آخر 10 مشاركات
أبواب الجحيم-زائرة-ج1 من سلسلة دموع الشياطين-للآخاذة::زهرة سوداء (سوسن رضوان)كاملة (الكاتـب : زهرة سوداء - )           »          ودواهم العشق * مميزة ومكتملة * (الكاتـب : emy33 - )           »          نعم يا حبيب الروح (17) الجزء1س عائلة ريتشي-للآخاذة أميرة الحب*مميزة -حصرية**كاملة* (الكاتـب : أميرة الحب - )           »          موعد مع القدر "متميزة" و "مكتملة" (الكاتـب : athenadelta - )           »          روايتي الاولى.. اهرب منك اليك ! " مميزة " و " مكتملة " (الكاتـب : قيثارة عشتار - )           »          فضيحة فتاة المجتمع الراقي (83) لـ:مورين شايلد (الجزء1 من سلسلة فضائح بارك أفينو)كاملة (الكاتـب : * فوفو * - )           »          وهج الزبرجد (3) .. سلسلة قلوب شائكة *مميزة ومكتملة* (الكاتـب : hadeer mansour - )           »          رواية كنتِ أنتِ.. وأنتِ لما تكوني أنتِ ما هو عادي *مكتملة* (الكاتـب : غِيْــمّ ~ - )           »          لنجعل اليوم يوم الاعتراف .....؟ (الكاتـب : ميكاسا أكرمان - )           »          لوحة ليست للبيع -ج2 من أهلاً بك في جحيمي- للكاتبة الآخاذة: عبير قائد (بيرو) *مكتملة* (الكاتـب : Omima Hisham - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

Like Tree1465Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 16-08-20, 07:58 PM   #21

سعاد (أمواج أرجوانية)

كاتبة في منتدى قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية سعاد (أمواج أرجوانية)

? العضوٌ??? » 476570
?  التسِجيلٌ » Aug 2020
? مشَارَ?اتْي » 3,605
?  نُقآطِيْ » سعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond repute
افتراضي


تابع الفصل الثاني:

ظلت تبحث في الصندوق المليء بالأغراض القديمة حانقة، هي متأكدة من إحضاره معها من بيت خالها لكن أين هو الآن؟ زفرت بضيق وهي تستسلم بتعب مفكرة:
"وماذا إن وجدتيه؟ بم ستستفيدين؟ بالتأكيد اللص لن ينبُت له ضمير فجأة ويعيد إليكِ أغراضك!"
بدأت في إعادة كل شيء إلى الصندوق وهي تستغفر وتدعو بالصبر، وفجأة وجدته أمامها فاختطفته بلهفة، قلبته بين يديها بتفحص وهي تحمد ربها أنها لم تتخلص منه، هبت واقفة لتقوم بتوصيله بالشاحن الكهربائي وانتظرت بضعة دقائق حتى وجدت شاشته الصغيرة تضيء أخيرا، زفرت بارتياح ثم بدأت تطلب رقم هاتفها المسروق بتركيز وهي تتضرع أن يجيب السارق، ولخيبة أملها انطلقت الرسالة الرتيبة في أذنها:
"الهاتف الذي طلبته ربما يكون مغلقا، من فضلك عاود الاتصال في وقت لاحق!"
ماذا توقعت إذن؟! بضيق وضعت الهاتف على المنضدة الصغيرة المجاورة لفراشها وهي تلعن حظها الذي يزداد سوءا كل يوم! استغفرت مرة أخرى وهي تحمد ربها على سلامتها الشخصية، ثم جلست تبحث عن حل لمشكلة الكتب التي سرقت منها.
****
"هل أنهيتِ مذاكرتك قبل أن تفتحي ذلك التلفاز؟"
هتف بها عاصم بعصبية فاستدارت مريم إليه بابتسامة مغيظة:
نعم أنهيتها كلها، ولا تحاول إفراغ غضبكالذي لا أعلم سببه_بي!
جزَّ على أسنانه وهو ينظر لها بغيظ ثم انطلق إلى غرفته صافعا بابها بقوة، أمسك هاتفه وكتب عدة كلمات برسالة نصية إلى صديقه ليطمئنه على أحوال العمل في غيابه، ثم أطفأ الأضواء وتأهب للنوم، لكن رنين الهاتف ارتفع فَهَبَّ من فراشه وهو يشعل الأضواء مرة ثانية مُتمتماً بضيق:
"لقد أرسلت إليك تفاصيل التفاصيل، ماذا تريد مني بعد؟! ألا استحق نوما هانئا مبكرا؟!"
لكنه عندما تناول هاتفه لم يجد اسم صديقه كما اعتقد، بل وجد رقما غير مسجلا، أجاب مسرعا بنزق كي يعود إلى نومه:
_مرحبا، من معي؟
أجفلتها نبرته العالية فتنحنحت وهمت بالتحدث لكنه بادرها بصوت أكثر حنقا:
_من أنت؟ هل اتصلت لتسمعني صمتك؟ انطق من أنتــ......
_ قليل من الصبر لو سمحت! أعطني فرصة اولاً كي أتحدث!
عقد حاجبيه بدهشة والصراخ الأنثوي الحاد يلسع أذنه:
_من أنتِ؟!
_أنا سما!
بتوجس أجابته، فأخذ يبحث في عقله عن صاحبة ذلك الاسم فلم يجد ثم تحدث برسمية:
_عذرا آنسة، يبدو أنكِ مخطئة في الرقم.
تمكن منها نفاد الصبر وهي تجيبه بغيظ واضح:
_لا أنا لست مخطئة، أنت مهندس عاصم وأنا أريد أن أتحدث معك شخصيا، بالمناسبة أنا سما محسن حجاج، وقد تقابلنا بالأمس فورا قبل أن تتركني وتنصرف بمنتهى قلة الذوق.
وبرغم إدراكه هويتها واشتعال غضبه لذلك السبب إلا أن عبارتها الأخيرة أثارت حنقه ليتساءل بدهشة:
_أنا قليل الذوق؟!
ببرود شديد أجابته مؤكدة:
_وتفتقر لأدنى قواعد "الإتيكيت" أيضاً.
علا صوته حتى اضطرت لإبعاد الهاتف عن أذنها مغمضة عينيها بامتعاض :
_هل أنتِ معتوهة؟! أتصفينني أنا بقلة الذوق؟! اسمعيني جيدا آنسة "شبر ونصف" أنا لا أريد منكِ الاتصال بي مرة أخرى، ولا أود أن استمع لاسم تلك السيدة ما حييت، اذهبي اليها وخبريها أنني لا أطيق سماع اسمها ولا أريد أي صلة بها، هل تفهمينني جيدا أم لا؟ وبدون سلام!!
انهى الاتصال فورا وهو يستشيط غضبا، لكنه يشعر أنه لم يكتفِ! كان لابد له من إهانتها أكثر، كان لابد له من اخباره برأيه بها وبمن أرسلتها بمنتهى الصراحة، وعندما استغرق في أفكاره الحقودة شعر بِحركة خلفه فالتفت ليجد مريم واقفة بإطار الباب تحدق به ببلاهة ليصيح بها:
_ماذا تفعلين هنا؟
أجابته بنبرة دهشة متوترة:
_لقد أرسلني أبي لأخبرك أن طعام العشاء جاهز.
_لن أتسمم!
صاح بها بغضب ففغرت فاهها ثم قلبت شفتيها بإزدراء وهي تخاطبه بتحدي:
_ربما معها بعض الحق، أنت بالفعل قليل الذوق!!
ثم هرولت جريا قبل أن تصلها وسادته التي ألقاها تجاهها بغيظ.
وعلى الجانب الآخر كانت سما تضغط هاتفها بين يدها بغيظ وهي تلقي قاموسا متكاملا من الشتائم وتصب اللعنات على رأس ذلك الوقح، لكنها خرجت من غرفتها لتواجه المرأة التي ترتكز على عصا وتتحسس الجدران بجوارها فانطلقت إليها مسرعة لتستند عليها باطمئنان متسائلة بضعف:
_ماذا قال لكِ؟ هل سيأتي؟
عَوَجت سما شِفتيها بامتعاض ثم رَسَمت ابتسامة واهية حتى يخرج صوتها طبيعيا:
_نعم أم عاصم، إن شاء الله سيأتي قريبا.
ابتسمت المرأة بفرحة وهي تحمد ربها وتترقب سماع صوت ابنها الوحيد في أقرب فرصة.
****
"أين كنتِ دينا؟! لقد سأل أبوكِ عنك أكثر من مرة."
ألقت شروق سؤالها على ابنتها ما إن ولجت إلى داخل الشقة، فعقدت الأخيرة حاجبيها بضيق وهي تواجهها مجيبة:
_لقد أخبرتك أمي أنني سأقضي اليوم لدى صديقتي، هل انتهى العالم؟
اقتربت أمها منها قائلة:
_لا حبيبتي، لكني شعرت بالقلق، كما أن هاتفك مغلق طوال الوقت.
_لقد انتهى شحنه.
أجابتها بلا اكتراث ثم التفتت لتتجه إلى غرفتها فاستوقفتها أمها هاتفة بتوتر:
_انتظري دينا! أريد التحدث معك قبل أن يأتي أبوكِ ويقيم الدنيا ويقعدها.
علمت أنها استطاعت جذب انتباه ابنتها تماما حينما ألقت حقيبتها وجلست على الأريكة ببطء وهي تنظر لها متسائلة بترقب:
_ماذا حدث أمي؟، وإياكِ أن تقولي لي أنكِ تفكرين في موافقة أبي على إعادة تلك الحقيرة، والله سأترك البيت وقتها، أنا لن أتحملها ساعة أخرى.
جلست أمها بجوارها وهي تحدثها باهتمام:
_لا تقلقي، أبوكِ أصلا لا يفكر بإعادتها، لكن الموضوع يخصك أنتِ.
نظرت لها بقلق ثم حَثَّتها:
_تكلمي أمي! ماذا حدث؟
رمقتها أمها بِتردد ثم سألتها:
_أخبريني أولا! ألم يحاول حمزة التواصل معك؟
مطت دينا شفتيها باعتراض قائلة:
_ما دخل حمزة الآن؟ لقد تخلصت منه ومن معيشته الخانقة، وإذا حاول الرجوع لن أقبل، وارتاحي أمي هو أصلا لا يريد العودة، ما كان بيننا مجرد ثلاث سنوات من النكد والشجار ليس أكثر.
زفرت شروق باستسلام ثم قالت:
_حمداً لله أنكما لم تُنجبا أطفال.
توترت عينا دينا وهي تتهرب من أمها ثم غيرت الحوار هاتفة بفضول:
_ما هو الموضوع أمي؟
_هناك.. هناك عريس يريد التقدم للزواج منك.
ألقت شروق عبارتها مرة واحدة لتتسع عينا دينا بدهشة:
_عريس لي أنا؟ بتلك السرعة؟
مطت أمها شفتيها بلا تعبير وهي ترد:
_لا أعلم إن كان يجب علينا أن نفرح أم نحزن!
_ماذا تقصدين أمي؟ من هو؟ وماذا يعمل؟
نظرت لها بتوجس تجيبها:
_إنه.. إنه ليس بغريب، نحن نعرفه تمام المعرفة، هو يكون أخ السيدة منال.
رمقتها دينا باستنكار وهي تهتف بها:
_هل تمزحين أمي؟! إنه أصغر مني بستة سنوات!
عوجت الأم فمها ثم أجابتها بتوتر:
_لم أقصد هشام يا دينا، قصدت شقيقه الأكبر، طارق! انتظرت هجوما من ابنتها مصحوبا بتوبيخ تستحقه الفكرة لكن دينا نظرت لها بدهشة تحولت لاهتمام مباغت وهي تسألها:
_طارق! الذي يملك سيارة رُباعية فاخرة؟
دارت عينا شروق على وجه ابنتها ثم أجابتها:
_نعم، وهو أيضا يمتلك xxxxا بوسط المدينة ومنزلا صيفيا بالساحل الشمالي.
عم الصوت وشروق تحاول سبر أغوار ابنتها بينما بدت دينا وكأنها شاردة بعالم آخر، لم تقو شروق على الانتظار أكثر وهي تهتف بها بترقب:
_لكنه أكبر منك بعشرين عام ولدية أربعة أولاد.
ردت دينا بشرود:
_لكنه يهتم بنفسه وبصحته ومظهره، من لا يعرفه يعتقد أن عمره لا يتعدى الأربعين، كما أن أصغر أولاده عمره اثني عشر عاما، أي أنه لا يحتاج لاهتمام خاص، بالإضافة إلى أني علمت منذ مدة أن أخته ترعى أولاده بحكم سكنهما بمنزل واحد.
سألتها أمها بترقب:
_دينا! هل أنتِ موافقة؟
نظرت لها دينا مليا ثم هزت كتفيها بلا مُبالاة وهي تجيبها:
_أنا أفكر أمي، يجب أن أفكر جيدا قبل أن أوافق أو أرفض، لا أريد تكرار خيبتي الأولى.
****
منذ ست سنوات ونصف:
استند على أقرب جذع شجرة كي لا ينهار مكانه وهو يراقب موكب العروسين الذي وصل لتوه إلى قاعة الزفاف، راقبها وهي تتأبط ذراع عريسها بابتسامة سعيدة..
أهي حقا سعيدة؟هل نسته تماما؟! هل استبدلته بآخر بعد شهور فقط؟
ولِمَ الدهشة وعلام الاستغراب؟! لقد بدأ هو بالتخلي عندما خضع لوالديه واقترن بغيرها تاركا إياها خلفه بقلب محطم وما ذنبها سوى أنها لم تكن رفيعة المستوى من وجهة نظر والديه، والآن يفكر بلومها؟ وهو من تنتظره في البيت يوميا زوجة لا يشعر تجاهها سوى بالذنب؟! من ينتظره طفلا بعد شهرين لا يشعر تجاهه بأي شيء؟! هو حتى لا يهتم بقدومه أو عدمه!
تقهقر منهزما وهو يجر نفسه جرا ليسير على قدميه إلى فيلا والديه حيث صمما على الاستقرار بينهما، وصل إلى الفيلا يشعر بألم شديد، وصعد إلى جناح الزوجية المظلم كالمعتاد، فمنذ ذلك اليوم الذي أخبرته زوجته بخبر حملها وقد سرى بينهما اتفاق غير معلن على انفصالا نفسيا، لا تنتظره ولا تكلمه، لا ينظر إليها ولا يطلب منها شيء، يشعر هو براحة بسبب ذلك الوضع، أما هي فتتألم كل ليلة وهي تتمنى حتى عودته شقيقا يحنو عليها ويهتم بها، لكنها أخذت على نفسها ميثاق صبر لن ينفصم، ستنتظر وتنتظر حتى يفيق من سَكرة شعوره بالاضطهاد، وحينها سيدرك أنه مطلقا لن يجد من تعشقه بقدرها، وسيحين ذلك اليوم قريبا، أليس كذلك؟!
لكن من الواضح أنها نقضت عهدها اليوم، فالجناح مضاء وهي جالسة أمام الباب تنتظره بلهفة فشلت في إخفائها فشلا ذريعا، فما أن دفع نفسه بتثاقل الى الداخل حتى انتفضت على قدر ما تسمح به حركتها الثقيلة ببطنها المتكورة وهي تهتف:
_عَمَّار! هل أنت بخير؟! لِمَ تأخرت حتى الآن؟!
حدق بها لثوان بعدم فهم ثم رفع معصمه ونظر إلى ساعته، لتتسع عيناه بدهشة: إنها الثالثة صباحا! هل ظل يمشي لأربع ساعات متواصلة بدون أن ينتبه؟
أما هي فقد التقطت ضياعه فورا، ضربها ذلك التيه بعينيه في مقتل، لتمتد ذراعيها بدون إرادة منها وتجتذبه لأحضانها بانهزام مُرَبتًة عليه بحنو، وبدمعات متكسرة وبصوت مذبوح سألته:
_علام تحتد حبيبي؟
ليجيبها بهمس ضائع:
_لقد تَزَوجَّت!
لا تعلم هل شعر باهتزاز صدرها تحت رأسه أم لا، لا تعلم هل استمع لصراخ روحها الصامت أم لا..
أيجب عليها أن تعاتبه؟!
أيُجاهِر بِحُزنه لِفقدان أخرى أمامها؟!
أيشكو لها ضياع غريمتها؟!
أحقا عَمَّار أنت بتلك القسوة؟!
ستصمت الآن، ستساعده وتطبب جروحه، وبعدها لكل حادث حديث.
وهو..
تسلل إليه دفء غريب لا يدري ما هو مصدره؛
لا يدري إن كان حقيقياً بالأصل أم أنه يتوهم؛
أمِن شِدة توقه إليه شعر به دون وجوده..أَم...!
طرقات عنيفة على باب جناحهما حرمتها من ذلك القرب النادر وأخرجته من ذلك الشرود ليرفع رأسه وهو ينظر لها بدهشة انتزعته منها إعادة الطرقات بصوت أعلى، اتجه الى الباب وفتحه ليجد أبيه يندفع تلاحقه أمه شاحبة الوجه ثم :
صفعة!
صفعة على وجهه من أبيه!
صفعة على وجهه أمام أمه!
صفعة أمام زوجته التي صرخت باسمه هَلِعَة!
صفعة يوم ضياع آخر أحلامه!
وصياح غاضب من أبيه كما العادة:
_أذهبت إلى زفاف ابنة البائع؟! أتريد إلحاق العار بي؟ لقد علمت أنك ستكون سبب نكبتي يوما، ماذا تريد أكثر؟! مهنة مرموقة، فيلا فخمة، أحدث سيارة، زوجة أصيلة النسب والمقام وطفل بعد شهرين قادم، أتعلم أي نوع من الحياة وفرت لك أنا؟
وكان الرد الهادىء على النقيض مم يستيقظ تلك اللحظة بأعماقه بعد طول غياب:
_سجن!
عقد والده حاجبيه بدهشة:
_ماذا قلت؟!
أعاد كلمته الوحيدة برتابة:
_سجن!!
ثم أضاف بابتسامة ساخرة بدأت تظهر على استحياء:
_وفرت لي سجن رفيع المستوى، عظيم المقام، جميل الهيئة من الخارج، ذي عيشة رغدة وطلبات تلبى بلحظة.
ثم هَزَّ كتفيه مُتابعاً بِتَهَكُّم:
_ لكنه يظل مجرد سجن!
لطمت أمه على وجنتها بذعر بينما فغر ابوه فاهه بصدمة هاتفا:
_هل تتواقح عليّ يا ولد ؟! أتعترض على رَغَد عيشك الذي أمنته أنا لك؟!
والابتسامة تحولت لضحكة، والضحكة تعالت وتعالت حتى دمعت عيناه، ثم بصعوبة توقف وهو يخاطب أبيه:
_أعترض؟! ماذا تعني تلك الكلمة يا أبي؟ وهل أنا أمتلك مثل تلك القوة الخارقة؟!
وانمحت الابتسامة تماما ليحل محلها تعبير حاقد كاره وكأنه لتوه تم تشكيله على وجهه، تراجع أبوه للخلف خطوة واحدة وهو يحدق في ذلك الكائن الذي يراه للمرة الأولى ويتوقع الآن منه تصرف عشوائي لم يعتده من قبل، هو يعلم متى يفقد زمام أحد عبيده ويبدو أنه قد فعل الآن، فلم يخذل عَمَّار توقعه عندما زأر بأعلى صوته:
_متى اعترضت أبي؟ وعلام اعترضت طوال حياتي؟ ارتدي تلك السترة عَمَّار، حاضر! لا تتباسط مع ابن الموظف الذي يعمل لَدَيّ عَمَّار، حاضر! سيارة زرقاء عَمَّار؟! ما هذا الذوق المقرف؟!، خذ الرمادية، حاضر! لا تأكل في ذلك المطعم الشعبي عَمَّار، حاضر! ستصبح طبيبا وانس امر التدريس تماما، حاضر! اتريد ان تتزوج ابنة البائع وتحرجني أمام معارفي؟ ستتزوج ابنة خالتك بالطبع، حاضر!حاضر! حااااااااضر!!!
صمت عم بين أربعتهم إلا من شهقات مَوَدَّة الباكية وهي تتمسك ببطنها بألم، الابن يواجه أبيه للمرة الأولى بحياته وهما لا يشعران بما حولهما، ليتقدم عَمَّار تجاهه الخطوة التي تقهقر الآخر بها وهو يحدق بعينيه بابتسامة حاقدة، وبنبرة خافتة قاتلة تحدث:
_أتعلم أبي؟! لطالما استمعت من أصدقائي عن شعورهم عندما بُشِّروا بانتظار أطفالهم ودهشت كثيرا، لأظل طوال الشهور الفائتة أتساءل لِمَ لا أشعر مثلهم؟ لِمَ لا أتلهف لحضور ابني إلى هذه الدنيا؟ لِمَ لا أتخيل ماذا سأفعل معه عندما أحمله بين يدي وألاعبه وألاطفه، هل انعدم شعوري أخيرا؟ هل تبلدت أحاسيسي بالأبوة تماما؟، ودوما ما هَرِبَت مني الإجابة، والآن فقط أدركتها بأم عيني وأنا أنظر إليك..
سَكَت يجتذب شهيقاً عميقاً ثم أردف بِتشديد:
_ببساطة أنا لا أريد أن يأتي ابني حتى لا أكن له أبا مثلك أنت!
والصفعة الثانية انطلقت من أبيه لكنها لم تصل لهدفها عندما قفزت مَوَدَّة صارخة باسمه تفتديه بجسدها لتصبح من نصيب إحدى كتفيها، فسقطت أرضا شاحبة الوجه بينما انتفضت خالتها إليها تصرخ بلهفة، دارت عينا أبيه بين ثلاثتهم بجنون غاضب وتركزت على مَوَدَّة والذعرللمرة الأولى منذ سنوات يتملكه، ثم انطلق خارج الفيلا بأكملها، أما عَمَّار فقد حدق في الماء الذي ينهمر أسفل جسد زوجته التي تطلعت إليه بصدمة، سَقَط بِجانبها على رُكبتيه وملامحه تصرخ بالذعر ممسكا إحدى كفيها، ثم مَدَّ إحدى يديه أسفل عنقها والأخرى أسفل ركبتيها وانطلق بها إلى الأسفل وقلبه يرتجف بين أضلعه شاعراً برُعب لم يكتنفه يوماً ، فمن الواضح أن ابنه لن يصبح خاضعا مثله ، حيث قد قرر عصيانه والخروج إلى الدنيا قبل موعده بشهرين!!
****
عودة إلى الوقت الحالي:
"الهاتف الذي طلبته غير متاح حاليا، من فضلك حاول الاتصال في وقت لاحق!"
تأففت بضيق وهي تلقي بهاتفها القديم على الطاولة الممتدة أمامها بعد أن استمعت لنفس الرسالة عشرات المرات، جالسة في أحد أركان غرفة الاستراحة بالمعهد تتناول شطيرتها بهدوء وهي تحاول تدبُر طريقة تحصل بها على بدائل للكتب التي سُرقت منها، لقد مر أسبوع منذ وقعت السرقة والوضع خلال الحصص أصبح فوضوي للغاية، لكنها لن تكون متشائمة، فقد رُزِقت بنعمتين خلال تلك الأيام، أولهما أن تلك الذراع ذات المزاج المتقلب عادت وحدها للعمل بشكل كامل، وثانيهما أنها لم ترَ مُلاحِقها، صحيح هي لا تعلم إن كان يتصل بها على الرقم القديم أم لا لكنها لم تره عند مسكنها أو مكان عملها، وهذا بحد ذاته إنجاز هام، كي تكتفي الآن بالتفكير في حل لمشكلة وسائل عملها الضائعة.
رنين ضعيف من هاتفها شديد الصغر جعلها تضع شطيرتها جانبا وهي تتناوله بملل،"بالتأكيد هي رسالة من شركة الاتصالات تعرض عليها الاشتراك في خدمة ما!" هكذا فكرت وهي تفتح الرسالة لتتسع عيناها بذهول، بالفعل هي رسالة من شركة الاتصالات، لكن النص مختلف!:
"الرقم الذي حاولت الاتصال به أصبح متاحا الآن!"
قفزت واقفة تتلفت حولها بلا هدف ثم انتبهت إلى حماقتها، بأنامل مرتبكة طلبت رقمها القديم لتتسع
عيناها بترقب فَرِح وهي تسمع صوت الجرس الرتيب على الطرف الآخر يشدو في أذنها كسيمفونية عذبة!
"أجب! أرجوك أيها اللص أجب!"
ظلت تهمس بتضرع حتى انقطع الاتصال فلم تيأس لتعيده مرة ثانية، ثم ثالثة، وفي الرابعة انفتح الخط!
_انتظر أرجوك لا تغلق!
بادرته بلهفة ثم تابعت بتوسل:
_اسمع! لا أريد النقود التي كانت بحقيبتي، وأعلم أيضا أنك لن تعطيني الهاتف بالطبع، لكن أرجوك أعطني الكتب!
نبرة رجولية هادئة أجابتها:
_أي كتب؟
ازداد التوسل في لهجتها وهي تجيبه:
_الحقيبة كانت تحتوي على كتب تخص عملي، ودفتر ملاحظات هام بالنسبة لي للغاية، لا أريد سواهم.
ببطء ونبرة أيقنت أنها باسمة جاء الرد:
_نعم.. الكتب ودفتر الملاحظات، ماذا تريدين أيضا يا آنسة؟
ضيقت عينيها وَرَدَّت بحذر:
_إن كنت ستعطيني بطاقتي الشخصية سأكون أكثر من راضية.
أجابها بتأكيد:
_طبعا! طبعا! وماذا عن نصف لوح الشوكولاتة؟ ألا تريدينه أيضا؟
بدهشة سألته:
_هل لا يزال هناك؟!
ثم استدركت بصرامة مصطنعة:
_اسمع! أنا لا أسمح لك بالسخرية مني، أخبرتك أني سأترك لك الهاتف والنقود، أريد الكتب فقط.
رد بضيق شعرت أنه مفتعل:
_هل تعلمين أن شاشة هاتفك كانت محطمة؟! وأنها كلفتني مبلغا وقدره كي أبدلها وأستطيع تشغيله؟
هتفت به بحنق:
_اعتذر من سيادتك أيها اللص، سأدفع ثمنها لك، انتظر لحظة! أنت بالفعل معك كل نقودي، تستطيع أن تخصم منهم ما تشاء.
ضحكة رائقة طالت للحظات تبعتها حمحمة ثم عبارة خافتة:
_لِمَ لا تنفكِين تسألين عن الكتب؟ هل أنتِ طالبة؟
بارتباك أجابته:
_إنها مهمة لعملي، أنا مُعلمة.
عم صمت قصير استطاعت من خلاله سماع صوت تقليب صفحات، لتتيقن أنها كتبها، ثم تحدث هو بهدوء:
_"قواعد اللغة الإنجليزية"، "مفردات شائعة باللغة الإنجليزية"، "نساء صغيرات"!! هل يدرُسون تلك الرواية المملة؟! إنها منذ أيام جدي، ألا يتطورون؟!
اتسعت عيناها بدهشة حقيقية وهي تسمعه يقرأ عناوين كتبها بلكنة أجنبية طليقة..
لص مثقف إذن! أمن الممكن لحظها أن يصبح أكثر غرابة؟!!
_إنها خاصة بي أنا!
هتفت بحزم ليرد هو بنبرة متحرجة بعد بضعة لحظات:
_آسف، إنها رواية رائعة بالطبع لمن يُقدِّر فنون الأدب.
نفضت رأسها تفتعل جدية هاربة ثم هتفت بِنفاد صبر:
_والآن ماذا؟! هل ستعطيني كتبي؟
تظاهر بالتفكير ثم رد بعتاب:
_أتطلبين مني أن أوافق على تسليمك كتبك حتى تقومي بإبلاغ الشرطة عني وأقضي سنوات شبابي في السجن أليس كذلك؟! أتعتقدين أنني بتلك السذاجة؟!
ردت بلهفة متوسلة:
_أقسم لك أنني لن أبلغ الشرطة أبدا، أنا لا أريد التورط مع أمثالك، فقط اترك لي كتبي بأي مكان ولن تسمع عني مرة أخرى.
عقب بدهشة:
_لا تريدين التورط مع أمثالي؟! شكرا لكِ آنسة ، شكرا جزيلا ، ألا يندرج قولك هذا تحت بند التنمُر؟ أهذا ما تعلمونه للجيل الصاعد؟!
ضغطت أسنانها بغضب وهي تدق على رأسها بكفها لاعنة تهور لسانها:
_آسفة جدا يا أستاذ، أرجوك أنا أحتاج تلك الكتب بشدة ولا أستطيع الحصول على بدائل لها.
والضحكة الرائقة عادت أقوى وأطول وعاد معها ارتباكها وهي تنتظر انتهاءه بأدب:
أتعلمين؟! _ولا أتعمد ازعاجك اسمحي لي أن أقل لك أنكِ ضحية لقطة!
عقدت حاجبيها بدهشة ولم ترد فتابع هو بصرامة هادئة:
_أنتِ في موقف الحق، لا يجب عليك أن تتوسلي، أملي شروطك ولا تخضعي لأحد حتى وإن كانت أحلامك كلها متعلقة به.
عم الصمت مرة أخرى ليستدرك بنبرة مرحة:
_والآن كيف ستتسلمين حقيبتك بما فيها ؟
سألته بِترقب:
_هل تعني أنك ستعطيني الحقيبة مع الكتب والـ....
قاطعها بلهجة باسمة:
_ والنقود والهاتف ودفتر الملاحظات، لكنني سأعتبر نصف لوح الشوكولاتة هو تعويضي عن إصرارك على اتهامي بالسرقة!
بنبرة دهشة مرتبكة أجابته:
_أتعني أنك لست لصا؟!
استطاعت سماع زفيره الحانق الذي سبق تحدثه بنفاد صبر:
_أقسم لكِ يا آنسة رهف أنا لست لص، بل أنا مهندس محترم ولدي نصيب بشركة مرموقة.
تسللت ابتسامة رقيقة رغما عنها إلى شفتيها وهي تجيبه باستفسار أحمق:
_كيف عرفت اسمي؟!
لتتسع تلك الابتسامة أكثر وهو يحدثها بلهجة خافتة أثارت بها قشعريرة غريبة:
_بطاقة هويتك الشخصية بين يدي الآن آنسة رهف!
ساد صمت غريب قطعه هو بحمحمة متوترة:
_إذن كيف ستتسلمين أغراضك؟
وقبل أن تفكر بادرها:
_هل آتي إلى العنوان المدون على البطاقة؟
وبذعر نهته مُسرِعة:
_لا لا، أنا لم أعد أقطن بذلك العنوان، ولا أريد أن أرهقك معي، أخبرني بأقرب مكان إليك، أستطيع أن أحضر إلى مكان عملك، إن لم أكن سأتسبب في تعطيلك بالطبع.
أجابها بتهذيب:
_أنتِ لن تعطليني عن شيء، سأنتظرك غدا بالعنوان الذي سأرسله إليك على هذا الرقم، اتفقنا؟
بانقياد تام أجابته:
_اتفقنا!
****


