا زعلته )) ..

مدت رحمة الواقفة قُبالتها كلتا ذراعيها في دعوة صريحة لضمها، قائلة في أعتراض من بين دموعها المنسابة هي الأخرى :
-(( مش أنتي لوحدك السبب.. هو حاول يكلمني كتير الصبح وأنا مردتش عليه.. أكيد كان مقهور مني )) ..

ارتمت علياء بين ذراعيها يشددا من احتضان إحداهما الأخري كطفلتين فقدا الأمان خارج حدود جسديهما ، وقد انخرطا في نوبة بكاء قوية وانضمت إليهم زوجته " السيدة كريمة" تغمغم متأثرة وهي تحاوط جسديهما:
-(( وحدوا الله يا بنات وتعالوا ننزل نصلي بدل العياط ده.. عل وعسى ربنا يريح قلوبنا عن قريب )) ..

كان طاهر هو أول من نطق مستحسنًا ذلك الاقتراح، فداخله منقسمً شطرين، أحدهما ينفطر قلقً على من أحتل مكانة والده في قلبه، والأخر على تلك التي بدأت وتيرة أنفاسها تتعالى تمهيدًا لنوبة ضعف جديدة، تذكره بمدى الظلم الذي تعرضت إليه على يد الجميع وهو أول من يحتل تلك القائمة، مقاطعًا تفكيره خروج الطبيب الذي هتف يقول مطمئنًا في ثقة :
-(( حضرتك أبنه صح ؟!.. عامةً الحمدلله يا جماعة الإشاعة طلعت كويسة وطمنتنا.. الجلطة بعيدة عن مركز الإدراك وحجمها صغير ولسه في أولها أنتوا لحقتوه بدري.. تصرفكم كان ممتاز وساعد كتير.. احنا دلوقتي عطناه إبر مسيلة للجلطات وهننقله على العناية المركزة للاحتياط.. وعلى بليل إن شاء الله تقدروا تشوفوه.. بالشفا )) ..

تباينت مشاعر الجميع ما بين متهلل الأسارير كزوجته وأبن شقيقه، وما بين حامد كمثل جواد ورحمة شاكرين الله على لطفه الخفي، وظلت هي الوحيدة القابعة في مكانها لا تقو على رمش جفنيها منذ لمحت طيفه، حيث التقت عيناها على غير تمهيد بعينان لطالما حرمتها من نوم هانئ.


********************************

لا شيء يستحق الذكر، وما تلك الأصوات الحفيفة المزعجة سوي خفقات قلبها الثائر كالبركان والذي يضرب داخل ضلوعها يمنة ويسرة مطالبًا في التحرر من موضعه مع كل التقاء عابر لأعينهما، وكأنها تقف فوق حافة ناطحة سحاب، تترقب دفعها للأمام في أية لحظة قادمة، ويتضاعف ذلك الخفقان طرديًا مع كل جملة تخرج من فمه موجهًا حديثه للجميع عداها، وكأنها أصبحت غير مرئية، فيثير حفيظتها بلا مبالاته، ثم يعود ويعانقها بتلك النظرة الخاطفة فتغوص داخل بحيرته الزمردية الصافية، وتصبح في أقل من ثانية هي ساكنتها الوحيدة وحوريتها الذهبية، متجولة داخل شعبها الخضراء بحرية، حتى يقطع اتصال أعينهما برمشة منه او لفتة حوله، فتعود إلى أرض جفائه الواقعية، ظلا هكذا ساعات، حتى أشفق عليها القدر منتشلها من مأساة حضوره بعد سويعات قضتها كالوتر المشدود، عن طريق صوت الطبيب يقول مبشرًا :
-(( تقدروا تشوفوا المريض دلوقتي.. بس طبعًا من غير كلام كتير.. ومش هوصيكم زيارة خفيفة مفيهاش انفعال.. حمدلله على السلامة مرة تانية )) ..

رافق جملته الأخيرة بإيماءة صغيرة من رأسه يستأذن بها في الرحيل، ومع الحصول على الأذن في الزيارة كانت هي أول من سارع بالوقوف، تتشبث بذراع شقيقها متمتمة في توسل ومتحاشية في تلك اللحظة أي تواصل بصري بينهم :
-(( جواد.. خليني أدخله بسرعة عشان خاطري )) ..

همهم الأخر موافقًا وقد هم بالتحرك بها، بينما هتفت والدتها مقترحة في حبور :
-(( اسبقوني أنتوا يا ولاد وادخلوا على ما أبشر رحمة وأجبها من الجامع ونيجي )) ..

ألتفت طاهر على جملتها الأخيرة يبتسم لها في تفهم عندما غمزت له بطرف عينيها، فالأمر لا يحتاج إلى كثيرٍ من التحليل الذهني ليعلم أنها فضلت قضاء نهارها كاملًا داخل مسجد المشفى فقط من أجل الهرب من صحبته، وها هي زوجة عمه تحاول حالها حال باقي أفراد العائلة مساعدته في الاجتماع بها، أما عنه هو يحيى فرغم توقه إلى السير جوار زوجته بعدما سنحت له الفرصة في رؤيتها وجهًا لوجه، بل والمكوث معها في نفس الغرفة الصغيرة ومواساتها، ألا أنه آثر الانتظار قليلَا حتى يطمئن على مريضته أولًا، وما هي إلا ثوانٍ معدودة تأكد طاهر من خلو الممر ألا منهم حتى هتف مستاءٍ في نزق :
-(( أنا مش عارف سمعت كلامك ليه في نصيحتك الهباب دي !! .. دي مش طايقة تبص في وشي والدليل قدامك أهو.. هربت من الصبح جوة الجامع بحجة الصلاة والدعاء.. ولحد دلوقتي مظهرتش )) ..

أبتسم يحيى عن ملئ فاه الأمر الذي أثار غضب الأخر فأستطرد يقول في تقريع :
-(( متفرحش أوي وروح شوف خيبتك !! ع الأقل مبروحش كل يوم بيتها وبترفض تقابلني )) ..

قال يحيى في رزانة متجاوزًا عن عمد الشطر الأول من حديثه :
-(( أنت وثقت فيا من الأول وطلبت مني أساعدها من غير ما تحس أنك السبب.. فمتجيش دلوقتي وتقول نصيحة هباب لأن صدقني.. أنا اللي معاها من سبع شهور وعارف حالتها أتحسنت أزاي.. وصدقني برضة بعادك عنها الفترة اللي فاتت كان أفضل قرار لعلاقتكم سوا )) ..

صمت لوهلة أبتلع خلالها لعابه، ثم أردف يقول في عملية شديدة :
-(( رحمة كان لازم تفصل بين عقلها الباطن واللي محتلة.. وبينك أنت كطاهر من غير أي إضافات أو صلات تانية.. عشان تعرف تحدد مشاعرها صح.. ورغم أنها أسرار مريض ماينفعش تخرج بس أنا بأكدلك أنها اتجاوزت حالة التخبط بنسبة ٩٠٪.. وأظن أنك ذكي كفاية عشان تعرف حالة الصد دي سببها أيه؟.. وعلي العموم أنا عطيتلك جرين كارد في التعامل معاها زي ما تحب.. على شرط تكون خطوات مدروسة )) ..

زفر طاهر مطولَا يطرد دخان حرقة الفراق الذي يقطع الهواء عن رئتيه، قائلًا في لوعة :
-(( أديني ماشي معاها واحدة واحدة زي ما طلبت ومستني تطلب او تلمح بالقبول.. لما أشوف أخرتها عشان جبت أخرى )) ..

أما بداخل غرفة العناية المشددة، حيث والدها المريض ممددًا فوق الفراش الطبي، دلفت مطأطأة الرأس، تخشي رفع نظرها ومواجهته رغم توقها الاطمئنان عليه والتحدث معه، وكعادته في التعامل معها، همس يقول في جمل ثقيلة متعبة :
-(( واقفة عندك ليه يا ست البنات.. تعالي قربي )) ..

أندفعت فور سماعها جملته المدللة تخفي رأسها داخل صدره متمتمة في ندم حقيقي :
-(( أنا آسفة.. أنا غلطانة أني زعلتك ومستاهلش أي حاجة كويسة تحصلي )) ..

ارتسمت فوق شفاه والدها ابتسامة واهنة، قبل قوله نافيًا :
-(( أنتي تستاهلي كل حاجة حلوة.. بس لو تسمعي كلامي وتريحي قلبي قبل ما أقابل وجه كريم.. ساعتها هموت وأنا مطمن ))..

سارعت تقول خاضعة في لهفة :
-(( بعد الشر عليك.. أنا هعمل كل اللي تطلبه بس أنت أرتاح وأرجع زي الأول ))..

هنا هتف والدها مستفسرًا في عدم تصديق :
-(( يعني هتنفذي طلبي لأخر مرة.. وتعرفي زي الناس العاقلة حصل ايه وبعدها تقرري عايزه تكملي ولا لأ ؟! )) ..

عضت فوق شفتيها حائرة قبل أن ترمق شقيقها الواقف جوار الفراش ومتابعًا مجري الحديث في صمت تتلمس منه العون، فبادر يقول في هدوء :
-(( بعد أذنك يا حج.. انا عارف علياء عاقلة ومش هترفض طلبنا.. فخليها تديله فرصة يومين .. تروح معاه النهاردة تسمعه ويسمعها وتعرف ليه خبي عليها والتفاصيل اللي تخصهم لوحدهم.. بعدها لو قالت لأ أو مقتنعتش.. أنا هطلب منه نخرج بالمعروف )) ..

فتحت فمها معترضة فسارع جواد يقول ضاغطًَا على حروف جمله بعدما رمقها بنظرة ذات مغزي :
-(( مش عايزين كلام كتير يا علياء متنسيش وصية الدكتور )) ..

زفرت مطولًا تحاول رغم كل شيء السيطرة على تلك الحرارة التي ألهبت خلاياها من فكرة تواجدها معه في نفس المنزل والمكان، ولم يعدها من فرط خيالها الجامح في تصور ليلتها الأولى برفقته سوي صوت خطواته عند دلوفه الغرفة، يليها صوته الموجهه إلى والدها يستفسر عن أحواله، فأعتدلت في وقفتها تقول بعدما تنحنحت عدة مرات منقية حلقها المتحشرج، ولازالت تتحاشي النظر إليه :
-(( بناءًا على طلب بابا.. انا هروح معاك النهاردة )) ..


**************************


انزوت بجسدها الهزيل بعدما انتهت من تقضيه فروضها الخمس، ومراسلة صديقتها تخبرها دون الخوض في تفاصيل عن سبب تأخرها، جوار أحد حوائط المصلي، وكل ما تريده هو التحصن منه، والاختباء خلف جدران صلدة، فلا تستطيع نظرة عينيه الثاقبة اختراق دوافعها، تُعيد تذكر الصباح وكل ما امتلأ عقلها به، شاعرة بأمواج التخبط تلطم صدرها، فأسابيع عدة أقنعت نفسها بكرهه والنقم عليه، ومع أول لقاء بينهم، أدركت أن ذلك الغضب ليس سوي قشرة خارجية، طبقة رماد هشة، تخفي أسفل منها نيران اشتياق لازالت متأججة، وعندما اشتدت به ريح اللقيا، أضحى ما أخفته عن الجميع ظاهرًا لباطنها قبل العيان، حتى هنا في محراب تعبدها داهم بسطوة هيئته الجديدة أفكارها، فأية إرادة تلك التي تتحلى بها، وأية قلب ميؤوس من حالته ذلك الذي تمتلكه!، قاطعت حبل أفكارها الموصول به على مدار الساعة، صوت زوجة والدها، تقول في وقار :
-(( تقبل الله يا حبيبتي.. حبيت أقولك أن الدكتور سمح بالزيارة بعد ما الحالة استقرت.. تقدري تشوفي أنور دلوقتي لو حابة )) ..

ابتسامة تردد اعتلت شفتيها، مع نظرة ضياع غشت عدستيها، دفعت "كريمة" إلى الجلوس قُبالتها قبل أن تقول في تفهم :
-(( أنا حاسة ومقدرة اللي أنتي فيه.. أنا كمان عشته سنة كاملة )) ..

هتفت رحمة من خلفها مرددة في استنكار :
-(( سنة !! ))..

أومأت بجفنيها مؤكدة ثم أردفت تقص ماضي مطوي تفاصيله داخل جنبات صدرها :
-(( مش سهل على أي ست أن جوزها يدخل يقولها أنه اتجوز عليها حتى ولو كان الجواز ده لسبب.. يعني وخصوصًا لما الحياة تكون بينكم مستقرة وهادية ومتفقين في حاجات كتير.. وقتها حسيت اني مخبوطة على دماغي.. حياتي كلها اتشقلبت.. وقعدت فترة محتارة.. أرمي له دبلته في وشه وأقوله أشبع بيها.. ولا أسامح واعدي.. وبعد صلاة أستخارة كتير قررت اني هكمل عشان الولاد.. وقعدنا سنة كاملة زي الغربا.. بننام في أوضة واحدة عشان الولاد ميحسوش بحاجة.. بس في نفس الوقت مش طايقة حتى كلامه )) ..

ابتسامة حنين شقت طريقها إلى شفتيها، أجبرتها على التوقف لوهلة قبل أن تردف مازحة :
-(( بس بيني وبينك أنور في طبع غريب.. لما بيصمم على حاجة مبيرتحش غير لما يعملها.. وطالعله في الحتة دي طاهر مش جواد.. عمل كل حاجة ممكنة عشان اسامحه.. وشهر ورا شهر لقيت زعلي منه بيقل لحد ما اختفى.. نرجع بقي لأنور.. صدقيني يا رحمة هو مكنش يعرف.. أزعلي حقك.. ولو ان غريب ان الكلام ده يطلع مني انا مخصوص باعتبارك بنت ضرتي.. بس صدقيني لا أنور ولا طاهر بيتصرفوا تصرف ألا وفيه مصلحتك.. حتى لو مكنش على هواكي.. اديهم فرصة ومش هتندمي)) ..

اعتدلت في وقفتها ومسدت تنورتها الطويلة ثم سألتها مستفسرة :
-(( هتيجي معايا ولا أطلع لوحدي )) ..

حركت رحمة رأسها موافقة عدة مرات قبل انتصابها هي الأخرى واقفة استعدادًا للصعود إلى الأعلى حيث لمحته يقف مترقبًا داخل الممر وكأنه ينتظر وصولها، وكما توقع رد فعلها رمقته بنظرة جانبية جامدة ثم أستأنفت طريقها نحو الداخل دون أعارته أدنى قدر من الاهتمام، مواصلة تقدمها نحو وجهتها حتى توقفت أمام الفراش الطبي مترددة للحظات، شاعرة بحركة جسده تتبع ظلها، وما هي إلا ثوانِ معدودة طافت عينيها فوق جسد والدها ووجهه المريض، حتى أنحنت تقبل كفه هامسة في حزن حقيقي :
-(( حمدلله على سلامتك.. سامحني )) ..

تمتم أنور يقول بنبرة ثقيلة متهدجة :
-(( أنا لو أعرف أني هشوفكم كلكم متجمعين مع بعض وحواليا.. كنت تعبت من زمان )) ..

سارعت زوجته تقول في انزعاج واضح :
-(( بعد الشر عليك يا أنور.. تسلم يا حبيبي من كل تعب )) ..

أمن الجميع دعائها من خلفها، بينما تحرك طاهر يقول مستغلَا الفرصة في الوقوف جوارها واحتضان كفها :
-(( متقلقش يا عمي.. من هنا ورايح محدش هيزعل من حد.. وعايز أقولك من النهاردة رحمة هتشتغل معانا في الشركة.. يعني أطمن )) ..

هلل عمه فرحًا بالخبر السعيد، منشغلًا عن تلك التي تحاول إفلات كفها من بين خاصته :
-(( الله يهدي سركم يا ولاد.. وعقبال ما أملي عيني بذريتكم قريب )) ..

أجابه طاهر بأبتسامة واسعة وكأنه يتعمد إثارة حنقها، بينما يده تضغط بقوة فوق كفها لمنعها من التحرك :
-(( إن شاء الله قريب.. مش كدة ولا أيه يا رحمة )) ..

سعلة خفيفة صدرت عنها كانت بالنسبة إليه إجابة أكثر من كافية لفهم ما تمر به، خاصة وهي تحاول بأناملها الصغيرة أحداث جروح في باطن كفه كعلامة على رفضها، الأمر الذي أستقبله بأستمتاع شديد، مقاطعًا صراعهم الخفي صوت جواد يقول في جدية :
-(( طب أيه.. انا عطيت الممرض فلوس عشان يرضى يدخلنا كلنا سوا.. بس لو حد من الدكاترة مروا هتبقي في مشكلة )) ..

قال والده وقد أعجبه قول ولده الأكبر :
-(( خد مراتك يا طاهر وروح.. وأنت يا يحيي خد علياء تستريح.. مش عايز حد يفضل حواليا اطلعوا خلوني أرتاح )) ..

هتفت علياء رافضة في رجاء :
-(( طب خليني أبات معاك النهاردة عشان خاطري ))

قالت والدتها معترضة :
-(( مش هينفع يا علياء.. العناية مفيهاش بيات.. المستشفى مش هتسمحلنا.. كلنا هنروح حتى انا وجواد عشان لينة.. روحوا أنتوا يا حبيبتي وبكرة الصبح تعالي.. كفاية بقي جدال عشان خاطر بابا ميتعبش ))..

أومأت رأسها موافقة على مضض ثم أنسحبت من الغرفة بعدما ودعت والدها، تحاول تأخير لحظاتها القادمة قدر الإمكان، وتبعتها رحمة التي فعلت نفس الشيئ وعلى عكسها تتمنى الخلاص من ذلك الموقف ككل والهرب من صحبته حيث منزلها الأمن، بينما تابع الثلاثة الباقيين أختفائهم عن الأنظار، ثم هتف أنور يسأل تمنى :

-(( تفتكر ربنا هيهديهم على بعض ؟! )) ..

قال جواد في ثقة :
-(( يحيى فاهم وشغله عاطيله مساحة متخافش عليه.. وطاهر مش هيسكت غير لما يوصل للي عايزه.. أرتاح أنت ومتشغلش دماغك بيهم ))..

تمتم والده في إرهاق :
-(( يارب يوصل للي عايزه.. ويكون كل اللي عملناه عشانه بفايدة ))..


**********************************

ثانية، اثنان، ثلاث، عشرة....، ثانية، أثنان..... ، بوق متواصل لسيارة سائرة أمامهم شغل عقلها للحظات، ثم سرعان ما عاودت العد من جديد، ثانية، اثنان، ثلاث، أربع، خمسة، اللعنة الوقت لا يمر والدقائق لا تمضي والعد لا ينتهي، حتى مع خلو الطريق أمامهم تشعر بأنه لا يسير بالسرعة الكافية، تُري هل يتعمد الحد من سرعة سيارته أم هواجس عقلها الثائر من تُخيل لها ذلك، نظرة جانبية على المربع المضيء أعطاها فكرة جيدة عن مدى سرعتهم، فها هو على وشك تجاوز المائة، رفعت ذراعها تنظر في شاشة هاتفها تتطلع إلى الوقت للمرة التي لا تُحصى عددها، التاسعة وثلاث وثلاثون، فقط دقيقة واحدة هي كل ما مرت، ستصاب بنوبة صدرية جديدة إن لم تُحد من شدة توترها، نعم هذا أمر مفروغ منه، فكل شيء من حولها يضغط على أعصابها، صوت تنبيه السيارة عند الانعطاف، عطره المخترق حواسها ويكاد يُصيبها بالخدر، حركة يده فوق المقود، بالحديث عن يده، من أين أتى ذلك المحبس الأسود المزين إصبعه، هل يخصها هي، أم يعود إلى أخرى غيرها، نفضت رأسها وحركت كفها تضغط بكل ما أوتيت من قوة فوق مكبس الزجاج تُخفضه، سامحة للهواء البارد في الاندفاع جملة واحدة داخل السيارة ولفح وجهها، بينما لاحظ بعدما جذب أنتباهه حركتها العنيفة شحوب ملامحها فسارع يسألها في قلق :
-(( أنتِ كويسة ؟! ))..

أرادت الصراخ به، أخباره أن خيرها وحضوره لا يجتمعان في جملةً واحدة، وبالرغم من ذلك همست تجيبه كاذبة :
-(( بس المسافة طويلة وأتخنقت )) ..

تمتم مؤكدًا وكأنه يطمئن نفسه :
-(( معلش خمس دقايق بالكتير ونوصل )) ..

شعرت بقلقه كاملًا يصل إليها إذ زاد من سرعة السيارة في الحال، وبالفعل قبل مضى الخمسة دقائق كانت تتسلق أولى درجات الدرج، لاحقًا به هو يقول في أريحية شديدة :
-(( أستنى.. كنا بنقول أيه؟! ))..

تبخر توترها كاملًا وحل محله الغضب، وكأن سؤاله البسيط أعاد إليها خيبات السبعة أشهر المنصرمة، فاستدارت تقول فى حدة مبررة من وجهة نظرها :
-(( كنا بنقول عايزه دفتررررري.. وفي أسرع وقت )) ..

تسلق هو الأخر الدرج، يشاركها المساحة الضيقة الواقفة عليها، محتكًا بجسدها الضئيل عن عمد وقائلًا في صوت أجش عذب بعدما أخفض رأسه في اتجاهها :
-(( الدفتر واللي هيوصل الدفتر تحت آمرك.. أنتِ بس اطلبي )) ..

لحظات طويلة بطيئة مرت بينهم أقسمت خلالها أنها على وشك البكاء، البكاء من قلة حيلتها في حضرته، البكاء من جرأته، ورغم ذلك همست تقول محذرة :
-(( طاهر.. أحنا في المدخل عيب كدة )) ..

قال بعدما رفع ذراعه وطفق يمسد وجنتها الساخنة :
-(( أنا عملت حاجة.. أنا بقول أطلبي وأنا أنفذ )) ..

أجتاح جسدها بأكمله قشعريرة خفيفة بدأت من عمودها الفقري وامتدت إلى صوتها حينما غمغمت متوسلة في تهدج واضح :
-(( طـ... طــا.. هر.. خليني أطلع لو سمحت )) ..

أشفق على ملامحها المتوترة وشفاها المرتعشة، فقال بجدية بعدما هبط الدرجة التي تسلقها :
-(( أطلعي.. وبكرة هيجيلك الساعة ٨ أوصلك )) ..

صاحت تستفسر مستنكرة بعدما عاد صوتها إلى طبيعته :
-(( نعـم !! وتوصلني ليه !!.. صغيرة ولا معرفش الطريق !! )) ..

هتف محتدًا وقد أظلمت عدستيه بلهيب الغيرة :
-(( أومال أسيبك تركبي مع سواق تاكسي غريب يفضل يبحلق فيكي !! )) ..

سارعت تقول في نبرة مسلية مستغلة نقطة ضعفه وقد أقسمت على تعذيبه :
-(( ومين قالك اني هركب تاكسي.. أنا هروح بمشروع )) ..

صدح صوته الغاضب يملأ الممر بالدرجات :
-(( كمان!.. ورحمة أبويا وأمي.. لو عرفت انك عملتيها هتشوفي مني وش معرفتيهوش لسة.. سامعة )) ..

هدر كلمته الأخيرة في صراخ جعلها تركض إلى الأعلى فزعة بعدما اختفت الابتسامة المسلية من فوق شفاها، بينما أستطرد يقول محذرًا من بين أنفاسه اللاهثة لطيفها الهارب :
-(( وبكرة الساعة ٨ ألاقيكي جاهزة ومستنياني ))..

وفى الأعلى بعدما دلفت منزلهم وأغلقت الباب خلفها جيدًا، استندت بظهرها فوقه تحاول السيطرة على أبتسامة سعيدة تقفز فوق شفتيها كلما أخفتها، مقاطعًا حالة انتشاءها البسيطة صوت شقيقها يسأل بنبرته الناعسة :
-(( رحمة !!.. أنتِ لسة واصلة.. متأخرة ليه ؟! )) ..

أجابته بعدما تنحنحت وسيطرت على جوانب فمها المبتسمة :
-(( كنت بخلص كام مشوار ضروري متشغلش بالك.. أدخل نام أنت عشان كليتك بدري )) ..

هز رأسه ثم ودعها في تحية مساء مع قبلة أخوية خاطفة فوق وجنتها التي لازالت تحتفظ بأثر لمساته منذ قليل، قبل أن تقتحم غرفة صديقتها وتبدأ في قص كل ما حدث منذ الصباح، فاستمعت غفران لكل ما يخرج من فمها بأنصات شديد، حتى وصلت إلى مرض والدها، وقتها هتفت تقول مؤنبة في ضيق :
-(( كدة برضه يا رحمة !!.. يعني يبقى بابا جواد تعبان ومعرفش !!.. يقول عليا أيه دلوقتي طيب )) ..

صاحت رحمة معنفة بعدما دفعتها بوسادتها القطنية :
-(( بقولك طلع هو صاحب الشركة.. واني شاكة انه هو برضه ورا حوار البيت.. وقضينا اليوم في المستشفى وانتي تقوليلي جواد!!.. بجد مستفزة )) ..

قالت غفران معتذرة بعدما تنحنحت وأعتدلت في جلستها وأعادت ترتيب خصلاتها :
-(( أحم.. خلاص ماشي.. بكرة تديني عنوان المستشفى واروح أزورهم.. المهم دلوقتي أنتي زعلانة ليه؟! .. ماهو طلع حلو وبيفكر فيكي ومش ناسي.. يبقي نلم الدور ونفرح وبلاش نكد.. وبعدين لو كان هو ورا حوار الشقة ما كان واجهك زي الشركة )) ..

صمتت لوهلة تطالعها ثم أردفت تقول هاربة بعدما ادت مهمتها المتفق عليها :
-(( نامي يا رحمة وأفصلي.. وحتى لو قبلتي تشتغلي معاه عشان وضع باباكي زي ما قلتي واحساسك بالذنب.. فلازم تشوفي شغلك كويس وتجتهدي فيه.. تصبحي على خير )) ..

نطقت جملها ثم هرولت من الغرفة منصرفة، تخشي أن استمرا في الحديث كشف أمرها، بينما فتحت رحمة فمها وأغلقته متراجعة عدة مرات متتالية، فما بداخلها لا تستطيع صياغته في جمل مرتبة، تتذكر تلك الليلة التي سكنت أحلامها أيامً وأيام، حينما صارحها بذلك الأعتراف الأسطوري عن الحب، ثم بعدها اختفى من حياتها وكأنه شبح، تبخر طيفه من أمام عينيها وكأنه يومًا لم يكن، لم تلمح ظله ولو خطئًا، حتى أقنعت قلبها والذى ظل يؤنبها ليالٍ طويلة عن هجرانها له بأنها مجرد عابرة سبيل في حياته، امرأة ألقاها القدر في طريقه لبعض الوقت وانتهى، وبعد اسابيع من الترقب وخيبة الأمل، أيقنت ان كلماته ليست سوي كلمات، حملها بها إلى عالم وردي منسوج من خيال مراهقة، ثم تركها تسقط على أرض الواقع وتلملم شتات خيباتها بمفردها، ثم فجاة، عاد وظهر أمامها من العدم، وبعودته تلك قلب موازين أفكارها المترسخة داخلها كمسلمات لا تقبل الشك رأسًا على عقب، زفرت في لوعة وحركت رأسها يمينًا ويسارًا تطرد كلمته من عقلها، " وطني" فمجرد التفكير بها يجبر غضبها منه على التراجع، قافزًا محله الرضا بإبتسامة حالمة، تلاها تنهيدة أشتياق ممزوجة بعجز خرجت من أحبالها الصوتية الرقيقة، فيبدو ان الوقوع في حب رجلها الرمادى، ليس بالأمر السهل تمامًا كرؤية إبتسامة صاحبها.



***********************************


ما بين رغبة في القلب وعناد في العقل، تتأرجح الروح تائهة، تخشي إتباع العاطفة فتسير خلفها واهمة، وتخاف الانحياز للعقل فتمضي أيامها نادمة، وبهذا الشعور المريع عبرت حد مملكتها المزعومة كالمساق إلى الموت في ليلة شتوية عاصفة، فلا يدري أهو يرتجف من شدة البرد أو من هول ما سيلقاه، تُقدم ساق وتؤخر الأخرى، فها قد أتت لحظتها الحاسمة، بعدما دفعها والدها وشقيقها إلى خوض المعركة بمفردها دون استعداد جيد لها، وما من حصن يقيها من ضعفها سوي درع كرامتها الجريحة، ونصف عقل يحاول الحفاظ على اتزانه في حضرته، تود الركض، الصراخ، الاستسلام، أخباره بأن تلك الطفلة الصغيرة بداخلها لازالت من هجرانها له حزينة، ضعيفة، متألمة، وما أن أغلق باب المنزل من خلفهم وحوصرت بين جدرانه الأربعة، حتى شَعَرْت وكأنها دفعت إلى العراء، منبوذة، عارية بعدما هُدمت قلعتها، ولا شيء يحول بينها وبين تجمد أطرافها، سوي زوج من العيون الناعسة، تحتضنها وتبث إليها تيارات عاطفته الدافئة، شهقة ذعر صدرت عنها فور تنبهها إليه يتقدم منها جعلته يتراجع عن الفكرة ككل، ويُرغم ذراعه التي امتددت في اتجاهها بنية احتضان كفها على العودة إلى مكانها الأصلي، وقد لاح أمام عينيه ذكرى ليلة زفافهم وكيف ارتدت ثوبها الأبيض ووقفت أمامه بملامح شاحبة، تواجهه بجريمة أخفاها عامدًا، بل وتكشف عن نواياها في إتمام زيجتهم ظَاهِرِيًّا من أجل اسم والدها وسمعة العائلة، وكيف انقضت أمسيتهم متشابكين بأكف بعضهم البعض راسمة فوق ثغرها ابتسامة قوية زائفة، حتى انصرف المدعوين وعادت إلى غرفتها وحدها، مصرة على الاختباء داخلها هاربة، حتى انقضت السبعة أشهر وها هي تقف أمامه الأن وقد أضحت بعذاب فؤاده وتوسله لها يَوْمِيًّا متلذذة
-(( علياء )) ..

غمغم اسمها بهوادة، يود لو تسمح له بمحي كافة مشاعرها التي طفت على صفيحة وجهها بحبه، فسارعت تقول في حدة قاطعة الطريق على أي حديث بينهم :
-(( ممكن متنساش أني هنا بِنَاءًا على طلب بابا.. يعني أي كلام ملهوش لازمة ))..

تنهيدة عجز صدرت عنه أولًا، قبل أن يتخذ قرارًا متهورًا في الاقتراب منها ضاربًا بكل ما درسه لسنوات عرض الحائط، وسائرًا خلف رغبة قلبه في تلمس تلك الوجنة الحمراء التي غزت أحلامه لأيام، وقائلًا في يأس :
-(( علياء احنا ناس كبيرة وواعية.. من فضلك خلينا نتكلم زي أي اتنين ناضجين )) ..

نظرت إلى كفه الأخر، حيث يُخفي بداخله ذلك المغلف الصغير الذي لمحته يلتقطه من فوق عتبة المنزل وتظاهرت وقتها بعدم رؤيتها فعلته، ثم هتفت تقول في حدة بعدما تراجعت بجسدها عنه :
-(( لا مش كبيرة ومش واعية ومش ناضجة.. ومحدش طلب منك من الأساس ترتبط بواحدة عقلها صغير.. زعلت عشان خبيت جوازك عنها .. ودلوقتي اختار أوضه أنام فيها لحد الصبح عشان أروح لبابا )) ..

هتف منزعجًا في حنق واضح :
-(( جوازي أييييه اللي بتكلمي عنه !! ده مكنش أكتر من خطوبة تقليدية وكتب الكتاب لأسباب لو تكرمني عليا وسمعتيها هتفهمي.. وبعدين أنا مراتي أعقل واحدة في الدنيا )) ..

تحولت نبرته إلى اللين عند النطق بجملته الأخيرة، بينما التهت هي في تفسير جمله الأولى غير منتبهة إلى تلك المسافة التي أختصرها بينهم ولا لـ يده التي ارتفعت تداعب وجنتها، ثم انزلقت تواصل تدليكها على طول الطريق حتى شفتيها التي أنفرجت في رد فعل تلقائي للمسته الناعمة، منتهزًا تلك الفرصة في استئناف حديثه هامسًا في رجاء :
-(( عالية.. )) ..

رفعت رأسها تطالعه في انبهار، متذكرة في تلك اللحظة والدها وتخصيصها بذلك الاسم، فأردف يقول مدللًا ويده تواصل طريقها نحو عنقها الممشوق :
-(( عالية الكرامة والروح.. جيداء كانت بنت خالي الأرملة.. جوزها أتوفى في حادث بعد جوازهم ب٣ شهور.. وارتبطت بيها بعد ما عدي ٤ سنين ودي كانت وصية أمي ليا.. في الوقت ده انا كنت مسافر فرنسا بعمل دراساتي العليا هناك.. وعشان الإقامة وكل التفاصيل دي كتبنا كتابنا بتوكي........ )) ..

همهمت رافضة تستوقفه دافعة كفه بعيدًا عنها، تخشي في داخلها الإنصات إليه فيلين قلبها الخائن، لذا ركضت دون الأخذ بمشورته إلى أول غرفة وقع عليها بصرها، تختبئ بداخلها عن أعينه، مستمعة من خلف الباب المغلق إلى صوته يجيب عن هاتفه قائلًا في بساطة :
-(( أه.. وصلني زي كل يوم.. هشوف في إيه وأكلمك أوعي تنامي وخلي بالك من نفسك )) ..

شعرت بقبضة تعتصر صدرها من طلبه الأخير لمحدثته، فها هو يحاول تبرير موقفه لها، وفي نفس الوقت يتحدث إليها، تلك الأخرى التي وقفت أمامها تطالبها في حقها به، وهي الحمقاء من أوشكت على الاستماع إلى قصته بل والأسوأ، تصديقها.


شيماء_يوسف غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 24-12-20, 11:49 PM   #72

شيماء_يوسف

? العضوٌ??? » 474730
?  التسِجيلٌ » Jul 2020
? مشَارَ?اتْي » 61
?  نُقآطِيْ » شيماء_يوسف is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الثامن والعشرون
أرجو ممن يتابع ترك تعليق ♥️

"فبعضي لديّ وبعضي لديك
وبعضي مُشتاق لبعضي، فهلّا أتيت ؟".

-محمود درويش.



مشطت عدستيها الغرفة بعدما انتهت من رحلة الإشفاق على الذات، ورثاء علاقتهم الوليدة فور سماعها حديثه الهاتفي المختصر من خلف الباب الموصود تبحث عن حل لتلك المعضلة التي أوقعت بها نفسها بسبب اندفاعها في الحركة وعدم التريث قبل اتخاذ القرار، والنتيجة واضحة، ها هي الآن تقف في منتصف غرفة تشير كل الدلائل إلى أنها غرفته!، تنهيدة عجز فلتت من بين شفتيها بعدما توسطت بكلا كفيها خصرها، تحاول التوصل لقرار، هل تغض الطرف عن وجودها في غرفته حتى الصباح وتتعايش مع الأمر الواقع، أم تنتظر ريثما تهدأ حركته في الخارج ويلوذ إلى إحدى غرف المنزل الإضافية وقتها تخرج من مخبئها؟، ظلت هكذا تجوب الغرفة ذهابًا وإيابًا بحثًا عن إجابة لسؤالها حتى أُنْهِكْت ساقيها وخارت قواها فلجأت إلى الفراش الوثير تحارب بنعومته إرهاق ذلك اليوم العصيب، وما هي سوى دقائق قليلة حتى راحت تغط في نوم عميق، ولم يوقظها من ثَبَاتهَا الهادئ سوى ارتفاع حرارة الجو من حولها، مما أجبرها على مواربة أهدابها قبل التحرك لفتح نافذة الغرفة متنعمة بنسيم هواء الخريف البارد يضرب جسدها، تُعيد داخل عقلها ذكري حديثهم الأخير، صوته، وقفته، ثقته، كل حركة صدرت عنه علقت بداخل ذهنها، قبل تذكرها حقائب ملابسها، حيث أخبرتها والدتها قبيل زفافهم بإيصالها إلى منزله، بل وإشرافها شَخْصِيًّا على ترتيبها داخل خزانته، إذا الحل بسيط، بما انها في نفس الغرفة المعنية ستبحث عن رداء بيتي مناسب تقضي به ليلتها بدلًا من ذلك البنطال ذو القماش الخشن الذي يصيبها بالحكة والاختناق ثم تستيقظ في الصباح الباكر وتبدل ثيابها في هدوء قبل مواجهته، وعلي ذلك القرار توجهت نحو خزانة الملابس تنظر بداخلها قبل أن تلمح بطرف عينيها شيء ما ضئيل الحجم يتحرك في اتجاهها، فاستدارت تنظر بأنفاس مكتومة بعدما فتحت عيناها على اتساعهما تزيح أثار النوم منهما كي تتأكد مما تراه يتقدم في هوادة نحوها ، وما أن أُثبتت شكوكها حتى بدأت في الصراخ باسمه مستنجدة بقدر ما سمحت لها أحبالها الصوتية الضعيفة، وقد فقدت القدرة على التحرك فلم تستطع سوي الاختباء خلف ضلفه الخزنة وانتظاره عل صوتها يصل إليه فيهب إلى مساعدتها، هذا على الأقل ما أملته وهي واقفة تنظر إلى ذلك الجسد الصغير يسير بخطوات بطيئة للغاية نحوها، وكأن ذبذبات رعبها تصل إليه فتُزيده إصرارا على مهاجمتها، بينما اندفع هو بجسده بعد لحظات إلى داخل الغرفة ينظر بأعين ناعسة إلى تلك الواقفة داخل خزانته "أن صح التعبير" وتطلع إليه كالمغشي عليها، وما أن رأته حتى صرخت تقول في فزع :

-(( يحيى الحق.. شوف الشيء الأسود اللي هناك ده ))..

تتبع بنظره إلى حيث أشارت بأصبعها من خلف الضلفة، ثم هتف يستفسر في بلاهة :
-(( أسود إيه مفيش حاجة!.. وبعدين أنتي إيه اللي مدخلك جوه الدولاب كده؟! ))..

تمتمت تقول في نبرة متهدجة من شدة ذعرها :
-(( مفيش أزاي )) ..

طلت برأسها تنظر بترقب شديد من خلف درعها الخشبي الواهِ إلى حيث تركت ذلك الكائن الصلد منذ لحظات يسير، وما ان لمحته من جديد يواصل تقدمه منها حتى عادت تصرخ قائلة بأنفاس متقطعة :
-(( ااااااااااااه.. اهوووو.. الحق البتاع ده جاي عليااااااا )) ..

هتف مستنكرًا بعدما حك مؤخرة رأسه في عدم اهتمام :
-(( ده زوحلف!!.. أنتِ عاملة كل الدوشة دي عشانه؟!.. ده على ما يوصل لمكانك يكون فات سنة! )) ..

أجابته متوسلة ولازال الذعر يغلف نبرتها وملامحها :
-(( بطئهم بيوترني وملمسهم بيقشعر جسمي.. عشان خاطري أبعده من هنا )) ..

مرر نظراته الخاطفة بالتساوي بين ذلك الكائن الضعيف المسالم، وبين صغيرته ذو الرأس المتحجر، قبل حسم أمره والسير نحو الزاحف يحمله بيده ثم استدار به متوجهًا إليها، وفور رؤيته يقترب منها حتى عادت تصرخ من جديد وتناشده في قلة حيلة بصوتها الباكِ:
-(( أبعد البتاع ده عنااااااي .. ااه يا بابا ))..

قال مبتسمًا في مكر :
-(( وهستفاد إيه لما أبعده )) ..

أجابته في لهفة وهي تلوح بكلا كفيها أمام وجهه مستسلمة :
-(( اللي أنت عايزة بس أبعده ))..

قام بدفع السلحفاة الصغيرة إلى خارج الغرفة بعدما وضعها أرضًا، ثم عاد يقول في إصرار فور انتصابه في وقفته وعودته يقف أمامها ويسد عليها منفذ الخروج :
-(( اسمعي أنا عايز اقولك إيه ))..

مالت برأسها على مضض تنظر من خلف جسده الطويل الحاجب لرؤيتها تستطلع المكان من حولها، حتى تأكدت من خلو الغرفة من مسبب ذعرها، وقتها هتفت تقول معترضة في كبرياء ورأسها مرفوع للأعلى :
-(( لو سمحت أبعد عني خليني أنام.. وياريت تطلع برة الأوضة خالص ))..

سارع بدفع جسدها إلى داخل الخزانة مَرَّة أخرى عندما شعر بها تهم في التحرك، قائلًا في تصميم :
-(( أنا مش هسيبك غير لما تسمعيني.. أظن دي أبسط حقوقي.. أنا عارف أن من جواكي عايزة تفهمي جيداء مكانتها إيه في حياتي.. فمن فضلك اديني فرصه اشرحلك ))..

غمغمت كاذبة في حدة مزيفة متسلحة في تلك اللحظة بغضبها المفتعل، بعدما أشاحت بنظرها بعيدًا عنه :
-(( مين قال إني عايزة أسمعك.. أو مهتمة حتى ؟!.. وبعدين احنا هنقضي الليلة كلها جوة الدولاب!.. لو سمحت ابعد وعديني ))..

أجابها في عملية وعدستيه تأسر خاصتها:
-(( حركاتك كلها ونظرة عينيك بتقول كده.. متنسيش أنك متجوزة دكتور نفسي.. غير أن صراع مشاعرك باين كله على وشك )) ..

حاولت دفع جسده بكفها المهزوز والفرار من مواجهته ولكنه سبقها بالقبض على ذراعيها وإبقائهم بين يديه خلف ظهرها، ثم أردف يقول في نبرة مرهقة :
-(( عالية اسمعيني من فضلك.. انا روحي طلعت الشهور اللي فاتت عشان بس تجيلي فرصة زي دي.. فعشان خاطري متضيعهاش مننا ))..

هتفت تقاطعه في لهفة :
-(( بعد الشر ))..

عضت فوق شفتيها نادمة، وقد تسللت الكلمات من فمها دون حسبان، ثم أردفت تغمغم مصححة في تعلثم :
-(( قصدي بعد الشر ع البشرية.. كإنسان.. يعني هقول كدة لأي حد مش انت بس ))..

انفرجت شفتيه بإبتسامة سعيدة مشاكسة، بينما ارتفعت أحدى ذراعيه بعدما حرر معصمها إلى حيث فكها، يدلك في هوادة أسفله وهو يقول بصوت أجش متحشرج :
-(( كتب كتابي من جيداء كان ضروري عشان الاستقدام والأوراق باعتبار أننا كنا كده كده مخطوبين وهنتجوز.. وبعد ما حصل وحبت تييجي زيارة عندي منها تغير جو ومنها تفسح بنتها لارا .. وقبل ما دماغك تشتغل هي كانت مقيمة في مكان وأنا في سكن الجامعة.. روحنا ديزني لاند وفي لحظة غفلت فيها عن لارا.. هي لحظة واحدة بصيت فيها الناحية الثانية كانت البنت اختفت.. دورنا كثير وسألنا أكتر وبعدها لجأنا للشرطة بس مكنش فيه فايدة.. البنت ولا كأن ليها أثر.. بعدها عرفنا أن حتى في فرنسا في عصابات خطف أطفال.. وقعدنا على الحال ده فترة نتواصل وندفع لأي حد ممكن يدلنا على مكانها لحد ما جيداء جالها حالة عصبية واتهمتني أني السبب في اختفاء لارا ولولا اقتراحي وإهمالي مكنتش بنتها ضاعت منها.. وبعدها هي كمان اختفت من حياتي وبعتتلي جواب تطلب فيه أني أطلقها واسيبها تعيش حياتها ومدورش عليها تاني.. حققت النص الأول من رغبتها وطلقتها في هدوء.. بس مقدرتش مدورش عليها.. مهما كان دي بنت خالي وزي ما قالت أنا السبب في اللي حصل لبنتها ))..

صمت لوهة يتجاوز غصة اصابت قلبه وحلقه من الذكرى المؤلمة، استطاعت خلالها خطف نظرة سريعة ورؤية مدى الألم الذي يمر به والمرسوم بوضوح على ملامحه، بينما استطرد هو حديثه بعدما احاط بذراعه خصرها يقربها إليه واستند بجبهته فوق جبهتها كأنه يستمد منها القوة :
-(( تعبت وانا ادور على لارا شوية وعلى جيداء شوية يمكن الاقيهم واجمعهم ببعض.. وبعد سنة عرفت ان جيداء اتعرفت على رجل أعمال ليه علاقة بالأطفال والتجارة المشبوهة.. وكأن حادثة بنتها طلعت أسوء ما فيها.. ومن اللحظة دي بدأت معرفتي بغفران.. عرضت عليها اساعدها في قضاياها النفسية في المقابل لو عرفت اي خبر أو قضية تخص جيداء تبلغني بحكم شغلها.. دي كل حكايتي.. مقلتلكيش ليه عشان مكنش في وقت.. احنا جوازنا كان مفاجئ وملحقتش احكيلك اي حاجة عن ماضية.. بس لو تفتكري انا طلبت منك اتكلم معاكي بعد الفرح ))..

رعشه قصيرة أصابت جسدها مع تدفق حديثه الأخير إلى قوقعة اذنها ومنه مباشرةً إلى قلبها، وحتى مع هذا الموقف المحزن وجدت جلدها يتأثر بلمساته البسيطة عندما واصل كفه تحركه فوق وجهها يمسح بإبهامه أسفل جفنها، يليها تنهيدة ألم صدرت من حلقه شعرت بصداها يتردد داخل ضلوعها، وددت لو ترفع يدها وتمسح عن وجهه، لو تشاركه المه، لو بمقدورها محو ذلك الشعور المريع بالذنب والذى يحمله منذ سنوات مضت فوق كاهله ،وقبل ان تصل يدها إلى وجهه، سمعته يقر معترفًا ببساطة :
-(( اتشديت ليها اكيد.. زيي زي اي شاب خاطب بنت حلوة ومرحة.. بـــ...... ))..

رجفة يدها، عبرة عينيها، ألم صدرها، واخيرًا شهقة خافتة فلتت من بين شفتيها، كل ذلك انتشلها من الغرق فى دوامته فور نطقه باعترافه الغير مكتمل والذى كان بمثابة خنجر زرعه في منتصف فؤادها دون أدنى قدر من الرحمة بها او الاشفاق عليها، وبدلًا من الربت على وجنته او مواساته، وجدت يدها تدفعه بكل ما أوتيت من قوة قبل ركضها إلى الخارج تحتمي من خيبتها خلف أبواب أحدى الغرف حتى تنتهي المهلة المقررة بينهم، ثم بعدها ستطوي صفحة وجوده في حياتها إلى الأبد.


****************************

بعض العادات تظل راسخة داخل وجداننا، مهما مر عليها الزمن.
تهادى إلى أُذنها مخالطًا حلمها بواقعها صوت فيروز الصباح حاملًا إليها عبق الماضي القريب وراسمًا فوق محياها ابتسامة رضا بعد ليلة مؤرقة ظل يداعب بأفعاله العبثية أحلامها حتى ساعات النهار الأولى، يتبعها تسلل رائحة مشروب صديقتها الصباحي معلنًا عن إشراقة يوم جديد، يوم وجدت نفسها تتطلع إليه بكل تعقيداته وكأنه موعدها الأول، ابتسامة واسعة احتلت ثغرها فور تذكرها كلمته المدللة لها البارحة يليها تنهيدة حالمة فلتت من بين شفتيها عندما جالت بخاطرها صورته الأخيرة وهو يتعمد الالتصاق بها فوق الدرج، ثم إصراره على إيصالها، وتلك النبرة القوية الحازمة التي خرجت منه مدافعًا عن حقه المشروع فيها فور شعوره بالغيرة، غاضبة منه؟!، نعم بالتأكيد!، سعيدة بالتغير الطارئ على شخصيته؟!، بالطبع!، بل تكاد تتراقص فرحًا كالطفلة المشاكسة والتي حصلت على حلوتها المفضلة للتو، ورغم ذلك تبقى هناك غصة، جزء داخلي يشعر بالخذلان من انصرافه عنها كل تلك المدة، خفتت ابتسامتها شَيْءً فشيء قبل إجبارها قسرًا لسيل أفكارها الجاري نحوه على التوقف عند تلك النقطة تحديدًا، خاصةً بعدما تبدل مزاجها السعيد بآخر عكر، ثم سحبت هاتفها تنظر في شاشته، قبل أن تتمطى في كسل بعد خروجها من الفراش وقد تحول عبوس جبينها إلى ابتسامة مكر احتلت زوايا فمها حيث قررت مواجهة عناده باللامبالاة.

وبداخل غرفة المعيشة بعدما انتهت من ارتداء ثياب عمل تتسم بالأناقة والاحتشام معًا، غمغمت رفيقتها في السكن تحية الصباح :
-(( صباح الخير ع الناس النشيطة ))..

بادلها تحييتها قائلة في حنين :
-(( صباح الخير.. صوت فيروز فكرني بماما الله يرحمها ))..

قالت غفران مبررة في اعتذار مبطن :
-(( دي الإذاعة.. تحبي أغير؟! ))..

حركت رأسها رافضة، بعد أن اغرروقت عيناها بالدموع من الذكرى ، بينما هتفت غفران في فضولها المعتاد تحاول تغير مجري الحديث بعدما نظرت في ساعة هاتفها.
-(( بس لابسة بدري ليه كده.. الساعة يادوب سبعة وربع؟! ))..

أجابتها في عدم تركيز بعد أن لفت نظرها مغلف أبيض صغير حاولت الأخرى إخفائه داخل جيبها حال رؤيتها له :
-(( لازم أنزل سبعة ونص عشان أوصل هناك ٨.. وبعدين سيبك من صحياني وقوليلي بتخبي مني أيه؟! )) ..

أجابتها كاذبة في إرتباك رغم ثبات نبرتها :
-(( مفيش.. ده وصل النور )) ..

ختمت كذبتها بابتسامة واهنة، لم تنطلِ على تلك الوقفة قبالتها والتي هتفت تقول محذرة في نبرة ممطوطة :
-(( غــفــرررران.. إيه اللي في أيديك ده ؟!.. تهديد تاني صح.. قصدي عاشر ))..

هتفت رفيقتها مدافعة في تعلثم :
-(( ده شغل عيال أكيد مش هخاف منه.. مش قلتي نازلة.. يلا على شغلك ))..

صاحت رحمة تقول في ضيق :
-(( لعب عيال إيه ده اللي بتكلمي عنه عايزة افهم!!.. لعب العيال ده كان سبب في أنك تفقدي البيبي المرة اللي فاتت ودراعك يتجبس.. ولولا ستر ربنا كان جالك ارتجاج في المخ!.. كل ده وتقوليلي لعب عيال.. غفران سيبك من القضية اللي هتجيب أجلك دي سمعاني؟.. وإلا أنا هتصرف ))..

