شبكة روايتي الثقافية

شبكة روايتي الثقافية (https://www.rewity.com/forum/index.php)
-   الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء ) (https://www.rewity.com/forum/f118/)
-   -   رواية غصون متأرجحة (1).. سلسلة بين رحى الحياة *مميزة ومكتملة * (https://www.rewity.com/forum/t472286.html)

heba nada 02-08-20 12:49 AM

رواية غصون متأرجحة (1).. سلسلة بين رحى الحياة *مميزة ومكتملة *
 



https://upload.rewity.com/uploads/154089255098181.gif



رواية غصون متأرجحة بقلمي

https://upload.rewity.com/do.php?img=164994




موعد التنزيل السبت من كل أسبوع في الحادية عشر مساءً بتوقيت القاهرة بمعدل فصلين


إهداء


إلى توأمتيّ قلبي اللتين قالتا لي يوما أُكتبِي قبل أن يخط قلمي حرفًا

إلى صديقاتي اللائي دفعنَني دفعًا لأكتب وقت أن حان السرد

إلى أولئك اللاتي آمنّ بقلمي قبل أن أؤمن أنا
إلى كل من قالت لي أنت تستطيعين حين قلت لا أقدر
أُهدي لكن هذا العمل



*********
https://k.top4top.io/p_1736i0n8r0.jpeg

https://l.top4top.io/p_1736cac7q1.jpeg

https://a.top4top.io/p_1736i1uss2.jpeg

https://j.top4top.io/p_1736n72bz0.jpeg

https://k.top4top.io/p_1736g7z9u1.jpeg

https://l.top4top.io/p_1736d9s452.jpeg

https://a.top4top.io/p_1736tug0x0.jpeg

https://b.top4top.io/p_1736i48981.jpeg

https://c.top4top.io/p_1736mhg753.jpeg

********



المقدمة

عشق

هو ذاك الذي ينغرس كنبتة بقلبك دونما تدرك فيجتاحك، تصير النبتة وارفة تحتضن كيانك فلا تدري أتربتك الخصبة من أنمتها أم رواها صاحب الغرس .

انكسار

دون إرادتنا تصفعنا الحياة فمنا المستسلم و منا المقاوم و لا عزاء للضعفاء.

فراق

بعضه بذنبٍ اقترفناه
بعضه بقدرٍ كُتب علينا
و بعضه منحة لا نعلم مرماها

قهر

ضاقت السبل و ما سبيل للنجاة
أو هكذا نظن حين نركن للظلم



حب

هو ما نحتاجه لنمنحه،
هو ذاك السحر الذي يضمد جراح،
يسكن آلام
يدفعنا رغما عنا للأمام.

ثورة

من رحم الظلم تولد
و بنبتة حب تروى
و بالإرادة تنمو.

ألم

و ما أقساه حين يصيب نطفة القلب فتعجز عن مداواته،
جل ما ترجوه أن تشاطره الوجع.

وحدة

رغم صخب الحياة تجتاحنا،
نمل الجمع حولنا و يغرق القلب بعزلته بحثا عن مؤنسه




أمل

به نحيا و دونه الموت
و ما أقساها من حياة دونما أمل

صمود

و خلف كل حكاية قصة صمود لن يدركها إلا من خاضها.

***



البداية

لكل شيء بداية...
و للبداية دائمًا سحر...
فبداية الحياة ميلاد...
و بداية الرواية فكرة...
بداية النجاح طموح...
و بداية الحب نظرة...
نظرة .. هي تلك التي تخبرك أن هناك شيئًا ما يخصك في تلك العينين ...

يخصك أنت و فقط

سحر البداية لا تدركه إلا عندما تعترف بالسقوط في أسر الحب

و هي لا تنسى أبدا أول نظرة...
أول كلمة ...
أول لمسة ...
أول قبلة ...
و لكل أول دائما سحره الخاص

ذلك الشعور الأول عندما وقعت بأسر صاحب العينين العسليتين شاب وسيم قمحي البشرة ذو جسد رياضي

لا تنسى تحديقه بها فالحال لديه لم يكن بأبعد منها عندما رآها لأول مرة بعينيها الخضراوتين ، بشرتها البيضاء الناعمة أنفها الدقيق فمها الصغير بحجابها البسيط و قد شعر أنه لم يرَ في حياته مثالًا حيًا للنعومة و الرقة مثل تلك الجالسة أمامه...
خجلت من تحديقه بها فأخفضت عينيها وتخلصت من أسر عينيه و سألت:
-أقدر أخدم حضرتك بإيه؟!
انتبه وهو يشير لمكتب زميلها المقابل لمكتبها دون أن تحيد عيناه عنها:
-أشرف ...
تنحنح فأجلى صوته و تخلص من ارتباكه
-أشرف موجود؟
-أيوه، هو بيخلص أوراق فوق و جاي تاني، اتفضل حضرتك انتظره
فجلس أمام مكتب صديقه و أكمل مهمته في تفحص تلك الرقيقة و كم ابتهل إلى الله حتى لا يأتي أشرف الآن و يا ليته لا يأتي أبدًا ويظل هو على جلسته أمامها لكن بالطبع خاب ظنه و أتى صديقه و اصطحبه للخارج
و لم تكن آخر زياراته لأشرف و مكتب أشرف و زميلة أشرف
حتى فاتحها يومًا برغبته في التقدم لها لتتم الخطبة التي لم تطل فما إن ارتبطا حتى شعر كل منهما أنه قد وجد نصفه الآخر و لم يكن هناك بُدًا من التعجيل بالزواج و ها هي بعد عشر سنوات كاملة أثمرت عن طفلين هم كل حياتها لازالت تتذكر
سحر البداية ...

الفصل الأول
مع إشراق شمس كل صباح يدور دولاب الحياة
ووسط زحام شوارع القاهرة يسبح كلٌ في فلكه
يلهث خلف مبتغاه و ما بين كهل أرهقته السنون
و طفل غاية مراده قالب حلوى من يديّ أمه
كان هو يدور في دوامته الخاصة التي اختارها لنفسه و عن طيب خاطر.
أن تكون ربًا لأسرة صغيرة و رب لعمل ينمو بثبات و أنت لازلت في أواخر عقدك الرابع فهذا يعني أنك شاب ناجح و رجل يعتمد عليه و هو كان كذلك شخصًا نادرًا اسمًا و صفةً
نادر الكيال... المهندس الشاب ذو الثمان و الثلاثون عاما طموح لأبعد الحدود الحياة بالنسبة له تعني النجاح و فقط و نتيجة لطموحه و بعد تأسيس حياته الأسرية مع من اختارها قلبه كان قد اتخذ قراره بترك عمله و إنشاء شركته الخاصة
مخاطرة ... نعم هي كذلك لكن كيف له الوصول للقمة دونها
و هو اعتمد على مدخراته القليلة، خبرته الكبيرة و إتقانه اللا محدود لعمله و قبلهم زوجة محبة مؤمنة بطموحه داعمة له في كل خطوة
و هكذا لم يدخر جهدًا و أفنى وقته فعليا في عمله لإنجاح شركته و زيادة رأس ماله حتى حولها من شركة صغيرة إلى متوسطة في بضع سنوات بل و تناطح الشركات العملاقة ذات الباع في سوق الأعمال
و لكن هل للطموح حدود ؟!
بالطبع ليس مع نادر الكيال فهو يسعى لتحويل شركته إلى واحدة من كبرى شركات توريد المعدات الهندسية في مصر و ربما في الشرق الأوسط
و هكذا كانت حياته تدور في فلك شركته و أسرته الصغيرة.
اتجه إلى منزله سريعًا يبدل ملابسه فهو لديه مقابلة عمل هامة يجب عليه اللحاق بها و ما إن فتح باب بيته حتى اندفع ملاكه الصغير لأحضانه متعلقًا برقبته طالبًا للعبته الجديدة التي وعده بها والده
ـ نوري أنا وعدتك أني أجيبها يبقى اعتبرها عندك بس ما تزعلش ماما
قالها و هو يطبع قبلة على وجنة صغيره و ينزله أرضًا ثم اتجه لحجرة طفلته الكبرى
نادين صغيرته ذات التسعة أعوام النسخة المصغرة عن والدتها و الوحيدة القادرة على منافستها في قلب نادر ورثت عنه قمحيته فقط لتمتلك عيني أمها الخضراوتين ونعومة خصلاتها البنية فسكنت قلبه أميرة متوجة جوار ملكته
ـ فين ماما؟؟
سألها نادر و هو ينحني يملس خصلاتها بكفه و يطبع قبلة على جبينها و بكفه الأخرى يمنحها نوعها المفضل من الشيكولا التي التقطتها الصغيرة من يد والدها بسعادة
ـ بتعيط في أوضتها!
كانت إجابتها مع رفعها لكتفيها دليلًا على عدم الفهم و هو ما أزعج نادر، اندفع إلى غرفتهما فوجدها جالسة بركنها المفضل حيث أريكتها المريحة أسفل النافذة و أشعة الشمس المتسللة من الزجاج تعكس بريق اللؤلؤ في عينيها تضم قبضتيها فوق حاسوبها اللوحي المستريح على ساقيها و قطرات الدموع تشق طريقها ببطء على وجنتيها ، انخلع قلبه لمرآها والتهم المسافة الفاصلة بينهما بخطوات سريعة و لهفته بادية بسؤاله :
ـ نسمة مالك ، بتعيطي ليه؟