سعاد (أمواج أرجوانية) غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 16-08-20, 08:00 PM   #22

سعاد (أمواج أرجوانية)

كاتبة في منتدى قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية سعاد (أمواج أرجوانية)

? العضوٌ??? » 476570
?  التسِجيلٌ » Aug 2020
? مشَارَ?اتْي » 3,605
?  نُقآطِيْ » سعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond repute
افتراضي

تابع الفصل الثاني:

شارد الذهن منذ دقائق يجلس بِمكتبه ولا يستطيع تحليل ماهية مشاعره، وفجأة فُتِح الباب دون استئذان وانطلق هتافها المُصمم على الفور وهي تدلف :
_يجب أن أتحدث معك!
ألقى القلم الذي يمسك به بطول ذراعه ليصطدم بالجدار البعيد وهو يحدق بها بغضب ويهب واقفا هادراً بها:
_من سمح لكِ بالدخول إلى مكتبي؟! أين هي تلك السكرتيرة الـ...
قاطعته سارة التي دخلت لتوها تنظر إليه شزرا:
_أنا من أدخلتها عاصم، ويفضل أن تخفض صوتك قليلا كي لا يستمع الموظفون.
ثم أضافت بنبرة خافتة سمعها الاثنان:
_يا خسارة تربية سوسن بك!
استشاط غضبا وتحرك من خلف مكتبه متجها إليهما فتخصرت سما وهي تقف أمامه رافعة ذقنها بتحدي ثم هتفت:
_ماذا ستفعل؟ هيا أرني! لقد حصلت على الحزام الأسود في الكاراتيه منذ سنوات ولم تسنح لي الفرصة للاستفادة به بعد، ولكم أتشوق للتجربة، خاصة إن كانت على وجهك المستفز.
لم تستطع سارة كتمان ضحكتها أكثر وهي تتطلع الى ملامح الصدمة على وجه عاصم بينما هو يطالع قامة مواجهته الضئيلة وصاحبتها تناظره بتحدي صارخ، حتى استطاع أخيرا الرد بصوت متحشرج:
_أنتِ..أنتِ فعلا مجنونة!
لتبتسم ببرود وهي تهتف:
_وأنت قليل الذوق، عديم "الإتيكيت".
تدخلت سارة بشماتة:
_الفتاة كشفتك منذ اللقاء الأول، حتى تعلم كم تحملت أنا لسنوات!
جذب شعره بغيظ وهو يحاول التمسك بالهدوء هاتفاً:
_ماذا تريدين مني؟
ببرود أجابت:
_أريد التحدث معك، وبشأن والدتك التي أنجبتك، السيدة صفاء، وليكن في معلوماتك أنني لن أتزحزح اليوم من هذا المكان إلا بعد أن أنفذ ما جئت لأجله، حتى وإن اضطررت إلى جلب الشرطة لي!
وضعت سارة يدها على كتفي سما برقة ثم نظرت إليه قائلة:
_لن يضيرك شيئ إن استمعت إلى ما لديها عاصم، فقط اهدأ واجلس.
زفر بغيظ وهو ينظر إليها بكراهية بادلته إياها بكل كرَم، فدفعتها سارة برفق لتجلس فوق أقرب مقعد، وعاد هو أيضا إلى المقعد خلف مكتبه، همت سارة بالخروج حتى أوقفها عاصم بحزم:
_إلى أين تذهبين سارة؟
التفتت إليه بدهشة قائلة:
_أنا أعمل في هذا المكان إن كنت لا تعلم!
شدد على حروفه ببرود وهو يرد على سارة لكن نظراته محدقة بسما:
_أنتِ لن تخرجي وتتركيني معها!
لم تحد سما بعينيها عنه وهي تبتسم بتحدي قائلة:
_أنا لن آكلك، لا تخف!
مسح وجهه بكفيه وهو يزفر نيرانا من صدره بينما ردد بِغيظ:
_يا الله يا ولي الصابرين!!
ارتمت سارة على المقعد المواجه لهما وهي تنظر لسما بتوسل، فارتخت ملامح الأخيرة وهي تنظر إليه بجدية قبل أن تقول:
_استمع إلي مهندس عاصم، أنا لا أعلم سبب القطيعة بينك وبين والدتك، لكنني أعلم أنها تتمنى...تتمنى أن تتواصل معها، تتمنى أن تزورها، هي لم تنجب غيرك وتحتاج الآن إلى وجودك معها، واعتقد أنك لن تتحمل ذنب كقطع رحم أمك وعقوقها.
هب واقفا بغضب:
_ما خصك أنت بما بيني وبينها؟ ثم أنني.....
هبت واقفة تصرخ به:
_أنت لا تخصني بشيء، هي من تخصني، هي من تتعذب، هي من تصرخ ليلا باسمك وكلما ارتفع رنين جرس الباب نادتك بلهفة، كيف تتحمل كونك قاس هكذا؟ أمك مريضة مهندس عاصم، مريضة جدا وتحتاجك بشدة، لا تظلمها أنت ايضا، تناقش معها ربما لديها ما تحتاج إليه، لِمَ اكتفيت بالسماع من طرف واحد فقط؟!لِمَ لا تطالب بالحقيقة كاملة؟
عم الصمت المكان والثلاثة ينظرون لبعضهم بِوجل ودهشة وغضب، كانت سارة أول من تعقل بينهم وهي تنظر له بابتسامة حنونة وتخاطبه بِتشجيع:
_فكر بكلامها عاصم، مهما كان ما حدث بالماضي ستظل هي والدتك وستظل أنت ابنها الوحيد، اذهب إليها وتحدث معها.
التقطت سما طرف الحديث بهدوء:
_أنت لن تخسر شيئا، زيارة عابرة لن تأخذ من وقتك الكثير، ستريحها وسترضي شوقها إليك.
ابتسم ساخرا وهو يردد بألم:
_شوقها إلي؟ السيدة صفاء تشتاق إلي؟ بعد كل تلك السنوات تذكرت وجودي أخيراً؟ أين كانت من قبل؟
لم تجد رَدَّاً مع نظرة التحسُّر بعينيه فَتَابَع هو:
_آسف آنسة سما، تستطيعين إخبارها أن ابنها الذي اكتشفت وجوده فجأة لم يعد بحاجتها ولا ينتظرها، وأن الله قد عوضه بزوجة أب وبأختها فكانتا له التعويض الكافي عن نبذها إياه.
تَعَلَّقت عيناها به بينما نَضَبَت كلماتها بِعجز، تستطيع أن تعاند؛
تستطيع أن تتحداه؛
تستطيع استخدام حدة لسانها ومجادلته حتى الساعات الأولى من الصباح؛
لكن ذلك الصراخ الذي تهتف به عيناه يمنعها، ذلك الخذلان الذي يعانيه يجبرها على احترام رغبته، يجب عليها أن تفكر في حل لمهمتها الصعبة بعيدا عنه، يجب عليها ألا تضغط على جرحه أكثر من ذلك.
تقهقرت للخلف وهي تومىء برأسها إيجابا، وعند الباب التفتت تنظر له بهدوء:
_أعتذر مهندس عاصم، لن أزعجك أو أعترض طريقك مرة أخرى، لكن إن..إن غيرت رأيك تستطيع أن تهاتفني بأي وقت وسآخبرها أنك تريد رؤيتها، رقمي لدى الآنسة سارة، إلى اللقاء.
خرجت مسرعة وهي تشعر بأنفاسها تضيق بصدرها، أما هو فقد طأطأ رأسه وصدره يتعالى ويهبط في تنفس سريع، وبخفوت صارم تفوه:
_أريد أن أظل بمفردي سارة.
زفرت بحزن وهي تتطلع إلى حالته السيئة، ثم بهدوء خرجت وأغلقت الباب، أما هو فقد جلس مكانه سارحا بعقله في ذكريات بعيدة...
منذ عدة أعوام:
وقف يحدق في وجه والده بصدمة وهو يحاول استيعاب ما أخبره به للتو:
"والدتك لم تعد زوجتي منذ مدة!"
"والدتك لن تعيش معنا ثانية!"
"والدتك ستتزوج بآخر!"
مشاهد متلاحقة وأحداث صادمة، أمه تحتضنه باكية وهي تودعه معتذرة، أبوه يقف رامقا إياها ببرود، خزانة ملابسها أصبحت فارغة، أدوات زينتها لم تعد موجودة، رائحة عطرها لم تداعب أنفه منذ فترة، أدوات طهيها، حكايات ما قبل النوم، حضنها الدافىء، قُبلتها الحنونة على جبهته، كلهم ذهبوا بلا عودة.
ثم..
سنوات مرت وهو بانتظار عودتها إلى أن بدأ بالتدريج يفقد الأمل..
ثم..
امرأة أخرى!! أثاث جديد، ملابس جديدة بخزانة أمه، أدوات زينة جديدة، عطر جديد، أدوات طهي جديدة..
ومحاولة للتقرب.. تفشل!
لبعض المشاركات في المذاكرة.. تفشل!
لقُبُلات على الجبهة..
تفشل!
وتفشل!
ثم رضيعة صغيرة تصرخ بصوت حاد!!
أبوه: "احملها عاصم إنها أختك!"
_لا أريد!
زوجة أبيه: "ما رأيك إن سميتها أنت؟!"
_لا أهتم!
أبوه: "كان يقول دائما إنه إن رُزِق بأخت ستكون مريم."
زوجة أبيه: "إذن هي مريم!"
وعندما أصبحت تلك الرضيعة بعمر الثالثة اضطر أبوه وزوجته للسفر لآداء واجب العزاء في أحد الأيام..
الصغيرة شقية كالعفاريت! تقفز هنا وهناك ولا تترك شيئا بمكانه! لا تطيعه ولا تسمح له بالتركيز في دروسه، جرى خلفها فهربت إلى المرحاض، أمرها بفتح الباب فعاندته، لينتقم منها ويوصد الباب!
طرقات ضعيفة متتالية وهو يبتسم من خلف الباب بتشفِ، ثم صوت ارتطام!!
تسمَّر بمكانه لثوان يحاول تخمين ماهية الصوت الى أن ضربت الفكرة عقله في مقتل..
المغطس المليء بالمياه حرصا منهم على الاحتياط منه في حالة انقطاعها..
وبلهفة فتح الباب وهو يجد أخته تنازع للحصول على بعض الأنفاس!
تسمر مرة أخرى مكانه محدقا بها...
هل أصبح قاتلا؟!
هل قتل أخته؟!
وانفتح باب الشقة..
وصراخ من زوجة أبيه وأبوه يدفعه ليحمل طفلته التي لا تأتِ بأية حركة، ولِثوانِ أخذ ينعشها باستماتة وعندما سعلت أخيراً استدار إليه ليصفعه.
طأطأ رأسه راضيا بالمزيد فجذبته زوجة أبيه من أمامه تحتضنه رغما عنه وهي تمسد على ذراعه بحنان، وتوبخ أبيه بغضب!
ومنذ ذلك اليوم..
لم يعد عطرها يضايقه!
أصبح هو من يبادر باحتضانها وتقبيلها وطلب الاستماع إلى حكاياتها!
إلى أن فقدها وهو في عمر الرابعة والعشرين بعد صراع مرض غادر أهلكها ثم اختطفها تاركة بعدها طفلة، وتاركة إياه يتيما للمرة الثانية!
لتتسلم القيادة الأمومية من بعدها أختها الخالة سوسن، نعم هي ليست خالته بالمعنى الحرفي لكنها أخت حبيبته التي رحلت..
****
عودة إلى الوقت الحالي:
_هل جننت يا شروق؟!
هتف بها صلاح ثم خرج من غرفته مناديا ابنته التي جائته خائفة:
_نعم أبي؟
نظر لها بغضب هاتفاً:
_هل سمعتِ بالهراء الذي تتفوه به أمك؟ تريد أن تعرض عليك عريس وعدتك لم تنتهي بعد!
نقلت دينا نظراتها بين أبيها وأمها التي تقف خلفه بترقب ثم قالت بتردد:
_نحن لم نقل أنني سأتزوج غدا أبي، هو مجرد تعارف بسيط.
تحدثت شروق بحنق:
_أخبريه دينا، لقد جعلني أشعر أني اصطحب المأذون في يدي!
فغر أباها فاهه دهشة وهو ينظر إليهما بالتبادل ثم صاح:
_أنتِ موافقة إذن على ذلك السخف؟! وبالطبع تعلمين أن عريس الغفلة يصغرني أنا ببضعة أعوام، ولديه أربعة أولاد أكبرهم يقارب سنك!
وعندما طأطأت كلتاهما رأسها أخذ يضرب كفيه ببعضهما وهو يحوقل ويستغفر ثم حدثها بمهادنة:
_لله الأمر من قبل ومن بعد، أتريدين فعل ذلك بنفسك ابنتي؟ لِمَ التعجل؟ انتظري قليلا عسى الله أن يرزقك بشاب في مثل سنك.
انتفضت دينا صائحة:
_لقد تزوجت من قبل بمن هو في مثل سني أبي، وماذا كانت النتيجة؟
صاح بها أبوها:
_ماذا كانت النتيجة دينا، أخبريني! أريد أن اعرف ماذا حدث، أعلم أن هناك ما تخبئينه عني خوفا لأنكِ تعلمين أنكِ مخطئة، حمزة أيضا لم يشأ إخباري مُصِرَّا على عدم التحدث في أسرار تخصكما، هل هذا هو من تندمين على زواجك به؟ أليس هو نفسه من كدت تطيرين فرحا يوم تقدمه لخطبتك؟
_ هتفت دينا بغضب:
_لقد أخطأت! نعم أخطأت حينما اعتقدت أن عمله كطبيب يُدر عليه العديد من الأموال واكتشفت أن مستواه مماثل لنا تماما، لن يضيف إليّ شيء، وليزيد الطين بلة علمت أنه يعطي أموالا لوالده وما خفي كان أعظم، وأنا لم أتزوج كي أعيش بنفس الظروف المادية الخانقة، أريد أن اتمتع بشبابي وبجمالي مع من أسعد معه.
نظر لها صلاح بخيبة أمل مشوبة بازدراء:
_ماذا به مستوانا دينا؟ هل قصَّرت معك بشيء؟ هل قصَّر حمزة معك بشيء؟ لقد كنت أرى بنفسي مدى كرمه وطيب أصله وإيثاره إياكِ على نفسه، ثم ماذا إن كان ينفق على أهله؟ ما خصك أنتِ؟! هل كنتِ تريدين الزواج من أحد العاقين الذين يتنكرون لأهلهم؟! كيف ومتى أصبحتِ طماعة وحقودة بذلك الشكل ابنتي؟
تدخلت شروق بغضب:
_من حقها صلاح أن تعيش مرفهة، وان كان هو يـ.....
صاح صلاح بها بثورة:
_اخرسي أنتِ! ألا تملين؟! ألا تتعبين من تلك السموم التي تسكن جلدك؟ ألا تريدين أن ننعم براحة وسلام مطلقا؟! كفي عن بث أحقادك في أذني ابنتك وإلا أقسم أنني لن أهتم لِسِنِّك وسأجعلك تكرهين حياتك.
ثم التفت إلى ابنته صائحاً بصرامة:
_وأنتِ! لا تفكير في زواج آخر إلا بعد انقضاء عدتك، لعلك تكونين قد تعقلتِ حتى ذلك الوقت.
ثم دخل إلى غرفته صافعا بابها بقوة أتبعها بصوت دوران المفتاح لإيصاده تماما في رسالة صامتة بأن تقضي شروق ليلتها على الأريكة.
****
منذ ست سنوات ونصف:
وقف أمام غرفة العمليات مُتسمراً بِخوف وهو يولي أمه وأخته وخالته ظهره، وعلى الجانب الآخر يقف والده بعد أن هاتفته أمه صارخة به بغضب ومهددة إياه إن حدث شيء لمَوَدَّة بسببه.
مَوَدَّة!!
آآآآه يا مَوَدَّة!
ماذا فعلت بكِ أنا؟ ولِمَ تصبرين على ذلك الوضع؟ ما الذي أظهرك بحياتي الآن وأنا أعاني من التشتت والضياع؟! ما ذنبك كي تتحملي ذلك الألم من أجلي؟ ما ذنبك أن تحبي وتتزوجي وتنجبي طفلا من ضعيف مثلي؟
وعلى ذكر طفله ارتجف قلبه بقوة، لقد كان يتشدق منذ قليل بعدم اهتمامه به على الإطلاق ، لِمَ يشعر الآن بأنه إن لم ينج بالداخل سيلحق به مُرَحِبَاً؟!
ابتهل هامساً بتوسل:
_لا يا رب، لا تؤذِني فيه، أريد ذلك الطفل، اجعله سالما معافى، واحفظ أمه يا رب.
ثم خرج الطبيب معلنا بإرهاق عن سلامة الطفل رغم ميلاده مبكرا..
وبلهفة بادره:
_وزوجتي؟ كيف حالها الآن؟
ليطمئنه الطبيب بسلامتها فيحمد ربه على استجابته.
وبعد أن جرب للمرة الأولى حمل جزء من روحه بين يديه، اجتاحه حنان جارف ورغبة بالبكاء وهو يراقب خاطر خبيث يرحل مدحورا...
هو لن يكن مثل أبيه مطلقا! لن يظلم تلك العطية ما حيا، سيحبه وسيرعاه، لن يجعل منه صورة مصغرة من ضعفه وخضوعه واستسلامه، وعلى النقيض تماما سيجعل منه الأمان والعضد، هو القوة والتأييد والسند ، نعم هو : إياد!
نظر لها بندم بعد انفراده بها بغرفتها بالمشفى، راقبها تحدق بطفلهما بعينيها الجميلتين، تلاعبه وتُقَبِّله بحنان دامع، صورة اكتشف تلك اللحظة أنه لن يمل من التطلع إليها أبدا..
_مَوَدَّة!
ازدردت لعابها وأجابته بدون أن تنظر إليه:
_نعم عَمَّار؟
_أنا آسف.
بابتسامة ساخرة طالعته:
_علام تأسف عَمَّار؟!، إن كنت اليوم قد حطمت قلبي فقد أراد الله تعويضي في الحال، اذهب عَمَّار!، إن أردت الانفصال أنا ليس لدي ما يمنع، سأكتفي بولدي، سأربيه وسأعلمه ألا يخضع، ألا يظلم، ألا يكسر قلب غيره بحجة ضعفه.
هز رأسه نافيا بلهفة:
_لا مَوَدَّة، أنا لا أريد الانفصال، أريد فقط فرصة كي أعتاد علـ....
وصمت لا يجد تعبيرا لا يجرحها أكثر، لكنه فعل! فقد أكملت هي عنه بشرود:
_كي تعتاد على كوني زوجتك، كي تعتاد على أن أم ابنك ليست هي حبيبتك، لا عَمَّار، أنا لا استحق تلك الإهانة، لقد دفعت ثمن خطأي تجاه نفسي بسبب لهفتي على الزواج بك وكدت أخسر الشيء الوحيد الذي حظيت به منك، لن أجازف مرة أخرى، لن أرتضي المذلة من أجلك ثانية، أنا زوجتك عَمَّار، إن شئت اتركني على حالي وإن شئت طلقني، أنا سأعيش من أجل ابني ولن أنتظرك يوما آخر.
رمقها مليا بألم ثم وقف يناظرها بِشعور غريب، وبنبرة صارمة شدت انتباهها خاطبها:
_أعلم أن ذنبي كبير مَوَدَّة، بحقك وبحق نفسي وبحق غيري، لكنني سئِمت، الآن لدي ما أحارب لأجله، سأحارب ضعفي وخنوعي قبل أن أحارب أبي، وأعدك مَوَدَّة، أعدك أن أتخلص من عَمَّار الذي عَرَّضك لتلك الحالة، لا أطلب منك الكثير، فقط عودي صديقتي وملاذي الآمن!
بادلته التدقيق ، ثم بصوت خافت ردت:
_أنا لا أغفر الخيانة عَمَّار.
ليؤكد بلهفة:
_لم أخنك!
بحسرة أجابته:
_ستخون.
مال عليها بتصميم:
_أقسم ألا أفعل.
دمعت عيناها خوفا من أمل وليد:
_لا تقسم بما لا تستطيع فعله عَمَّار!
وبنبرة مشددة ووعد بعينيه كان رده:
_أعدك ألا أخونك.
لتسأله بعناد:
_وإن فعلت؟
أجابها بنفاد صبر:
_عندئذ يحق لك ما تريدين.
ببطء شددت على كل كلمة:
_ستكون النهاية عَمَّار!
وبلهجة منتصرة زفر بارتياح:
_لكِ ذلك!
وباليوم التالي انفرد بأبيه رغما عنه بمكتبه ليعتقد الأخير أنه جاء ليعتذر، فيفاجئه ابنه بلهجة صارمة باقتضاب:
_أنت أبي لك مني كل احترام، لكنني بدءاً من اليوم لن أسمح لك بالتدخل في أي شيء يخصني أو يخص زوجتي أو ابني، وإن شعرت يوما ما بعدم راحة هنا سآخذ زوجتي وابني وسأستقل بمسكني، فلم يعد بي طاقة كي أتحمل منك أكثر، الآن لدي ابن يحتاج إليّ بكامل قوتي.
وبدون انتظار رد خرج تاركا أبيه يغلي غضبا وهو يتوعده بداخله إن نفذ تهديده ورحل.
****
عودة إلى الوقت الحالي:
"لِمَ اكتفيت بالسماع من طرف واحد فقط؟!"
"لِمَ لا تطالب بالحقيقة كاملة؟"
العباراتين اللعينتين تأبيان تركه منذ غادرته صاحبتهما بالأمس ، يحاول فهمهما، يحاول فك شفرتهما فلا يستطيع، ماذا قصدت؟ عن أي طرف كانت تتحدث؟
"ماذا بكَ بني؟ بِمَ أنت شارد؟"
التفت عاصم إلى أبيه مُقبِّلا جبهته بحنان ثم ساعده على الجلوس فوق الأريكة الموضوعة بالشرفة وهو يرد:
_العمل والدي، أفكر بأشياء تخص العمل.
ابتسم أبوه بضعف قائلاً:
_لم تستطع الكذب علي من قبل عاصم، عيناك تُقران بالحقيقة دائما.
"الحقيقة!"
"لِمَ لا تطالب بالحقيقة كاملة؟"
مجددا!
حدق عاصم بعينيه مليا ثم ازدرد لعابه قائلا بخفوت:
_وما هي الحقيقة أبي؟ أخبرني؟
نظر له والده بعدم فهم ثم سأله:
_أي حقيقة بني؟
وانطلق السؤال بنبرة هادئة لكنها تشتعل:
_لِمَ تركتني أمي؟
اتسعت عينا أبيه بصدمة فعاجله بسؤال ثان:
_لِمَ انفصلت عنها بالأصل؟
وعندما طالت دهشة أبيه أتبعه بالثالث:
_لِمَ لم تزرني طوال تلك السنوات؟
هنا لم يستطع أبوه الصمت أكثر فهتف بغضب مرتبك:
_لِمَ تسأل أنت في ذلك الشأن الآن؟ ألا ترى أنك تأخرت عدة سنوات لِتفعل؟
تسارعت دقات قلبه وهو ينتبه لِتهرُّب أبيه منه فازدادت نظرته ثم لهجته صرامة وهو يُخاطبه:
_الآن أبي! الآن أريد الحقيقة، وأنت لن ترضى لي بالحيرة والشك أكثر.
أجابه بنزق وهو يهب واقفا عائداً إلى الداخل:
_لم نتفق، هذا يحدث للكثير.
تعلق بذراعه بتوسل قبل أن يخرج هاتفا:
_ولِمَ لم تزرني مطلقا؟
عندئذ نظر أبوه إليه نظرة صدمته وجعلت قلبه يرتعد، لتنتشر الارتعادة بجسده كاملا وأبوه يجيبه ببرود:
_لقد زارتك!
****
سنوات مرت وهي تنتظر أن يدق قلبه لها ولم يفعل، تنتظر أن يجتاحه حنينه إليها ولم يفعل، حتى فقدت الأمل وأدركت أنها تتمنى شيئا بعيد المنال، وأنه حتى إن كانت شخصيته قد تغيرت واستطاع فرضها على الجميع إلا أن قلبه لن تملكه مُطلقاً، هنيئا لها!
لكنها لن تطالبه بشيء، لن تتوقع حبه، ستعيش من أجل ابنها الحبيب، طالما عَمَّار لم يخنها لن تعرض ابنها لخطر التفكك الأُسَري ولن تتسبب بالنزاعات بين أمها وخالتها.
لكن الحال فجأة انقلب، اختفاء بالساعات ثم مكالمة هاتفية هامسة، ليبدأ الشك بالنبش بقلبها، تفضي بقلقها لأمها فتنصحها بمراقبته، أو بتفتيش هاتفه، لتتجرأ وتقوم بالاثنتين.
بمرور الوقت وبإحدى الليالي استطاعت الوصول لهاتفه، مقاطع مصورة لعمليات ، أهداف لفريقه المفضل، صور حالات طبية، صور لابنهما في مراحل مختلفة..
وفتاة جميلة بريئة الملامح!
صورة..
تلو أخرى..
تلو أخرى..
وكلها مُلتقطة لها في الشارع، فيبدو أنها يتم تصويرها بدون علمها، هل هي حبيبته السابقة؟!
لا تعلم عنها سوى أنها كانت زميلته وتُدعَى رضوى، هل انفصلت عن زوجها؟ هل سيعود إليها؟
وعلى جمر متقلب قضت ليلتها، وفي الصباح الباكر كانت السيارة الرمادية هدفها حتى توقف صاحبها أمام أحد معاهد تدريس اللغات، لتختبىء داخل سيارتها بعيداً عن مرمى رؤيته، حتى خرجت غريمتها يحدق بها زوجها بحب لم تطاله عيناها يوما.
وباليوم التالي حزمت أمرها، تأكدت من وجوده بالمشفى واتجهت إلى مكان عمل طريدة زوجها ، انتظرت طويلا حتى خرجت الفتاة أخيرا تترنح بعض الشيء، فمشت باتجاهها متعمدة الاصطدام بها وتجاذبت معها حديثاً يبدو مُصادفة بينما تخفي نيراناً داخل صدرها وهي تواجه غريمتها وتتظاهر باللامبالاة بينما الفتاة تتضح عليها البراءة بالفعل..
افتعلت خطة ما وتذرعت بحجة السؤال عن الدورات التي تدرس للأطفال بسن ابنها ، وبينما تجيبها الفتاة بإتقان شردت هي بملامحها متفحصة، لن تنكر جمالها، لكن بِمَ كان يبحث عَمَّار ووجده بها هي بالتحديد ليتخلى عن إخلاصه غير المشروط منذ ستة سنوات؟
عمرها خمس وعشرون!
اسمها رهف!
ليست السابقة إذن!
ماذا عَمَّار؟ هل مللت أخيرا؟ هل وجدت أن ما لدينا لا يستحق؟ أستبحث بين كل النساء ما عداني إلى متى؟
وبعد أسبوع:
لا تستطيع النوم، يجب أن تواجهه، لكنها تعلم أنها إن واجهته سينهار عالمها بأكمله...
عذاب لا ينتهي!
لقد عابته يوما بضعفه وها هي تُبتلى بنفس العيب!
الأضواء المُتَسَللة من غرفة نومه شدتها لتتسلل إليها بصمت، فتراه مُولِيا إياها ظهره ممسكا بهاتفه مُطْلِقَاَ السكاكين إلى قلبها بلا رحمة:
_أريدِك!
_أريدِك رهف، أريد رؤيتك، أريد تعويضِك، أريدِك معي دائما وبجانبي.
_أنا لا أريد بكِ شرا رهف، أنتِ غالية، لا تدركين كم أنتِ غالية!
_يا إلهي أنتِ حقا ممثلة فاشلة!
¬_أنصتي جيدا رهف، ذلك الوضع لن يستمر طويلا، قريبا ستكونين معي ولن يفرق بيننا أحدا، وحتى ذلك الوقت اعتني بنفسك جيدا، إلى اللقاء.
ألجمتها الصدمة وهي تتشرب الكلمات التي لم تتمتع بها مُطلقاً، وعندما أنهى مزاحه مع ابنه واستدار، كانت دمعاتها تنهمر بلا إرادة منها، وتكسرت نبرتها كما تكسر قلبها وهي تبادره بصدمة:
_أتخونني عَمَّار؟!
****
عودة إلى الوقت الحالي:
تطلعت إلى موظفة الاستقبال ببلاهة تحاول استيعاب سؤالها البسيط فاضطرت الأخرى لتكراره مرة ثانية:
_أرجوكِ آنسة، أنا لست متفرغة.
حمحمت بحرج وهي تعيد نفس العبارة:
_لقد أخبرتك، أريد مقابلة صاحب هذه الشركة.
لتزفر الموظفة بملل:
_أي واحد منهما آنسة؟
تطلعت رهف حولها بضيق وهي تلعن غبائها وهاتفها الذي سُرق والآخر بحوزتها الذي لا يستمر شحنه عشرة دقائق كاملين، هي حتى لا تستطيع الآن الاتصال بالرجل، أما فكرت في سؤاله عن اسمه عندما هاتفها؟
خرقاء! وستظل خرقاء!
عادت بنظراتها إلى الفتاة وأدركت أنها تمنع نفسها بصعوبة عن الصراخ بها، ثم هزت كتفيها بحيرة وهي تجيب بحرج:
_أنا لا أعلم اسمه، اعذريني!
همت الفتاة بنهرها بحنق فتدخلت زميلتهاالتي تبدو أكثر حُلما بسرعة متسائلة:
_أتريدين مقابلة المهندس عاصم؟ لم يأتِ اليوم.
كانت على وشك الرد بنفس الإجابة فقاطعها الصوت الذي تسلل إلى أذنيها هاتفياً بالأمس من خلفها:
_لا! الآنسة تريد مقابلتي أنا!
وعندما التفتت للخلف اجتذبتها على الفور عينان خضراوتان تحدقان بها بابتسامة رائعة، ليتابع صاحبها بتهذيب:
_مرحبا آنسة رهف، أُعرِّفك بنفسي، مهندس ساري رشوان!
** نهاية الفصل الثاني**