سارعت غفران تقول مبررة وقد فقدت أمام تأنيب صديقتها القدرة على تقدير الأمور :
-(( مش هسيبه يفلت بعد كل اللي عمله وبيعمله.. وكمان مش أنا لوحدي اللي بيوصله تهديد.. يحيى كمان.. يعني اللي بيعمل كده عايزنا نخاف ونتراجع زي مانتي بتطلبي دلوقتي وبس ))..

شهقة ذعر خرجت من فمها عند سماعها حديث رفيقتها الوحيدة، قبل أن تقول في إصرار :
-(( ويحيي كمان!!.. دي علياء روحت معاه البيت.. كده لازم أبلغ جواد وهو يتصرف معاكم ))..

صرخت غفران تستوقفها يائسة :
-(( لا جواد لا.. رحمة لو حد عرف هيتورط.. عشان خاطري بلاش ))..

تشدقت رحمة تجيبها في نزق :
-(( ومادام عارفة أنكم متورطين.. مكملة ليه.. أنا استحالة أسيبك في الموضوع ده لوحدك سمعاني.. وبعدين الزفت اللي اسمه أبو المجد ده لو عرف أن في حد قوي وراكم هيخاف ))..

سارعت غفران تقول في نبرة متباينة ما بين التهديد والرجاء :
-(( رحمة.. لو حد عرف بالموضوع ده وخصوصًا جواد مــ....... ))..

قاطع جدالهم ظهور شقيقها الأصغر يهتف متسائلا من بين تثأبه بعد أن جذبه صياحهم إلى غرفة المعيشة :
-(( رحمة.. أنتِ صاحية بدري كده ليه؟!.. وصوتكم جايب البيت كله ليه؟ ))..

إجابته في نفاد صبر بعدما نظرت في ساعة يدها :
-(( استلمت شغل من النهاردة والمفروض أوصل بدري.. الساعة سبعة ونص يادوب الحق أتحرك.. وأنت يا تيفا.. أنجز نفسك عشان تلحق محاضراتك من أولها.. وتعالي بدري النهارده عشان بقالنا فترة مقعدناش مع بعض واتكلمنا ))..

لاحت بكفها مودعة منتهزة فرصة الخلاص التي منحها لها شقيقها على طبق من فضة، وهاربة من سماع تحذير تعلمه جيدًا، وقد عقدت النية على اللجوء إلى إحداهم، وبالطبع بما أنها ناقمة على رجلها الرمادي فخيارتها أصبحت محدودة، بينما تمتم شقيقها مودعًا في حب وهو يفرك بكفه مؤخرة رأسه:
-(( خلي بالك على نفسك طيب ))..

بعثت إليه بقلبه خاطفة تلقاها مرحبًا قبل أن تغلق باب المنزل من خلفها، تاركة الأخرى تراقب هروبها التكتيكي وهي تلعنها في صمت..


********************************


صوت ضحكات رنانة لطفلة لا تتجاوز الخامسة من حيث تقديرها، دوى مُحْتَلًّا ذرات هواء الممر المندفعة إليها من الخلف، أجبر ثغرها على الانفراج في ابتسامة معجبة بمرح تلك الصغيرة، وعلاقتها الودية على حسب تخمينها المبدئي بوالدها هو الأخر وضحكته الرخيمة الخافتة التي ترتفع من وقت لأخر ثم تعود وتختفي فجأة كما ظهرت على حين غرة، فتفقدها تركيزها لوهلة وتُبعثر الحديث من فوق شفتيها، جاذبًا انتباهها نغمات الطفلة الناعمة وحديثها الشيق المبهم والذي لا يصلها منه سوي همهمات خفيضة متقطعة، تود لو تُنهي مخابرتها الهاتفية ثم تركض نحو تلك الطفلة تطلب الأذن من ذويها والسماح لها بمجالستها ولو لدقائق قليلة والتمتع بتلك البراءة التي حُرمت منها بالجرم المشهود، ظلت تلك الفكرة المحببة تداعب ثنايا عقلها وتُغريها بالتحرك وتنفيذ رغبتها حتى توقف الصوت المنبعث إليها دقيقة واحدة، قبل عودته أقوى من ذي قبل، تتردد صدى قهقهات الصغيرة داخل الرواق في جلجلة صاخبة دفعها رغمًا عنها إلى الالتفات نحوها بعدما أغلقت هاتفها، ناظرة بلهفة تكاد تنهش داخلها إلى ملامح تلك الصغيرة المشاكسة، قبل أن ترتفع عدستاها إلى وجه والدها، والذي فور ملاحظته لها هتف يتساءل في اندهاش :

-(( غفران ؟!.. أنتِ بتعملي إيه هنا ؟! ))..

سارت إليه بابتسامة عريضة واسعة تحتضن بأعينها تلك المخلوقة الصغيرة ذات النظرة الملائكية الواقفة جواره، حتى شعرت بوخز الدموع الساخنة يلسع مقلتيها تفاعلًا مع الابتسامة الرائعة ونظرة الفضول المطلة من بين أهداب طفلته المتابعة لحركتها، وكأن لسان حالها يسأل عن سبب تحدث والدها إلى تلك الغريبة التي استقرت أمامها جاثية على ركبتيها تسأل في حشرجة بعدما رمشت أجفانها عدة مرات تطرد ما خلفهم من سوائل غير مستحبة :
-(( جواد.. دي لينة ؟! ))..

أومأت الصغيرة برأسها إيجابًا عند سماعها السؤال، ثم همهمت تسأل في براءة :
-(( أنتِ تعرفينني؟! ))..

ذهبت محاولتها في التغلب على وخزات عبراتها أدراج الرياح فور سماعها للصوت الصغير العذب يتوجه بكلماته إليها، ولم تشعر سوي بذراعها وهو يمتد في اتجاهها، رغبةً في احتضان ذلك الكف الرقيق، والشعور بدفء براءته يتسلل إلي جليد حياتها الباردة عله يذيبه، ثم قالت بعدما طبعت قبلة مطولة فوق ظاهر كفها :
-(( طبعًا أعرفك.. بابي كلمني عنك كثير.. وجيت عندكم البيت قبل كده يوم كتب كتاب علياء.. بس أنتِ كان عندك حمى ونايمة وطبعًا معرفتش أشوفك.. بس ملحوقة نصيبي أقابلك النهارده.. أنا غفران زميلة بابي في الشغل ))..

رفعت الطفلة رأسها تنظر إلى والدها المتابع لحديثهم في صمت وكأنها تتأكد من صدق رواية تلك مجهولة الهوية التي اقتحمت خلوتهم دون دعوة، بينما سارعت غفران بإخراج قطعة من الحلوى تحتفظ بها داخل حقيبة ظهرها كعادة اكتسبتها منذ سنوات من كثرة تعاملها مع أطفال الملجأ تمدها إليها قائلة في توسل بعدما قبلت رأس الصغيرة :
-(( ينفع تاخدي دي مني وتديني حضن كبير؟! ))..

صرخة حماسة سعيدة كالتي خصت بها والدها منذ قليل وأشعلت بداخل الجاثية أمامها نيران اشتياقها لإحساس الأمومة ، خرجت من بين شفتي الطفلة قبل همسها في حرارة بأعين لامعة :
-(( بابي شيكولاه ))..

قهقهه جواد عاليًا لمعرفته نقطة ضعف صغيرته، وقبل نطقه بالموافقة، كانت طفلته ترتمي داخل أحضان ضيفتهم في عناق ودي بينما يدها الحرة تسحب جائزتها في لهفة، فتشبثت غفران بكامل طاقتها بذلك العناق وقد أضفي إلي لوحة يومها الباهت ألوانا زاهية، ونجح في رسم الابتسامة على شفتيها، إلى أن قطع جواد لحظتها الخاصة يسألها من جديد :
-(( مقلتليش بتعملي إيه هنا.. زيارة لحد ولا رحمة بلغتك بـ بابا؟! ))..

أجابته بعدما انتصبت في وقفتها وذراعيها لازالت تحتفظ بطفلته داخلهما :
-(( الست رحمة كتر خيرها افتكرت تقولي لما روحت بليل ))..

صمتت لوهلة ثم أردفت تقول في عتاب صريح :
-(( مانا أديت دوري في التمثيلية وأقنعتها توافق على الشقة والشغل كمان.. يبقي تفتكروا تبلغونني بأن عمو تعبان ليه ))..

هتف جواد مستنكرًا في حنق :
-(( ده حقيقي!!.. يعني مش أنتي اللي تقريبًا متجاهلة كل تليفوناتي الفترة دي عشان خايفة حد يتكلم عنك بسبب ظروفك!!.. وموافقتيش تساعدينني في موضوع إقناع رحمة غير لما بابا بنفسه كلمك!.. دلوقتي بقيت أنا الغلطان! )) ..

ارتبكت للحظات تحاول العثور على حجة مناسبة تبرر بها صدها الواضح له، فهي أبدا لن تخبره عن الخطر المحيط بها، أو خوفها من إلحاق الأذى به إذا ظهر في زوايا رؤية مراقبها لذا تتجنب لقاءه أو حتى التحدث معه، بينما هتف هو يُضيف في ضيق :
-(( ها.. سكتي ليه ولا عشان معندكيش حاجة مقنعة تقوليها؟! ))..

عضت فوق شفتيها وقد يأست من إيجاد مخرج للموقف الحرج الذي وضعت نفسها به سوي هتافها تسأل في فضول مغيرة مجرى الحديث :
-(( ألا صحيح جايب لينة معاك المستشفى ليه؟.. أول مرة تعملها ))..

حرك رأسه متفهمًا وقد وصلته الإجابة من عدم تعقيبها على حديثه، ثم قال في فتور :
-(( مفيش..الدادا مسافرة بقالها كام يوم وملقتش حد أسيبها معاه فاضطريت أجيبها المستشفى معانا ))..

تنحنحت حرجة بعدما أومأت بجفنيها، تتابع حركة يده وهو يسحب الطفلة من بين ذراعيها مضيفًا في جمود :
-(( رحمة قالتلك حاجة تاني عن موضوع الشقة ولا اتقفل خلاص؟! ))..

سارعت تجيبه باستفاضة :
-(( وافقت وقلقانه واتقفل.. هي مش غبية عشان تصدق أن كل ده صدفة.. بس برضه عايزة توافق عشان مصطفى.. أو يمكن من جواها عارفة الحقيقة وراضية بيها.. المهم أن في جزء منها استسلم للأمر الواقع ع الأقل من ناحية الشغل.. والنهارده الصبح طلبت من مصطفى يرجع بدري عشان تتكلم معاه.. أكيد هتبلغه أنهم هيتنقلوا لبيت جديد.. فأظن كده طلبك أتحقق ))..

قفزت إلى ذاكرتها فجأة رسالة التهديد الأخيرة، وما دُونّ داخلها بوضوح فوثبت وجلة كمن لدغته حية تقول بعدما مشطت بأعينها الممر تتأكد من عدم ملاحقة أحد لها :
-(( عن إذنك هدخل اشوف عمو بسرعة عشان عندي مشوار ضروري ))..

تابع ركضها من امامه في بلاهة شاعرًا بوجود خطب ما وقد عزم النية على معرفته في أقرب وقت.




******************************


جال بعينيه الرواق بغرفة الاستقبال، يبحث عن مراده حتى وجدها جالسة بين رفيقات العمل خلف أحد المكاتب تتسامر في ودية شديده تاركة أعمالها المتراكمة حتى انتهائها من نميمتها الهامة وحديثهم المرح، فسار مدفوعًا بغيظه المحتقن داخله منذ البارحة حتى وصل إليها ووقف أمامها، ثم هتف يقول في حدة متعمدة :
-(( سايبة مكتبك ليه يا أستاذة.. ولا نقلتي شغلك هنا وأنا معرفش؟! ))..

قفزت من مقعدها بعدما اختفت الابتسامة من فوق شفتيها ومن داخل عينيها وتحولت إلى نظرة فزع، بينما تفرق الجمع من حولها كُلًّا يركض في اتجاه مختلف ولم يَتَبَقَّ سواها في محيطه، فأستطرد يضيف في جمود :
-(( فكريني كده باسمك إلا نسيت ))..

سارعت تقول في تعلثم واضح :
-(( زهرة يا فندم ))..

مط شفتيه للأمام ثم قال معقبًا بعد أن وضع كفيه خلف ظهره وانتصب يستقيم في وقفته :
-(( ويا أستاذة زهرة.. محدش عرفك تستأذني قبل ما تدخلي على مديرك.. ولا هي زريبة!! ))..

ابتلعت لعابها بالإهانة التي ألقاها في وجهها، ثم قالت في تردد مدافعة عن نفسها :
-(( والله يا فندم أستاذ جواد هو اللي طلب مني اعمل كده ))..

ضيق طاهر نظراته فوقها فأردفت تقول في ثبات بعد لمحها اهتمام ملامحه بما القته في وجهه :
-(( جواد بيه إمبارح بعد ما خرج من اوضه حضرتك.. قصدي اوضه أستاذه رحمة.. طلب مني استني شويه ولو حضراتكم اتاخرتوا جوه ادخل أسأل لو أحضر معاك الاجتماع.. طبعا من غير ما أخبط على الباب ))..

زفر حانقًا من أفعال رفيقه الصبيانية، ثم قال محذرًا قبل أن يستكمل طريقه نحو وجهته الأساسية :
-(( اللي حصل إمبارح ميتكررش.. مفهوم.. وتشوف شغلنا مش جايين نهزر ونعمل حلقة نميمة في المكان.. ودلوقتي في موظف من البنك هيطلع عشان يخلص موضوع فيز المرتب.. تخليكي معاه لحد ما يخلص وأنا داخل جوه ))..

حركت رأسها عدة مرات موافقة في احترام دون التجرؤ على رفع أهدابها والنظر في عينيه، تتابع بضيق واضح من خلف أهدابها المنسدلة خطواته الثابتة نحو غرفة المالك، حتى اختفى من أمام ناظريها وقتها هتف من خلفها صوت أنثوي لفتاة ممن كانوا حولها وعادت فور ذهابه تعنفها قائلة :
-(( مش قلتلك بلاش.. أنتي اللي صممتي تدخلي.. اهو سمعك كلمتين ملهمش لازمة اهو ))..

نفضت رأسها في خيلاء حتى تطايرت خصلآت شعرها من حولها، مشكلة هالة بنية اللون كأشعة الشمس قبل الغروب، وقائلة في غيرة :
-(( اتلهي وسبيني أشوف اللي ورايا.. وبعدين كل كده عشان حبيبة القلب اضايقت من دخولي عليهم! .. معرفش حظنا احنا اللي فقري كده ليه.. شركة مخصوص تتعمل على حسها غير حلاوته وفلوسه وكمان دلع وحب.. بذمتك فيها إيه زيادة عننا ))..

إجابتها الفتاة مؤنبة :
-(( يا ستي دي أرزاق.. ربنا مقسم لكل حد فينا رزقه وهي رزقها الزوج الصالح.. وبعدين ما هي حلوه وجميلة وشيك وباين عليها الاحترام والتدين.. وحتى لما جمعتنا الصبح عشان تعرف عن نفسها اتعاملت بمنتهى التواضع وقالت إننا صحاب المكان وهي اللي ضيفة مؤقتة.. أنا رأيي هو اللي يا بخته بيه ))..

حدجتها بنظرة مزدرية قبل هتافها في نزق :
-(( بقولك إيه روحي على مكتبك مش ناقصة أنتي كمان تسمعيني قصايد في جمال مديرتك.. امشي وسبيني أروح لشغلي محدش هينفعني غيره ))..

حركت الفتاة الأخرى رأسها في قلة حيلة رافضة تطلع صديقتها إلا ما مُتع به غيرها قبل الانصراف من أمامها.

أما في الداخل، ومن خلف الباب المغلق، جلست فوق المقعد الجلدي المريح تتأفف وكأنها جالسه على قطع من الجمر تلسع جلدها الناعم، فبعد أن غمر كيانها الرضا لمخالفتها أوامره، واحتلت ابتسامة الشماتة ثغرها كلما تخيلت ردة فعله عند وصوله منزلها واكتشافه تحركها من دونه، بدأت ابتسامتها تخبو شيئًا فشيء مع انقضاء الساعات حالًا محلها العبوس، فقد خيل إليها عقلها بعد تهديده البارحة بملاحقته لها أن يظهر في اي لحظه ويعبر عن رفضه تصرفها، وها هي منذ وصولها في الصباح وإلى الآن وعدستيها مُعلقة بباب الغرفة دون نتيجة مرضية، حتى فقدت حماسها بمرور الوقت وحل الإحباط محل السعادة بداخلها، وعادت إلى سيرة شكوكها الأولى، مقاطعًا كعادتها في الآونة الأخيرة مجرى أفكارها المتدفقة منه وإليه، دفعة حادة لباب الغرفة يليها ظهوره أمامها، يرمقها بنظراته الغاضبة بعد أن أوصد الباب من خلفه بقفل الأمان، فانتصبت في وقفتها مستعدة لجولة جديدة من الجدال الحاد بينهم، متجاهلة ذلك الجزء الخائن بداخلها والذي هتف مهللًا لرؤيته أخيرًا محققًا رغبتها المكبوتة، بينما هتف هو يسأل بصوته الخشن :
-(( أنا قلتلك إيه امبارح؟! ))..

أجابته مراوغة ومتلذذة بالغضب البادِ على قسماته :
-(( امبارح قلت حاجات كتير.. هفتكر إيه ولا إيه ))..

صاح في عنف أجفل جسدها على أثره :
-(( رحمة متلفيش وتدوري.. قلتلك ايه بليل لما كنا على السلم! ))..

أشاحت بوجهها بعيدًا عنه تبحث عن شجاعتها الفارة من أول مأزق، فعاد هو يصيح من جديد في حدة :
-(( قلتلك لو نفذتي اللي في دماغك وركبتي مواصلات تتلزقي وسط الرجالة هعمل ايه!! ))..

الركض هو نصف الشجاعة، خاصةً في حالة الوقوف أمام ذلك الوحش الثائر، هذا ما هتف به عقلها في حين أبت كرامتها الانصياع له حاسمًا النزاع صوتها الذي خرج من حنجرتها دون وعى يوقف تقدمه منها :
-(( مركبتش والله انا جيت بأوبر لوحدي ))..

تنفست الصعداء فور لمحها لإرتخاء ملامحه النسبي وتوقف سيره نحوها ورغم ذلك، بادرت بالتحرك من خلف المكتب تتيح لجسدها مساحة للهرب في أي لحظة تشعر بها بالخطر، متابعة بفضول شديد حركة يده المتشنجة ثم إخراجه لأحد المستندات من جيب سترته الداخلية آمرًا في جمود بعد أن ألقاهم فوق سطح المكتب في عنف :
-(( امضي على الأوراق دي وأخلصي عشان حساب البنك ))..

عقدت ذراعيها معًا أمام قفصها الصدري في حركة دفاعية ساذجة، ثم قالت في برود :
-(( ومين قال إني عايزه حساب! ))..

مرر يده خلال خصلاته القصيرة بعد أن زفر مطولًا ثم قال في نفاذ صبر :
-(( ده حساب خاص بالمرتب.. عشان ينزلك عليه وتستلميه بالفيزا.. وده لكل الموظفين مش ليكي لوحدك.. اكيد مش هخلي المحاسب يسيب أشغاله ويلف على فرد فرد يقبضه! ))..

هتفت تسأله مستنكرة في عناد :
-(( ومين قالك أني عايزه قبض منك !! ))..

تشدق ساخرًا :
-(( أومال هتتشغلي لله والوطن؟! ))..

أجابته في غلظة :
-(( أنت عارف اني وافقت على موضوع الشغل هنا عشان مزعلش الراجل المريض أكتر ما هو زعلان او أحمله عبء زيادة.. بس ده مش معناه إني هشتغل معاك.. ده مجرد وضع مؤقت ولما أتأكد من سلامته هسيب المكان فورًا ))..

سألها بابتسامة استخفاف بعدما أطلق من حلقه صوتًا ساخرَا :
-(( على أساس أني هسمحلك تشتغلي مع حد غريب صح؟! ))..

هتفت محاولة الحفاظ على هدوئها وعدم الانسياق خلف استفزازه :
-(( بصفتك إيه إن شاء الله؟! ))..

قال في بساطة :
-(( جوزك ))..

أشعل فتيل غضبها بنظرته المستهينة بها فاندفعت تصبح في اهتياج بعد أن نجح في إثارة حفيظتها أخيرًا :
-(( جوزي!!.. بمناسبة أن جوازنا كان إجبار؟!!.. ولا بمناسبة أني لعبة في ايديك تظهر وقت ما تحب وتختفي وقت ما تحب.. ولا بمناسبة ان بقالك سبع شهور كاملة معرفش عنك حاجة وجاي دلوقتي تقولي اعمل ايه ومعملش ايه كأني جارية عندك.. انت بأي حق فاكر نفسك ممكن تتحكم في حياتي!! .. ولا مين ضحك عليك واقنعك اني هسمحلك!! ))..

اللعنة على ذلك المرض الذي أصبح نقطة ضعفه وقوتها، لقد أراد استرضائها خوفًا من إصابتها بنوبة جديدة، أخبارها بأنه احمق اندفع خلف رغبة طبيبها دون التفكير فى عواقب فعلته، وبأنه خلال الاشهر المنصرمة سار بين الخليقة كجثة هامدة ولم تعد روحه إلى جسده ألا برؤيتها، بينما استأنفت هي توبيخها وكأن الكلمات عقد وانفرط من جمعه، تتناثر واحدة تلو الأخرى هنا وهناك في سرعة دون القدرة على إيقافها :
-(( وبعدين ممكن اعرف انت جاي دلوقتي ليه!!.. عشان الهانم الملزقة دي تدلع عليك زي إمبارح.. ولا عشان واحدة تانية تبصلك وتاخد بالها من عضلاتك! .. ولا واحدة تالته تقول واوووو شوفوا لابس بدلة عاملة ازاي.. ولا واحدة غيرهم تشمشم في ريحة البرفيوم بتاعك!! ))..

هل تجاوز لسانها حد ما هو مسموح بالإفصاح عنه؟! أم يخيل لها ذلك من نظراته المستمتعة!، ضغطت فوق عينيها بعدما أغلقتهم وعضت على شفتيها ندمًا تود لو تركض من الغرفة بأكملها هربًا من ذلك الموقف الحرج، وعلي عكس شعورها كان هو سعيدًا بتوبيخها وبما أستمع إليه، يحاول جاهدًا الحفاظ على ثباته الانفعالي وعدم الصراخ احتفالًا بغيرتها الواضحة، فـقراءة مشاعرها المدونة من خلف الدفتر شئ، وسماعها منها متجسدة بردات فعلها الحية شئ أخر، شعور جعله يحلق بين السحاب في أرض الأحلام المثالية، وبعد فترة من الصمت أخذ يتشرب خلالها ملامحها الناعمة، تنحنح يسأل في مرح :
-(( أنتِ غيرانة؟! ))..

فتحت عينيها على مضض تواجه واقعها المرير، ثم قالت نافية في نبرة هامسة :
-(( وهغير ليه.. لا طبعًا ))..

عقب على كذبتها مشاكسًا :
-(( يعنى مش بتغيري على رجلــ.... ))..

هتفت تقاطعه في هجوم وقد تجاوز انفعالها الحد :
-(( متقوليش رجلى الزفت وتقلب الطربيزة عليا.. وبطل تفكرني بالكلام اللي كتبته.. ماشي!! ))..

أنهت أعتراضها بلكزة قوية في ساعده نفّست بها عن غضبها المكبوت من تبجحه وغروره الزائد في التعامل معها، ثم زفرت مطولًا كخطوة أخيرة تحارب بها ضعف رئتيها، وبعد لحظات من الصمت لم يصدر عنه أي رد فعل على عكس عادته في جدالهم، رفعت رأسها تنظر نحوه فتفاجئت به يمرر نظراته الجامدة بالتساوي بين كفها وبين عضده حيث لكمته منذ وهلة، قبل أن يسألها وهو يتقدم منها بخطوات بطيئة متأهبة وقد نجح في رسم الجدية فوق ملامحه وفي نبرته :
-(( أنتِ مديتي أيديك عليا دلوقتي؟! ))..

رمشت بأهدابها عدة مرات تتطلع إليه في بلاهة بينما ساقاها تتراجع للخلف المسافة التي يتقدمها منها في رد فعل تلقائي خوفَا من ملامحه المحتقنة وقد فاجئها رد فعله الغاضب، فقد تحركت يدها في حركة شديدة العفوية ولم تظن في أسوأ كوابيسها أن يصيبه الغيظ من حركتها تلك والأسوأ هو عدم قدرتها على تفسير فعلتها أمامه وكل هذا النقم يطل من نظراته فلاذت الصمت، مستأنفًا هو حديثه يقول بحرفية وآدًا ابتسامة تهدد بكشف أمره وجسده لازال يتقدم نحوها بترو شديد :
-(( لو جدي كان عايش وعرف أن حفيده اضرب من واحدة ست كان لبّس رجالة العيلة كلها طرح ))..

أرتجف فكها في قلة حيلة تحاول التغلب على وخز دموعها الذي ظهر فجأة من العدم ندمَا على فعلتها، قبل أن تشهق مذعورة فور قبضه على خصرها، يحاصر بأحدى ذراعيه جسدها، ويُغلق بالذراع الأخر الحر ستار النافذة من خلفها، هامسة في عجز :
-(( أ..أ أنــا.. أسسفة ))..

قال معترضًا في هدوء وكفه تتحرك نحو حجابها القطني يحل أطرافه من حول عنقها :
-(( الاعتذار مش كفاية.. بس ممكن نتفق اتفاق يعوضني ))..

كانت تمر بحالة من التشوش وفقدان الوعي فلم تعي لما يقوم به، أو ربما كانت واعية ولم تملك القدرة الكافية على إيقافه، فقط وجدت رأسها تتحرك في إيماءة موافقة قبل أن تتابع بأعينها وشاح رأسها وهو يُلقي بعيدًا عنها، مُستطردَا هو حديثه بينما أنامله تتحرك في جولة حرة داخل خصلاتها الناعمة بعدما حررها من أسر كعكتها البسيطة :
-(( مش هاجي الشركة هنا تاني غير لو أنتِ طلبتي مني.. في المقابل تسمحيلي أوصلك صبح وليل عشان أكون مطمن ))..

همهمت موافقة بعد أن هرب الصوت من داخل أحبالها تتابع ابتسامة الرضا التي ارتفعت بها زوايا فمه، قبل أن يضيف هامسًا أمام شفاها المرتجفة :
-(( حلو.. فاضل كدة نمضي الاتفاق ))..

عقدت ما بين حاجبيها في عدم فهم مستسلمة لحالة الخرس التي أصابتها، فأردف يقول شارحًا في خبث :
-(( الأتفاق الورقي بنمضي عليه كتابي..والشـفــوووي.. بنمضي عليه كدة ))..

همست معترضة في وهن فور انتباهها لما ينتوي فعله :
-(( طاهـ...... ))..

أبتلع اعتراضها داخل فمه في قبلة مشتاقة، كانت بالنسبة إليه كقبلة الحياة، الأمل، قبلة ظل يمني نفسه به خلال كل الليالِ المنصرمة التي أُجبر فيها على الابتعاد عنها ، قبلته المنشودة والتي عاد بها إلى أرض الأحياء خاصةً عند شعوره بعدم نفورها منه أو رفضها له، متعمقًا في اكتشاف فمها كيفما تمني حتى شعر بحاجتها إلى الهواء فأبتعد عنها على الفور يعطيها مساحتها الكاملة في لملمة أشلائها، وإرادته رغمًا عنه.

وبعد فترة من الصمت استجمعت خلالها شتات ذهنها وصوتها الهارب، هتفت معنفة :
-(( على فكرة.. كده عيب وقلة أدب ))..

تشدق ساخرًا بجملته بعدما تأمل احمرار وجهها مطولًا :
-(( شكرًا.. فعلًا كنت محتاج حد يفكرني أني قليل الأدب.. الموضوع هيفدني قدام ))..

فتحت فمها على أتساعه تجبر عقلها على تجاوز تلميحه المبطن الوقح، بينما أستطرد هو يقول في نبرة اعتيادية :
-(( رحمة.. امضي على الورق من غير جدال.. وأنا هستناكي في العربية عشان نزور عمي ميعاد العناية قرب ))..

في ظروف أخرى.. لاختارت جولة جديدة من المجادلة تثير أعصابه بها كعقاب، ولكن بعد ما حدث بينهم منذ قليل، أرادات صرف عقلها عند التفكير بذلك الموقف لذا، أخذت القلم من فوق المكتب توقع في هدوء الأوراق المطلوبة منها، سامحة لعينيه بتأمل خصلاتها المنسدلة، تميمته السحرية في اشتياق تام، حتى وجد صوته يخرج منه دون وعى هامسًا اسمها :
-(( رحمتي ))..

رفعت رأسها على عُجالة وفي حدة عفوية تنظر بأعين واسعة وعدستيها تلمع بانبهار لم يعهده منها من قبل، فأستطرد يقول متوسلًا بعدما أنحني بجذعه حيث وشاحها المُلقي أرضا يلتقطه، قبل أن يعود ويقف أمامها مَمسَدًا بأنامله شعرها تمهيدًا لوضعه :
-(( داري سحرك عني ))..

وضع الحجاب فوق رأسها، ثم أردف يهمس داخل أذنها بعدما أحتك عَامِدًا بذقنه الخشن وجنتها الناعمة فأصاب جسدها بقشعريرة امتددت على طول عمودها الفقري ومنه إلى فكها :
-(( وأفتكري أني.. بحبك ))..

أنهى جملته ثم اختفى من أمامها تاركها ترتمي فوق المقعد الجلدي تتلمس بسعادة شفتيها ووجنتها حيث تلامسا منذ قليل ومنه إلى قلبها تضغط فوقه بقوة، تحاول تهدئة انفعاله بعد استماعه إلى اعتراف أعاد نبضه إلى الحياة، مرةً ثانية.



***************************



سارت برشاقة وخيلاء تتمايل بخفة كعارضة أزياء متمرسة، توزع ابتسامتها المغرية بين موظفي الاستقبال ممن سال لعابهم من مظهرها المغري وملابسها الضيقة، مستمتعة بحالة الفوضى التي تُثِيرهَا أينما حلت، حتى وصلت إليه واقتحمت غرفته دون استئذان، وجلست أمامه تستمع إلى إحدى مكالماته السرية حيث تعتبر شريكة مهمة بها، إلى أن انتهى من ترتيب صفقته الجديدة وأغلق هاتفه وقتها، هتف يقول مُعَاتِبًا :
-(( أيه يا ست جيداء.. بقالي فترة مش عارف اتلم عليكي.. قابلتي حبيب القلب ونسيتي مصالحنا ولا أيه ))..

لوت فمها بمرح وهي تطالعه مطولًا متأملة مظهره الأربعيني المثالي، بسمار بشرته، مع بذلته الكتانية الحديثه وطوله الفاره والواضح برغم جلوسه، ونظرة الخبث التي دائمًا ما تغلف نظرته، ثم قالت في دلال بعدما وضعت ساق فوق الأخرى، تبرز أكبر قدر من مفاتنها :
-(( وأنت تعرف عني كده برضه يا نادر!! ))..

قهقه عاليَا ثم قال في استخفاف بعد أن أخذ وقته الكامل في النظر إلى ساقيها :
-(( مش أنا يا جيداء.. وفري تعبك لغيري وقولي لي.. بقالك ٧ شهور من وقت ما جيتي.. لا عرفت تجبيلي ورق القضية ولا حتى أي أخبار عنها.. ها.. أتصرف أنا ولا.... ))..

سارع تقاطعه قائلة في لهفة بعد أن اعتدلت في جلستها :
-(( لا وألا إيه.. موضوعنا مفيهوش وألا.. هو بس متنشن معايا ورافض يقابلني.. بس وعد هتصرف ))..

ضيق عينيه فوقها يتفحص ملامحها والذعر الذي أعتلي قسماتها فور تلميحه بإنهاء الاتفاق بينهم ثم قال في تفكير :
- (( طب واللي يهيأ لك فرصه تدخلي بيته.. بس الباقي أنتي وشطارتك فيه ))..

حركت رأسها عدة مرات موافقة قبل أن تقول في حماسة :
-(( في دماغك إيه وأنفذ ؟! ))..

قال في وضاعة :
-(( بكرة أو بعده هديكي أشارة تتصلي بيه وتجريه ع المكان اللي هبلغك بيه.. وسيبي الباقي عليا ))..

سألته وعيونها تلمع في فضول :
-(( هتعمل إيه ))..

أجابها في نفاذ صبر وهو يعود ويتكأ على ظهر مقعده :
-(( قرصة ودن خفيفة.. ولما يفوق هيلاقيكي جنبه.. ودايني فتحتلك سكة وريني هتعملي إيه ))..

ابتلعت لعابها بقوة، قائلة في تردد :
-(( فيها أذى ليه ؟! ))..

صاح بها جامدًا بعد أن انتصب في وقفته وضرب بقبضته الطاولة أمامه:
-(( تنفذي ولا تنسى مكان بنتك خالص ))..

سارعت بتحريك رأسها في تشنج، منصاعة لرغبته ومتمتة بقلة حيلة :
-(( أي حاجة.. اللي تطلبه هنفذه ))..



*******************************

يقال إن من وجد الحب قد وجد السلام، تنهيدة ساخرة فلتت من بين شفتيها عند تذكرها لتلك المقولة الكاذبة، أثارت ريبة والدها المستلقي فوق الفراش الطبي جوارها، حيث أصر فور وصولها على جلوسها جانبه يتابع عن كثب صمتها المقلق، وتلك العبرات اللامعة داخل مقلتيها ومحاولتها البائسة في إخفائها والانخراط في الحديث بينهم، وما هي إلا ثوانٍ حتى تلبث عائدة إلى سيرتها الأولى تتذكر حديثه في الصباح، وكلماته التي قضت على أخر أمالها في الاجتماع به بعد أن اعترف لها بحبه لأخرى، فكم كان بعيد المنال عنها حتى ظنته خيال، وبالرغم من ذلك طاوعت قلبها في استئناف سيره إليه، حتى اقتربت منه وحين أوشكت على الإمساك به، اختفى من أمامها وتركها تعاني من ويلات الندم على أتباعها للزيف، نفضت رأسها من تلك الأفكار بعد أن غشت بصرها ضبابه جديدة من العبرات، جاذبًا انتباهها صوت والدتها
تسأل في اهتمام :
-(( مالك يا عاليا.. وشك بهتان ليه يا حبيبتي؟!.. مأكلتيش كويس ولا أيه؟! ))..

أجبرت ثغرها على رسم ابتسامة باهتة تطمأن بها قلق والدها المتابع حديثهم في لهفة، قبل أن تقول كاذبة :
-((لا يا ماما.. بس يمكن قلقانة علي بابا شويه ))..

هنا هتفت والدتها تشد من أزرها :
-(( يا حبيبتي ماهو كويس وزي الفل أهو.. والحمدلله الجلطة بتدوب والدكتور قال بكرة هنخرج.. يبقي ليه القلق ))..

أشاحت بوجهها بعيدًا عنها لا تقوى على النظر في عينيها وتخاطر بكشف حزنها الحقيقي، بينما قال والدها متعاطفًا ومتفهمًا سيدة قلبه :
-(( أنا عارف أن من جواها بتتقطع وشايلة الذنب.. متعرفش إن كله مكتوب.. ومفيش حاجة بتفرحني غير فرحها.. ويمرضني غير زعلها ))..

نظرت إليه بحنان لا تدري كيف تخبره بما انتوت الأقدام عليه، ورغم عقدها النية على الفراق ألا أنها قررت عدم الفصح عن نيتها له إلا بعد امتثاله التام للشفاء، أما الأن وتحديداً ستخبر شقيقها عن رغبتها في الانفصال قاطعة الطريق على قلبها في المماطلة أو التفاوض للتراجع عن الأمر.

وفي الخارج أنتهز طاهر فرصة تحرك رحمة لتأدية فريضتها في تأنيب رفيقه حينما هتف يعنفه في حدة قائلًا :
-(( بذمتك مش مكشوف من نفسك وأنت رايح تتفق مع موظفة عشان تعمل عليا الشويتين دول ))..

ابتسم جواد عن ملئ فاه قائلًا في مرح :
-(( هععععع.. هي عملتها! ))..

هتف طاهر في حنق :
-(( أه يا برطمان النباهة عملتها.. قال يعني هي طايقة تبص في وشي عشان سيادتك تبعتلي واحدة تدلع عليا قدامها !! ))..

تمتم جواد مدافعًا عن فكرته :
-(( أنا الحق عليا إني حبيت أساعدك وأخليها تغير.. أخبط دماغك في الحيط.. وبعد كده متطلبش مساعدتي في حاجة تاني.. أنا غلطان إني بعبرك أَسَاسًا !! ))..

صاح طاهر في عدم تصديق وهو يجز فوق أسنانه :
-(( يعنى أنت تساعدني تخرب الدنيا!! .. معندكش وسط أَبَدًا ))..

أوشك جواد على مجادلته ولكنه تراجع عند لمحها تتقدم منهم فسارع يشير بعينيه نحوها مجبرًا صديقه على تأجيل تقريعه إلي وَقْت أخر، بينما هتف طاهر بعدما توجهه نحوها يسألها هامسًا في مزاح :
-(( دعتيلي وَأَنْتِ بتصلي؟!.. ولا دعيتي عليا ))..

قالت كاذبة بعدما أجبرت ملامحها على تصنع الضيق :
-(( لا ده ولا ده ))..

اتسعت ابتسامته المشاكسة، ثم أردف يسألها في مكر :
-(( طب دعيتي لعمي ربنا يحقق أمنيته اللي طلبها؟! ))..

أزداد عبوس جبينها وهي تطالعه، قبل أن تسأله في حيرة :
-(( أمنية إيه؟! ))..

أجابها عابثًا بعدما انحنى برأسه وأصبح في نفس مستواها :
-(( أنه يفرح بولادنا قريب ))..

هتفت متلعثمة في حرج :
-(( طـــااااهــررر ))..

قهقه عاليًا من رد فعلها الخجل، ثم قال نزق بعدما تلمس وجنتها الساخنة :
-(( رحمة أنا رايح أصلي.. عيب كده ))..

راقبت انسحابه من أمامها وخفقاتها تدوي بعنف فقط لسماعها ضحكته الساحرة، معيدها إلى أرض الواقع حركة جواد من حولها فسارعت تستوقفه هاتفة :
-(( جواد.. في حاجة مهمة بخصوص غفران حابه أقولك عليها ))..

توقف عن السير فور سماعه جملتها، ثم قال في اهتمام وقد روادته خفقة قوية مجرد سماعه الأسم :
-(( قولي سامعك ))..

صمتت لوهلة تستجمع شجاعتها وتطرد صوت رفيقتها المحذر من داخل عقلها وقبل أن تهم بالتحدث، قاطعها صوت علياء قَادِمًا من خلفها تقول في تصميم :
-(( جواد أنا قررت.. عايزة انفصل ))..



التعديل الأخير تم بواسطة ebti ; 26-12-20 الساعة 12:24 AM
شيماء_يوسف غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 27-12-20, 11:10 PM   #73

شيماء_يوسف

? العضوٌ??? » 474730
?  التسِجيلٌ » Jul 2020
? مشَارَ?اتْي » 61
?  نُقآطِيْ » شيماء_يوسف is on a distinguished road
افتراضي

الفصل التاسع والعشرون ♥️🔥

"وأما قبل ".. فقد رأيت عندك الفجر وأخذت منه نهاراً أحمله في روحي لا يظلم أبداً ."

-صادق الرافعي.

بعْضَ القراراتِ يَتخذُها القلبُ مُباركًا حماستهُ العقل، والبعضُ منها يستقرّ عليها العقل، مُعَرقلًا تنفيذها تردد القلب المذبذب بين ذلك وذاك. " لا إلى اليقين ولا إلى الشك"، وهناك قلة مما يتخذُها العقل مُهَنِّئًا رجاحتهُ القلبِ حتى وإن صَاحبها القليلِ من الرّبكَ، أما أسوءهم فتلك التي يصِر عليها العقل مُتجاهلًا في قسوة ما أَصابَ نِيَاطُ القلبِ من هَتكِ، تمامًا كما يحدث معها الآن وقد تهدج صوتها بعد البوح برغبتها، وانهمرت دموعها بعد الإفصاح عن نيتها، وزاغ بصرها عند حصولها على غيتها، أما عن حال تلك المضغة خلف ضلوعها، فقد كانت تأنّ وجعًا حتى اضطربت وظائفها الحيوية ومادت الأرض أسفل منها، ولم يكن شقيقها بِغَافِل عما تمر به، فقد كان الألم الذي تعايشه أوضح من أن يتم تجاهله، وبعد أن أومأ برأسه موافقًا على طلبها، عاد يقول متراجعًا في رجاحة فكر، يهديها فرصة أخيرة لـلملمة شتات قرارها المُبعثر :
-(( علياء.. القرار ده دلوقتي على بابا مش سهل.. ممكن يعمله انتكاسة ))..

همست تقول في وهن :
-(( تعبانه يا جواد ))..

اتخذت رحمة، العضو الأجدد في العائلة من رغبتها في رؤية والدها حجة واهية كي تنسحب من بينهم في هدوء، فعقلها لم يعتاد بعد على فكرة الانخراط في التفاصيل الشخصية لأشقائها، بينما طفق الشقيق الأكبر يمسح فوق رأس أخته الصغرى بعد أن ضمها إلى صدره وقد أصابت كلماتها صميم قلبه، وفجأة شعر بعبراتها تجري في مجرى قنوات دمعه، وصدى ألمها يتردد في صدره، عندما أردفت تقول عاجزة في بكاء :
-(( مش عايزة أعيش عالة يا جواد.. مش عايزة اتجوز عشان دي أمنية بابا.. عايزاه يحبني.. عايزة اتحب زي البنات.. لشخصي ))..

زفر في قلة حيلة يحاول إيجاد الحلقة المفقودة في الأحداث، فالبارحة توسل إليه زوجها حتى يُسمح له بالتحدث إليها ومصارحتها بحقيقة مشاعره تجاهها، إذًا ماذا حدث؟!، وما الذي يدفعها لقول مثل تلك الأمور السخيفة؟!، رفع أهدابه ينظر في عجز وقلة فهم قبل أن يلمح من يملك جواب سؤاله قادمًا يسير في اتجاههم من بعيد فهمس يقول في راحة :
-(( طب أهو يحيى وصل أهو.. اهدي عشان اعرف أتكلم معاه وافهم حصل إيه ))..

سارعت بالقبض على ردائه، تشدد من قبضتها فوق سترته وتتمسك به وكأنه ملاذها الوحيد، مغمغمة في توسل :
-(( لا خبيني ))..

ضيق عينيه في عدم فهم وقد أثار طلبها بل الموقف بأكمله ريبته رافعًا منحني الشك بداخله إلى المستوي الأقصى؛ لذا هتف يقول في تأهب وقد استحال لون عينيه إلى السواد الحالك :
-(( عملك إيه؟! .. أقسم بالله لو عملك حاجة ما هسيبه ))..

أنهى جملته بدفع جذعها بعيدًا عنه استعدادًا للمعركة الوشيكة، بينما سارعت "علياء" بوضع جسدها مرةً أخرى أمامه كحائط صد يمنع تحركه وقد ضغط تهديده على زر غريزة القلق التلقائية بداخلها نحو مؤرق لياليها، وبرغم رغبتها في تصحيح الأمر وأخباره أنها تود الاختباء من نفسها وقلبها قبل الاختباء عنه وقد خانها التعبير كما خانتها كل أمنياتها وتوقعاتها في الحياة، همست تقول كاذبة في لهفة :
-(( معملش.. معملش.. أنا بقول كده من نفسي ))..

لانت ملامح شقيقها قليلَا على تأكيدها، ثم أخفض بصره يتأمل ملامح وجهها الشاحبة قبل أن يسأل في نبرة متباينة ما بين الفضول والشك :
-(( انتوا متكلمتوش امبارح ؟! ))..

حركت رأسها نافية في صمت، فاستطرد يقول في هدوء بعد معاودته محاوطتها بذراعه :
-(( طب عدي اليوم النهارده وبكرة لو موصلتوش لقرار كلميني.. ودلوقتي هروح أجبلك حاجة تاكليها بدل ما وشك ابيض زي الميتين كدة مش ناقص بابا يقلق عليكي انتِ كمان ))..

عند تلك الجملة كان محور حديثهم وتفكيرها، والمتسبب الأساسي في آلامها قد وصل إليها وتوقف عند أقدامها، معلنًا عن وجوده بسؤاله القلق، وموزعًا نظراته المتوجسة بينهم فور سماعه القسم الأخير من الحديث :
-(( مالها عالية يا جواد.. مالك يا عالية؟! ))..

أشاحت بنظرها إلى الطرف الأخر متجاهلة عن عمد إجابة سؤاله، بينما أجابه جواد شارحًا :
-(( مفيش بس من الصبح مش راضية تاكل حاجة وشها أصفر هروح أجبله....... أكــل ))..

وجهه كلمته الأخيرة إلى الهواء إذ اختفى مُحدثه من أمامه بمجرد سماعه نصف الحديث الأول، ولم يظهر سوى بعد عدة دقائق ويده مُحملة بكل أنواع الحلويات التي قد تمدها بالطاقة، ورغمًا عنها، ورغم تظاهرها بالجفاء وتمسكها بالرفض، شعرت برفرفة سعادة خفية تحلق بداخلها، زادتها نظرة الحنق التي رمق بها شقيقها قبل هتافه في ضيق وقد فاض به الكيل من رؤيتها تتكئ على كتف غيره :
-(( وأنت هتفضل حاضنها كده كتير ))..

أجابه جواد في سخرية متعمدًا حرق أعصابه :
-(( وأنت مالك.. مش أختي!! ))..

هتف يحيى في غيظ :
-(( وأنت مش ملاحظ أن أختك مش عايزة حتى ترد عليا وكأني خيال قدامها!!.. ولا مش ملاحظ أنها ماسكة فيك من ساعة ما وصلت كأني هخطفها لو سابتك!! ))..

ضاق جفناها، وعبس جبينها، وشرعت تتفحصه بطرف عينيها في تفكير بعدما تهادى إلى أُذنها سبة خارجة من فمه كتعبير صريح عن رفضه اقتراب شقيقها منها، بالطبع، فالشرقي يبقي شرقي في طباعه ولا يقبل المساس بممتلكاته حتى وإن لم تكن ذات قيمة حقيقة بالنسبة إليه، كان هذا تحليل عقلها لموقفه الحاد، وبذلك الأستنتاج وُلدت من بين دموعها الجافة فكرة ربما تُهدئ من حرقة صدرها، وعليها فقد التوي ثغرها في مكر وقد ابهجتها كثيرًا فكرة الانتقام منه عن البكاء ورثاء الذات، لذا هتفت تقول في تعالي موجهة الحديث إلى شقيقها ومتعمدة بذلك زيادة حنقه واستفزازه :
-(( جواد.. لو سمحت قوله ملهوش دعوة بيا وميستفزنيش!! ))..

صاح مُمْتَعِضًا فور سماعه طلبها :
-(( نعم!!.. مستفزكيش!!.. وإيه ملهوش دعوة بيا دي كمان ))..

نفضت رأسها في كبرياء بعدما أعرضت بجانب وجهها عنه، فاستطرد يهتف من جديد في سخط :
-(( علياء أنا بكلمك من فضلك ردي عليا ))..

راقها غضبه كثيرًا وقد أعادها مع غيرته واهتمامه إلى قيد الحياة، لذا قررت استئناف إثارته والضغط على اعصابه بعودتها توجيه الحديث إلى شقيقها المتعلقة بذراعه :
-(( جواد قوله إن قصدي واضح مش محتاج ترجمة ))..

رغم استمتاع شقيقها هو الأخر بالأمر، وإعجابه الواضح بعقاب صغيرة عائلته الماكرة، بل وفخره بطريقة تسيير أمورها، ألا إنه قرر التدخل في النهاية مشفقًا على ذلك الواقف أمامه وملامحه على وشك الانفجار من شدة الغيظ، فهتف يقول في براعة مدعيًا الضجر بعدما دفع جسدها ناحيته وغمز لشريكه بأحدى عينيه كي يتولى الدفة :
-(( لا أنا مش المترجم بتاعكم ولا خدام عندكم.. أنا هدخل اشوف بنتي وانتوا اتصرفوا سوا ))..

التقطها يحيى بين ذراعيه بامتنان، متجاهلًا شهقاتها المصدومة ومحاولتها البائسة في الإفلات من بين ذراعيه بعدما أحكم حصارهم حول جذعها، مستمعًا إلى اعتراضات صوتها الناعم المضطرب يغمغم بالقرب منه أذنه في تحذير :
-(( يحيى أبعد لو سمحت خليني ادخل لبابا ))..

تجاهل طلبها إذ انغمس في فتح ورقة الحلوى الخارجية بيده الفارغة وفمه تمهيدًا لإطعامها، بينما واصلت هي دفعه هاتفة في حدة :
-(( ابعد عني خليني أتحرك.. ومتفتكرتش أني هاكل حاجة أنت جايبها.. ماشي!! ))..

غمغم في نفاذ صبر ضاغطًا على حروف كلماته :
-(( وشك أصفر وأيدك بتترعش حتى لو داريتي ده.. معنى كده أن السكر في دمك واطي.. وده لان حضرتك من إمبارح رافضة تاكلي.. يعني بقالك ٢٤ ساعة مفيش حاجه دخلت جسمك.. وأنا مش هسمحلك تأذي نفسك.. بطلي عِنْد الأطفال ده ))..

سارعت بتحريك فمها إلى الجهة الأخرى عندما حاول دفع الطعام داخله عنوة، ثم صاحت تقول في تصميم :
-(( مش هاكل منك لو هموت.. أنا حرة وسبني بقي ))..

قال في إصرار بملامح جدية :
-(( معنديش نية أني أسيبك.. ارتاحي ))..

سكنت حركتها واختفى الضجيج من حولها وقد حملها بحديثه المبطن إلى الفضاء بسمائه الواسعة، يحلق بها إلى حيث لا تدري ولا تريد أن تدري، وقد ضاعت وسط أمواج خضراوتيه العاتية، تحاول جاهدة الوصول إلى شط الحكمة والوقوف على أرض الإرادة قبل فوات الأوان، وبعد لحظات من الصمت عادت خلالها إلى واقعها المُحبط، ثم همست تقول في ثبات :
-(( ولو قلتلك أني عايزة أسيبك ))..

أجابها وعينيه تلمع بعزيمة أربكت دفاعتها :
-(( سبيني.. وأنا همسك فيكي بالنيابة عننا احنا الأتنين ))..

شهقة ذهول خافتة فلتت رغمًا عنها، نجحت في رسم الابتسامة فوق شفتيه، قبل استطراده القول في رصانة :
-(( النهاردة كان عندي جلسة لطفل أهله مش منفصلين بس عايشين في الخليج وهو كان عايش مع جدته هنا لحد ما الجدة اتوفت ووالدته قررت تسيب كل حاجة وتنزل عشان ابنها.. بس الولد فضل يقابل أي موقف تقارب اسري أو مشاعر اهتمام من والدته بالصد والعناد وبعد سنة من محاولتها معاه يأست ولجأت للمساعدة النفسية.. عارفة أنا رأى إيه؟! )) ..