رفعت نظرها إليه وأجابته من بين دموعها
ـ حمزة مات!!!
ثم كزت على أسنانها غيظا و هي تضيف:
ـ حذيفة روحه اتحبست هناك على الجبل!!
صدمه ما تهذي به فهو لم يفهم شيئًا مما قيل، اقترب أكثر بينما يميل عليها قليلًا مستندًا بكفه إلى ظهر مقعدها
ـ مين دول ، نعرفهم ؟!
كان لابد من سؤالها لتأتيه الإجابة الأغرب على الإطلاق
- دول ولاد عبد العزيز ...
ثم تذكرت الأخرى وأكملت وصلة بكائها لتزيد من حيرته:
ـ ليلى ملهاش ذنب في كل ده
شردت بنظرها قليلا في الفراغ و أكملت كأنها تهمس لنفسها:
ـ بس غبية و مدلوقة
ثم مالت برأسها قليلا مكملة بغيظ لا يعلم سببه و كأنها تقرع شخصًا وهميًا:
ـ في واحدة تروح لشاب بيته ؟!
ظل يطالعها بينما تتبدل من البكاء للشرود متتبعا همساتها الغير مفهومة بالنسبة له ،هل تنوي أن تذهب عقله أم ماذا
- و يطلع مين عبد العزيز ده كمان ؟!!
سأل بتوجس و قد شعر أنه على وشك الفهم لكنه كان يخبر نفسه بأنه بالتأكيد مخطئ لابد وأنه مخطئ قبل أن تؤكد شكه و تجيب ببراءة طفولية:
ـ عبد العزيز بطل أنوار و جيران القمر
هل يجوز قتلها الآن؟؟
استقام بظهره و زفر محاولًا تملك غيظه
ـ إيه !!... بتعيطي علشان بطل في رواية؟!!
ـ ده مش أي بطل....
ثم اكملت و عيناها تهيم عشقًا بالمجهول:
- ده زيزو...حاجة كده وهم
- زيزو....!!
استنكار.. غيرة.. جنون.. لا يعلم لكنه قد اكتفى من هذا ، هل تعاني زوجته من مراهقة متأخرة
زفر بغيظ مشيرًا لها بسبابته و يؤكد على كل كلمة ينطق بها ببطء:
ـ أول و آخر مرة تتكلمي عن حد بالاسلوب ده
ـ مين ده اللي وهم
رفع صوته بجملته الأخيرة و أولاها ظهره
فابتسمت من بين دموعها و دارت حوله تستند بكفيها إلى صدره و تقول بدلالها المعهود:
ـ أنتَ بتغير من خيال؟
ارتخت قسمات وجهه ناظرًا إلى عينيها وطبع قبلة على جبينها بينما يزيحها عن طريقه مربتًا على كتفها:
ـ طيب حاسبي بقى علشان أبطالك دول أخروني
قالها و هو يبدل ملابسه على عجل لتسأل
ـ مستعجل ليه ، و رايح فين ؟
هو يكره هذا السؤال و هي تعلم لكنها تشاكسه كعادتها
فنالت نظرة عتاب بطرف العين و نبرة مؤنبة بينما يكمل إحكام أزار قميصه:
ـ أنتِ عارفة إني بكره السؤال ده
تخصرت و أجابته مبتسمة بدلال:
ـ وأنتَ عارف إني لازم أقوم بدور الزوجة المصرية الأصيلة و اسأل
ابتسم بعذوبه وأخبرتها نظرته أنه قد فهم مشاكستها و لم تنل الإجابة و ما كانت تبحث عنها فهي تعلم أنه سيخبرها لاحقًا دون سؤال، اتجه خارجًا من المنزل و همس لها قبل مغادرته:
ـ بكرة ..هنسيب الولاد عند أمي و نقضيه مع بعض
ثم غمز لها بعبث واختطف قبلة من وجنتها و انصرف
***
الصمت،
ربما يكون علامة الألم
العجز،
أو قلة الحيلة
و هي أنثى اتخذت الصمت درعًا واقيًا
اعتادته حد الإدمان
احترفته للهرب من كل ما يواجهها.
أن تحيا أنثى منذ نعومة أظافرها في منزل مليء بالصراع؛ أب متسلط فظ بخيل بالمال و المشاعر لم تحظى يومًا بحنانه و احتوائه و كم تمنت أن يأخذها بأحضانه مثلما كانت تسمع من صديقاتها و أم ضعيفة كسيرة الجناح بلا عمل و لا أهل مضطرة لتحمل غلظة زوجها وتعنيفه بل و في أكثر الأحيان اعتداءاته البدنية عليها.
فإما أن تصبح أنثى قوية رافضة لما حولها أو تتحول لنسخة من تلك الخانعة
و هي لم تتقن يومًا دور القوية فتحولت لأخرى مشوهة تبحث عن الخلاص من جحيمها في أقرب فرصة
و الفرصة تعني زواج و الزوج كان فتى الأحلام بمواصفات قياسية لا يمكن رفضها
شاب جامعي من أسرة مرموقة، والده يمتلك شركته الخاصة و بالطبع يعمل معه فلا وريث غيره مع أم و أخت وحيدة فمن تلك التي تملك الرفض ليتم الزواج في غضون شهر
فالعريس جاهز تمامًا و خير البر عاجله؛
كان رأي والدها و ما اتفق عليه مع عريسها
فمن تملك حق التأجيل و دعاوى التقرب من زوج المستقبل من يلقي لها بالًا
لتصطدم بواقعها بعد انتهاء إجازة شهر العسل فزوجها لم يكن سوى نسخه عن والدها سليط اللسان غليظ القلب جارح الكلمات دومًا و مع أول عراك كانت أول صفعة و شكوى للأم و كانت النصيحة:
ـ لا أنتِ أول ولا آخر واحدة جوزها يضربها

و مع ازدياد الضغط و عندما فكرت بالانفصال كان الرد:
ـ عيشي و حافظي على بيتك معندناش حاجه اسمها طلاق
وهي من كانت تظن أن أمها لن ترضى لها بمثل الهوان الذي عاشت فيه لكنها مخطئة فمرت السنوات و ازدادت الاعتداءات ومع تأخر الحمل الغير مبرر من الأطباء أصبح رد الأم:
ـ أحمدي ربنا إنه مستحمل عدم الخلفة لحد دلوقت واحد غيره كان اتجوز عليكِ ولا طلقك
و بعد ما يقرب من ثمانية أعوام يشاء الله أن يهديها سببًا للحياة؛ جنينًا لم تصدق وجوده عندما أبصرت الخطين الورديين بذاك المستطيل الأبيض و خرت لله ساجدة تلهث بالحمد و الشكر أن منّ الله عليها أخيرًا بنعمة الأمومة

و الأمل الذي راودها بتحسن معاملة زوجها لها ربما كان غضبه بسبب تأخر الإنجاب
ربما..
منذ متى تخضع أخلاق الإنسان لربما..
فقد خاب ظنها و لم يتغير شيء؛ ظل زوجها على سلاطة لسانه و غلظته و إن كان رحمها من اعتداءاته البدنية و كانت ممتنة لطفلها بسبب ذلك و مع عدم جدوى الشكوى لأمها آثرت الصمت و أصبحت مكالماتها شبه اليومية لصديقتها ريم هي سلواها الوحيدة
ـ أنا مش عارفه يا هند أنتِ مستحملة العيشة معاه إزاي
- الكلام ده لو كان ينفع زمان فمبقاش ينفع دلوقت، خلاص هيبقى فيه طفل و يمكن لما يشوف ابنه قلبه يحن و يتغير
أتاها صوت باب بيتها يُفتح فعاجلت صديقتها:
- معلش يا ريم مضطرة أقفل دلوقت حسام شكله وصل
اغلقت الهاتف سريعا دون انتظار رد صديقتها ليأتيها صوته زاعقًا
-أنتِ يا هانم؟
نهضت متوجهة صوبه وهو يكمل فور ظهورها بمحيط نظره:
-حضريلي البدلة الكحلي بسرعة عندي اجتماع مهم
هزت رأسها موافقة دون رد و أولته ظهرها عازمةً على تنفيذ أمره ليتبع:
-و صاحبتك اللي اسمها ريم دي آخر مره تكلميها مفهوم
ذهلت عيناها و تجمدت مكانها لا تقوى على الالتفات لمواجهته ، هل سمعها ؟؟
لا تقوى على السؤال خائفة لا بل مرتعدة أمامه فأكمل بغضب:
ـ بقى أنا يمكن لما أشوف ابني أتغير !!
أقترب منها وعيناه ترسل شرارات غضبه:
طيب أعملي حسابك أني مش هتغير و شوفي بقى هتعملي ايه أنتِ هنا خدامة و بس، أكتر من كده مفيش، كل مهمتك تشوفي طلباتي علشان أرضى عنك بدل ما أرميكِ لأهلك اللي ما صدقوا خلصوا منك
أنهى حديثه الغاضب وهو يبدل ملابسه و ينصرف
و هي رغم دموعها و جرح كرامتها الذي اعتادته لا تقوى على النطق فقط هزة رأس موافقة وحسرة على حياة كانت تتمناها لكن يبدو أن لقدرها رأيًا آخر
و أخيرًا مع صفعه للباب سمحت لدموعها بشق طريقها الذي حفظته على وجنتيها
تربت على بطنها بحنان كأنها تهدهد طفلها الذي لم يرَ النور بعد
تعتذر عن قدره أن يولد لأم ضعيفة لم تكن تتمناها له و أب قاسٍ أساءت اختياره أو تحديدًا هي استسلمت بمنتهى البلاهة للخيار المفروض عليها


***

الطموح..
حق مشروع لكل إنسان في الحياة و بالنسبة لنادر الكيال هو الحياة.
جالس بمكتبه منغمس بالكثير من الملفات الهامة لا يدري لمَ يرغب في مراجعة كافة أعمال شركته في السنوات الأخيرة بنفسه، لديه شعور قوي بعدم الراحة و لا يعلم مصدره تحديدًا لكنه يريد أن يكون على دراية بكل صغيرة و كبيرة يراجع كل شيء علّه يجد خطأً ما كان غافلًا عنه، يكاد صداع رأسه يفتك به لكنه لا يرغب بالتوقف، رفع سماعة هاتفه الداخلي مخاطبًا سكرتيرته:
ـ أروى ابعتيلي مهندس محمود حالًا
ـ حاضر يا باشمهندس نادر
طرقات خافتة على باب مكتبه فأذن للطارق بالدخول:
ـ خير يا باشمهندس حضرتك طلبتني؟
كان سؤال محمود لنادر الذى أشار له بالجلوس قبل أن يبدأ كلامه:
ـ أيوه يا محمود أنا عايزك تسيب كل الشغل اللي في ايدك ، وزعه على زمايلك و تركز في مناقصة شركة الحديد و الصلب مش عايز أي غلطة
نهض عن مقعده و أولاه ظهره يطالع الطريق المزدحم عبر زجاج النافذة قبل أن يضيف بتقرير:
ـ المناقصة دي متوقف عليها حاجات كتير و شركات كبيرة عنيها عليها
اومأ محمود برأسه متفهما:
ـ متقلقش يا باشمهندس إن شاء الله المناقصة بتاعتنا
التف مرة أخرى يواجهه و تقدم للأمام يستند إلى حافة مكتبه بكفه و يشير بسبابة للآخر مؤكدًا:
ـ ليك مكافأة كبيره يا محمود لو ده حصل و لما تخلصها تجيبها لي هراجعها بنفسي و مش محتاج أقولك إن مفيش مخلوق غيرك يعرف حرف من المكتوب فيها
ـ تمام يا باشمهندس
قالها محمود و هو ينصرف لتنفيذ طلب رئيسه على وجه السرعة تاركًا الآخر غارقًا بأفكاره.