سعاد (أمواج أرجوانية) غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 19-08-20, 07:54 PM   #23

سعاد (أمواج أرجوانية)

كاتبة في منتدى قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية سعاد (أمواج أرجوانية)

? العضوٌ??? » 476570
?  التسِجيلٌ » Aug 2020
? مشَارَ?اتْي » 3,605
?  نُقآطِيْ » سعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الثالث
الدائرة
****
قالوا إن الحب ضعف
ذل
خيبة
وقلتُ إنه قوة
عِزَّة
وثِقة!
إلى أن وُضِع قلبي مَحلاً للاختبار
وبكل الضعف والذُّل والخيبة استسلمت
إلى أن حان الوقت واستيقظت
لا تتعارض رأفتي مع كرامتي
لا تتعارض مَحَبَّتي مع قيمتي
ولن يُعارض قلبي احترامي لذاتي
لِذا يا من احتللت قلبي بلا رغبة منك أو مني
انتحِ جانباً فأنا مَلِكة على عرش كياني!
****










منذ أسبوع:
"أتخونني عَمَّار؟!"
أغمض عينيه لحظة يلعن تَهَوُّرُه ثم فتحهما ليجدها تنظر إليه بصدمة وازدراء وهي تتابع باكية بألم:
_لقد أخبرتك عَمَّار، أخبرتك منذ سنوات أنني لن أغفر الخيانة، أعطيتك ستة أعوام من البداية الجديدة من أجل ابننا، ستة أعوام عَمَّار لِمَ أهدرتهم الآن؟ لِمَ جعلتني لتوي أشعر وكأنني كنت أحارب كي أحافظ على صمود جبل من الرمال؟
وبنبرة متخاذلة رد:
_لم أخُنك!
وبصراخ كان هتافها:
_كاذب!
ثم استدركت بنبرة لائمة بحسرة:
_أنت تراقبها، تهاتفها، ترسل إليها الرسائل، تخبرها أنك تريدها معك، تخبرها أنك ستعوضها، تخبرها أنها غالية.
انتحبت ببكاء قاتل وهو يحدق بها بصدمة فتابعت بشفتين مرتجفتين وصوت متقطع:
_أتعلم عَمَّار كم تخيلت أنك تُسمعني الكلمات نفسها؟ كم رسمت في عقلي صوتك وأنت تخبرني أنك تريدني معك؟! أنك ستعوضني عن انتظاري لسنوات للحصول على حبك وأنني أصبحت لديك غالية؟!
ثم اقتربت منه بخطوات ضعيفة حتى وقفت أمامه تحدق به بعسليتيها المتوسلتين ودمعات ملتهبة وسألته بِلهفة:
_ألم تشعر أبدا عَمَّار أنك تريدني؟ ألم تشعر أبدا أنني على قلبك غالية؟
وضع يديه على كتفيها بألم ينفي:
_أنا لم أخنك مَوَدَّة، أبدا لم أخنك.
ونفضت يديه صارخة به بجنون:
_كاذب عَمَّار، كاذب! كاذب! لقد رأيتك بنفسي كيف تنظر إليها، لقد رأيتك كيف تتطلع إليها بحنان، لقد رأيت هوسك بها، أنت عميت عني تماما حتى ما عدت تشعر بوجودي حولك، لقد كنت على بُعد خطوات منك وأنت تقف محدقا بها باشتياق، لقد كنت أشاهد خيانتك لي بنفسي، أنت خنتني بقلبك وبعقلك وبلسانك، وأنا...
توقفت لحظة تلتقط أنفاسا تؤلم صدرها ثم تابعت بامتعاض:
_وأنا أتواجد حولك أستجدي حنانك واهتمامك فلا أجد، فإلى متى تظن عَمَّار أنني سأظل أدور في تلك الدائرة من التسول والتوسل إليك؟ لقد اكتفيت، ولم أعد أرغب بك.
شحب وجهه وازدرد لعابه بقلق:
_ماذا تقصدين مَوَدَّة؟
ببطء مسحت وجهها بكفيها وشمخت بأنفها وهي تبتسم له ببرود ثم قالت:
_أعني أنني قد حققت شرطي من الاتفاق، والآن حان دورك.
كان يرفض الفكرة الخبيثة التي تلح على عقله الآن حينما استدركت هي بنفس النبرة القوية المذبوحة:
_لقد وعدتني يوم أهداني الله إياد وحذرتك من الخيانة أنك ستنفذ لي مطلبي إن خرقت شرطك، الآن يا عَمَّار، الآن ستُنفذ ذلك الوعد وستطلقني!
أخذ يهز رأسه برفض ومجرد فكرة عدم تواجدها حوله تصيب قلبه بنغزة مؤلمة وتبث في كيانه الرعب، ليكتشف أنه بحقها أخطأ ولايزال!..
لكن..
لكن ربما ذلك القرار يكون الأكثر صوابا تلك الفترة!
أولته ظهرها ثم اتجهت إلى الباب وتوقفت مستدركة بصرامة:
_سأذهب إلى بيت أبي صباحا، أرجو أن ينتهي كل شيء بدون مشاكل، من أجل إياد ومن أجل عائلتينا!
وبمنتهى البساطة خرجت مغلقة الباب بهدوء ليحدق هو في إثرها بغضب ولسانه يأبى أن يلعن من كان السبب!
****
عودة إلى الوقت الحالي:
"لقد زارتْك!"
ببطء ترك عاصم ذراع أبيه وهو يحدق به بعدم استيعاب ثم ردد بعد وقت بصوت متحشرج:
_زارتني؟! متى؟ ولِمَ لَم أقابلها؟
صاح أبوه بثورة وهو يجذب ذراعه من يده بِحِدة:
_ما الذي ذكرك بها الآن؟ إلى أين تريد أن تصل بكل تلك الأسئلة؟
ليهتف به بألم:
_إلى الحقيقة أبي، أريد الحقيقة، أريد أن أعلم هل الصورة التي رسمتها أنا لها طوال ذلك الوقت صحيحة أم لا، أريد أن أعرف أهي فعلا قاسية أنانية أم لا، أريد أن أعرف ما الذي يجعل امرأة تحب ابنها تتركه فجأة وترحل وهو لا يفهم السبب، والآن أريد أن أعرف لِمَ سلبتني حقي برؤيتها منذ سنوات.
والعبارة الأخيرة خرجت صارخة فنظر له أبوه بِوجع وهو يسأله بحزن:
_ألم تستطع أنعام حل مكانتها لديك؟
وانهمرت دمعتين متوسلتين من عاصم بينما يهز رأسه نفياً:
_كانت أمي أيضا، وأقسم أنني أحببتها، لكن..لكن أنا لدي أم حقيقية عِشت لِسنوات مُقتنعاً أنها أرادت الابتعاد عني، والآن فقط اكتشفت أنها لم تتخلص مني وتنساني تماما مثلما ظننت.
طأطأ أبوه رأسه بألم وهو يرد بخفوت:
_لم تحبني يوما!
عقد عاصم حاجبيه وفضل الصمت ليستحثه على المواصلة فتابع أبوه بِصوت بانت فيه الهزيمة واضحة:
_كنت أكبرها بثمانية عشر عاما، فتاة جميلة مدللة تفيض رقة وبهاء، وأنا كنت قد تناسيت الاستقرار منذ حملت مسئولية أسرتي، وفي الأربعين استفقت فجأة لأكتشف أن عمري يضيع في العمل وجمع المال، لا زوجة! لا ولد! لا مستقبل، وكانت هي أول من فكرت بها.
زفر بعذاب مشوب ببعض الخزي وهو يتهرب من عيني ابنه ثم تابع:
_علمت أن حالة أسرتها المادية سيئة للغاية، فرأيت نفسي الفارس الهُمام الذي سينقذها من براثن الفقر، طلبتها، رفَضَت! أعدت طلبها، أعادت الرفض، لكن والداها أجبراها، أشقائها أجبروها، حاجتها أجبرتها، فوافَقَت!
ارتفع صوت تنفس عاصم كما اتسعت عيناه ذهولاً وهو يرى الأمر من تلك الزاوية للمرة الأولى وأبوه يتابع بعينين شاردتين في ماض ولى ورحل:
_انتويت أن أجعلها تبادلني حبي بأية طريقة، حاولت، وحاولت، وحاولت، لكن لا سلطة لنا على قلوبنا يا عاصم، كانت تذوي يوما بعد يوم، كانت تموت ببطء وأنا أعلم، لكني لم أكن بالقوة التي تجعلني أحررها، لطالما رأيت شعلة تمرد بعينيها تنطفيء ما إن تنظر إليك بحسرة، أخبرت نفسي أنها ولابد ستمل يوما، ستفقد الأمل، سترضى بنصيبها وستسعد معي، لكن ذلك اليوم لم يأتِ أبدا، وعندما تعدى الألم نفسها ووصل إلى جسدها كانت النهاية، طالبتني بالتحرر فساومتها بك، تراجَعَت ثم ضَعُفَت، فحررتها!
عيناه لم تعودا تبصران بسبب غلالة الدموع الكثيفة التي تتحكم بهما وهو يَتَشَبَّع بِمعنى كل كلمة تُلقى على أذنيه كأكثر العذابات إيلاماً، لم يجد تعليقا ولم يكن أبوه ينتظر واحدا فأضاف:
_ربما تراني أنانيا، لكنني اعتقدت أنها ستدرك المزايا التي تركتها خلفها وستعود، خاصة وأنا أعلم كم كانت روحها معلقة بك.
أغمض عاصم عينيه محاولا إخفاء الحسرة التي تنمو بداخلهما عندما نظر له أبوه بندم ثم تابع:
_إلى أن علمت بزواجها ذات يوم لتُقتل كل آمالي بِعودتها، فأعماني غضبي وذهبت إليها متوعدا إياها بألا تراك ثانية، وقبل انتهاء الأسبوع كنت قد تزوجت بأنعام.
فتح عينيه رامقاً إياه بِتوجس ثم لم يجد بداً من طرح السؤال الذي يصرخ بِعقله فتحدث هامساً:
_هل أحببتها أيضا أم....
والدمعات تحررت من عيني أبيه أيضا بعد تأخر سنوات عِدة ثم رَدد بعذاب:
_ لقد حاولت يا عاصم، كثيرا ما حاولت أن أحبها، كنت أسأل نفسي مندهشا، كيف لا تستطيع احتلال قلبك بكل حنانها وحبها لك؟ كانت كريمة معي ومعك، لم تشكو أبدا وهي تدرك أن قلبي تمتلكه غيرها، لكن الله عاقبني وفقدتها بعد بضعة سنوات، لأكتشف أن ربما الوحدة ليست سيئة بذلك الشكل، ربما من مثلي لا يجب أن يجتمعوا بغيرهم حتى لا يؤذوهم، فمن أحببتها ظلمتها، ومن أحبتني خذلتها!
جلس عاصم وهو يخفي وجهه بين كفيه، لا يريد أن ينظر له الآن، لقد كان مرتعبا من اهتزاز الصورة السيئة التي رسمها لأمه طوال عمره، الآن ماذا يفعل في صورة أبيه المُثلى التي تمزقت ومزَّقت معها قلبه بكل قسوة؟!
لكن أبوه كان كمن وجد فرصة للاعتراف بِخطاياه أخيراً بعد سنوات فاخترق بصوته أفكاره قائلاً:
_لقد جاءت، كثيرا ما جاءت، كل يوم ميلاد لك جاءت بهدية لألقيها بوجهها، كل عيد فطر جاءت بصندوق الكعك الذي تحبه من صنع يدها لأردها خائبة، كل مناسبة اعتادت على الاحتفال بها معك جاءت ولم تيأس من أن تراك يوما، لكني لم أستطع التخلص من حقدي عليها، لم أستطع نسيان أنها تركتني واقترنت بغيري بعد أن أحببتها كل ذلك الحب.
لم يتحمل أكثر..
أن يجلس مُستمعاً إلى صوت هدم كل قناعاته لِسنوات خلال دقائق بينما هو عاجز.. صعب للغاية؛
أن يستوعب الآن أن والدته أرادته ولم تتخل عنه بلا اهتمام بعد أن مَثَّلَت له صورة للإجحاف.. مؤلِم للغاية؛
أن يُدرك الآن أنه ارتكن إلى ظلم أبيه لها دون معرفة منه ولم يتخذ أي خطوة للبحث خلف ما حدث..قاس وموجع للغاية!
هب واقفا متجها إلى الخارج قبل أن يقدم على شيء قد يندم عليه طوال عمره فتمسك أبوه بإحدى كفيه بضعف:
_ربما أنا أقترب من نهايتي عاصم، ذنبي تجاهها يؤرقني، لا أريد مقابلة ربي وظلمي لها مكبل عنقي.
هنا نظر له عاصم بعذاب مرددا:
_أنت لم تظلمها وحدها أبي، لقد ظلمتني أيضا، ويا للغرابة! لم أختلف أنا عنك كثيرا، فقد ظلمتها أكثر.
وبهدوء جذب كفه من يده وخرج من الشرفة، وعلى فراشه ارتمى محدقا بذهول في سقف غرفته وهو لا يصدق أن عمره بأكمله قد ضاع في حقد وكراهية من كان كل ذنبها أنها تزوجت من أبيه، ثم أنجبته!
****
"مرحبا آنسة رهف، أعرفك بنفسي، مهندس ساري رشوان!"
حدقت بوجهه للحظات وفعل هو المثل فَغَضَّت بصرها متحدثة بخفوت:
_اعذرني! لم أنتبه إلى أنني لم أعلم اسمك إلا الآن.
التزم الصمت للحظات لا يحيد بعينيه عنها ثم اتسعت ابتسامته وهو يقترب منها مرددا بنبرة مَرِحة:
_لا يهم، طالما لم تنعتيني باللص!
هربت ضحكة رقيقة منها مصاحبة تورد وجنتيها، ثم رفعت نظرها إليه مُتسائلة:
_أين أغراضي؟
أجابها بتهذيب وقد اكتسبت نظراته اهتماما خالصا:
_كل متعلقاتك بمكتبي بالأعلى.
_لِمَ لم تجلبها معك؟
عقد حاجبيه بدهشة متسائلاً بنبرة خافتة:
_أتريدينني أن أتمشى ببهو الشركة حاملا حقيبة نسائية؟ أنتِ بالفعل تعملين على إلصاق تهمة السرقة بي!
ابتسمت وهي تتهرب من عينيه فبادرها بتهذيب:
_تفضلي آنسة رهف، المصعد من ذلك الاتجاه.
........
تطلعت إلى المكتب الأنيق رغم بساطته، ثم اتجهت إلى المقعد المواجه لمكتبه وجلست تحدق في الأرض بترقب، جلس هو خلف مكتبه ثم التقط هاتفا داخليا وهو يسألها:
_ماذا تشربين آنسة رهف؟
وبسرعة كان ردها:
_لا لا، لا أريد شيئا، فقط أعطني أغراضي حتى أنصرف.
عقد حاجبيه بضيق مفتعل وبنبرة آمرة طلب من محدثه قهوة وعصيرا طازجا.
تطلع إلى توترها الجلي بابتسامة حاول إخفاءها فلم يستطع، يعترف أن هيئتها الحقيقية تختلف كثيرا عن صورتها بالهوية..
أكثر هشاشة؟ ربما؛
أكثر رقة؟ يبدو ذلك؛
أكثر فتنة؟ أكيد!
وسؤالها المرتبك قاطع استرسال أفكاره:
_كيف وصلت مُتعلِّقاتي إليك؟
وقبل أن يجيبها دخلت العاملة بالمشروبات ثم خرجت بعد أن قدمتها لهما.
_لقد اضطر اللصوص إلى التخلِّي عنها.
أخيرا نظرت إلى عينيه مباشرة وهي تسأله بدهشة:
_كيف؟
مط شفتيه ثم أجابها بجدية:
_ كنت أقود سيارتي فإذا بمجنونين على دراجة نارية يتجاوزاني وكادا أن يصطدما بي، خرجت لأتشاجر معهما فكان أحد كمائن الشرطة أمامنا، تخلصا من الحقيبة فورا ثم مرَّا بالكمين، لكني شككت بالأمر وكان حدسي بمحله، فعندما وصلت إلى الحقيبة وجدت بها كتبك وهاتفك وحافظتك.
ثم أردف بشبه ابتسامة:
_ونصف لوح الشوكولاتة خاصتك.
كانت تحدق به بانبهار وهو يسرد تفاصيل ما حدث، وعندما انتهى رمقها بابتسامة أربكتها، بسرعة طأطأت رأسها وهي تجلي حنجرتها وقالت:
_أشكرك على تعبك واهتمامك وحرصك على أغراضي.
اتسعت ابتسامته مرة أخرى وهو يشاكسها:
_أرجو ألا أحبطك، لكني منذ صغري وقد تمنيت الحصول على العدالة بيدي والتخلص من الأشرار، لذا لقد سعيت خلف البطولة من أجلي في المقام الأول.
بادلته ابتسامته رغما عنها وهي تهز كتفيها:
_وإن يكن، يظل هدفك سامي.
طالت النظرات الصامتة بينهما، فحاولت انتزاع عينيها عنه ولم تستطع، ثم أجبرت نفسها على التهرب، أصدر هو حمحمة مرتبكة وهو يحك لحيته ثم أمرها بلهجة لطيفة:
_اشربي العصير آنسة رهف.
بيدين مرتبكتين أمسكت بالكوب الزجاجي وهي ترشف بضعا من السائل حلو المذاق، بينما عادت عيناه تراقبانها بتصميم غريب، و بعد لحظات هبت واقفة وهي تبحث عن كلمات خرجت متوترة:
_لقد تأخرت، سأنصرف الآن.
وكان رده به بعض الضيق وقليل من الرجاء:
_لِمَ أنتِ متعجلة هكذا؟ انتظري قليلا بعد!
ثم استدرك بنبرة مرتبكة:
_أقصد، انهي العصير أولا!
وبنفس الارتباك أجابته:
_آسفة، لدي حصة بعد قليل، يجب أن أذهب.
اجتذب ابتسامة مُدققة ثم قال:
_اعتني بنفسك آنسة رهف، وحاولي ألا تمشي بمفردك في وقت متأخر.
هزت رأسها بسرعة ثم ابتسمت..
غامزة!
غامزة؟!
نعم غامزة!!
اتسعت عيناها بذهول وهي تلعن غبائها، بينما حدق هو بها بدهشة ينتظر توضيحا أو تأكيداً!، لم تُطِل عليه انتظاره وهي تزيد الطين بلة متحدث باضطراب وتهور:
_اعتذر! أنا .. أنا لم أكن أغمز لك! أقصد أنني .. إنها "لازمة" وحركة تلقائية أودع بها طلابي.. أعني طالباتي بالطبع.. أنا لم أتعمد أن أغمز لك و......
ومع كل كلمة تصبح وجنتيها
أكثر توردا!
أكثر احمرارا!
وأكثر جاذبية!
وردُّه كان ابتسامة تلقاها قلبها فرقصت دقاته بصخب، ثم تلتها عبارته الماكرة:
لا عليكِ! لقد كنت طالبا ذات يوم، لكنللأسف_ حظي لم يكن بمثل ذلك الإشراق!
والابتسامة أصبحت ماكرة، فتراجعت إلى الخلف ثم أولته ظهرها فأوقفها بصوته هادىء:
_آنسة رهف!
زفرت بعمق وهي توبخ نفسها محاولة رسم الجدية على محياها ثم استدارت هاتفة بِصرامة:
_نعم مهندس ساري؟!
لتجده ينحني على أحد أدراج مكتبه، فاتسعت عيناها بدهشة وأسدلت أهدابها بِحَرج، حتى شعرت به أمامها مخاطبا إياها بخفوت:
_لقد نسيتِ..أغراضك!
نظرت له بِتوتر وحمحمت بحرج وهي تأخذ منه الحقيبة تستشعر ثقلها، ليهمس هو بهدوء:
_لا تقلقي! لم آخذ منها سوى نصف لوح الشوكولاتة!
وردها التلقائي انطلق:
_بألف هناء وشفاء.
ثم ارتدت حقيبتها على كتفها لتصبح هيئتها مضحكة بالاثنتين معا ثم تابعت:
_مع السلامة مهندس ساري.
وكان الرد القوي الهادىء الذي يعلن بوعد غير منطوق:
_أشعر أنني سأراكِ ثانية!
وهنا دفعت ساقيها المتخشبتين دفعا لتتحركا إلى خارج ذلك المكان الذي يجذبهاوصاحبهإلى شعور غريب يرسل القلق إلى أطرافها، وعندما كانت تتأكد من وجود أغراضها، وجدت كل شيء مثلما تركته، إلا نصف لوح الشوكولاتة الذي لم يعد هناك!
وبدلا منه وجدت لوح كامل من ألذ الأنواع!
****