حركت رأسها سلبًا كعلامة على جهلها فاستطرد يقول وقد تحولت نبرته إلى الحنان :
-(( أن الطفل المذبذب القافل على نفسه بدء ياخد ثقة من اهتمام والدته ووجودها حواليه.. وعليه قرر يكسر شرنقة خوفه ويتمرد على وجودها عشان يتأكد من جواه أنها متمسكة بيه.. بس أنا عارف أنها مسألة وقت قبل ما يستسلم ويتقبل أن في حد يحبه بجد.. ومستعد يتحمل كل دلعه من غير ما يتخلى عنه أو يسيبه لوحده تاني ))..

هتفت في ارتباك مدعية عدم الفهم :
-(( وأنا مالي؟!.. وبتقولي أنا الكلام ده ليه! ))..

أجابها في بساطة وابتسامته تزداد اتساعًا مع رؤية تخبطها والتقاطها مغزى حديثه :
-(( مفيش كنت بسليكي لحد ما تخلصي الكيكة بتاعتك ))..

همست في بلاهة :
-(( كيكة!! ))..

اسدلت أهدابها تنظر إلى يده الممدودة نحو فمها ومنها إلى قطعة الحلوى التي التهمت معظمها، قبل أن ترفع كفها إلى فمها تمسح من فوق شفتيها في استنكار آثار الشيكولاتة السائلة هاتفه في اندهاش :
-(( إيه ده!!.. أنت عملت ايه؟!.. أنا ازاي اكلت البتاعة دي ))..

أجابها في استمتاع وهو يقاوم محاولتها الضعيفة في الإفلات من بين يديه :
-(( نومتك مغناطيسيًا ))..

قالت في استسلام وقد أعياها كثرة التحرك ومجادلته خاصةً مع فقدانها للطاقة من قلة تناولها للطعام :
-(( طب ممكن تسبني.. عايزه ادخل اطمن على بابا ))..

رفع إبهامه يمسح ما فوق شفاها على مهل، ثم قال بعدما طبع قبلة مطولة فوق جبهتها :
-(( طب اشربي العصير وهسيبك ))..

همست اسمه في توسل :
-(( يحيي.. عشان خاطري سبني امشي.. مكاني مش هنا ))..

التوي ثغره بابتسامة حب ناعمة وصلت إلى عينه، قائلًا في نبرة متحشرجة بعدما رفع كفها وبسطه فوق موضع صدره ناحية الشمال :
-(( عارف.. انتِ مكانك هنا ))..

انتفض جسدها وقد إصابته رعشة باردة وكأنها سقطت فجأة في جبال من الصقيع قبل دفعها جسده وركضها نحو الداخل تختبئ منه، وتنشغل عنه بعائلتها، وليصب قلبها المتهاون قارعة إن انساقت خلف رغبته وأهانت كرامتها بعد أن حطم آمال خيالاتها الوردية فوق صخرة اعترافه بحب أخرى.




*****************************



أضاءت شاشة هاتفه لما يقارب الدقيقة قبل انطفائها لِثَوَانٍ متجاهلًا عن عمد الإجابة عن ذلك الاتصال، قبل معاودتها الإضاءة من جديد في اتصال ملح يعرف جيدًا سير أحداثه بِنَاءَا على خبرة اكتسبها من المرات الكثيرة السابقة، زافرًا أنفاسه الساخنة في الهواء من حوله، يُنفس بها عن غضبه، إحباطه، وعجزه، والأسوأ تخبطه، بعدما استحالت حياته إلى الجحيم منذ تلك الليلة، وانقلب كل شيء رأسًا على عقب وكأن هناك لعنة ما قد أُلقيت عليه، حيث أُجبر يومها بعد اكتشافه خديعة وكذب زوجته الثانية، على تطليق زوجته الأولى بعد فقدانها الجنين أثر حادثة هي وحدها المسؤولة عنها، ومنذ ذلك اليوم العصيب وهو يتجاهل زوجته الثانية ألا في ليلة واحدة انهارت فيها دفاعاته واستجاب لإغوائها فأسفرت عن نطفة منه تنمو داخل أحشائها مزيدة من تعقيد العلاقة بينهم، وما زاد الطين بله هو انتهاء علاقة السلام الوطيدة بينها ووالدته، وبقي هو في المنتصف، بين شقي الرحى، يحاول إرضاء الجميع على حساب أعصابه غير المستقرة وقد سأم تضارب مشاعره، ورغبته المستميتة في إنهاء الخصام بينه وبين زوجته من جهة، وبين غضبه من فعلتها التي كلفته الكثير بالفعل من جهةً أخرى، ومع المحاولة العاشرة قرر الاستسلام ورفع الهاتف على أذنه مستمعًا إلى صوت والدته الغاضب تسأل من الطرف الآخر في حنق :
-(( مبتردش عليا ليه من أول مرة؟!.. ولا هي السنيورة بتاعتك قالتلك متردش عليها وملت ودانك من ناحيتي زي ما ضحكت عليك وملتك من ناحية غفران بالباطل!! ))..

حرك بؤبؤ عينيه متأففًا دون تعقيب فاستطردت والدته تهتف في حزن :
-(( شوف مبيردش عليا كمان أزاي ولا كأني بتكلم! ))..

مسح بيده الحرة فوق وجهه في عنف، وعندما لم يجد مَفَرًّا من الإجابة قال في تقريع رغم نبرته الخفيضة :
-(( وهي أفنان كانت تجرؤ تعمل اللي عملته غير لو أنتِ شجعتيها! ))..

صاحت والدته مقاطعة تَرْثِي حظها العسر :
-(( اااه يا سامية.. يا خسارة تعبك وشقائي على وحيدك يا سامية.. ما طبعًا أقنعتك أني الوحشة اللي حرضتها وهي الغلبانة المنكسرة.. وأنت آمنت ع كلامها زي العبيط ))..

صمتت لوهلة تبتلع خلالها لعابها ثم أردفت تهتف في حسرة :
-(( قومتك عليا بت بهيجة حتى الزيارة قطعتها مني وبقيت أشوفك كل أسبوع مرة.. حسبي الله.. منك لله يا أفنان يابت بهيجة.. أشوف فيكي يوم مطلعتهوش شمس قادر يا كريم ))..

صاح بدر متسائلًا في نفاذ صبر وقد سأم الحديث بأكمله :
-(( طب أنتِ عايزة إيه دلوقتي يا أمي ))..

قالت آمرة في جمود :
-(( عايزة أشوفك.. بكرة تكون عندي.. بقالك ٨ أيام مخطتش بيتي.. ولسه بكرة كمان لما تخلف هتقطعك مني خالص أنا عارفة ))..

حرر نيران صدره المكبوتة إلى الخارج في صوت مسموع، قبل تمتمته مُتَجَاهِلًا التعقيب عن القسم الأخير :
-(( حاضر يا أمي.. بكرة هخلص شغل وأمر عليكي متقلقيش ))..

أنهت والدته الاتصال مودعة في ارتياح بعدما حصلت على مبتغاها، بينما همست من كانت تقف خلفه متعمدة استرق السمع تسأله في امتعاض :
-(( رايح لحماتي بكرة ؟! ))..

رمقها بجانب عينه ولم يُعقب، فاستطردت حديثها تستعطفه بعدما تحركت بجسدها تجلس أمامه، متعمدة إظهار مفاتنها الممتلئة من أثر الحمل بثوب صيفي مكشوف :
-(( ٧ شهور وأنا احايل فيك ومفيش فايدة لما هموت بقهرتي.. وكل ليلة أنام ودموعي ع المخدة أقول بكرة يحس بيا.. بكرة يرضى عني.. دلوقتي يرجع ياخدني في حضنه زي زمان.. ده أنا لو قتلت قتيل يا بدر كان زمان أهله عفوا عني ))..

حدجها بنظرة جامدة قبل تركه المجلس منتصبًا في وقفته، فسارعت بمد ذراعها في اتجاهه تقبض على معصمه وتجذبه نحوها ثانيةً مهمهمة في توسل خفيض :
-(( عشان خاطري متمشيش.. طب لو مش صعبانه عليك.. ابني اللي قرب يخرج للدنيا ده مش صعب هو كمان عليك.. ده أنت مفيش مرة جيت معايا كشف الدكتورة تطمن علينا.. حماتي مقسية قلبك علينا يا بدر ))..

هتف أسمها محذرًا في حدة :
-(( افنااااان ))..

قالت متراجعة في لهفة بعدما انتصبت هي الأخرى في وقفتها، ومالت برأسها تريحها فوق كتفه :
-(( طب خلاص متزعلش أنا محقوقالك.. أرضى عني بقي عشان خاطر أبننا يوصل بالسلامة ))..

غمغم معاتبًا وقد أعياه كثرة مقاومة مشاعره تجاهها وصدها :
-(( مكنتش أتخيل منك كده أبدًا يا أفنان ))..

قالت وكفها يسبح فوق صدره :
-(( بحبك وخفت تكرهني وتبعد لما ابني ينزل وهي لأ.. عاير تلومني على حبي ده لومني أنا قابلة .. بس خليك عارف أنه مش بأيدي ))..

أسبل أهدابه ينظر بأنفاس مضطربة إلى حيث تحرك أصابعها، مقاومًا رغبة ملحة في مشاركتها رحلتها الميدانية فوق صدره، ومغمغمًا بعدما ابتلع بصعوبة بالغة لعابه :
-(( هروح أنام عندي شغل الصبح ))..

همست تقول في توسل حار :
-(( طب خليني أنام في حضنك ومش هطلب حاجة تاني.. عشان خاطري متكسفنيش ))..

أومأ برأسه موافقًا بعدما تنهد في قلة حيلة، في حين سارت هي جواره إلى الفراش بابتسامة نصف منتصرة فها قد أوشك جبل الجليد بينهم على الذوبان ومن بعدها، ليأتي دور والدته في التخلص منها.



******************************


في طريق العودة من المشفى إلى المنزل، اتخذت من المقعد المجاور للسائق، على مقربة منه داخل سيارته الفارهة، مجلسًا لها بعدما انكمشت علي نفسها في سكون، كالتمثال الرخامي لا تتكلم ولا تتحرك، بل راحت تتظاهر بالانشغال في مراقبة الطريق والسيارات الأخرى من حولها في هدوء، وكأن رأسها لا يعج بضجيج مئات من الأفكار والتي تنصب جميعها عند قدمه، وقد أصبح الصمت المطبق الخانق السمة الغالبة على جميع لقاءاتهم تقريبًا، صمت ناضحًا بالغضب من جهتها، وبالصبر من جهته، إذ قابل تغيرات مزاجها بداية من الجفاء، الغضب، العناد، اللين، وأخيرا التجاهل كما تفعل الآن بصدر رحب، فهو يعلم تمام العلم أن مدها وجزرها يعودان إلى أسباب تخصه وحده ولا يلومها عليها، بل يلوم ذلك الأحمق الذي وثق به في تولى مهمة علاجها، وقبله يلوم عقله ونفسه إذ انساق خلف نصيحته ظَنًّا أنه يُعلي بفعلته تلك مصلحتها وشفاءها على علاقتهم، وعليه فلن يترك تلك التغيرات تُعَكَّر صفو مزاجه، أو تُثبط من همته في إرضائها رغم شعوره المتزايد باقتراب انفجاره، وقد أصبح كل ما حوله يُثير أعصابه ويضغط على خلايا اتزان ضبط النفس بداخله.

وبعد دقائق طويلة من الوجوم الموتر، كان هو أول من كسره حينما قال في إرهاق بعدما صف سيارته جوار الرصيف أمام منزلها :
-(( رحمة صحيح.. بكرة ميعاد الاجتماع مع الوفد الصيني اللي اتلغي بسبب تعب عمي.. للأسف قبله عندي اجتماع تاني مع مدراء المالية فمش هعرف أجي أخدك.. بس هبعتلك السواق ع الساعة ١٠ يجيبك الشركة.. تمام؟! ))..

أومأت بأهدابها موافقة دون تعقيب أو جدال كعادتها، قبل استدارتها بجسدها نحو مقبض الباب اِسْتِعْدَادًا لفتحه والخروج، فأسرع هو يقبض على معصمها كي يوقفها مردفًا في تردد :
-(( مش عايزة تقولي حاجة؟! ))..

دوت ضربات قلبها في عنف ترقبًا للآت فربما سؤاله ليس عَفْوِيًّا كما يحاول جاهدًا إخراجه، بل هو مقدمة لطلب، اعتذار، تبرير، أيًا مما تهفو نفسها إلى سماعه، وعليه همست تسأل في حيرة ظاهرية وترقب داخلي :
-(( حاجة زي إيه؟! ))..

أجابها شارحًا بعدما تفرس ملامحها لفترة لا بأس بها عله يستتبط منها الإجابة :
-(( أي حاجة.. تعليق على كل اللي بيحصل.. سكوتك غريب ومش منطقي.. أنتِ حد فجأة عرف أن عيلته مش هي عيلته.. وظهر له أب جديد بأخوات جداد.. أزاي معندكيش رد فعل على كل ده؟!.. ولا فضول أنك تعرفي حاجة عن عيلتك.. أملاكك!!.. موقفتيش تطالبي بأي حقوق ليكي ليه؟.. رحمة.. أنتِ حتى مش مدركة إن أنا وأنتِ بقينا ولاد عم!! ))..

عاد مُصَحِّحًٌا كلمته في ارتباك تجاوزته لعدم فهمها سببه :
-(( قصدي.. اكتشفنا أننا ولاد عم ))..

صمتت تطالعه في حيرة لم تُخفي عليه، فرغم ادعائها اللامبالاة ألا إن لمعة حدقتيها، مع رجفة خفيفة لشفتيها أعطته فكرة واضحة عما تمر به، قبل أن يؤكد تهدج صوتها صدق تخمينه، حينما همست تقول في اختناق :
-(( إذا كان اكتشافك أنت إني بنت عمك مغيرش شيء في علاقتنا.. ليه مستني يبقالي رد فعل مختلف عنك! ))..

تجاوز عن عمد تأنيبها المبطن، فيكفيه جلد ذاته كل ليلة من أجل خطئه غير المقصود، بينما استطردت حديثها تقول في استنكار حاد :

(( وبعدين عايزني أعلق على حاجة أنا لحد دلوقتي مش فهماها!! فبحاول أتجاهلها لحد ما استوعب كل اللي حصل أو حتى أتقبله.. طب وعايزني أطالب بأي حقوق؟!.. إذا كان حرموني من الحق الوحيد اللي نفسي فيه ))..

زفرة طويلة حارة خرجت من فمها شعر بلهيبها يحترق داخل صدره، قبل أن تستطرد قائلة في غصة بعد تجاوزها نوبة بكاء وشيكة :
-(( تخيل أن الشخصين الوحيدين اللي عندهم تبرير أزاي أنا طلعت بنت راجل تاني متوفيين.. وواضح أن ماما مكنش عندها النية بمصارحتي بالحقيقة.. لا أنا ولا غيري.. لدرجة أنها حتى خبت الحقيقة دي عن الأب البيولوجي.. يبقي متوقع مني أن بعد العمر ده أروح اطلب منه حقي في أسمه.. ده حتى نسي أنه كان متجوز أمي في يوم من الأيام.. وأنا معرفتش عن نسبي اللي مربوط بيه غير منك أنت.. يعني لولا موضوع القضية زي ما فهمت.. كنت فضلت فاكرة إني بنت عز.. وهو كمان مش محتاجني في حياته.. فخليني زي مانا بنت عز عشان مصطفى وعشان علياء وجواد وعشان طنط كريمة.. وعشان متتحملش أنت كمان عبيء ))..

ألقت جملتها العتابية الأخيرة في وجهه ثم همت في الاستدارة بجسدها نحو باب السيارة، وهذه المرة لم تمتد يده لتوقفها، بل عاودت هي من تلقاء نفسها الدوران برأسها في اتجاهه تسأله في فرصة أخيرة :
-(( أنت مش عايز تقولي حاجة؟! ))..

حبست أنفاسها تنتظر رده في ترقب وداخلها يحترق شوقًا لأي حجة ينطق بها حتى وإن كانت واهية، بالله، سترضي بأي تبرير يسكبه فوق نار غضبها فيطفئه وينتهي الأمر، بل سيكفيها اعتذاره، طلبه أن تعود إلى منزله وجواره، كلمة واحدة هي كل ما تنتظر حتى يتوافق طلب قلبها مع إرادة عقلها في الصفح عنه، انتظرت وانتظرت، تراقب في يأس فمه وهو ينفتح ثم يعود وينغلق عدة مرات قبل أن يهمس في النهاية متحاشيًا النظر إليها وقاضيًا على أخر أمالها :
-(( لا...... ))..

ضغطت فوق شفتيها بقوة تؤخر قدر المستطاع سيل دموعها الذي بدأ في التدفق من خلف جفنيها المغلقان، وقد تركها بعد كلمته المقتضبة تواجهه بقلبها الهش، أعتى عاصفة من الحزن وخيبة الأمل قد زارتها يومًا.


****************************


وفي الأعلى أخذت وقتها الكامل في ذرف شلال دموعها المنهمر وكفكفته قبل دلوفها المنزل، والذي بمجرد تخطيها عتبة، قفزت رفيقتها أمامها من العدم تسألها في تأهب :

-(( كلمتي جواد؟! ))..

إجابتها في فتور :
-(( مجتش مناسبة.. مصطفى فين ؟! ))..

هتف غفران في تشكيك متبعة ظلها وقد أسأت فهم عبوسها :
-(( مش مصدقاكي.. صوتك يقول أنك بتكدبي عليا.. ملامحك كلها ))..

ألقت رحمة حجابها أرضًا بلا مبالاة بعدما حلت رباطه من حول عنقها وإزاحته من فوق رأسها متمتمة في إجهاد :
-((لو مش مصدقه عندك الفون أساليه ))..

ضاقت المسافة ما بين حاجبي غفران تتفرسها مَلِيًّا قبل قولها في خيفة :
-(( شكلك مش طبيعي!!.. في حاجة حصلت ولا إيه.. عمو أنور كويس؟! ))..

إجابتها رحمة كاذبة في جمود بينما جسدها يتحرك في عصبية مفرطة :
-(( كويس متقلقيش مرهقة بس من ضغط أول يوم شغل.. مصطفى فين عايزة أبلغه بحوار الشقة.. ملحقناش الصبح نتكلم ))..

إجابتها بشيء من الارتياح :
-(( مصطفى لسه مجاش من برة.. النهارده محاضراته للساعة ٨ ويادوب ساعة تكفيه مواصلات.. يعني نص ساعة كمان الأقل ))..

حركت رحمة رأسها موافقة على الحديث وقائلة على مضض :
-(( لا هيتأخر وأنا محتاجة أنام.. عَمَّتَا هبلغه بكرة الصبح إن شاء الله.. وأنتِ اعملي حسابك أن بكرة أو بعده بالكتير هننقل على الشقة الجديدة ))..

في ظروف أخرى لملئ صياحها معترضة المنزل بطوابقه، أما بعد تلقيها ذلك التهديد الفج عن أذية أحبائها فلا تملك إلا الشعور بالراحة لابتعاد رفيقتها وشقيقها عن مرمى الخطر، خطر تهورها الغير محسوب، لذا هتفت موافقة في سهولة لم تتوقعها الأخرى :
-(( طب محتاجة أحضر معاكي الشنط؟ ))..

ضيقت رحمة أهدابها فوقها تسألها في ريبة :
-(( بس كده!!.. هو ده رد فعلك!!.. مش هتعملي مناحة وتتقمصي كام أسبوع! ))..

إجابتها مبررة بابتسامة خفيفة :
-(( مانتِ عارفة أنا أصلا بتحايل عليكي ترجعي بيتك مع طاهر فمفرقتش.. آه هيعز عليا بعادك أنتِ ومصطفى عني بس متقلقيش هزوركم كل شوية ))..

شعرت بغصة داخل قلبها وكأن هناك يدًا قوية تعتصر فؤادها دون رحمة فور سماعها اسمه يُنطق من حولها فسارعت تقول هاربة، تبغي الاختلاء بنفسها :
-(( متفقين بكرة بإذن الله هبلغه.. تصبحي على خير ))..

هتف غفران تستوقفها في استنكار بعدما نظرت في ساعة يدها :
-(( طب العشا!!.. هتنامي بدري كده الساعة ليه ٨ ونص! ))..

إجابتها كاذبة بعد نجاحها في رسم ابتسامة واهية فوق ثغرها :
-(( أكلت في الشغل متقلقيش.. هنام عشان عندي صداع وأخدت مسكن.. تصبحي على خير ))..

تلك المرة لم تنتظر سماع تعقيب صديقتها، حيث فرت هاربة تجر أذيال الخيبة خلفها موصدة باب الغرفة على خيالاتها السعيدة، وكل ما تتمناه لو استطاعت صرف تفكيرها عنه، حتى بعدما خذلها للمرة الثانية.



****************************


مذكرتي العزيزة، ومقتطفات مكنوناتي الوجيزة....
اعذري وقاحتي التي باتت تلازمني إذ قلت إنني لم أجد ما يصرف انتباهي عنه سواكِ، لذا وبمجرد وصولي غرفتي، وفور تبديل ثيابي، وبعد الارتماء فوق فراشي، رحت أبحث عنك لأشكو إليك هوان حالي، فأنا مشتتة، محبطة، وتحاصرني خيبة أمالي، حتى العبارات تتزاحم جميعها داخلي ولا أنجح في صياغتها فأختنق بداخلها حتى الموت، وكما يعجز لساني عن الوصف تعجز يدي عن التسجيل فألجأ إلى الحل الوحيد المتاح أمامي ألا وهو الصمت، نعم أصمت بينما رأسي ممتلئ بطنين الآلاف، بل ملايين الأفكار المؤرقة، وصدري بالأحاسيس المرهقة، ورغم ما حدث ويحدث لا أستطيع البقاء منه غاضبة، فأنا واقعه في حبه حتى النخاع، وغارقةً فيه تمامًا، ربما من البداية وقطعًا إلى النهاية، ولم أكتفِ بالغرق، فرحت أغوص راضية في أعماق محيطه عكس التيار، يجذبني غموضه كما يجذب غناء الحور البحار، ولم أعِ لغرقى ألا وأنا عالقة بين صدفتي رجلي الرمادي غريب الأطوار، وبدلًا من محاولتي النجاة استسلمت لعشقه الجاري في أوردتي كالأنهار، وما بين كرامة تُكبل حركتي بالحديد، ولسانه الذي يرفض النطق بأي جديد، أرى ربيع عمري يلوح إلى مُوَدِّعٍ من بعيد، فأثور وأثور غاضبة بينما قلبي يهمس يسألني أي حَبِيبٍ غيره قد يرضى أو أريد؟...).

جرفها تيار العتب إلى أودية التدوين، فأخذت تكتب وتُفرغ مشاعرها في مئات من سطور اللوم والحنين، حتى سقطت غافية ويدها تقبض على دفترها الغالي الثمين، وليس الغلو لأن به كلماتها، بل لأن جدّها وهزلها، حزنها وألمها كل حرف وثقته كان هو محوره.
وفي منتصف الليل حيث سكوت الكلام، وانتشار الظلام، استيقظت على لمسة أنامل ناعمة تطوف ذراعها العاري ليد تعرفت على هويتها من تلك القشعريرة الباردة التي تصيب جلدها أينما حلت كفراشة تتمايل فوق الأغصان، يليها وهج أنفاسه الساخنة تلفح شطر وجهها في تضارب مع طقس ليالِ الخريف الباردة، يتبعها همسهِ متوسلَا في حرارة :
-(( افتحي عينيك سيدة قلبي .. اسمحي لأنوار قمرك بإنارة ظلام طريقي، وَدَّعِ نعيم جنتك، يُبدد شقاء جحيمي ))..

همهمت رافضة في نعاس :
-(( أبتعد عن أحلامي، أعلم أنك لستُ بحقيقة، أنت فقط أحد خيالاتي المعتادة ))..

همس يسألها في خفة، بينما ذراعه القوي يحاوط خصرها النحيف :
-(( وإذا كُنت أحد خيالاتك، فلم لا تُريحي قبضتك من فوق كفي؟! ))..

قفزت مسرعة من مرقدها، بعدما فتحت عينيها وألقت نظرة جانبية خاطفة على يده معرقلًا حركتها العنيفة جسده المستلقي جوارها في كسل، قبل تمتمتها مدافعة عن نفسها في تعلثم :
-(( كنت أحتضن دفتري، مالي ويدك؟!، ابتعد عني إذا تفضلت فوجودك ليس مرحبًا به ))..

أقترب منها على مهل، وكأنه يملك وقت العالم في الوصول إليها، قاطعًا بحركاته المثيرة لأعصابها المسافة الضئيلة الفاصلة بينهم، قَائِلاً في تبسم أرهق دفاعاتها بعدما نجح في حصارها بين جانب الفراش من الطرف والخزانة من الطرف الأخر :
-(( أتنفي ساكنًا عن وطنه، أم كوكبًا عن قمره؟!، رحمتي! ))..

راقبت بأهداب مرتعشة ابتسامة التسلية التي اعتلت زوايا فمه، يليها ذراعه التي شقت طريقها في إصرار حيث وجهتها المُحددة، مجيبة في اندفاع وهاربة من الرجفة الخفيفة التي غمرت جسدها في استجابة خائنة لعبث أنامله فوق ذراعها العاري :
-(( توقف، فأنا لست برحمتك، أو بوطنك، أو أي شيء يعود إليك ))..

تتبعت خط القمر الفضي المفضي بظلاله على جانب وجهه الشبهة ملاصق لها، تتأمل قسمات وجهه المنحوتة مع شعيرات ذقنه الشبهة نابتة، حيث أتاح لها الفرصة باقترابه الشديد منها، رؤية الخطوط الرفيعة حول فمه، ومثيلتها الأكثر عرضًا فوق جبهته العابسة مستطردة عتابها في اندفاع تحاول به التحرر من حصار رائحة عطره المفروضة كسياج من حولها :
-(( ثم أني لا أراك تحتاج وطن أو تشتاق قمر، كما أنك تبدو بخير من دوني ))..

همس يقاطعها في ضياع بعدما أراح جبينه فوق جبهتها وسحب جذعها العلوي في هوادة نحو صدره :
-(( خاطئة، فأنا من دُونِكِ وحيد، وحيد للغاية، حتَّى وإِن عجَّ العالم بِضَجِيجِهِ من حولي، أظل وحيدًا، حتى تَحْتَضِن يديكِ كَفِّي، وتُؤانس اِبْتِسَامَتك وحشة رُوحي ))..

سّبت دَاخِلِيًّا تبحث عن ذلك الغضب اللعين، أو أي شيء يمدها بالأدرينالين كي يساعدها على الوقوف في مقابلته عوضًا عن ساقيها الهلاميتين، قبل نطقها تستجديه الابتعاد وقد نجح في ربك صدها عنه بحصار جسدها وحريرية نبرته:
-(( طـاااهـر ))..

أجابها في حرارة وشفتاه تتلمس شطر وجهها صعودًا وهبوطًا كيفما شاء مُسْتَغِلًّا ضعف مقاومتها :
-(( طاهر ليس بطاهر طالما لا يرى انعكاس صورته في عينك، أو ظل جسده فوق جسدك ))..

تنهدت في قلة حيلة تبحث عن إرادتها المسلوبة كي تقاومه وبدلًا من استخدام كفها المرفوع لدفعه تفاجأت بأصابعها تضم معصمه، بينما أستأنف هو حديثه يقول في تدليل بعدما تنهد في حرارة تعكس حمم البركان الثائر في صدره :

-(( أحتاجك وطني ))..

غمغمت مرددة وهي تضغط على أجفانها المغلقة هاربة من صورته العالقة بداخلهما :

-(( أنا أهذي، لست حقيقة، أنت مجرد خيال، أنا أحلم بكل هذا ))..

قال في حزن متعمدًا تدليك عنقها بلمساته الخبيرة :
-(( أنا خيال بالنسبة إليك، بينما أنتِ الحقيقة الوحيدة في حياتي ))..

فتحت عينيها تسأله هامسة في قلة حيلة وقد نجح في إسقاط دفاعاتها واحدًا يلوي الأخر :
-(( ماذا تريد مني ؟! ))..

أجابها في إصرار ولازالت النعومة تغلف نبرته فتداعب أوتار فؤادها المتيم :
-(( حبك، ولا شيء آخر ))..

همست مستسلمة بعدما أراحت رأسها فوق صدره وقد أنهكها طول البعاد :
-(( أحبك طاهر ))..

قفزت من ثباتها العميق على صدى اعترافها يتردد داخل أذنها، بينما ذراعها يقبض على دفترها بدلًا منه، تتحسس بأطراف كفها المرتعش جبهتها المتعرقة، هبوطًا إلى مضختها الثائرة تاركة عينيها تطوف الغرفة في لهفة كي تتأكد من خلوها منه، فكم بدا حلمها حَقِيقِيًّا حتى أن رائحة عطره لازالت عالقة في ذرات الهواء من حولها، ووخز لمساته يضرب جلدها.



********************************




هناك نوعان من الانتظار، أحدهما نصبُ إليه بكل جوارحنا، كانتظار السعادة، الفرح، وغيره، وأخر يجعل الولدان شيبا، كحالها وهي مستلقية فوق الفراش الحديدي الصلد، منكمشة على نفسها كعادة كل ليلة داخل زنزانتها الفردية العفنة، تُرهف السمع بأنفاس مكتومة داخل صدرها كلما تهادى إلى أُذنها وقع الخطوات الجماعية السائرة داخل الممر المطل عليه باب محبسها، تترقب الْآتِ بجسد يرتجف كورقة شجر تعبث بها ريح يومًا عاصف، فها قد أوشك الفجر على البزوغ، وكما هو للغالبية رمز البداية، بالنسبة إلى البعض من مثيلاتها المذنبين يعني النهاية، وأما يهبها القدر فرصة جديدة للعيش فتنجو لليلة أخرى، وتنتقل من صفوف الهالكين إلى صفوف المستمعين في هلع إلى صرخات المساقات قبلها إلى الموت، وأمــا....

قضى على رفاهية الأمل داخلها في رؤية شمس يوم جديد توقف الحركة الصاخبة أمام باب الزنزانة الصدئ، يليها همهمات لأحاديث واضحة رغم خفوتها، أعطتها فكرة مختصره جلية عما سيحدث لها لاحقًا، نعم كانت هي الهدف تلك الليلة وليس غيرها، قُضي الأمر ولا مفر من موت مستحق محقق، وبعد عدة دقائق قلت أو كثرت من انحشار جسدها في أحد الزوايا الرطبة حيث آبت الخروج من حصنها الواهن، مع كثير الصراخ والمقاومة الغير مجدية، وجدت نفسها تُجر عن اليمين والشمال بعدما خارت قواها وسقطت أرضا إلى داخل غرفة الإعدام الباردة المفتقرة لمظاهر الحياة، وقد سيقت شبهه واعية إلى مثواها الأخير، وما بين الهرج والمرج السقوط والقنوط، الفزع، والهلع، حال بينها وبين الرؤية قناع أسود مَقِيت ارتداه قبلها الآلاف الخاطئين، وبينها وبين الحياة ذلك الحبل الغليظ الذي ألتف حول عنقها، أما من قبل، فقد حال بينها وبين ما تشتهيه الطمع البغيض.

وفي الصباح، فاق مجبرًا على أزيز هاتفه المحمول، تجاهله للمرة الأولى والثانية ومع المحاولة الثالثة أجاب مرغمًا في نبرة ناعسة :
-(( غفران!!.. متصلة بدري ليه كده ؟! )) ...

أبعد الهاتف عن أذنه ينظر في ساعته، قبل أن يردف مستطردًا سؤاله المستنكر :
-(( الساعة لسه ٦ ونص!.. حصل حاجة ولا إيه؟! ))..

جاءته حمحمتها من الطرف الآخر قائلة في تردد :
-(( كنت طلبت مني أبلغك بأي جديد يخص حالة رنا ))..

اعتدل في نومته ورغمًا عنه ودون إيجاد تفسير واضح، شعر بخفقاته تضرب في عنف مترقبًا القادم، بينما أردفت هي تقول جملةً واحدة قبل تنفسها الصعداء كأنها تُلقي بحملها الثقيل :
-(( حكم الإعدام أتنفذ الفجر.. البقاء لله ))..


شيماء_يوسف غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-12-20, 12:28 PM   #74

mansou

? العضوٌ??? » 397343
?  التسِجيلٌ » Apr 2017
? مشَارَ?اتْي » 3,018
?  مُ?إني » عند احبابي
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Algeria
?  نُقآطِيْ » mansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond repute
?? ??? ~
«ربّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَاغْسِلْ حَوْبَتي، وَأجِبْ دَعْوَتي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي.»
افتراضي

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته موفقة بإذن الله

mansou غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 29-12-20, 04:38 PM   #75

شيماء_يوسف

? العضوٌ??? » 474730
?  التسِجيلٌ » Jul 2020
? مشَارَ?اتْي » 61
?  نُقآطِيْ » شيماء_يوسف is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الثلاثون..




يظل العقل البشري يعمل بكامل كفاءته في اتخاذ كافة القرارات الصحيحة حتى يتدخل القلب في الوسط، وقتها يبدأ السقوط في سلسلة لامتناهية من الإخفاقات المزرية، والإسقاطات المخزية، فمن يلوم العاشق المشتاق إن حادت حكمته عن الصواب!.
تنهد في حنق كاتمًا دخان غيظه المتصاعد بداخله بعدما تململ في مقعده، يدلك براحة يده مؤخرة عنقهِ المتشنج بعد قضائه السويعات الأخيرة منكبًا على مراجعة كافة البنود المالية استعدادًا للاجتماع المزعوم، وقبلها معايشته ليلة مؤرقة حيث نجحت يد الندم في أريق نومته وسرقة الراحة من مرقده، يسب ويلعن تردده في طلب الوصال كلما تذكر حشرجة صوتها ونظرة الخيبة الأخيرة التي رمقته بها قبل ابتعادها عنه، يتسائل في لوعة عن سبب صمته عندما لزم الكلام، ويبحث عن تبرير لتراجعه عندما حتم عليه الإقدام!، ولم يعيده من رحلة تقريع النفس وجلد الذات سوي صوت أحد موظفي القسم يستأذن في الخروج بعد انتهائه من مناقشة أخر العروض المقترحة مقررًا هو الأخر ترك مقعده والتحرك، وقد شعر بتمكن الغضب من دواخله وحولهُ إلى قنبلة موقوتة تسير على أرجل، ربما تُلهيه كثرة الحركة ويؤخر اهتمامه بشؤون العمل والموظفين من لحظة انفجاره؛ وعليه توجه شارد الذهن إلى الخارج ينتوي بذلك التجول قليلًا في الطابق الأرضي ومنه ينتظر وصولها، قبل لمحه طيف المساعدة الخاصة بقريبه تخرج من المكتب المجاور له، فهتف يستوقفها متسائلًا في استغراب بجبينه العابس :
-(( هو جواد جوه ؟! ))..

أجابته الموظفة مؤكدة :
-(( آه يا فندم.. وطلب مني ادخله العقود يبص عليها ))..

حرك رأسه يصرفها من أمامه في حدة بشفتين مذمومتان للأمام، وقد علم وجهته التالية، وقرر بمن سينفث موجات غصبه، مندفعًا بذلك الغيظ إلى داخل غرفة رفيقه هاتفًا في عصبية بعدما أرتمي بجسده فوق المقعد الفارغ المقابل لضحيته :
-(( يعني الباشا هنا وسابيني مفحوت من الساعة سبعة في المراجعة لوحدي!.. كتر خيرك ))..

رمقه جواد بنظرة خالية ولم يُعقب، الشيء الذي أثار القلق بداخله، فأردف يسأل في أرتياب وقد تقوص أحد حاجبيه تِلْقَائِيًّا منتظرًا في لهفة الحصول على الجواب :
-(( مالك!!.. حصل حاجة؟!.. عمي! ))..

أجابه جواد في إرهاق جلي :
-(( متقلقش هو كويس.. وأنا أساسًا لسة واصل من ربع ساعة وهبدأ أراجع معاك ))..

رفع طاهر معصمه ينظر في ساعة يده مستنكرًا، فقد جاوز العقرب الحادية عشر بنصف الساعة، ولم تكن من عاداته هو أو قريبه التأخر في الحضور، ثم أن هناك حالة من الحزن لم يعتاده بها تخييم فوق ملامحه، وأخيرًا بعدما أمعن النظر به لاحظ عدم هندمة بذلته، فعاد يسأل من جديد في سخرية :
-(( ومتأخر ليه.. كسرت بخاطر اللي بتحبها امبارح! .. ولا قضيت ليلتك تلعن غبائك! والصبح اتقلبت من فوق السرير ع الشركة من غير حتى ما تحلق ذقنك ))..

تأمله جواد مطولًا مستسلمًا بعد فترة إلى شبح ابتسامة بدأ يغزو شفتيه، فالأمر لا يحتاج إلى كثير من الفطنة لمعرفة من المعنّي بحديثه، قبل أن يقول في جمود بعدما زفر مطولًا :
-(( حكم الإعدام اتنفذ في رنا.. النهارده الصبح ))..

انتفض طاهر من مقعده فور سماعه الخبر، قاطعًا المسافة الفاصلة بينهم يسأل في تبجيل، فللموت حُرمة لا يقلل منها سوي الفاجر :
-(( وأنت عملت إيه!! ))..

إجابه في نبرة خالية بعدما ترك مقعده هو الأخر وتحرك يقف قبالة رفيقه :
-(( عملت اللي لازم يتعمل عشان لينة.. استلمت جثتها واستأذنت بابا تتدفن في مقابر العيلة ))..

صمت لوهلة ابتلع خلالها غصة أصابت حلقه، ثم استطرد يقول في نبرة خرجت مختنقة رغم مجاهدته لنطقها طبيعية :
-(( عارف انها متستاهلش.. بس في الأخر عايز لينة لما تكبر وتفهم وتبدأ تسأل عن قبر أمها.. تكون عارفة مكانه.. مش عايز بنتي تتعاير بذنب أمها يا طاهر ))..

طوقه طاهر بذراعيه بعدما ربت على وجهه يشد من أزره في عناق صامت، وبالرغم من صمته إلا أنه كان أبلغ من أعمق حروف المواساة التي عرفها التاريخ، وبعد لحظات أستعاد خلالها جواد رباطة جأشه، هتف مدعيًا الصمود كعادته، يستفسر في تهكم :
-(( الباشا اللي مش نايم ومش حالق دفنه وسايب قميص زرايره مفتوحة عمل إيه بليل بعد ما سابنا ))..

غمغم طاهر في إعراض لا يريد حَقًّا إثقال كاهله بمزيد من مشاكله الخاصة :
-(( متشغلش بالك بيا.. وعلى فكرة أنا خلصت مراجعة كل حاجة والعقود علي التوقيع.. إن شاء الله نمضي النهارده ونبدأ شغل.. اغسل وشك أنت ورتب نفسك على ما يوصلوا وأنا كمان هروح اشرب كوباية قهوة واقابلك في أوضه الاجتماعات ))..

أومأ جواد برأسه موافقًا قبل مراقبته انسحاب الأخر وقد أنهكه كم المشاعر المكبوتة بداخله فلم يستطع الانغماس في متابعة أعمال اليوم، وكم كان مُمْتَنًّا لشعور رفيقه به دون حديث، فهكذا الصداقة الحقيقية ليست مجرد كلمات عميقة أو حتى فارغة، بل هي العين التي ترى جرحك، عندما تظن أنك نجحت في إخفاءه عن الجميع، وهي اليد التي تسارع في رفع جسدك، عندما توقعك الحياة سقِيَطَا بين المصاريع.


*****************************



نوبات ألم متفاوتة ما بين الحدة والخفوت ظلت تُباغتها أثناء نومها، ضاربة أسفل ظهرها قبل أن تمتد فتشمل منطقة الرحم وما يتضمنه تجاهلتها منذ ساعات الصباح الأولى، واستمرت في فعلتها ظَنًّا منها أنها طريقة جنينها في التعبير عن رفضه وضع نومتها، إذ استلقت فوق شقها الأيمن مريحة رأسها وذراعها فوق صدر رفيق دربها، فتنازلت مع ازدياد قوة الضربات تُعدل من وضعيتها إلى ما فوق ظهرها تارة وعلي الجانب الأخر تارة أخرى عل ذلك يخفف من وطأة توجعاتها التي باتت لا تحتمل حتى تمادى الألم قوة احتمالها وقتها همست توقظه في أنين، بعد ساعة كاملة من التألم في صمت :
-(( بدر.. يا بدر قوم الحقني ))..

لم تتحصل على الاستجابة المطلوبة منه إذ لازال يغط في نومه العميق، فحركت كفها المتشنج حاله كحال سائر جسدها تلكزه في معصمه هاتفة اسمه للمرة الثانية بالتزامن مع موجة جديدة ضربت أسفلها فخرج ندائها على هيئة صرخة عالية :
-(( اااااه... بــددرررر ))..

انتفض من ثباته على صخب نحيبها يسألها مذعورًا في نبرة ناعسة :
-(( مالك يا أفنان !! ))..

صاحت تخبره من بين تأوهاتها الباكية :
-(( معرفش يا بدر وجع... وجع في بطني هيموتني بقاله كام ساعة وبيزيد.. مش قادرة أتحمله.. أعمل حاجة عشان خاطري ))..

فرك بكفه المرتجف وجهه يحاول بذلك الاستفاقة قائلًا في إشفاق واضح :
-(( متخافيش يا حبيبتي خير إن شاء الله.. يمكن هتولدي! ))..

أجابته في إعياء وقد استحال لون وجهها إلى الإصفرار :
-(( هولد ازاي وانا لسة في أول السادس.. انا قلت يمكن حاجة عارضه وتروح.. بس التعب بيزيد حاسة روحي بتتسحب مني.. اتصرف ))..

لاحظ شحوب ملامحها وابيضاض شفاها فسارع يقول في توجس وهو يدور حول نفسه يحاول على عُجالة ارتداء ملابسه :
-(( طب يلا على المستشفى.. حطي أي حاجه عليكي لو تقدري ويلا بينا مش هستني ))..

أطاعته وقد بلغ بها الألم مبلغه تستند بثقل حملها المتزايد على ذراعه حتى وصلا إلى المشفى الخاص ودلفا إلى غرفة الكشف، وبعد استماع الطبيبة إلى شكواها واخضاعها إلى فحص شامل، خرجت تقول في أسي موجهة الحديث لبدر المنتظر في الخارج على أحر من الجمر :
-(( للأسف يا فندم الجنين أتوفي.. محتاجة موافقتك وتوقيعك عشان الجراحة ))..

وقع الخبر فوق رأسه كالصاعقة، ولم يعرف كيف يرتب ما يدور في عقله من تساؤلات فطفق يتمتم كلماته الغير مرتبة في عدم استيعاب :
-(( ليه.. جراحة ؟!.. هيطلع وهو ميت ))..

اجابته الطبيبة شارحة :
-(( الجنين شبهه مكتمل ومفيش طلق.. يعني علميًا مفيش طريقة نخرجه بيها غير الولادة القيصربة عشان كده محتاجة توقيع حضرتك على الأوراق في أسرع وقت.. وجوده دلوقتي معناه سم بيجري في دمها.. لازم نتصرف ))..

أومأ برأسه موافقًا قبل سيره كالمغيب خلف الممرض حيث أشارت الطبيبة إليه بكفها منذ لحظات كي يتبعه وينهي الإجراءات اللازمة، ثم عاد وأرتمي بجسده فوق احد المقاعد يتابع بعينين ضبابيتين زوجته وهي تُجر بالفراش المدولب نحو غرفة العمليات، يراقب في حسرة حلمه الهارب من بين يديه للمرة الثالثة.


*********************************


نجحت خلال الفترة الصباحية في صرف تركيزها عنه إذ انشغلت بمهمة التحدث إلى شقيقها وأخباره بشأن مسكنهم الجديد وترتيب موعد الانتقال إليه فيما يناسب توقيته، يليه خروجها مهرولة فور علمها بوصول السائق الخاص في موعده المحدد كما أخبرها البارحة، وما تلا ذلك من رحلة القدوم إلى المقر الرئيسي للشركة والذي تفاجأت بتغير موقعه فقط منذ ساعة مضت عندما سلك السائق طريق مغاير لما تعلمه فبادرت تسائله في توجس عن وجهتهم، ووقتها أخبرها بالمستجدات التي غفل عن ذكرها "زوجها"، أما الآن وتحديدًا فهي تسير الهويني مشغولة البال كعادة جميع أيامها الأخيرة داخل الممر الخاص بطابق المديرين، حيث أشارت لها المساعدة الشخصية منذ قليل، تبتغي بذلك الوصول إلى غرفة أخيها الأكبر "جواد "والتحدث إليه عما يخص شئون رفيقتها، ورغمًا عنها راحت عدستاها فور وصولها الرواق الأرضي تفتش عنه هنا وهناك علها تلمح طيفه يلوح من بعيد، متجاهلة تلك الوخزة الخفيفة التي طفقت تضرب جوانب صدرها حماسًا لرؤيته، ملبيًا أمنيتها ورغبته بعد ثانية واحدة القدر، حينما ظهر بجسده المصقول خارجًا من نفس الغرفة المعنية بالوصول إليها، فسارعت برفع ذقنها إلى الأعلى في كبرياء، تسير الخيلاء، مقررة في نفسها تجاهله وكأنه لا يقع في مجال رؤيتها من الأساس، أو كأن رائحة عطره النفاذة لا تخترق حاستها فتُثيرها، أو لا يسبر بتحديقه المتواصل بها أغوارها ويكشف تخبطها، واستمرت باستئناف السير نحوه في ثبات ظاهري حتى صبغ ظل كليهما على الأخر، واحتك جسديهما معًا بنفس ذرات الهواء، وبما أنه لم يكن في مزاج يسمح له بتقبل تجاهلها فقد سارع برفع ذراعه والقبض على معصمها يسألها في تشنج عند تجاوزها له :
-(( رايحة فين؟! ))..

ترنح جسدها للخلف قسرًا نتيجة لتضاد قوة جذبه مع اندفاع حركتها، واستغرق الأمر منها عدة ثَوَانٍ حتى استعادت توازنها، وقد تبدلت نظرتها في الحال من اللامبالاة إلى التمرد، فإن كان يظن أنها ستغض الطرف عن اعتراضه سيرها كقاطع طريق منحرف فهو حتمًا واهم، وعليه قررت تجاهل إجابة سؤاله ومعاودة التحرك بجسدها مبتعدة عنه في مراوغة توقعها بسهولة مسارعًا بوضع جسده كحائط سد يحول بينها وبين استنئاف طريقها، يناظرها بحاجب مرفوع كعلامة اعتراض على طفولية تفكيرها، بينما رفعت هي رأسها في حدة تطالعه بسخط، واستمرت حرب الإبادة والنظرات بينهم قائمة للحظات، عصيانها مقابل تحديه، تصميمها مقابل صرامته، وأخيرًا حنقها مقابل استخفافه، قبل أن توهمه بارتخاء ملامحها لوهلة، وتتراجع خطوة للخلف في استسلام زائف تخلي معه عن جزء كبير من حرصه وقد أسترخي جسده هو الأخر وأنزاح عن الطريق، منتهزة فرصة الإغفال عنها في الركض من خلفه وتجاوزه فقفز يقبض على معصمها من جديد ويعيديها بسهولة إلى موقع وقوفها الأصلي بعدما رفع جسدها واستدار بها هاتفًا في سخط :
-(( رحمة مش بنلعب!.. الموظفين بتتفرج علينا.. جاوبيني رايحة فين ))..

ألقت نظرة خاطفة على المكان من حولها تتأكد من صدق حديثه حتى لمحت حين استدارت برأسها جسد ما يتابعهم في اهتمام فتخلت عن فكرة معاندته، قبل أن ترمقه بنظرة جانبية متعالية قائلة في جفاء :
-(( داخلة لجواد مش دي أوضته بردو؟!.. السكرتيرة شاورتلي عليها.. وبعدين ملكش دعوة ومتسألنيش ))..

هل أصبح التحدث مع "السيد جواد" كلما رأته عادتها المفضلة الآن أم ماذا؟!، زفر حانقًا بعدما طرد أفكاره العدوانية من رأسه هاتفًا في انفعال وقد تقوص أحد حاجبيه :
-(( ورايحة تعملي إيه عند جواد وأنا معرفش!! ))..

ضيقت عينيها فوقه تتفرس ملامحه المتجهمة، وداخلها يلعنه على تبجحه!!، فقد عاد غضبها منه منذ البارحة، بل منذ تركها مفردها يطفو إلى السطح فور رؤيته، وزاده تصرفه الوقح، وبهذا الغضب المتنامي داخلها هتفت تقول في عدائية بعدما نفضت ذراعها من قبضته في حدة تعمدت جعلها مضاعفة :
-(( أنت مالك بعمل إيه عند أخويا.. ده شيء ميخصكش من الأساس ))..

عض على شفتيه في عنف يحاول كتم سُبة خارجة كادت تفلت من بينهما رغمًا عنه، قبل أن يجرها خلفه بعد أن وزع نظراته بداخل الممر ولاحظ مدى اهتمام المساعدة الشخصية بحديثهم، متعمدًا دفعها داخل غرفته كي يوفر لهم بعض الخصوصية ثم هتف يقول من بين أسنانه :
-(( مفيش حد أخو حد هنا.. وعشان نكون واضحين مع بعض.. أي مناسبة أو سبب هتيجي عشان الشركة هيبقى من العربية للأسانسير للأوضة دي.. أنا مش جايبك عشان تلفي هنا وهناك ))..

شهقت في عدم تصديق بعد أن فرغ فاها تحاول استيعاب وقاحته الزائدة، فهو يتعامل معها كما لو أنها من جرحته بالأمس وليس العكس، كما أنه ليس في وضع يسمح له بإلقاء أي أوامر حمقاء فوق مسامعها!، وبعد عدة ثَوَانٍ استوعبت خلالها حديثه واستحضرت قدرتها على الهجوم، هتفت تقول في سخرية يشوبها الغضب :
-(( آه عشان كده الباشمهندس مفكرش يكلف نفسه ويبلغني أن مكان الشركة أتغير.. على أساس أنك شاري كرسي.. تشيله وتحطه مكان ما تحب وقت ما تحب! ))..

دفعت بكلا كفيها في حركة مباغتة منها جذعه العلوي فور تحريره ذراعها، ثم أردفت تقول في إصرار وإحدى يديها تحاول تحريك مقبض الباب بهدف فتحه :
-(( أنا هروح لجواد دلوقتي ومش مستنيه حتى اسمع رأيك ))..