***

في مجتمعنا لايكفِي أن تكون الأنثى مهذبة و ذات خلق
لا يكفِي أن تكون ناجحة في عملها
لا يكفِي أن تصل لأعلى المراتب العلمية بأحد أرقى الكليات
كل هذا لا يكفِي لتُعامل كأنسان كامل
طالما أن بنصرها الأيسر لم يُحط بحلقة أحدهم الذهبية
فهي دومًا في نظر الجميع أنثى ناقصة
لا يهم إن كان أحدهم هذا غير كفء لنيلها

لا يهم إن كانت لا ترى نفسها زوجة له
لا يهم حتى إن كان طامعًا فيها
كل هذا لا يهم
المهم أن تحظى بلقب زوجة ليعلن الجميع اكتمال أنوثتها.
أتاها صوت أمها من خلف باب غرفتها المغلق يطلب الإذن بالدخول و هو ما منحته لها على الفور،
جلست السيدة رقية باستحياء على حافة السرير المقابل لمكتب ابنتها
رفعت ريم أنظارها عن حاسوبها الذي كانت تنهي عليه بعض الأعمال المتعلقة بعملها
جلسة أمها المتوجسة أمامها أخبرتها أنها ربما ستسمع ما لا يعجبها كالعادة

انتظرت قليلا لكن التردد بدى واضحًا على والدتها لتبادر بسؤالها
ـ خير يا ست الكل شكلك عايزة تقولي حاجة؟
نفضت رقية توترها و أخرجت ما في نفسها ولهجتها يشوبها بعض العنف
ـ خالتك شكرية جيبالك عريس و هييجي يقابلك بكره
انتفضت ريم واقفة بعنف
-هييجى يقابلني من غير ما تاخدوا رأيي!!
اعتلى وجه الأم علامات الضجر من دلال ابنتها:
ـ الراجل نازل إجازة من شغله أسبوعين و مستعجل عايز يلحق يكتب قبل ما يسافر
- يكتب!!!!
كانت زعقة ريم المستنكرة
حاولت أمها تخفيف حدة المفاجأة فهي تعلم أن موافقة ابنتها تقترب من المستحيل لكنها لن تكُف عن محاولاتها لتزويجها و الاطمئنان عليها كما تتمنى،
اتجهت لريم تربت على كتفها بحنان و تجلسها على مقعدها مرة أخرى
ـ أقصد يعني لو حصل نصيب ووافقتي هيكون عايز يكتب الكتاب علشان يخلصلك ورق السفر
رفعت ريم نظرها لأمها باستفهام لا يخلو من عتاب
- سفر !!!
ـ العريس شغال محاسب في الإمارات و لو حصل نصيب أكيد هتسافري معاه
يبدو أن أمها لن تتوقف عن إدهاشها
طالعت الفراغ أمامها تثَّبت نظرها على نقطة وهمية و تقرر
ـ ده أنتوا متفقين على كل حاجة بقى و أنا آخر من يعلم
قالتها ريم بصوت متألم و ضحكة ساخرة أقرب للبكاء قبل أن يلين صوت أمها:
ـ ولا متفقين ولا حاجة هو قال كل ظروفه لخالتك و هى قالتلي
- و إيه بقى كل ظروفه دي؟
كان سؤال ريم و هي تكاد تجزم أن بقية الحديث لن يروق لها فأجابت أمها بتردد:
ـ مُطلق و ولاده عايشين في مصر مع أمهم
كادت أن تتميز غيظًا لكنها حثت أمها على مواصلة الحديث و سألتها بتحدٍ:
ـ كملي يا ماما عنده كام سنه؟
تراجعت رقية للخلف بارتباك واضح تخفي وجهها عن ابنتها بينما تلقي بآخر ما بجعبتها دفعة واحدة:
ـ 52 بس خالتك بتقول ميبانش عليه سنه
فغرت ريم فاهها صدمة قبل أن تهمس:
- ده أكبر مني ب 18 سنه
تكاد لا تصدق أن رغبة أمها بتزويجها تدفعها للتنازل عن الحد الأدنى من التكافؤ المطلوب،
ربتت أمها مرة أخرى على كتفها منهية للحديث:
ـ قابليه بكرة ومفيش حاجة هتحصل بدون موافقتك
وانصرفت تركتها لأفكارها و ما تتجرعه من ألم لا تدري ما يتوجب عليها فعله حتى تستطيع عيش حياتها كما اختارتها
هل يجب عليها أن تحظى بلقب زوجة حتى و لو كانت تعيسة لمجرد أن هذه رغبة كل من حولها
و ماذا عن رغبتها هي، ألا قيمة لها ؟
ألا يكفيهم ما وصلت له من منصب كدكتورة في الاقتصاد بكلية الاقتصاد و العلوم السياسية
ألا يرون ما تحظى به من مكانة بين زملائها و حب طلابها الذي يحاوطها
كيف لا يكفيهم كل هذا و تظل بنظر الجميع مجرد أنثى مضى بها قطار العمر فعليها التنازل و الرضى بالموجود فلم تعد تملك رفاهية الاختيار كفتاة صغيرة.

***



ما أجمل أن تجد امراة
تتلاشى فيك و تسكنها كطيور النهر
و تراها ترقص فوق الموج
كأغنية عانقها البحر
تخفيك ضياءًا في العينين
و تسمعها كدعاء الفجر
و تخاف عليك من الدنيا
و من الأيام و غدر الدهر

فاروق جويدة


ما بين الطموح المشروع و التنافس الغير شريف يشعر أنه يسير على حد السيف و القلب يتوسله التراجع و العقل يمني بمستقبل أفضل و يدفعه للمضي قُدمًا فيما عزم عليه غير مكترثًا للمخاطر و بين هذا و ذاك يظل حائرًا و يلجأ للهدنة عله يحسم أمره و كما عزم استيقظ واصطحب أسرته فأودع طفليه لدى أمه ثم انطلق بحبيبته إلى تلك الوجهة التي أخفاها عنها
و ما إن وصلا إلى ذلك البيت الشاطئي الصغير حتى رأى أثر مفاجأته في روعة ابتسامتها المنبهرة بجمال ما تراه فالبيت الصغير على الطراز العصري ببساطته و ألوانه الهادئة بحديقة صغيرة و مسبح خاص و الحديقة محاطة بأشجار تمنحهما خصوصية عروسين في شهر العسل و في مقدمتها باب صغير يصل المنزل بشاطئ البحر الأحمر
ـ الله يا نادر المكان حلو قوي ياريتنا جبنا الولاد معانا
ابتسم فزوجته تمتلك نسختها الخاصة من غباء الزوجة المصرية لكنه يعشقها بكل تفاصيلها، لا تدرك أنه يريدها له وحده يريد هذا اليوم خاصًا بهما فقط لا يدري لمَ في هذا التوقيت بالذات و لكن حدثه قلبه بوجوب تعويضها عن رحلة شهر العسل التي لم تتم يومًا، أحاط كتفيها بذراعه
ـ حبيبتي أنا عايزك النهاردة ليَ لوحدي و بعدين ده يوم واحد بدل شهر العسل اللي أحنا معملناهوش من عشر سنين
أدار جسدها في مواجهته بينما ذراعيه تحاوط خصرها، استند بجبهته إلى جبهتها و عينيه تأسر خاصتها
ـ أنا عارف انك استحملتي معايا كتير ، من يوم ما اتجوزنا و رغم إننا اتفسحنا كتير مع الولاد بس كنت دايما نفسي أعوضك عن شهر العسل
وضعت رأسها على صدره دافنة وجهها بتجويف عنقه فهو موطنها الأبدي و همست
ـ أنا كل أيامي معاك عسل أنتَ متعرفش انت إيه بالنسبة لي
امتدت كفه تزيح غطاء رأسها أتبعها بإطلاق سراح خصلاتها المحتجزة أسفله يتخللها بأصابعه
ـ طيب إحنا هنقضيها رغي ولا إيه أنا عايز أنزل البوول مش عايز أضيع دقيقة من اليوم ده
رفعت رأسها تناظر عينيه بحب و همست بتأنيب:
ـ بس أنت مقلتليش أحنا رايحين فين فماجبتش المايوه
نظرته العابثة أخبرتها بما يخفيه فبادلته أخرى مستفهمة لم تطل حتى ابتعد عنها قليلًا وأخرج رداء سباحة نسائي مكون من قطعتين باللون الأسود ما إن رأته حتى انفلتت ضحكاتها خجلة سعيدة بينما يوضح:
ـ هو أحنا جايين هنا علشان تنزلي بالبوركيني ؟
أمسك بقطعتين الرداء كل قطعة بيد و هو يشير لها بارتدائه
ـ يالا يا حبيبتي بقولك يوم عسل
اقترب أكثر يضع الثوب بيديها و يغمز بينما يميل عليها و ذراعه تحاوطها في ضمة رجولية و أنفاسه تلفح عنقها عندما همس بأذنها:
ـ ولا تحبي ألبسهولك أنا
صدحت ضحكتها الرنانة خاطفة الثوب من يديه، هرعت تنفذ طلبه و ما هي إلا بضع دقائق حتى انطلقت صافرته المعجبة بما يراه و هو مستلقي على الكرسي الخاص بالمسبح بينما زوجته مقبلة عليه بخطوات خجلة و نظراتها لا تخلوا من عبث يقابل عبث نظراته، استقام يضم خصرها و كفيه تداعب ظهرها العاري بينما نظرته المتسلية تتفحصها، داعب ذقنه بسبابته و إبهامه بينما يسأل بخبث:
ـ قلتيلي زدتي كام كيلو من يوم ما اتجوزنا؟
زمت شفتيها بغيظ لإثارته تلك النقطة فهو يعلم حرصها الدائم على إنقاص وزنها لتجيب من بين أسنانها:
ـ عشرة كيلو
أخفض نظراته يطالع نهديها بوقاحة مرورًا بخصرها و أردافها ليديرها أمامه متفحصًا كامل جسدها قبل أن يؤكد و هو يرفع كفه يضم سبابته و إبهامه باسطًا باقي أصابعه
ـ بس جايين في أماكنهم مظبوط
رفعت إحدى حاجبيها تبادله التسلية ونظرتها المتلاعبة تتنقل بينه و بين المسبح، اقتربت ببطء و استندت لصدره بكفيها و بدلال همست
ـ البركة فيك
و بحركة مفاجئة دفعته للخلف ليسقط بالمسبح و بينما يسقط جذب كفها فسقطت خلفه وتعالت ضحكته
ـ كنت عارف أنك هتعملي كده
قضيا اليوم بين المرح و المداعبات المتبادلة يسرقان من عمر الزمن سويعات قليلة من السعادة المستحقة لكليهما.

دلفت نسمة للغرفة الوحيدة بالبيت بعد أن أنهت حمامها تتفحص نادر الذي انفصل تمامًا عن عالمها مستلقيًا على الفراش يطالع السقف بأعين شاردة مثبتة على نقطة وهمية، تدرك أن حاله ليس على أفضل ما يرام فهو في مزاج سيء رغم محاولاته المستمرة لإسعادها و طفليها لكن طول عشرتها تخبرها أنه يخفي أمرًا ليس بهين
نادت باسمه مرتين دون رد و في الثالثة أخفض عينيه منتبهًا فسألت:
ـ نادر إحنا هنمشي إمتى؟
أخرجه صوتها من شروده، تعلقت عيناه بهيئتها و تلك المنشفة باللون الوردي القاتم التي ضمت جسدها من أعلى الصدر و بالكاد غطت حتى أعلى الفخذين و التي أظهرت بشرة جسدها البيضاء بسخاء وقطرات الماء تنتشر عليها بينما تحاول تجفيف خصلاتها بمنشفة أخرى، أشار لها بالاقتراب، جلست جواره و منحته كفها و بالأخرى تصفف شعرها
ـ إحنا هنبات هنا النهاردة ونمشي الصبح أنا اتفقت مع ماما
و هنا ابتسمت و هي تناظره بخبث فهو لم ينس شيئًا لجعل يومها مميزًا ولا تنكر أن هذا ما كانت تتمناه
ـ طيب مش هنآكل؟
جذبها أكثر فمالت تستلقي جواره بينما يهمس
ـ هآكل
قبل أن يقتنص شفتيها في قبلة غابا فيها عن العالم مكتفين ببعضهما عما سواهما سحب رأسها إلى صدره يضمها إليه بشده يستنشق عبيرها الذي يعشقه و ينهي يومه كما كان ينوي من قبل؛ سكنت حبيبته متوسدة صدره لكن نيران القلق أبت أن تمنحه السكينة التي يريدها عندما طالع هاتفه مساءًا
و تلك الرسالة النصية التي وجدها من ذات الرقم الخاص الذي يراسله منذ أيام لم تكن الأولى لكنها كانت الأشد لهجة