سعاد (أمواج أرجوانية) غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 19-08-20, 07:56 PM   #24

سعاد (أمواج أرجوانية)

كاتبة في منتدى قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية سعاد (أمواج أرجوانية)

? العضوٌ??? » 476570
?  التسِجيلٌ » Aug 2020
? مشَارَ?اتْي » 3,605
?  نُقآطِيْ » سعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond repute
افتراضي

تابع الفصل الثالث:
طرقت تغريد باب جناح أخيهاالذي خلا من زوجته وابنهعدة طرقات بهدوء وانتظرت حتى فتح لها الباب بعد دقيقة كاملة، تعلَّقت عيناها به بصدمة ونست سبب صعودها إليه في الأصل..
حُزن، تعب، ضياع، وحقد!
للمرة الأولى بحياتها تشعر بكل هذا العنف المكبوت الذي تُنذر به عيناه؛
حتى عندما ثار فجأة منذ سنوات عند ميلاد ابنه اكتفى بالتجاهل، تخلَّص من سطوة أبيهما عليه لكنه لم يقم بأي خطوة تسبب القلق!
التزم هُدنة غير مُعلَنَة تحمل شعاراً واضحاً بالتحذير من محاولة التسلُّط، وبدا لها أن أبيهما أيضاً قد أدرك بداية تحرره منه فتظاهر باللامبالاة!
_ماذا تريدين تغريد؟
سألها بصوت حمل حنقاً هائلاً تعلم أنه غير موجه لها هي، فقالت له بحنان:
_ألن تتناول طعام الغداء؟ أمي أرسلتني كي...
قاطعها عائداً إلى الداخل:
_لا أريد!
حدَّقت به جالساً بِتَعَب والهَم يعلو وجهه، اتجهت إليه واتخذت مقعدها إلى جواره ثم حدثته بهدوء:
_عَمَّار! إن كنت إلى تلك الدرجة تتعذب بسبب رحيل مَوَدَّة وإياد فلتذهب إليها، اعتذر وأخبرها أن الأمر ليس بيدك.
لم يُعَلِّق على نصيحتها فتابعت بنفس النبرة:
_هي تحبك ولطالما كانت متأنية في قراراتها.
والتهكم احتل وجهه وهو ينظر إليها قائلاً:
_الحب له حد تغريد، وهي بالتأكيد تندم الآن على أنها أحبت رجل مثلي.
ثم استطرد بِحسرة:
_لقد اعتقدت أنني باكتفائي بالرفض لكل ما يريده أبي سوف تصير حياتي سوية، اعتقدت أنني بإمكاني الحصول على بداية جديدة..
وعاد التهكم مرة أخرى إلى صوته مع ابتسامة ساخرة مُردِفاً:
_ولكن هل يقوم البناء على أساس مهزوز؟
واجهته بحزم متسائلة:
_ماذا تريد عَمَّار؟
رمقها في صمت لبعض الوقت ثم تحدث بعذاب قائلاً:
_أريدها معي!
وبالرغم من أنها أدركت هوية من يتحدث عنها إلا أنها قالت بصوت شابه الحَذَر:
_أنت تقصد مَوَدَّة، أليس كذلك؟ أنت لن تقوم بشيء يهدم كل...
قاطعها بألم والتوسل بعينيه صارخ:
_بل رهف!
واستدرك بتصميم:
_ظهورها الآن بالتحديد هو بمثابة رسالة.
ثم جزَّ على أسنانه بغضب وتمتم مُتَوَعِداً:
_رسالة سأعيد توجيهها إلى كل من ظن أنه يستطيع تسيير حيوات الآخرين بذلك الجبروت!
تسارعت دقات قلبها واكتنفها القلق، وبعض من ندم..
ربما ليست هي السبب في كل ذلك بالأصل؛
لكنها ساهمت ولو بقدر ضئيل في وصوله إليها..
إلى رهف!
_عَمَّار! أنا.. أنا لا أعلم هل عليّ تشجيعك أم نصحك بالتراجع، لكن الأمر صعب، وربما ستحل الكوارث.
هتف بِحِقد شديد:
_لتحل تغريد، لن أتراجع مهما حدث، لم أعد أهتم، أحتاج فقط إلى ترتيب خطواتي القادمة ولن أطأطأ رأسي مجدداً.
رمقته بعتاب قائلة:
_وَمَوَدَّة، وإياد؟!
أغمض عينيه بألم وبلا رد تركها ودلف إلى غرفته!
****
أمام الباب الذي يحمل لافتة: محاسب صبري رشون أخذ يضغط الجرس بإصرار، فتحت سارة الباب لتجده أمامها فانقلبت أنظارها بملل مفتعل قائلة:
_في العمل، وفي البيت، وبيوم العطلة! إلى أين يستطيع المرء الهرب كي يتخلص من تلك الخلقة العابسة يوما واحدا فقط؟!
وقبل أن تسنح له فرصة للرد جاءها صوت والدتها من الداخل:
_ من بالباب يا سارة؟
بهتاف حانق أجابت:
_إنه عملي الأسود أمي، عابس الوجه فارع الطول..
وبنبرة خافتة مع ابتسامة مُغيظة أضافت:
_قليل الذوق!
باقتضاب سألها:
_هل انتهيتِ؟
وكان الرد بنفس الابتسامة:
_إن أجبت بنعم هل ستنصرف وتجعلني أنسى وجهك السَمِح اليوم؟
وقبل أن يرد وصلت أمها:
_لِمَ لازلت على الباب عاصم؟
رد بهتاف حانق:
_ربما لأن الله ابتلاكِ بمصيبة متنقلة تسلط لسانها على كل من يطرق بابكم.
جذبتها سوسن بعيدا عن الباب وهي ترحب به:
_ادخل عاصم، ساري بغرفته لكنه نائم.
أغلق الباب خلفه وهو يجيبها ناظرا لسارة شذرا:
_لم آتِ من أجله خالتي، أردت الاطمئنان عليكِ، فقد أخبرتني مريم أنكِ متعبة.
جلست فجلس أيضا بمواجهتها، بينما تركتهما سارة وانطلقت إلى غرفتها، ابتسمت سوسن تطمئنه:
_لا تقلق بني، إنه فقط ضغط الدم.
ثم دققت بوجهه وسألته بِقلق:
_ما بكَ عاصم؟ هل حدث شيء؟ هل ابوك بخير؟
أقلقتها البسمة الساخرة على شفتيه وهو يجيب بشرود:
_بخير، هو بخير خالتي.
ثم التفت إليها ماحيا بسمته، وبألم تحدث:
_لكني أنا من لست بخير على الاطلاق.
انتشر الخوف على وجهها وهي تسأله:
_بعيد الشر عنك بني، احكي لي، تخلص من همومك.
بألم وصلها رده المُعَذَّب:
_هل تظنين خالتي أن التخلص من الهموم سهلا؟ هل تظنين أن الحديث بكلمات مُسننة تمزق القلب والروح قبل اللسان بسيطا؟ هل تظنين أن انهيار عالم شخص بأكمله وانقلاب موازين عدله ثم خيبته في قدوته قد يُنسى بمرور الوقت؟!
نظرت له بعدم فهم لكنها تتألم، صحيح هو ليس ولدها بالفعل ولا حتى ابن أختها الراحلة، لكن إن كانت صلة الدم مفقودة بينهما فَصِلَة الروح أقوى وأشد!
وتابع هو بنفس الشرود:
_أتعلمين أنني لطالما حلمت بها، تخبرني أنها آسفة، تخبرني أنها تحبني ولم تتخل عني، تخبرني أنها ستعود لتأخذني، تخبرني أنها لن ترضى بيُتمي وهي على قيد الحياة أبدا، لأصحو كل مرة كارها نفسي وضعفي واشتياقي إليها وحاجتي لحضنها الراحل ووجهها البشوش!
سألته سوسن ببطء متألم:
_أعادت أمك؟
والدمعة المتحجرة بعينيه ذبحت قلبها وهو يرد:
_هي لم تذهب أبداً خالتي، لم تذهب، لقد جاءت وحاولت وتوسلت، لم تيأس ثم ارتضت بالحرمان، وإلى الآن تنتظر.
طأطأ رأسه يحاول إخفاء ضعفه فربتت على ذراعه بحنان متسائلة بهدوء:
_والآن ماذا تريد؟
رفع رأسه يتطلع إليها بضياع:
_لا أعرف!
ثم استدرك بألم غاضب:
_لا أريد!
وعاد بنبرة أضعف:
_لا أستطيع!!
أطلقت زفيراً حارا ثم خاطبته بِهدوء:
_أنا لا أعلم تفاصيل ما كان بين والدك ووالدتك عاصم، لا أعلم من منهما المُخطىء ومن الظالم، لكنني متأكدة أن لا أم تترك ابنها بإرادتها، لا أم تُحرَم من ابنها وتعيش سعيدة، حتى وإن امتلكت السعادة بعدها، سيظل فقدها لابنها يؤرقها ويؤلم روحها.
التمعت عيناه بِدمعات لا يخجل من ظهورها أمامها فأضافت بِحسرة:
_أنعام قد أخبرتني أن أمك أرادت رؤيتك ذات مرة لكن أبوك هو من تَعَنَّت ورَفَض، لقد اعتقدت أنك أيضاً تلومها يا ولدي فَلم أشأ التدخل.
واكتسبت لهجتها بعض الصرامة وهي تُردِف أخيراً:
_لكنك الآن قد علِمت أنها نالت من الألم والاشتياق ما يفوق قدرة أي أم، وأثق بأنك ستتخذ القرار الصحيح.
خبأ وجهه بين كفيه فتحركت هي بهدوء إلى الخارج ثم أغلقت الباب عليه، لطالما كان يفضل وحدته في بيتها عن بيته، كان كلما آلمه شيء جاء إليها منفردا بنفسه لبعض الوقت ثم خرج منتعشا وكأن شيئا لم يكن، والآن يبدو أن ثقله أكبر، وعذابه أشد، ويا ليته يقضي وحدته كما يشاء ثم يخرج إليهم مرتاح البال ،تعلم أنه في آخر الأمر سيذهب من تلقاء نفسه، سيذهب استجابة لغريزته نحو أمه وليس بناءا على إصراراً من غيره.
****
كان يتنقل بين زوايا الجناح وعيناه تحملان نظرة خاوية بلا هدف..
متى صار بارداً بذلك الشكل؟ متى تسلل الاختناق إلى أرجائه؟ متى عم الظلام كل ركن به؟
وهل للمكان روح؟!
سؤال غريب طرحه عقله عليه الآن ليجيب قلبه بلا مواربة بأنه يمتلك روحا بالطبع!
روحا كانت تطهي طعاما هنا، روحا كانت تلاعب ابنه هنا، روحا كانت تهتم بكل ما يخصه هنا، روحا لطالما انتظرته كلما ابتعد، واشتاقت إليه أكثر كلما اقترب، روحا تنازلت وتنازلت حتى وأدها بقسوة، لكنه ليس بيده، يقسم أن الأمر لم يكن أبدا بيده، تلك الروح الآن رحلت بلا عودة، لتتركه بمكانه كئيبا فارغا مدركا ضياعه للمرة الثانية!
رحلت مَوَدَّة! رحلت ليدرك أنها حرمته من نسمات الراحة التي كانت تحاول إضافتها رغما عنه لحياته المتعبة بينما تمسك هو دائما بالرفض.
رحلت ليقتله التشتت بين رغبته في استعادتها وعدم إبعادها هي وابنه عنه، ورغبته بتخليص تلك الأخرى الوحيدة تماماً من سُحُب سوداء تتكاثف فوقها مُنذرة بِعتمة ستحُل قريباً.
رحلت ليقف تائها لا يعلم من أين يبدأ الآن وماذا يفعل؟ لديه حرب ستنشب قريبا ويحتاج أن يصبح أقوى، من أجل نفسه، من أجل رهف!
****
تململت أم محمود في جلستها وهي تتظاهر بِعدم ملاحظة غيظ شروق الشديد ثم قالت:
_أنتِ من تأخرتِ في الرد عليّ يا شروق، والرجل ظل منتظرا منذ شهر حتى تنتهي عدتها، لكني لم أستطع الضغط عليه أكثر وهو بحاجة لزوجة تهتم به وببيته.
نظرت لها شروق بِغِل حاولت إخفاؤه بلا جدوى وأصوات الزغاريد تصلها من البيت المجاور تنهش بعقلها وتثير بصدرها الحقد.
ثم استأنفت أم محمود بنبرة خافتة:
_لكن لا تقلقي! عريس دينا عندي، وأنا لن أهدأ حتى أطمئن عليها بنفسي مع من يستحقها.
بلهجة مكتومة ردت شروق:
_شكرا أم محمود، أتعبناكِ والله!
انصرفت المرأة مسرعة كي تلحق بعقد القران بالمنزل المجاور وهي تطلق الزغاريد التي انطلقت كرصاصات تخترق أذني شروق أثناء مراقبتها من نافذة الصالة العروس التي تصغر ابنتها بخمسة أعوام تتأبط ذراع من كانت تتخيل منذ فترة أنه سيصبح صهرها وستتغير أحوالهم المادية على يديه.
_لِمَ أنت واقفة هكذا أمي؟
التفتت لترى ابنتها ترمقها بقلق فأجابت بغم:
_ألا تسمعين الزغاريد؟
ردت دينا بلامبالاة:
_أسمع، إنه زفاف طارق وابنة الحاج عبد الرحيم.
هتفت شروق من بين أسنانها:
_كان من المفترض أن يكون زفافك أنتِ، لولا تعقيدات أبيكِ الذي يعشق الفقر كعشقه لحياته.
زفرت دينا بملل وهي تجلس على الأريكة وتقلم أظافرها بالمبرد:
_لا تبالي أمي، هو أيضا لم يكن بالعريس الذي لا يُعوض، لا تنسِ أنني أصغر منه بالكثير، كما أنني كنت سأبتلى بأربعة أولاد لا يخصونني بشيء.
نظرت لها أمها بذهول ثم هتفت بها بغضب:
_غريب! لم يكن هذا رأيك عندما أخبرتك بالأمر أول مرة!
ردت دينا بلا اكتراث وهي تحدق في أظافرها باهتمام:
_كل ما في الأمر أمي أنني لم أعترض، لكن هذا لا يعني أنني كدت أطير فرحا به، كان مناسب من بضعة جهات فقط ليس إلا، وقد قررت الانتظار حتى أجد من هو أفضل.
ضيقت شروق عينيها بحذر وهي تحاول فهم ذلك التغيير المفاجىء، تحفظ ابنتها كخطوط يدها، وتعلم أن تلك الكلمات تخفي وراءها أمرا آخر..
أو.. شخصا آخر!
_أهناك آخر يا دينا؟
وبلحظة حصلت على كامل انتباهها، انتفاضة، ثم شحوب، ثم محاولة تماسك فتظاهر باللامبالاة، لتخرج النتيجة من خلال صوت متوتر متكسر أكد لها صدق ظنها رغم تفوه ابنتها بالعكس:
_ما الذي تقولينه أمي؟ أي آخر؟! من أين؟ ومتى؟ بالطبع لا! أنا فقط أريد التمتع بحريتي قليلا.
وقبل أن تعاودها بسؤال آخر وصل زوجها من الخارج مُحيياً:
_السلام عليكم.
وبدلا من رد السلام كانت الثورة والغضب:
_هل أنت سعيد الآن؟! لقد تزوج الرجل في غضون أيام، والآن ستهنأ من هي أصغر من ابنتك بماله، ولنظل نحن في ذلك الهَم حتى الممات.
فكان رده السريع بابتسامة متشفية:
_عسى من يتوقع الهم أن يجد الهم!
وقبل أن تستمع للردود المتبادلة التي ستتحول إلى شجار حتما تسللت إلى غرفتها موصدة بابها بمفتاحها وعند أقصى ركن بها وقفت تجيب النداء الصامت لهاتفها بهمس :
_أخبرتك ألا تتصل بي وأنا بالمنزل، إن علم والدي أنني أحدثك ستحل الكوارث.
وانتظرت رده الهادىء ثم أجابته:
_سأحضر، فقط أترك لي عنوان المكان وسآتي الأربعاء القادم بالموعد.
ثم انتهت المكالمة فابتسمت هي بأمل وهي تتمنى أن تصبح ظنونها حقيقية في أقرب وقت!
****
"ما بِكِ اليوم يا مريم؟ لقد لاحظت شرودك طوال الحصة، هل أزعجك أحدهم مرة أخرى؟"
هتفت بها رهف وهي تواجه مريم التي تستند على أحد الجدران في باحة المعهد، فردت الفتاة بابتسامة ضعيفة:
_لا آنسة مريم، لكن.. أخي مريض قليلا وأنا قلقة عليه.
ربتت رهف على إحدى كتفيها بحنان:
_شافاه الله وعافاه، الكثير يمرض هذه الأيام، هو أمر شائع لا تقلقي، فقط اجعلوه يشرب الكثير من السوائل الدافئة.
ابتسمت الفتاة بامتنان فتابعت رهف:
_ هل هو نفسه أخوكِ الذي يقلك كل مرة؟
هزت مريم رأسها إيجابا فعقدت رهف حاجبيها تساؤلا:
_كيف ستعودين إلى منزلك إذن؟
أجابتها مريم بهدوء:
_ابنة خالتي ستأتي وسأعود معها لبيتهم.
_هل تحبين أن أنتظر معك حتى تصل؟
وما إن همت الفتاة بالرد حتى تراجعت فجأة وهي تنظر إلى نقطة خلف رهف و تبتسم بفرحة، التفتت الأخيرة لتتسمر مكانها وهي لا تعي أحقيقة هذه أم خيال!، لكن تحديقه الذاهل المتبادل بها جعلها تنفض شرودها وهو يتقدم منها ببطء بينما قفزت مريم هاتفة:
_ساري!
ووصل إليهما لا ينزع عينيه عن عينيها وهو يحاول التخلص من تلك المفاجأة فاستدركت مريم:
_لقد قال لي عاصم أن سارة من ستأتي لتقلني، لِمَ أتيت أنت؟
وبدون أن يحيد بعينيه عنها أجاب بهمس وصلها وحدها:
_لأن أمي دعت لي دعوة صالحة هذا الصباح!
توردت وجنتاها وتهربت منه عيناها فأردف بنبرة خافتة:
_ألم أخبرك بأني أشعر أنني سأراكِ ثانية؟!
تدخلت مريم وهي تنقل نظراتهما بينهما:
_الآنسة رهف ساري، إنها معلمتي!
رد بابتسامته الرائعة:
_أهلا آنسة رهف، وأنا أكون ساري ابن خالة مريم.
أومأت برأسها في تحية صامتة، ثم تخلصت من توترها بسرعة وهي تحاول الابتسام بمجاملة:
_لا تضايقي نفسك مريم، ألف سلامة لأخوكِ، بعد إذنكما.
اندفع بسرعة قبل أن تتحرك وهو يعرض بلهفة واضحة:
_انتظري آنسة رهف! سنقلك إلى منزلك، الظلام بدأ في الحلول بالفعل.
تململت في وقفتها بارتباك ثم ردت:
_لا داع، أنا سأستقل الحافلة، شكرا لك.
توسلتها مريم:
_أرجوكِ آنسة رهف! تعالِ معنا!
ابتسمت رهف لها بحرج وهي ترد بهدوء:
_صدقيني مريم لا أستطيع.
توجه ساري بالكلام إلى مريم:
_اذهبي مريم وانتظريني بالسيارة.
نظرت لها مريم بابتسامة ثم انطلقت إلى سيارته، ازداد توترها ثم تشبثت بكتبها وهي تبادر:
_إلى اللقاء.
وقبل أن تتحرك هتف:
_انتظري رهف!
نظرت له بدهشة فحك ذقنه بارتباك:
_آسف! لم أقصد رفع الألقاب.
هزت رأسها بلا تعبير فأردف:
_أخبريني! ما هي أعَمَّار طلابك؟
رفعت رأسها تنظر له بدهشة وهي تجيبه:
_عفوا؟!
حمحم بحرج وهو يعيد سؤاله:
_أقصد.. الطلاب الذين تُدَرِّسين لهم، ما هو الحد الأقصى لأعَمَّارهم؟ أرغب بالحصول على معلومات عن ذلك المركز.
برتابة أجابته:
_من الخامسة إلى الخامسة عشرة.
عقد حاجبيه بضيق وهو يهتف بها:
_هذا ليس عدلا! وماذا عن الأكبر سنا؟ ألا يحق لهم تعلم اللغة؟ هذا ظلم بَيِّن!
استغربت حدته وهي تُجيبه بسرعة:
_كنت أعتقد أنك تسأل عن الفصول المقامة الآن، بالطبع هناك فصول مختلفة لجميع الأعَمَّار وبمواعيد مختلفة كي يتسنى لمن لديهم وظائف الحضور.
مالت شفتيه بابتسامة خطفت أنظارها وهو يردد بنبرة خطرة:
إذن أهناك فصول لشاب في الثانية والثلاثين يرغبوبشدة_ في التعلم؟ وأُصدقك القول حينما أؤكد لكِ أنه مجتهد جدا! وملتزم بالحضور جدا! وسيحرص على الاستذكار جدا جدا!!
جف حلقها وهي تبتعد بعينيها عنه بقلق ثم ردت:
_لقد..لقد أخبرتك، يوجد فصول لجميع الفئات والأعَمار بغض النظر عن الوظيفة، تستطيع الحصول على المعلومات بمكتب الاستقبال.
خفت صوته وهو يسألها بتدقيق:
_وأنتِ، هل من الممكن أن تُدَرِّسي في أحد هذه الفصول؟
تظاهرت بالجدية وهي ترد عليه هاربة بتصميم من عينيه اللتين تحدقان بها:
_أنا لا أحب تدريس الكبار، أفضل أن أتعامل مع الأطفال وصغار السن فقط.