سارع بالتحرك ورفعها من خصرها من فوق الأرضية مرةً ثانية، متجاهلًا ترنح ساقيها في الهواء ومقاومتها الضارية له، ثم صاح مهددًا من بين أنفاسه اللاهثة وهو يتحرك بها حتى وصل وألقى بجسدها فوق الأريكة الجلدية الموضوعة بأحد زوايا الغرفة الواسعة :
-(( ولما أروح أورملك عينه دلوقتي عشان ترتاحي!! ))..

نفضت جسدها المتشنج من فوق الأريكة وعاودت الانتصاب في وقفتها، ثم قالت في ازدراء ويدها تحاول هندمه ثيابها واسترجاع كرامتها المهدورة على يد قوته :
-(( إيه الهمجية دي!! أنت فاكر نفسك مين عشان تتصرف معايا كده؟! ))..

أجابها في شراسة، بينما جسده في حالة تأهب استعدادًا لتحركها في أية لحظة قادمة :
-(( جوزك ))..

تجاهلت عامدة حديثه حيث انشغلت بدفع كفها داخل حقيبة يدها تفتش في لهفة عن بخاختها الطبية حيث منعها ضيق تنفسها عن الرد، بل ومنحهم بعض الوقت المستقطع للهدوء والتقاط الأنفاس، وبعد حوالي الدقيقتين استعادت خلالها أنفاسها المضطربة تحدثت تقول في إرهاق وقد تبدلت نبرتها ونظرتها :
-(( طب تمام بمناسبة جوزي وجوازنا.. أنا بطالبك بتنفيذ وعدك ))..

سألها في ارتياب بعدما ضيق جفنيه فوقها :
-(( وعد إيه بالضبط ))..

زفرت مطولًا ثم أجابته قائلة في اختناق وعينيها تأبى الابتعاد عن وجهه :
-(( وعدك أنك أول ما تعرف الحقيقة ومين ورا قتل أخوك تطلقني.. وأنت عرفت الحقيقة من سبعة شهور كاملين وزيادة.. والراجل بيتعرف من كلمته فمن فضلك اديني حريتي زي ما قلت ))..

حملق بها عدة لحظات من خلف عدستيه الضبابيتين وأعينه الزائغة وقد تحقق أسوأ مخاوفه، قبل شعوره بالاختناق يسدل ستاره فوق رئتيه وكأن كلماتها تحولت بتعويذة ما إلى وحش عملاق ما لبث أن قبض بذراعه القوية فوق عنقه يمنع بذلك عنه السبب الذي يبقيه على قيد الحياة، ثم أطرق رأسه أرضًا وراح يعض على جوانب فمه من الداخل كاتمًا غيظه بداخله حتى شعر بطعم الدماء يملأ فمه، مذكرًا نفسه بحالتها الصحية، وخطورة أي فعل همجي قد يصدر عنه فيهدد جهازها التنفسي بنوبة مرضية ربما تودي بحياتها، بينما وقفت هي تراقب بأنفاس مكتومة وشعور متباين ما بين الخوف والإشفاق رد فعله عما صدر عن لسانها، بداية من يده المتكورة في تشنج واضح، ثم اللون القرمزي الذي صبغ ملامحه من شدة الغضب، وضغطه المستمر على أسنانه والمستدل عليه من ذلك العرق الذي ينتفض بجانب صدغه تزامنًا مع نفور عروق عنقه وانتفاخ عضلات صدره، وودت لو ركضت نحوه واختبأت منه بداخل أحضانه، بل وأخبرته أنها ليست سوى أنثى حمقاء مجروحة الكرامة تثور وتمور حتى يصدر عنه رد الفعل الذي يرضيها، وأنها برغم ذعرها الحقيقي منه لم تفكر بالاحتماء سوي به، وبدلًا عن ذلك ظلت مقيدة بالأرضية أسفل منه تنتظر في صمت طالت مدته، تعقيبه، إلى أن عاود رفع رأسه في بطء شديد نحوها، وراح يرمقها بنظرة لم تر مثيلًا لها من قبل حتى عند فقدانه شقيقه، نظرة زاخرة بالعنف، الغضب، الحنق، نفاد الصبر، والكثير والكثير من الألم، ثم سرعان ما تحولت إلى شيء آخر أهدأ، مع شعور ينم عن صلابة وحزم وإصرار قاطع، قائلًا في نبرة مبحوحة لا ترتفع عن الفحيح :
-(( هعتبر نفسي مسمعتش منك حاجة.. ويلا على أوضة الاجتماعات هنتاخر ))..

عن أي اجتماع ملعون يتحدث وهما في خضم شجار مصيري فيما يخص علاقتهم سَوِيًّا!!، هل يتعمد إثارة أعصابها؟!، إذَا سيكون، هذا ما قررته قبل أن تهتف في سخط :
-(( أنا مش هتحرك من هنا قبل ما أخد منك رد نهائي.. أنا مش هوا قدامك عشان تقولي هعتبر نفسي مسمعتش!! ))..

كانت تعلم أنها بجادلها له تتجاوز حدود المعقول معه وتضغط على كل خلاياها العصبية ولكنها لا تُبالي، ومما زاد يقينها هو ذلك الشرار المنبعث من عينيه قبل قفزه نحوها في سرعة، ثم زرع مخالبه بذراعيها كفهد أحكم حصار فريسته، صارخًا في اهتياج وهو يرج جسدها وقد فقد السيطرة على أعصابه :
-(( أنتِ عايزة إيه بالظبط!!.. عايزة تجننيني!.. ولا عايزة تشوفي مني وش مش عايز أوريهولك!.. مش هطلقك طول مانا عايش سامعة.. على جثتي!.. عايزة حريتك خديها على جثتي وأنتِ أرملة.. غير كده متحلميش ومتف........ ))..

قاطع صياحه صوت دفعة قوية للباب يليه هتاف جواد آتيًا من خلفه مستفسرًا في لوعة :
-(( طاهر!!.. صوتك جايب الشركة كلها!! حصل إيه ))..

إعاد إليه صوت قريبه جزءًا من تعقله فأرخي قبضته عنها واستدار ينظر إليه، منتهزة هي تلك الفرصة بالركض في اتجاه شقيقها تهتف من بين دموعها مستنجدة به :
-(( جواد.. ألحقن..... ))..

هدر صوته من خلفها يقول مهددًا في صلابة :
-(( أيدك عنها.. اقسم لك بالله لو قربت منها هيكون أخر اللي بيني وبينك ))..

تراجع جواد متقهقرًا للخلف في حركة تلقائية بعدما رفع كلتا ذراعيه في علامة على استسلامه ثم قال مقترحًا وقد هاله الحالة التي أصابت رفيقه :
-(( مكنتش هقرب متخافش.. وأنتِ يا رحمة روحي اغسلي وشك واهدي.. واديله هو كمان وقت يهدي فيه ))..

زمجر الأخر رافضًا فأردف جواد يضيف بشيء من الحكمة بعدما رمقه بنظرة ذات مغزى :
-(( خليها تغسل وشها عشان تعرف تتنفس.. مش أنا اللي هفكرك ))..

فرك وجهه صعودًا وهبوطًا عدة مرات متتالية في حدة ثم قال بنبرة مختلطة بين اللين والتهديد :
-(( هبلغ الأمن تحت محدش يسمحلك تخرجي.. عشان لو فكرتي يعني ))..

رمقه جواد بنظرة مؤنبة مانعًا لسانه اللاذع من التعقيب حتى تأكد من خروجها من الغرفة وقتها صاح يقول في تعنيف :
-(( إيه اللي أنت بتعمله ده أنت اتجننت!!.. صوتك مسمع المكان كله وناسي أنك في شغلك!!.. وفوق كل دة بتتعامل معاها ولا الطور الهايج وفاكر كده أنها هتسامحك!!.. أنت متخلف ولا مخك اتلحس ))..

-(( جوااااد!! ))..

هدر به من بين أسنانه محذرًا فتجاهل الأخير هجومه ثم استطرد يقول في تأنيب :
-(( جواد إيه وزفت إيه على دماغ معرفتك.. أنت مش شايف منظرها كان أزاي!!.. اللي يشوفك كده ميشوفكش وأنت بتخاطر بكل حاجة عشانها.. حصل إيه لكل ده فهمني! ))..

أرتمي بجسده فوق المقعد الجلدي وقد أثار تذكير رفيقه القلق بداخله، ثم قال في حيرة بعدما وضع رأسه بين كفيه :
-(( مش عارف.. خلاص مبقتش قادر استحمل ضغط الأعصاب اكتر من كده ))..

قال جواد في بساطة :
-(( وليه مأزم نفسك!!.. ما تقعد تتكلم معاها زي الناس الطبيعية.. قولها أن الفترة اللي فاتت دي كلها كنت بعيد عنها بأمر من الدكتور اللي أنت اساسًا طلبت منه يعالجها عشان تنسى موضوع القضية.. قولها أنك كنت متابعها لحظة بلحظة وأنك مسبتهاش لوحدها بالعكس أنت جهزتلها مكان تشتغل فيه وبيت تسكنه.. وقبله لازم تصارحها بالموضوع التاني.. مش هيفضل سر لازم يجي يوم ويتكشف ويُفضّل تعرف منك أحسن ما تعرف من غيرك ))..

رفع رأسه يطالعه في ضياع قبل أن يتمتم في تخبط :
-(( مش عارف.. جزء جوايا مش قادر يعترف أنه غلط لما سمع كلام يحيى وبلوم نفسي على فترة غيابي عنها.. وجزء تاني من كرامتي فاكر مقارنتها ليا بأخويا.. أنا في الأخر إنسان ومش ناسي أني اتوسلت لها عشان متسبنيش وهي اللي صممت تمشي.. مستنيها تيجي تقولي انها مبقتش شايفاني عمرو.. خايف تكون لسه شايفاه جوايا.. يمكن أكون غلط بس في حاجه بتكتفني كل ما باجي اتكلم معاها.. وبتمنى تديني أي خيط أمشي عليه.. معرفش أنا صح ولا غلط.. بس الأكيد أني مش مرتاح ))..

زفر جواد مطولًا ثم سأله في تعاطف :
-(( وهتفضل كدة كتير!!.. لازم تتخطى العقبة دي لأن قدامك مشكلة تانية محتاجين نخرج منها.. سامعني ))..

تحرك من فوق الأريكة منتصبًا في وقفته، ثم سأله في تردد :
-(( جواد.. لما قابلتها قبل كده اتعاملت معاك زي ما جريت عليك من شويه؟!.. مش هقدر أتحم...... ))..

قاطعه قائلِا في صرامة :
-(( من غير ما تكمل.. رحمة أختي بس حتى السلام مش همد أيدي بيه.. اطمن.. روح بس شوف هتعمل معاها إيه ))..

زفر بأرتياح وعندما هم بالتعقيب دلفت مساعدته الخاصة تقول في رسمية :
-(( الوفد وصل يا فندم لو هتنزل تستقبله ))..

********************************

وقفت أمام المرأة تتأمل في رضا تام تألق مظهرها رغم بساطته إذ ألقت بيجامتها الحريرية ذات اللون الأزرق المنتقاة بعناية من قبل والدتها، ظلالها الداكنة فوق بشرتها البيضاء فأعطتها تناغم متناسق مع خطوط ذقنها العريض الحاد، وعظام خدها المرتفعة في بروز نموذجي خاصةً بعد فقدانها القليل من الوزن، وأخيرًا انسدال خصلات شعرها الملساء على جانبي كتفيها فبدت بهيئة مثالية كعروس سعيدة تتنعم بدلال زوجها لا ينقصها سوي لمعة عينيها المنطفئة، مقاطعًا شرودها صوت حركة خافتة قادمة من الخارج سرعان ما سكنت، ثم عادت بعد لحظات أقوى من ذي قبل، فضيقت جفنيها تتساءل داخل عقلها في ارتياب عن مصدرها وقد انصبت كامل شكوكها المبدئية عن ذلك الكائن الصخري الساعي في المنزل بكل راحة، قبل سماعها حفيف أخر مجهول المصدر أجبرها على الخروج من الغرفة منتوية تتبع مصدره وقد دب الذعر في قلبها، فعلي حد علمها ومعرفتها البسيطة لا يوجد بالمنزل سواها، وما لبثت أن خطت خارج حدود الغرفة حتى تجمدت حركتها إذ تفاجأت به فور فتحها الباب يقف بملابسه البيتية في منتصف غرفة المعيشة المطلة على جميع غرف المنزل بما في ذلك المطبخ، يطالعها بأريحية شديدة بينما يحمل بيده قدح صغير تفوح منه رائحة القهوة المنعشة، ويرمقها بابتسامة عريضة منتصرة وقد خرجت أخيرًا من مخبئها بعدما اختفت بداخله منذ وصولهم البارحة مَسَاءَا، ناهيًا تأمله المعجب بها صوتها الذي هتف يسأله في جمود :
-(( أنت مش المفروض في المستشفى؟! ))..

أجابها شارحًا في دماثة وهو يتحرك نحو الأريكة الوثيرة ويرتمي بثقل جسده فوقها بعد أن وضع كوبه فوق الطاولة الخشبية :
-(( لا النهاردة الإجازة بتاعي.. ومعنديش غير حالة واحدة في العيادة فقررت آجلها لبكرة وأقضي اليوم كله في البيت.. معاكي ))..

تعمد الابتسام والضغط على حروف كلمته الأخيرة وهو ينطقها، ثم أردف يستفسر في ودية بعدما أرتشف رشفة صغيرة من فنجان قهوته وإعاده سيرته الأولى :
-(( أنتِ ليه منزلتيش المستشفى؟!.. عَمَّتَا ممكن تفطري على ما أغير هدومي وأوصلك ))..

ارتفعت زاوية فمها بابتسامة تسلية بالتزامن مع لمعة غلفت عدستيها المشاكسة، قائلة في ترو بعدما شمرت عن معصميها وعقدت ذراعيها أمام صدرها :
-(( لا مفيش دَاعٍ.. ماما كلمتني من شوية وقالتلي أن الدكتور كتبلهم على خروج وهما في الطريق للبيت.. وكده كده جواد هيخلص شغل ويعدي عليا عشان ياخدني ))..

سألها معترضًا في تلقائية :
-(( طب وليه تستني جواد.. مانا أوصلك عشان تلحقي ترجعي بدري ))..

أصدرت من فمها صوتًا ينم على التهكم ثم قالت في تشفي :
-(( لا أنت مش فاهم.. جواد هيجي ياخدني عشان أرجع بيت بابا مش زيارة.. لو مش واخد بالك فمهلة اليومين هتخلص النهاردة وأنا لسه عند قراري في الانفصال.. وده اللي بلغته لجواد إمبارح ))..

صمتت قليلَا ثم استطردت تضيف في نبرة خافتة بعدما أشاحت بوجهها بعيدًا عنه :
-(( لحد هنا وكل واحد يشوف طريقه.. شكرًا أنك لحقت الفضيحة اللي كانت هتحصل زي ما بابا قال.. بس أظن سبع شهور جواز فترة كافية عشان تخرس لسان أي حد.. وربنا يوفقك ))..

أنتفض من جلسته فور سماعه حديثها يصيح رافضًا في عصبية :
-(( طريق إيه وفضيحة إيه اللي لحقتها أنتِ أتجننتي!!.. وبعدين هو لعب عيال!!.. علياء مفيش خروج من هنا غير لما نتكلم زي الناس الطبيعية ))..

هتفت تعارضه في سخط :
-(( أتكلمنا وسمعتك.. وبعد اللي قلته معنديش استعداد اسمع حاجة تاني ))..

قال في إصرار بعدما قطع المسافة الفاصلة بين جسديهما :
-(( لا في.. أنا لست مقلتش أهم حاجة عندي.. واللي بحارب بقالي فترة عشان تسمعيني وأقوله.. وعشان تكوني فاهمة مفيش خروج من البيت ده غير لما تعرفيه حتى لو اضطريت أحبسك هنا غصب ))..

سألته في ريبة وقد تهدج صوتها كعادتها عند الغصب أو التوتر :
-(( يعني إيه!! ))..

أجابها في تحدي :
-(( يعني عايزك توريني لو قدرتي هتخرجي من البيت أزاي غصب عني ! ))..

طالعته بملامح متوجسة حيث رأت الإصرار باديًا في عينيه وقبل أن تتخذ أي حركة مباغتة تؤمن بها نفسها كان قد سبقها بالركض نحو باب المنزل ودفع المفتاح داخل الثقب المخصص له بعدما سحبه من فوق الطاولة الصغيرة وأداره عدة مرات في خفة حتى أحكم إغلاق القفل، ثم أخرجه ودسه داخل جيب ردائه الخلفي، وبعد ذلك قام بنزع السلك الكهربائي الخاص بجهاز التواصل مع أمن البناية، بينما صرخت هي تستوقفه بعدما لحقت به تحاول تحريك مقبض الباب تارة ومد يدها نحو ردائه لسحب ميدالية مفاتيحه تارةً أخيرة، قبل أن يبتعد عنها مهرولًا في الاتجاه المعاكس يبحث داخل الغرفة عن هاتفها الجوال حتى وجده ملقي فوق الفراش بإهمال فالتقطه وأطفأه، ثم دفعه هو الأخر مع حامل مفاتيحه داخل جيب ردائه يمنع بذلك أية وسيلة تصلها بالعالم الخارجي، منشغلًا بعد ذلك بمعركة الإرادة المحتدمة بينهم حيث وقف يقاومها معرقلًا أي فرص في التحصل على هاتفها أوالتغلب عليه، حتى يأست من نجاح محاولاتها للفارق البدني بينهم ومراوغته لها كلما اقتربت بجسدها منه، وقتها صاحت تعنفه في غيظ من بين أنفاسها اللاهثة بسبب تتبعها له كظله من موقع إلى أخر :
-(( أنت مجنون!! .. فاكر نفسك لما تحبسني هوافق أسمعك!!.. وأساسًا لو عندك كرامة متجريش ورا واحدة مش عايزاك ))..

عبرت عن اشمئزازها منه في جرأة غير معهودة منها، ثم أغمضت عينيها في قوة منتظرة هبوب الإعصار كرد فعل على جملتها الأخيرة وعندما طال انتظارها فتحت أهدابها على مضض تستبين رد فعله، وعلي عكس توقعها رأته مسترخي تمامًا وقد عاد إلى طبيعته الهادئة وكأن شيئَا لم يكن وكأن هناك من جذب انتباهه وصرف تركيزه عنها ، إذ سلط حدقتيه على نقطة ما جوارها ثم غمغم يسأل في حيرة بعدما تجعد جبينه :
-(( مش زوحلف ده اللي جنب رجلك ولا أنا بيتهيألي! ))..

صاحبت صرختها العالية المدوية التي صدرت من حلقها قفزة عالية نحو جسده تحتمي به بعد أن لفت ذراعيها حول عنقه وشبكت ساقيها حول خاصته، متمتمة في بكاء :
-(( لا..... يحيى مشيه والنبي عشان خاطري ))..

أحكم لف ذراعيه حول خصرها يدعم ثقل جسدها ويضمها إليه أكثر، محاولًا قدر الإمكان كتم ضحكاته المستمتعة والتي تهدد بفضح أمره، إذ طفق جسده يهتز في قوة الشيء الذي أثار ريبتها فأطرقت رأسها أرضًا تنظر في توجس حيث موضع نظراته قبل قليل تتفحصه وتتأكد من خلو المكان حولها، قبل هاتفها به معنفة في حنق بعدما استعادت شجاعتها وثبات صوتها :
-(( عيب كده!!.. إنك تستغل خوف الناس دي قلة ذوق.. أوعى نزلني ))..

تجاهل طلبها قائلًا بصوته الأجش في إعجاب بعدما تأمل ملامحها لفترة :
-(( أول مرة أخد بالي أن لون عينيكي شبهه لون عيني.. مكنتش أعرف أن لون عيني حلو أوي كده ))..

دفعته بكفيها في قوة ترنح جسده على أثرها للحظات، ثم سرعان ما استعاد ثباته وزاد من ضغط ذراعيه فوق خصرها يمنع محاولتها الانزلاق من بين يديه، حتى استكانت يأسة داخل أحضانه فأرخي من قبضته قليلًا يُعدل بذلك من وضع جسدها الذي أصبح موازيًا له، قبل أن يبدأ بقدر ما سمحت له مساحة كفه العبث معها قليلًا، بينما سرت فوق جلدها قشعريرة امتدت على طول عمودها الفقري في تأثر واضح من فعلة يده حيث شرع في تحريك أبهامه فوق مؤخرة ظهرها في حركات دائرية ، فتحول معه استسلامها من قلة الحيلة إلى الاستمتاع، تتتبع في سكون لمعة عينيه الناعسة والتي تطوف فوق ملامحها الناعمة في إعجاب هامسًا يستفسر في حرارة :
-(( فيها إيه لو فضلنا كده على طول بدل الخناق.. نفسي تسمعي مني جملتين على بعض ))..

إعادها بسؤاله وتوقف حركة يده إلى أرض الواقع، فابتسمت في سكون تخدعه باستسلام مزيف، وقد راودتها فكرة خبيثة شرعت في تنفيذها في الحال، إذ ثبتت حدقتيها فوق خاصته تأسر تركيزه بداخلهما، وأحنت رأسها في اتجاهه حتى اختلطت أنفاسهما معًا وكادت شفاهما تتلامس، تراقب في انتصار زيغ حدقتيه وازدراده القوي للعابه، ومن ثم وبترو شديد حركت أحد ذراعها نحو جيب ردائه الخلفي، حيث هدفها القابع هناك، فباغتها بالقبض على معصمها بإحدى كفيه الذي تحرك في سرعة، قائلًا في تهكم بعدما نفض ذراعها بعيدًا :
-(( طب بدل ما تتحرشي بيا.. كنتي لمحيلي وسيبي الباقي عليا ))..

شهقت حرجة وقد استحال لون وجهها إلى القرمزي، مغمغمة في ارتباك :
-(( أنت قليل الأدب ))..

حررها بوضع ساقها فوق الأرضية ثم قال مشاكسًا :
-(( قليل الأدب بس مش غبي.. والمفتاح مش هتاخديه غير لما نتكلم ))..

ضربت الأرض بقدمها غيظًا متقهقرة في كمد نحو الغرفة تختبئ عنه بداخلها ثانية، بينما تابع هو انسحابها بتنهيدة عشق حارقة فدلال تلك الحمقاء يسعده ويضيف إلى حياته الباهتة ألوانًا طالما تمنى صبغ أيامه بها.


*************************


هل أخبرك سِرًّا أيتها الصغيرة الغاضبة، العابثة، التي تشيح بنظرها بعيدًا عني هنا وهناك؟!.. إن أسوأ عقاب يمكن أن يلم بي هو حرماني من رؤية انعكاس صورتي داخل عيناك.
أراد الوقوف والصراخ عاليًا أمام الجمع الجالس من حوله بتلك الكلمات، بل أراد الانفجار وتحرير الكثير والكثير مما يحتبس داخله من عبارات، رغب الاعتراف بأن غيابها يعبث باتزان عقله، ومنذ بعادها عنه لم يعد يعي أين يضع قدمه، ود الركوع أمامها وأخبارها بأن حبها قد فعل به الأعاجيب، وأهداه مُسْتَقِرًّا وسكنًا بعد أن كان يمشي بين الأُناس غريب، وأعاد إليه ملامحه، روحه، ضحكه، صوته، وكل ما كان يفتقده فكانت النظرة منها إليه بمثابة دَوَاءَا وطبيب، وبدلًا عن ذلك جلس يتلقى عقوبته في صمت، يراها تبتسم في وجه جميع من في الغرفة عداه، ويراقب تعمدها وحرصها على عدم تلاقي عينيها بعيناه، فكان جزءًا منه يثور لكرامته المستباحة على يدها في استخفاف لا يلائم شخصيته المغرورة فيغضب، وأخر يذوب اشتياقًا للوصال وينضب، وجزء ثالث أكبر يرى الحزن المخيم فوق ملامحها فيعض على أصابعه ندمًا لأنه فيه من تسبب، يجلس فوق الجمر متعذبًا بأفكاره حتى انتهى الاجتماع المزعوم وقاما بتوديع وفد ذوات العيون الضيقه وإنجاز المهمة على أكمل وجه، وقتها حاول التحدث إليها كنوع من الاعتذار وتلطيف الأجواء بينهم وقد تحسن مزاجه نسبيًا بعد إتمام الصفقة، ورغم ذلك لم يتنازل عن غطرسته المعتادة فخرجت نبرته بها شئ من التعالي الغير متعمد :
-(( اغسلي وشك وتعالي عشان ننزل ناكل في اي مكان ونرجع ))..

رفعت رأسها تنظر إليه للمرة الأولى منذ شجارهم ببرود جليدي لا يتناسب ونيران غيظها المشتعلة بداخلها، ثم قالت في جمود أو ربما ازدراء لم يستطع الجزم :
-(( جواد طلب مني مراجعة التفاصيل قبل ما امشي.. لو حضرتك عندك وقت تاكل فيه أتفضل متعطلش نفسك.. لكن بالنسبالي عايزه أخلص عشان أروووووح ))..

مطت كلمتها الأخيرة عن قصد، كأنها تخبره من خلال الضغط على حروفها بعدم رغبتها المكوث معه في مكان واحد، ولو أخذ في الاعتبار النظرة التي رمقته بها أخر الكلمة فربما لا تريد مشاركته السماء ذاتها، فعاد متقهقرًا يجلس كمدًا مكانه من جديد، يلعن ويسب ويعنف كل ما يعترض طريقه أو يقع تحت يده، يتابع من طرف عينيه انغماسها في العمل والتدقيق، وكلما هم بالتحدث والاعتذار بشكل صريح عما بدر منه وقت الظهيرة، تراجع مدحورًا بتأثير حميته البدائية حيث كان يشاركهم الجلسة رفيقه وشقيقها، وظل هكذا يفتح فمه ثم يعود ويغلقه متراجعًا حتى حل المساء وأوشكت الساعة على التاسعة مساءًا، حينها نهض من جلسته وقال في حسم :
-(( كفاية كده.. حتى لو الشغل مخلصش مش مهم.. أنتِ من الصبح قاعدة ورافضة تاكلي أي حاجة.. يلا عشان اروحك ))..

رفعت رأسها من فوق الملفات المفتوحة أمامها ثم قالت معترضة، رغم تحبيذها للفكرة ككل فحقًا قد أرهقها كثرة العمل اليوم وها هي معدتها بدأت تعلن عن رفضها التجويع كل ذلك الوقت :
-(( تمام.. هروح مع جواد ))..

انتفض جواد من مقعده فور سماعه المقترح، يقول وهو ينسحب بجسده للخارج هروبًا من عاصفة أخرى وشيكة :
-(( لا جواد إيه.. متدخلونيش بينكم تاني. أنا ماشي وحلوا حوارتكم بعيد عني.. جوزك أولى بيكي ))..

راقبت انسحاب شقيقها بِنفسً حانقة وقد تركها بمفردها داخل عريـــن...... ، منعت عقلها من استكمال الجملة فهو لا يمثل ربع ذلك التهديد الذي يهابه الجميع من أجله ثم إنها لا تنتوي الانصياع خلف رغبته، أو التنازل من أجله حتى وهو يرمقها بتلك النظرات النارية المهددة، لذا ضغطت على شفتيها تستجمع شجاعتها الفارة لجولة جديدة من الحرب الباردة القائمة بينهم منذ الأزل، بينما قاطع صوته تفكيرها يقول في تهكم :
-(( أهو مشي وسابك.. يعني مفيش غيري ))..

أنهى جملته بابتسامة عريضة حتى أنه لم يكبد نفسه عناء إخفاء الشماتة الطالة من عينيه، فصاحت تقول في غيظ :
-(( وإيه المشكله!.. هطلب أوبر أروح بيه ))..

صاح في عنف بعدما ضرب بقبضته المتكورة سطح الطاولة جواره مفرغًا بها شحنة غضبه :
-(( مش هكرر كلامي مرتين.. قدامي من سكات بدل ما أشيلك لحد العربية غصب.. وكده كده الدنيا فاضيه ومفيش غيرنا يعني مش هخاف على شكلنا قدام حد ))..

أشاحت برأسها إلى الطرف الآخر تتعمد عدم النظر إليه، فأستطرد يستفسر بعد أن قطع المسافة بينهم وانحني بجذعه نحوها استعدادًا لحملها :
-(( مفيش رد؟!.. حلو خلينا نلعب شويه ))..

هتفت تستوقفه في لهفة فور شعورها بملمس كفه خلف ركبتها وقد استسلمت للأمر الواقع :
-(( هجيب شنطتي.. بس خليك عارف أني مش طايقة أكون معاك في مكان ))..

زفر مطولًا ثم أجابها في خفة متجاهلًا الجرح الذي أصابه جراء كلماتها :
-(( وأنا كمان بحبك وبستني الثواني اللي أكون معاكي فيها ))..

رمقته بنظرة مرتبكة وقد أصابت كلماته البسيطة مركز دفاعاتها قبل أن تسير أمامه ويتبعها وداخله يتمنى لو أنتهي ذلك الشجار المحتدم بينهم، بل لو استطاع أراحة رأسه فوق كتفها، لو أستيقظ صباحًا وكان وجهها هو أول ما يراه، لو ولو، مئات الأماني والأفكار تتهشم أمام عتبة كبريائه وعنادها.

وفى الخارج وتحديدًا داخل سيارته بعدما أستلم مفتاحها من سائقه حيث قرر القيادة بنفسه، وذلك حتى يتنسي لهم بعض المساحة الخاصة، ظل يراقبها من طرف عينيه وهي منشغلة بمتابعة الطريق من حولهم قبل أن يتنحنح عدة مرات قائلًا في نبرة خاطفة مقتضبة لم تؤدي هدفها المطلوب بل وعلى العكس خرجت من بين شفتيه محتدة قوية فبالنسبه إليه ربما يكون اعتذاره الأول :
-(( بمناسبة الصبح.. بعتذر عشان اتعصبت عليكي ))..

أدارت رأسها في حدة تطالعه شرزًا ثم هتفت تستفسر مهاجمة بعدما ضيقت نظراتها فوقه وأزدردت لعابها في صعوبة :
-(( أنت بتزعق فيا ليه عايزه أفهم!! ))..

هتف مستنكرًا في دهشة :
-(( رحمة أنتِ مجنونة!!.. أنا بعتذر منك على عصبيتي عليكي وأنتِ تقوليلي بزعق فيكي ليه!!! ))..

قالت مندفعة في ضيق :
-(( أه بتزعق.. ولا أنت مش حاسس بنبرتك عاملة أزاي!!.. أساسًا أنا الغلطانة اني وافقت أركب معاك.. يبقي من حقك تعمل فيا أكتر من كده ))..

ضرب بباطن كفه المفرود فوق مقود السيارة بينما يغمغم من بين شفتيه في عدم تصديق :
-(( أنا بجد مش مصدقك ولا عارف إيه اللي يرضيكي!!.. مفيش حاجه بعملها عاجبة!.. وكأنك بتتعمدي تخرجيني عن شعوري ))..

شهقت معترضة في إستياء، قبل هتافها محتجة في حدة :
-(( يا سلام!!.. كمان بقيت أنا الغلطانة في كل حاجة.. اه معلش نسيت.. أصل طاهر بيه فوق الكل مبيغلطش ))..

صمتت لوهلة تبتلع لعابها وترطب حلقها المشروخ من كثرة الهتاف ثم أردفت تقول في اختناق :
-(( عارف أنت عندك حق وأنا مجنونة.. اتفضل بقي أركن ونزلني بدل ما أفتح الباب وأنزل وأنت سايق ))..

صاح في إحتدام محذرًا وقد أجبرته على توزيع نظراته بينها وبين الطريق بدلاً من التركيز على النظر أمامه :
-(( رحمة أعقلي بلاش جنان ))..

قالت في إصرار :
-(( نزلني وإلا والله هفتح الباب وانط ))..

صاحب تهديدها تحرك كفها بالفعل نحو مقبض الباب فسارع بغلق القفل الخاص به من مركز التحكم الأساسي جواره، ثم صاح يستوقفها في أرتياع، وقد إجبره تهورها على تسليط نظره فوقها متجاهلًا بذلك تفحص الطريق إمامه والمنحني الذي يقترب منه :
-(( رحمة أربطي الحزام ))..

قالت في عناد طفولي :
-(( مش ربطاه ومش عايز أكمل الطريق معاك.. نزلني بالذوق احسنلك ))..

زفر في نفاذ صبر بعدما حل حزام الأمان خاصته من حول جذعه حتى يسهل عملية تحركه ثم انحني نحوها يسحب الحزام من جوارها ويضعه في مكانه المخصص غير منتبهًا إلى ذلك الحاجز الأسمنتي المقابل لهم، والموضوع ليجبر سائقي العربات على الإنعطاف يسارًا لعدم تمهيد الطريق من بعده، إلا عندما رفعت هي رأسها ولمحته وقتها صرخت تقول في ذعر :
-(( طاهر ألحق ))..

رفع رأسه ينظر حيث سُلطت انظارها، بينما قدمه تضغط في رد فعل سريع بكل ما أوتيت من قوة فوق فرامل السيارة في محاولة يائسه لتخفيف سرعتهم قبل الإصطدام المحتوم، وما هي سوي لحظات نجح خلالها في الإنعطاف بالسيارة قليلًا نحو الصحراء، حتى دوى صوت أرتطام مقدمة السيارة بطرف الصداد مختلطًا بصوت صراخها باسمه حيث كان الجزء الأكبر من الصدام يقع في جهته.


شيماء_يوسف غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 29-12-20, 08:50 PM   #76

duaa.jabar
 
الصورة الرمزية duaa.jabar

? العضوٌ??? » 395763
?  التسِجيلٌ » Mar 2017
? مشَارَ?اتْي » 946
?  نُقآطِيْ » duaa.jabar has a reputation beyond reputeduaa.jabar has a reputation beyond reputeduaa.jabar has a reputation beyond reputeduaa.jabar has a reputation beyond reputeduaa.jabar has a reputation beyond reputeduaa.jabar has a reputation beyond reputeduaa.jabar has a reputation beyond reputeduaa.jabar has a reputation beyond reputeduaa.jabar has a reputation beyond reputeduaa.jabar has a reputation beyond reputeduaa.jabar has a reputation beyond repute
افتراضي

السلام عليكم
الجزء الثاني جميل ككل فصولك وسوء الفهم هو الغالب بالنسبه للأختين علياء ورحمه ربما بالنسبه لعلياء تحتاج ان توسع نظرتها وترى كمية حب يحيى وان تقدر نفسها اكثر من احساسها برثاء الذات وتقليل القيمه
رحمه محتاجه للتبرير وفي حالة الرجل الرمادي يحتاج مواجهته بوضوح لمعرفة تبريره
غفران التهديد الموجه لها خطير ومن اشخاص بدون رحمه على امل ان يتمكن جواد من انقاذها بالوقت المناسب
جيداء لعبه بيد نادر وخيوطها مكان بنتها
بدر لازال الشخصيه الضعيفه المشتته من قبل زوجته ووالدته وفي حالة بقاءه على نفس الضعف راح يعاني من الكثير


duaa.jabar غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 30-12-20, 03:36 PM   #77

شيماء_يوسف

? العضوٌ??? » 474730
?  التسِجيلٌ » Jul 2020
? مشَارَ?اتْي » 61
?  نُقآطِيْ » شيماء_يوسف is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الواحد والثلاثون ❤️🔥

وَنَشْكُو بِالعُيُون إِذاً ٱِلْتَقَينا.. فَأَفْهَمَهُ بِعَيْنَيْيَ وَيُعْلِم ما أَرَدتُ

أَقُول بِمُقْلَتَيْ أَنِّي مَتَّ شَوْقاً.. فَيُوحِي طَرَفهُ أَنِّي قَدّ عَلِمتُ

وَأَقُول لَهُ لَقِدّ مَلِلتَ بِدُونكِ.. وَعَيْناهُ تَقُول لِيَ وَأَنا أَيَّضا سَئِمتَ

أَقُول لَهُ أَنِي أَتَمَنَّى وَصالَكِ.. وَ عَيَّننَكَ تَقُول هٰذا ما بِهِ حَلَمتُ.

_إبراهيم النظام.



انقضى النهار بضيائه وها قد أقبل الليل بظلامه، وهي لازالت حبيسة الغرفة، رقيده الفراش، حائرة الفكر، شريدة البال، إذ راحت تعيد داخل مخيلتها أحداث الصباح، وتتذكر في شوق كيف غزا بقربه البسيط دفاعاتها، بل وتتلوي حرجًا كلما تذكرت مدى تقبلها لقربه، والأسوأ كيف استلذت بلمسته الناعمة، مع صهد أنفاسه الواقع فوق بشرتها، حركة يديه المتروية فوق خصرها، وأخيرًا تحديق عينيه الصافيتين بخاصتها قبل أن تقرر خداعه، تتمنى لو توقف بها الزمن عند تلك النقطة، أو لو أُتيحت لها الفرصة في إعادة الكرة، ملقية بكامل اللوم على براءتها، فهي الساذجة عديمة الخبرة ومن الطبيعي تأثرها بأي لمسة عابرة، هذا ما أسكتت به ضميرها، قبل أن يلطمها عقلها بالحقيقة الكاملة دون زيف أو تجميل، فهي ليست بالساذجة كُلِّيًّا، وليست تلك بمرتها الأولى التي يحاول رجلًا ما الاقتراب منها، وعلى عكس شعورها الحاضر، وجدت جلدها يشمئز من لمسة سلام عابرة حاول من خلالها خطيبها السابق"محمد"، معرفة مدي تأثيره الرجولي عليها، وكيف ثارت ثائرتها واشتعلت نائرتها لفرض نفسه عليها كما وصفت فعلته، أما اليوم فهي حتى لا تعلم كيف استجمعت إرادتها وذهبت في حضرته، أو كيف استخدمت ساقيها الهلاميتين في السير عكس قبلته، ناطقًا القلب بما لم يقره صراحةً العقل، نعم فهي واقعةً في حبه كطير جريح، نجح أخيرًا في فرد جناحيه في سماء عيناه مسايرًا الريح، معترضًا طريقه نحو السعادة غراب أسود قبيح، ولم يكتف بذلك بل شرع ينقره مستهدفًا جناحاته الضعيفة حتى أرداه أرضًا طريح، فَظَاهِرِيًّا كل ما يفصل بينها وبينه هو ذلك الباب المغلق، أما فِعْلِيًّا فما يقف بينهما حائل، هو ظل أسود عملاق لشبح اَلْمَاضِي الكريه، يدعمه ضعف شخصيتها وعدم قدرتها على المواجهة أو الرفض أو التجريح، وأكثر ما تخشاه إذا أعطته الفرصة للتبرير هي تلك الخصلة اللعينة بها والتي تقيدها وتمنعها من المطالبة بأبسط حقوقها، وستجد نفسها فور تحدثه إليها قابلة لطلبه، قانعة بحجته، فرغم كل ما تملكه من مال وشهادة جامعية ألا أنها تفتقد لأهم شيء، ألا وهو القدرة على قول لا، وفي المرة الوحيدة التي قررت بها الاعتراض سقط والدها صريعًا بسبب جرأتها الغير معهودة، فعادت متقهقرة إلى قوقعة صمتها، وعليه لم تجد حلًا سوي الهرب من مواجهته ورفض محادثته، علها تستطيع الخلاص من تلك الزيجة والحفاظ على ما تبقى من كرامتها المهدرة على يد والدها، هذا ما انتهجته خلال الأشهر المنصرمة وهذا ما تنتوي الاستمرار في فعله حتى يزهد في طلب وصالها ويلفظها.

وفي الجهة الأخرى، وتحديدًا خلف الجدار الفاصل بينهم، ظل يحيي يذرع الممر ذهابًا وإيابًا في قلة حيلة بعدما ذهبت كل محاولاته في التحدث معها، أو توسلاته حتى تخرج لتناول الطعام أدراج الرياح، فلم يملك سوى تنفيذ تلك الفكرة الألمعية التي قفزت داخل ثنايا عقله فبادر في تنفيذها على الفور دون تردد أو تفكير، وعليه سار حتى وقف أمام الغرفة المختبئة بها ثم قال في صوت جهوري قوي من خلف الباب المغلق :
-(( علياء لو مش نايمة أنا نازل.. عندي مشوار ضروري لازم أروحه ومش هرجع قبل ساعتين لو حابة تخرجي من معزلك يعني.. هتلاقي الأكل على الرخامة جنب الحوض.. وبالمناسبة أنا حبست زوحلف في الأوضة اللي بنام فيها عشان تكوني مطمنه ))..

تعمد قول الجملة الأخيرة وذكر وجود حيوانه الأليف داخل الغرفة حتى يوفر بمقولته تلك مخبأ أمن له، ويضمن بذلك عدم اقترابها منها، وبعد أن انتهى من حديثه سار في اتجاه باب المنزل يفتحه ثم عاد وأغلقه في قوة قاصدًا وصول الصوت إلى مسامعها، مهرولًا بعدها على أطراف أصابعه نحو الغرفة التي سبق ذكرها يلوذ بداخلها، متمنيًا في تضرع نجاح خطته، وبعد حوالي دقيقتين من الصمت التام واحتباس أنفاسه ترقبًا، جاءه من بعيد معيدًا إليه الأمل، صوت حركة خافتة سرعان ما ميزها كخطوات أقدامها، أخذت في الارتفاع متجهة نحو باب المنزل، تحاول بعد توقف جسدها قبالة الباب فتحه بكلا كفيها أو تحريك مقبضه في محاولة محكوم عليها بالفشل مقدمًا، إذ حرص هو على إغلاق الباب بالمفتاح مرةً ثانية قبل اختبائه، بينما زفرت في استسلام حانق قبل العودة بإدراجها نحو المطبخ متتبعة رائحة الطعام الذكية التي غزت حاسة شمها، وملبية نداء الجوع في أمعائها التي شرعت تصدر أصواتًا متمردة تطالبها في إلحاح بملئها، فلا صوت يعلو فوق صوت الطعام، حتى أنها راحت تلتهم الطعام في تلذذ ولم تنتبه إلى ذلك الظل الذي أخذ يتسلل من خلف ظهرها بعيدًا عن مرأى عينيها في هدوء، قبل توقفه خلفها مباشرةً وعقد كلا ذراعيه أمام صدره، ثم قال في انتصار وابتسامه التسلية لا تفارق عدستيه أو شفتيه :
-(( حلوة الفراخ بتاعتي صح!! ))..

انتفض جسدها وشهقت فزعًا فور سماعها صوته آتيًا من خلف ظهرها، حتى أن قبضتها ارتخت من فوق كوب الماء الذي كانت تحمله تمهيدًا لرفعه إلى فمها، فسقط داخل حوض غسيل الأطباق وتناثرت أشلائه الحادة في كل مكان، رافعًا بفعلته الماكرة تلك المستوى الأقصى لغضبها فصاحت تعنفه في انفعال :
-(( أنت بتعمل إيه!!.. بجد يا يحيى بتعمل إيه!!.. وأنا أساسا بعمل إيه هنا مش عارفة!! ))..

سارع بالاندفاع نحوها يتمتم في ندم :
-(( أنا آسف مكنش قصدي أخضك أو أضايقك.. بس أنتِ مأكلتيش من امبارح وضغطك واطي فكان لازم اخرج...... ))..

رفعت كفها إمام وجهه تقاطعه في حدة، وتمنع بذلك اقترابه منها أو مواصلته التحدث إليها، ثم هتفت تقول في اهتياج، ناقمة على ضعفها وعدم مقاومتها له، أكثر من سخطها عليه :
-(( كلكم بتتعاملوا معايا بنفس الطريقة.. بنفس الأسلوب المستفز.. ما هي علياء دي الغبية.. العيلة اللي محتاجة حد يمسك أيديها عشان يعديها السكة.. محتاجة اللي يحط الأكل في بوقها!!.. لا ومش بس كده.. ويمسحه بعدما تخلص عشان هي كائن عويل مش هتعرف تعمل الحركة البسيطة دي!.. وطبعا لازم نختار لها لبسها وحياتها وأسلوبها.. والعريس المناسب عشان قربت ع ال٢٦ وياحرررررام لسه متجوزتش!! فتخيل نعمل إيه!! نجوزها في نفس يوم فشكلت خطوبتها من واحد بيحب غيرها!!.. مش مهمممممم.. المهم نخلص منها ونداري الفضيحة.. المهم اسمها يتلزق باسم واحد أصلًا مش عايزها!! ))..

صمتت لوهلة تلتقط أنفاسها اللاهثة من فرط الانفعال، وتسيطر على نبرتها المرتجفة قبل أن تضيف متحسرة في صوت متهدج وإعياء واضح، بينما كفها يعمل في ألية على دفع نثرت الزجاج الصغيرة نحو أحد أركان الحوض تَمْهِيدًا لرفعه ووضع هيكل الكوب الأساسي المنكسر فوق حافة الرخامة جوار ذراعها:
-(( روحي مع جوزك يا علياء.. واسمعي كلام جوزك يا علياء.. أوعى تطلبي الطلاق يا علياء.. جوزك مش هيحترم طلبك وهيحبسك ويقفل عليكي عشان يسمعك كلام معندكيش ربع طاقة تسمعيه؟ مش مهم اتحملي!.. عشان حتى لو حاولتي تعترضي مش هيهتم! .. أنتِ أساسا ملكيش قيمة.. وأحنا بس اللي بنشوف الصح.. احنا بس اللي عارفين مصلحتك فين!! ))..

تراشقت كلماتها المقهورة داخل صدره واحدة تلو الأخرى كما تتراص السكاكين الحادة داخل جذع الشجرة، حتى ظهر ألم اختراقها المعنوي باديًا فوق ملامحه، ولأول مرة منذ سنوات مضت وجد نفسه يقف عاجزًا أمام موقف نفسي مشابهًا، إذ صدمته مشاعرها المكبوتة، والجمه انفجاره كلماتها كالقنبلة الموقوتة، فلم يقو على التفوه بما يعتمل في صدره تجاهها، ولم يقدر على الدفاع عن نفسه وتبرير خطأه أمامها، بل اكتفى بالاندفاع نحوها، يقبض على معصمها ويمنعها من لملمة أشلاء الزجاج المبعثر تمامًا كأفكاره، قائلًا في خفوت حرج :
-(( حاسبي أيدك هتتعوري ))..

دفعت كفه قائلة في نبرة محتدة :
-(( سيب إيدي أنا مش صغيرة ))..

قال في نفاذ صبر وقد انصب كامل تفكيره وتركيزه على حماية يدها :
-(( طب خليني أساعدك ))..

هتفت في إصرار، بينما أصابعها تلتقط قطع الزجاج في إهمال شديد وكأنها تتعمد فعل ذلك :
-(( لا ))..

تراجع للخلف خطوة يراقبها في قلق مقرر إعطائها مساحتها كاملة، قبل أن تصرخ متألمة حيث خدشت إصبعها إحدى قطع الزجاج الصغيرة فسارع يدفع جسدها بعيدَا عن موقع الحادث هاتفًا في تقريع :
-(( قلتلك خليني أساعدك.. مبسوطة لما اتعورتي!! ))..

عادت مندفعة إلى مكان وقوفها الأساسي تزاحم موقع انتصاب جسده بعدما نفضت نثرة الزجاج الضئيلة العالقة بالطبقة السطحية لجلدها، وقد أثار حفيظتها إخفاقها والظهور بمظهر الفاشلة أمامه، لذا هتفت تقول في إلحاح وهي تدفع معصمه في قوة وعنف خارج المغسلة تحديدًا حيث وضعت هيكل الكوب المدبب منذ قليل :
-(( مفيش دم يبقي متعورتش.. ولو سمحت سبني أشوف كنت بعمل إيه!! ))..

ثانية واحدة هي كامل المدة التي استغرقتها في خفض رأسها قبل أن تُعيد رفعها مرة أخرى في لهفة عندما تهادى إلى مسامعها صرخة ألم مكتومة فلتت من بين شفتيه أجبرتها على النظر إليه وتفحص وجهه المتألم كي تستبين سببها، قبل انزلاق عينيها المتسعتان عن أخرهها في قلق إلى معصمه المرفوع ورؤية خط الدم اللزج المنساب فوق جلده والمتدفق من شق عرضي عميق نتيجة لاحتكاك ذراعه بالحافة الحادة لحطام الكوب عندما دفعته نحوه دون تركيز، تلي ذلك شهقة صدمة قوية كادت تصيبها بالاختناق من شدتها، وفترة من الجمود حيث ظلت ملتصقة بالأرضية أسفلها دون حراك، وقد أختفت الحروف فلم تستطيع تشكيلها على هيئه كلمات تامة، توزع بأطراف مرتعدة، ووجنتين شاحبتين، وشفاهيين مرتجفتين نظرها بين وجهه وجرحه حتى عرفت ينابيع الدموع أخيرا طريقها إلى وجنتها، فبدأت تنتحب في صمت وقد أعاد إليها البكاء القدرة على التحدث، فاندفعت تتلمس ذراعه في حذر وخفة، مغمغمة من بين شهقاتها التي أخذت في الارتفاع :
-(( أنا آسفة.. أنا غبية.. أ.. أنا معرررفش عملت كده أزي.. مقصدش والله أنا آسفة ))..

همس مطمئنًا من بين شفتيه المذمومتين للأمام متحاملًا على الحرقة التي تضرب جلده :
-(( متخافيش محصلش حاجة.. جرح بسيط ))..

لم يكن واضحًا من رد فعلها التالي أنها تستمع إليه، إذ استمرت تغمغم في هيستريا دون توقف :
-(( أنا مش بني أدمة.. أنا واحدة مبتفهمش.. مبتعرفش تعمل حاجة.. أ أنــا معرفش أزي زقيتك كده!.. مكنتش اقصدك والله ))..

صاح بصوت أقوى من ذي قبل يعيدها به إلى الواقع بعدما مد ذراعه الأخر نحوها يتلمس عضدها، فمن مظهرها الأولي يبدو أنها على وشك السقوط في نوبة هلع :
-(( علياء أنا كويس محتاج بس أطهر الجرح وألفه مش أكتر ))..

أجفل جسدها من لمسته البسيطة وتراجعت على إثرها للخلف مبتعدة عنه، ثم صرخت تدفع يده عنها صارخة في اهتياج :
-(( متقربش مني هأذيك تاني.. زي ما ضايقت بابا ووقع بسببي.. أنت كمان بتنزف بسببي.. كلكم بتتعبوا بسبب تصرفاتي ))..

ضغط فوق جفنيه في قوة بعدما لاحظ ارتجاف جسدها واصفرار وجهها، مقررًا الركض سريعًا نحو المرحاض ومعالجة جرحه، ثم العودة إليها ومساعدتها على تجاوز أزمتها فهو للأسف يحتاج إلى وقف الدماء أولًا حتى يتمكن من فعل ذلك.

وبعد حوالي عدة دقائق لم يتوقف خلالها انتحابها بل ارتفعت وتيرته، هرول عائدًا إليها بأقصى سرعة ممكنة بعدما نجح في تضميد جرحه فوجدها جالسة فوق الأرضية الرخامية الباردة، تضم ساقيها إلى صدرها وتهمس باكية في حسرة :
-(( أنا مليش لازمة.. كل ما باجي أعمل حاجة بفشل فيها وتبوظ.. عمري ما نجحت في حاجة.. وهو دايمًا كان بيتريق عليا بس عنده حق.. أنا مدلعة ومبعرفش أعمل حاجة صح ))..