نهاية الفصل الأول




روابط الفصول

المقدمة والفصل الأول .... اعلاه
الفصل 2، 3 .... بالأسفل

الفصل 4، 5
الفصول 6، 7، 8، 9، 10، 11، 12، 13 نفس الصفحة
الفصول 14، 15، 16، 17، 18، 19 نفس الصفحة
الفصل 20، 21
الفصل 22، 23، 24، 25 نفس الصفحة
الفصل 26، 27
الفصل 28 الأخير والخاتمة
رابط التحميل
https://www.mediafire.com/download/xbnqbdsda77osm7




samar hemdan 02-08-20 12:58 AM

حبيت المقدمة السرد فيها رائع تسلم ايدك
الفصول جميل قوي
والنهاية غامضة ياترى ابه اللي هيحصل لنادر🥺

samar hemdan 02-08-20 12:59 AM

هتباتوا برة وتسيبوا ولادكم ياقاسين😂😂😂

نهله صالح 02-08-20 03:44 PM

بداية رائعة جدا 👍
حبيت شخصية نادر الكيال
الزوج الحبيب الاب
ريم وشر العنوسة لا يكفي الانثي أنها حصلت علي اعلي الدرجات العلمية
ما لم تكن متزوجة ستكون في نظر الكل ناقصة
في انتظار معرفة ما سيحدث

الامل شمس 05-08-20 01:09 AM

شكلها رواية جميلة و إن شاء الله أكيد هقراها

Halaahmed 05-08-20 04:42 AM

🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸🌸

Monya41 08-08-20 02:48 AM

السلام عليكم ورحمة ألله وبركاته بالنجاح و التوفيق والسداد في كل الاعمال الفنية ودوام التفوق

emycat 08-08-20 05:13 AM

😍😍😍😍😍😍😍😍😍😍😍😍😍😍😍😍😍😍😍😍😍😍😍😍😍😍😍😍

heba nada 09-08-20 12:22 AM


الفصل الثاني

في دنيا المال هناك من تعود على طعم المكسب ينتشي بالنفوذ و تتضخم ذاته بالسلطة
يسعى دائما للفوز مهما كانت الوسيلة
ففي عرفه الغاية هي الأهم
وعليه الوصول مهما كان الثمن.

في مقر شركته الكبير ذو الخمس طوابق بأحد أهم الأحياء الإدارية بالقاهرة الجديدة مكتب فاخر يتصدر غرفة واسعة في المنتصف ، على يساره تتوسط القاعة طاولة اجتماعات ضخمة يجاورها في أقصى الغرفة أرائك على الطراز الحديث وعلى يمينه مقعد مخصص للمساج ، كان يدرس تغير معطيات السوق و ظهورًا جديدًا لبعض صغار الشركات لا يعلم كيف تجرأ أحدهم لخوض مناقصة أمامه بينما هو يراها حق مكتسب له، يجلس خلف مكتبه الفاخر يرتدي مئزر من الحرير الطبيعي باللون الأسود يعلو بنطال بذته السوداء و قميص باللون الأبيض دون رباط للعنق و خصلاته بلون الأرز تتراجع للخلف تاركةً مقدمة رأسه صلعاء ناسبت تخطيه لمنتصف عقده الثامن، رفع أنظاره لمحدثه، و بنظرة ثعلبية تسبر أغواره نفخ دخان سيجاره الكوبي ببطء و قطع الصمت المهيب:
ـ نويت تعمل إيه في المناقصة الجديدة ؟
اعتدل الآخر في جلسته مستندًا بظهره إلى المقعد بينما قدمه اليمنى تعلو ركبته اليسرى و كفه الأيسر يعبث بحذائه و أجابه بثقة من تتجمع بيديه كل الخيوط
ـ متقلقش يا باشا المناقصة في جيبنا
أمعن النظر لمقابله يتحرك بمقعده الدوار يمينًا و يسارًا ببطء بينما يتلاعب بسيجاره بين سبابته ووسطاه
ـ و الشركة دي اللي طلعالنا جديد
لم يتخل محدثه عن ثقته؛ أخفض قدمه و تقدم من حافة المكتب قليلًا يتكئ عليها بساعده الأيمن بينما تؤكد نظرته الجانبية على كلماته
ـ أنا ليا رجالتي في كل حتة يا باشا متقلقش
هز رأسه قليلًا ثم أطفأ سيجاره الكوبي و أشار بسبابته محذرًا:
ـ لو غلطت حسابك هيكون معايا عسير
و دون أن ينتظر إجابة نهض خالعًا مئزره الحريري واتجه لغرفة الساونا الملحقة بغرفته و أغلقها خلفه
***

وسط أمواج الحياة المتلاطمة نحتاج دومًا
للمسة حانية ، لحظات دفء تربت على أكتافنا المرهقة
تتساقط على قلوبنا كقطرات ندى تروي تربة عطشى
و في واحة راحته كان موعده مع يوم دافئ اعتاده منذ سنوات
فبيته مزين بالبالونات مختلفة الألوان التي اشترك طفليه في تحضيرها و تفننا في توزيعها بأشكالٍ متناسقةٍ خاصة هذا القلب الذي احتضن صورة زفافه التي طالما زينت صالة بيته، و باقي البالونات التي انتشرت على سقف و حوائط المنزل فمنحته بهجة من نوع خاص،
و على طاولة الطعام كان قالب الحلوى الكبير المزين بالشيكولا التي يفضلها قد توسطها،
حسنا، يبدو التزيين غير متقنٍ تمامًا و لكن زوجته قد طورته عامًا بعد آخر مع إصرارها كل عام على صناعته بنفسها لأنها كما أخبرته تسقي الحلوى بحبها فيتجرعه مع كل قطعة يلتقمها، لا تعلم أنه قد تشرب حبها منذ أول لحظة وقعت عليها عينيه.
و على إضاءة الشموع بدأت نسمة و الطفلين في غناء أغنية عيد الميلاد الشهيرة و مع انتهائهم و إقبالهم عليه مهنئين، بدأ بتوزيع هدايا عيد ميلاده على عائلته كما اعتاد، نعم في عيد ميلاده هو من يمنح الهدايا لا من يتلقاها أخرج كيس بلاستيكي و بدأ بصغيره الذي التمعت عيناه بشغف:
ـ دي بدلة سبايدرمان اللي كنت عايزها لحفلة المدرسة
ابتهج الصغير و أسرع يبدل ملابسه لتجربة حلته الجديدة ، بعدها توجه نادر إلى صغيرته التي كانت تنتظر هديتها، أخرج لها علبة ما إن لاحظت محتواها حتى تعلقت بعنق أبيها و غمرته بقبلاتها:
ـ ده التابلت اللي كان نفسك فيه بس هنلتزم بالساعات اللي ماما تقول عليها و مفيش باسوورد
أومأت الصغيرة إيجابًا و هي تكاد تطير من الفرح
التفت بعدها نادر لمالكة قلبه و منحها زجاجة من عطرها المفضل
ـ إيفوريا
نطقتها بعشق خالص و عيناها متعلقتان بمقلتي أسيرها و آسرها،
رفعت جسدها على أطراف أصابعها واحتضنت وجنتيه بكفيها تخفض رأسه وتقلص فارق الطول بينهما لتطبع قبلة على وجنته و تتبع بحنان :
ـ على طول تجيب لنا و مجبتش حاجة لنفسك
احتضن خصرها بيديه فارتاحت كفيها على صدره و انحنى تلفحها أنفاسه بينما يهمس بأذنها دون أن يلحظه الصغيرين المنشغلين بهداياهما
ـ ما أنا جايب البرفيوم ده لنفسي
و غمزته الشقية منحته خجلها الذي لم تتخلص منه رغم امتداد سنوات زواجهم
رمق الصغيرين بطرف عينه فتأكد من عدم انتباههما، اعتقل خصرها بذراعه يسحبها برفق و سبابته أمام شفتيه في إشارة لها بالهدوء التام بينما عينيها تتساءل عن هدفه الذي علمته ما إن دخلا لغرفتهما الخاصة و أحكم إغلاق بابها، دفعها للحائط جوار الباب و ذراعيه تحكمان حصارها بين جسده و الحائط، يميل ليدفن أنفه بتجويف عنقها و يهمس برفق :
ـ كنا بنقول إيه برة ؟
بينما ذراعاها متعلقةً بعنقه و عيناها مغمضة تسبح معه في فضاء العشق و تهمس:
ـ كنا بنتكلم في هديتك
مال بالقرب من شفتيها يهمس أمامهما فانفرج جفناها لتتعلق عيناها بأمانها في مقلتيه :
ـ طيب مش هتديلي هديتي؟
ابتسمت بنعومة تذيبه و كفيها تدفع صدره برفق تقاوم الذوبان فيه بينما عيناها تحذره الاقتراب و نبرة صوتها تنفي بدلال:
ـ مش وقت شقاوة يا بابا
أهمل دلالها و شفتيه تكمل طريقها الذي تحفظه ينوي اقتناص اللحظة بينما ترتفع طرقات متسارعة على باب الغرفة مع نداء الصغير :
ـ ماما... بابا
زفر بغيظ عندما تراجع عن تقبيلها مع تعالي ضحكتها لغيظه و نظرتها المتسلية التي تقول أخبرتك أن الوقت غير مناسب ليكمل بنفاد صبر قبل أن يفتح الباب:
ـ الواد ده فصيل
اندفع الصغير للغرفة بينما يتحدث ببراءة
ـ بتعملوا إيه هنا
ـ شفتوا سبايدرمان
و انطلق يقفز على الفراش بحركات طفولية ممتعة يستعرض أمام أبويه حركاته و يثني ذراعيه الصغيرين و كأنه يبرز عضلاته الغير مرئية، اندفع نادر لصغيره فأسقطه على الفراش بحركة خاطفة فتعالت ضحكات الصغير المستمتعة بينما والده يدغدغه و أخته التي انضمت للحفل الصاخب على صوت ضحكات أخيها المتعالية فاختلطت الأيدي بين مدغدغة و مدافعة عن نفسها و تداخلت أصوات الضحكات و هي لازالت عند الباب تراقب تركتها التي أنفقت سنواتها حفاظًا عليها و منحتها السعادة المستحقة بأعين تفيض حبًا و حنانًا غافلةً عما يدخره القدر لها .
***
كالآلة تحيا
تطوي الأيام علها تنقضي
لقد استسلمت لقدرها منذ البداية و لا فرار
لا أب يحمي ...
لا أم تحنو...
و لا عمل يدعم...
إذًا فالتعايش فرض عين...
ولا سبيل للخلاص...
بدأت يومها بصلاة و دعاء أن يجعل الله جنينها ضياءًا في ظلمة حياتها استسلمت للأعمال المنزلية المعتادة و حمدت ربها أن زوجها لن يعود من عمله قبل المساء، إذًا لديها ساعات من الراحة مع طفلها سيتخللها زيارة والدتها التي ترغب في الاطمئنان على صحتها ، ابتسامة ساخرة ارتسمت على شفتيها و كأن أمها لا تعلم حالها و لم تختبر مثل تعاستها من قبل ، تطلعت لوجهها الذابل في المرآة؛ لقد خفُت جمالها يومًا بعد يوم و لم يتبق منه إلا لمحات حزينة بعينيها العسليتين التي ارتسمت الهالات السمراء حولها، وخصلاتها الطويلة بلون حبات القهوة التي اعتادت جمعها دون عناية تذكر
انتفخ أنفها قليلا بفعل الحمل..
شحوب وجهها صاحبه جرح لزاوية شفتيها الباهتة مع زرقة إثر صفعة الأمس ، لم تهتم بإخفاء أثرها أو محاولة علاجها...
و كأن أحدا سيهتم !
أو أن أمها ستبالي بما ترى!
استقبلت أمها التي حضرت بحذاء مرتق وعباءة مهترئة تمتلكها منذ عشر سنين أو ربما يزيد فهي لا تذكر أنها رأت أمها ترتدي غيرها إلا يوم زفافها المشئوم و قد استعارت أخرى من إحدى جاراتها لتحفظ ماء وجهها
لو كانت تعلم أن أبيها فقيرًا لما اهتمت لكنها تعلم أنه يكنز الكثير بينما هذا الكثير لنفسه فقط
حاولت استعادة تركيزها علي سؤال أمها
-عاملة إيه في حملك ؟
أجابتها هامسة بالحمد ، كانت واثقة أن أمها لاحظت جرح وجهها و تعلم سببه لكنها لن تسأل حتى لا تستمع لشكواها، لا تعلم أنها لن تشكو لها ببساطة لأنها تشكوها لخالقها كل يوم ، ربما لو رفضت أمها الهوان يوما لما اضطرت هي لعيش مثيله.
تأملتها و هي تتنقل بين غرفات بيتها تنظف هذه و ترتب تلك
هل كانت أمها تستطيع الثورة حقًا و تخاذلت ؟
أم أنها استسلمت لقدرها مرغمة أيضا؟
هل تكرهها و تحملها مسئولية تعاستها؟
أم أنها تشفق عليها؟
لم تعد قادرة على تحديد مشاعرها تجاهها لكنها متأكدة أنها لا تكرهها
هي غاضبة،
غاضبة من ظروف أمها التي ألقت بها في طريق أبيها دون سند
غاضبة من أبيها الذي لا يحمل من معنى كلمة أب شيئًا،
غاضبة من زوجها الذي كانت تأمل به فلم يختلف كثيرًا،
و غاضبة من نفسها من خنوعها و ضعفها،
من كل شيء حولها يدفعها للاستسلام لوضع يستنزف روحها