لينقلب توترها إلى الدهشة حينما أجابها بلا تردد:
_خيرا فعلتِ!
حدَّقت به بتوجس والتساؤلات تسبح بعينيها، ماذا يقصد؟! ماذا يعني ذلك الإنسان الغريب؟ بل ماذا يريد منها ولِمَ يحملق بها بذلك الشكل؟ وقبل أن تعثر على إجابات لأسئلتها بادرها هو مبتسماً:
_فلا أظن أنه من الجيد أن تُحيي المُعلمة كبار السن بغمزة، لن يقتنع أحد منهم أنها حركة تلقائية، وربما تزرع الأمل بقلوب الكثيرين.
اتسعت عيناها بدهشة ما لبثت أن تحولت لغضب وهي تهتف به:
_أنت ماذا تقصد؟! هل تلمح إلى ما حدث بمكتبك رغما عني؟! اسمع! صدق أو لا تصدق، إنها تلقائية تماما ولم أعنِ بها شيء.
ثم أردفت بحنق ولسان منفلت:
_أيها المغرور!
ووصل رده سريعا بابتسامة لامبالية:
_وأنتِ أهدابك مُشعثة!
ارتدت للخلف تبرق عيناها بجنون وهي تسأله بصدمة:
_ ماذا قلت؟!!
مط شفتيه بلا اهتمام وهو ينظر لها بجدية:
_قلت أن أهدابك مشعثة، ألم ترينهن بالمرآة؟! بالتأكيد لديكِ واحدة.
اندلع الجنون بعينيها فتسارعت دقات قلبه وهو بالكاد يمنع ابتسامته:
_هل تتنمر عليّ؟!
ليرد ببرود:
_ومتى تنمرت؟! لقد قلت أن أهدابك مشعثة، وإن كنتِ لا تعلمين أنها من أحد علامات الجمال، تعطي العينين مظهرا مميزا وتختطف أنظار المساكين أمثالي، فليس ذنبي أنكِ جاهلة في ذلك النحو.
تخطت معنى ما قاله بإصرار وهي تضيق عينيها بتحفز:
_هل قلت أنني جاهلة؟!
عض على شفته السفلى بغيظ لجمه بصعوبة ثم هتف:
_من بين كلماتي جميعهن لم تلتقط أذناكِ إلا جاهلة؟!
زفرت بضيق وهي تشدد من احتضان كتبها ثم قالت:
_على العموم إن كنت تريد الاستفسار عن الدورات يجب عليك الحضور مبكرا، لأن الموظفين انصرفوا بالفعل، استأذنك.
تجاوزته متجهة للخارج فلحقها يبدي لامبالاة مفتعلة:
لا عليكِ، لقد غيرت رأيي، ربما قد أحصل ذات يوم على درس خصوصي لدى إحدى المُعلمات المميزات، فأناإن كنتِ لا تعلمين_أحب التركيز جدا، وأحترم الدراسة جدا.
تجاهلت كلماته عندما وصلت إلى خارج المعهد ثم التفتت راسمة ابتسامة رسمية:
_كما تحب، بعد إذنك.
وأتى رده على تحيتها ابتسامة ماكرة مصحوبة بـ..ـ
غمزة!!
****
صف سيارته بباحة فيلا خالته وهو يقفز منها مهرولا إلى الداخل، فتح له زوج خالته الباب فبادره بقلق عارم:
_ماذا حدث عمي؟ ماذا به إياد؟
أجابه زوج خالته من بين أسنانه:
_كان يعاني الأنفلونزا، لكنه أفضل حالاً الآن.
تبعه عَمَّار إلى الداخل وهو يدور بعينيه في المكان بلهفة متسائلاً:
_أين هو عمي؟ أريد أن أراه.
أشاح الرجل بوجهه بعيدا وهو يرد كاظماً غيظه:
_إنه بالطابق الأعلى، تستطيع الصعود إليه.
ما إن أنهى عبارته حتى انطلق عَمَّار إلى الأعلى فلم يستطع الرجل منع نظرة الامتعاض التي رماه به، لو بيده لانتقم منه على كسر قلب ابنته الوحيدة ، عديم الشعور!
احتضن ابنه بلهفة وهو يعي ضعفه الشديد وعندما تأكد من استغراقه في النوم بحث بعينيه عنها، أخذ يدور في الغرفة باحثا عن أية آثار لها، ومن خلال النافذة لمحها تجلس وحيدة شاردة بالحديقة الخلفية.
اقتادته قدماه حتى هبط إليها مُتجاهلا نظرة الغيظ التي رمقه بها أبوها لعلمه بأنه محق بالطبع، وعندما أصبح خلفها تماما بحث عن كلمات بعقله فلم يجد، وكعادتها لم تتركه لحيرته وهي تلتفت له بهدوء:
_هل اطمأننت على إياد؟
تَعَلَّقت عيناه بها والألم يكتنفه بشدة، ما به صوتها؟! لقد كان كلحن طائر، ما به أصبح أبحا مجروحا هكذا؟ أمرض ابنه السبب؟ أم فِعلته هو؟
_إنه.. نائم.
أولته ظهرها وتحدثت باقتضاب:
_تستطيع الانصراف إذن، سأُطَمئن خالتي على إياد.
تخشب مكانه لا يستطيع تقدم ولا يقوى على تراجع، أيعود إلى برود البيت دونها؟ أيعود إلى الظلام الكامن بأعماقه وبروحه بعد انسلاخها عنه، أم..، أم يتخذ خطوة طائشة ويخسرها إلى الأبد؟
يحق لها الاختيار أليس كذلك؟
_مَوَدَّة، أريد أن أخبرك بنفسي عَن كل شيء!
بسكين ثلم يغزو قلبها؛
ببرود قاتل يدعس كرامتها وروحها؛
هل ستمنحه هي الفرصة؟ هل ستؤكد له أن قلبها الأحمق مازال يصرخ باسمه؟
أظهرت لامبالاة ثم قالت:
_لا أهتم.
وبغضب هتف:
_أنا أهتم.
التفتت إليه دامعة العينين رغما عنها :
_إن اشترطت أن تتخلى عنها ....
قاطعها بحسم:
_لا أستطيع.
وكتمت شهقة ذَبْحَها بصعوبة..
تناظره بِحسرة والخسارة تطغى على عينيها..
ألهذه الدرجة عَمَّار؟ ألهذه الدرجة؟
أشاحت بوجهها بعيداً هاتفة:
_اذهب إليها عَمَّار، اذهب ولا تعُد!
وفجأة وجدته يقف أمامها وبعينيه صراع، هالها العذاب المرتسم داخل عينيه اللتين تطلبان غفران ومشورة ومساندة..
"يا حمقاء!! أستشفقين عليه الآن؟ إنه يقف أمامك ليتبجح بتمسكه بأخرى ربما مُتعللا بصراحته معك منذ سنوات أو بصداقة من طرف واحد، لم يحبك ولم يخدعك يوما، وكما لم تستطيعي أنتِ التخلص من حبك له على الرغم من كل ما فعل ، فهو أيضا لا يستطيع السيطرة على مشاعره!"
قاطع سيل أفكارها بعد أن حسم نتيجة صراع أخيراً قائلاً:
_مَوَدَّة! دوماً ما كنتِ حنونة مُتَعَقِّلَة، سأخبرك بالحقيقة كلها وأرجو أن تتفهمي موقفي وتغفري لي إخفاءي عنكِ شيئاً بتلك الأهمية، الأمر ليس بيدي، سأمنحك حق الاختيار وأرجو أن يكون حُكمِك عادلاً!
****
انهى صلاته بالمسجد وسار بلا هدى، أصبح لا يطيق العودة إلى المنزل الذي بات خانقا، المرأة وابنتها لا يكفان عن تكدير معيشته، زوجته تعايره طوال الوقت بالجنوح إلى الفقر و بالنظر تحت قدميه، وابنته هي ألم غائر بقلبه تزداد حسرته عليها يوما بعد يوم.
متى توحشت هكذا؟! كيف رباها مع ابنة أخته بنفس المكان وبنفس الوسائل لتنشأ الاثنتان متناقضتان تماما؟!
لم ينتبه من فرط شروده إلى تلك السيارة التي توقفت على بُعد أمتار منه، ليكتشف أنه يسير بمنتصف طريق السيارات، تنحى جانبا يرفع رأسه باعتذار لقائد السيارة وهم بمتابعة سيره عندما انطلقت العبارة المُرَحِّبَة من خلفه:
_مرحبا عم صلاح!
التفت باستغراب ثم أشرق وجهه ببسمة هاتفا والآخر يتقدم منه:
_مرحبا حمزة، كيف حالك بني؟
وصل إليه حمزة مصافحا إياه قائلاً:
_الحمد لله عمي، أنا بخير، كيف حالك أنت؟
_ أنا بخير بني.
ثم نظر خلفه ليقول بِصدق:
_مبارك السيارة الجديدة.
ابتسم حمزة ببشاشة وهو يجيبه:
_بارك الله بك عمي، هل أنت عائد إلى المنزل؟ تعال لأقلك بطريقي.
وبعد إلحاح منه استقل المقعد المجاور له، وفي الطريق علم منه أن أحواله المادية تحسنت كثيرا وقد عاد لتوه من آداء العمرة مع والديه.
وبعد قليل تنحنح حمزة بحرج قائلا:
_وما أخباركم عمي؟ أرجو ان تبلغ أم دينا سلامي.
_بك الخير ولدي.
سأله حمزة باهتمام:
_ورهف أيضا، طمئني عن أخبارها، كيف تبلي في عملها الذي التحقت به منذ فترة؟
ارتسم التوتر المشوب بالحرج بعيني صلاح وهو يجيب بخفوت:
_رهف رحلت يا حمزة.
نظر حمزة له بحدة هاتفا:
_إلى أين رحلت عمي؟
حاول إبداء نبرة اعتيادية بصوته وهو يجيبه:
_استقلت بمعيشتها عنا.
توقف حمزة بالسيارة فجأة فانطلقت الأبواق من خلفه باعتراض، لكنه لم يأبه وهو يهتف متسائلاً باعتراض أشد:
_ماذا؟! استقلت؟ أهي تعيش بمفردها الآن؟
فقد صلاح سيطرته على نفسه وصاح حانقا :
_نعم حمزة، تعيش بمفردها تماما، بمكان وضيع ويعلم الجميع أنها وحيدة، فلا تظن أنني سعيد بسبب ذلك، أنا ألعن نفسي كل لحظة بسبب تركي إياها، حتى أنني قد فكرت بالاستقرار معها وترك من تسببا في ذلك الوضع ليجربا النبذ والإهمال اللذين أذاقاها إياه طوال عمرها..
ثم هدأت نبرته وهو يتابع:
_ لكن ما بيدي حيلة بني، أنا مضطر لذلك كي تكون هي آمنة.
هتف حمزة من بين أسنانه:
_وما أدراك أنها الآن آمنة؟! ألم يخطر ببالك أن يلاحقها ذلك الحقير مستغلا وحدتها؟!
حدق صلاح في وجهه بصدمة مرددا:
_أنت..أنت..
قاطعه حمزة بهدوء:
_نعم عمي، أنا أعلم ما حدث جيدا ذلك اليوم، وأعلم أن ذلك الرجل لن يدعها وشأنها.
ظلت النظرة المصدومة على وجه صلاح وهو يحدق بحمزة الذي يرتفع صدره ويهبط بغضب واضح، الآن فقط أدرك أن السبب الحقيقي لطلاق ابنته سيكون أحدهم...
الخوف؛
أو الخزي؛
أو الازدراء!
****


سعاد (أمواج أرجوانية) غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 19-08-20, 07:58 PM   #25

سعاد (أمواج أرجوانية)

كاتبة في منتدى قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية سعاد (أمواج أرجوانية)

? العضوٌ??? » 476570
?  التسِجيلٌ » Aug 2020
? مشَارَ?اتْي » 3,605
?  نُقآطِيْ » سعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond repute
افتراضي

تابع الفصل الثالث:
تأففت سارة بِغيظ وهي تحاول التزام أقصى قواعد التهذيب عندما سمعت المرأة تسألها:
_هل تجيدين الطهي يا عروس؟ يجب أن أخبرك بأن أحمد يحب جميع أنواع الطعام، ويدقق به كثيرا، كما أنه لا يستطيع تناول نفس النوع يومين متتاليين.
ابتسمت سارة ببرود:
_أستطيع أن أعد بعض المعكرونة بصلصة الطماطم!
عقدت المرأة حاجبيها بدهشة متسائلة:
_وماذا عن بقية الأنواع؟
مطت سارة شفتيها بلا مبالاة وهي تجيب:
_سأكتفي بالمعكرونة.
عوجت المرأة شفتيها بضيق وهي تنظر لابنها فتدخلت سوسن بابتسامة مصطنعة:
_سارة تمزح، إنها تحب المزاح ما شاء الله، هي تعد جميع أنواع المأكولات، أليس كذلك حبيبتي؟
والسؤال الأخير كان بنظرة تحذيرية انقطعت عندما تحدث ساري ببرود:
_على أي حال أعتقد أن الطعام الصحي أصبح نَمَطاً شائعاً ضرورياً هذه الأيام أستاذ أحمد، أنصحك بتجربته!
وقبل أن يرد الشاب هتف عاصم بتصديق:
_معك حق، كما أن هناك ما هو هام أكثر من أنواع المأكولات لنتناقش بشأنه الآن.
سألت الأم بصراحة:
_هل تعملين يا عروس؟
أجابت سارة ببرود:
_أنا محاسبة بشركة أخي وابن خالتي.
ظهر الفضول على وجه المرأة وابنها الذي لا ينطق وهي تسألها:
_وستظلين بوظيفتك بعد الزواج، أليس كذلك؟
كشَّرت سارة عن أنيابها وهمت بالرد، لكن أخوها بادر:
_أي زواج ؟ ولو افترضنا أنه سيتم، لِمَ تعتقدين أنها ستعمل؟ربما ستُفضل أختي أن تترك العمل، هذا شأنها وحدها.
تبادلت المرأة النظرات مع ابنها بتوتر ثم قالت:
_لكن أنت تعلم مهندس ساري أن الظروف المادية أصبحت شاقة، لا بأس أن تساعد المرأة زوجها طالما هي بالأصل تعمل، إنه بيتهما سوياً.
ليجيبها ساري ببرود:
_هذا أمر يكون بالرغبة لا بالإجبار يا فندم، ربما يفضلان أن يعيشا بقدر دخل الرجل حتى يوسع الله رزقهما، لا أنا ولا أنتِ لنا أن نتحدث في شيء خاص كهذا.
لم تستطع المرأة إخفاء علامات الخيبة والامتعاض من على وجهها فنظرت لابنها نظرة ذات مغزى فوقف لتتبعه مبتسمة بمجاملة:
_خيرا ، سنتبادل الاتصالات خلال أيام، إن شاء الله يكن النصيب لهما معا.
همس ساري بغيظ:
_إن شاء الله لن نر وجهك أنتِ وابنك ثانية.
وعندما وصلا الى الباب تتبعهما سوسن التي تداري غضبها بصعوبة وساري الذي يكاد يركلهما بقدمه، هتف عاصم:
_أستاذ أحمد فكر في النادي الرياضي بجانب الطعام الصحي، عسى أن تنمو لك بعض العضلات.
وما إن أغلقت سوسن الباب حتى استدارت لهم جميعا هاتفة بغضب:
_إلى متى ستتسببون بفضحي أمام الناس؟
رد عاصم بدهشة:
_وأين الناس؟ لم يحضر سوى امرأة فضولية متسلطة وبحوزتها كائن غريب الملامح لم نسمع حتى صوت سعاله، كيف يريد ذلك الزواج؟
عَلَّقَ ساري بابتسامة مستفزة:
_بجهود أمه!
ضرب الاثنان كفيهما ببعض وهما يتضاحكان بينما سارة تكاد تطير سعادة بتخلصها من ذلك السمج، صرخت بهم سوسن بغضب:
_ولا واحد من ثلاثتكم يريد أن يسعدني، ولا واحد يريد أن يجعلني أحضر زفافا.
ثم شرعت في أنين مفتعل فاتجه إليها ساري واحتضنها بحنان قائلا:
_يا إلهي! أكل ذلك من أجل حضور زفاف؟، حسنا حبيبتي ارتدي أجمل ما عندك والآن سآخذك إلى أقرب قاعة أفراح لتُصفقي وتزغردي كما تشائين، لكن بدون رقص.
لكزته أمه في إحدى كتفيه وهي تعاتبه:
_أتسخر مني ساري؟ أتقلل من قيمة مشاعري ورغبتي بالاطمئنان عليكم؟
قبل ساري جبهتها بحنان ثم همس بإحدى أذنيها بعيداً عن الآخرين:
_دعواتك أمي،دَعْكِ من ابنتك وابن أختك، ربما أُسعدك أنا قريبا.
ابتسمت أمه بلهفة وهي تسأله بصوت قوي:
_أحقا ساري؟! أهناك فتاة؟! من هي؟! أخبرني ما اسمها وأين رأيتها؟
أغمض عينيه زافراً بيأس وهو يستمع إلى هتاف عاصم من خلفه:
_الله الله!! أهناك فتاة؟ وأنا لا أعلم؟! أين؟ ومتى؟ وكيف وأنا ملاصق لك طوال اليوم، وطوال الأسبوع؟
وهبت سارة هاتفة بفرحة:
_ما اسمها ساري؟ وكيف تعارفتما؟ هل هو حب من النظرة الأولى؟ هل هي جميلة؟
ليسأله عاصم بنزق:
_ومتى كنت ستفكر بإخباري؟ قبل زفافك بيومين أم في حفل عقيقة ابنك؟ لم أكن أتوقع أن تصدر تلك النذالة عنك أبدا يا ساري!
بينما عقدت سارة حاجبيها بحزن مفتعل:
_وماذا عني أنا؟ أنا أخته الوحيدة معه بالبيت وبالعمل، وأنا مخزن أسراره، وقد أخفى عني أهم ما بهم، أتدرك مقدار حزني وخيبتي عاصم؟
وافقها عاصم بإيماءة حزينة من رأسه:
_أدركها تماما ابنتي، طعنة نجلاء تنفذ إلى القلب، وتفقدك الثقة في أقرب الناس إليكِ.
ردت سارة:
_أوتدري أيضا عاصم ......
_كفى يا أوغاااااد!!
عم الصمت بينهما عندما قاطعتهما صيحته المدوية وهو ينظر إليهما متسعي الأعين ومتسمرين كالأصنام ثم اقترب منهما هاتفا بغيظ وهو يتوجه بنظره إلى أخته أولا:
_أنتِ! اسمعيني جيدا! هل تريدين إعطاء تلك السيدة..أقصد ابن تلك السيدة فرصة؟
هزت سارة رأسها نفيا بسرعة:
_إطلاقاً!
بصرامة جاء رده:
_انتهى! سأحرص على وصول ردك إليهما، أنا لن أجبرك أبدا على شيئا لا تريدينه سارة.
ابتسمت بامتنان وهي تحتضن أخيها بحب فربت عليها بأبوة واضحة ثم التفت إلى عاصم غاضبا:
_وأنت!!
بسرعة رد عاصم رافعاً كفه أمام وجهه:
_أنا لا أريد الزواج من أي أحد.
عقد ساري حاجبيه بحنق:
_أي زواج يا أحمق؟! أنت لن تأتي إلى الشركة بالغد، عسى حجتك بانعدام التفرغ تبطل وتقوم بالزيارة التي أجلتها طويلا.
حدق عاصم بعيني صديقه بتساؤل ضائع وملامح مهزومة فابتسم ساري بحنان مخاطبا إياه بهدوء:
_يا أبله! أيكون للمرء أحد والديه على قيد الحياة ويهدر أيامه في التردد والخوف، اذهب عاصم، هي أمك وتتمنى رؤياك، اذهب ولا تنتظر أكثر كي لا تتأخر فتندم!
ابتسامة ضعيفة بدأت بالظهور على شفتي عاصم بالتدريج ليغمز له ساري ببسمة ثم تتسع عيناه بذعر مفتعل هامساً باستدراك:
"تلك المشعثة أصابتني بالعدوى!"
****
وبغرفة الجلوس كانت مريم تعبث بهاتفها، جلس ساري على المقعد المجاور لها متسائلاً بلا اكتراث:
_ماذا تفعلين؟
أجابته وهي محدقة بهاتفها:
_أشاهد صور الحفل.
_أي حفل؟
نظرت له متحدثة باهتمام:
_حفل ختام الفصل الماضي، انظر!
تظاهر بالاهتمام وهو ينظر إلى هاتفها بغير تركيز للحظات ثم اتسعت عيناه فجأة وهو يختطف الهاتف منها قائلا:
_أعيدي الصورة السابقة!
أعادتها مريم ثم ابتسمت هاتفة:
_إنها الآنسة رهف، أنت قد قابلتها معي.
شملت ابتسامته وجهه وهو يرد محدقا بالهاتف:
_بالطبع قابلتها.
مدت مريم يدها لتأخذ هاتفها فهتف بنبرة مهتمة:
_صحيح! هل رأيتِ ذلك التطبيق الحديث على هاتف سارة الذي يضع للوجه أذني حيوانات؟
نظرت له باستغراب:
_بالطبع ساري أعرفه! إنه لدى الجميع!
وهمت باختطاف هاتفها فأبعده عنها بإصرار وهو يخاطبها بنزق مفتعل:
_لم أقصد ذلك التطبيق القديم يا ذكية، هناك واحدا آخر لتوه تم إصداره وبه مميزات كثيرة، اذهبي الآن واحضري هاتف سارة وسأريكِ إياه.
نظرت له بفضول ثم انطلقت إلى الخارج، فالتقط هو هاتفه بسرعة وقام بإرسال صورتها إليه، وعندما عادت مريم تعطيه هاتف أخته لم يكلف نفسه عناء الرد عليها وهو يتجه إلى الخارج سعيدا بغنيمته!
****