أبتلع لعابه في ألم تفاعلًا مع حزنها، ثم أخذ يصر على أسنانه في غيظ، سخطًا وحنقًا على ذلك النذل الأحمق الجبان، حيث فهم بسهولة هوية من ترمي إليه بحديثها، هامسًا في نعومة بعدما جثا أمامها ورفع ذراعه يدلك بأصابعه أسفل عنقها، بينما رفع ذراعه الأخر المصاب في وجهها يطمئنها بحنانه، يبتغي بذلك صرف إحساسها بالذنب وشغل فكرها :
-(( أنا كويس حتى بصي.. الدم وقف كان مجرد خدش مش أكتر أنتِ ملكيش ذنب فيه.. ده غلط ممكن يحصل لنا كلنا.. أنا اللي ماخدتش بالي ))..

صمت لوهلة يراقب رد فعلها إذ نجح في جذب انتباهها وبدا ذلك واضحًا من خلال نظرة الارتياح التي اعتلت عدستيها بعدما رفعتهم نحو ذراعه ورأت الضمادة البيضاء النظيفة تغلفه، ثم أردف يقول في نبرة حانية ولكن حاسمة لا تقبل مجالًا للشك، مستأنفًا تدليك عنقها :
-(( وبعدين أنا شايف قدامي واحدة اتحملت مسؤولية بنت أخوها بدل أهلها اللي انفصلوا.. ومش بس كده دي نجحت فيها وأكبر دليل على كلامي حب وتعلق لينة بيكي.. واحدة شاركت والدتها مسؤولية والدها المريض.. وتعلقه وفخره بيكي باين في عيونه مش محتاج كلام.. واحدة متغرتش بفلوس عيلتها أو استكبرت بالعكس كانت بتنزل تساعدنا في مشروع ملجأ الأيتام لحد ما خلص واستحملت التراب والتعب والشمس من غير شكوى.. الواحدة اللي حكمتي عليها بالفشل دي عرفت تتغلب على موقف خطفها في نفس اليوم.. ودارت خوفها عن باباها وقامت تستقبله بضحكة وهي مصابة بارتجاج عشان ميتعبش رغم أن أيديها كانت لسه بتترعش من الصدمة قدامي.. ولو غيري شاف أنك شخصية ضعيفة أو مدلعة ولا حتى فاشلة فـ دى نظرته في نفسه مش فيكي.. عشان أنا شافي قدامي جوهرة وقعت في الايد الغلط ومش محتاجة أكتر من أنها تقف في المراية وتشوف هي قد إيه عظيمة زي مانا شايفها ))..

علا صدرها وهبط في عنف من نوع آخر استقبله هو برضا تام، ثم مررت حدقتيها المشرقتان بوهج محبب فوق وجهه وقد بدأ كامل جسدها يرتخي تحت لمسته الناعمة، ثم فجأة شعرت بالبرودة تسري بأوصالها فور توقف أنامله وكأنه كان يجاهد لإيصالها إلى بر الدفء، ثم دفعها خارجًا فور خطها عتبته دون سابق إنذار، فهمست تستجديه الاستمرار متوسلة :
-(( لا متوقفش ))..

اعتلي ثغره ابتسامة تلبية واسعة ثم عاد يداعب جلدها في نعومة وترو بعدما جلس قبالتها في وضع أكثر راحة وقربًا، يحاوط خصرها بذراعه الآخر ويدفع جسدها في اتجاهه فأصبح بذلك مَلَاحِمً لها، لا يفصل بينهم سوي إنشات بسيطة محاها بأراحة جبهته فوق خاصتها هامسًا في حشرجة :
-(( نفسي أقوالك حاجات كثير ونفسي أعمل حاجات أكتر.. لو بس تسمحي لي! ))..

تقلصت رئتيها بسبب قربه حتى بات دخول الهواء إليهما مهمة شبهه مستحيلة، ثم همست اسمه بأنفاسها اللاهثة من بين شفتيها المرتعشة :
-(( يحيي! ))..

تنهد في حرارة يراقب مفتنونًا اللون الأحمر الزاحف فوق وجنتيها، ويتلمس بشفاهه الحرارة المنبعثة من بشرتها، هامسًا في شوق :
-(( صوتك حلو آوي يا عالية.. متعرفيش قد أيه حلمت أسمعه منك بالطريقة دي من غير تأنيب ولا ذنب ))..

ارتعشت أهدابها وثقل جفناها أسفل قبلاته الخفيفة الناعمة التي طفق يوزعها فوق شطر وجهها، تستقبل صهد عاطفته في استسلام تام فحتى وإن وجدت إرادتها المسلوبة لمقاومته، لن تجد صوتها أو قوتها لإيقافه، بينما طافت أصابعه الطويلة في توق شديد الجانب الأخر، قبل أن ينزلق بشفتيه الناعمتين إلى ثغرها يحتضنه في شوق طال انتظاره، يرفض الابتعاد عنها وكأنه قد وجد أخيرا راحته وسلامه، حتى قطع اتصالهم الحسي قبل الجسدي رنين هاتفه في اتصال ملح، تجاهله للمرة الأولى حتى الثالثة، رافضًا تحرير أو إفلات شفتيها، حتى دفعته هي بأكف مرتجفة في طلب ملح من رئتيها للهواء، ثم غمغمت تطلب في خجل :
-(( يحيى رد ممكن يكون حد من أهلي عايز يطمن عليا ))..

انحني برأسه يطبع قبلة مطولة فوق جبهتها كعلامة موافقة، قبل أن يخرج من جيب ردائه الخلفي هاتفه وينظر في شاشته متأففًا، ومجيبًا على الطالب في سأم بعدما ضغط فوق مكبر الصوت، وحاوط ظهر زوجته بذراعه يأسرها تحسبًا :
-(( خير يا جيداء ))..

هتفت تقول في لهفة فور سماعها صوته :
-(( يحيى ألحقني ضروري محتجالك ))..

حدث ما توقعه إذ شرعت علياء في دفع جسده بعيدًا عنها ولكنه استبقها بلف ساقه هي الأخرى حول خصرها فأصبحت مكبلة بأطرافه :
-(( في ناس متبعاني بالعربية من بدري.. ولما ركنت ودخلت الكافية دخلوا ورايا وبعدها لقيتهم بيحاوطوني ويجروني لمكان مهجور ورا الكافيه ))..

قاطعها يقول في عدم اهتمام :
-(( أكيد ليهم علاقة بالناس اللي أنتِ شغالة معاهم.. ولا فكراني مش عارف أنك شغاله مع ناس مشبوهة! ))..

وصلهم عبر مكبر الصوت بعض السُبات الخارجة، يليها صوت صراخ، قبل أن تقول في ذعر :
-(( الناس بتجري ورايا عشانك.. بيقولوا بسبب الورق اللي أنت مخبيه عن واحد اسمه نادر ))..

شحب وجهه وأهتز الهاتف داخل يده نتيجة لارتجاف كفه ولم يعقب، بينما أردفت هي تهمس متوسلة في فزع :
-(( أبوس أيديك متسبنيش.. أنا بحاول اهرب منهم بس هما محاوطين كل المكان ومش عارفة أوصل لعربيتي.. ))..

صرخة أخرى عالية اخترقت أذنيهم، تلاها صوت لطمة قوية ميزها بوضوح، صادحًا بعدها صوت خشن يقول في تهديد موجهًا الحديث إليه :
-(( هات الورق بتاع القضية واحنا هنسيبك ونسببها في حالكم ))..

رفع يحيى نظره يطالع بأحداق زائغة علياء التي همست تستفسر في رهبة بعد انقطاع الاتصال :
-(( إيه اللي بيحصل بالضبط!! ))..

أجابها في عُجالة بعدما ركض نحو غرفة مكتبه يبحث عن بعض الأوراق الهامة وتبعته هي كظله :
-(( هفهمك بعدين ))..

صمت لوهلة ثم أردف يقول في توجس وهو يقلب بعض الأوراق التي أخرجها بين أصابعه :
-(( عالية أنا لو نزلت دلوقتي!! ))..

تفاجئ بها تقول في عقلانية إذ استمعت إلى المخابرة الهاتفية كاملة :
-(( رغم أني مش فاهمة حاجة بس لو تسليمك الأوراق ده هيحميها ويحميك روحلها ))..

هرول يطبع قبلة شاكرة فوق جبهتها وفمها وكلتا وجنتيها، ثم تمتم يقول مُمْتَنًّا في عشق نضحت به عيناه :
-(( هسلمه عشان أمانك أنتِ مش حد تاني.. وهسيب باب البيت مفتوح وتليفونك على الكومود أهو ))..

أشار بعينيه نحو مقصده ثم استطرد يقول في نعومة هزت دواخلها :
-(( مش هجبرك على أي حاجة ولا حتى أنك تسمعيني.. بس بترجاكي تستني لحد ما أرجع عشان لازم أقوالك حاجة مهمة.. اعتبريه آخر طلب ليا ))..

حركت رأسها موافقة رغم الحيرة وقلة الفهم البادية فوق ملامحها، تراقب في قلق انسحابه من أمامها شاعرة بقبضة قوية تعتصر قلبها عند سماعها جملته الأخيرة، داعية خالقها سِرًّا أن يعيده إليها سالمًا وأن يخطأ حدسها.



****************************

جلست القرفصاء فوق أريكتها المفضلة تهز ساقها في توتر، بينما تقضم بأسنانها أظافر أصابعها في عصبية زائدة بعدما حاولت جاهدة صرف تفكيرها في شتى الاتجاهات وفشلت، ترفع الهاتف ثم تتذكر فحوى رسائل التهديد المبعوثة إليها، فتسارع بإلقائه بعيدًا عنها وكأن هناك شبحًا مخيف باغتها بالظهور فجأة من خلف شاشته، قبل أن تعود وتلتقطه من جديد في تردد، تكاد تموت يأسًا لسماع صوته دون وجود سبب مقنع لتلك الرغبة المتملكة منها منذ الصباح الباكر، مدعومة بذاك الإحساس المقيت بالذنب المحتل كافة دهاليز عقلها ويظل يهمس ويهمس دون توقف معاتبًا إياها على تركه ينتهي من إجراءات استلام ودفن طليقته بمفرده دون عرضها المساعدة ولو من باب المجاملة والذوق بعد أن وصل إليها جَلْيًٌا من خلف نبرته الباهتة مدى حزنه ووحدته حتى وإن كان يتظاهر بالصلابة أمامها وأمام الجميع، ألا تُغني تلك الذريعة!، ومن ثم من ذا الذي يحتاج إلى مبرر للقلق على رفيقه!، نعم رفيقه حتى وإن كان عمر صداقتهم لا يتعدى سوى أشهر قليلة ولازالت في طور النمو، ولكن يكفيها وجوده جوارها في كل المواقف التي وجدت بها نفسها تقف وحيدة تائهة، ولم تربت على كتفها سوي يده، ولم يحتوي ضعفها سوي تفهمه، ثم أن عمر الصداقة الحقيقية تقاس بالمواقف، الشدة، والأزمات، وليس بالأيام والليالي، وبهذا التبرير الذي خلقه عقلها رفعت سماعه الهاتف تخابره وتنظر مضطربة أجابته التي جاءتها بعد الرنة الرابعة وقد أحصت عددها حَقًّا، يقول مرهقًا :
-(( ألو.. ))..

تنحنحت عدة مرات ثم قالت في ارتباك جديد العهد بها :
-(( ألو جواد.. بعتذر لو أزعجتك.. بس بتصل برحمة أطمن عليها تليفونها مقفول.. وهي كانت قايلالي رايحة الشركة عندكم النهاردة.. ينفع تطمني عليها لأن الوقت أتأخر وهي لسة مرجعتش؟ ))..

كانت هذه كذبة لعينة منها، فهي تعرف تمام المعرفة أن رفيقتها بصحبة زوجها، وإن لاح اسم طاهر في الأفق فذلك يعني الأمان التام بالنسبة إليها، فقط تمنت أن تكون نبرة صوتها طبيعية بشكل كافِ لإقناعه، وقبل أن تغوص في شعور أخر من التأنيب أتاها صوته يقول في بساطة :
-(( لا متقلقيش.. احنا بس خلصنا الاجتماع والمراجعة متأخر ولست متحركين من شوية.. وتلاقي رحمة نست تفتح تليفونها بعد الاجتماع.. عَمَّتَا هي مع طاهر المفروض هيوصلها.. يعني حتى لو تأخرت مش عايزك تقلقي ))..

حركت رأسها عدة مرات موافقة في بلاهة لم تعتدها، وكأنه يراها من خلف الشاشة!، حَقًّا ما بالها اليوم ترى نفسها غارقة بين ثنايا أمواج متلاطمة في بحر التصرفات والرغبات الحمقاء!، صرت فوق أسنانها في غيظ، ثم قالت بعدما سعلت في خفة غير ضرورية وقد ارتأت في سكوته فرصة مناسبة للحديث :
-(( أحم.. جواد عايزة اعتذر لك أني بلغتك بالخبر الصبح وسبتك لوحدك.. بس كان عندي محكمة وأنت عارف صعب أسيب مرافعة ومحضرش ))..

حسنًا، ها هي تكذب للمرة الثانية في أقل من ستون ثانية، يبدو أن اليوم هو يوم المفاجآت بالنسبة إليها، أو يمكنها تسميته بيوم إعادة اكتشاف الذات، بينما قال هو في نبرة خالية قاطعًا المجال على مزيد من التحليلات النفسية العميقة المسيطرة على أفكارها :
-(( وجودك مكنش هيفرق في حاجة أنا كنت متوقع ده يحصل في أي لحظة بعد رفض الاستئناف.. يعني إعدامها كان مسألة وقت.. وبعدين كثر خيرك أنك متابعة قضية ملكيش فيها وكنت بتبلغيني كل حاجة أول بأول.. أهم حاجة عندي دلوقتي لينة وازاي أحميها................ ))..

أخذ قلبها يضرب في عنف بين صدورها كمن يبغي التحرر من سجنه فور ذكره سيرة طفلته الصغيرة الرائعة، وراح خيالها الخصب يسحبها دون وعى منها داخل صورة حية مجسدة لعالم مثالي يجمع ثلاثتهم معًا، حيث تركض هي في حرية واستمتاع داخل إحدى المروج الخضراء وتركض أمامها صغيرته بصوت ضحكاتها المرحة الرنانة مطاردة إحدى اليرقات اليافعة، في تناغم تام مع تغريد طائر الكناريا المحلق فوق رؤوسهم، بينما يجلس هو على مقربة منهم يتابع في سعادة لهوهم المحبب إلى قلبه، متجاهلة بنفس يائسة جرس الإنذار الصادع من مكان ما في نهاية عقلها ويخبرها بأنها أضحت في منطقة محظورة وعليها التراجع قبل فوات الأوان، قبل أن يعيدها إلى أرض الواقع هتاف صوته يسألها في استنكار :
-(( ألو.. غـفــرررران.. سمعاني ))..

سارعت تجيبه في شرود :
-(( معلش.. ماخدتش بالي كنت بتقول إيه ))..

قال مازحًا في عادة لم يَتَخَلِ عنها :
-(( بقالي ساعة بنادي.. طب بدل ما أتكلم ع الفاضي نبهيني أنك مش عايزة تسمعي ))..

غمغمت معتذرة في حرج كمن قُبض عليه متلبسًا بالجرم المشهود :
-(( أنا آسفة عندك حق.. بس كننـــ.......... ))..

هذه المرة جذب انتباهها أصوات صياح قادمة من الخارج سرعان ما ميزت إحداها فور سماعه فهتفت تغلق معتذرة في لهفة :
-(( جواد أنا آسفة بس تقريبًا في خناقة في الشارع وحاسة إني سامعة صوت مصطفى أخو رحمة.. هروح أشوف ))..

قال في قلق :
-(( طب محتاجة أجيلكم.. كده كده أنا في الطريق مع لينة هخرجها شوية تغير جو؟! ))..

اجابته وهي تركض نحو النافذة تتأكد من صدق ظنونها قبل أن تقول في لوعة وقد هرولت نحو باب المنزل ومنه إلى الشارع، إذ صدق حدسها :
-(( متقلقش هشوف واطمنك،.. ولو في حاجة هكلمك على طول ))..

أنهت المكالمة في التزامن مع وقت وصولها إلى موقع التنازع ثم صاحت تسأل في تأهب وذعر بعدما دفعت بعض الرجال المتجمهرين من حوله يحاولون فض الاشتباك القائم، ووصلت إليه :
-(( في إيه!!.. مالك يا مصطفى؟!.. بتتخاتق مع مين هنا؟ ))..

أجابها في اهتياج وهو يشير مزدريًا برأسه نحو الجهة المقابلة له :
-(( ده واحد ***** سمعته بيتحرش ببنت معدية.. ولما بقوله عيب كدة مش عاجبه وبيغلط كمان! ))..

صاح الصبي الأخر يقول بصوته الرفيع المتناسب تمامًا مع حجم جسده وسنه الصغير إذ يبلغ في أقصى تقدير السادسة عشرة من العمر :
-(( وانت مالك!.. دي خطيبتي وانا حر معاها.. انت بتتحشر ليه يا ****** ))..

حاول مصطفى الإفلات من الجمع المحاصر جسده بنية الانقضاض عليه من جديد دون جدوى، فالكثرة تغلب الشجاعة، وعدد أيدي الرجال القابضة على ذراعيه وكتفيه تفوق قوته، بينما أندفعت غفران تقبض على ياقة المعتدي تجذبه من خلالها وتقول في نبرة محتدة عالية لا تحمل المزاح :
-(( ولا.. متفكرش أننا ساهلين.. أنا محامية وعندي جمعية خيرية وموقع وناس كثير.. يعني أقسم بالله لعملك محضر دلوقتي ولو شاطر توريني رجولتك اللي بتشطر بيها ع البنات سامع ولا أقول كمان؟! ))..

تراجع الفتى قائلًا في استسلام جرح كرامته المراهقة :
-(( قوليله هو اللي بدأ يشتمني ))..

تدخلت بعض الأصوات الذكورية الخشنة من قاطني المنطقة تقول في عقلانية لمنع تفاقم الأمور :
-(( خلاص يا أستاذة حصل خير.. وأنت يا مصطفى اطلع مع الأستاذة وهو عرف غلطه ومش هيكررها ))..

جذبت غفران ذراع مصطفى الرافض التحرك من مكانه تجبره على السير معها، حيث توقف يراقب الحركات البذيئة التي يقوم بها ذلك الطفل من خلفهم نكاية به، قبل اختفاءه من أمام ناظريهم، وقتها هتفت غفران تقول معاتبة :
-(( ينفع كده يا مصطفى.. قلبي وقع في رجلي لما سمع صوتك تحت.. أنت أمانة عندي مينفعش التهور ده.. وبعدين افتكر أختك قبل ما تتخانق مع حد ))..

تأفف في حنق ثم هتف مدافعًا عن موقفه في شراسة :
-(( يعني عايزاني أشوفه بيتحرش بواحدة واسكت؟!.. وبعدين ده عيل كداب البت مش خطيبته دي كانت عيلة صغيرة معدية.. ولولا إني لحقته كان زمانه مد أيده عليها ))..

توقفت عن السير تطالعه بإعجاب وقد راقها رد فعله الشهم، تحاول السيطرة على لمعة الفخر التي غلفت عدستيها حتى لا يظنها راضية بشكل صريح عن فعلته، ثم قالت في نبرة شبهه طبيعية بعدما ربتت على كتفه :
-(( خلي بالك من نفسك.. الدنيا الفترة دي مش أمان.. بلاش تهور عشان خاطري.. ومفيش داعي نحكي لرحمة عشان متتخضش هو عيل سيس وجري ))..

أومأ برأسه موافقًا عن الجزء الأول من طلبها في عدم اقتناع، فقد رآه مجرد موقف عابر وانتهى ولا يستدعي كل ذلك القلق، متفقًا معها تمامًا عن الشق الخاص بشقيقته، متابعًا سيره خلفها ينظر في وداع إلى المباني العتيقة المتراصة في شموخ من حوله حيث أن الليلة هي الليلة الأخيرة لهم في ذلك المنزل كما اتفق مع شقيقته على الانتقال.

*******************************



يظل المرء طوال حياته يكابر في عناد زائف فعل ما يشتهيه حتى تأتيه اللحظة الفاصلة، وقتها يدرك كم كان أَحمَق حين أصر على إضاعة فرصه الراحلة!.
صرير مرتفع يكاد يصم الآذان نتيجة احتكاك مكابح السيارة بالأرضية، يليه دوى اصطدام هيكل السيارة الأمامي بالخرسانة المسلحة ذات الارتفاع المنخفض، تبعه طقطقة عالية لبدأ تهشم الزجاج الأمامي، وأخيرًا صخب اندفاع الغاز داخل الوسائد الهوائية أمامهم ومن حولهم، كل ذلك حدث في أقل من الدقيقة، قبل أن يعم السكون المكان، حتى من صوت أنفاسه التي اختفت رُوَيْدًا رُوَيْدًا من حولها، ولم يَتَبَقَّ سوي همهمات ضعيفة خافتة خارجة من شفتيها المرتعشتين يصاحبها في وتيرة متزايدة ومتوقعة لهاث أنفاسها وقتذاك، وقد أعلنت رئتاها عليها العصيان، وما بين عجزها عن التقاط الأنفاس وبين هلعها خوفًا عمن يجلس جوارها دفعت بأكف مرتجفة القماش الرقيق اللزج (النايلون) للوسادة الهوائية من حول جسدها، مستأنفة إزاحة ما يقابلها في طريق يدها إلى جسده هو الأخر حتى تتمكن من رؤيته، بينما شفاها لا تتوقف عن الهمس بأسمه من بين شهقاتها المتتالية الباكية :
-(( طاهر.. طاهر.. لا.. عشان خاطري رد عليا ))..

للوهلة الأولى وربما بفعل الصدمة لم يصله صوتها ولم يقو على التحدث أو الحركة، ومن ثم وبعد لحظات عندما بدأ يعي ما حوله، تهادى إلى قوقعة أذنه بوضوح نحيبها الخفيض والممزوج بلهاثها المرتفع، تزامنًا مع شعوره بتحريك كفها فوق جسده كي تتأكد من سلامته، وقتها همس يقول في ضعف :
-(( أنا كويس متقلقيش ))..

قالت وقد واشكت على الإغماء من فرط الذعر والانفعال إضافةً إلى انقباض رئتيها :
-(( أن ن.. أنــت آااااخـ.. خدت الضربـة كلـ.. كلاالها ناحيــتك ))..

إبعد في بطء شديد وبقدر ما سمحت له قدرة ذراعه وقفصه الصدري المتألم، قماش الوسادة الهوائية من أمام جذعه ومن حول خصره حتى يستطيع التحرك، ثم قال في وهن بعدما أحتضن كفها وضغط برفق فوقه مطمئنًا :
-(( أنا كويس الخبطة مكنتش جامدة.. والمخدات خففت الضربة.. وبعدين سرعتنا مكنتش عالية متخافيش ))..

ضغط فوق شفتيه بعدما صمت فجأة في قوة، إذ باغته الألم على حين غرة بضربة شديدة في منتصف قفصه الصدري مما أجبره على التوقف عن التحدث حتى يتجاوز ذروتها، قبل ابتلاعه لعابه في صعوبة لم تخف عليها، فسارعت برفع يدها تتحسس جانب وجهه وجبهته وتتأكد من خلوهم من الدماء أو الإصابات الظاهرية، مغمغمة في إنهاك شديد لدرجة إنها لم تعد تقوى على النطق بأحرف كلمة متواصلة دون التريث لسحب عدة أنفاس من فمها :
-(( لا مــش كـو يـس.. أ.. أنــا الس.. سببـب ))..

رفع ذراعه يمسح فوق رأسها مهدهدًا وقد أنهكه ذلك الفعل البسيط، ثم سأل في حنو وقد غفل عن الاطمئنان عليها :
-(( أنا كويس والله.. شكلها بس كدمة قوية.. المهم أنتِ كويسة ))..

حركت رأسها مؤكدة في نصف إيماءة حيث تمكن منها ضيق النفس بشكل تام، فارتخت على أثره يدها من فوق وجهه واستحال لون بشرتها إلى الزرقة فسارع في تلهف وقد أندفع فجأة الأدرينالين إلى سائر جسده فور شعوره بخطر الاختناق يداهمها، يبحث عن حقيبة يدها ولحسن حظه كانت قابعة في المسافة الضئيلة ما بين مقعده ومقعدها فقام بفتحها وإخراج بخاختها الطبية، وبمجهود خارق استطاع رفع ذراعه نحو فمها ودفع البخاخ داخله قبل ضغطه فوقه في ضعف تاركًا رذاذه يتخذ مجراه المعروف إلى حيث جهازها التنفسي لتوسعة انابيبه، ثم انتظر يترقب في قلق حتى عادت ملامحها إلى عالم الأحياء، وقتها فتح على مهل باب السيارة وخرج منها الهوينى يُقيم مدى سوء الوضع، حامدًا ربه سِرًّا على الوسائد الهوائية التي قام بتركيبها فور شرائه السيارة تحسبًا، وعلي حسن قراره في تقليل السرعة حينما بدأت مناوشاتها الهوجاء تشغله عن القيادة، ولولا ذلك لما كان واقفًا فوق قدميه الآن، مقررًا بعد فترة من التفكير إخراج هاتفه وطلب المساعدة من سائقه الخاص، قبل أن يتوجه نحو باب السيارة الأخر حيث تجلس هي، يفتحه ويسحب كلتا ذراعيها نحوه بعدما جلس القرفصاء أمام بابها المفتوح، يسألها في حنو بعد أن أصبحت في مواجهته، إذ استدارت بجسدها نحوه مستجيبة لحركة ذراعه في جذبها تجاه جلسته، ثم أنزلت قدميها فوق الأرضية الأسفلتية خارج حدود السيارة وطأطأت رأسها أرضًا في خزي واضح ترفض رفع عينيها في مواجهته غير قادرة على التحكم في مجرى دموعها المنهمرة :
-(( بتعيطي ليه؟!.. في حاجة وجعاكي؟! ))..

حركت رأسها نافية في بطء، بينما شهقات بكائها تزداد إرتفاعًا، فزفر مطولًا ثم أستطرد يسأل من جديد في إرهاق واضح ولازال يحتضن كفيها داخل كفيه :
-(( طب بتعيطي ليه؟ ))..

انخرطت في نوبة قوية من النشيج وقد تعاظم شعورها بالذنب بفعل لمسته الحنونة ونبرته المهتمة الناعمة، مما دفعه إلى سحب جسدها إلى الخارج ولف ذراعيها حول خصره بعد انتصابه واقفًا، متجاهلًا الألم الذي عصف بعضلات صدره فور إسناد رأسها فوقه، وظل يضمها إليه ويمسح فوق ظهرها حتى هدأت نوبة بكائها وقتها عاد يسأل من جديد :
-(( لو هديتي ممكن اعرف بتعيطي ليه كل ده!.. احنا الحمد لله كويسين ))..

إجابته في نبرة مختنقة محتفظة بآثار البكاء بين طياتها، وقد عادت طفلة تخشي مواجهة والدها بما أجرمته حتى لا تُعاقب :
-(( عشان أنا السبب في اللي حصل ))..

رفعت رأسها تنظر إليه للمرة الأولى بأعين منتفخة وأنف قرمزي من كثرة البكاء، ثم سألته في حيرة بعدما ابتعدت عنه مسافة قليلة حتى يتسنى لها رؤيته بشكل أوضح :
-(( أنت عملت كده ليه؟! ))..

سألها في عدم فهم :
-(( عملت إيه؟! ))..

أشارت بوجهها نحو السيارة ثم قالت شارحة :
-(( ليه حودت بالعربية يمين ))..

أجابها في بساطة وكأنه يخبرها عن حالة الطقس أو الساعة :
-(( عشان الخبطة متجيش فيكي ))..

رفرفت بأهدابها المحتفظة ببقايا دموعها في دهشة، ثم همست مستفسرة في عدم تصديق :
-(( عشاني!!.. كنت هتضحي بنفسك عشاني!! ))..

أومأ عينيه مؤكدًا في نظرة لا تحتمل التشكيك ولم تكن حركاته أو نبرته تزيد عن الضرورة بسبب الألم المتزايد داخل أضلعه كلما مر الوقت، فأردفت تقول مستنكرة :
-(( بس أنا مش أهم منك ))..

قاطعها معترضًا في محبة :
-(( أنتِ ليه مش عايزه تصدقى أنك أهم من النفس اللي بطلعه ))..

هالتها جملته وصدمها إيثارها على حياته، بل هالها الموقف ككل وألجمها فعله قبل حديثه، وبعد فترة من التحديق به في ذهول، همست تقول مؤنبة، تتمنى داخلها لو أتخذ تلك المرة من مصارحتها حلًا بديلاً عن الصمت، فإما التحدث الأن أو السكوت للأبد، وبعد معايشتها فكرة خسارته، لم تعد تنتوي الهروب أو التأجيل، حتى وإن كان معناه أن تبدأ بالتحدث أولًا متنازلة عن فكرة سياسة النفس الطويل أو كبريائها الأنثوي :
-(( وعشان كده خالفت وعدك معايا وسبتني كل الشهور اللي فاتت دي مفكرتش حتى تسأل عليا مرة ))..

لم تكن نبرتها محتدة أو مرتفعة كعادتها رغم الحزن الواضح بها، ولم تكن عدستاها تطلقان شرارها المعتاد ككل مرة تقف بها قُبالته، بل كانت ناعمة هادئة تلمع بمزيج من العتب والحنان، فلم يشعر سوي وهو يسأل معترفًا في عجز :
-(( رحمة.. أنتِ لسة عندك شك أني بعمل كل حاجة ليكي وعشانك حتى لو هتزعلك مني!!.. ده أنا حتى غيرت من شكلي عشان تكوني مرتاحة!!.. معقول مفهمتيش ده لوحدك؟!.. ))..

نبض قلبها، بل قفز من مكانه وهي تتراجع عفويًا للخلف عنه مصاحبًا حركتها العشوائية شهقة مندهشة خافتة فلتت من بين شفتيها، بينما تعمدت تسليط أنظارها فوق وجهه وداخل عيناه تتأكد من صدق ملامحه وحديثه، وبعد أن اتخذت وقتها كاملًا في استيعاب جملته والحملقة به في بلاهة، همست تسأله في تيه أحمق :
-(( عشاني!!! ))..

حرك بؤبؤ عينيه في تململ واضح وتجعدت ملامحه في سخرية، ثم تشدق مجيبًا في تهكم أغضبها :
-(( لا عشان السكرتيرة اللي عندك ))..

طغت شعلة غضبها على شعور الإنهاك المتمكن من كافة خلاياها، فسارعت تقول محذرة في حدة ففي وضعهم الحالي أخر ما تود سماعه هو سيرة إمرأة أخرى تقال على لسانه :
-(( متستهبلش! ))..

هتف يعقب في نزق ولم ينكر خفقة الفرح التي أصابته فور استشعاره غيرتها :
-(( وأنتِ متستعبطيش!!.. أنا مشاعري واضحة وصريحة من الأول مش محتاجة افكرك بيها.. أنتِ اللي صممتي تمشي وتبعدي بعد ما صارحتك بحبي من غير حتى ما تبصي وراكي.. أنا رميت كل أوراقي قدامك.. مش بس أوراقي كمان كرامتي!!.. وركعت قدامك اترجاكي نبدأ من جديد وأنتِ اللي رفضتي إيدي الممدودة.. ومكتفتيش بكده.. ضربتي في وشي أسوأ حاجة ممكن راجل يتصارح بيها أو يسمعها.. إني بفكرك بواحد تاني بتكرهيه.. حتى لو التاني ده توأمي الميت ))..

صاحت معترضة في استنكار وقد انفلت عقد الكلمات من لسانها :
-(( ومين قالك إني مندمتش!!.. مين قالك إني مكنتش عايزه أرجع من أول ما خطيت برة باب الأوضة!!.. مين فهمك إني صممت أمشي مش عشانك!! ))..

صمتت لوهلة تبتلع لعابها وتبلل شفتيها الجافتان ثم أردفت تقول في نبرة متهدجة وحسرة وكأن كلماتها تأن وجعًا منها :
-(( أنا مكنتش عايزه أبعد عنك خطوة واحدة حتى بعد اللي مرينا بيه في الأول.. ولو كان في لحظة في حياتي أسوأ من لحظة صحياني جنب جثة عمرو والدم مغطيه.. فهي لحظة رفضي ليك بعد ما اعترفتلي بحبك.. بس أنا كمان إنسانة.. كان نفسي أعيش معاك حياة طبيعية لما اكون أنا طبيعية وأقدر اتخطى اللي حصل.. وإني أدخل بيت جوزي وأنا رافعة رأسي وأيدي في أيده مش وأنا مجرورة عشان يستجوبني ويعرف مني مين قتل أخوه وإزاي ولما الظروف اضطرته أتجبر يتجوزني مؤقت ))..

سحبت نفسًا عميقًا تحافظ به على توازن رئتيها وتمنع اختناق العبرات من الطفو سطحًا وفرض سيطرتها على نبرة اعترافها ثم استطردت تقول في حشرجة وتيه :
-(( أنت متعرفش أنا عشت الأيام دي أزاي!!.. عارف كام كابوس مريت بيه في ال٧ شهور دول وصحيت لوحدي من غير ما ألاقيك بتقولي انك طاهر مش عمرو وإنك عايش؟.. عارف كام مرة اتخنقت وملقتش أيدك تلحقني بالبخاخ وتطلب مني اتنفس بالراحة؟.. عارف كام مرة كتبت في مذكراتي عنك؟ ))..

أطلقت ضحكة مريرة قبل استئناف عتابها وقد فقدت السيطرة على إيقاف دموعها فتركتها تنهمر كيفما شاءت هي وسيل كلماتها المتدفق :
-(( مش كام مرة.. أنا أساسًا مبكتبش غير عنك.. عارف أنا كنت بنام على أمل أن بكرة ممكن يجي والاقيك قدامي زي ما وعدتني مش هتسبني.. وبقوم الصبح على أمل أن النهاردة تكون قررت تزورني واشوفك.. ده انا كنت بمشي في الشوارع أبص في وشوش الناس يمكن ألمحك.. وبركز مع كل رقم عربية تعدي جنبي أو قدامي يمكن تطلع بتاعتك.. وبليل كنت بقف في شباك أوضتي لحسن تعدي صدفة من تحته أو تكون افتكرتني فتسأل جواد ويدلك على طريقي.. ويوم ورا يوم لا أنت جيت ولا أنا تعبت من البص في وشوش الناس.. بس اقتنعت أن كلمة بحبك اللي قلتها مكنتش حقيقة يمكن كانت اعتياد على وجودي مش أكتر ))..

لعن في صوت مرتفع وأطلق عدة سبات خارجة لم يتكبد حتى عناء إخفائها فوصلت إلى مسامعها بوضوح تام، وقد كبله حديثها وجعله يشعر بضآلة حجمه وحقارته، فقد كانت كلماتها كحمم البركان كلما تدفقت من فمها، كلما أصهرت ما بداخله وأخذت في طريقها احترامه لذاته وقراراته، فخره بحكمته، وقناعته بفعله الصالح لأجلها، أراد الاعتراف بضعفه أمام ذكرى حديثها عن شقيقه، وبأن فكرة وقوفه حائل بينهم كالسوس الكريه ظل ينخر في عقله حتى أفقده قدرته على التفكير السليم فيما يخص علاقتهم، بينما ضغطت هي فوق شفتيها بقوة قائلة في خفوت بعدما أطلقت تنهيدة حارة حرقت أحشائه :
-(( أنت عارف أن لحد إمبارح كنت مستنية منك أي تبرير.. أي كلمة تدل على إنك لسه متمسك.. مانا تعبت من كل الأعذار اللي حطيتهالك في خيالي وماصدقت أشوفك واسمع منك عذر حقيقي بدل الأحلام اللي عايشة فيها ))..

ضجت أنفاسه في صدره، كما ضجت الدماء الحارة بجسده حتى أصم طنينها أُذنيه، ثم رفع كلا ذراعيه يمسح بعنف فوق وجهه وقد تعدي ألمه النفسى في تلك اللحظة ذاك العضوي، ورغم استحقاره عذره إلا أنه همس يقول في منقصة :
-(( أنا مبعدتش بمزاجي ولا سبتك.. ومخلفتش وعدي معاكي يوم واحد.. كنت كل يوم حواليكي.. أنا اختفيت من قدامك بطلب من يحيى.. بس ده مش معناه إني مكنتش معاكي لحظة بلحظة وعارف بتعملي إيه وفين ومع مين ورتبت كل خطوة خطتيها لحد ما ظهرت قدامك.. وبعادي عنك كان ضروري لعلاجك النفسى.. رحمة أنا اللي طلبت من يحيى يتولى جلساتك النفسية مش غفران.. أه عارف أنه مش مبرر.. ودلوقتي ويمكن من قبلها ندمت أني سمعت كلامه ومصممتش أفضل معاكي خطوة بخطوة في علاجك بس ساعتها كنت زي المضروب على دماغي.. كلامك أنك كل ما بتشوفيني بتفتكري عمرو وأنه واقف بينا خلاني مفكرش صح.. ده خلاني اكره حتى ملامحي.. ولما يحيى طلب مني إني أبعد عنك طول الفترة الأولى من جلساتك لقرب الشبهه بيني وبين أخويا طلبه جه على هوي غروري.. ولو كان اللي هقوله في عزاء ليكي فأنا طول الفترة دي مرتحتش ليلة.. انا يادوب كنت بدأت أفوق من صدمة خسارتي لعمرو بيكي.. لقيتك أنتِ كمان اخترتي تبعدي عني.. فعشت وجع الفراق مرتين في أقل من سنة ))..

ختم تبريره بزفرة عاجزة مطولة قبل أن يضيف في إصرار غاضب :
-(( ده مش دفاع عن نفسي لأن طاهر أشجع من أنه يبرر غلطه.. وأنا غلطان أساسًا أني سمعت كلام ال*** يحيى.. وعشان كده انا مستعد لأي عقاب منك.. إلا الطلاق لأنى مش هطلق مهما حصل.. فشوفي إيه يرضيكي ))..

تقابلت نظراته المصممة بنظراتها المتعبة الحائرة ودت لو أذاقته مرار الفراق، لو جعلته يعايش شعور شهورها العجاف وما مرت به، وما بين غرقها في فكرة الانتقام منه ورعبها من هاجس فقدانه، حركت رأسها يمينًا ويسارًا في يأس، ثم قالت ساخرة بعدما أرتفع جانب ثغرها بنصف ابتسامة شجن :
-(( لو كان عقابك هيعوض انتظار الشهور اللي فاتوا كنت عاقبتك.. بس للأسف عقاب اللي بنحبهم معناه عقاب لنفسنا.. وفي الأخير دي غلطتي إني حبيتك ))..



************************



قلبك هو بوصلتك الأولى، فاتبعها...
زفر في اختناق محاولًا تجاهل ذلك الهاجس القوي المنبعث من دفين أعماقه ويخبره دون توقف عن وجود شرك ما يحاك من خلفه، ويزداد انتشارًا بداخله كلما اقترب من وجهته المنشودة كغيمة رعدية صيفية امتدت تفرض سيطرتها فوق السماء الصافية فاستحال لونها إلى السواد المبرق، حتى إذا جاءه صوت مسجل تحديد الموقع يخرجه من شرود تفكيره ويخبره عن وصوله وقتها، أوقف محرك سيارته على بعد ثلاثة أمتار من المكان المتفق عليه، ثم اخرج هاتفه يضغط على جهة الاتصال المعنية وانتظر حتى أتاه صوتها من الطرف الآخر تسأله في قلق :
-(( يحيى!.. حصل حاجة ولا إيه؟! ))..

رفع يده الحرة يمسد بإبهامه وسبابته جبينه المجعد قبل أن يسألها في استنكار :
-(( مالك يا غفران.. اتخضيتي ليه؟.. ولا علياء كلمتك ))..

قالت مفسرة دون التخلي عن نبرتها المضطربة :
-(( لا.. بس جتلي مسج غريبة من شوية.. فافتكرت أنها اتبعتتلك أنت كمان ))..

رد يسألها في فضول وعينيه تجول الفراغ من حوله بحثًا عن أي حركة غير طبيعية أو ربما كاميرة مراقبة خفية :
-(( فيها إيه؟! ))..

إجابته في تخبط بعدما أطلقت تنهيدة مشوشة :
-(( مفهمتش منها حاجة.. مكتوب هتوصلك هدية كمان شويه.. تفتكر ده معناه إيه! ))..

سحب نفسًا عميقًا يهدأ به ضجيج دمائه المتدفقة إلى قوقعة أذنه ويدفع به الثقل الجاثم فوق صدره، ثم بدأ يقص عليها ما حدث دون الإغفال عن ذكر التفاصيل الصغيرة، فهتفت تسأله في تشكيك :
-(( يحيى.. أنت شاكك في جيداء؟! ))..

همس مؤكدًا في خشونة :
-(( في حاجة غلط.. لو عايزين يخوفوني فـ علياء أولى وهي الورقة الصح.. ليه يروحوا لحد علاقتي مقطوعة بيه من زمان وهما عارفين أني هتحرك عشان مراتي أكتر من أي حد.. ومتقنعنيش بالعكس لأنك عارفة كويس أننا متراقبين ))..

لقد بدأت الأمور تخرج عن السيطرة حَقًّا وذلك المجرم المُدعي أبو المجد لم يكتفِ باستغلال اليتيمات حديثي السن في ترويج أعماله غير المشروعة بل أزداد تجبره ووصل حد التهديد والترويع، وقد نالت نصيبها منه في المرة الأولى وفقدت بسببه جنينها لمجرد وقوفها قبالته والآن يتلاعب برفيقها، ومن يدري ما الذي ينتوي فعله به، فمضمون الرسالة وتوقيتها بالتوازي مع استنجاد جيداء أطلقت العنان لعقلها في تخيل أسوأ السيناريوهات الممكنة، بينما زم يحيى شفتيه للأمام وضيق عينيه مسلطًا نظره الثاقب فوق خيال ما ظهر فجأة يلوح من بعيد ويتضح شَيْءٌ فشيء كلما اقترب منه، تلاه عدة أطياف تخرج من كل حدب وصوب تحاصر سيارته، فالتوى ثغره بنصف ابتسامة وقد تأكدت ظنونه والفخ المنصوب إليه، ثم قال في عُجالة :
-(( غفران اسمعي مفيش وقت.. أنا هنزل أدبهم الورق دلوقتي.. لو حصلي حاجة خلي بالك من علياء ))..

صرخت تستوقفه متوسلة في لوعة :
-(( لا.. أبوس أيديك متحسسنيش بالذنب وأني ورطتك معايا.. دور عربيتك وارجع لبيتك ومراتك.. يحيي لو ليا عندك أي غلاوة.. سيبهم وامشي هما مشكلتهم معانا مش مع جيداء فمش هيأذوها.. متضيعش نفسك ع...... ))..

قاطعها قائلًا في إصرار :
-(( اتاخرت مبقاش ينفع.. أنتِ الوحيدة اللي عارفة معايا مكان الورق الأصلي فين.. مش هوصيكي ))..

أنهى حديثه بالضغط فوق زر الإغلاق، ثم ترجل من السيارة بابتسامة شجاعة ربما تكون مزيفة، مراقبًا تجمهر عدد من الرجال عراض البينة حاملي الأسلحة البيضاء حوله، ثم قال في استخفاف :
-(( مش محتاج أسأل المخطوفة فين صح.. بس فين الكبير بتاعكم عايز أعرف منه حاجة قبل ما أسلم الأوراق ))..

تقدم أحدهم نحوه وكان طوله يتجاوز الستة أقدام يعلن عن نفسه في خيلاء :
-(( أووومر ))..

فتح فمه وعندما هم بالتحدث أوقفه صرخة أنثوية مستنجدة لصوت يعرفه جيدًا يليه ظهور جسدها المترنح تركض نحوه في لهفة أربكت حساباته، فتمزيق ملابسها وتهرتل مظهرها يوحي بتعرضها لمضايقات فعلية، الأمر الذي دفعه إلى التحرك نحوها يلتقط جسدها بين ذراعيه في إشفاق، ولم ينتبه لذلك الفحل الذي باغته من الخلف بضربة قوية من عصا خشبية فوق رأسه أسقطته صريعًا أرضًا في الحال، قبل أن تنهال فوق جسده باقي الضربات على مشهدة من قريبته ومن كانت يومًا رفيقة دربه.


شيماء_يوسف غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-01-21, 04:27 PM   #78

شيماء_يوسف

? العضوٌ??? » 474730
?  التسِجيلٌ » Jul 2020
? مشَارَ?اتْي » 61
?  نُقآطِيْ » شيماء_يوسف is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الثانى والثلاثون

قوْلِي أَحَبّكِ ياهناي وَتَعَالِي
خَلِّي لَيالِي الوَصْل أَحْلَى لَيالِي

اَللَّيّ في بالَكَ يا حياتيِ فَي بالي
وَراعِي اَلْهَوَى معذور لَو كَآن يُطْمِع
إِن اَلزَّمَان يَجُود وَالعُمْر مَحْدُود

وَخَلِيّ شَباب القَلْب لِلقَلْب يُرْجَع
وَأُمْلِي صَحارِي العُمْر أَزْهار وَوُرُود
قَوْلِي أَحَبّكِ.

_عباس إبراهيم.

هل يعلم الإنسان ما أحمق الأخطاء التي يرتكبها في حق نفسهِ؟!، ظنه بأنه ممسك بكافة الخيوط داخل راحتيه، وبأنه يسير على الطريق الذي ارتضاه لنفسه وقد أضحت كل أموره في نصابها الصحيح، يمشي الخيلاء متطلعًا إلى نقطة النهاية في رعونة مهلكة، وينسي أن للقدر تصاريف أخرى، وأن له الكلمة العليا، وما بين الفينة وما يليها، تنقلب حياته رأسًا على عقب ويجد نفسه داخل حياة جديدة، ما يكون في أتعس خياراته يقبل العيش فيها.
جلس في المقعد المجاور للفراش الطبي الصغير حيث زوجته الجريحة غافية فوقه، مُخفيًا رأسه بين راحتيه، ومُستندًا بثقل مرفقيه على كلا ساقيه، وقد أنهكه الحزن حتى أصبغ رماده الشاحب فوق ملامحه، يتذكر ما حدث منذ سويعات قليلة وكيف حمل جثة مولولدته الصغيرة بين كفيه بعدما سلمتها إياه الطبيبة فاقدة للحياة، كيف كانت ضئيلة الحجم غير مكتملة الأعضاء، لا يتعدى وزنها الخمسمئة جرامًا وطولها بضعة سنتيمترات قصيرة، كانت أشبهه بدُمية أطفال بلاستيكية أقرب منها لرضيعة لو حالفهم الوقت شهرًا أخر لكانت ولدت معافاة، ورغم ذلك لم يستطع منع قلبه من التعلق بها والتمزق على فراقها وهو يلفها بالقماش الأبيض ويضعها مع إحدى الجثث داخل أحد التوابيت الكبيرة، منتشله من ومضة ذكراه، والغرق في بحر الحداد على من أضحى وأمسى طيلة أشهر طويلة يتمناه صوت والدته الملتاع، إذ دفعت باب الغرفة أمامها في حدة ووقفت قبالته تضرب بأكفها فوق فخذيها هاتفة في حسرة :
-(( آه يا حبيبي.. عيني عليك يا قلبك أمك ياللي مش عارف تفرح ولا تتهني بشوفة عيالك ))..

أنتفض بدر من مقعده في لهفة يدفعها من ذراعها خارج الغرفة بعد أن ألقى نظرة سريعة خاطفة فوق وجهه زوجته النائمة يتأكد من عدم إزعاجها، ثم هتف معاتبًا والدته في نبرة خفيضة ولكن حازمة بعدما أغلق الباب من خلفهم في رفق :
-(( أيه يا أمي اللي بتعمليه ده!.. ينفع كده؟ ))..

قالت والدته في أسى وهي تكفكف دموعها المنهمرة :
-(( غصب عني.. من ساعة ما أتصلت بيا تقولي وأنا سكاكين بتقطع في قلبي.. ده كان خلاص.. كلها كام شهر وحفيدي يشرف الدنيا وأشيله بين أيديا دول ))..

أنهت رثاءها بمد ذراعيها إلى الأمام كناية عن حملها للرضيع، بينما قال بدر مصححًا :
-(( مكنش حفيد.. كانت بنت الدكتورة سلمتهالي من شوية عشان أدفنها ))..

رفعت رأسها في حدة فور ذكره نوع المولود، وقد تبدلت ملامحها في لحظة وكأن معرفتها جنسه خفف من حسرتها، ثم قالت بشيء من الارتياح، تربت بيدها فوق كتفه مؤازرة :
-(( مادام بت ربنا يعوضك بالولد.. متزعلش أنت ومتحرقش دمك.. الحمد لله أنها جت على قد كده المرة دي.. وتعيش وتجيب غيرها ))..

رمقها بنظرة جانبية متعجبة مُاطًا شفتيه للأمام، إذ لاحظ الانفراجة التي أصابت مزاجها العكر دون وجود مبرر مقنع داخل عقله لذلك التبدل اللحظي، صارفًا تفكيره عنها ظهور الطبيبة التي تولت أمر معالجة زوجته، فسارع يستوقفها متسائلًا في قلق :
-(( دكتورة لو سمحتي.. أفنان مراتي.. تقدر تطلع من المستشفى أمتي؟ ))..

أجابته الطبيبة في عُجالة حيث كانت تستعد لحالة ولادة أخرى :
-(( بكرة الصبح بإذن الله نبص على الجرح مرة أخيرة وبعدها تقدر تروح عادي ))..

رمقته بابتسامة مودعة قبل انصرافها، بينما مصمصت والدته فمها في كلا الاتجاهين قبل أن تقول في عدم اهتمام :
-(( متخافش دلوقتي تقوم زي الحصان.. وأنا اللي قلت هتتجوزها وتجيب الحفيد ونخلص.. إلا كل شوية تسقط عيل وشكل مفيش منها رجا ))..

هتف يستوقفها في نبرة محتدة، فما يمر به أقسى من قدرته على التحمل وأخر ما يود معايشته هنا، والآن تحديدًا هو أحد المشاهد غير المستحبة لغيرة والدته العمياء :
-(( مــامـــا ))..

ردت في نبرة خفيضة مستاءة، ضاغطة فوق أسنانها وحروف كلماتها :
-(( إيه ماما وزفت!!.. مش دي الحقيقة ولا بكذب!!.. أول مرة سقطت وجابتها في غيرها.. وأهو المرة دي العيل مات في بطنها.. شكلي اتسرعت.. بس عَمَّتَا مش مشكلة.. لو مش نافعة غيرها موجود ))..