ـ أنا خلصت لك معظم شغل البيت ألحق أروح بقى قبل أخوكِ ما يرجع من المدرسة
على ذكر شقيقها تذكرت أنه هو الآخر أحد ضحايا والدها الذي لا تعلم كيف سبيل نجاته، ودعت أمها و استسلمت بعدها للنوم علها تخرس أفكارها التي لا تتوقف

**
أن يتقدم بك العمر بينما لازلت تحملين لقب آنسة
فهذا يجعلك تعتادين بعض المشاهد
كأن تري والدتك تحضر صالون منزلك لاستقبال مرشح جديد طالبًا منحك اسمه
في البداية قد تتحمسين لتلك اللقاءات كأي فتاة غرة
ثم قد تبدأين بالتذمر لعدم جدواها
هذا من وجهة نظرك طبعًا
ففي عرف مجتمعاتنا هذه اللقاءات من المسلمات
ثم في النهاية تعتادينها حد الرتابة
و هذا ما واجهته فور عودتها إلى منزلها
لتتذكر لقاءها المرتقب مع عريس الغفلة كما أسمته في نفسها ثم أسقطت موعده من ذاكرتها سهوًا أو عمدًا لا فارق
لكنها استجابت لرغبة أمها، أبدلت ملابسها و توجهت للصالون كما المعتاد،
جلست أمام العريس المُنتَظر
وبنظرة بسيطة علمت أن ما قيل عن هيئته السابقة كان محض عبث،
متوسط القامة و امتلاء جسده الزائد يخدع الناظر ليعتبره من قصيري القامة وسط الرجال،
امتد الشيب لفوديه كزحف طبيعي لمن هو في أول عقده السادس و يبدو أن زحف الصلع قد أخذ طريقه هو الآخر لمقدمة رأسه:
ـ منور يا أستاذ حسان
عبارة ترحيبية اعتادتها في لقاءات مماثلة ليبادلها مثيلتها ، اعتدلت في جلستها تبدأ اللقاء كما خططت له ممسكة بزمام الحديث
ـ اسمحلي أسأل حضرتك شوية أسئلة
هز رأسه موافقا:
ـ اتفضلي
استندت إلى ظهر مقعدها ورفعت ساقًا فوق أخرى شامخة برأسها للأعلى بينما تسأل :
ـ معلوماتي إن حضرتك مُطلق ممكن أعرف سبب الطلاق؟
ارتبك قليلا ولكنه أجاب:
ـ الحقيقة متوفقناش مع بعض
غمغمت كمن توقع الإجابة فمعلوماتها التي استقتها من أمها تخبرها أن الزواج دام لخمسة عشر عامًا و هو ما يجعل إجابته محض روتينية للتملص من الحقيقة:
ـ يا تري حضرتك متكفل بمصاريف أولادك
تنحنح محاولًا كظم غيظه، أخرج محرمة ورقية و جفف بعض من قطرات عرقه المتساقط:
ـ أنا ببعتلهم نفقتهم طبعا
انفرجت شفتاها عن بسمة خفيفة لتخفض ساقها عن الأخرى و تتقدم قليلا بجلستها تمنحه بعض من أمل زائف:
ـ طبعًا حضرتك عارف إني دكتورة في الجامعة و لو حصل نصيب حكون مضطرة آخد إجازة
التمعت عيناه و ظهرت الحماسة واضحة عليه و كأنه ارتاح لتغير مجرى الحديث:
ـ فرص حضرتك للشغل في أي جامعة هناك موجودة و متقلقيش إن شاء الله هنلاقي عقد بمرتب كبير
ابتسمت بخبث فهو لم يخلف ظنها و إذا كانت مضطرة لمجالسته فما المانع من بعض التسلية رفعت كفها تطالع طلاء أظافرها بمكر:
ـ بس أنا تعبت من الشغل و فرصة أرتاح بقى و أعمل شوبينج في دبي
حاول جاهدًا إخفاء خوفه، استقام بظهره و لين نبرته تشي بما يخفيه بينما يحاول استحضار بعض المنطق لإقناعها بعدم جدوى فكرتها:
ـ معقول دكتورة في مكانة حضرتك تقدر تتخلى عن شغلها
ـ اسمحيلي و إن كان الكلام سابق لأوانه بس واحدة بتشتغل من سنين صعب تبقى ست بيت و بس
طالعته بنظرة مبهمة تسبه بسرها بكافة السباب الذي تعرفه و بصوت هادنه أظهرت بعض الاقتناع:
ـ طيب لو اشتغلت نظام المصاريف بيننا حيكون إزاي بمعني مرتبي و مرتب حضرتك
حاول الحفاظ على هدوء أعصابه ليجيبها و عينيه تتفحصها:
ـ أحنا حنكون كيان واحد و المفروض نقف جنب بعض علشان نكبر و أنا كأي راجل مسئول عن بيته لازم أفكر في مستقبلنا و أقرر نعمل أيه بالفلوس
ضحكت رغما عنها فكما توقعت الإجابة وجدتها لتقرر إنهاء عبثها سريعًا
ـ هي طليقة حضرتك كانت بتشتغل لما كانت معاك
أومأ برأسه إيجابا دون رد بينما عقدة حاجبيه تشي بغضبه فأكملت:
ـ و طبعا فلوسها كانت معاك لحد ما طلقتها و يا عالم عرفت تاخدها بعد ما أطلقت ولا....
صمتت و ثغرها لايزال محتفظًا بابتسامته المتسلية ، تميل برأسها جانبًا فتسمح لعقله بإكمال الصورة التي وصلتها عنه
أجابها و قد شعر أن زمام الأمور قد يفلت منه و لم يستطع إخفاء غضبه الذي ظهر جليًا بصوته:
ـ ياريت نتكلم في مشروع الجواز بيننا بدل طلاقي
نهضت من جلستها بهدوء تجيبه بنبرة واثقة و تنهي اللقاء
ـ مفيش مشاريع مشتركة بيننا نتكلم فيها ، شرفت يا أستاذ حسان
نهض بعنف و لم يحاول حتى كبح غضبه، عيناه ترسلان لها شرارات حارقة يلوح بذراعه في الهواء بينما نبرته تعلو:
ـ أنا غلطان أني جيت أساسا أنتِ رافعة مناخيرك علي إيه أمال لو كنتي صغيره ولا جميلة شوية
و لم ينس حمل صينية الحلويات التي أحضرها معه و صفق الباب خلفه لتستقبل عاصفة أمها الغاضبة كما اعتادتها في كل مرة ترفض فيها أحدهم:
ـ تاني عملتي اللي في دماغك و طفشتيه
ارتمت على الأريكة مقابلها بينما تغرغرت عيناها بالدموع و هي تكمل:
ـ يا بنتي نفسي أطمن عليكِ قبل ما أموت
ابتلعت غصتها و اقتربت من أمها تربت على كتفها و تقبل رأسها و ككل مرة ترفض فيها خاطبًا تعيد عليها جملتها
ـ ربنا يبارك في عمرك و يخليكِ ليَ
استقامت بظهرها و لم تتخل عن حنان نبرتها بينما تكمل بحسم:
ـ أنا مش حتجوز لمجرد الجواز يا ماما
حاولت كبح دموعها فهي و إن كانت ترفض رغبة أمها بتزويجها بأية طريقة ممكنة لكنها تتفهم عاطفتها و مخاوفها كأم لتتركها و تختلي بنفسها قليلا و أمام مرآتها تفحصت هيئتها ، الغليظ غرس نصله بجرحها دون رحمة حتى يسترد بعضًا من كرامته التي سكبتها، تعلم أنها تخطو نحو منتصف عقدها الرابع و في عرف الكثيرين عليها تقديم التنازلات لتلحق بركب المتزوجات و هو ما ترفضه،
تعلم أنها بمقاييس الجمال لا تُعتبر من الجميلات
بشرتها حنطية ، أنف متوسطة و شفاه مرتفعة قليلا عينان بنيتان واتساعهما يجعلهما أشد ما يميز وجهها المستدير بامتلاء يتبع امتلاء قوامها المتوسط الطول
شعر أسود حالك ينسدل حتى أسفل كتفيها بقليل
نعم تعلم أنها لا تمتلك ذاك الجمال المبهر للعيون و لكنها تثق أن شخصيتها قادرة على إبهار الجميع علّهم فقط ينظرون داخلها.
طرقات خافتة على باب غرفتها دلف بعدها والدها الذي جاورها على حافة فراشها يحيط كتفيها بذراعه بينما يغمرها بحنانه:
ـ عارفة لو مكنتيش طردتيه كنت طردته أنا
رفعت نظرها لوالدها بينما دمعة وحيدة فرت من عينيها لتمتد كفه تربت على وجنتها و إبهامه يجفف دمعتها مؤكدًا
ـ أنتِ جوهرتي الغالية عمري ما أفرط فيها غير للي يستاهلها
ابتسمت ريم باطمئنان دائمًا ما يبثه فيها حنان والدها و دعمه بينما الأب يضيف:
ـ أوعي في يوم تبكي طالما مقتنعة بقرارك
أومأت برأسها إيجابا و قد زالت غصتها التي تركها لقاء ذلك المتعجرف
***