يوم الأربعاء
العاشرة صباحا:
بتثاقل أخذ يصعد الدرجات وهو يفكر في التراجع، لا يعلم كيف أقنعه ساري بالقدوم إلى هنا، لا يعلم ماذا يجب عليه أن يقول أو يفعل، هل يبتسم لها؟ هل يحتضنها؟ هل يناديها ب"أمي"؟!
زفر بحيرة وهو يتوقف بمنتصف الدرجات...
هبطت عيناه إلى الأسفل درجة درجة؛
ثم صعدت إلى الأعلى درجة درجة؛
يستطيع الآن الهرب إلى خارج البناية إذا اختار الهبوط فتخرج أمه من حياته إلى الأبد، ويستطيع أيضا أن يقتحم ذلك الباب بالأعلى مطالبا بحقه بأمومتها له فلا يسمح لها بالابتعاد عنه لحظة أخرى.
ماذا يختار؟
لحظة..
والثانية..
وفي الثالثة دفعته قوة ما إلى الدرجة الأعلى..
ثم الأعلى، ثم الأعلى، حتى وجد نفسه بعد ثلاثة درجات يركض ركضا إلى أن توقف مضطرا أمام الباب يدقه بيده اليمنى ويضغط جرسه باليسرى بإصرار وهو يلهث..
قلبه يلهث يريد حنانها؛
عقله يلهث يصرخ باسمها؛
روحه تلهث تشتاق لحضنها؛
وعندما فُتِح الباب فجأة توقف لهاثه منسحبا لتحل محله شهقة!
فأمامه كانت ضئيلة القامة عيناها دامعتان ومُتشحة بحجاب أسود!!
وأطلق لسانهبحشرجة مذعورة السؤال بدون إذن منه:
_هل تأخرت؟!
****
الثانية عشر ظهرا:
هبطت من سيارتها ثم دلفت إلى داخل المبنى، وبهدوء اتجهت إلى مكتب الحجز، بادرتها الموظفة بابتسامة:
_تحت أمرك سيدتي، أتحبين الاستفسار عن الدورات؟
وبابتسامة أيضا جميلة ردت:
_لا، أنا أريد الحجز في إحدى الدورات لطفلي.
_كم عمره سيدتي؟
بابتسامة ردت:
_عمره ستة أعوام.
_والاسم؟
ردت بقوة:
_إياد عَمَّار الناجي.
بدأت الموظفة بتسجيل البيانات حينما بادرتها:
_لكن بعد إذنك، أيحق لي اختيار الفصل الذي سيدرس به؟
ردت الموظفة ببشاشة:
_بالطبع سيدتي، أستطيع ترشيح أفضل المعلمين لابنك.
ابتسمت باقتضاب وهي ترد بجدية:
_شكرا لكِ، لكني أريد أن يلتحق ابني بالفصل الذي تدرس به الآنسة رهف!
****
وبنفس المكان بنفس الوقت وعلى بُعد بضعة أمتار تلفتت رهف حولها بقلق بعد ان استدعوها لمقابلة شخصا ما يريدها فورا، وعندما وصلت أخيرا إلى باحة الإستقبال حدقت بظهره باستغراب مُحَاوِلَة أن تتعرفه، لكنه التفت على الفور إليها فارتفع حاجباها في دهشة، وقبل أن تنطق بادرها بتوتر ملحوظ:
_أريدك أن تحذري رهف، ربما هناك من يتربص بك!
وازدادت دهشتها وهي تهتف به بقلق:
_من تقصد يا حمزة؟!
****
الواحدة ظهرا:
مطعم راق للغاية وموسيقى ناعمة؛
ملابس غالية وسيارات فخمة تصطف بالخارج؛
يا للحسرة ألا يكون نصيبها مثل واحدة من هؤلاء النسوة! لكن ربما مجيئها لمقابلته هو خطوة بأول طريقها، فهو يبدو مهتما للغاية.
وفي أبعد ركن بالمكان وجدته، اتجهت إليه ترسم ابتسامة أنثوية رائعة، فرفع عينيه إليها وبادلها ابتسامتها، ثم وقف جاذبا أحد المقاعد كي تجلس عليه.
مهذب؛
وسيم؛
ذو مكانه عالية؛
والأهم: ثري!
متزوج؟ لا تهتم!
لديه طفل؟ أيضا لا تهتم!
لن تسمح لأي شيء تافه أن يقف أمام أحلامها
وانطلق سؤالها بأنوثة ناعمة:
_لِمَ طلبت أن تراني؟
وجاءها الرد على الفور:
_هناك شيئا أريده منك بشدة سيدة دينا.
عقدت حاجبيها بدهشة مفتعلة:
_وماذا يكون هذا الشيء دكتور عَمَّار؟
** نهاية الفصل الثالث**


سعاد (أمواج أرجوانية) غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 23-08-20, 08:27 PM   #26

سعاد (أمواج أرجوانية)

كاتبة في منتدى قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية سعاد (أمواج أرجوانية)

? العضوٌ??? » 476570
?  التسِجيلٌ » Aug 2020
? مشَارَ?اتْي » 3,605
?  نُقآطِيْ » سعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الرابع
جانِ أم...؟
****
هو..
هارب ولا يزال؛
ناقم وإلى الأبد؛
يُعاند ولن يميل!
هي...
جريئة لا تتراجع؛
صريحة لا تتردد؛
عَزَمت على الوصول إلى هدفها رغماً عن أنفه!
وما بين رغبتها ورفضه، اندفاعها وصَدُّه.. تقبع بقايا سلامته النفسية.. وربما قواه العقلية!
****

العاشرة صباحا:
"هل تأَخَّرت؟!"
مَسحت سما عينيها وهي تفتحمها وتغلقهما بصعوبة عندما أعاد سؤاله مرة أخرى بذعر واضح:
_هل أنا تأخرت؟
رفعت أحد حاجبيها بدهشة قائلة:
_وهل دعوناك؟!
ظل محدقا بها مبهوتاً لبعض الوقت ثم ما لبث أن سألها بتقطع:
_لِمَ..لِمَ ترتدين الأسود وتبكين؟
أخيراً استطاعت فتح عينيها بالكامل وهي تحدق به بدهشة مفتعلة قائلة:
_ياإلهي! قليل الذوق عديم الإتيكيت هو من يسأل عن حالي باهتمام؟ يا لسعدي!
ثم انقلبت ملامحها للامتعاض بلحظة قائلة:
_لا أعتقد أن هناك قانوناً ما يمنعني من ارتداء الأسود كما أحب.
ثم تابعت بِزهو:
_بالإضافة إلى أنه مَلِك الألوان!
تدلَّى فكُه السفلي ببلاهة وهو لا يستطيع استجماع كلمات مناسبة، لكن الأخرى لم تكن تفتقر لتلك الهِبة فهتفت بجفاء:
_لماذا جئت إلى هنا؟
فجاء رده متوجساً متوسلاً:
_أردت رؤية.. رؤية أمي!
وحينما كانت تهم برد عنيف آخر ألجمتها النظرة المعذبة بعينيه، فزفرت بضيق وهي ترد عابسة:
_أم عاصم نائمة الآن.
تيبس مكانه وهو يرتشف معنى عبارتها باستمتاع، تخللت الكلمات البسيطة عقله وقلبه لتعود روحه جرياً إلى جسده فترتسم ابتسامة غريبة على شفتيه بالتدريج حتى شملت وجهه كله، نظرت هي له بتوجس وهي تفسح جانبا لتدعه يدخل.
ودخل!
أخذ يطالع كل شبر بأرجاء ذلك المكان الذي تنعَّم بوجود أمه طوال سنوات حرم هو منها خلالهن، بينما الابتسامة البلهاء مقترنة بدقات قلبه التي تتسارع بفرح وصيحات ذاهلة يهتف بها عقله..
"أنت هنا الآن عاصم!"
"أنت ببيت أمك عاصم!"
"أنت ستسترجع حضنها وقُبُلاتها وحكاياتها!"
ظل عقله ينبهه ببطء إلى ما هو مُقدِم إليه حتى لا يجن من فرط فرحته، وحينما التفت وقعت عيناه على قصيرة القامة تنظر له بدهشة، حمحم بخشونة وهو يحاول استعادة رزانته التي ضاعت تماما أمام غريبة الأطوار تلك، ثم سألها:
_لِمَ تبكين إذن؟!
مطت شفتيها بغيظ وهي تجيبه:
_إن كانت حاسة الشم لديك مُعطلة، فأحب أن أخبرك أنني أطهو الطعام وأقطع بعض البصل.
وما إن أنهت عبارتها حتى اتسعت أعينهما سويا ورائحة الاحتراق تصل إلى أنفيهما، فظلت متسمرة مكانها حتى سبقها هو بالإدراك قائلا بِحَذَر:
_يبدو أن هناك حريقا ما!
فانتفضت هي إلى الداخل صارخة:
_البصل!!
نزع قدميه انتزاعاً من مكانه ولحق بها ليجدها تحاول إنقاذ بقايا الطعام المتفحم، وعندما فتح فاهه كي يطمئنها سبقته تمتمتها الغاضبة وهي توليه ظهرها:
_الخير حقا على قدوم الواردين!، لأول مرة بحياتي يحترق مني طعام بسبب قليل الذوق هذا!
ضيق عينيه بِشرّ وهو ينظر إلى إحدى السكاكين الضخمة الموجودة بالقرب منها، إلا أنه سرعان ما نبذ ذلك الخاطر وهو يبادرها ببرود:
_ربما كان من البديهي أن تطفئي الموقد قبل أن تجيبي من بالباب.
لكنها كانت أكثر منه جرأة وهي تلتفت مختطفة نفس السكين لتشير بها إليه بتوعد هاتفة:
_اسمع! أخرج من هنا واجلس بغرفة الاستقبال بصمت وهدوء ولا تجعلني أسمع صوتك حتى تصحو أم عاصم، مفهوم؟!
تخشب جسده بأكمله وهو يُحدِّق بها بعينين مُتسعَتين، مذعورتين؛
هو ليس جبانا بالطبع، لكن من التعقل أن يبدي المرء احتراما أمام فتاة مجنونة غاضبة تحمل سلاحا أبيضا ضخما وتشهره أمام وجهه ولا يظهر عليها ترددا في استخدامه على ملامحه.
وهكذا فقد رفع يديه بجانب رأسه استسلاما وهو يتراجع بابتسامة مهذبة حتى ولى هاربا من مطبخها.
وبعد بضعة دقائق قضاها جالسا بأدب وتوتر يحاول انتقاء بعض الكلمات في غرفة الجلوس شعر بحركة بطيئة خلفه أعقبها صوت ضعيف هارب من خفايا ذاكرته اليتيمة فأرسل القشعريرة إلى قلبه وصاحبته تسأل:
_هل أتيت أخيرا عاصم؟
عندئذ التفت ببطء يحدق في المرأة أمامه بصدمة وهو لا يقوى على إبداء أية ردة فعل!
****
الثانية عشرة ظهرا:
"شكرا لكِ، لكني أريد أن يلتحق ابني بالفصل الذي تدرس به الآنسة رهف!"
ابتسمت لها الموظفة برسمية وهي تعاود إكمال ادخال البيانات، أما مَوَدَّة فقد شردت بعيدا في حوارها السابق مع عَمَّار وقرارها الذي اتخذته بناءا عليه بعد تفكير هادىء.
لن تظل إلى الأبد مستسلمة، لن تدفن رأسها بالرمال وتصمت، بل ستحارب بكل قوة من أجل ما تؤمن به، وما يجب عليها القيام به.
نهرها عقلها بغيظ متسائلاً عن كرامتها التي دعسها عَمَّار طوال تلك السنوات؟ هل سيتلبسها الضعف وستتغاضى عنها؟
لكنها تَعَلَّقت بِصمود مُثير للاهتمام ،بالطبع لا! بل ربما تستردها الآن، يجب عليها فقط أن تنحي قلبها جانبا وتتعامل معه بعقلها فقط!
****
"أريدك أن تحذري رهف، ربما هناك من يتربص بك!"
ازدادت دهشتها وهي تهتف به بقلق:
_من تقصد يا حمزة؟!
اقترب من بضعة خطوات ثم توقف مقابلها مرددا كلمات بطيئة:
_ أنتِ تعرفين قصدي رهف، أنا.. أنا أعلم كل ما حدث قبل طلاقي ودينا.
شحب وجهها وهي ترتد إلى الخلف بصدمة هاتفة باضطراب:
_أنا.. أنا لا أفهم شيئا حمزة، وما علاقتي بطلاقك ودينا؟
تنهد بألم قائلا:
_ربما ليست لكِ علاقة مباشرة بالطلاق، لكن ما تسببت ابنة خالك به لكِ قد ساهَم في رؤيتي كم إنها إنسانة حقودة طماعة، ولن تهدأ حتى تحقق أهدافها حتى وإن خَرَّبَت حياة الغير.
عقدت حاجبيها بدهشة وهي تنظر له بتساؤل:
_وما الذي تسبَبت به حمزة؟
نظر لها بإشفاق واضح ثم زفر باستسلام وقال:
_دينا وأمها هما اللتان أحضرتا ذلك الرجل إلى بيتكم.
تألم قلبه وهو يطالعها لا تأتِ بأية ردة فعل للحظات، وما إن نطقت حتى سألت بصوت متحشرج به لهجة رفض واضحة:
_م..ماذا تقول؟!
مسح وجهه بكفيه وهو يكرر عبارته مرة أخرى:
_ما سمعتِ رهف، ما سمعته بالضبط، هما ذهبتا إليه، هما طلبتا منه أن يأتي إليكِ ليُرهِبِك، هما تسببتا بما حدث!
وكان ردها الغريب بشرود ذاهل:
_كيف؟! لقد.. لقد كانتا حاضرتين ذلك اليوم، كانت حاضرتين وشاهدتا كل شيء! مُحال حمزة، ما تقوله مُحال!
بألم رد عليها حمزة:
_أعلم رهف، أعلم...
قاطعته بهتاف غاضب:
_لا! ، أنت لا تعلم! أنت لم تكن هناك! بل أنا كنت، ذلك الوحش معدوم الضمير اصطحب ثلاثة مجرمين معه وأوسعوا خالي ضربا، أمامي، وأمام زوجته، وأمام ابنته، وهما.. هما كانتا تصرخان وتبكيان،.. هما كانتا ترجوانه ألا يؤذوه، ألا تفهم؟! مستحيل!
أغمض حمزة عينيه بإشفاق ثم أعاد فتحهما وعم الصمت! كان يترك لها الفرصة كاملة لاستيعاب تلك الصدمة، وعندما بدأت بهز رأسها برفض خاطبها بحسرة:
_إن كان هناك درس تعلمته من خلال تجربتي مع دينا طوال ثلاثة سنوات فهو أن بعض البشر يمكنهم التمثيل والاصطناع بإتقان تام، فلا تستطيعين كشف حقيقتهم إلا بأدلة قاطعة، وهذا ما حدث، دينا وأمها لم يتمنيا بحياتهما شيئا أكثر من إبعادك عن بيتهما، وفي سبيل ذلك كانتا على استعداد لفعل الأسوأ على الإطلاق.
وعيناها الدامعتان سألتاه بعذاب:
_لِمَاذا؟! ما الذي فعلته أنا؟ أنا لم أؤذِهِما أبدا! لقد.. لقد حاولت مرارا الانتماء إليهما والتقرب منهما، وفي سبيل ذلك تحملت ما لا يُطاق لسنوات.
أجابتها ابتسامته الساخرة:
_معدوم الضمير الحاقد لا ينتظر أذى الآخرين له، بل يخطط ويدبر ثم ينقض!
جلست على أقرب مقعد واضعة رأسها بين كفيها فزفر بتعب:
_اسمعي رهف! أنا معك دائما، لن أتركك ولن أدعه يتسبب لكِ بالأذى، سأساعدك بكل طاقتي.
نظرت له بألم ساخر ثم قالت:
_أنت لم تر ماذا فعل بخالي وهو لم يؤذه أبدا، ولا تعلم إلى أي مدى يمكن أن يصل، ابتعد حمزة، ابتعد عني قدر ما تستطيع، فكل من يقترب مني يحترق.
وبتصميم أسمعها رده:
_لا رهف، أنا لم أنس يوما ما فعلته معي، والآن حان دوري، لن أتخلى عنكِ أبدا، هذا وعد!
رمقته بامتنان فأضاف:
_واحذري جيدا رهف، احذري من كل من يقترب منك!
نظرت له بشرود وهي تومىء برأسها ببطء، بينما أخذت تفكر في كم الأذى الذي عاد ليحوم حولها بعد أن ظنَّت أنها ستنعُم بحياة هادئة أخيراً.
****
الواحدة ظهرا:
"وماذا يكون هذا الشيء دكتور عَمَّار؟"
تراجع إلى ظهر مقعده وهو ينظر إليها بابتسامة أرسلت القشعريرة على طول عامودها الفقري ثم أجابها متسائلاً:
_أنتِ أخبريني سيدة دينا، أخبريني ما الذي تريدينه من رهف؟
شحب وجهها تماما وهي ترتد إلى الخلف بصدمة مُرددة:
_رهف؟!
والابتسامة اشتدت أكثر وهو يجيبها:
_نعم رهف، ابنة عمتك.
وبحقد هائل شمل ملامحها سألته:
_كيف تعرفها؟
انمحت ابتسامته بلحظة ليحل محلها نظرة تحذيرية أرعبتها وهو يجيب:
_اعتقد أنكِ يجب عليكِ إجابتي أولا، لكنني سأكون أكرم منكِ أخلاقا وسأجيبك.
وبمنتهي البرود تابع:
-رهف تخصني جدا، ويهمني أمرها جدا، ومن يحاول الاقتراب منها بِشر سأجعله يندم أشد الندم.
ازدردت لعابها بخوف وهي تحاول العثور على حيلة تخرج بها من ذلك المأزق متسائلة:
_هل.. هل هي حبيبة سرية؟!
انقلبت ملامحه على الفور إلى غضب عارم، ومن بين أسنانه هتف:
_أنتِ تتجاوزين حدودك هنا، وأنا لن أخبرك بعلاقتي بها، لكن أنتِ من ستخبرينني الآن، ما الذي تمتلكينه أنتِ ووالدتك ليشجعكما على الابتزاز؟، ما الذي بحوزتكما ومن شأنه أن يؤذي رهف؟
وبرغم ذهولها بسبب معرفته بأمر ابتزازها السابق، وبرغم جهلها بِعلاقته بابنة عمتها فإنها هبِّت واقفة ترتجف بذعر وهي تصيح به بتوتر:
_اسمع! أنا لا أخافك ولا أخاف سطوتك، إن كنت تعتقد أنك تستطيع تهديدي أو إيذائي فأنت مخطىء.
ثم تَغَلَّبَت على حالتها سريعاً ومالت على الطاولة تنظر له بِغِل خالص قائلة:
_أنت تعلم أنني استطيع الابتزاز ثانية، لكن تلك المرة لن تكن من أجل إبعاد رهف، بل من أجل إبعادك أنت، صدقني دكتور عَمَّار ليس من الصواب أبدا أن تهددني أنا على الأخص، لأنني بالفعل لدي شيء يخص رهف، لكنه ليس كما تتوقع أنت، هو لن يضرها.
توقفت تناظر عينيه المهتمتين بِشِدة ثم لاحت على شفتيها ابتسامة مُقلِقة وهي تتابع:
_ بل على العكس، هي لا تجرؤ على الحُلم بوجوده من الأصل، لذا أنا أستطيع استخدامه بالطريقة التي ستفيدني تماما، أو إخفاؤه إلى الأبد إذا اضُطررت لذلك، فابتعد دكتور عَمَّار لأنني لست بالخصم الذي تود مجابهته.
وما إن أنهت عبارتها حتى عادت ابتسامته التي تحولت إلى ضحكات عالية، ثم بعد لحظات جاء رده الهادىء:
_كيف حال دكتور حمزة؟
تسمرت مكانها محدقة به بصدمة أشد فتابع وهو يستقيم أمامها ببطء:
_أوصلي له تحياتي من فضلك، وأخبريه بتهنئتي الحارة لتخلصه منك.
وبنفس البطء تجاوزها وانصرف وهي لازالت مكانها لا تتحرك ولا تفهم شيئا..
هل تداعت أحلامها؟
هل فقدت أملها الوليد معه؟
هل نبذت طارق بلا جدوى؟
وما علاقته هو بتلك اللعينة؟
وكيف يعرف بذلك الأمر الذي لم يشهده أي شخص سواها هي وأمها؟
أما هو فقد وصل إلى سيارته الرمادية واستقل مقعد السائق وهو يزفر بغضب، لتبادره مجاورته:
_ألم تخبرك بشيء؟
بغضب شديد أجاب من بين أسنانه:
_لا، لم تقل شيئا، تلك الحقيرة لن تتحدث بسهولة، لقد منعت نفسي بصعوبة عن خنقها، لكنني سأصل إلى ذلك الشيء الذي بحوزتها ويخص رهف أيا كان هو، لن أستسلم وسأحارب من أجلها.
عدلت من وشاحها وهي تحاول تهدئته:
_لا تقلق عَمَّار! اتركها على حالها مرتعبة حتى تقوم بخطوتها التالية.
زفر باستسلام ثم استدار إليها رامقا إياها بتمعن..
ازدرد لعابه مراقباً جانب وجهها؛
لطالما كانت الأجمل؛
ولطالما تشاجر من أجلها منذ بدأت أنوثتها في الظهور؛
كانت من الأوقات القليلة التي يشعرر خلالها بِقوته؛
ألهذا السبب فقط كان ينزعج من النظرات الموجهة إليها؟ أم أن هناك شيئ بداخله كان ينتفض مدافعاً؟!
ورضوى؟!
كانت حُلم..ربما علاقته الواهنة بها كانت وسيلة!
وسيلة لها كي تتهرب من أشباح ومسميات مجتمعية لا يعلم أحد متى تم اختراعها؛ ووسيلة له كي يفخر بنفسه يوماً قائلاً: لقد اخترت، لقد اتخذت قراراً، لقد فعلت ما أردت!!!
هرِب من ذكريات لا أهمية لها الآن مُرَحِّبَاً بواقع لم يكن يتخيل أنه سيكون بذلك الجمال؛
بذلك الحنان؛
بتلك الرقة؛
وذلك..الدعم!
طرف وشاحها يطير ويغطي وجهها فأزاحته وظلت متمسكة به، لم يستطع منع نفسه وهو يمد يده ليتلمس كفها، أجفلتها حركته فاستدارت إليه مندهشة ، توترت ملامحها وهي تبتعد بعينيها عنه، فحمحم بخشونة وهو يتساءل:
_ماذا فعلتِ أنتِ؟
وبهدوء أجابته:
_لقد سجَّلت إياد في الفصل الذي تُدرِّس به.
ابتسم لها بتمعن وهو يخاطبها بنبرة ممتنة:
_شكرا لكِ مَوَدَّة!
****
"ضريرة!!"
ازدرد لعابه وهو يقف مكانه لا يُبدي أية ردة فعل بينما عاودت أمه سؤالها بنفس الضعف:
_هل أتيت أخيرا يا عاصم؟
ولا يزال لا يجد ردا وهو يحدق في هيئتها ضعيفة الجسد وهي تقترب منه ببطء متحسسة الجدران بجوارها حتى وصلت إليه...
انخفض نظره إلى يدها المرتعشة الحرة بينما الأخرى مُتمسكة بالعصا التي تتوكأ عليها، تعلقت أنظاره بها وهي ترفع يدها لتتجه إلى ذقنه،ثم أغمض عينيه مستعيدا ذكرى آخر لمسة من نفس اليد منذ سنوات عديدة، فصعدت يدها إلى:
أنفه..
وجنتيه..
عينيه..
جبهته..
وتخللت شعره..
ودمعتان منه هطلتا بدون شعوره؛
ودمعات منها مختلطة بابتسامة من عينين منطفئتين؛
أهدابه مبللة..
شفتاها ترتعشان..
صدره يعلو ويهبط..
أناملها على بشرة وجهه تتجول بلهفة..
ونداء هامس:
_عاصم!!
وفتح عينيه..
ثم أطلق زفرة مُحَمَّلة بيُتم سنوات..
ونداء هامس متكرر:
_عاصم!!
دمعات متوسلة تهرب منه إليها..
وللمرة الأخيرة:
_ابني!!
ليندفع إلى أحضانها..
يجذبها إلى صدره؛
يشهق ببكاء محروم..
وتنتحب ببكاء أكثر حرمانا؛
اختفت تماما بين ذراعيه حتى ما عاد يظهر من جذعها شيء وهو يعتصرها على صدره مُقبِّلا جبهتها بلهفة حارقة وصوت شهقات بكائه الرجولي يصدح بالغرفة..
وأخيرا أكرمها بسماع صوته:
_اشتقت إليكِ!
_سامحيني!
_احتاج إليك، أمي!!
_أمي!!
_أمي!!
وعند الباب وقفت سما تمسح دمعاتليس للبصل ذنبا بها وهي تعترف لنفسها بِذهول:
"عديم الإتيكيت ربما، لكنه أبدا ليس بعديم الشعور!"
****