ضرب فوق أكفه ببعضها البعض، بينما أخذ يحرك رأسه يمنة ويسري في تعجب من حديث والدته غير المتزنة، مقررًا الابتعاد عنها حتى لا ينفجر بها ويفلت من فمه ما لا تستطيع تحمله أو يحاسب عليه، تاركها تنظر في أثره مستنكرة رد فعله الناعم وقد عقدت النية في البحث عن أخرى تحسبًا.


************************



كان خبر إصابته كطعنة انتصفت القلب، بل قطعت نياطه وتركتها ضعيفة تترنح في كل اتجاه كعصفور وليد أصاب صياد الطيور أحد جناحيه ببندقيته الغاشمة، تركض على غير هدى داخل أروقة المشفى تبحث عن غرفة العمليات حيث دلتها موظفة الاستقبال في الأسفل، بعد أن جاءها اتصال هاتفي من إدارة المشفى يخبرها أن رقمها على قائمة طوارئ هاتف زوجها المصاب بإصابة حادة في الرأس، وتطلب منها الموظفة في نبرة خالية القدوم في أسرع وقت إلى العنوان التالي لتولي زمام الأمور والمادية أولها، ولم تدر كيف استخدمت يدها المرتجفة في الضغط على رقم شقيقها والاستنجاد به، أو كيف أسعفتها ساقيها الهلامية بالسير حتى الطريق العام، أو من أين أتتها القوي لرفع ذراعها الخائر وفتح باب سيارة الأجرة وركوبها بعدما نجحت في صعوبة بالغة في إيقافها!، فقط كانت تتحرك كجثة هامدة فاقدة الروح، حتى وصلت إلى وجهتها المعنية ووقفت تستند بجسد مرخي الأعصاب فوق أحد الحوائط المقابلة لغرفة العمليات، تنظر بأعين خاوية إلى الباب المغلق، هناك، حيث يرقد بداخلها من نجح في إجبار قلبها على الخفقان، فقبله لم تكن سوي فتاة جافة المشاعر لم يستطع الحب إليها سبيلًا، ثم جاء هو حاملًا في يده مفتاح القفص الحديدي محررًا قلبها من حبسته الطويلة فبات يرفرف هنا وهناك في فضاء حنانه ودعمه الواسع، تترقب بأنفاس منقطعة أي بارقة أمل، فربما يُفتح الباب في أي لحظة ويطل من خلفه الطبيب ويطمئنها، وظلت هكذا، تحملق بحدقات من زجاج فارغة إلى وجوه المارة أمامها دون رؤية شيء، وتستمع إلى الهمهمات الصادرة ممن حولها دون استيعاب شيء، حتى شعرت بعد فترة قصيرة بمن يجذب مرفقها، وقتها رمشت بأهدابها عدة مرات متتالية كي تزيح الغمامة البيضاء الغاشية لعدستيها، وتتأكد من ملامح من يقابلها، نعم أنها هي على حد تذكرها، حتى وإن رأتها مرة واحدة آنى لها نسيان ذلك الوجه الساحر؟!، وجه من أفسدت زفافها وحلمها، بل أفسدت مستقبلها ككل، وجه غزا أحلامها وظلت أيام وليالٍ تقارن نفسها بها، ودون القدرة على الحديث وقفت دقائق تحملق بها في سكون، إلى أن أتاها من مكان بعيد على هيئة نجدة صوت شقيقها يهتف اسمها في لهفة وهو يركض في اتجاهها حاملًا طفلته بين ذراعيه، فالتفتت تهرول نحوه وترتمي بثقل رأسها فوق صدره تاركة العنان لسيل دموعها في الانهمار تحت لمسته وفي كنف مواساته، بينما انتهزت جيداء فرصة انشغالهم عنها في الانسحاب إلى أحد الأماكن المخفية عن الأنظار حتى تجيب عن هاتفها الذي أخذ يهتز داخل جيب بنطالها مرة بعد مرة، قائلة في نعومة :
-(( ألو.... ))..

جاءها صوته الرجولي الخشن يسأل من الطرف الآخر في أريحية وانتصار :
-(( ها يا جميلة الجميلات.. الدنيا ظبطت عندك وعرفتي تحبكي الحوار وتنزلي دمعتين ولا خطتنا هتبوظ؟! ))..

قالت معترضة بعدما حركت بؤبؤ عينيها متأففة في ازدراء :
-(( أيه الأسلوب ده!!.. وبعدين الدنيا هتظبط أزاي وأنت صممت مروحش معاه المستشفى وأوصل بعده!!.. أهي المستشفى اتصلت بمراته وواقفة تعيط على كتف أخوها جوة!! ))..

هتف يستفسر في تقريع :
-(( نعم ياختي!! وهو أنتِ أو حد من الدكورة اللي كانوا معاكي ماخدش تليفونه!! ))..

صاحت تعنفه في امتعاض :
-(( أووف ألفاظك تقرف حقيقي... ))..

تشدق بجملته من الجهة الأخري ساخرًا :
-(( معلش هبقي أرشلك عليها كولونيا المرة الجاية.. وبعدين هو أنا صممت متروحيش معاه المستشفى عشان خاطر مين!.. افرضي وده أكيد هيحصل المستشفى بلغت البوليس عن حادثة التعدي.. لو أنتِ وصلتي معاه هيستجوبوا فيكي وحوار لكن لما توصلي بعده كأنك زايرة زيك زي أي حد ))..

حررت أنفاسها المكبوتة داخلها ثم قالت كمدًا :
-(( طب أهم لقوا تليفونه معاه واتوصلوا مع مراته.. أعمل أنا إيه دلوقتي!! ))..

صاح يجيبها في عدم اهتمام :
-(( بقولك ايه ده شغل نسوان في بعض مليش فيه.. تتصرفي وتنفذي اتفاقنا وتجبيلي الأوراق الصح.. وقبلها تشوفي حل وتسحبي تليفونه ترميه في أي داهية.. مش بعد اللي عملته تقوليلي مراته ومعرفش مين.. شغلي كيد الستات شويه وخلصيني وإلا اللي بينا ملغي ))..

زفرت مرة ثانية كتعبير عن اشمئزازها من أسلوبه المتدني معها في الحوار، ثم قالت في احتقار :
-(( تمام هتصرف.. بس ياريت تتكلم معايا بأسلوب غير ده! ماشي؟ ))..

وصلها صليل قهقهته المتحشرجة عاليًا، يليه صوته يقول في اعتزاز أنكرته :
-(( بصي يا حلوة احنا ولاد بلد.. حفرنا في الصخر بضوافيرنا على ما طلعنا على وش الدنيا.. وبقوا الحلوين اللي زي حالاتك محتاجين لنا.. فبلاش خيلة كدابة ))..

حرمها من فرصة التعقيب أو ترك الكلمة الأخيرة لها إذ أغلق الهاتف في وجهها فور نطقه تلك الكلمات وتركها تلعنه بكل المصطلحات النابية التي اكتسبتها من معاشرة أمثاله.

أما في الأعلى وبعدما نجح "جواد" في احتواء نوبة بكائها والحد من شدتها، رفعت كفها تمسح بظهره عبراتها المنسكبة فوق وجنتيها وعنقها ثم قالت في نبرة مشبعة بآثار البكاء :
-(( جواد المستشفى محتاجة حد للحسابات تحت.. أنا نزلت من البيت بسرعة ومكنش معايا غير الفيزا.. بس عشان العملية.. كل اللي فيها مكفاش ))..

مسح فوق شعرها بيده الحرة ثم قال مطمئنًا :
-(( حاضر متشغليش بالك هنزلهم دلوقتي ادفع كل اللي يطلبوه.. ولو حابة نستنى يطلع وننقله مستشفى أحسن من دي قوليلي وأرتب من دلوقتى.. بس فهميني هو في العمليات ليه معرفتش استوعب منك حاجة في التليفون ))..

أجابته حائرة وقد عادت الدموع تخنق حنجرتها وصوتها من جديد :
-(( مش عارفة يا جواد.. تحت قالولي إصابة حادة في الدماغ نتيجة لعنف شديد سببت مضاعفات ومع الأشعة اللي عملوها أول ما وصل اكتشفوا سوايل في الدماغ وكان لازم تتشفط وإلا هتسبب ارتفاع في ضغط الدم ممكن يوصل لانفجار في الشرايين ولاقدر...... ))..

تهدج صوتها ولم تقو على استئناف نقل جملة الطبيب التحذيرية على لسانها فتركتها ناقصة، بينما زفر شقيقها في تأثر واضح، يحاول إخفاء الحزن من فوق ملامحه والتماسك من أجلها فكم يعز عليه ما حل بزوج أخته ومن أضحى في مكانة شقيقه، كاسرًا صمتهم بعد فترة وجيزة صوت أنثوي ملهوف يهتف اسمها من الخلف، فألتفت يطالعها وهي تركض نحوهم متسائلة في لوعة :
-(( علياء طمنيني.. حصل ليحيى أيه؟! ))..

انحنت بجذعها للأمام تلتقط أنفاسها المهدورة وتدعم ثقل جسدها بوضع ذراعيها فوق فخذيها، مستأنفة سؤالها الملتاع بعد وقوفها أمامهم :
-(( حد يطمني.. قالولي في الأستقبال تحت أنه دخل العمليات.. عملوا فيه إيه الكلاب دول ))..

ضيقت علياء عينيها فوقها في حيرة وبالرغم من رغبتها في فهم ملابسات الموقف وكيف علمت غفران بمكان وجوده وما حدث له إلا أن قلقها كان أكبر من أي أحاديث أو مسايرات جانبية؛ لذا قررت ترك الفضول جانبًا والأنزواء بجسدها جوار أحد الحوائط القريبة من باب غرفة العمليات تترقب خروجه، متوليًا عناء الإجابة عن السؤال المطروح "جواد"، إذ تحدث يقول في جمود :
-(( بيقولوا حصل استسقاء للمخ بسبب الضرب.. ولازم المية تتشفط ضروري ))..

شهقت ذعر عاتية انطلقت من حنجرتها قبل رفع ذراعها وإخفاء فمها بكفها عند ملاحظتها توتر صغيرته المتعلقة بعنقه، بينما أستطرد هو حديثه مباغتًا إياها بسؤال توقعته منذ وصولها وهو يشدد من احتضان ذراعيه للطفلة في لفتة أبوية حانية :
-(( ممكن أفهم أنتِ أزاي عرفتي أن يحيى في مشكلة!!.. اتصالك بيا تسألي عنه قبل اتصال علياء مش طبيعي على فكرة!.. وأنا محتاج أفهم بيحصل إيه ومين اللي عمل فيه كده! ))..

عضت فوق شفتيها تحاول إيجاد حل سريع للخروج من مأزقها إلى أن تستطيع ترتيب أفكارها وحججها، ملقية باللوم على تهورها ومن بعده رحمة، فبعد عدة محاولات فاشلة في التواصل مع يحيى بعد إغلاقه الهاتف، وبسبب عدم امتلاكها رقم علياء اضطرت الاتصال به لأخذ رقمها منه والتواصل معها وقد خذلتها رحمة هي الأخرى بعدم الرد على الهاتف، فبقي التواصل مع "جواد" هو الحل الأخير المتاح لديها، إذ جفت شرايينها قلقًا على رفيق رحلة العمل وصاحب السنوات الطوال، وما أن همت بالتحدث كاذبة، حتى لمحت طيفًا رأته عدة مرات من خلال الصور الفوتوغرافية، ومرة واحدة وجهًا لوجه، فركضت نحوها تجذب تلابيب بلوزتها الحريرية هاتفة في نبرة عدائية واضحة :
-(( أنتِ السبب.. عملتي فيه ايه انطقققي ))..

وضع جواد طفلته فوق احد المقاعد القريبة على عُجالة محررًا بذلك كلا ذراعيه أستعدادًا لما هو آت، ثم ركض يقف بجسده كحائل بينهم بعدما دفع جسد غفران إلى الخلف فاضًا الأشتباك القائم بينهم، بينما عاودت غفران الصياح في جيداء المستنكرة للوضع وهي تلوح بكفها في كل إتجاه بضربات عشوائية دون أن يصل إلى الأخرى شيء منها بسبب يده المعرقلة حركتها فكلما أوشكت على أصابتها أمسك معصمها وأبعده، الأمر الذي أثار سخطها فصاحت به في عدائية بعدما أبتعدت عنه وعدلت من وضع ثيابها المرفوعة :
-(( أنت بتدافع عنها لييييه؟!.. البجحة دي هي السبب في اللي حصله ))..

همست جيداء مدافعة عن نفسها في بكاء :
-(( حرام عليكي أنا معملتش حاجة دول كانوا هيأذوني عشان عارفين غلاوتي عنده.. ألا يحيي ))..

صمتت لوهلة تتابع بطرف عينيها في خبث رد فعل علياء الواقفة على بعد مسافة كافية منهم جميعًا تتابع الموقف في صمت، ثم أردفت تقول في نبرة شبهه حارة متعمدة إيصالها لمسامع الأخيرة :
-(( ده انا أضحى بعمري عشانه ))..

أندفعت غفران للأمام مهاجمة مرة ثانية حيث لم تستطع كبح جماح غصبها أمام برود وتصنع تلك الشمطاء، موقفًا تقدمها صوت علياء القائل في ثبات أدهش شقيقها قبل الجميع :
-(( سبيها يا غفران.. يحيى عمل الصح واللي كان هيعمله مع أي حد في نفس الموقف.. بعد ما اخد أذني ))..

ارتفعت زاوية فم غفران بابتسامة انتصار واسعة صاحبتها نظرة شماتة طلت من داخل حدقتيها، في حين عاودت أحداق علياء التعلق بباب الغرفة، وجلست جيداء وحيدة منتظرة فوق أحد المقاعد الحديدية تضع ساقًا فوق الأخرى في عدم اهتمام لم يخف على غفران التي آخذت تراقبها لحظات قبل شعورها بمن يقبض على معصمها ويجرها خلفه، فرفعت رأسها رغم علمها بهوية الفاعل تنظر إليه في قلة حيلة، وتبتلع لعابها في توتر توجسًا مما هو قادم، فبعد تهربها منه طيلة الأشهر الماضية حتى لا تخبره بما تعانيه والخطر المحدق بهم، أتت حادثه يحيى وحبستها في مصيدة التبرير والأن لا تملك سوي اخباره بالحقيقة دون زيف أو تقليل.


*****************************




خيم السكون الفضاء حولهم ألا من صوت لهاث أنفاسه الثائرة، بينما كلمتها الأخيرة تضرب جوانب عقله مرات ومرات مترددًا صداها داخل قلبه بعدما تغلغلت أحرفها باطنه واستوطنته، ثم راح يحدق بها طويلًا طويلًا جِدًّا في صمت بليغ، يحمل من المعاني ما لا تقوى معرفتها البسيطة عن لغة الحب على ترجمته، وكأنه يتأكد من وجودها أمامه حَقًّا، وأن ما تفوهت به ليس سوي تُرهات نابعة من رغبات عقله البائس، أو لم تفارق روحه الجسد أثر تلك الحادثة وأنتقل إلى النعيم وكان اعترافها هو أول مكافأة له من الجانب الأخر، لا يكاد يصدق أن منية روحه وهوى قلبه قد تحققا أخيرا، فأنحني رغم ألمه الجسدي، يطبق بذراعيه فوق خصرها، يضمها إليه ويلقى بمثاقيل روحهِ داخل أحضانها وكأنه عناقهم الأول، بل الأخير، هامسًا في حشرجة وتوسل :
-(( عيديها.. قولي تاني.. قولي تالت.. رابع.. سمعيني متبخليش.. جودي على روحي وكرريها ))..

للوهلة الأولى لم ترفع ذراعيها لضمه ومبادلته العناق، واكتفت بالتمتمة الخافتة رغم الحنان المقطر من نبرتها :
-(( بحبك يا طاهر.. بس مش مسمحاك على الأيام اللي عشتها من غيرك ))..

-(( آآآآآآه يا رحمة ))..
أفلت من بين شفاه تنهيدة ارتياح حارقة، شاعرًا بمسامات جلده تكاد تنفجر حيث لم يعد هذا الجسد يُسَاعِه، بينما قلبه ينبض بأنفجارت مدوية كألالعاب النارية احتفالا بالحدث الأهم والأوحد في حياته، أما عن جسده فظل ساكنًا بلا ذرة حراك، يخشى الابتعاد عنها فتختفي من أمامه ويُحرم من لذة قربها، فبرح مكانه ملتحمًا بجسده في ثنايا جسدها، فهي من خلقت منه ولأجله، مصيره المحتوم، أبجدية حروفه الضائعة، ضوء نهاره، وقمر ليله، وطنه حينما نفته الأوطان، وسكن جبينه حين فقدت هويته العنوان، وبعينان شبهه مغمضتان بسلام داخلي ناشده لسنوات، انسابت عزيمة الكلمات من بين شفتيه في هدوء من وجد سكينته أخيرًا :
-(( هعوضك وهعوض نفسي قبلك.. مش بس على كل يوم.. على كل دقيقة كانت من غيرك.. هعوضك حتى عن اللي راح من قبل ما أعرفك ))..

لم تقاوم إغراء رفع ذراعيها وضمه، فالدفء المنبعث من جسده، أنفاسه، ووعوده، وكلماته أقوى وأعتى وأحب من أن تقاومه، ومن قال إنها في الأساس تريد مقاومته، بل تريد الاستسلام له، والغرق، الانصهار به وفيه، فشرعت بتلبية رغبة قلبها ومبادلته عناقه، والاستكانة داخل أحضان بعضهما البعض داخل عالم افتراضي خارج حدود الزمان والمكان، عالم سيقاتلان بضراوة من أجل فرضه وتحقيقه حتى يصبح واقعهم الأبدي وسكنهم الدائم.
وبعد فترة من الصمت المحبب، كان هو أول من شقه إذ بلغ به الألم مبلغه، فهمس يقول بصوت محموم من شده عاطفته :
-(( رغم أني نفسي أفضل كده على طول بس رحمة.. أنا تعبان ))..

أجفل جسدها فور سماعها جملته، وسارعت تسأله في قلق بعدما ابتعدت عنه مسافة كافية ورفعت رأسها نحوه مما أتاح لها فرصة التطلع إليه بوضوح :
-(( أنت حصلك حاجة وبتكدب عليا صح؟!! ))..

اختنقت نبرتها في الحال واغرورقت عيناها بالدموع مستطردة حديثها في حزن بينما أصابع كفيها تتلمس في نعومة وحذر شديد جذعه للاطمئنان عليه :
-(( حاسس بالتعب فين.. ولا أقولك يلا على المستشفى مش هستني لما حد يجيلنا وخلي العربية هنا مش مهم ))..

أسبل أهدابه ووقف يطالعها بابتسامة سعادة عذبة كطفل لقيط يتلقى الحنان لأول مرة في حياته، يقفز قلبه الثائر خلف أضلعه فرحًا بشعور الاهتمام والذي خاصمه منذ سنوات وسنوات، ثم رفع بألم بالغ أحد كفيها بعدما قبض عليه، وأسنده فوق موضع قلبه قائلًا في صدق :
-(( التعب هنا.. ركزي معاه بس وأنسى أي حاجة تاني ))..

ضغطت فوق صدره برقة بالغة، ثم شرعت في تمسيد فوق حناياه بنعومة جعلت النيران تتأجج داخله من فعلتها البسيطة، فمال برأسه نحوها كالمغيب يتلمس بشفاه بشرتها الساخنة، وجنتها وكل ما يظهر من وجهها وصولًا إلى ثغرها الذي اقتحمه دون أستئذان أو تمهيد مستكشفًا طريقه بداخله على مهل، حتى أنتشله من انحراف أفكاره وعبث فمه رنين هاتفه الخلوي، فبادر بالابتعاد عنها وبإخراجه والإجابة بنبرة خشنة مازالت محتفظة بآثار حشرجتها :
-(( هو عم ماهر بلغك ولا إيه؟! ))..

سأله جواد في عدم فهم :
-(( بلغني بإيه؟!.. أنا كنت بتصل عشان اقولك ان في ناس اتهجمت على يحيى وهو دلوقتي في العمليات وعلياء منهارة.. تعالالي بأسرع وقت ))..

جحظت عيني طاهر للخارج في فجع، وبعد أن هم بالاستفسار عن كافة التفاصيل تراجع مؤجلًا الفضول إلى وقت لاحق مُسْتَبْدَلٍا سؤال كيف حدث بآخر مقتضب :
-(( اديني عنوان المستشفى.. بس عم ماهر يوصل بالعربية ومسافة السكة نكون عندكم ))..

عاود جواد يسأل من جديد في استغراب :
-(( عم ماهر ليه؟!.. أنت مش كنت مع رحمة!.. هو حصل حاجة عندك؟.. رحمة كويسه؟! ))..

زفر طاهر في نفاذ صبر ثم أجابه في حنق تعمد أظهاره في نبرته:
-(( مش عارف أنا الكائن اللي بيكلمك ده مش مهم يتسأل عليه!.. المهم اديني العنوان وخلص بعدين هشرحلك ))..

لم ير جواد فائدة من الجدال معه على الهاتف فشرع في وصف العنوان في دقة بالغة، بينما أستمع هو بتركيز إلى الإجابة من رفيقه مدونًا عقله اسم المشفى وعنوانه بداخله، ثم قال في إرهاق واضح وهو يحتضن كف رحمة التي هتفت تسأله في قلق بعدما أنهى المكالمة عن سبب وجوم ملامحه :
-(( يحيى في المستشفى.. تعالي بس نشوف أي حاجه نتحرك بيها وهنفهم واحنا في الطريق ))..

لم يسيرا عدة خطوات متأنية بطيئة بسبب الألم المتمكن من جسده، حتى عاد رنين هاتفه يصدع من جديد برقم سائقه الخاص تلك المرة يخبره عن اقتراب وصوله إلى موقعهم، ليبدآ بعدها رحلة الذهاب إلى المشفى دون أن يترك أحدهما كف الأخر.


******************************


-(( غفران!!!!...... ))..

آية غفران يناديها؟، هل نفسها كما اعتادها الجميع واعتادت هي شخصيتها المعتزة بها؟!، أمن أضحت إنسانة مسالمة طائعة، تقف للمرة الأولى أمام شخص ما كتلميذ بليد لا يمتلك الحجة الكافية للمداحرة فيهرب من مجابهة معلمه، وكل ما تفعله بديلًا عن المواجهة هو الضغط فوق شفتيها بقوة بينما عدستاها تتحرك في كل اتجاه بَحْثٍا عن مخرج تؤخر به اعترافها أو تهرب به من المصارحة ككل!، متى وأين وكيف حدث ذلك؟!، لا تمتلك أدنى فكرة أو تفسير واضح، ربما لم يكتمل تعافيها من الارتجاج الذي أصاب رأسها في الماضي القريب وعليه أصبحت كافة أفعالها غير متزنة؟!، أو ربما علتها آتية من مكان آخر بعيد كل البعد عن العقل .... ، لا بالتأكيد هو التخمين الأول، فلولا تلك الحادثة التي أصابت مركز "فعاليات عقلها المعقدة" لما كانت تقف أمامه الآن كطفل صغير خائف من رد فعله والده على خطأ لم يرتكبه من الأساس!، ولإثبات صحة ذلك ستصارحه الآن بالحقيقة كاملة ففي النهاية لقد أخفت عنه ما يحدث معها كما أخفته عن والديها وجميع من تهتم لأمرهم، إذاً فهو ليس استثناء وعلى عقلها اللعين التوقف عن وضع افتراضيات وهمية يثير بها ذعرها، هذا ما قررته في إصرار قاطع قبل رفعها رأسها نحوه، مقاطعًا نيتها في التحدث إليه، أنين خافت قادم وخارج إليهم من فم طفلته، كتعبير على انزعاجها من وضعية النوم، حيث وضعها والدها منذ قليل فوق أحد مقاعد المشفى وأسند برأسها الصغير فوق ذراع المقعد حتى يتسنى له فك الاشتباك الدائر ثم التحدث إلى قريبه وإخباره ما حدث، فكانت هي أول من ركضت إليها ترفعها إلى أحضانها وتريح بكفها الحاني رأس الصغيرة فوق كتفها، بينما كفها الأخر يدفع معصمه في حركة حادة عفوية صدرت عنها دون وعى عندما هم بسحب طفلته من بين ذراعيها، ورغم تفاجئه من رد فعلها العدائي إلا أنه تجاهله وأكتفي بالقول في هدوء موضحًا نيته :
-(( كتفك هيوجعك.. خليني أخدها منك ))..

قالت معترضة في نبرة صادقة متأثرة وباطن كفها يمسح بحنان فوق ظهر الطفلة الغافية :
-(( لا مش هتعب ))..

فى داخله وأعمق أعماقه كان يعلم جيدًا سبب تشبثها بصغيرته ومدافعتها عنها كما الدببة الأم تحمي صغارها، حتي أنه أعطاها الحق كاملًا في التعلق بها خاصةً بعد حادثتها الأخيرة وما مرت به حيث كان شاهدًا على الحدث ومدي المعاناة وتأنيب الضمير الذي عايشته إلى أن تقبلت خسارتها، وعليه فبضعة دقائق خيالية تسرقها من الزمن لن تُضير أحد، لذا أومأ رأسه موافقًا ثم عاد يسأل من جديد في تأهب مغيرًا مجري الحديث :
-(( طب ممكن أعرف بيحصل أيه من ورايا بالظبط.. واضح أن كلكم تعرفوا حاجات كتير وأنا الأطرش في الزفة ))..

قاطعته نافية ومدافعة عن شقيقته مع مراعاة ألا تزيد نبرتها عن الهمس حتى لا تُزعج الصغيرة النائمة :
-(( ما أظنش أن علياء تعرف حاجة.. يحيى قبل الحادثة كان بيكلمني ومشرحلهاش أي تفاصيل.. هي بس تعرف أنه نزل ينقذ جيداء من ناس محتاجين منه أوراق مهمة ))..

عقد ما بين حاجبيه وشبك كلا ذراعيه أمام صدره، ثم سألها في نبرة خافتة هادئة رغم صلابة ملامحه وتعابيره، إذ حذي حذوها في مراعاة غفوة طفلته :
-(( وأيه هي الأوراق دي؟!.. قولي اللي عندك كله ))..

سحبت نفسًا عميقًا مطولًا تحد به من الطبول القارعة داخل صدرها، قائلة على مضض :
-(( وقت الحادثة بتاعتي من كام شهر.. أنا كذبت عليكم كلكم.. مكنتش عربية خبطتني ولا حاجة.. ده كان بفعل فاعل زي اللي حصل مع يحيى النهاردة.. ومحدش يعرف الحقيقة دي غير يحيى ورحمة ))..

فرغ فاه وتوترت عضلات فمه، ولو نظرت في عينيه الآن لرأت ببساطة كم التشتت، الحيرة، الغضب والاستنكار الذي عايشه، ولكنها قررت التحدث دون النظر إلى أعماق عينيه، لذا استطردت تضيف قبل صدور أي تعقيب من فمه المشدود كخط مستقيم :
-(( والفاعل هو رجل أعمال طلع في السوق بقاله كام سنة.. أسمه نادر أبو المجد ))..

لوت فمها في ازدراء واضح ثم أردفت تقول مستهزئة :
-(( أكيد سمعت عنه ))..

ببطء وتأني، ورغم موجة الانفعالات التي تمور داخله ويود لو يفرغها في وجهها، همس يستفسر في نبرة محايدة :
-(( مش ده صاحب الأرض اللي أتبني عليها الملجأ اللي رممناه ؟!.. ولا الأمور أختلطت عليا ))..

حركت رأسها مؤكدة في صمت، قبل أن تقول شارحة في نبرة مشبعة بالكره والاحتقار :
-(( قصدك اللي أتبرع بيها مقابل طلبه أنه يدير الميتم.. ده طبعًا اللي كنا فاهمينه في الأول.. لحد بعد فترة من التعامل معاه تحت أسم الجمعية اللي بديرها أنا ويحيي أول حاجة لفتت نظرنا تردي حال الدار.. الأطفال يكادوا يكونوا بيناموا جعانين.. وهنروح بعيد ليه مانتوا بأسم شركتكم أتبرعتم وأشرفتم على الترميم وشفتوا كانت حالة الدار عاملة أزاي من جوة ومن برة.. لحد بعد فترة مديرة الدار كان عندها ضمير وقبل ما تتقاعد بسبب السن صارحتني بالكارثة واللي كانت خايفة تقولها.. وهي أن الإنسان القذر ده واخد الملجأ سبوبة.. وبيستغل البنات من سن ١٣ سنه ولحد السن القانوني في الأعمال المشبوهة وبيخرجهم لرجال الأعمال وكبار الدولة اللي ليهم ميول شاذة وحب للبنات اللي في السن الصغير ده.. وياريت بيكتفي بكدة.. ده كمان بيعملهم عمليات استئصال رحم كنوع من الاحتراز عشان مفيش واحدة منهم تحمل وتجيبله مصيبة.. باختصار كدة بيشغلهم يشوفوا مزاج الناس دي في المقابل يخلصوله مصالحه.. طبعًا بعد شهور طويلة من التدوير وراه وتسخير كل طاقتنا للموضوع ده.. يحيى قدر يجيب أوراق بأسامي الدكاترة والعيادات الغير مشروعة اللي بتعمل للبنات العمليات دي.. وعليهم تسجيلات بأعتراف كام بنت وخرجت لمين وحصل معاها ايه من الأول للأخر.. وأخيرًا في صاحب ليحيى عنده مستشفى استثماري صغيرة ويعتبر من الناس اللي ضميرها صاحي ساعدنا في عمل فخ ليه بأنه يوصله ويطلب منه بنت في ليلة خاصة وقدرنا نسجل المكالمة كلها والاتفاق ))..

كانت الكلمات تخرج من فمها ثقيلة، وكأنها جمرات تلسع لسانها الناطق بها، فتتريث قليلًا وتسحب عدة أنفاس مضطربة، ثم تعود لاستئناف شرح ما حدث ويحدث، بينما هو يتابع صامتًا حديثها بملامح متصلبة رغم الشرر القادح من عينيه :
-(( بس يا سيدي.. عملنا محضر في الأول وقت ما عرفنا وقبل ما يكون معانا كل الأدلة دي وطبعًا عشان هيتجر معاه أسامي كبيرة المحضر أتحفظ.. آه على فكرة توقيت المحضر كان أيام ما عرضنا عليكم ترميم المبنى وكانت في نيتي أطلب منكم المساعدة بس لما المحضر أتقفل لغينا الفكرة.. ومن بعدها بقي بيحاول يهددنا ويوقفنا بكل الطرق لحد ما........ )) ..

تهدجت نبرتها وأمتلأت بالعبرات وقد قفزت صورة الماضي واعتدائهم الفج عليها أمام عينيها، مستطردة قولها في نبرة مختنقة متحشرجة :
-(( لحد ما بعت ناس تضربني عشان أسيب القضية وحرمني من أبني وفرصتي أني اكون أم.. ومكتفاش بكدة.. ده هددني وأنا في المستشفى لو بلغت البوليس أو حد عرف هيأذي أهلي وصاحبتي وكل اللي أعرفهم.. ومن وقتها وأنا ويحيي بتوصلنا رسايل تهديد كل ما بنمشي في أدلة القضية دي.. وكملت بيحيى النهاردة.. وصلتني رسالة تهديد خلتني أتصل يحيى أطمن عليه وعرفت منه أنهم خطفوا جيداء قريبته مقابل الأوراق اللي جمعناها.. وهو نزل يسلمهم الورق عشان يحمي الكل وأولهم علياء.. والباقي أنت عارفه ))..

كانت في حالة مزرية، إذ أخذت مقلتيها تدور داخل بؤبؤ عينيها دون رؤية شيئ، بينما الكلمات تتقطر من فمها مليئة بالمرارة والقهر، وعندما أنهت حديثها صاحبته رعشة تعبر عن هول ما تشعر به خلف قناع القوة واللامبالاة المرسوم دائمًا فوق وجهها :
-(( عشان كده كنت بتجنبك الفترة اللي فاتت كلها..أنا مكدبتش عليك بمزاجي.. ولا كنت بهرب منك عشان أنا عايزه كدة بالعكس.. أنت كنت الشخص الوحيد اللي بيهون عليا أي تعب وبيعرف أزاي يقويني.. بس خفت تحصل حاجة أو يعرفوا صلتي بيك فتتورط.. كفاية توريط يحيى معايا.. مش هتحمل أذى حد تاني ))..

كان هناك شحنات عجيبة من التوتر والغضب تصلها منه وكأنها هي المخطئة في كل ما حدث، تُري هل حَقًّا أخطأت في إخفاء أمر حادثتها عن الجميع والانصياع لتهديد ذاك الأرعن؟، أم كان خطؤها من البداية هو التصدي لذلك المحتال الفاجر كما أخبرتها رحمة مرارًا وتكرارًا؟، لم تستطع الجزم، فقد خنقتها العبرات وشعرت بحرقة البكاء تلسع جفنها وتحرق صدرها، واكتملت الحلقة عند شعورها بيد ناعمة صغيرة تلتف حول عنقها، بينما تدفن رأسها ضئيل الحجم في ثناياها وتختبأ داخلها، وكأن جسد حاملتها هو كنزها الثمين وعالمها الصغير الآمن، إحساس طالما حلمت به وتمنته وقد جاءها بغتة دون ترتيب فكان كالقشة التي قصمت ظهر البعير، لا لم تكن قشة، بل هي أقرب لطوق نجاة، شربة هنيئة بعد طول ضياع في عرض الصحراء، شفاء بعد طول مرض وعناء، يد ملاك حانية آتية من فوق سبع سماوات كي تمسح على آلالام حرمانها فتبرأ منها، عاصفة عاتية لم تجد بَدَا من مقاومتها فاستسلمت للغرق في فيضانها، أما عنه فقد وقف يراقب في دهشة انفجارها في البكاء، وقد تحول غضبه وسخطه وتعاطفه، بل كافة ردات فعله إلى القلق والعجز وهو يراها تدخل في نوبة متواصلة من النشيج المتردد ألجمته للحظات، فلم يملك سوي لف ذراعيه حول ظهرها، ويحتضنها هي وطفلته سَوِيًّا، مُتَمْتِمًا في حنو بينما جسده الطويل الفاره يُلقى بظلال احتوائه على كلتيهما :
-(( طب أهدى بس.. خلينا نعرف نكمل كلامنا ))..

أرتفع بكائها حتى تحول إلى شهقات عالية مرتفعة تُذهب الأنفاس، عاجزة عن أخباره الحقيقة، وأن سبب بكائها الفعلي ليس شيء سوي لاختبارها شعور الأمومة، والهبة البسيطة التي منحتها إياها طفلته دون أن تعي، ولمعرفته بأن لمستها لا تحل له، وقف يطالعها في قلة حيلة ولم يدر لم أثر به نحيبها المتزايد وشعر بقلبه يتضخم وسط أضلعه حزنًا على وضعها، فظل مُتَسَمِّرٌا مكانه مشدوهًا برد فعلها وفعله إذ تبخر غضبه منها وكأنه لم يكن من الأساس، الأمر الذي ألجمه وافقده النطق وأشعل رنين الأنذار داخل أروقة عقله، إلى أن تمالكت نفسها وهمست تقول في نبرة مشبعة بضباب مزاجها المنتحب :
-(( أنا آسفة عشان خبيت الحقيقة عليك ))..

عقب شاردًا بابتسامة مقتضبة لم تصل لعينيه :
-(( بصرف النظر عن أني عايز أضرب دماغك بحاجة.. بس مش وقته خلينا نطمن على يحيى الأول وبعدها نشوف هنعمل إيه ))..

رفعت عينيها إليه تحملق به في توجس أرغم ثغره على التبسم، ثم سألته مستنكرة :
-(( يعني أيه "نعمل إيه" دي؟! ))..

أراد سحب الطفلة من بين ذراعيها وحملها بدلًا عنها خاصةً بعد نوبة الانهيار التي عاشتها منذ قليل ولكن حدسه الخاص أخبره بالتراجع، فتنازل عن الفكرة بعدما رمقها بنظرة جانبية خاطفة، وقال متشدقًا بجملته في إصرار :
-(( أومال أنتِ ناوية على ايه إن شاء الله!!.. أسيبهم لما يجيبوا أجلك؟ ))..

هتفت تقاطعه في حدة مبحوحة :
-(( أومال أورطك معايا ومعرفش ممكن يعمل فيك أيه ؟! ))..

هتف مقرعًا في نفاذ صبر :
-(( ولما أنتِ خايفة كده مفكرتيش قبل ما تورطي نفسك ليه في كل ده ! ))..

صاحت تجادله في قسوة مدفوعة بشعور الذعر من فكرة توريطه :
-(( أنا حرة أورط نفسي مورطش شيء ميخصكش ))..

ضرب فوق كفيه في تعجب، ثم قال في نبرة جادة بعدما ضرب بإبهامه جانب صدغها :
-(( انا مباخدش رأيك.. وحطي الكلمتين دول في دماغك كويس.. انا مش صبي مكتبك تقوليله يعمل إيه وميعملش إيه.. ودلوقتي هاتي لينة اشيلها زمان دراعك وجعك ))..

في الحقيقة وبسبب قلة اعتياديها على حمل الأطفال كانت ذراعاها يستجيران في صمت من شدة الألم ولكنها لن تعترف، فشعور الدفء المشتعل في فؤادها أقوى من أن تتخلى عنه بسبب ألم عضوي زائل، بينما لمح هو نظرة الرفض المطلة من داخل حدقتيها فسارع يضيف في حزم قاطعًا الطريق على أي اعتراض قد يصدر من فمها :
-(( بقولك هاتي البنت مش عايز جدال ))..

أجفل جسدها من نبرته الحادة وأربكها صرامته فبادرت بتسليمها له في خضوع قبل التفات كليهما على صوت طاهر آتيًا من بعيد يليه هرولة رفيقتها نحوها منشغلًا كُلًّا منهما في التحدث إلى من يخصه، كهدنة تعلم جيدًا أن خلفها صراع إرادة ينتظر فوز الخصم الأقوى، ولم تدري من أين أتى ذلك الهتاف الخافت هامسًا بأنها على أعتاب الخسارة للمرة الأولى في حياتها.


**************************


في حركة تلقائية منها مدفوعة بشعور القلق الذي اعتراها عند سماعها بالحادثة مالت رحمة برأسها تهمس جوار أُذن رفيقتها في نبرة خافتة لم تصل لسواهم، بينما أصابعها تقبض بقوة على مرفقيها كالكلابيب :
-(( غفران.. أوعي تقولي إن حادثة يحيى مترتبة زي الحادثة بتاعتك بالظبط؟! ))..

سحبت غفران كمية لا بأس بها من الهواء المحيط لها، عله يؤثر في نيران الغيظ المشتعلة داخلها، ثم إجابتها بعدما أطلقته معترفة على مضض في نبرة عالية نِسْبِيًّا :
-(( مفيش داعي توطي صوتك يا رحمة.. علياء عرفت اللي حصل وبالتالي جواد عرف ))..

استدارت رحمة في حدة تناظر جسد الواقف جوار زوجها في توجس قبل أن تقول مبررة :
-(( على فكرة يا جواد.. أنا كنت عايزة احكيلك على سفالة أبو المجد ده من زمان بس مجمعتناش فرصة مناسبة ))..

مرر طاهر نظراته المستنكرة بين ثلاثتهم على حد سواء، سابقًا جواد في التعقيب، إذ هتف يقول في حدة وقد أزعجه شعور "الأطرش في الزفة" وشعور أخر لولا حالة الرضا التي لازالت تعتريه من اعترافها بالحب لكان انتهجه مستسلمًا لهوجائيته البدائية :
-(( ممكن أعرف بتتكلموا عن أيه وأنا معنديش خلفية عنه؟! ))..

أزداد تجهم ملامحه وشع غضب حارق من عينيه المثبتتين فوق وجهها ثم استطرد يستفسر في خشونة :
-(( وأيه ده اللي كنتي ناوية تشاركي جواد فيه وأنا لا؟ ))..

مدت يدها تشق طريقها المختصر نحو يده بعدما قطعت الأربع خطوات القريبة البعيدة الفاصلة بينهم، ثم قالت في نبرة ناعمة مطمئنة وكأنها تراضي طفلها الصغير دون حتى أن تعي أن أناملها تضغط في رفق فوق أكفه :
-(( متخافش هحكيلك.. بس قبلها خلينا نطمن على علياء ويحيي ونروح العيادة الخارجية نطمن عليك ))..

بمجهود مضن جذبها نحوه حتى كادت تصطدم بصدره العريض، هامسًا في حرارة وسط النظرات المستنكرة لمن حولهم :
-(( هحتاج دكتور ليه وأنتِ معايا ))..

عضت فوق شفتيها في خجل وقد توردت وجنتيها في الحال وارتعشت أهدابها تأثرًا بغزله البسيط، ثم انسحبت بجسدها من أمامه بعدما أفلت يدها مرغمًا كي تواسي علياء المتخذة من جدار غرفة العمليات موقفًا لها، بينما فرغ فاه جواد وضاقت أعين غفران فوقهم في حيرة قررا كلاهما بنظرة عابرة بين أحدهما الأخر تجاوزها لعدم مناسبة الوضع العام لمثل تلك الأحاديث الفضولية، وبدلًا عن ذلك سأله جواد في ريبة، حيث انتبهه عند سماعه كلمة "الطبيب" إلى حال ملابسهم الرث :
-(( مالك؟!.. حصل حاجة بينكم ولا؟! ومحتاج دكتور ليه ))..

أجابه طاهر في عدم اهتمام :
-(( مفيش بس عملنا حادثة قبل ما نيجي ))..

هتف جواد مصعوقًا وقد تحولت ملامحه إلى رخام منحوت من فرط التوتر :
-(( نعم!!.. حادثة!! ))..

أجابه في بساطة وكأنهم يتجاذبان أطراف حديث عابر وليس حادثة طريق كادت تودي بحياته لولا لطف القدير :
-(( آه العربية فلتت مني وخبطت في الصدادات اللي قبل الu turn اللي عند ******.. سيبك مني وفهمني حصل إيه ليحيى بالتفصيل ومين أبو المجد اللي بتتكلموا عنه يده ))..

شرع جواد في قص كل ما حدث وما أخبرته به غفران وهي واقفة أمامه وتستمع إلى حديثهم، بينما أنصت طاهر بكل تركيزه وحواسه إلى أدق وأصغر التفاصيل، يحاول جاهدًا السيطرة على حمم بركانه الثائرة بداخله، غضبًا من تجاوز ذلك الفج، مقررًا على الفور مؤازرة قريبه في قراره فيما يتعلق بمساعدة غفران والقضية والتصدي لذلك الفاسق عديم الشرف وإنقاذ الفتيات من بين براثنه، دون الأخذ في الاعتبار تهديداته الرعناء كما وصفها هو في النهاية.


وبعد ساعة.. داخل غرفة الأشعة في الطابق الأرضي للمشفى

أستلقي فوق الطاولة المدولبة يطالعها في صمت وهي تقف جواره وتحدق في كل ما يقوم به الطبيب بتركيز تام، دون أن تغفل عينيها عن حركة واحدة في سبيل الاعتناء برقيدها الرمادي، فشعور الخوف والقلق عليه ومن أجله، وذلك الإحساس المقيت الذي عايشته للحظات فيما سبق، قبل أن يفتح عينيه ويجيبها عند وقوع الحادث، تغلب على أي شعور أخر بالغضب أو الحنق قد حملته في قلبها إليه، بينما أخذ هو يفكر وعينيه معلقة بها، كيف انصاع إليها في تنفيذ كافة مشيئتها كالأحمق دون جدال، بداية من إصرارها على فحص الطبيب له وترك أقاربه بالأعلى، وانتهاءًا برقوده هنا فوق الطاولة البيضاء حيث يخضع لأشعة سينية موسعة تشمل جذعه العلوي ككل، للتأكد من عدم وجود أي إصابات مبطنة كما أوصى الطبيب ورآها هو مضيعة للوقت، يتأمل ردات فعلها عن كثب وكيف اتسعت عينيها عن أخرهما في تأهب فور جذب الطبيب للجزء العلوي من الجهاز نحو صدره كي يبدأ عمله، وكيف تضغط على شفتيها الآن وكأنها تعاني من صدى تألمه داخلها، شاعرًا بإرادته وتعقله يَعْتَصِر بين شفتيها المضمومة، يذوب وينصهر توقًا للغرق بهم وبها، ففي البداية ظن أن مأساة انقطاع أنفاسه ستنتهي عندما بِعِيدَيْهَا إلى جواره ،وكم كان خاطئًا في معتقده، فيبدو أن آفة روحه وابتلاءه مستمرة طالما ينبض هذا القلب بحبها.

وبعد عدة دقائق أخرى من التذمر والرفض، أنتهي الطبيب مما يفعله دافعًا ذراع التحكم والفحص بعيدًا عنه وقبل أن يهم بالتحدث، سبقه صوتها المضطرب تسأل في قلق :
-(( طمني.. الأشعة فيها حاجة؟!.. ))..

أجابها الطبيب بابتسامة خفيفة مطمئنة :
-(( مبدئيا زي الفل.. زي ما قلت من قبل هي بس شوية رضوض وخدوش عند منطقة الصدر جامدة.. ودي اللي مسببة الألم مع كل نفس أو حركة.. إن شاء الله مع العلاج والراحة التامة هيبدأ يتحسن.. ودلوقتي هسيبكم دقايق على ما الأشعة تطلع وأكتب العلاج وبعدها نلف منطقة الصدر والكتف بجبيرة عشان تريح العضم شويه.. وألف سلامة ))..

تسمرت في مكانها تتبع خطوات الطبيب وكأن عقلها يحاول إلى الآن إدخال التعليمات داخله عنوة، ناهيًا تحديقها في الفراغ صوت تأوه خافت خارج منه جعلها تهرول نحوه وتساعده في رفع ذراعه قائلة في حرج بسبب سقوط عينيها على صدره العاري :
-(( أنا رأيي بلاش تلبس القميص دلوقتي مادام الدكتور هيرجع وهيحتاج تقلعه تاني.. كده هتتعب مرتين ))..

بات قلبها يخفق في جنون وهي تشعر بيده الأخرى ترتفع إليها، ثم بدأت أنامله الطواف فوق وجنتها وتحسس شفتيها المرتجفة متوسلًا في حرارة ألهبت صدرها قبل جانب وجهها :
-(( طب مفيش بحبك.. تاني؟! ))..

ارتعشت أهدابها وقد وقعت في فخ قربه مسلوبة الإرادة، بسبب يده التي امتدت إلى خصرها وأخذ يدور بأصابعه فوقه في حلقات دائرية تلسع جلدها بشعور لن تعترف به ولو وضع السكين فوق نحرها، ثم عضت على لحم فمها من الداخل ربما بذلك تحرر نفسها من حصاره الغير مرئي المفروض حولها، بينما قلبها يضرب داخل أضلعها في غارات عاصفة يريد التحرر والانفصال عن تعقلها ومبادلته الجنون ضعفًا، مُسْتَغِلًّا هو سكونها واستسلامها التام في الوقوف قبالتها متجاهلًا ألمه العضوي وراح يمرر نظراته فوق ملامحها في جوع من لا يشبع، فيجفل جسدها الخائن في استجابة له وكأنها يلامسها دون أن يفعل، يحتضنها دون أن يقترب، حالة من التناغم تعيشها للمرة الأولى أصابت مشاعرها بالتخمة، الرضا، وبعد فترة من الارتباك أجزم أنها على وشك السقوط بين يديه، همست تقول معترضة في رعشة غلفت أطرافها قبل نبرتها :
-(( طا... هـ.. ر.. أحنا في المستشفى عيب كده.. وبعدين الدكتور اتأخر ليه عايزين نطلع لعلياء نطمن يحيى خرج من العمليات ولا لسه ))..

تنهد مطولًا ثم قال على مضض متوعدًا وقد ارتأى في ابتعاده عنها للوقت الحالي الحكمة :
-(( ماشي بس خليكي فاكرة.. هاخد حقي تالت ومتلت ))..

قاطع حديثهم دخول الطبيب مرة أخرى في الوقت المناسب لاستكمال مهمته، وبعد عدد لا بأس به من الدقائق، اتخذت هي من المكان المجاور لعلياء مكانًا لها تحتضن جذعها بكلا ذراعيها وتوأزرها، بينما تسائل طاهر في قلق :
-(( كل ده ومفيش خبر ؟! ))..

زفر جواد في ضيق ثم تمتم نافيًا :
-(( مفيش أي حاجة.. ونزلت خلصت الإجراءات وسألت تحت قالوا محدش طلع من العمليات عشان يعرف.. حتى المستشفى بلغت الشرطة واتعمل محضر تعدي.. معرفش بقي هيجوا دلوقتي ولا لما يحيى يخرج ويفوق ))..

تنبهت كافة حواس من كانت تجلس منزوية فوق أحد المقاعد البعيدة عنهم نِسْبِيًّا فور سماعها ما يقال، وقد بدأ قلبها يقفز فزعًا من فكرة تورطها لو تمعنت الشرطة في التحري، ومما أثار قلقها أكثر هو وجود تلك الجدباء قصيرة الشعر كما أطلقت عليها مؤخرًا في الجوار وحوله فهي تعلم جيدًا مدى مهاراتها التحقيقية وأزداد توجسها منها عندما هاجمتها منذ قليل واتهمتها صراحةً فيما حدث له، منهيًا شرودها باب غرفة العمليات الذي فُتح تِلْقَائِيًّا يليه خروج الطبيب يسأل في إرهاق :
-(( أنتوا أهل المريض صح ؟! ))..

كانت علياء هي أول من هرولت نحوه وتمسكت بذراعه تسأله في توسل من بين دموعها المنهمرة :
-(( أنا مراته يا دكتور.. طمني يحيى كويس ))..

أجابها وهو يربت فوق كفها مطمئنًا :
-(( احنا شفطنا كل السوائل والحمد لله.. الباقي على ربنا وعليه ))..

سأله جواد في ريبة وقد أختفت المسافة ما بين حاجبيه :
-(( قصدك إيه يا دكتور؟! ))..

رد الطبيب شارحًا وقد تحولت نبرته إلى الجفاف :
-(( العمليات اللي من النوع ده غالبًا بيحصل فيها مضاعفات.. يا غيبوبة ممكن تمتد من يوم لسنين.. يا أما فقدان في الذاكرة مؤقت أو دائم.. يا ولا حاجة والمريض يفوق ويبقى زي الفل أول ما البنج يروح من جسمه.. كله بأمر ربنا مقدرش أحكم دلوقتي بس حبيت أحطكم في الصورة وأعرفكم كل الاحتمالات ))..

شعرت علياء كمن تلقى صفعة مدوية فوق وجهه، كل شيء يدور حولها في عنف سريع فلا تلتقط من كلماته التي سقطت على أذنها كما تسقط الصواعق فوق رؤوس البشر بغتة شيء، ثم أخذت تتضخم حتى ابتلعتها داخل دوامة من السواد حاولت مطولًا التصدي لها وفي النهاية لم تملك سوي السقوط داخلها والاستلام لظلامها.