في مملكتها الصغيرة تتنقل بين أرجائها كملكة تتفقد حال رعاياها و مع ارتفاع رنين منبه الفرن ارتفع صوت جرس الباب بلحن متسارع مع طرقات منغمة منتظمة تعلن عن هوية صاحبها بقوة
انطلق الصغير فور سماعه للطرق المميز بينما يهتف باسم الطارق و نسمة تنهره ليتمهل حتى يتسنى لها ارتداء مئزرها الذي التقطته سريعًا ترتديه فوق ملابسها البيتية المتحررة
اتجهت ناحية الباب الذي فتحه صغيرها بلهفة فوجدت نور محمولًا على كتف أخيها الذي رفعه بذراع واحدة على كتفه ليتدلى رأس الصغير خلف ظهره كما يحب دوما
تقدم رائد من أخته يصافحها و يطبع قبلة على وجنتها بينما يمد أنفه في الهواء يلتقط الرائحة المنتشرة بالمنزل:
ـ إيه الريحة الحلوة دي؟
انتبهت نسمة من غفلتها و أسرعت نحو المطبخ بينما تهتف بحنق
ـ البيتزا نسيتها
ارتاحت قسمات وجهها و وضعت كفها على صدرها تحمد الله أنها أنقذتها قبل أن تحترق لترفع صوتها:
ـ لو كانت اتحرقت كنتوا هتاكلوها غصب عنكم
أتاها صوت أخيها بمرح:
ـ طب الحقي أخوكِ اللي جاي من الشغل واقع من الجوع
حملت صينية الطعام إلى الخارج ووضعتها على الطاولة لتنضم نادين عقب سلامها على رائد الذي توقف قبل أن يبدأ بالأكل مفكرًا
ـ أنا كده هاكل نصيب نادر
ابتسمت نسمة بحنان قبل أن تجيبه مطمئنة:
ـ نادر مش جاي على الغدا النهاردة
ـ و أنا عاملة بزيادة، نور بيحب يآخد بيتزا في اللانش بوكس
نظر رائد للصغير بمداعبة بينما يلتهم شريحة بتلذذ:
ـ لانش بوكس!
لوى شفتيه يدعي الامتعاض و أتبع:
ـ ماله بس الكيس البلاستيك

عبس الصغير و لم يستطع تبين دعابة خاله و همس بحنق:
ـ لازم لانش بوكس كل الولاد معاهم
ليضحك الجميع و رائد الذي عبث بخصلات الصغير
ـ طيب يا سيدي ربنا يخلي لك بابا اللي بيجيب اللانش بوكس
عقب انتهائهم من الطعام التفت رائد للصغيرة و أمسك بكفها يربت عليه:
ـ نفسي في شاي من إيدك يا نودي
همت نسمة بالكلام فأمسك رائد بكفها هي الأخرى و بضغطة خفيفة أخبرها ألا تعترض، استجابت الصغيرة و توجهت لإعداد الشاي التفت رائد لنور يحادثه و يطلب منه صراحة اللعب بغرفته فتلقى رفض الصغير:
ـ أنا عايز أقعد معاكم
ضحكت نسمة من سذاجة أخيها عندما اعتقد أنه يستطيع التخلص من الماكر الصغير بسهولة فطلبت من ابنها بحزم:
ـ نور، أنا و خالو هنقول كلام كبار ممكن تلعب في أوضتك
عقد الصغير ذراعيه أمام صدره بينما يلوي شفتيه رافضا
ـ أنا كبير يبقى أقعد معاكم
أكملت نسمة بتحذير:
ـ أنت كبير نص نص أحنا أكبر
ـ العب شوية في أوضتك و لما نخلص هنادي عليك
استجاب الصغير حانقًا و تركهما متجهًا لغرفته، التفتت نسمة إلى شقيقها مستفسرة عما يريد و هو لم يتأخر عندما بدأ الحديث:
ـ ماما زعلانة علشان بقالك كتير مجيتيش أنت و الولاد
تنفست نسمة فملأت صدرها بالهواء ثم زفرته ببطء قبل أن تجيب
ـ ما أنا بكلمها كل يوم في التليفون، و أنت عارف أني ما بخرجش كتير
ربت رائد على كتف شقيقته و أودع نبرته كل لين ممكن:
ـ التليفون مش كفاية، حقها تشوفك أنتِ و الولاد بانتظام
أومأت نسمة برأسها إيجابًا و هو اكتفى بهذا القدر بعد أن فشل لسنوات في إذابة الجليد بين والدته و أخته، لا يعلم ما سبب تلك الحالة التي تعيشانها منذ سنوات، لا سلم لا حرب، كان يعتقد أن الزمن كفيل بإذابة الجليد بينهما لكنه أيقن خطأه عندما تزايدت الفجوة بمرور السنوات،
شيدت كل واحدة منهن جدارًا حول نفسها و تباعدت الطرقات كلما دفع واحدة خطوة للأمام عدَت الأخرى خطوات في الاتجاه الآخر و كأنهما اتفقتا على عدم اللقاء، حتى اللحظة لا يجد سببًا لتتحول علاقة أم بابنتها الوحيدة إلى مجرد واجبات تؤديها كل منهن تجاه الأخرى دون حرارة العائلة، وحده الله هو القادر على تبديل حالتهما تلك فقد اكتفى من المحاولات.
***
وسط معاملات شركته يفقد إحساسه بالزمن ، و رغم القلق الذي يقتاتُ على أعصابه لكن العمل يظل شغفه في الحياة.
لم يعد لمنزله منذ ثلاثة أيام يتخذ من الأريكة الوحيدة بمكتبه فراشًا يختطف عليها بضع ساعات قليلة من الراحة تعينه علي مواصلة عمله
التقط هاتفه و ضغط بعض الأرقام ليأتيه رد الطرف الآخر و هو المحامي المكلف بمتابعة عقود شركته:
ـ صباح الخير يا متر أخبارنا إيه؟

استمع قليلًا لمحدثه الذي بدا و كأنه يرفض طلبه و هو ما اعترض عليه نادر فأضاف بحسم:
ـ متأكد يا متر
ـ من فضلك مش عايز تأخير
صمت قليلًا ريثما ينهي الطرف الآخر حديثه و قد بدا أنه أصاب هدفه عندما أذعن الآخر لطلبه
ـ لما الأوراق تجهز كلمني علشان آجي أمضيها
أنهى محادثته وعاود الغوص بملفاته و ما هي إلا دقائق حتى ارتفع رنين هاتفه وما إن وقعت عيناه على اسم المتصل حتى ابتسم بسمة حنين
يعلم أنها هاتفته مرارًا طوال اليومين الماضيين لكن هاتفه إما كان على الوضع الصامت أو أنه كان بلقاء عمل و لم يستطع الإجابة بينما سحبته دوامة عمله فغفل عن معاودة الاتصال بها، التقط الهاتف و أجاب بلهفة:
ـ وحشيتني
استمع قليلا لصوت محدثته الغاضبة ثم أجابها بحنان
ـ يا حبيبتي عارف
ـ أنا آسف
صمت بينما تواصل تقريعها فأجابها في محاولة لاسترضائها
ـ طيب متعمليش غدا أنا هجيب أكل و آجي أتغدى معاكِ
استند بظهره لمقعده بينما يغمض عينيه يستمع لتأنيبها برحابة صدر، انتظر انتهائها من حديثها فأجابها و علامات اعترافه بذنبه جلية بصوته
ـ هجيبلك حاجة بتحبيها
ـ البيت ناقصه حاجة أجيبها معايا؟
صمت مرة أخرى و بدا مرتاحًا لتبديد غضبها و همس قبل أن يغلق الهاتف:
-مش هتأخر يا دودو أنا مقدرش على زعلك

heba nada 09-08-20 12:32 AM

الفصل الثالث

وسط دوامات الحياة المتعاقبة ترتفع بها الرياح تارة ثم لا تلبث أن تُخفضها قسرًا لهوة الخوف.
منذ عودتهما من رحلتهما الخاطفة و هي تشعر بزوجها متباعدًا و إن كان قريبًا
يغمرها بحبه كعادته لكن روحه تسبح بعيدًا في نقطة ما لا تستطيع بلوغها و إن حاولت
حتى يوم ميلاده كان يلاطفها و يداعب صغاره ووحدها كانت ترى روحه غير حاضرة،

كم تكره عادته تلك عندما يغلق قلبه على نفسه ولا يصارحها بما يعاني إلا عندما تنتهي معاناته حتى جلسة مصارحته معها عقب عودتهما لم تستطع كبح تساؤلاتها إنما زادت من قلقها ،
و ها هو ينأى بنفسه بعيدًا لثلاث ليالٍ متصلة مكتفيًا بالرد على مكالماتها بكلمات مقتضبة يطمئن بها على حالها و صغارها ليتركها فريسة للقلق الذي يقتات على أعصابها و لا تملك حيلة سوى الانتظار عله يفتح قلبه لها عما قريب كما اعتادت منه .
التقطت هاتفها الجوال تضغط على زر الاتصال ليأتيها الرنين مصاحبًا لرسالة ظهرت على شاشة الهاتف تخبرها أنه في مهاتفة أخرى و عليها الانتظار ،
تواصل رنين الهاتف حتى انقطع دون رد ، عاودت الاتصال مرة أخرى و ذات الرسالة لينقطع الرنين مرة ثانية ،
فتحت أحد برامج المحادثات و بعثت برسالة مختصرة
ـ هاخد الولاد و أروح لماما شوية
همّت بالاستعداد للخروج دون انتظار رده ليرتفع رنين هاتفها معلنًا عن اتصاله ردت بلهفة لم تحاول إخفاءها:
ـ وحشتني و مش سائل فيَ
أجابها بتعب بدا جليًا بصوته:
ـ أبدًا والله، بس ضغط شغل
ثم أتبع بتقرير:
ـ بلاش مشوار ماما ده هحاول أفضي نفسي و أوصلكم بكرة
حاولت مقاطعته و الاعتراض على رفضه لكنه قاطعها بحسم:
ـ نسمة الله يخليكِ مش عايز جدال
تراجعت عن اعتراضها و ارتفعت صافرات الإنذار بعقلها تُضخم من قلقها و تتركها فريسة لهواجسها التي أبت أن تبديها له مكتفية بالسؤال:
ـ هتيجي البيت النهاردة؟
ارتاح حين انصاعت لرغبته و أجابها قبل أن ينهي المكالمة:
ـ هحاول
***
حين الحاجة عانق الشيطان و ارقص على جثامين البشر،
انحر الأعناق و سِر بين ضفتيها بفخر،
اشرب نخب الدماء هنيئًا لمن غدر.
بغرفة مكتبه الفاخر يقطع المسافة الفاصلة بين النافذة و المكتب ذهابًا و إيابًا يعتصر أفكاره في انتظار مكالمة هامة توصله لمبتغاه دون عناء، قطع الصمت طرقات على باب المكتب دلف بعدها النادل، وضع قدح القهوة التركية التي طلبها رئيسه قبلًا و تراجع بخطواته للخلف، حياه بانحناء طفيف و خرج بهدوء.
واصل الآخر انتظاره الذي ما طال أكثر حتى ارتفع رنين هاتفه الجوال، رد بجملة واحدة عقب فتحه للخط:
ـ هات اللي عندك
أتاه الرد فانتفخت أوداجه غضبًا، كز على أسنانه حتى قارب على طحن ضروسه غيظًا حين انفجر بمحدثه:
ـ يعني إيه مش عارف توصلها
ـ أمال أنا مشغلك ليه؟
ثم قطع الاتصال مع الآخر دون انتظار رده و هو يزداد اشتعالًا، حل رباط عنقه و جذب خصلاته السوداء يكاد يقتلعها، رفع كلتا كفيه يستند على حافة النافذة يطالع السيارات المارة بالطريق و يعيد ترتيب أوراقه، الجرذان التي تحاول البحث عن طعامها باتت تهدد سيطرته، وجب عليه تلقينها درسًا تعود بعده مذعورة لجحورها.
عاد تجاه مكتبه، رفع قدمه على المقعد و استند بمرفقه إلى ركبته و بكفه الأخرى التقط هاتفه مجددًا، ضغط زر الاتصال و أعقب بكلمة واحدة عقب سماع صوت الآخر:

ـ نفذ.
***
أغلق الهاتف مع زوجته و قد عزم أمره على عدم العودة للعمل سوى بالغد، استقل سيارته قاصدًا بائع الفاكهة، و منه إلى محل بيع المشويات الذي التقط منه وجبة عامرة كان قد أوصى بها قبيل خروجه من عمله و في طريقه لها لم ينسَ أن يحضر عُلب الزبادي و بعض الجبن الذي تفضله.

صعد درجات البيت العتيق قاصدًا هدفه، أدار مفتاحه الخاص بمغلاق الباب و دلف باحثًا عنها، بدأ بترتيب أكياس الطعام على المائدة مناديًا:
ـ يا دودو أنت فين
ظهرت المرأة عند باب غرفتها تشيح بوجهها عنه دون كلمة فاندفع إليها يغمرها بأحضانه يقبل جبينها تارة ووجنتها تارة أخرى بينما هي تدفعه برفق مظهرة غضبها و إن أبى قلبها السخط عليه:
ـ لسة فاكر تجيلي
دغدغها مداعبًا قبل أن يسحبها محتويًا كتفيها تحت ذراعه
ـ جبتلك الجوافة و اليوسفي اللي بتحبيهم
اتبع كلماته بفتح أكياس الطعام فظهرت رائحة المشويات المسيلة للعاب:
ـ و كفتة و شيش طاووك علشان نتغدى مع بعض
علم أن غضبها مجرد ادعاء فناولها الكيس المتبقي و لم يتخلَ عن مرحه:
ـ الزبادي و الجبنة البراميلي حطيهم في التلاجة ويالا ناكل
وضعت الكيس جانبًا و حاولت كبح ضحكتها المتسلية بمرحه:
ـ أنت يا واد جاي تضحك عليا بالأكل
ضحك ملئ شدقيه و هو يلتقط كفها يقبل ظاهره:
ـ كل ده وواد يا حاجة ده أنا شعري قرب يشيب
امتدت كفها الأخرى لأذنه تجذبها برفق:
ـ هتفضل واد لحد ما أموت و كل ما تزعلني هشد ودنك
رفع كفيه بمحاذاة كتفيه مستسلمًا:
ـ حاضر حاضر أنا ما أقدرش على زعل الجميل
رفعت كفها تربت على لحيته النابتة بحنان
ـ مالك يا حبيبي فيك إيه؟
التقط كفها يحتضنها بين كفيه يربت على ظاهرها برفق
ـ ضغط شغل ، ادعي لي
غمرته بدعواتها المخلصة بينما تجلسه للطاولة و تجلس جواره ليتشاركا وجبتهما التي أتبعتها الأم بإعداد كوبين من الشاي المطعم بحبات القرنفل، ارتشف قليلًا بتلذذ وارتكن برأسه إلى ظهر الأريكة مغمضًا عينيه بإرهاق بينما يهمس
ـ تسلم إيدك يا ست الكل، كوباية الشاي بتاعتك كانت وحشاني
ربتت على كتفه برفق مشفقة عليه من إرهاقه الظاهر للعيان بينما تحاول مداعبته:
ـ ما مراتك بتعمل لك كل حاجة و ما بقيتش محتاج لي
ابتسم ولازال محتفظًا بإغماض عينيه بينما يؤكد لها:
ـ هي شاطرة في القهوة و النسكافيه
التقط كفها يقربها من فمه مقبلًا ظاهرها:
ـ بس كوباية الشاي بتاعتك دي مفيش منها
اعتدل في جلسته ووضع الكوب الفارغ على المنضدة أمامه و هم بالنهوض بينما درية تجذبه لتستزيد من جلسته المحببة إلى نفسها:
ـ على فين يا ابني ملحقتش أشبع منك
ربت على كتفها بينما يطالع ساعة يده:
ـ بقالي 3 أيام مشفتش الولاد وكدة مش هلحقهم قبل ما يناموا
احتضنته مودعة بينما تبدي دهشتها فالوقت مازال باكرًا لنوم الصغار حين أوضح
ـ أنتِ عارفة قوانين نسمة في المدارس
أومأت برأسها متفهمة و اصطحبته حتى باب الشقة مودعة إياه بدعواتها التي تغمره دوما، قبيل خروجه التفت متذكرًا فسألها:
ـ أخبار مدحت إيه؟
ظهرت علامات الحنق على درية رغم محاولتها إخفاءه و هي تجيبه:
ـ كان عندي الأسبوع اللي فات
أمعن النظر لأمه مكملًا ما أخفته بتقرير:
ـ كان عاوز فلوس و من ساعتها ما شفتيهوش
ربتت على كتفه متصنعة عدم الاهتمام
ـ الله يصلح حاله و حالك يا حبيبي
لم يزد أكثر من ذلك لكنه ودع أمه و قد زاد إصراره على تنفيذ ما عزم عليه دون تأجيل .
دلف لمنزله و كما توقع قابل السكون التام ، تحرك برفق في الظلام الدامس مستعينًا بضوء هاتفه المحمول،
وضع كيس الحلوى الخاص بصغيره بسيارة الصغير الكهربائية ليفاجئه بها عند استيقاظه كما اعتاد ثم حمل باقي الأكياس للمطبخ فوجد زوجته مقبلة عليه تتلقفه بين أحضانها بلهفة، شدد من احتضانها بشوق و أطلق زفرة راحة بعد عناء يلازمه ولا يستطيع الخلاص منه
ابتعد عنها قليلا:
ـ بسبوسة لنادين و الوايت شوكليت بتاعتك
ربتت على لحيته لا تبخل بالتعبير عن عشقها هامسة:
ـ ربنا يخليك لينا
تركها و تسلل إلى غرفة صغاره ، سحب الغطاء على الصغير الذي اعتاد ركله فدثره جيدًا و قبل جبينه ثم التفت لفراش صغيرته فمسح على شعرها برفق و طبع قبلة على خصلاتها قبل أن يلجأ لحمامه الدافئ عل رذاذ الماء يخمد أفكاره الثائرة ، خرج من دورة المياه يلف خصره بمنشفة بينما يجفف شعره بأخرى عندما أقبلت زوجته بنعومتها المحببة تحمل بين كفيها كوبًا تصله رائحته عن بعد، وضعت الكوب جانبًا بينما تخبره برقة:
ـ عملت لك كاموميل
ارتدى سرواله و قميص قطني وجلس على حافة الفراش ، حمل الكوب بين كفيه يرتشف بعضًا منه حين صعدت زوجته فجلست خلفه طاوية ساقيها أسفلها و شرعت بتمسيد عضلات رقبته و ظهره، أنهى مشروبه و أغمض عينيه مستسلمًا لكفيها و حينها لم تستطع منع نفسها عن السؤال:
ـ مالك يا نادر؟
رفع ساقيه و استلقى على الفراش و زفر بكلمة واحدة لم يستطع أن يزيد عليها:
ـ تعبان
استلقت على جانبها جواره تواصل تمسيد مواضع النبض بجبهته و هو لايزال على استسلامه حتى سحبها فسكنت أحضانه و غط في نوم إجباري جافاه لأيامٍ طوال .
في الصباح استيقظ على قبلة صغيرته التي ابتسمت فور أن فتح عينيه لها قائلة بمرح:
ـ عرفت أن حضرتك جيت من باليل
نهض يجلس على حافة الفراش و سحبها جواره يحتوي كتفيها تحت ذراعه ويشد جسدها إليه:
ـ و عرفتي منين بقى يا شقية و أنا جيت و أنت نايمة؟
ـ من ريحة البرفيوم
ضيق حاجبيه باستغراب فأجابته الصغيرة ببراءة ترفع حاجبيها و تؤكد على منطقية إجابتها:
ـ لما بتدخل تبوسني و أنا نايمة بشم ريحة البرفيوم في الأوضة
طالع صغيرته بدهشة:
ـ أنت بنت نسمة فعلا مبتفوتيش حاجة
و على سيرة زوجته أتاه صوتها المرتفع و هي تحث صغيرها على ارتداء ملابسه فضحكت الصغيرة:
ـ كالعادة ماما بتجري ورا نور علشان يلبس
اصطحب صغيرته لمشاهدة المباراة الدائرة بصالة بيته بين زوجته و صغيرها المتكاسل يرتدي بنطاله فقط بينما نسمة كانت تساعده على ارتداء سترته، فر الصغير لوالده الذي حمله مقبلًا وجنته ثم حثه على الإسراع:
ـ يالا يا بطل الباص زمانه جاي
و ما إن أنهى ارتداء ملابسه حتى ارتفع رنين هاتف نسمة معلنا عن اقتراب حافلة المدرسة ، التقط الصغير بعض الحلوى التي وجدها بسيارته الصغيرة فدسها بحقيبته ثم قبل والده الذي تلقى قبلة مماثلة من صغيرته قبل أن يودعهما لدى الباب.
عقب انصراف الصغيرين لاحظت نسمة استعداد نادر للخروج مبكرا هرعت لإعداد مشروبه المفضل في الصباح و منحته إياه ببسمة هادئة:
ـ الفرنش كوفي ، مش هتفطر؟
ارتشف قليلًا من مشروبه ووضعه جانبًا يكمل إغلاق أزرار قميصه بينما يجيبها:
ـ مش هلحق عندي حاجات كتير النهاردة
تناولت سترة حلته تعاونه على ارتدائها بينما تطالع عينيه في المرآه تستجديه البوح بما يؤرقه:
ـ مش هتقول مخبي عني إيه
التفت يواجهها و كفيه تمسك بكتفيها و بنبرة جاهد حتى تبدو مطمئنة لها:
ـ أنتِ عارفة أن لما أحب أتكلم بتكوني أول واحدة أتكلم معاها
تعلقت بحافة حلته و عينيها تتوسله البوح:
ـ أنا قلقانة عليك
طبع قبلة على جبينها زفر خلالها أنفاسه القلقة و نبرته منافية لما يضمر:
ـ اطمني أنا كويس
ربت على كتفيها بكلتا يديه قبل أن يتخذ طريقه لخارج المنزل.
و قبيل خروجه أسرعت نسمة خطاها تلتقط كفه، التفت مستفسرًا فتعلقت برقبته في احتضان أودعته خوفها، قلقها ، تملكها و تمسكها و هو ضمها بعشق خالص يمسد ظهرها بحنان يبعث الطمأنينة لنفسها بينما عقله يضج بأفكاره:
ـ خلي بالك من نفسك
همستها بأذنه أرسلت رعشة لامست قلبه قبل أن تمتد يديه تفكك حصار ذراعيها لعنقه ، انحنى يطبع قبلتين على ظاهر كفيها و هو يهز رأسه إيجابا قبل أن يغادر و يتركها فريسة للقلق و الحيرة.