سعاد (أمواج أرجوانية) غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 23-08-20, 08:29 PM   #27

سعاد (أمواج أرجوانية)

كاتبة في منتدى قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية سعاد (أمواج أرجوانية)

? العضوٌ??? » 476570
?  التسِجيلٌ » Aug 2020
? مشَارَ?اتْي » 3,605
?  نُقآطِيْ » سعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond repute
افتراضي

تابع الفصل الرابع:
"يا إلهي! ماذا فعلتِ أيتها المجنونة؟"
زفرت بتوتر وهي تدور في الصالة بقلق وتجيب أمها:
_لقد..لقد اعتقدت أنه يتقرب مني لشخصي، لم أكن...
قاطعتها أمها بثورة:
_لشخصك؟! هل تعتقدين أنه من الممكن أن يفكر بك؟ ألا تدركين أن القُرب ممن مثله خطر؟ إنه يستطيع هدم بيتنا فوق رؤوسنا بإشارة من إصبعه.
فقابلتها بنفس الثورة:
_وما أدراني أنا؟ لم أكن أعلم بهويته بالأصل، كل ما أخبرني به أنه طبيب يعمل بمشفى مرموق وقريباً سيفتتح عيادة خاصة، والثراء الفاحش يصرخ من ملابسه وسيارته وهاتفه.
صاحت بها أمها:
_لِمَ لم تخبريني عنه؟ لكنت حذرتك!
تأففت دينا بحنق ثم قالت:
_بدلا من أن تبدئي في تعنيفي يجب أن تفكري معي بحل لتلك المصيبة، إنه يعلم بوجود الورقة معنا ولن يهدأ حتى يأخذها.
هتفت أمها بسرعة:
_إذن نعطيها له بسرعة ونتخلص من تهديده.
صاحت بها باستنكار:
_هل تمزحين أمي؟! إنها ليست مجرد ورقة، إنها الضمان الوحيد لنا، إن أعطيناها له بكل ترحيب ما الذي يمنعه من إلحاق أشد الأذى بنا؟
والصياح الآخر كان أعلى:
_ماذا تقترحين إذن؟ أن نقضي حياتنا مذعورين منتظرين هجوما منه؟
وقبل أن ترد انطلق رنين جرس الباب فاتجهت لتفتحه، ثم ما لبثت أن تسمرت مكانها وهي تحدق أمامها بصدمة متسائلة:
_ما الذي أحضرِك؟
لحقتها أمها ثم انقلبت ملامحها إلى الكراهية الخالصة وهي تهتف:
_ألن نتخلص منكِ أبدا؟
فانطلق السؤال الضعيف من رهف بدلا من الإجابة عليهما:
_ماذا تريدان مني؟
من بين أسنانها هتفت دينا:
_نريد ألا نرى وجهك ثانية، نريد أن يموت اسمك بهذا البيت، نريد أن نمحوكِ من حياتنا تماما، أتستطيعين فعل ذلك؟
هالتها الكراهية الصارخة بعينيها ثم أجابت بصوت متقطع:
_لقد رحلت! لقد تركت بيت خالي الوحيد ورحلت! لم آتِ إلى هنا منذ خرجت من ذلك الباب، لا أتصل بخالي إلا أثناء موعد عمله حتى لا تشعرا بالانزعاج، ماذا تريدان مني بعد؟ أتعتقدان أن بإمكانكما قطع علاقتي به تماما؟
وبدمعة أردفت:
_إنه الشخص الوحيد الذي يحبني برغم ماهيتي، الوحيد الذي يحنو عليّ، الوحيد الذي يتمنى لي السعادة، لِمَ تستكثران علي بعض الراحة؟!، تعلمان أن اهتمامه بي لن يُنقص من اهتمامه بكما شيئا، أليس كذلك؟
والرد من زوجة خالها جاء صارخا حاقداً:
_ليس من حقك، هو ليس بأبيك، هو زوجي أنا ، ولديه ابنة واحدة فقط، ولولا وجودك أنتِ بحياتنا ربما كان لدي أولاد آخرين يتمتعون بالحنان والاهتمام والحب الذين اغتصبتيهم أنتِ منا دون وجه حق !
نظرت لها رهف بصدمة وانعقد لسانها لِثوان؛
الكراهية بعينيها ليست بشأن جديد؛
لقد أيقنت بذلك منذ زمن، لكن لماذا تُلقي عليها بتلك التهمة الآن؟!
أجلت حنجرتها ثم سألتها:
_وما ذنبي أنا؟
فأجابتها المرأة وهي تزيح ابنتها لتقف بمواجهتها هاتفة:
_ ذنبك أن أمك ماتت وتركتكِ لنا، ذنبك أن أبيك رماكِ، ذنبك أن خالك الذي تريدين مشاركتنا به قد رفض إنجاب أطفال آخرين حتى يستطيع الإنفاق عليكِ معنا!
ثم أردفت بحقد هائل:
_أنتِ السبب!
انتفضت رهف وهي تضع يديها تلقائياً على أذنيها طاردة تلك العبارة التي لم تكره مثلها:
_أنتِ السبب!
"لو لم تولدي لم عانيت أنا تلك السنوات"
_أنتِ السبب!
" ليتني لم أر وجهك أبدا"
_أنتِ السبب!
"الآن سأتخلص منك للأبد"
_كفــــــــــى!!!
والصرخة انطلقت مختلطة بشهقات باكية، هي لم تقصد أن تؤذي أحدا، لم تقصد أن تموت أمها، لم تقصد أن ينبذها أبوها، ولا أن يقرر خالها عدم الإنجاب خوفا من الحاجة، هي لم تقصد أبدا التسبب بالضرر لغيرها.
انتزعها هتاف ابنة خالها الغاضب:
_اغربي ولا تعودي، اغربي وإياكِ أن تأتي إلى هنا مرة أخرى، وإلا أنتِ تعلمين كيف يمكننا أن نمنعك، كفانا فضائح بسببك!
نقلت نظراتها بينهما بألم، ثم تطلعت باشتياق إلى أركان البيت الذي نشأت به والآن لا يُسمح لها بتجاوز عتبته، تنفست بعمق وهي تخفض رأسها قائلة بهدوء:
_سأذهب بالتأكيد.
ثم رفعت رأسها تنقل نرمقهما بالتبادل ببرود ظاهري متابعة:
_لكن رغما عنكما هو خالي وأماني الوحيد، واعلما أنكما إن تسببتما بالأذى له مرة أخرى أنا لن التزم الصمت، سوف أخبره بأنكما من قمتما بتحريض ذلك الوحش كي يأتي إلى هنا، سأخبره أنه حين كان يتعرض للضرب والإهانة على يد ذلك الرجل ومن معه كنتما تتظاهران بالعويل والبكاء والرعب بينما بالواقع لم تفكرا إلا بالتخلص مني، حتى وإن كان في سبيل ذلك يُؤْذَى الزوج والأب!
تحولت نظرتا المرأتين إلى التوجس وهي تُضيف بمرارة:
_لَكَم تحملت إيذاءكما لي، نعوتكما البذيئة، إهانات وضرب وتقييد وحبس،حرمان من المصروف ومن الطعام أحياناً، اعتقدتما أنني كنت أتقبل كل ذلك بدون رد فعل لأنني ببيتكما ومُضطرة للصمت شاكرة أليس كذلك؟
لم تكن تسألهما حقا، لذا استأنفت حديثها بهدوء:
_لكن بالواقع أنا تحملت صاغرة من أجل خالي، كي لا أضعه في موقف حيرة أو اختيار يوما ما، يكفيه مسئوليتي التي اُلقِيت على عاتقه منذ مولدي، لكن الآن، وبعدما تعداني أذاكما ووصل إليه فأنا لا أجد ما يجعلني أتمسك بالصمت، ولِهذا أتمنى أن تفكرا جيدا قبل تقوما بفعل آخر متهور وغبي.
والتحية المودعة كانت ابتسامة مُحذِّرة أثارت دهشتهما، ربما لأنها للمرة الأولى ترتسم على محياها، لطالما كانت وديعة بريئة صامتة، لكن يبدو أن هناك شيئاً ما قد تَبَدَّل بها!
وعندما هبطت جريا مَحَت ابتسامتها المُفتَعَلة وحررت دمعاتها التي سُجِنَت طويلا، وأمام مدخل البناية قابلها البائع بالمحل المجاور، وما إن رآها الرجل حتى طأطأ رأسه عابسا وهو يخاطبها بحنق شديد:
_أعوذ بالله! ألم نتخلص منكِ وتتطهر البناية من الفضائح التي تحيط بكِ؟! ما الذي أعادكِ إلى هنا ثانية؟!
ارتجفت شفتاها وهي تحدق به بألم مختلط بالحرج ثم رددت بارتباك:
_أنا.. أنا...
هنا نظر إليها الرجل باشمئزاز واضح هاتفا:
_أستتحدثين معي؟! ابتعدي يا فتاة واغربي عن ذلك الحي كله، لدينا نساء وفتيات ولا تنقصنا المصائب!
وأغلق باب المحل بوجهها وهو يستعيذ بالله عدة مرات!
ظلت محدقة في إثره بشرود وعيناها مغروقتين بدموع الاضطهاد، إلى أن ارتفع رنين هاتفها فأجابت بلا تركيز:
_نعم؟
ليأتيها الصوت الرائق المرح الرخيم بنبرة فشلت أن تبدو جادة كما كان يحاول:
_استشارة عاجلة آنسة رهف وأرجو أن تساعدينني، إن أردت ترجمة تلك العبارة إلى اللغة الإنجليزية ماذا أقول:
"أنا لا أفهم ما الذي يحدث لي، لكنني أفكر بكِ منذ رأيتك، هلا خرجتِ من عقلي قليلا كي أستطيع التركيز بعملي يا مشعثة؟!"
للحظات حاولت تذكُّر الصوت المُميز ثم أطلقت زفرتها الباكية مع كلمته الأخيرة وهي تقول بخفوت:
_مهندس ساري!!
وعلى الطرف الآخر انطلق صوته متسائلا بقلق:
_ما بكِ رهف؟، ما بال صوتك؟! أتبكين؟
وخرج ردها بدون تفكير وهي تهُز كتفيها مُتلفِتة حولها شاهقة بألم:
_أنا.. ضائعة!
ووصلها صوته مرة أخرى مُتسائلاً بمهادنة كي لا تفزع:
_اهدئي رهف! قفي مكانك ولا تتحركي، فقط إن استطعتِ أن تخبريني باسم الشارع الذي ضعتِ به أو أي علامة مُميزة، وفورا سأكون عندك.
أجابته بسرعة من بين دمعاتها:
_أنا لست ضائعة بالمكان، أنا أعلم أين أنا، لكن..لكن أنا ضائعة بالحياة، لا أدري ماذا عليّ أن أفعل، لا أدري لِمَ يحدث لي ذلك، لا أدري لماذا أعاني منذ مولدي، لا أدري لِمَ كل تلك القسوة التي يتعامل بها الجميع معي، ما ذنبي؟!
أطلق أنفاسه المحتبسة بصدره وهو يغمض عينيه براحة ثم سألها بهدوء:
_أين أنتِ رهف؟ أخبريني! أريد أن أراكِ الآن.
ثم أردف بهمس:
_أرجوكِ!
عندئذٍ انتبهت إلى ما يحدث، وانتبهت إلى استرسالها بالكلام معه أكثر من اللازم فَهزَّت رأسها رفضاً بسرعة قائلة:
_لا! شكرا، أنا آسفة، إلى اللقاء!
وبدون انتظار رده انهت المكالمة وأغلقت الهاتف فورا وهي تجر قدميها جرا كي تنصرف من ذلك المكان الذي لطالما نبذها بقسوة.
****
"سامحيني أمي! أرجوكِ سامحيني، أقسم أنني لم أعلم أبدا أنكِ تريدينني، أقسم أمي أنني كنت أشتاق إليكِ طوال الوقت، آسف أمي، لم أقصد أن أكون عاقا."
ومن بين شهقاتها الخافتة أجابته وهي تتحسس وجهه بأحضانها:
_أنت لست عاقاً، أنت حبيبي ونور عيوني، أنت ولدي الحبيب عاصم، وقد كنت أعلم أن ربي سيردك إلي قبل أن أموت.
بلهفة رفع رأسه من بين ذراعيها هاتفا:
_بعيد الشر عنك أمي، أنا لم أكن أعلم ما حدث من قبل مع أبي إلا مؤخرا، صدقيني لو كـ....
وضعت أصابعها فوق شفتيه تسكته قائلة:
_أنا لا أريد التحدث عن الماضي عاصم، وأبوك أنا قد سامحته، طالما لم يجعلك تكرهني طوال تلك السنوات.
هتف بغضب وحِقد هائل:
_لكنه لم يخبرني بالحقيقة إلا حينما صممت أنا، لقد ضاع الكثير من عمري وعمرك ونحن مفترقان، وهو كان يعلم مدى اشتياقي وحاجتي إليكِ، كان يعلم أن ما من تعويض يحُل محلِّك، كان يعلم أنكِ تحتاجينني أيضاً واختار أن يمنعِك من رؤيتي.
ابتسمت أمه بطيبة:
_يا ولدي، لستُ ناقمة على أبيك، أنا كنت أعلم أن زوجته عاملتك بحنان، وأنا أيضا عشت مع زوجي رحمه الله أياما جميلة لم ينقصها إلا وجودك معي، والآن أراد الله اتحادنا، لا أريد الانشغال بالحقد والتفكير بالماضي، أريد أن أهنأ بوجودك بين أحضاني.
انهال بقُبُلاته على جبهتها فربتت هي على ظهره بحنان، لكن دخول سما قطع لحظات قربهما وهي تهتف بضيق واضح:
_الطعام جاهز أم عاصم!
التفتت المرأة لها برغم عدم استطاعتها رؤيتها متسائلة:
_ماذا بكِ سما؟ أهناك ما يضايقك؟
زفرت سما بضيق وهتفت من بين أسنانها:
_لا أبدا، أنا بخير.
عقدت المرأة حاجبيها بقلق وهي ترد:
_حبيبتي، أخبريني ما الذي أغضبك هكذا؟
تدخل عاصم قائلا باستفزاز:
_أهي لديها تعبيرات أخرى غير الغضب أمي؟
انفجرت به سما هاتفة:
_أنت لا شأن لكَ بي؟ أتفهم؟!
مالت أمه على أذنيه هامسة:
_ماذا فعلت عاصم؟ لِمَ أغضبتها؟
هتف بسرعة:
_والله أمي لم أفعل شيئا، هي من تضايقني وتعاملني بسوء، حتى أنها منذ قليل كانت تهددني بسكين أضخم منها، كادت تقتلني أمي، بعد أن أَحْرَقَت البصل!!
فغرت سما فاهها دهشة فابتسم هو لها ببرود، بينما سألتها أمه باستغراب:
_أصحيح سما؟ أصحيح ما يقول؟
اندفعت سما بسرعة هاتفة:
_هو من عطلني وظل يثرثر حتى احترق البصل.
مطت أمه شفتيها ثم زفرت بنفاد صبر قائلة:
_كنت أسأل عن السكين سما، هل هددتِه؟
ضيقت عينيها بشر وهي تنظر له:
_ولِمَ أهدد وأنا أستطيع التنفيذ فورا؟!
اتسعت عيناه دهشة لِوهلة ثم تبدلت نظرته إلى الغيظ وهو يغمغم:
_سليطة اللسان، ضئيلة القامة!
فاندفع ردها هي مرتفعاً على الفور:
_قليل الذوق، عديم الإتيكيت!
انطلقت الضحكات الرائقة من السيدة صفاء فنظر لها الاثنان بابتسامة حنونة حتى نطقت:
_يا إلهي! هل أنتما طفلان؟!
ثم التفتت تجاه ابنها وهي تربت عليه:
_هيا ابني، هيا نتناول الطعام سويا.
وعلى المائدة كان الاثنان يتسابقان على إطعامها، في البدء اهتماما لم يلبث أن تحول الأمر إلى منافسة، حتى كادت المرأة أن تغص بطعامها، دارت النظرات القاتلة بينهما بصراحة فلم يحاول أحدهما إخفائها، وعندما انتهى الطعام انفرد بأمه ثانية، تبثه حنانها وينهل من حبها بلا شبع، وفي آخر اليوم اتجه إلى الباب مُتثاقِلاً وهو يتمنى ألا يفعل.
قبَّل رأسها و كفيها دامعا ثم قال بِنبرة واعِدة:
_قليل من الوقت فقط أم عاصم، سأبحث عن شقة مناسبة وسنعيش سويا إلى الأبد.
اتسعت ابتسامتها الحنونة وهي تُربِّت على كفه.
"عفوا؟!"
والكلمة انطلقت من تلك التي تتشح بالحجاب الأسود، لكن غضب عينيها كان أكثر سوادا، نظر لها بدهشة صامتة فأعادت سؤالها بنبرة تحذيرية:
_ماذا تقصد بكلامك؟
وبلهجة لامبالية رد:
_أقصد أنني سأبحث عن شقة مناسبة لأعيش بها مع أمي.
صاحت بغضب:
_أنا لا أوافق على ذلك الاقتراح.
رد بإغاظة يعيد عليها جملتها التي استقبلته بها صباحا:
_وهل دعوناكِ؟!
ضغطت أسنانها بغضب وهي تنطلق إليه حتى وقفت أمامه فوصلت قمة رأسها أمام صدره، رافعة رأسها وهي تنظر له بتحذير بداعليها مضحكا:
_اسمع! أم عاصم تقيم معي، اذا أردت أن تزورها سأتحملك مُضطرة، لكن انس تماما أن تبعدها عني، هل تفهم؟!
ولأن عنقها آلمها فلم تنتظر رده وهي تعود إلى الداخل صافعة بابها بقوة أجفلته وأخرجته من دهشته، فعقد حاجبيه بضيق وهو ينظر إلى أمه ويهتف بها عاتبا:
_أمي بالله عليكِ كيف عشتِ طوال تلك السنوات معها ولم تقومي بإيداعها مشفى الأمراض العقلية؟!
ابتسمت أمه بحنان وهي تجيبه:
_عاصم! سما أمها ماتت أثناء وضعها، لم تر أُماً غيري، ومنذ ضَعُف بصري وهي تهتم بشئوني كلها مهما كانت، حتى أنني توسلتها مرارا أن تضعني بإحدى دور المسنين كي لا أُرهقها فغضبت مني وهي تقسم لي بأنها لن تتركني أبدا، ولن ترضى لي المذلة، والآن أنت بنظرها من ستأخذني منها لذا رد فعلها عنيف قليلا، أعذرها بني، فهي فتاة أصيلة وحنونة وأعتبرها ابنتي فعلاً.
نظر لأمه باستغراب قليلاً ثم انتقلت نظراته تجاه الباب المغلق أمامه بِتفكير صامت..
هو حتى الآن لا يعلم كيف سينفصل بالمعيشة عن أبيه وأخته وليس في حاجة لظهور مُعضلة جديدة.
****
دلفت إلى فيلا والدها شاردة في بحث عن حل للمشكلات القادمة حتماً إن آجلاً أم عاجلاً والتي ستطال عائلتها بكل تأكيد، تستطيع التكهن بِموقف والدها، لكن أمها...!
"لِمَ تأخرتِ مَوَدَّة؟"
أجفلت وهي تلتفت لأبيها بدهشة قائلة:
_كنت مع عَمَّار أبي، لقد أخبرتك هاتفياً.
اتجه إليها ببطء حتى توقف أمامها مُردداً بِهدوء لم يمنع عبوس ملامحه ولا نظرات عدم الرضا التي يُلقيها بها:
_أعلم، لكني لا أفهم ما الذي يدور بينكما، لقد تركتِ بيتك وطلبتِ الانفصال بإلحاح، ثم توقفتِ فجأة عن التحدث بخصوصه، والآن تتقابلان بالخارج مثل المراهقين؟!
أخفضت مَوَدَّة رأسها بحرج وهي تجيبه بخفوت:
_أي مراهقين أبي؟ هو لايزال زوجي.
هتف بها أبوها بضيق:
_أعلم أنه زوجك، لكنني لا أفهم طبيعة تلك العلاقة، لو أنكِ تصالحتِ معه لِمَ لازلتِ هنا؟ ولو أنكِ على قرارك بالانفصال لِمَ تخرجين معه؟ ولِمَ لا تسمحين لي بالتحدث إليه كي ننهي ذلك الموضوع تماما؟!
تململت مَوَدَّة في وقفتها ثم ارتسم الاستسلام بعينيها وردت بألم:
_أحبه أبي! لم أحب سواه طوال عمري، ولن أفعل، لن أكرهه، ولن أنساه حتى إن انفصلنا، وهذا هو الأرجح.
اجتذبها أبوها بين أحضانه وهو يربت عليها بحنان شديد:
_أعرف حبيبتي أنكِ تحبينه، لكنني لا أريد أن تندمي عندما تكتشفين أنكِ قد خسرتِ الكثير في سبيل ذلك الحب، أنا لم يرزقني الله بسواكِ وأتألم عندما أراكِ على تلك الحال.
رَفَعَت رأسها تنظر إليه مبتسمة من بين دمعاتها:
_لِمَ ليس كل الآباء مثلك أبي؟ لِمَ هناك آباء قساة القلوب على أبنائهم؟
عقد أبوها حاجبيه بضيق وهو يسألها:
_هل ضايق عَمَّار إياد؟ أقسم أنني لن أرحمه إن تأثر حفيدي بانعدام مسئوليته.
بسرعة أجابت مَوَدَّة:
_لا أبي، عَمَّار يهتم بإياد ولا يتحمل أن يطاله أي سوء، صدقني أبي عَمَّار لم يعُد ذلك الشخص الضعيف، لكنه مجرد سؤال طرأ على بالي.
زفر أبوها بضيق ثم هز رأسه بنفي قائلاً:
_لا مَوَدَّة، لا أعتقد أن هناك من يتحمل الأذى لأولاده، الأب والأم يكونان على استعداد دائم لتحمل أي شيء في سبيل راحة أبنائهما، أنتِ أم وتفهمين ما أعني.
هزت مَوَدَّة رأسها بشرود تحاول إخفاء الابتسامة الساخرة التي تناضل للظهور على شفتيها.
.......
أما هو، فقد جلس داخل سيارته الرمادية يحدق في تلك التي تجر قدميها بصعوبة بعيدا عن بيت خالها وذلك الرجل الذي ألقى عليها عبارة قاتلة اخترقت أذنيه، ليغمض عينيه بألم وهو يضغط أسنانه بغضب مُتمسكاً بآخر ذرات من الصبر ويُدرك أنها قاربت على الهرب...للأبد!
.......
وفي اليوم التالي استيقظ صاحب المحل ليجد الناس متجمعين بالقرب من مصدر رزقه، فاخترق صفوفهم برعب حتى وصل إلى باب المحل ليجد العبارة التالية مكتوبة بطِلاء الحائط فوقه:
"يا من تتشدقون بالطهارة، حاسبوا أنفسكم أولا!"
****
أنهى توقيع الكشف على المريض مُبتسِماً وانتظر حتى خرج وأغلق الباب،ثم أغمض عينيه بتعب يتلمس بضع دقائق من الراحة لكنه انتفض واقفا مع اندفاع الباب بتلك المصيبة التي حَلَّت عليه تناظره بحقدها المعهود، فأغمض عينيه بضيق متأففا ثم تمتم بخفوت:
_يا إلهي! وأنا كنت قد ظننت أنني قد تخلصت من ذلك الكابوس للأبد!
انطلق على الفور هتافها الغاضب:
_ما الذي تريده مني حمزة؟ ألم تنتهي قصتنا؟
فتح عينيه رامقا إياها ببرود وهو يجيب:
_صدقا دينا كل ما أريده منكِ تلك اللحظة أن تختفي من أمام عيني، وألا تطربيني بسماع صوتك الحاد، وأن ترحميني من عطرك الخانق، وأن أغمض عيني وأفتحهما لأجد نفسي قد نسيت كل ما يتعلق بكِ ونسيت غبائي وفقداني البصر والعقل عندما أذنبت في حق نفسي وأهلي وتزوجتك!
اشتعل الغيظ بعينيها كما اعتادت دوماً معه، هي باهرة الحسن تعلم ذلك وتراه في أعين الجميع ، منذ مراهقتها وهي تتلقى نظرات الاستحسان والاعجاب من الكل، إلا هو! هو الوحيد الذي لم يُشعرها بانبهاره بها، الوحيد الذي لم يسقط صريع فتنتها، ولهذا لطالما كرهته!
بغيظ عارم سألته:
_أتعتقد دكتور حمزة أنه من المروءة أن تتحدث عني مع أصدقائك؟
اتسعت عيناه بغضب وهو يهتف:
_هل جننتِ أنتِ أم ماذا؟!
نظرت له بتحدي وهي تبتسم قائلة:
_بِمَ تسمي إذن معرفة دكتور عَمَّار بي؟ وبِم تسمي تهديده إياي ؟لقد أوصاني بنفسه بإبلاغك تحياته، هل انحدر بك الأمر إلى تلك الدرجة؟
ثم مالت على المكتب تبتسم له بإغاظة:
_أم تراك تحاول استفزازي كي أعود إليك؟
وتحولت عيناه الغاضبتان إلى الدهشة العارمة ثم..
انفجر ضاحكا!
تراجعت للخلف وهي تستقيم وتراقب ضحكاته التي تتزايد بشدة ، ارتفع صدرها في تنفس غاضب وهي تراه يمسح دمعات سالت من عينيه لشدة استمتاعه، وأخيرا عندما تحدث نظر اليها بسرور لم يمنع الاستنكار في لهجته قائلا:
_أعود إليكِ؟! أنا أعود إليكِ؟! هل العاقل عندما يغرق في بركة من الوحل ويمُن الله عليه بإنقاذ يعود إليها برغبته مرة ثانية؟!
ثم ارتسمت الجدية على ملامحه وهو يتابع:
_لقد كنت أكافح وأنا أحاول عدم إظهار راحتي الشديدة عند الطلاق احتراما لرجل كل ذنبه أنه أنجبك!
صرخ الغل بملامحها وهي تهتف به:
_إذن أنت لا تعرف دكتور عَمَّار؟
وضع قدما فوق أخرى وهو ينظر لها بمكر قائلا:
_أنا لم أقل لك أنني لا أعرفه، بصرف النظر عن أنه كان زميلي بالكلية وحضرت معه بعض المؤتمرات فأنا أدين له بجزء من سلامي النفسي وراحة بالي.
ثم صمت متعمدا إثارة غيظها أكثر وعاد متابعا بِخفوت:
_فهو كان القشة التي قصمت ظهر البعير، كنت أشعر أننا سننفصل يوما ما على كل حال، لكنه كان أحد الأسباب التي جعلتني أُعجِّل بذلك، لذا كما ترين إن كانت هناك حربا قادمة بينك وبينه فبالتأكيد صَفُه ما سأتخذ، فأنا لي ثأر عندك، أم هل تراكِ نسيتِ؟
فغرت فاهها دهشة وهي تحاول ربط كلامه فلم تستطع، بينما وقف هو ببطء محدقا بها بتحدي وهامساً بتشديد:
يبدوسيدة دينا_ أنكِ ستبدئين بتسديد ديونك كلها بدءاً من الآن!
شحب وجهها والذعر يحتل ملامحها بلحظة وبخوف واضح تراجعت إلى الخلف، وبدون كلمة إلى الخارج هرولت، فارتخت ملامحه المتسلية ليحل محلها قلق شديد، ثم أخرج هاتفه من جيب بنطاله وطلب رقمها.
****
"إلى اللقاء إياد!"
ودعت الطفل الوافد الجديد إلى فصلها بابتسامة ثم خرجت لتعود إلى مسكنها، وعندما خرجت من المركز شعرت باهتزاز هاتفها فالتقطته لتطالع اسم حمزة لتجيبه بقلق:
_نعم حمزة؟
أتاها صوته المتردد:
_مرحبا رهف، كيف حالك؟
والتردد بنبرته لم يخف عليها فقالت سريعاً:
_أنا بخير حمدا لله، هل..هل هناك ما حدث؟
صمت لثوان ثم تحدث بهدوء:
_اسمعي رهف!، أنا أشعر بالقلق الشديد من أجلك، هناك شقة فارغة في إحدى البنايات التي يمتلكها والد صديقي، بباب حديدي وحارس، أعتقد أنها ستكون أكثر أمانا من الغرفة التي أخبرني عنها عم صلاح.
زفرت بتعب قائلة:
_لا حمزة، أنا لا أريد الهرب، أنا لم أفعل شيئا كي أظل أعاني ظلم الآخرين لي، شكرا لتفكيرك واهتمامك، أنا بخير تماما.
لكنه أصر:
_أرجوكِ رهف فكري جيدا، الشقة حالتها جيدة ولا تقلقي بشأن الإيجار على الإطلاق.
ابتسمت بضعف وهي ترد:
_حاضر حمزة، سأفعل، إلى اللقاء.
وضعت هاتفها بحقيبتها والتفتت لتتجه إلى موقف الحافلات فطالعتها العينان الخضراوان..
لكنهما غاضبتان وبِشدة!
وبذلك الغضب الذي حاول التحكم به سألها:
_من يكون حمزة؟!
****