شيماء_يوسف غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 06-01-21, 03:12 AM   #79

شيماء_يوسف

? العضوٌ??? » 474730
?  التسِجيلٌ » Jul 2020
? مشَارَ?اتْي » 61
?  نُقآطِيْ » شيماء_يوسف is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الثالث والثلاثون ❤️🔥
إِذا هَجَرتَ فَمَن لي؟
وَمَن يُجَمِّلُ كُلّي؟
وَمَن لِروحي وَراحي
يا أَكثَري وَأَقَلّي
أَحَبَّكَ البَعضُ مِنّي
فقَد ذَهَبتَ بِكُلّي
يا كُلَّ كُلّي فَكُن لي
إِن لَم تَكُن لي فَمَن لي؟..

-الحلاج.

كان التمرد هو الخطيئة الكبرى لأعتى الملائكة وأشرفهم، وبسببها عوقب بالنفي والحرمان إلى أبد الأبدين، ربما هي الأخرى تُعاقب بالحرمان على نعمة كانت بين يديها ولفظتها، نعم ألقتها بعيدًا أرضاءًا لغرورها تارة، وبطفولية تفكيرها تارة أخرى، وها هي تقف في مواجهة صريحة أمام نفسها قبل كل شيء، وكأن الاحتمالات التي واجهها بها الطبيب أزالت غشاوة التعالي من أمام بصيرتها، وجردتها ألا من واقع فقدانه أو الأسوأ نسيانه لها، هل حَقًّا ينساها وكأنها أبدًا لم تكن؟، بضراوة مواقفهم وغلاوتها حتى وإن لم يجمعهم سوى القليل؟!، آية شقاء قد نزل بساحة روحها، وأي بؤس صبغ لون حياتها وأفقدها القدرة على التمسك بغريزة الاستمرار؟ وأرقدها فوق الفراش شبهه مشلولة تستمع إلى الهمهمات من حولها دون القدرة على النطق أو التفكير، حتى أبسط عملياتها الحيوية أضحت مصدر ألم ضاري عند القيام بها وقد انعكس ألمها الروحي على العضوي، ومع همسة خافتة لاسمها من فم شقيقها القلق ازدردت على أثرها ريقها بصعوبة بالغة وكأن هناك سمكة نيص تنتصف حنجرتها، بينما أشواكها المدببة تخترق جلد عنقها الداخلي، فتعاني أن ابتلعت لعابها وتعاني إن لم تفعل، تبعته بأنين خافت بدأ يصدر عنها في استجابة ضعيفة ليده الممسدة جبهتها في حنان وقد تم نقلها إلى غرفة مجهزة بفراشين، فكعادة كافة المستشفيات المصرية الخاصة، كلما دفعت أكثر، كلما حصلت على تدليل واهتمام أكبر، وبالنسبة إلى أخيها كان دائمًا وأبدًا همه الأول والأخير راحتها، لذا لم يتوانى عن اختيار أحسن الغرف الخاصة "اللوكس" المزودة بفراش مرافق حتى تتمكن من مجالسة زوجها براحة والاعتناء به كيفما شاءت، ومع تمتمة أخيرة من فمه يستجديها فيها الاستيقاظ إذ أوشكوا على نقل زوجها المصاب إلى نفس ذات الغرفة جعلتها تقاوم سدول أهدابها الثقيلة وتفتحهم على مضض تطالع بأعين شبهه خاوية الجمع الملتف حول فراشها، وقبل أي حديث مواسي شارف على الخروج من أفواه المراقبين لها، تهادى إلي سمعهم وقع خطوات وأصوات لعدة رجال صادرة من خلفهم أيقظت كافة حواسها خاصةً فور لمحها جسده المسجى فوق الفراش المدولب المدفوع بعجلاته الأربع، فأنتفضت من نومتها على حين غرة هاتفة أسمه في لوعة :
-(( يحيي ))..

ترنح جسدها مع اندفاع حركتها البسيطة، فسارعت يد طاهر تلك المرة في إسنادها ودعم ثقلها متجاهلًا ضربة ألم قوية عصفت بثباته يده هو الأخر فكانت رحمة هي أول من لاحظت ارتعاش قبضته فبادرت بمد كفها الناعم نحو كفه ومحاوطته في دعم معنوي راقه كثيرًا، بينما تحركت علياء تلك المرة فور استعادة اتزانها على مهل تقف بالقرب من الرجال وتتابع باهتمام كامل مهمة رفعه من فوق الفراش المدولب ووضعه برفق وحذر شديد فوق الأخر الجلدي، وعند استقراره اندفعت تنحني بجسدها نحوه وتضمه إليها متمتمة في قهر :
-(( يحيى..... ))..

قال الطبيب معترضًا عند رؤيتها تقترب منه ومحذرًا رغم إشفاقه عليها :
-(( يا مدام من فضلك.. المريض تعبان ولسه خارج من عمليات فبلاش تلامس كثير أو حركة.. وبطلب منكم الهدوء التام.. وياريت لو نقلل المتواجدين في الأوضة ))..

ابتعدت علياء عنه في الحال إعلاءًا لمصلحته غافلة عمن تراقبها في حقد أو ربما حب امتلاك لا يهم يكفي نظرتها المحتقنة بدماء الكره الأسود، في حين أردف الطبيب مكملًا حديثه الجاد :
-(( وشويه والممرضة تدخل تتابع الحالة وتحطله الأدوية المناسبة وأنا إن شاء الله على ٦ الصبح هعدي عليه واطمن.. ومرة أخيرة حمد لله على سلامة الدكتور ))..

تمتمت غفران شاكرة وعينيها الحزينة لازالت مسلطة فوق رفيقها ومن يدفع ثمن عنادهم غاليًا، كاتمة تنهيدة حسرة كادت تفلت من بين شفتيها، وبدلًا عن ذلك قررت التنفيس عن غضبها بطريقة مغايرة، إذ هتفت تقول بعدما نظرت إلى جيداء في نبرة عدائية قوية لا تخرج سوي من فم مقاتلة عاتية مثلها :
-(( بلاش دموع التماسيح دي وفريها لحد تاني ))..

رفعت جيداء رأسها للأعلى في كبرياء مزيف، وبعد أن اتخذت وقتها الكامل في تمرير نظراتها المزدرية فوق غفران هتفت تقول في تعالي :
-(( أنا مش فاهمة أيه العشوائية دي.. عايزة مني إيه أنتِ ))..

هتف جواد مقاطعًا جدالهم الحاد وهو يضغط على حروف كلماته فتلك شديدة البأس الواقفة بالقرب منه تتعمد إثارة حفيطة الأخرى وجرها إلى منطقة يعلم أن حسناء المظهر ستخسر فيها بكل تأكيد :
-(( غفران!!.. الوقت مش مناسب لأي كلام.. خلي يحيي يقوم بالسلامة والتصرف الأخير ليه ))..

غمغمت بعدة كلمات حانقة غير مفهومة لم يلتقط منها سوى كلمة نعم الناطقة بها في غل، بينما تابعت رحمة في قلق شديد ملامح طاهر التي أخذت في الشحوب وخصوصًا شفاه، إذ وصف له الطبيب مسكن يحتوي على نسبة من المخدر لتخفيف الألم ولكن طبقًا للظروف الحالية رفض تناوله فهو يحتاج إلى كامل وعيه لمؤازرة عائلته، أو على الأقل ما تبقى منه، فقالت مقترحة على مضض تخشي تفسير مقترحها بشكل خاطئ :
-(( طاهر أنت كمان لازم ترتاح.. شكلك تعبان ))..

حرك رأسه رافضًا بشكل قطعي دون تعقيب فالحمية بداخله تمنعه من ترك أبناء عمومته حتى وإن كان جسده هو من يُعاني، وقتذاك قال جواد مؤيدًا موقفها فالإعياء الكاسي ملامحه أوضح من أن يغفل عنه أحد :
-(( رحمة عندها حق يا طاهر.. انتوا تعبانين بعد اللي حصل ولازم ترتاحوا وأنت بالذات.. غير أن المستشفى مش هتسمح بعددنا ده كله يعني وجودكم ملهوش لازمة.. ومتنساش أني محتاج حد يوصل لينة البيت مش هفضل سايبها على كتفي كده ))..

هنا تذكر طاهر السؤال الذي أراد طرحه منذ وصوله ولكن مع مرور الأحداث نساه، فقال مستفسرًا في نبرة مرهقة للغاية :
-(( هو صحيح أيه اللي جابها معاك من الأساس؟ ))..

أجابه جواد شارحًا في نبرة خالية خافتة :
-(( كنت واعدها من فترة أوديها الملاهي بعدما أخلص شغل ونسيت.. ومفتكرتش غير بعدما روحت من الاجتماع.. وطبعًا لما زعلت قلت أنزل حتى بيها أي مول قريب تغير جو.. بس وأحنا في الطريق علياء اتصلت فـ مكنش في وقت أروح البيت ارجعها واجي تاني هنا.. وزي مانت شايف.. نايمة على كتفي من بدري ))..

رق قلب الجميع لحال الملاك الغافي في سلام دون إدراك لما يدور من حوله من تعقيدات، وخاصةً مشاعر تلك من ترقرقت عيناها بالدموع كسحابة صيفية فاض بها حملها فألقته، ومع كل ذكر لسيرتها تجد العبرات الشفافة تشق طريقها داخل قنواتها الدمعية حتى تقف على حافة جفونها، فقط تنتظر رمشة بسيطة من تلك الأهداب حتى تتساقط متوالية، ومع صمت الجميع عاودت رحمة الطلب تلك المرة في نبرة شبهه متوسلة :
-(( طاهر.. عشان خاطري أسمع الكلام وروح عشان ترتاح وتاخد علاجك.. على الأقل عشان بكرة تعرف تقف معاهم ))..

سادت لحظة طويلة من الصمت الهادئ الناعم بينهم، يعانقها بنظرته العاشقة فتستجيب راغبة، يطيل التحديق بها وقد أشتاق إلى رؤيته داخل عينيها، صغيرًا، مكتملًا، لامعًا، عجيب كيف يمكنها تحويل أسوأ مواقفه ولحظاته إلى حديقة مرتبة من حولها، فقط بجملة وحيدة من صوتها الوردي تسقط دفاعاته متهالكة، كما تتساقط أوراق الخريف وتُسحق تحت الأقدام ، وكيف يقاومها هو ضعيف الإرادة، فحاشاه من بات في جوي نيران عشقه الحارقة، أن يرد نظرتها المتوسلة أو ما همست به مطالبة، ودون وعى منه تحركت رأسه بإيماءة صغيرة تهللت معها أساريرها، بينما قالت غفران مقترحة في خبث :
-((وأنتِ كمان يا رحمة يلا.. أكيد طاهر محتاج حد معاه في البيت.. وقبل ما تبصيلي كده متخافيش أنا هروح النهاردة أبات في بيت بابا عشان عندي مشوار ضروري.. ومصطفى هيكون في الشقة لوحده.. كده الأمور سهلة ))..

انفرج فمه بنصف ابتسامة خافتة فور لمحه القبول يطل من خلف عدستيها ، فمجرد تخيله لفكرة عودتها إلى منزله، تحت كنفه والنوم داخل أحضانه بددت كل آلالامه ولحظات توقه وانتظاره، كما يبدد شعاع الفجر عتمة الليل وظلامه، ويا له من شعور، بهجة خالصة غمرت أطرافه حد التخمة، بل وفاضت حتى سال السرور متسرسب من جميع خلاياه وهو يراها تسير معه وجواره.


***************************

خطوة أخرى خطاها بصحبتها داخل حديقته أصابته بحالة عجيبة من الحماس، لا لم يكن الحماس هو المصطلح الأدق في وصف حالته، بل هو إحساس غريب اعتراه عجز عن توصيفه، فجسده كله يتفاعل، ويفور الدم بداخله في شعور رائع لم يختبره من قبل، يندفع الأدرينالين داخل جسده وكأنه تعاطي جرعة مكثفة من المخدرات فأخذت تُعطي مفعولها وتتلاعب بتكوين خلاياه، أو كأن مسامه قد تضخمت بشكل مضاعف مثير، تستقبل في حالة من الجوع كل الشحنات الإيجابية التي يرسلها له الكون، وتطرد بعيدًا مشاعر طالما جثت فوق صدره وألجمت روحه الحرة، الوحدة، والغربة، وفقد الانتماء، شعور التحسر على أشياء طالما افتقدها، جميعها ذهبت بغير رجعة، وأفسحت له المجال بتشرب كل ما حوله والامتزاج به، تتناغم حواسه مع الريح الخفيف، مع حفيف الأشجار، مع ضوء القمر المنير، مع حركة السحاب، أحتوي الكل كجرم صغير مغتزل الكون وعجائبه داخله حتى انصهر به، باختصار كأن كل شيء أعاد ترتيب نفسه وآتاه كما يريد، في الوقت الذي يريد، تمامًا حيث يريد، ومع نظرة خاطفة إلى جانب وجهها المسلط فوق شجرتها المفضلة، اشعلت وجدانه متذكرًا طريقهم للعودة، وكيف احتضنت طفلة قريبه بين ذراعيها وكيف ارخت الصغيرة رأسها تستريح فوق صدرها في سلامً تام، وعلى الفور راح عقله يجسد له صورة محببة عن طفلة منه تنمو في رحمها وهي الرحمة، فرع من أصل الشجرة، من امرأة يراه بإنسان عينه مكتملة، لقد تزوج وعاشر ورأي غيرها الكثير، لم يكن بالراهب ولم يمنع قلبه من الميل من قبل، ولكنها الوحيدة التي أثرت به على ذلك النحو الخطير، رجاحة عقلها مع طيبة قلبها، إضافة إلى تمرد كرامتها تفعل به الأعاجيب، تلين وهي الشامخة، ترحم وهي القاسية، تستبد وهي الحرة، وخلف كل ذلك تعرف كيف تحب بكل جوارحها وتتعاطي مع كل المواقف بحكمة ورزانة، بينما تنهدت هي في وله وعينيها تمشط المكان من حولها، لقد مرا بالكثير بالفعل، وتلك الحديقة تحديدًا شاهدة على مواقف عدة بينهم، منها ما تود مسحه من ذاكرتها ومنها ما تحتضنه بين جوانحها، ورغم ذلك تشعر بأن قدمها تطأ المكان للمرة الأولى وقد أصابت كل شيء يد التغيير، إلا شجرة الليمون التي كانت تعتني بها بنفسها، فقد أُعيد تصميم المكان وصبغه بألوان جديدة حتى الحوائط الخارجية للمبنى، تُري هل فعل ذلك لنفس السبب الذي في عقلها أم ظنها مجرد خيالات؟!، سبقها بالقول وكأنه قرء أفكارها يهمس واعدًا في نبرة حازمة لا تحمل الشك :
-(( هنبدأ سوا صفحة جديدة ووعد عليا.. هعوضك لحد ما ترضي ))..

ارتسمت ابتسامة خفيفة فوق ثغرها الوردي الناعم، بينما أسبلت أهدابها فوق يده التي احتضنت كفها الصغير مستأنفًا سيره بها إلى داخل المنزل، ومجرد ما خطت داخله ووقفت في منتصف بهو الاستقبال حتى تجمدت نظراتها، وراحت تمرر حدقتيها فوق كل تفصيلة به في ذهول، وكأنها سقطت في منزل الأحلام، تمامًا كما تخيلت وتمنت وحتى دونت في مذكرتها الخاصة، وفور إدراكها ما يحدث تلاشت أنفاسها وجحظت عيناها في ذهول وفلتت من بين شفتيها شهقة عدم تصديق وهي تلتفت إليه في حدة عفوية تسأله بعينيها اللامعة سؤال صامت، أجاب عنه في حرارة بعدما لف ذراعيه حول خصرها وجذبها نحوه :
-(( مفيش حرف اتكتب جوة دفترك.. ألا واتحفر جوة عقلي يا رحمة ))..

دفء عجيب اندفع إلى كافة خلاياها مع حالة من السكون والاحتواء، تسكتين برأسها فوق كتفه تاركة روحها تطفو داخل أبحر من السعادة، ثم ترتفع وتحلق في سموات من البهجة دون قلق أو خوف، فهو منقذها إن غرقت، ومسعفها إن سقطت، وأخيرًا وبعد طول انتظار وترقب منه، همست اسمه في تحشرج أصابه بالجنون بينما إبهامها ارتفع لملامسة أسفل ذقنه :
-(( طاهر ))..

تلكأت عيناه الشارهتين فوق ملامحها، يتشربها في عطش من لا يرتوي، قبل أن يهمس داخل أذنها في خفوت خطير :
-(( عارفة.. الوجع اللي في كل عضمي ميجيش حاجة جنب لهفة أني أحس بيكي بين أيديا ))..

عضت فوق شفتيها في حرج قبل ابتعادها عنه في ارتباك ملحوظ تهرب من عيناه الملاحقة لها بادعاء عدم فهم جملته، بينما حرك هو رأسه متقبلًا توترها وخجلها الفطري منه في تفهم شديد، فها هو يقف على مشارفها بعد مشوار ضاري قطعه وحيدًا في صحاري أشوقه المعذبة حتى وصل عتبتها، ولا ينتوي الدخول حتى تأذن له راضية راغبة.

وفي الأعلى حيث غرفتها القديمة وقفت رحمة تتأمل ذاهلة ما طرأ عليها من تغييرات هي الأخرى حالها كحال سائر البيت، وقبل أن تغوص في ذاكرتها أكثر شعرت بجسده يتحرك من خلفها بعدما تبعها كالظل متوجهًا نحو الفراش العريض الذي أنتصف الغرفة، ثم أستلقي فوقه مغمض العينين متألم الجسد وقد بلغ منه التعب مبلغه، حتى أنه لم يقو على فتح كيس الدواء البلاستيكي فألقاه جواره في عدم اهتمام، فبادرت هي متبرعة بالتوجه نحوه والانحناء إليه بعدما أخرجت حبات الدواء من مغلفها وقربتها من شفاه قائلة في نبرة ناعمة لا تخلو من القلق كي تجذب انتباهه :
-(( طاهر.. ممكن تفتح عينيك عشان تاخد الدوا ))..

وارب أحد جفناه ناظرًا إليها في شبهه حالة من فقدان الوعي، ودون الاعتدال من نومته رفع ذراعه حتى وصل إلى معصمها ودفعه نحو فمه ملتقطًا بشفاه الحبات من بين أصابعها ثم عاد لإغلاق جفنه وتركها تشرف عليه بطولها لوهلة تفكر في حيرة من أمرها فيما يجب عليها فعله تاليًا، قبل أن تحرك رأسها يائسة من فعله الطفولي المدلل وتلتقط كوب الماء من الطاولة المجاورة للفراش وتضعه فوق شفاه معيدة الكرة من جديد، وتلك المرة احتضنت كلا يداه كفها وكوب الماء داخله متجرعًا ما به حتى أخر قطراته، قبل أن يعود ويستلقي فوق الفراش في وهن بعدما فتح أزار قميصه وخلعه على مضض ثم ألقاه أرضًا مستسلمًا لمفعول الدواء الذي بدأ في السريان داخل دمه بعد دقائق عدة من ابتلاعه، بينما جلست هي على حافة الفراش بعدما دثرته جيدًا بالغطاء الخريفي، وسمحت لعدستيها بالطوف فوق محتويات الغرفة من جديد بابتسامة ناعمة، تتذكر في حنين ما دونته بيدها داخل دفترها السري منذ أشهر مضت.....

(( مذكرتي وكاتمة أسراري العزيزة..
اليوم ومنذ استيقاظي تنتابني حالة من الهلاوس التامة، في جرأة لم أعهدها في شخصيتي من قبل، إذ لا ينفك عقلي يصور لي أشياء مدهشة رغم غرابتها، عن حياة طبيعية تجمع بيننا سويًا كزوجان متحابان اختارا تمضية حياتهم معًا بكامل ارداتهم الحرة، نعم أعلم أنه درب من الجنون ولكن ما بيدي حيلي، فرغمًا عني أتخيل هذه الغرفة التي أجلس بها الآن في هيئة مغايرة، حيث زال هذا الباب بجداره المادي الفاصل بيني وبينه مثلما هُدمت باقي الجدران الأخري الحائلة بين اجتماع قلوبنا، كما أُخرج الفراش الاحتياطي الدال على بعد المسافة بيننا واسُتبدل بآخر كبير ذو قوائم خشبية مرتفعة ينتصف الغرفة ويكفي لكلينا، وهناك بدلاً من مكتبه الصغير وُضعت أريكة كبيرة حتى نجلس فوقها يوميًا قبل الخلود للفراش ونتسامر في أحداث يومنا الهادئ وتكون شاهدة على كافة احاديثا حتى التافهة منها، حسنًا ربما يجب على عقلي التوقف الأن قبل أن يصل إلى نقطة لا رجوع عنها....... ))..

تنهدت في هيام ونظراتها تنزلق تلقائيًا إليه، تفكر في عشق جارف كيف حرص على تنفيذ كل ما تمنه دون أن تطلبه، يالله لم يمضِ عدة ساعات على توعدها له بعدم مسامحته، وها هي تجلس في قلة حيلة تبحث يائسة عن أخر نقط غضبها منه وقد تبخر معظمه، ومع شخصيته الجديدة تعلم أنها مسألة سويعات قبل أن تخر إرادتها راكعة أمام ضراوة غزوه.

**************************

تجلس على المقعد المجاور للفراش أمامه وعيناها مفتوحتان على اتساعهما دون القدرة على رمشهما، فها قد قارب الليل على التقهقر متيحًا للشمس فرصتها في فرش ضياءها فوق الرؤوس، وحتى اللحظة تعجز عن أخذ أنفاسها أو الاسترخاء بأي شكل كان، حيث قضت ثلثي الليل صامتة تتأمل ملامحه الغافية ورأسه الملفوف بالشاش الطبي الأبيض قبالتها في صمت، وكل ما يفعله عقلها هو تمرير شريط ذكرياتهم الحية أمام عينيها فتأن مستجيرة من أسواط جلد الذات العاجزة عن تحملها، ومن الصقيع المغلف روحها رغم دفء المكان من حولها، وكيف تستطل ومصدر دفئها الخاص مواري عنها خلف أجفانه المغلقة؟!، أجفل جسدها على صوت شقيقها آتيًا من الخلف يسألها وقد انعكس إرهاقه الذهني على نبرته :
-(( علياء أنا هنزل تحت أكلم ماما عشان أطمن على لينة وعليهم واشرب قهوة.. تحبي أجبلك حاجة معايا وأنا طالع؟! ))..

استدارت بجذعها العلوي تناظره بأحداق زجاجية فارغة ثم حركت رأسها رافضة في وجوم دون التفوه بحرف واحد فأردف يقول في ضيق :
-(( متأكدة أنك مش عايزة حاجة؟!.. ولا علبة عصير حتي!!.. أنتِ شكلك مرهق أوي!! ))..

داهمت الدموع عينيها فور سماعها جملته فالتفتت في حدة تواري عنه ما انسكب من أعينها، وقد فاضت بها وجيعتها تتذكر موقف مشابه جمعها معه حدث في ماضي ليس عنها ببعيد، هل ينساها حقًا كما شاركهم الطبيب مخاوفه منذ ساعات، فتنكوي بنيران ذكرياتهم المتسارعة داخل رأسها دون هوادة، هل تُمحي عالية الجبين من عقله كما دللها من قبل، هل ينسى لهفة استنجادها به يوم أراد بعض أنصاف الرجال الاعتداء عليها؟، حسرة يليها قهر، وندم يعقبه عذاب يفوق طاقتها وهي الضعيفة من تخطو أولى خطواتها نحو الثقة بالنفس على يده وبمباركة يده الممدودة لدعمها، وفجأة وجدت نفسها مدفوعة إلى العراء وحيدة كمن هُدمت جدران بيته فلا يجد ما يحمي رأسه من خطر الصواعق المقبلة، فآخذ بكاءها يرتفع وهي تتمتم متوسلة في أسي، بينما كفها يتلمس شطر وجهه والخدوش التي أصابته :
-(( أنا طول عمري جبانة.. بخاف أتكلم عشان محدش يزعل مني.. وبخاف أعترض عشان مجرحش حد.. برضى بأي حاجة تتقدملي واسكت عشان بخاف أواجه.. ممكن أقبل حاجة غصب عني لمجرد أني مبقدرش أقول لأ.. معرفش أنا ليه ضعيفة كده.. وليه بقبل بالفتات.. ليه باجي على نفسي عشان الناس.. أنا.. أنا كنت هتجوز واحد مش بحبه عشان معنديش الجرأة الكافية أني أسيبه متخيل!!.. وكنت راضية بعيبي ده ساكتة.. بس من جوايا كنت بكره نفسي.. وفجأة والله من غير ما احس لقيت قلبي بيتقبض كل ما بشوفك.. وبحس بطاقة غريبة جوايا كأني إنسانة تانية.. ولأول مرة اتجرأت ارفض حاجة.. أه بسببك وقفت قدامه وقلتله مش هكمل معاه ))..

تعالي نشيجها القوي حتى منعها عن استئناف اعترافها وأجبرها على التوقف حتى تنتهي نوبة بكاءها ثم عادت تقول في نبرة مختنقة مليئة بالدموع :
-(( معرفش أمتي وليه وأزاي بس معاك ببقي حد تاني بيعيد اكتشاف نفسه.. بشوف في نفسي صفات مكنتش أتوقع أنها موجودة فيا من الاساس.. حتى لو أتجوزتني شفقة أو بطلب من بابا.. أنا عاجزة عن أني محبكش أو احس بقيمتي وأنت جنبي.. وخايفة أسمعك ومعرفش أواجه فأخسر احترامي لنفسي بزيادة وشوية الثقة اللي أخدتهم وأنا معاك.. أنا خايفة وأنت جنبي وخايفة وأنت مش جنبي.. بس دلوقتي أنا مرعوبة.. حاسة أن روحي هتطلع.. مش متقبلة فكرة أنك تطول في الغيبوبة زي ما الدكتور قال.. وعقلي مش مستوعب احتمال أنك تصحى فاقد الذاكرة أو ناسيني ))..

توقفت لوهلة تمسح في عُجالة بعض العبرات الشفافة العالقة بأهدابها ثم استطردت تقول في حشرجة :
-(( معرفش بيقولوا أن المريض بيحس باللي حواليه وعشان كده هفضل أتكلم معاك كل يوم لحد ما تقوم بالسلامة.. ولو سامعني عشان خاطري قوم وأبقى كويس وماتنسنيش عشان منساش علياء الجديدة معاك ))..

ختمت حديثها بطبع قبلة ناعمة مطولة فوق كفه الذي رفعته إلى فمها ثم ضمته إلى قفصها الصدري واستندت برأسها المتعبة فوق الفراش جواره وقد أنهكها كثرة البكاء فغفت مرغمة وداخلها يأمل في يوم جديد عله يأتي بالفرج وتستيقظ فتراه جالسًا أمامها يشاكسها كعادته، غافلة عن قريبته التي كانت تقف خلف الباب وتستمع إلى حديثها كاملًا، إذا فزواجهم ليس فقط مدبر بل حوله علامات استفهام قوية، وإذا صدق تخمين الطبيب واستيقظ فاقدًا للذاكرة كعرض جانبي للعملية الجراحية يمكنها استغلال الوضع لصالحها ودخول منزله مرةً أخرى وليس بأي صفة، بل بصفتها زوجته.

*************************

صرفت ساعات الليل الأولى كاملة بعدما تسللت من جواره بعد فترة من تأكدها من ذهابه في النوم، في التجول داخل جدران المنزل تنتقل من غرفة إلى التي تليها في ترقب طفولي وعيناها تلتهم كل شيء منبهرة بما طرأ عليهم من تجديدات أصابت وجيف قلبها بالخفقات المحمودة، تملأ الإثارة كيانها وكأنها سقطت داخل محتوى مذكراتها المكتوبة وراحت تجوب باطن مخيلتها في تجسيد حي رائع لما دونته يدها من قبل، تمرر أصابعها فوق كل ما تمر به بأعين مشتعلة بالحماسة، فحتى الألوان التي ذكرتها حرص على تنفيذها في دقة متناهية، أطنان من السعادة غير المتوقعة تغمدت روحها كما يغمر زبد البحر جسد العائم، إلى أن خارت قواها وأعلنت قدميها عليها التمرد فعادت مرغمة إلى غرفتهم كطفلة صغيرة أجبرتها والدتها على التوقف عن اللهو تُمني نفسها بالعودة في وقت لاحق، ثم توجهت مباشرةً إلى الحمام الملحق بغرفة نومهم المشتركة كي تبدل ثياب الخروج بأخرى بيتية مريحة، وها هي تقف أمام المرأة الضخمة، بعدما خلعت عنها الجزء العلوي من ثياب الخارج إلا من قطعة داخلية واحدة ذات حمالات رفيعة وفتحة عنق منخفضة اعتادت ارتدائهاx أسفل ملابسها العادية، تتلمس على مهل كتفها وتلك الكدمة الزرقاء التي أصابت أعلاه بسبب ضغط واحتكاك حزام الأمان بجلدها، قبل انزلاق يدها إلى مثيلة لها أصغر حجمًا انتصفت أعلى قفصها الصدري، وقد آثرت إخفاء أمرهم عنه وعن الطبيب حتى لا تُثير ذعره فيكفي ما يلاقيه بسبب تهورها، وأثناء انشغالها بتوزيع الدهان فوق الأماكن المصابة دوت فرقعة عالية قادمة من الخارج أنتفض جسدها على أثرها يليها انقطاع التيار الكهربائي عن المنزل ككل، ثم سرعان ما تراخي عندما أرهفت السمع واستطاعت ببساطة تميز جمل الصوت الذكوري الجهور القادم من النافذة العريضة يهتف من الزقاق الخلفي بوجود عطل ما أصاب غرفة الكهرباء المغذية للمنطقة، وبسبب وجود تلك النافذة المحتلة الحائط المجاور لها نفد ضوء القمر إلى الداخل وأنار المكان بشكل نسبي، وعلى عكس بنات جنسها لم يكن الظلام يسبب لها أي مشاكل لذا استأنفت ما تقوم به في هدوء، جاذبًا انتباهها بعد عدة ثوانٍ صوته القلق يهتف أسمها من الخارج، قبل أن يندفع إليها دون استئذان بعدما فتح الباب على مصراعيه وتمتم يسأل في نبرة متوجسة ناعسة :
-(( رحمة أنتِ كويسة؟! ))..

تجمدت خطاه وهو يمرر نظراته فوق جسدها الأبيض الشاحب الواقف أمامه في ارتباك ملحوظ، فرغم خفوت الإضاءة حولهم ألا أن ضوء القمر ألقى بسحره الآخاذ فوق بشرتها البيضاء العارية، يجذبه إليها كجناح فراشة يهفو إلى تذوق نشوة التحليق فوق النيران المشتعلة، يزداد شوقه كلما أقترب من الوهج دون امتلاك رفاهية التوقف أو العودة، بينما همست هي تقول في تعلثم واضح وعيناها تتبعان خطواته المتجهة إليها :
-(( كويسة.. ده.. ده تقريبًا عطل عام.. شكل أوضة الكهربا فيها مشكلة.. سمعت صوت حد بيقول كده من برة ))..

أومأ برأسه في عشوائيه وعدستيه تلتهم وجهها بقدر ما سمحت له الإضاءة الخافتة، قائلًا في نبرة ثقيلة متحشرجة :
-(( البيت في مولد كهربا متقلقيش.. دلوقتي حد يشغله ))..

كان القلق من انقطاع التيار الكهربائي هو آخر ما يشغل بالها، خاصةً ونظراته الجائعة تزداد خطورة بعد توقفه بجسده خلف المرآة وبالتالي خلفها، يتشرب بعينيه مرآها المحفور داخل ثنايا قلبه وممرات عقله ومع ذلك لا يرتوي، فمه مطبق بقوة يضغط على فكيه حتى برزت العضلة المرتجفة في جانب خده، بينما ذراعيه تتسلل في ترو حول خصرها للقبض عليه وشل حركتها، قبل دفعها إليه في تملك واضح حتى ألتصق ظهرها بصدره العاري هو الأخر إلا من الضمادة الزرقاء الطبية، في حين فاضت نظراته شراسة وأنفاسه الحارة تزداد ثقلًا فوق مؤخرة عنقها، وقد أعطاه ألم صدره الذي آخذ في الانحصار بفعل الدواء المسكن فرصة في تنفيذ ما يفور به دمه، ثم أرخي قبضة أحد ذراعيه من فوقها لبدأ رحلة طويلة من الاستكشاف طالما حلم بها، تعالي هدير نبضاتها وآخذ صدرها يعلو ويهبط من فرط الانفعال، فعقلها يخبرها بضرورة الابتعاد وقلبها يقنعها بلزوم الاعتياد، وما بين الرغبتين أجفل جسدها فور ملامسة شفتاه عنقها، بالتزامن مع طواف كفه فوق جسدها، فنطقت تستوقفه بنبرة مبحوحة لا تزيد عن الهمهمة :
-(( طاهر! ))..

كان جسدها بأكمله يختض انفعالًا من فرط مشاعره المحمومة وعاطفته الجامحة التي تنضح من لمساته،x كـ دب سقط في إناء من العسل، تتذوق شفتاه في جوع كل ما تصل إليه دون إعارة اعتراضها الواهِ اهتمامًا، تتسارع أنفاسهم معًا في لهفة، اشتياق، جنون، حتى أوشك الوضع بينهم على فقدان السيطرة، خاصةً مع إسدال الظلام لستاره من حولهم وكأنه يبارك وصالهم، وفجأة صدع صوت داخلها يخبرها عن ضرورة مقاومته قبل فوات الأوان فعقابها له لم يبدأ بعد، وبذلك الهتاف المستمر راحت تفتش عن غضبها منه الذي تبخر من الجولة الأولى، فلم يتبقِ لعقلها من أسلحة المقاومة سوي تذكيرها بإصابته وعليه استدارت إليه بكل جسدها في حركة غير محسوبة منها فسارع يشدها إلى جسده أكثر يود لو ينصهر بها، بينما شفتاه لا تتوقف عن التجول حتى وصلت إلى كتفها المصاب، وقتها أجفلت فور ملامسته لها في نفس اللحظة التي انتبه بها إلى الكدمة الواسمة جلدها فهمس يقول في صوت مبحوح بعدما رفع رأسه ينظر إليها :
-(( رحمة!! ))..

حمدت الله سِرًا على توقف جماح جنونه أخيرًا، وبنبرة مرتعشة وسيقان تكاد تذوب أسفلها كالهلام همست تطمئنه :
-(( متقلقش ده مكان الحزام مش أكتر ))..

رفع إبهامه يتلمس موضع إصابتها في نعومة ورفق رغم تشنج يده، مستطردًا استفساره في ضيق :
-(( مقلتيش ليه!!.. على الأقل كنتي كشفنا واحنا في المستشفى ))..

تلك المرة كانت هي من رفع كفها لملامسة شطر وجهه وطمأنته فبعد كل ما عاناه بسببها أبدًا لن تحمله عبء ثقل الشعور بالذنب فوق أكتافه وهي المتسببة في الحادث من الأساس، لذا قالت مؤكدة في صدق :
-(( صدقني دي مش أكتر من كدمة بتحصل من أي خبطة عادية.. وأنا دهنت من الكريم اللي الدكتور كتبلك عليه.. يعني كام يوم وهتروح مش مستاهلة ))..

حال بينه وبين اعتراضه عودة التيار الكهربي وبالتالي عودة الإضاءة إلى المكان، وكأن الإنارة العالية ذكرتها بما حدث بينهم منذ لحظات كما نبهتها بوقوفها أمامه بملابس كاشفة، فأردفت تقول هاربة بعدما هرولت نحو الباب للخروج :
-(( عن إذنك هستخدم حمام تاني ))..

ركضت قبل لحاقه بها أو قبل معاودته فرض سياج وله مشاعره حولها من جديد، ربما تستطيع خلال الدقائق التي تبتعدها عنه إعادة تحجيم فيضان مشاعرها التواق للجريان داخل أروقة عشقه.

****************************

تلك المرة وفي الحمام الرئيسي الخاص بإحدى غرف الطابق الأرضي ارتدت ثيابها كاملة للاحتياط، ومشطت شعرها جيدًا بعدما أخذت حمامًا دافئًا أزال عنها إرهاق اليوم بكل أحداثه، ثم استلقت فوق المخدع الوثير تراجع مواقفهم منذ خروجهم من الشركة وحتى......، أخفت وجهها الحرج داخل الوسادة فور تذكرها قبلاته المتهورة فوق عنقها ووجها وقد آخذت حرارة جسدها في الارتفاع من الذكرى، قبل عبوس جبينها إذ تذكرت موعد دواءه كما وصاهم الطبيب، فضغطت فوق جفنيها بقوة تطرد القلق من دواخلها فهو كبير كفاية لتذكر أخذ دواءه بنفسه دون الحاجة إلى وجودها جواره كما أنها قررت عدم العودة إلى الغرفة حتى لا تضعف أمامه من جديد، حَقًّا!!، كيف سيتذكره وهو لم يتكبد عناء أخذ الدواء في المرة الأولى إلا عندما وضعته أمام فمه؟!. هذا ما هتف به ضميرها المؤنب قبل أن تقفز من مرقدها مستسلمة وقد قررت الصعود إليه وتذكيره بأخذ الحبات اللعينة ثم الانصراف في الحال وعليه سارت بخطوات منزعجة إلى الأعلى حتى غرفتهم ثم دلفتها مجبرة فوجدته غافيًا فوق الفراش وقد بدل ملابسه أخيرا، وبعد نظرة عابرة ألقتها فوق الطاولة زفرت في ضيق فكل شيء كما وضعته منذ عدة ساعات، وبعدما سحبت نفسًا عميقًا تحد به من غضبها منه الذي عاود يتكون دون سببًا يذكر هتفت بعد وقوفها عند رأسه أسمه في حدة مبالغة :
-(( طاهر قوم خد الدوا.. الدكتور قال كل ٦ ساعات ))..

فتح أحد جفنيه على مضض يناظرها من خلف أهدابه المنسدلة بينما الأخر مغلق تمامًا ثم قال في لا مبالاة :
-(( مش مهم ))..

زفرت مطولًا وقد تصاعد حنقها من إهماله قبل هتافها مؤنبة :
-(( إيه اللي مش مهم!!.. الموضوع مش هزار ))..

فتح عينيه على اتساعهما بعدما دفع الغطاء بساقه، ثم قال مدعيًا التعب :
-(( مش قادر أتحرك.. خلية أبقى أخده أي وقت تاني ))..

حركت رأسها يائسة وهي تستدير عنه لإحضار الدواء مُسْتَغِلًّا انشغالها عنه في الاعتدال من نومته ثم اتكأ بجذعه العلوي فوق الوسائد الموضوعة خلفه وشبح ابتسامة انتصار يتلاعب فوق شفتيه وهو يراقب تقدمها منه والتأفف اَلْبَادِي فوق ملامحها، إذ ظهر جليًا من خلال نبرتها الهاتفة في اقتضاب وهي تنحني بجذعها وتضع الكيس البلاستيكي جواره فوق الفراش في تشنج ملحوظ :
-(( الدواء أهو والميه جنبك.. خده دلوقتي والصبح إن شاء الله.. ومتنساش بكرة معاهم الدهان ))..

أنهت جملتها الأخيرة ثم توجهت نحو باب الغرفة تتركها، وسرعان ما توقفت قدماها عن السير على صوته المستجير، إذ تأوه بصوت مسموع في ألم جعلها تهرول إليه عائدة تسأله في ذعر وقلبها يقفز داخل أضلعه :
-(( حصل إيه ))..

أجابها في براعة كالمتمرس في فنون التمثيل :
-(( الوجع.. في وجع هنا رهيب.. مش قادر أتحرك خالص.. وزاد لما اتحركت ))..

ضغطت فوق شفتيها في حيرة بينما اغرورقت عيناها بالدموع تأثرًا بمعاناته وندمًا على تركه، ثم سألته في صوت مختنق :
-(( طب تحب نتصل بالدكتور ولا عشان أتحركت كثير؟!.. ))..

رد في خبث مقاومًا رغبة يائسه في الابتسام :
-(( مش عارف.. بس تعبان أوي.. تعالى حطي أيدك كده هنا ))..

ختم جملته برفع ذراعه والقبض على معصمها ثم دفعها نحو صدره ووضعه عنوة فوق موضع قلبه، مستطردًا قوله في استمتاع :
-(( كدة تمام مفيش وجع ))..

علمت أنها خطت داخل مصيدته التي جذبها إليها بمهارة فور لمحها ابتسامته العابثة، وقبل صدور أي حركة مباغتة منها كان قد بادر بجذب جسدها المحني إليه فسقطت بجذعها فوق الفراش وصدره، متمتة في حنق من بين اسنانها :
-(( طاهر عيب الحركات دي.. وعلى فكرة مش جدعنة منك أنك تستغل خوفي عليك.. اتفضل سبني بدل ما اتحرك واخبطك ))..

حاوط خصرها بذراعيه يضمها إليه أكثر ويمنع ابتعادها عنه، مستغلًا عدم مقاومتها له في التمسك بها والهمس جوار أُذنها في ثقة :
-(( لو مسبتكيش هتعملي إيه.. وبعدين ماهو مش جدعنة منك أنك تسبيني وأنا تعبان وتروحي مكان تاني ))..

طبع قبلة ناعمة فوق شحمة اذنها ثم أستطرد متوسلًا أكثر منه طالبًا:
-(( لو قلقانة عليا بجد خليكي في حضني ))..

شعر بحركة خافتة لجسدها أسفل لمسته فأردف يضيف في حزم وهو يستلقي بها فوق الفراش :
-(( مش هسيبك تبعدي عني تاني.. يا هتنامي في حضني هنا.. يا هاجي أنام أنا في حضنك في أي مكان تروحيه ))..

رفعت رأسها تنظر إليه في نظرة متباينة بين الخضوع والتمرد، فأنهي صراع نظراتها بقوله راجيًا :
-(( أنا راضي تعاقبيني بأي حاجة ماعدا بعدك عني يا رحمة الروح ))..

زفرت مطولًا وقد استسلمت لفخه راضية، وكيف تقاوم ما هفت إليه الروح، فربما في أعماقها كانت تنتظر منه رد فعل كهذا للأستكانة بين ذراعيه، أو ربما أتخذت من موعد الدواء حجة في العودة من الأساس كفرصة ثانية تقدمها له، توقف عقلها عن التفكير طاردًا كافة التعقيدات خلف ظهرها فهي الأن أمام حقيقة واحدة ثابتة، لقد عادت للنوم داخل أحضانه، من جديد!.


شيماء_يوسف غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-01-21, 08:55 PM   #80

شيماء_يوسف

? العضوٌ??? » 474730
?  التسِجيلٌ » Jul 2020
? مشَارَ?اتْي » 61
?  نُقآطِيْ » شيماء_يوسف is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الرابع والثلاثون ❤️🔥

أيّتها البحريّة العينين والشّمعية اليدين
والرّائعة الحضور
أيّتها البيضاء كالفضّة
والملساء كالبلّور
أشهد ألّا امرأةً على محيط خصرها
تجتمع العصور
وألف ألف كوكب يدور.

-نزار قباني.

لطالما آمن أن مفهوم الوطن لا يقتصر على ذلك المكان الفسيح بحدوده الواسعة الذي نولد فيه ونستقر به وندفن تحت ثراه إذا حان الموعد، فكم من موحشًا على أرضه، وكم من مأنوسًا في هجرته، وبالنسبة إليه فقد كان وطنه بعد تراب أرضه وجذور أجداده، هو حيث استراح هانئًا فوق كتفها جبينه، وتربع ساكنًا داخل ضلوعها قلبه، وبهذا الانتماء تنهد مطولًا وقت شعوره بتسلل خيوط الشمس الأولى تصاحبها نسائم الخريف من نافذة الغرفة المفتوحة إلى الداخل، معلنة عن نهاية ليلة ستظل محفورة داخل ذاكرته حتى يواري جسده التراب، ليلة ظل ساهرًا حتى أخرها يتأمل الغافية بين ذراعيه في مزيج من السعادة، الطمأنينة، والتبجيل، يلتهم ملامحها المسترخية جواره في سلام، يمرر عدستيه فوق كل نقطة في وجهها ثم يعود ويعيد الكرة من جديد حتى أصابت روحه الجائعة تخمة الإفراط ولم يكتفِ بعد، يخشى إغماض عينيه بعدما تمددت جواره، فيختفي جسدها من أمامه، وإن لم يكن في الأمر من مبالغة لأتخذ من البارحة ميلادًا جديدًا له، بصفحة بيضاء كلية وتركها تخط بيدها ما شاءت داخلها واكتفي هو بالمشاهدة، والاستمتاع، والتنفيذ، وبعد فترة من التحديق المستمر بها، شعر بتململها أسفل ذراعه المحاوط خصرها، يليه صدور همهمة خافتة من بين شفتيها المطبقتين جعلت عضلاته المسترخية تبرز في حالة استنفار، ودقات قلبه الهادئة تدوي قاصفة أضلعه في ألف انشطار يليه انفجار، يخشى أن يكون ابتعاده عنها طوال الأشهر الماضية عبثًا، يرتعب من فكرة فشله في الانسلاخ من جلد شقيقه، وبتلك الحالة المزرية من الشك التي سقط بداخلها، أقترب بأنفاس مكتومة داخل صدره يضع أُذنه فوق شفتاها مرهفًا السمع حتى استطاع تميز حروف اسمه المتقطعة الخارجة منهم :
-(( طا.. هر ))..

تراخي جسده، واسترخت ملامحه، واستكانت دقاته فور سماعه لها تنطق حروفه في نداء جديد أعلى وأوضح بطريقة أكثر راحة من ذي قبل، مع شبح ابتسامة ظهر يلوح فوق ثغرها الناعم، فهمس يجيب في حنان ويده الحرة تمسح فوق جبهتها :
-(( أنا هنا يا شمس حياة طاهر ))..

فتحت عينيها على مضض عند سماعها تلبيته النداء، تتطلع في عبوس إلى وجهه الشبه ملاصق لها، ومنه إلى الغرفة من حولها تتذكر البارحة ولم غفت هنا بالقرب منه، ثم سرعان ما بدأ عبوس جبينها في الانبساط لتحل محله ابتسامة دافئة حين تأكدت من وجوده حَقًّا جوارها، بينما أردف هو يستفسر في خدر وكفه لازالت تتلمس خصلات شعرها العشوائية هبوطًا إلي فمها وعنقها :
-(( كنتي بتحلمي بمين؟! ))..

ضغطت فوق شفتيها بقوة تجابه صراع صامت يدور بداخلها، ودت لو أخبرته بغزوه أحلامها كما يفعل في واقعها، وأيضًا أرادت التلاعب به ليذوق جزءًا من لوعتها في غيابه، وما بين الرغبتين انفرج فمها يجيبه خجلًا بنبرة ناعسة وجبينها يستند على جانب خده مستجيبة لقبلة صباحية مطولة طبعها فوق وجنتها :
-(( بيك ))..

تنهد في حرارة ثم عاد يسألها من جديد، فرغم الطمأنينة النسبية التي اعترته من هدوءها على عكس ردات فعلها السابقة حين تراودها كوابيسها الكريهة المعتادة، لازال جزءًا من عقله يريد التأكد بسماع انتهاء مأساتهم سَوِيًّا من شفتيها :
-(( طب ينفع أعرف كنتي بتحلمي بأيه؟! ))..

قالت في دلال محاولة الحد من حركتها حتى لا تلامس كتفه المصاب :
-(( لأ.. أنت متعاقب ))..

تابعت خيبة الأمل المتسللة إلى ملامحه بسبب إجابتها الجافية، يليها نظرة القلق التي طلت من خلف عدستيه ومحاولته الجاهدة إخفائها بابتسامة باهتة، قبل أن تضيف في هدوء ودعة :
-(( بس الحلم مكنش فيه غير أنا وأنت وبس.. اطمن ))..

انفرجت أساريره ثانية، فحتى وإن بخلت عليه بكامل التفاصيل، يكفيه انفراده بها في الخيال، كما يختلي معها وبها الآن، فقط لولا تلك الحادثة.....، زفر في مزيج من السخط والأنين ورغم تزايد حدة الألم بفعل انسحاب المسكن من جسده، لم تتوقف يده عن تمسيد خصلاتها المفرودة حوله، متسائلًا في جدية بعد فترة من الصمت كان هو أول من قطعها قائلًا :
-(( رحمة.. أنتِ ليه لحد دلوقتي معرفتيش مصطفى بموضوعك؟! ))..

رفعت رأسها أولًا تتطلع إليه في شك، ثم اعتدلت في نومتها تستند بثقل جسدها على مرفقيها وقد أصبحت في وضعية مقابلة له، قبل أن تقول في إجابة أكثر منه سؤال :
-(( غفران قالتلك أني مبلغتهوش صح؟! ولا جواد؟ ))..

ابتسم عن مليء فاه ولم تملك مقاومة سحر ابتسامته المسترخية خاصةً ويده لا تتوقف عن مداعبة وجهها في لمسات حانية خاطفة كانت أبوية أكثر منها لشيء آخر فراحت تبادله ابتسامته بأخرى أكثر اتساعًا، تنصت إلى قوله المستنكر :
-(( أنتِ مش مصدقة ليه أني مفارقتكيش لحظة.. هو أنتِ بجد متخيلة أن كان ممكن يعدي علينا يوم من غير ما أطمن عليكي فيه؟! ))..

هناك سلم مصنوع من نسج خيالها بدايته من فمه ونهايته عند مقدمة سحاب قطني هش متفرق يزين سماء وردية تخصها وحدها، ومنذ البارحة وكلما تحدث بهذا الشكل المخترق دفاعات قلبها الأخرق الغارق في عشقه، كلما أرتقي بها سلمة تلو الأخرى نحو تلك السماء السعيدة الصافية، حتى ابتسامتها فقدت القدرة على تحجيمها فأخذت تزداد اتساعًا في بلاهة دون سبب مقنع مع كل حرف يخرج من فمه، حتى وهو صامت تبتسم لرؤية عينيها ملامحه، بينما أردف هو يقول في جدية :
-(( رحمة فى كلام كتير وحاجات أكتر محتاجين نتكلم عنها.. خليكي عارفة أني مش هسيبك تخرجي من بيتي تاني أبدًا مهما حصل.. بس خلينا في الأهم.. لو حابة تحتفظي بالسبب لنفسك هصبر عليكي لحد ما يجي يوم وتحكيلي كل اللي جواكي من نفسك.. قوليلي بس تحبي تعملي إيه مع مصطفى.. أكيد مش هنسيبه قاعد مع غفران لوحدها.. طبعًا البيت هنا كبير ومفتوحله طول العمر ))..

دون وعى منها عادت تستلقي جواره، وتستند بجبهتها على شطر وجهه، وكأنها تحتمي بقربه من حيرتها وتخبطها، قائلة في نبرة خفيضة شاردة :
-(( أنا قلتلك قبل كده.. هسيب كل حاجة زي ما هي عشان علياء وجواد ومصطفى.. حقيقي أنا مش عايزه حاجه من حد.. طبعًا أنا عارفة أنه حل مؤقت ولازم أصارحه في يوم أني مش أخته بالطريقة التقليدية اللي هو عارفها.. بس على الأقل أصارحه وأنا نفسي متقبلة الوضع وفهماه مش لسة متلخبطة.. طاهر أنا مش مصدقة اللي ماما عملته ده.. أزاي مفكرتش في يوم تقولي الحقيقة ))..