***

هو رجل الضعف عدوه
السطوة سلاحه
القوة طريقه و مبتغاه
اقتربت بغنج تجيده تحيي الجالس أمامها بكأس مشروبها الكحولي:
ـ منور يا حسام بيه
بادلها تحيتها بأخرى مماثلة بينما تجلس جواره لا تترك مسافة فاصلة بينهما، رفعت ساقًا فوق أخرى فانحسرت تنورتها القصيرة عن فخذيها، أنهى كأس مشروبه ووضعه على الطاولة بإهمال فمالت بجذعها للأمام و نبرتها المغناج تدعوه للمزيد:
ـ أصب للباشا كاس كمان
أشار برأسه نفيًا و صوته الحاسم يؤكد:
ـ اكتفيت النهاردة
صدحت ضحكتها الخليعة في المكان تحاول كسر بروده، أمسكت ذقنه بسبابتها وإبهامها و أكملت:
ـ الباشا خايف يسكر ولا إيه
ـ شوشو
زعقته و انعقاد حاجبيه أربكاها فتراجعت فورًا عن سخريتها بينما يكمل غاضبًا:
ـ مش حسام الشوباشي اللي يخاف
عادت لغنجها المعتاد و اقتربت منه تمسك بطرف حلته معتذرة:
ـ أنت زعلت يا باشا؟
تطلع للملهى حوله يسلي نفسه بمتابعة تمايل هذه و تلك، امتدت كفها تدير وجهه ناحيتها و بدلال تعرف تأثيره على الرجال و نظرة تدعوه لأبعد من الكلمات التي نطقت بها:
ـ أنا عايزاك تفرفش يا باشا
فهم مغزى كلماتها فمرت عيناه تتفحص جسدها المكشوف بوقاحة، تنورة فضية لامعه بالكاد تصل لأسفل مؤخرتها كاشفة عن ساقيها بالكامل صعودًا لكنزتها العلوية الملتصقة بجسدها دون أكمام و فتحتها تبدي نهديها بسخاء يدعوه لاكتشاف المتبقي وصولًا لشفتيها المصبوغة بحمرة قانية، غمزة وقحة أتبعها بنبرة رفض فهمتها لتميل عليه أكثر مستفهمة:
ـ مش عاجباك؟
طالعها ببرود قبل أن يخرج حافظة نقوده و يلقي ببعض منها على الطاولة، نهض و قبل انصرافه مال يستند بكفيه على مقعدها يحاصر جسدها بالكامل:
ـ أنت حلوة، بس أنا بستنضف
ترك المصدومة خلفه و استقل سيارته قاصدًا منزله، خلع ملابسه و الأخرى تواصل ادعاء النوم هروبًا كعادتها، جاورها في الفراش فشعرت به يدير جسدها ناحيته، اعتلاها بسطوة ذكورية منقوصة و رائحة التبغ التي اختلطت برائحة مشروبه الكحولي تخنق أنفاسها دون قدرة على رده، و خيطين الدموع المنسابين من عينيها في صمت يشقان طريقهما لا إراديًا حتى يحتضران عند منابت شعرها كروحها المحتضرة، دقيقتان احتملتهما كدهر حتى انتهى و دفع بها جانبًا، ثم غط في نوم عميق.
كتمت أنينها حتى اطمأنت لنومه ومن ثم نهضت تدثر جسدها بمئزرها و دلفت إلى دورة المياه، أفرغت عصارة معدتها اشمئزازًا و رفضًا لواقعها ثم تركت الماء البارد ينساب غامرًا جسدها في محاولة للتخلص من آثار لمساته الكريهة على جسدها، لقد كان مراعيًا فقط في أيام زواجهما الأولى ثم تحول لذلك الذي أصبح قربه فرضًا يثقل كاهلها، أنهت حمامها و جاورته في الفراش بهدوء تكمل دور الزوجة المطيعة الممتد لسنوات.
***
بين جذب و شد تشق طريقها بثبات تُحسد عليه، تتفهم خوف أمها دون خضوع لرغبتها، يشد أزرها فخر أبيها فتخطو متجاهلة محيطها المُثبِط لكل عزيمة، تغرق ببحثها الجديد الذي يؤهلها لترقية هي جديرة بها دون منازع.
أنهت محاضرتها للفرقة الرابعة وسط راحة طلابها لأسلوبها السلس، تحيطها نظراتهم المتباينة بين مقدرة، ممتنة و أخرى معجبة من أحدهم لا تخفى عليها فقد اعتادت مثلها من طلابها ربما هي فورة الشباب التي تركت مراهقتها توًا و تخطو أولى خطواتها نحو الرجولة فترى فيها القدوة و نموذج الأنثى المطلوبة، نظرات اعتادتها و تمرست على احتوائها بحنان أخت كبرى تارة و حزم أستاذة تارة أخرى فما تلبث أن تصوب طريقها فتضحى نظرات اعتزاز و تقدير.
تركت المدرج باتجاه مكتبها حين سمعت نداءًا باسمها:
ـ دكتورة ريم
التفتت بمواجهته تطالع هيئته بطوله الذي يزيد عنها بعشرين سنتيميتر على أقل تقدير، بشرة قمحية أكسبتها أشعة الشمس لونًا برونزيًا جذابًا، شعر بني فاحم استطالت خصلات مقدمته لتداعب جبهته و عينين محيرتان بين خط بلون القهوة مُزج بآخر أسود، واجهته بنظرة مستفهمة:
ـ أهلا دكتور ماهر
اقترب بخطواته الواثقة يبتسم بعذوبة قبل أن يبادر بتقديم بعض الأوراق:
ـ كنت محتاج أعرض على حضرتك الجزء اللي خلصته من الرسالة
أومأت برأسها بتفهم بينما تتناول الملف و تضيف بحسم:
ـ هقراه، بس خد بالك أنت متأخر جدًا في العملي و تقرير المتابعة قرب
هز رأسه و لم يتخل عن ثقته:
ـ ما تقلقيش يا دكتور كله هيخلص في الميعاد إن شاء الله
ـ بالتوفيق يا دكتور
نطقت جملتها بينما توليه ظهرها و تكمل طريقها نحو مكتبها و الآخر يتابع ابتعادها تتقاذفه رغباته.
***
اليوم كان فارقًا في عمر شركته شعر أنه قد حقق انتصارًا كبيرًا عندما بشره محمود بفوزهم بالمناقصة التي كان يطمح إليها لكن سعادته الغامرة يشوبها القلق فقد كان يشك أن رسائل التهديد التي تأتيه بسببها ...
بسبب دخوله إلى عالم الكبار
لكنه بالأمس تلقى التهديد بالانسحاب صراحة و الابتعاد عن منطقة الحيتان و إلا فعلى السمكة الصغيرة ألا تحزن إذا ما أُكلت. فبات واثقًا أنه سيواجه المشاكل بسبب تلك الصفقة
لكن طموحه اللامحدود و عقله الذي أخبره أنه يعمل بشرف و لم يخطئ و عليه المواجهة و انتزاع حقه و إلا سيظل في مكانه
مُخطئ ففي هذه الدنيا لا يكفي أن تلعب بشرف لتفوز و لكن يجب على خصمك أن يواجهك بذات الشرف فيكون الفوز لمن استحق..
كل هذا القلق منعه من ترك شركته طوال اليوم ، يعكف على تجهيز جميع أوراق الصفقة و القيام بجميع المراسلات الضرورية ، ترتيب المهام و توزيعها على أفراد شركته
فبرغم إتاحة وقتٍ كافٍ للتنفيذ إلا أن حجم الصفقة كبير مقارنة بأعمال شركته السابقة ولا يجب منح المنافسين أية فرصة إذا ما أخطأ
فالخطأ أيضا كفيل بإنهائه تمامًا و عودته لنقطة الصفر..
شعر بتيبس ظهره بعد أن أنهى كل ما يمكنه عمله اليوم، لم يشعر بالوقت حقًا ليناظر الساعة التي قاربت على الثانية صباحًا فالتقط مفاتيحه و هاتفه، فتح أحد برامج التواصل الاجتماعي و أرسل كلمة واحدة لزوجته
ـ وحشتيني
ثوانٍ ظهرت بها علامات رؤيتها لرسالته قبل أن يصله ردها بملصق قلب كبير و كلمة واحدة جوار وجه ضاحك يطبع قبلة على الوجنة
ـ مستنياك

ارتدى معطفه و أحكم سحّابه جيدًا فالشتاء يبدو أنه اشتد برودة قبل أوانه، استقل سيارته متجهًا إلى منزله لا يكاد يرى من فرط تعبه، ارتفع صوت الرعد بالسماء و ما هي إلا ثوانٍ و كانت تجود بمائها، الطريق كان شبه خالٍ إلا من بعض السيارات القليلة و عند أحد المفارق فوجئ بأضواء ساطعة لسيارة نقل محملة بالحجارة تظهر فجأة في الاتجاه المعاكس، ضغط المكابح بقوة حتى توقفت سيارته تمامًا فهو لم يكن يومًا بالسائق المتهور، لكن الآخر لم يتوقف بل زاد من سرعة السيارة و مع اقتراب المقطورة تتابعت أمام عينيه صور طفليه اللاهيان، وجه زوجته و دفء قلبه بين ذراعيها نهاية بوجه أمه الحنون و صوتها اللاهث بدعواتها له بالحماية التي لاتزال تطرق مسامعه وسط عدم استيعاب عقله للاقتراب الخطر الذي اصطدم على أثره جانب مقدمة سيارة النقل بباب السائق لسيارة نادر قبل أن يستطيع سائقها تغيير اتجاهه و الابتعاد فرارًا و قبيل تمام الابتعاد و نتيجة للانحراف المفاجئ كان جزءًا من حمولته الثقيلة يسقط ليدك سقف السيارة الصغيرة مخلفًا خلفه خطًا من الدماء المختلطة بماء المطر ......
نهاية الفصل الثالث


الساعة الآن 04:10 PM

Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.