ارتجفت عضلة في جانب فكه من كثرة الضغط فوق أسنانه، يقاوم أطنان من الشعور بالذنب تدك خلجاته، إذ يجد نفسه عاجزًا عن إيجاد مخرج لما يُخفيه دون تأذي قلبها أو علاقتهم مما هو آت، ومع هذا الشعور المقيت، استدار يتكئ على جانبه وقد أصبح بذلك مواجهًا لها قبل أن يقول مغيرًا مجرى الحديث وقد تفاجأ بعدم جاهزيته للمواجهة بعد :
-(( طب براحتك.. ده كان مجرد سؤال.. المهم قرري تحبي أكلم مصطفى أنا النهاردة ولا تكلميه أنتِ ))..

ضغطت فوق ثغرها في تردد حرج، ففي الحقيقة كانت دائمًا العلاقة بين شقيقها وزوجها مضطربة، رغم عدم وجود صدامات فعلية بينهم سوي موقف خطفها كما يتهمه أخيها، وازداد حنقه منه في الأشهر السبع الفائتة كلما رأي ذبولها، لذا لم يكن الانتقال للعيش معهم هو القرار الأنسب وعليه قالت مقترحة في تأني، تتابع بتركيز شديد رد فعله وتعبيراته :
-(( معتقدش مصطفى هيرضي أو هيقبل يجي يعيش معانا هنا.. بس في حل تاني.. أنا كنت بدور من فترة على شقة إيجار ننقل فيها ولقيت واحدة المفروض كنا نسكنها بكرة.. ممكن ينقل فيها بس هروح أزوره دايمًا عشان نكون متفقين.. وأظن كده هيكون مرتاح أكتر ))..

أقترب منها على مهل، ثم قال بعدما طبع قبلة مطولة ناعمة فوق جبينها :
-(( اللي أنتِ عايزاه هنفذه.. بس سبيني أشوف واحدة تروح كل يوم تعمله الأكل وتشوف طلبات البيت وتمشي قبل ما يرجع.. ومش عايز اعتراض ))..

ضيقت عينيها فوقه تفترسه في توجس، تتساءل في حيرة لِمَ لم يبد أي رد فعل تجاه ذكرها المنزل والإيجار، فأخر ما تتوقعه هو عدم معرفته لهذا الشأن الهام والذي يصدف تدخل رفيقه وقريبه به، ولم تكن أفكارها عنه ببعيدة فسارع يقول في إرهاق يبغي بذلك صرف تفكيرها إليه :
-(( رحمة.. أنا حقيقي محتاج أخد المسكن وأدهن الكريم.. ومش هعرف مع نفسي ))..

اعتدلت سريعًا من نومتها متمتمة في اعتراض وقد بدأ الاحمرار يزحف فِعْلِيًّا إلى وجنتاها :
-(( مليش دعوة أتصرف ))..

حك جبهته بطرف إبهامه ثم قال في خبث مدعيًا القبول بعدما اعتدل في جلسته هو الأخر واحتل بجسده المكان الفارغ خلفها :
-(( خلاص مش مشكلة هاخد المسكن بس.. كده كده هنزل المستشفى ليحيى كمان شويه ابقي أشوف ممرضة هناك تساعدني ))..

اتسعت عيناها علي أخرهما حتى جحظت خارجًا، وفرغ فاه إلى أن ألمها فكها ثم هتفت في نبرة مختنقة متقطعة :
-(( نعــمم.. يعني إيه ممرضة دي بقي وتساعدك أزاي وعشان إيه؟!.. لا أدهنه مع نفسك ))..

مد ذراعه يجذبها إليه ويلصق ظهرها بصدره، ثم قال هامسًا في تسلية :
-(( طب مادام حبيبي بيغير ما هو أولى يساعدني ))..

ارتجف جسدها بفعل أنفاسه الساخنة اللافحة أذنها بجانب وجهها، يليه شعورها بشفاه حيث بدأت تتلمس شحمة أذنها، فسارعت تقول خانعة في تعلثم واضح :
-(( طب هساعدك تفك الرباط عشان حركة كتفك وأنت كمل الباقي ))..

توقفت شفتاه عن العبث باتزانها قبل أن يقول مستجديًا :
-(( طب أهون عليكي والدكتور موصيني بلاش حركة كتير ؟! ))..

حركت رأسها في نصف استدارة وطالعته بقلة حيلة، مستسلمة لطواف شفتيه فوق وجهها، قبل همسها اسمه متوسلة :
-(( طاهر ))..

همهم مجيبًا في حرارة :
-(( يا أرض طاهر ))..

ليس من العدل أبدًا لعبه على أوتار فؤادها المتيم بتلك الطريقة الظالمة لعذرية مشاعرها وجسدها، وإن لم تتسلح بأي شيء يقيها من جموح مشاعره الفترة القادمة، لن تصمد أمام غارة أخرى من غارات فمه الغازية بدنها، هذا أن أرادت الدفاع من الأساس، ومع القليل من مداعباته الحارة، وجدت نفسها تهتف بالموافقة على طلبه، ورغم علمها بما ستعانيه من ذلك الخضوع لاحقًا، لم يملك فمها ألا النطق بـنعم.



***************************

بادر بالانحناء وحملها حتى الفراش فور ملاحظته شحوب ملامحها وصعوبة حركتها، ثم وضعها فوقه برفق شديد يخشى آذيتها بأي حركة غير محسوبة قد تصدر من جهته فيتسبب في إيلامها، ثم أخذ يعدل من وضع الوسائد خلفها في اهتمام جم وداخله ينفطر حزنًا على حالها من جهة وعلي ما فقده من جهةً أخرى، كاتمًا جذوة حسرته بداخل صدره، بينما وقفت والدته عند باب الغرفة تتابع في حنق شديد، وقلب يكاد يتمزق بفعل الغيرة الحارقة عناية وحيدها المبالغ به من وجهة نظرها بشريكته، خاصةً وزوجته تلك أصبحت بلا فائدة بالنسبة إليها، إذ فشلت للمرة الثانية على التوالي في إنجاب وريث يحمل أسم العائلة ويضمن استمرار نسلها، ولم تكتفِ بذلك الفشل، بل راحت تتلاعب به وتحاول بكافة الطرق مستغلة طيبته وحبه في الوقيعة بينه وبين والدته، لذا هتفت تقول في حنق :
-(( حاسب على ضهرك أنت وسيبها تتحرك لوحدها.. هي سقطت معجزتش ))..

زفر بدر في قوة بعدما أنتهي من تمهيد الفراش حرصًا على راحة من ترقد داخله، مقررًا بعد اعتداله في وقفته الاستدارة وتجاهل حديث والدته أو التعقيب على طلبها اللاذع، إذ أخرج هاتفه وتظاهر بالانشغال بكتابة عدة رسائل كاذبة فوق شاشته، غافلًا عن حرب النظرات المشتعلة بين أهم امرأتين في حياته، وما تضمره إحداهما الأخرى داخل جوفها، ولم يلتفت سوى على صوت زوجته، إذ قررت إشعال الموقف بسكب البنزين فوق النار المتأججة بداخل صدر والدته، فهتفت تستنجد به في غنج، مدعية في مبالغة لم تخفي على من تراقب عن كثب كل حركة خبيثة صادرة عنها :
-(( آه بدر.. تعبانه مش قادرة الجرح هيموتني عايزة أرتاح ))..

لم يخيب ظنها أو توقعها، إذ سارع بإلقاء الهاتف بعيدًا عنه، ثم جلس قبالتها يسأل في لوعة ويده لا تكف عن مسح جبهتها وملامسة سنابلها الذهبية تحت أعين والدته الواقفة فوق صفيح ساخن تكاد من فرط السخط تنفجر :
-(( سلامتك يا حبيبتي.. تحبي أعملك حاجة طيب؟! ))..

لم تمهلها والدته تلك المرة فرصة الرد أو الادعاء أكثر حيث هتفت تقول وتُخرج ما في جوفها من سموم الكراهية والرفض :
-(( وهو حد مانعك ترتاحي.. ما رجعناكي البيت.. والسرير واديكي نايمة عليه.. يعملك إيه تاني ولا هو وجع قلب ليه وخلاص! ))..

تلك المرة كان هو من قرر التدخل واعتراض طريق مقذوفات والدته، والتي لم تتواني عن إلقائها في وجه زوجته منذ وصولها المشفى بالأمس غير عابئة بحالتها الصحية وما تمر به، فهتف يقول في إنهاك واضح :
-(( أمي من فضلك.. ممكن بعد اذنك تشوفي المطبخ محتاج طلبات إيه عشان أنزل أجببها.. معلش هنتعبك النهارده وأنتِ اللي هتطبخيلنا الغدا بإيدك الحلوة دي ))..

لوهلة ظن أنها لن تستجيب لطلبه، حيث بقت قدماها مسمرة بالأرضية، أما عن نظراتها فحدث ولا حرج، وبعد فترة من تمرير عدستيها بينه وبين "الأفعى الصفراء" كما لقبت زوجة وليدها الأول بداخلها، هتفت تقول في عدائية واضحة :
-(( ماشي.. وأنت نام وريح جسمك وسيبك من دلع البنات ده.. كفاية عليك من إمبارح شغال جري من هنا لهنا وياريته على فايدة.. متخافش عليها دي متربية على العيشة الصعبة مش ولادة اللي تعمل فيها كدة ))..

صاحبت إيماءة رأسه بالموافقة ابتسامة باهتة مودعة افترشت ثغره حتى اختفى طيف والدته من حولهم وقتها تحرك مسرعًا يغلق باب الغرفة من وراءها، موفرًا بفعلته تلك خصوصية لم تتاح لهم منذ البارحة، ثم عاد واستلقي بجسده جوار زوجته ثم قال في إنهاك واضح بعدما طبع قبلة مطولة فوق كفها :
-(( حمدلله على السلامه يا حبيبتي.. متعرفيش خفت عليكي أزاي إمبارح ))..

أسبلت أهدابها للأسفل، ثم قالت في مزيج من العتاب والدلال :
-(( يعني كان لازم يحصل كل ده عشان ترضى عني يا بدر؟! ))..

اقترب بجسده منها قاطعًا المسافة الصغيرة الفاصلة بين جسديهما، بينما تحركت هي الأخرى بقدر ما سمح لها جرحها حديث العهد تستند على كتفه القوي، وتستمع إلى صوته المتعب المتحشرج يقول مواسيًا :
-(( حقك عليا أنا غلطان.. خلينا ننسى كل اللي حصل ونبدأ صفحة جديدة من النهاردة.. ووعد هشيلك في عينيا ))..

اتسعت عيناها على أخرهما، وقد داعبت كلماته البسيطة غرور الأنثى بداخلها فهمست تستفسر في حماسة :
-(( بجد يا بدر؟!.. يعني أنت مش زعلان عشان الجنين مات زي ما حماتي بتقول من إمبارح؟! ))..

حاوط كتفها بذراعه وحدق في وجهها الذابل وشفاها الباهتة،ثم قال في صوت رقيق يتخلله النعاس :
-(( أفنان أنا بحبك.. أه نفسي أشيل ولادي منك بس أنتِ هتفضلي عندي أهم.. وعمري ما هسمح لكلام أمي يأثر على حبي ليكي أطمني.. دول ماحنا سوا أكيد الولاد هيجوا في وقتهم ))..

كانت شديدة الوهن، مستنفدة القوي، ذابلة الملامح، مع ألف احتمال واحتمال ضربا جوانب عقلها منذ خسارة البارحة وحرمها من النوم الهنيء، تخشي ملاقاة مصير من سبقتها لنفس السبب، ثم جاءتها كلماته وكأنها ترياق سحري اندفع بداخل عروقها فأعاد إليها إرادتها الواهنة، ومنحها نفس اصطناعي كانت بحاجته بشدة للاستئناف حرب لا يعرف الفائز بها مصطلح الرحمة.



****************************

وسط حالة من الصمت حيث أصبح السكون هو الصفة الغالبة على ساكني المنزل، جلس السيد أنور في مقعده المتحرك كحاله الدائم ساهم الفكر، واجم الملامح ، معتل المزاج، مثقل بمشاعر الحزن، والعجز، والقلق الجاثمة فوق صدره ولا يملك في الأخير سوي الجلوس هنا بمفرده حتى يأتبه البشير ويطمئن قلبه على حال ابنته وزوجها، ومع انغماسه في شعور الشفقة على الذات، فجأة اندفع باب الغرفة في حدة غير متعمدة أجفل جسده المتعب على أثرها يليه ظهور زوجته تقول معتذرة في ضيق :
-(( أنا أسفة يا أنور الباب فلت من أيدي وأنا بفتحه.. مكنش قصدي أفزعك ))..

نظر إليها وقد بدا لها مهمومًا ضعيفًا يحمل من الأثقال ما لا تقدر أكتافه الهزيلة على حملها قبل أن يهمهم متفهمًا في نبرة خافتة مقتضبة :
-(( متشغليش بالك يا كريمة بيا وطمنيني.. في خبر عن علياء أو يحيى ))..

سارت حتى جلست القرفصاء أمامه، ثم أجابته في نبرة حانية وكفها المجعد بتأثير الزمان يمسح على ساقه مواسيًا :
-(( لسه مكلمة جواد مفيش جديد.. قاعدين مستنينه يفوق.. ادعيله يا أنور وان شاء الله ربنا يستجيب منك ويطمنا في أقرب وقت ))..

تنهد طاردًا الحرقة المشبوبة في ثنايا قلبه وهامسًا في تضرع من أُغلقت سبل النجاة في وجهه :
-(( يارب قومه بالسلامة.. يارب متحرمهاش منه.. أنا ما صدقت يا كريمة تقابل حد يحبها ويتمسك بيها بالطريقة دي.. وعارف أنها بتكابر بس من جواها كلام تاني خالص ))..

تنهدت هي الأخرى تشاركه لوعة صدره وشحوب وجهه، مؤكدة حديثه :
-(( عارفة يا أنور.. دي بنتي وأنا أدري الناس بيها.. دي قبل الفرح كانت طايرة والابتسامة مش مفارقة وشها.. ومنطفتش غير بعد ما منها لله قريبته دي قالت اللي قالته وكسرت فرحتها.. إن شاء الله هيقوم بالسلامة وهتطمن عليها بس أنت ارتاح عشان خاطري.. متنساش أنك لسه خارج من المستشفى وأي زعل مش كويس عليك ))..

ابتسامة باهتة اعتلت ثغره وصاحبتها إيماءة طمأنة خفيفة من رأسه، بينما أردفت زوجته تقول في حبور كنوع من تلطيف الأجواء :
-(( أقولك حاجة تريحك شوية؟!.. جواد قالي أن رحمة روحت البيت مع طاهر وشكلهم كدة اتصالحوا الحمدلله ))..

تهللت أساريره واتسعت ابتسامته حتى وصلت تلك الابتسامة العذبة إلى عينه، ثم قال معقبًا في نبرة مرتاحة هادئة :
-(( أحمدك وأشكر فضلك يارب.. أنا كنت عارف طاهر مش هيسكت غير لما يرجعها.. كده نص مهمتنا خلصت يا كريمة وعقبال ما يصارحها بالباقي عشان ضميري يرتاح ناحيتها وناحيتك ))..

أسبلت أهدابها واعتلى ثغرها ابتسامة لازالت محافظة على رونقها الساحر رغم تقدم العمر، ثم قالت مستفسرة في دهشة خفيفة :
-(( لسة ضميرك تعبان بسببي يا أنور؟! ))..

أجابها في نبرة متحشرجة وقد تبرمت ملامحه واختفت الابتسامة من فوقها :
-(( ولا عمري هنسي أني في يوم كنت سبب في كسرة خاطرك يا كريمة حتى لو لهدف مساعدة غيري.. بس أنتِ بطيبة قلبك عطتيني فرصة تانية هفضل كل حياتي أحمد ربنا عليها.. وخليكي واثقة لولا موافقتك مساعدة طاهر ولا كنت نفذت طلبه ))..

همست بنبرة تفوح منها الوجل والتمني :
-(( أنسى اللي فات يا أنور وأقفل دفاترك القديمة.. طاهر وجواد وعلياء عندي واحد.. حتى رحمة اخدت غلاوتهم ومتمناش غير أني اشوفهم مرتاحين مع اللي بيحبوهم.. إن شاء الله يحيي يقوم بالسلامة ويرتاح بالنا من ناحية عالية.. ويتبقي جواد ))..

أنهت حديثها بالاستدارة والوقوف خلفه، ثم شرعت في دفع الكرسي المدولب للأمام نحو الخارج، بينما تمتم زوجها معقبًا في غموض :
-(( إن شاء الله.. لو اللي حاسه صح هنطمن عليه قريب ومش هو بس هو ولينة كمان ))..

كانت هي الأخرى تشاركه تلك الظنون الخفية، فقلب الأم لا يحتاج سوي لقاء واحد لمعرفة الأصلح، فما بالها بعدة لقاءات متتالية رأت فيهم ما يكفي للميل والقبول، ورغم حماستها مقاسمة والده ما يعتمل به فكرها وقلبها آثرت الصمت حتى يتخطى ولدها محنة الخديعة والفراق ووقتها يحين الحديث، لذا انحنت بجسدها أكثر تدفع الكرسي قائلة في تأني :
-(( ربنا يعوضه ويقدمله الأصلح ))..



**************************

انتهزت فرصة اختفائه داخل الحمام لتبديل ثيابه والاستعداد للخروج في الإجابة على اتصال صديقتها والتي لا تنفك تحاول التواصل معها منذ الصباح الباكر، وعليه تسللت على أطراف أصابعها حتى خرجت من الغرفة ككل ولاذت بالغرفة المقابلة لغرفتهم الأساسية تختبئ بها عنه، ثم بعدها ضغطت فوق اختيار معاودة الاتصال واستقبلت هتاف صديقتها القلق المندفع عبر سماعة الهاتف وهي تسألها في فضولها المعتاد :
-(( أنتِ فين بقالي ساعة بكلمك مش بتردي؟!.. معقولة نايمين كل ده ولا حصل حاجة المفروض أعرفها؟! ))..

ضغطت على حروف كلماتها الأخيرة في نبرة ذات مغزى جعلت حمرة الخجل تزحف إلى وجنتي رفيقتها إذ راح عقلها على الفور يتذكر الدقائق التي سبقت تلقيها ذاك الاتصال الهاتفي وكيف انتهز فرصة اقترابها منه ومساعدته في فك جبيرته الطبية في التودد إليها بطريقة أرهقت دفاعاتها، وأني لها وهي عديمة الخبرة في التصدي لمناوشات غزله المباغتة جسدها وفؤادها، لا لم تكن أبدًا مناوشات أو غارات، بل هي أقرب لعزف موسيقى من متمرس ماهر يعرف متى وأين يضرب بأصابعه فيخرج من آلته أشدي الألحان، أما عن قبلته فهي مقطوعة سحرية من عالم آخر، يجتاحها بفمه، بعطره، بأنفاسه، وشغف لمساته، ثم سرعان ما يتبدل ذلك الاجتياح إلى مداعبات ناعمة فتتحول تحت يديه إلى سحابة من حلوى السكر تذوب بفعل حراراة لمساته ولا ينتشلها من التساقط والتلاشي داخل فمه سوي طلب رئتيها للهواء، أعادها من شرود خيالها الجامح صياح غفران القادم من الجهة الأخرى دون توقف :
-((رحمة.. يا رحمة.. ألو يابنتي رحتي فييين؟! ))..

تنحنحت حرجة ثم قالت في هجوم كاذب تُخفي خلفه توترها :
-(( إيه بتزعقي ليه سمعاكي ))..

هتفت رفيقتها مؤكدة في ريبة :
-(( لا والله حالتك من إمبارح مش طبيعية.. متفكريش إني مأخدتش بالي من نظراتكم لبعض.. وايه موضوع الحادثة ده كمان قلتيلي هحكيلك وطنشتي.. أطلعي بالتفاصيل يا رحمة أحسنلك ))..

سحبت نفسًا عميقًا تحد به من ثورة قلبها الضارب أضلعه الحامية، ثم بدأت تقص على مسامع صديقتها كل ما حدث، بداية من شجارهم الأحمق حتى اعترافها بحبه وحتى اللحظات التي سبقت مخابرتها الهاتفية، بالطبع مع تعمد الإغفال عن ذكر تقاربهم الغير مكتمل فهذا شأنهم الخاص ومن المحظورات التي لا يجب على عاقل البوح بها، بينما استمعت غفران بإنصات شديد إلى كل ما تفوهت به رفيقتها، ثم بعدها هتفت تسألها في نبرة متباينة ما بين الدهشة والانبهار :

-(( رحمة.. طاهر عمل كل ده عشانك.. فداكي بالعربية.. وغير البيت كله على ذوقك عشان قرأ مذكراتك وهيحل موضوع مصطفى وسكنه غير طبعًا موضوع يحيى وعلاجك اللي أنا كنت عرفاه وكل ده وحضرتك بتقوليله مش مسمحاك على غيابك عني!!.. لا بجد أنتِ عبيطة ولا بتستعبطي!! ))..

هتفت تدافع في ارتباك من يملك الحجة الواهنة :
-(( بستعبط ليه بقى إن شاء الله؟!.. وبعدين متفكريش إني هسكتلك على حوار مصطفى وعلاج يحيى وانك كنتي بتبلغيه كل حاجه ها.. لما نتقابل لينا قاعدة طويلة ))..

واصلت غفران لعب دور الناصح هاتفة في قوة وكأنها صوت العقل أو المصباح المنير عتمة طريق صديقتها لإرشادها إلى حيث غايتها. متجنبة التعقيب عن الجزء الأخير من الحديث بالطبع :
-(( أه يا رحمة بتستعبطي ومش هجاملك وعشان استعباطك ده من الأول طبيعي كنت بطمنه عليكي.. ومعرفش سبب تمسكك بزعل مش موجود جواكي بجد كل ده ليه؟.. لو معرفش أنتِ قد إيه قوية كنت قلت عليكي واحدة جبانة بتداري ورا زعلها عشان متواجهش.. أنتِ كأنك خايفة تفرحي!! ))..

صمتت لوهلة وكأنها تقرء أفكارها وتعيد رسم الخطوط معًا لحل الأحجية ثم همست تقول في عدم تصديق :
-(( رحمة.. أوعى تكوني بتعملي كده عقاب ليكي وليه.. أوعى تكوني بتحرميه وتحرمي نفسك من الفرحة عشان تورطك في موت أخوه؟!!! ))..

جحظت عيناها للخارج من الفكرة الخاطئة المزروعة في عقل رفيقتها ثم هتفت تقول في ثقة :
-(( لا طبعًا أنتِ مجنونة.. أنا قفلت الصفحة دي خلاص ومبقتش شايفة غير طاهر في كل حياتي ))..

جارتها غفران فى الحديث عندما عاودت تسألها من جديد في فراسة :
-(( طب مش بتحبيه؟! ))..

سارعت تنفي مؤكدة في قوة ونبرة لا تحمل الشك :
-(( بحبه جدًا.. كنت حاسة أن روحي بتروح لحد ما أطمنت أنه كويس إمبارح ))..

كان الضغط هو الوسيلة المثالية لإعادة وضع صديقتها على طريق التفكير السليم، لذا استمرت في الشيء الوحيد الذي تُجيد فعله، إلا وهو الاستجواب والإقناع متسائلة في هدوء :
-(( يبقي أدينى سبب واحد بس مقنع يخليكي مترددة.. كفاية يا رحمة بُعد عشان صدقيني أنتوا الاتنين تستحقوا السعادة.. وحب طاهر ليكي مش محتاج إثباتات ولا كلام.. أه أنا فاهمة أنك عايزة تعاقبيه عشان بعد عنك بس هو أعترف بغلطه.. وأنتِ لو بتحبيه بجد مش هيهون عليكي عذابه.. وفي الأخر أنتِ كبيرة كفاية عشان تعرفي أمتي توقفي وأمتي تبدأي صفحة جديدة من حياتك ))..

أصابت كلمات غفران دواخلها بحديثها عن السعادة، كما استطاعت بفطنتها الوصول إلى النقطة الشائكة بداخلها، نعم فيبدو وأنها في طريقها لمعاقبته على ابتعاده عنها كل الأشهر المنصرمة، ستُعاقب معه بفقدان مزيد من الوقت بدونه، أنارت تلك الفكرة ثنايا عقلها كآتون متوهج بدد ظلام غضبها، وكعادة العقل البشري عند مواجهته بخطئه هتفت تقول في ارتباك مغيرة مجرى الحوار :
-(( سيبك مني وقوليلي أنتِ فين من الصبح كده؟!.. سامعة صوت عربيات ودوشة كثير جنبك؟! ))..

إجابتها في غموض دون الخوض في آية تفاصيل :
-(( الحرامية لما بيسرقوا بيتقابلوا لتقسيم سريقتهم.. ولو هي متورطة طبيعي هتقابل شريكها في أقرب وقت ))..

أبعدت رحمة الهاتف عن أذنها ونظرت داخل شاشته، ثم عادت ووضعته فوقها من جديد وهي تقول في استنكار :
-(( مالك يا غفران!!.. أنتِ بتقولي طلاسم؟! ))..

جذب عينيها وانتباهها توقف السياره الأجرة التي كانت تتبعها أمام مبنى أنيق، يليه خروج المعنية بمراقبتها ودخولها البناية فسارعت تقول في اقتضاب :
-(( أنا مضطرة أقفل دلوقتي سلام ))..

بالفعل أنهت المكالمة دون حتى وداع ثم قفزت من داخل السيارة الخاصة تتبع خطوات "جيداء" وداخلها ينتوي التأكد من شكوكها حتى تضع خطة لتفادي غدرها في المستقبل..



*****************************



بخطوات متمهلة وفكر شارد سارت داخل الممر الطويل الخاص بالطابق العلوي قاطعة المسافة الفاصلة بين الغرفة الاحتياطية التي اتخذتها مخبأ للتحدث مع رفيقتها بأريحية وغرفة نومهم المقابلة لها وصوت غفران الناصح لا ينفك صداه يتردد في دهاليز عقلها، وقد ألقت بأسئلتها الصريحة المباشرة الضوء على جانب الحقيقة حيث تخشي النظر بباطنه والاعتراف به، وَتِلْقَائِيًّا راحت تفتش داخلها عما امتنعت عن الإجابة عليه أما هاربة أو جاهلة، فمنذ البارحة وحتى الصباح الباكر تشعر وكأنها سقطت داخل حلم جميل وتخشي الاستيقاظ منه، ورغم ذلك هناك غصة بسيطة تعتصر قلبها من وقت إلى آخر وتحول دون اكتمال تلك السعادة دون أن تدري مصدرها، أو سبب علتها، تائهة، وحائرة، ولا تجد ملجأ لحالة الضياع التي تعتريها سوي ذراعاه، دونًا عن الجميع تحتاج إلقاء أوراقها أمامه عله يجد حل لمعضلة كرامتها التي تأن من وقت إلى آخر ترفض الانصياع الكامل إليه في مخالفة واضحة لرغبة قلبها في مسامحته وتقبل كافة أعذاره، كان هذا القرار الوحيد الذي توصلت إليه والطريق الذي قررت انتهاجه، ستتقبل قربه منها ومحاولته التعويض عنها حتى يُشفي جرح خذلانها منه كما وصتها رفيقتها فهما حَقًّا يدينان لحبهما بتلك المحاولة، أما عنه وكأنه شعر بحاجتها إليه في تلك اللحظة، فظهر أمامها من العدم يتقدم منها بعدما انتهى من هندمه ملابسه والخروج من الغرفة المقابلة وعينيه تأسرها بكافة تفاصيلها المحببة داخل عدستيه اللامعة في شغف، ومع تنهيدة عميقة حارة صدرت عنه، رفعت رأسها تطالعه ونبضات قلبها المفتون بحبه تهدر دون توقف، خاصةً ورائحة عطره تخللت حواسها المرهفة في ترقب لكل ما يصدر عنه، فحتى النظر إليه بات يبعث على روحها بالسرور فكيف بدلاله، ناهيها عن تودده ولمساته التي تكاد تصيبها بالجنون، وبتلك الابتسامة العذبة التي تصيب جهازها التنفسي بالشلل، قطع الخطوات الفاصلة بينهم ثم سألها بصوته الأجش بعد ملاحظته الهاتف في يدها، وقد اتخذت ذراعه موقعها في الحال نحو خصرها، يشدها إليه ويمنع ابتعادها عنه :
-(( كنتي بتكلمي مصطفى؟! ))..

ابتلعت لعابها بصعوبة تشعر وكأنها لا تستطيع مجاراته، فبمرور الساعات بل الدقائق بجواره ترى تصدع جدران مقاومتها أمام عينيها وبمباركةً منه، والأسوأ تلذذه بضعفها ذلك، ثم قالت في خفوت :
-(( لا دي غفران اتصلت تطمن.. هكلم مصطفى بليل إن شاء الله ))..

همس بحلاوة بعدما استند برأسه على جانب وجهها، مستنشقًا عطرها الآخاذ :
-(( طب اتفرجتي على البيت بعد التجديد ولا لسة؟! ))..

همست تجيبه وقد تعلقت عيناها بعيناه بعدما رفعت رأسها لمطالعته :
-(( أه.. بس مش كله ))..

بنفس القرب وحرارة الأنفاس وعذوبة النبرات، عاد يستفسر معاتبًا في نعومة ساخرة اضطربت معها خفقاتها :
-(( من غيري؟! ))..

متى أصبح قريبًا منها إلى تلك الدرجة، يا الله أنه حتى لا يترك متنفسًا بينهم، حتى أنهما صارا يتنفسان أنفاس بعضهم البعض، وكلما شعر برغبتها في الابتعاد ضيق حصار ذراعيه حولها وحرمها من فكرة الهروب، وهي ضعيفة، ضعيفة للغاية على صد مناغشاته، وبإرهاق عاطفي جم، همهمت تدافع قائلة :
-(( أنت كنت نايم بليل وتعبان وأنا مكنش جايلي نوم ))..

ابتسم وانهارت مع إشراقته أخر قطرات مقاومتها الهشة، ثم قال بصوته الذكوري الأجش ونبرته الخافتة وشفاه تقترب من أذنها، متعمدًا الاحتكاك ببشرتها الساخنة :
-(( ملحوقة.. لما أخف هفرجك على أوضة أوضه.. بطريقتي ))..

تعمد التمهل والوقوف على حروف كلمته الأخيرة حتى يترك في نفسها المعنى المقصود والأثر المطلوب، بينما همست هي في تعلثم تحاول الخروج من سطوة فرض هيمنته القاتلة على كافة حواسها :
-(( طاهر أحنا على السلم.. لو سمحت سبني لحد يشوفنا ))..

قال بأريحية رافضًا تحريرها :
-(( محدش موجود احنا لوحدنا.. أم الحسن مسافرة البلد من يومين عشان فرح أبنها ولسة هنقعد أسبوعين كمان.. يعني مفيش مهرب مني ))..

تعلقت بعدستيه مرهقة، وما بين تعب المقاومة ورغبة الاستسلام، تترنح من بر إلى بر ومن شط أهدابه إلى بحور عيناه الواعدة، استقرت نظراتها أمام فمه مستغلًا هو فرصة التراخي المطلة من داخل عدستيها في الهمس متوسلًا :
-(( طب مفيش واحدة بحبك يا طاهر ))..

قالت رافضة وهي تدفعه عنها في حركة عنيفة غير محسوبة من جهتها تألم على أثرها معبرًا عنه بأنين مكتوم فلت من بين شفتيه المضمومتين بقوة، فسارعت تتمتم معتذرة في ندم حقيقي :
-(( أنا آسفة والله مأخدتش بالي ))..

حرك رأسه في صمت مطمئنًا رغم احتقان ملامحه في دلالة واضحة على الألم الذي لازال يمر به، فاستطردت تقول في نبرة مختنقة حزينة :
-(( ياربببببي.. عملت إيه بس.. بجد أنا بني آدمة غبية مبتحسش ))..

قاطعها ناهرًا على مهل :
-(( متقوليش على نفسك كده ))..

هتفت تقول في حسرة وعيونها تلمع بدموع الأسف، بينما تشيح بكفها نحو صدره :
-(( لا غبية ودي حقيقة.. كفاية أساسًا أن كل اللي بتمر بيه دلوقتي بسببي ))..

ابتسامة خفيفة ماكرة بدأت بالظهور على جانب ثغره، قبل أن يقول مقايضًا ومستغلًا المتاح أمامه :
-(( لو ندمانة عوضيني ))..

رفعت رأسها في لهفة تحدق ببلاهة وملامح وجهها في حالة من الترقب الحسن وكأنها على وشك قبول طلباته حتى قبل النطق بها، بينما اقترح هو في طفولية :
-(( قوليلي بحبك وأنا هنسي التعب وأسامحك ))..

قالت في إصرار :
-(( لا أنت لسة متعاقب ))..

ارتفعت إحدى زوايا حاجبيه في استنكار صريح لم يتحرك به لسانه ولكن نضحت به ملامحه وأفكاره وبعد لحظات من السكون والتفكير قال متراجعًا :
-(( تمام.. طب تعالي قربي مني قبل ما أنزل ))..

أنهى طلبه بقطع الخطوات التي ابتعدها عنه فلم تملك سوي مهادنته وقد قررت إنهاء حالة المقاومة التي أنهكت مشاعرها والسماح له بممارسة ألاعيبه والطرق فوق سدود مقاومتها، حتى عندما عاود لف ذراعيه حول خصرها لم تبدي أي اعتراض، بل اتسع ثغرها بابتسامة خجلة لم تخف عليه، فأردف يقول في رضا ساخر وقد توهجت عيناه بلمعة انتصار صغيرة :
-(( مش بطال العقاب ده.. معاكي مسافة خطوتين دول أقصى مسافة تبعدي وتعاقبيني بينهم لحد ما ضلوعي اللي تكسروا بسببك دول يخفوا.. بعدها الباقي عليا ))..

قررت غض الطرف عن جملته الأخيرة وسؤاله معترضة في امتعاض ورأسها يرتاح في حذر فوق صدره المتعب :
-(( أنت بتستغل تأنيب ضميري صح؟! ))..

ترقق صوته وهو يجيبها هامسًا في نبرة عاشق أضناه الهجر :
-(( البعد علينا حرام ))..

وضع إبهامه أسفل ذقنها يدفع رأسها إليه، ثم أردف متابعًا بنفس النبرة العاشقة الخشنة وعينيه مسلطة على خاصتها اللامعة، بينما يشير بسبابة كفه الأخر في تساوي نحو مضغتيهما الهادرة دون توقف :
-(( قلبي وقلبك اتربطوا بخيط الحب.. لو واحد بعد لازم التاني يتجر وراه فين ما يكون.. ومش هيرتاحوا غير وهما في حضن بعض.. يبقي حرام علينا البعد ولا لا ))..

همست مستسلمة في نبرة أنثوية مدللة خرجت منها عفوية من شدة تأثرها بحديثه :
-(( يا طاهر ))..

غرق في عينيها قبل أن تنزلق نظراته لشفتيها ملبيًا النداء بهمس حار :
-(( يا وجع وراحة قلب طاهر ))..

كانت كل خلاياها تنتفض تأثرًا بكلمات التدليل الخارجة من فمه، وقد هاجم بكلماته أضعف ما فيها نحوه "قلبها" ،ثم تم غارته بالميلان واقتحام ثغرها الذي انفرج تلقائيًا لاستقباله، وبعد فترة من التحليق في عالمهم الخاص ابتعد عنها معطيًا المجال لرئتيها في التنفس، فبرغم توقه للغرق أكثر داخلهم لا يجب عليه نسيان حالتها الصحية، ثم قال بنبرة خشنة متحشرجة لازالت متأثرة بوصالهم :
-(( أنا لازم أخرج دلوقتي أروح الشركة مفيش حد يتابع غيري بس مش هتأخر.. ساعتين وهتلاقيني قدامك عشان نروح المستشفى وبعدها تتكلمي مع مصطفى منك ليه احسن من التليفون ))..

تنحنحت لتنقية حلقها والتغلب على خجلها من تقاربهم، ثم سألته قائلة في معاتبة خفية :
-(( الشركة اللي نقلت مقرها هنا وأنا معرفش ))..

قال في ابتسامة واسعة بعدما طبع قبلة مطولة فوق وجنتها :
-(( طب ومتعرفيش أني نقلت عشانك ))..

غمغمت في غنج فطري حيث طغى شعور السعادة عن أي شعور أخر وعليه بدأت تشعر بأنوثتها معه :
-(( أنت مبتقولش أي حاجة ))..

قال يراضيها وجبهته تستند على شطر وجهها :
-(( حقك عليا يا ستي.. صدقيني نطمن بس على يحيى وهقولك على كل اللي عايزة تعرفيه وتسمعيه عشان احنا فعلًا لازم نتكلم في حاجات كتير.. بس دلوقتي المفروض امشي ))..

ابتعد عنها مسافة ثلاث خطوات ثم أردف يقول بعدما توقف عن السير وعاد بإدراجه يطبع قبلة خاطفة فوق شفاها :
-(( أه وعلى فكرة.. أنا أقنعت جواد ننقل هنا عشان أخلص شغلي وأجي بسرعة أكمل يومي في حضنك.. زي ما هعمل دلوقتي وبعد شويه هتلاقيني قدامك تاني ))..

نهى حديثه بغمزة مشاكسة من إحدى عيناه رفرف معه قلبها كما ترفرف أجنحة الفراشات اشتهاءًا للضوء، فحتى وإن احترقت جناحيها يرضيها الاحتراق طالما كان في لهيبه هو.

***********************

على الجانب الأخر وداخل الصرح الزجاجي الأنيق، دلفت جيداء غرفة المالك بدلالها المعتاد ورأسها مرفوع في عتاد غافلة عمن تقصت خطواتها وتأكدت من جرمها، ثم قالت في تأفف بعدما وضعت حقيبة يدها الصغيرة ذات الماركة العالمية فوق الطاولة وجلست تضع ساق فوق الأخرى :
-(( أوووف.. من بليل سهرانة يادوب دلوقتي على ما عرفت أخلع منهم ))..

صمتت لثوانِ معدودة رفعت خلالها طرف بلوزتها الحريرية تشم رائحتها، ثم أردفت تقول في اشمئزاز :
-(( حتى ريحتي بقت كلها معقم ومستشفيات ))..

تابعها بعينيه ينتقل معها من ثيابها إلى وجهها، وشعرها حيث تخللت أصابعها خصلاته، ثم قال ساخرًا :
-(( هنقضي اليوم كله نتأمل في جمال الحلوة ولا إيه.. خلصي قوليلي أخر الأخبار وطمنيني عرفتي تجيبي التليفون ولا ))..

سلطت أنظارها فوقه قبل هتافها في عدائية صريحة :
-(( الأخبار زفتتتت.. مراته لازقة فيه من وقت ما الدكتور قال احتمال يدخل في غيبوبة.. ولا اللي اسمها غفران دي أعوذ بالله منها.. من بليل مش سيباني وعمالة تقول أنا السبب ومحدش قدر عليها غير اخو مرات يحيي.. غير البوليس اللي مستنيه يفوق عشان يحقق زي ما قلت فعلًا ))..

ضيق أجفانه فوقها ثم هتف يطلب في تركيز مترقبًا :
-(( لا تاني كده.. قوليلي غفران مالها ))..

حركت بؤبؤ عينيها في ملل صريح قبل أن تُعيد قولها مستنكرة :
-(( بقولك البوليس هيحقق وأنت اللي همك ست غفران!!.. الهانم يا سيدي كانت هتتهجم عليا وفضلت تتهمني.. لولا واحد أسمه جواد وقف بيني وبينها ))..

لمعت مقلتيها بانبهار صريح وهي تضيف في شماتة :
-(( كان لازم تشوفه وهو بيزعق فيها عشان تسبني.. واو بجد.. اللي كانت نافشة ريشها زي الطاووس اتقلبت ولا القطة المبلولة.. ومحدش عرف يوقفها ويهديها غيره.. لولا أني عارفة طبعها منك كنت قلت خافت منه ))..

صمتت مندهشة وكأن عقلها أخيرًا قد توصل للتفسير المنطقي للحدث فهتف تقول في حماس كمن عاد اكتشاف العجلة :
-(( أيوة صح.. خوف إيه بغبائي ده.. ده حضنها.. يعني الموضوع في حوارات ))..

جحظت عيني أبو المجد المتابع حديثها في تركيز ثم هتف يقول في استمتاع :
-(( الله.. كده اللعب أحلو.. يا سلام لو كلامك صح.. يبقي جيتي تحت رجلي يا غفران.. ركزي بقي وأحكيلي حصل ايه من الأول للأخر وعلى أقلللل من مهلك ))..

بدأت استجابة لرغبته في قص كافة ما حدث ورأته بأم عينيها البارحة، بداية من وصولها المشفى واتهام غفران الصريح لها، مرورًا بموقفها مع ذاك الجواد والأحاديث الجانبية الناعمة بينهم، حتى أخره، ثم تمتمت أخيرًا في تمنى :
-(( أه والنبى ياريت عشان أخلص منها.. أنا مش هقدر عليها هي ومراته سوا.. ألهيها عني بأي طريقة عشان أخلص نفسي وأجيب الأوراق ونكمل اتفاقنا.. بجد تركيزها معايا مخوفني ))..

عاد للخلف يستند بجذعه على ظهر مقعده الجلدي المريح، ثم قال في تفكير وهو يتأرجح به يمينًا ويسارًا :
-(( هشوف الحوار ده وراه إيه.. ولو شكك صدق يبقي المرة دي غصب عنها هتخاف وتتراجع.. سيبي الموضوع ده عليا.. المهم تجيبي التليفون بتاعه أو تخلصي منه ))..

قالت مؤكدة في إصرار :
-(( متقلقش.. التليفون مع مراته.. مستنيه بس تغفل عنه واخده.. اعتبره اتكسر من دلوقتي ))..

أومأ برأسه موافقًا في شرود قبل ضغطه على زر استدعاء مساعده الخاص يطلب منه في عُجالة وضع مراقبة مضاعفة على غفران، ووضع أخري احتياطية على ذلك المسمى جواد.



************************

بعد مرور يومان...

بعقل شبهه واعي وجسد مستنفذ القوي، وأجفان على وشك الانغلاق من شدة الإعياء والإنهاك، جلست كعادة الثلاث أيام السابقة، تحملق بذهن متلاشي إلى روحها الغائبة عنها، تترقب في شوق طال انتظاره فتح أهدابه وأراحه خلدها بالغرق في شعور الأمان داخل زمرديتان المتوهجة، فكم طال غيابه وطال معه عذابها، تُري هل يتركها تواجه مصيرها وباقي العمر بمفردها؟!، ومع رعدة قشعريرة قوية أصابت جسدها وامتدت على طول عمودها الفقري أغمضت عينيها بقوة تحاول التغلب عليها، بينما تحدثت غفران التي وصلت منذ دقائق ووقفت تتابع حالتها في حزن، تهمس في قلق إلى جواد الواقف جوارها منهك القوى هو الأخر على مسمع من علياء :

-(( يا جواد مينفعش حال علياء كده.. لازم ترتاح شويه.. قعادها هنا مش هيغير حاجة.. حتى أنت كمان محتاج جسمك يرتاح.. عشان خاطري خدها وروح وأنا موجودة مش هتحرك من هنا لحد ما ترجعوا ))..

سلط جواد أنظاره المتعبة فوق شقيقته، ثم قال في نبرة خفيضة مستفسرًا وقد لاقى حديث غفران هوي عقله :
-(( ها يا علياء.. أيه رأيك في كلام غفران ))..

رفعت رأسها تنظر إليه دون تعقيب رغم لين نظرتها، قبل أن تعود وتسبل أجفانها نحو الراقد فوق الفراش الطبي في ترقب، فاستغلت غفران هدوءها في السير إليها والانحناء نحوها قائلة في نبرة حانية مقنعة للغاية :
-(( علياء يا حبيبتي.. جواد بقاله يومين ب٣ ليالي رافض يسيبك لوحدك ويمشي.. وأكيد محتاج يروح يطمئن على لينة وباباكم اللي لسه خارج من المستشفى.. ده غير برضه أنكم محتاجين تغيروا هدومكم دي.. مينفعش عنادك ده.. طاوعيه انشاله ساعتين بس.. بدلي فيهم هدومك وخدي دش يفوقك وارجعوا تاني.. ولو حصل أي حاجة صدقيني هكلمك في لحظتها ))..

لانت ملامحها أكثر، فواصلت غفران الطرق فوق الحديد وهو ساخن، بينما يدها امتدت أسفل مرفقها تدفعها إلى أعلى وتحثها على الوقوف والحركة :
-(( يلا يا جواد.. خد علياء وأنا هنا.. مش هتحرك غير لما ترجعي وتاخدي مكانك جنبه ))..

كانت ممزقة ما بين الرغبة في إراحة بال شقيقها ولو قليلًا وما بين ذعرها من تركه بمفرده، حتى أتى جسد أخيها وشبك ذراعه بخاصتها متمتمًا في رغبة صريحة منه جعلتها تتنازل وتسير معه تقديرًا لإرادته وليس ألا :
-(( يلا بينا يا علياء.. أروح بس أطمن على لينة وعليهم في البيت وهرجعك تاني متقلقيش ))..

أومأت برأسها المتعب موافقة دون حديث، في حين راقبت غفران انصرافهم بنفسً مثقلة. خاصةً بعد تأكدها من تورط تلك الحرباء المتلونة مع عدوهم البغيض "أبو المجد" وقتما راقبتها ورأت بنفسها كيف خرجا الاثنان سَوِيًّا من البناية التابعة لمؤسسة المجد وضحكاتهم الرنانة تدوي من حولهم وكأن من ملقي في المشفي ليس قريبها ومن كان يومًا زوجها، وبعد فترة حانت منها التفاتة احتياج إلى رفيق العمل الراقد بالقرب منها متمتمة في تمنى :
-(( قوم يا يحيي.. عشان خاطري قوم خلينا نعرف نتصرف معاهم أزاي.. حقيقي محتاجلك معايا ))..

**************************



وفي منتصف اليوم حيث كانت غارقة في أفكارها الخاصة، تحاول وضع خطة محكمة للانتهاء من كابوس ذاك النذل الذي لا ينتمي إلى صفة الندرة بأي طريقة ممكنة، جذب عينيها حركة خافتة قادمة من فوق الفراش، فقفزت من مقعدها تتجه إليه وتنحني بجذعها نحوه، متمتمة في عدم تصديق :
-(( يحيى!!... يحيى أنت بتتحرك صح.. أنا مش بيتهيألي؟! ))..

أنين خافت صدر عنه للوهلة الأولى، قبل أن يفتح عينيه على مضض ويغمغم في نبرة خفيضة بالكاد وصلت إلى مسامعها :
-(( ع.. عل.. اء ))..

قالت تطمئنه في نبرة مختنقة مليئة بدموع الفرح، بينما كفها يرتجف من فرط الحماس وهو يمسح على كتفه ورأسه المضمد :
-(( علياء كويسه.. متقلقش كلنا كويسين مكنش ناقصنا غيرك ))..

تهدج صوتها مع نطق جملتها الأخيرة فسارعت في الاعتدال في وقفتها، تمسح بسبابتها عبرات الراحة المنسكبة من داخل عينيها مستأنفة القول في فرح :
-(( علياء هتفرح أوي لما أكلمها.. هي لسه ماشية من شويه.. يادوب راحت تغير هدومها وراجعة من وقت العملية متحركتش من جنبك ))..

بوهن شديد أومأ بعينه نصف إيماءة كعلامة استماعه على حديثها دون القدرة على التعقيب، بينما أردفت هي تقول في ارتباك والابتسامة تشق الطريق إلى ثغرها من بين دموعها المتساقطة :
-(( أنا بعمل إيه المفروض أروح أبلغ الدكتور أنك فقت أخيرًا ))..

ودون انتظار تعقيبه هرولت نحو باب الغرفة تزف البشرى إلى الطبيب وإلى من تنتظر في لهفة أي خبر قد يخمد النار المشتعلة في حناياه قلقًا عليه.

بعد ساعتين....

تركض ملهوفة الرؤى داخل الممر المفضي إلى الغرفة اَلْمُقِيم بها، ولأول مرة تشعر بثقل جسدها رغم عدم تجاوز وزنها الخمسون كيلو جرامًا، وكأنها مكبلة بمئات من الأوزان الحديدة التي تمنعها من الجري بكامل طاقتها وقوتها، تسبقها روحها العاشقة إليه، بينما قلبها ينبض سريعًا ضاربًا جوانبها ترقبَا لرؤيته رغم كل المخاوف المؤرقة مضجعها من حديث الطبيب المحذر، لا يكاد عقلها يستوعب إلى الآن الاتصال الذي وردها من غفران كي تخبرها في سعادة عما انتظرت سماعه، تريد رؤيته حتى تستكين خلجاتها، فمجرد النظر داخل عدستيه يسحبها إلى منطقة آمنة خاصة، مخبأ سري يختصها به دونًا عن الجميع، وبعد قطع أربع خطوات أخرى شعرت بهم أربعة أميال، كانت تقف أمامه تلتهم في جوع ملامحه المستيقظة أخيرًا، قبل أن تندفع بجسدها نحوه تجلس على مقربةً منه وتسد عنه رؤية ماعداها، بينما يدها تتحرك في توق إلى كفه المفرود فوق الفراش تحتضنه وتضغط فوقه بقوة متمتمة في اشتياق :
-(( يحيى..... ))..

جاهد للحفاظ على ملامح وجهه جامدة أمام فيض المشاعر المنسكب من ملامحها، يحارب شياطينه الموسوسة له بالانتفاض وسحبها داخل أحضانه ورمى ما دون ذلك عرض الحائط، وبدلًا عن ذلك جلس كما هو يمرر مقلتيه فوقها في نظرة خالية، ألا من كفه التي ضغطت على كفها بالمثل في ترحيب صامت متبادل، مقاطعًا تواصلهم اللحظي صوت جواد يقول مرحبًا من الخلف :
-(( حمد لله على السلامة يا يحيى.. قلقتنا عليك ))..

مرر نظراته بين وجوه الحاضرين الثلاثة على مضض، زوجته ومن سرقت قلبه مُذ النظرة الأولى، شقيقها ورفيقته المخلصة، يحاول جاهدًا النطق بما لا يطاوعه به قلبه، قبل أن يتشجع ويسأل مستفسرًا في هدوء :
-(( الله يسلمك.. أنا آسف على سؤالي.. بس أنتوا كمان قرايبي ولا زمايل من الشغل زي الأستاذة غفران ؟! )).


شيماء_يوسف غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
زواج، حزن، مكيدة، جريمة، غيرة، حب، رومانسية، ألم،انتقام

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 04:42 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.