سعاد (أمواج أرجوانية) غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 23-08-20, 08:31 PM   #28

سعاد (أمواج أرجوانية)

كاتبة في منتدى قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية سعاد (أمواج أرجوانية)

? العضوٌ??? » 476570
?  التسِجيلٌ » Aug 2020
? مشَارَ?اتْي » 3,605
?  نُقآطِيْ » سعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond repute
افتراضي

تابع الفصل الرابع:
وأمام أحد المصالح الحكومية خرج صلاح ليجد سيارة رمادية تسد الطريق بينما هتف صاحبها به مناديا باسمه فالتفت إليه محاولاً التعرف عليه وسأله باستغراب:
_هل تناديني بُني؟
وصل إليه عَمَّار ووقف أمامه مبتسما بأدب وهو يرد:
_نعم أستاذ صلاح، كيف حالك؟
ضيق صلاح عينيه بحذر وهو يجيبه:
_حمدا لله، أعذرني بني، هل أعرفك؟
حك عَمَّار شعره بحرج وهو يجيب بتوتر:
_لا.. أقصد نعم..آ.. هل من الممكن أن نتحدث بمكان ما؟
ازدادت دهشة صلاح وهو ينظر له هاتفا بنفاد صبر:
_ألا يحق لي معرفة من تكون أنت أولا؟
مط عَمَّار شفتيه بقلق وهو يجيبه:
_دكتور عَمَّار.
وعندما طالع ملامح عدم الفهم على وجه الرجل أكمل:
_دكتور عَمَّار شديد الناجي!
انتفض صلاح إلى الخلف وهو يحدق به برعب فعاجله عَمَّار هاتفا:
_لا تجزع، أنا لم آتِ بسوء، أردت فقط التحدث معك.
صرخ به صلاح:
_ماذا تريدون منا بعد؟ ابتعدوا عنا! كفى أذى بي وبالمسكينة التي لا تستحق كل ما فعلتم بها، اتركوها بحالها فقد عانت الكثير بسببكم.
بلهفة خاطبه عَمَّار:
_استمع إلي أرجوك، أقسم أنني لن أؤذيها، أنا .. أنا أريد تعويضها، أريد أن أجعلها تنسى كل ما تعرضت له.
بغضب رد صلاح:
_هل تهزأ بي؟! ألا يكفي ما فعلتم بي وأمام أهل بيتي؟ ألا يكفي إحضاركم المجرمين وتهجمكم علينا؟ الآن تقول أنك تريد تعويضها؟ هل تراني أحمق؟!
صرخ عَمَّار بعذاب:
_لم أكن هناك! أقسم لم أكن موجودا وأنت تعرف، أنا حتى لم أكن أتخيل أن يحدث ذلك أبدا، لم أكن لأسمح بالأذى لك أو لرهف، أنت لا تدرك كم أتعذب أنا منذ ذلك اليوم! لم أعد أستطيع النوم بسبب الكوابيس التي تهجم عليّ وأنا أراها تحترق بالنيران بينما أنا عاجز ضعيف لا أستطيع إنقاذها، لست أنا من أريد بها غدرا عم صلاح، والله لست أنا.
نظر له الرجل بشك يُطالع الصدق الذي يقفز من عينيه، وزفر حانقا:
_وماذا تريد مني الآن؟
اقترب منه بلهفة مجيبا:
_أريدك أن تأخذني إليها، أعلم أنني إن حاولت التقرب منها ستنفر مني تماما، وهي لا تثق بسواك، لذا أريدك أنت أن تطمئنها تجاهي.
وبسخرية قابله:
_وإذا كنت أنا نفسي لا أطمئن لك؟ كيف أفعل ذلك؟
هتف عَمَّار حانقا متألما:
_ما الذي يمكنني فعله حتى تصدق أنني لست سيئا؟ ما الذي يمكنني تقديمه كي تتأكد أن نواياي تجاهها عكس ما تعتقد تماما؟
عم صمت قاتل وعَمَّار ينظر له بتوسل شديد حتى زفر صلاح بيأس بعد لحظات هاتفاً:
_أنت لا تدرك كم تكرهكم!
والرد جاء سريعا:
_أدرك تماما! ويحق لها، سأصبر وسأتحمل حتى أكتسب ثقتها.
بتخاذل رد صلاح:
_امنحني بعض الوقت كي أقوم بتهيئتها نفسيا أولا، الفتاة عانت كثيرا بسببكم ولن تتقبل الأمر بسهولة.
هز عَمَّار رأسه بسرعة وابتسامة واسعة شملت وجهه كله مرددا بفرحة ظاهرة:
_كما تريد أستاذ صلاح، لكن أرجوك لا تتأخر عليّ، فأنا أتعذب كل يوم بينما هي ليست معي.
نظر له صلاح شزرا ثم أولاه ظهره وانصرف بدون كلمة واحدة.
أما هو فقد مسح وجهه بكفيه وصورة واحدة ترتسم بعقله لحظة اجتماعه بها مرددا:
"لن أتركك رهف، سأعوضك وستبقين معي حبيبتي!"
****
"من يكون حمزة؟"
نظرت له بدهشة متسائلة:
_نعم؟
فأعاد سؤاله والغضب يتقافز من مقلتيه:
_لقد سمعتني رهف، من هو حمزة الذي كنتِ للتو تحدثينه؟
ولا تعلم لِمَ أجابته ببساطة:
_إنه.. إنه جارنا، أقصد كنت أنا جارته، وهو أيضا كان متزوجا من ابنة خالي.
ارتفع حاجبيه بدهشة وهو يسألها بصرامة:
_كنتِ جارته وكان قريبك، لكنه لم يعد هذا ولا ذاك؟!
هزت رأسها بتلقائية وهي تحدق في عينيه اللتين تشتعلان ببريق غاضب فازدادت حدة نبرته وهو يعاود سؤالها:
_وطالما العلاقات انتهت لِمَ يُحدثك؟ ولِمَ تشكرينه بتلك الحرارة؟ وعلام ذلك الاهتمام منه بك؟
هنا ضاقت عيناها وعقدت حاجبيها بدهشة وهي تجيبه بسؤال:
_عفوا! لماذا تسأل أنت كل تلك الأسئلة؟ علام تُحاسِبني لا أفهم؟!
ثم استدركت بانتباه:
_لحظة! لِمَ أتيت اليوم بالأصل؟ مريم ليس لديها أية حصص.
هتف بغضب:
_من أجلك أتيت!
تعلَّقت نظراتها به لِثوان وسألته بِحَذر:
_من أجلي أنا؟ لماذا؟
اقترب منها متحدثا بخفوت غاضب:
_هل تعلمين كيف انقضت ليلتي بعد سماع صوتك الباكي بالأمس؟ هل تدركين مدى العجز الذي شعرت به وأنا لا أستطيع التواصل معِك بعد أن أغلقتِ الهاتف تماما؟ هل تعلمين مقدار الخوف الذي تملكني وصوتك المتألم المنتحب لا يبرح أذناي منذ ساعات حتى رأيتك أمامي الآن سالمة؟
وكان الرد الغبي الذي انطلق على لسانها بدون تفكير:
_انتظر لحظة! صحيح!من أين أتيت برقم هاتفي من الأساس؟
عض على شفتيه بغيظ واتسعت فتحتا أنفه، استشعرت العنف الذي يكبته بصعوبة، بينما خرج رده أكثر غرابة ودهشة:
_لقد ظل هاتفك معي لعدة أيام ! أنتِ كيف يسمحون لكِ بتدريس أجيال؟ تُرى أي عقول تفكر بالعكس سيمتلكها هؤلاء المجني عليهم؟
ضيقت عينيها بشك وهي ترد بخفوت:
_أشعر أنك تسخر مني!
هنا أولاها ظهره بسرعه وهو يمسح على وجهه بقوة مرددا بخفوت:
"يا لحظك الرائع ساري!"
حدقت بظهره بِتوجس حتى التفت إليها مرة أخرى قائلا وهو يجز على أسنانه بغيظ:
-لنعود إلى البداية! ماذا يريد منكِ هذا الجار سابقا؟
فانطلق صوتها حانقا:
_وما شأنك أنت؟!
هتف ساري بحنق رافعا رأسه إلى السماء:
_ألهمني الصبر يا الله!
ثم نظر إليها بابتسامة صفراء أثارت قلقها:
_رهف، هل من الممكن أن تجيبيني بدون أن تثيري حنقي؟
نظرت إليه بصمت فزفر بضيق وهو يخفت حدة صوته:
_أرجوكِ رهف أخبريني، ما علاقتك به؟
رمقته بنظرة بها مزيج من الدهشة وبوادر فهم ثم .. أمل!
الترقب في عينيه ممتزجا بالتوتر مع علامات الأرق على وجهه يُثيرون بداخلها مشاعر غريبة تجتاحها للمرة الأولى بحياتها..
يريد المعرفةليس بدافع الفضول وإنما...!
ازدردت لعابها وهي تقرر منحه راحة لم تتيقن بعد من سبب افتقاده لها ثم خرج ردها متقطعا:
_لو.. لو كان لي أخ، فسيكون حمزة!
والابتسامة التي أخذت تتسع بالتدريج على محياه تراقصت على ألحانها دقات قلبها والأمل يكتسح دواخلها، وليُزيد من توترها اقترب هو خطوة مُطالبا بتأكيد:
_أخ فقط؟
تزامنت إيماءة رأسها مع إجابة لسانها الرقيقة وهي لا تجدأو لا تريد من عينيه مهربا:
_أخ فقط.
وتلك المرة لم يولِها ظهره وهو يردد بابتسامة تسببت في جفاف حلقها:
_"يا لحظك الرائع ساري!"
توردت وجنتاها واضطربت عيناها وهي تتراجع إلى الخلف خطوتين فعاجلها :
_ماذا يريد منك هذا "الأخ"؟
والكلمة الأخيرة لم يكن يقصد بها علاقة القرابة، فالغيظ بعينيه واضح ، أيعقل أنه بالفعل....؟ خرقاء أنتِ يا رهف وستظلين خرقاء!، هل نسيت من تكونين؟ أفيقي يا فتاة حتى لا تتلقي صدمة أخرى، فلم يعد قلبك يتحمل على أي حال.
_كان يعرض عليّ مكان للإقامة.
عقد حاجبيه بدهشة قائلاً:
_لا أفهم! أستتركين بيت أهلك؟
والسؤال أخرجها بالكامل من حالة الأمل التي انتابتها، فنظرت له بتمعن وازداد عنف تنفسها وهي تقرر التخلص من تلك الحالة الغريبة التي تتلبسها في حضوره، فأجابت بهدوء:
_أنا أسكن بمفردي.
وازدادت دهشته وهو يسألها ثانية:
_وأين أهلك؟
فجاءته الإجابة بسرعة تُلقي حملاً ثقيلاً عن كاهلها:
_كنت أعيش مع خالي، وتركت بيته منذ بضعة شهور.
لكن إجابتها لم تشبع فضوله كما يبدو لأنه صمم متسائلاً بتشديد:
_رهف قصدت أين أبوكِ وأمكِ؟
والعينين التمعتا بدمعات متحسرة، والشفتان ارتجفتها بقهر واضح، فحدقت بعينيه بجرأة مُوَدِّعة، والإجابة خرجت على الفور قاتلة:
_أمي انتحرت أثناء طفولتي بعد أن حمَّلتني ذنباً أدفع أنا ثمنه حتى الآن، وأبي لا يريدني، فقد تبرأ مني منذ مولدي ولم يعترف بأبوته لي!
والصدمة على وجهه كانت بديهية، جسده الذي تخشب للحظات أنبأها عن وقع عباراتها عليه، عيناه اللتان اتسعتا بذهول حتى نسى أن يُرفرِف بأهدابه أوصلتا إليها رأيه بما سمع، صدره الذي أخذ يرتفع ويهبط في تتابع سريع أعطاها فكرة ما عن وقع مفاجأتها، طالت الثواني وهي تنظر له بدمعات متحجرة بينما هو كالصنم أمامها، فاحتضنت كتبها بذراعيها وبدون كلمة رحلت!!
****
ومن بوابة الفيلا الضخمة دخل والأمل يشع بصدره، وعندما صعد أول درجتين أوقفته صيحة حازمة:
_عَمَّار!
أغمض عينيه وهو يضغط أسنانه بغضب، وببرود شديد التفت قائلاً:
_نعم شديد بك؟
اقترب منه الرجل ببطء عابس الوجه كعادته هاتفا:
_أين كنت؟
والرد جاء سريعاً و.. وقحا:
_ألم يخبرك رجلك بتحركاتي كلها؟ عَنِّفه إذن كي يصبح أكثر إتقانا في عمله.
ليرد أبوه باشمئزاز:
_لقد سئمت منك ومن تهورك، احذرني عَمَّار فأنا لا أتسم بالصبر!
ابتسم عَمَّار وهو يحدق بعينيه مُعَلِّقَاً بسخرية:
_الصبر؟! مالك والصبر شديد بك؟ للأسف أنت لا تمتلك منه شيئا.
ثم أردف بتحدي:
_وللأسف أكثر ربما قريبا ستحتاجه.
التمع الشر الخالص بعيني أبيه وهو يهتف من بين أسنانه:
_أنا أعرف علام تنتوي عَمَّار، فهل تعرف أنت كيف يمكنني أذيتها؟
والتحدي ارتسم على وجه ابنه بأقوى صوره وهو يجيب:
_لا أحد يعرف بِقدري مدى قسوتك وشِدتك يا أبي، فأنا قد تشربتهم لسنوات على مهل حتى أصبح بإمكاني توقع تفكيرك وخططك وتحرُكاتك كلها، لكن أنت من لا تعلم إلى أي مدى أصبح بإمكاني أن أصل في سبيل استعادتها وتعويضها.
صرخ شديد بِغِلّ:
_إنها لقيطة!!
ليُجابهه عَمَّار بصراخ أشد:
_إنها أختي!!
** نهاية الفصل الرابع**


سعاد (أمواج أرجوانية) غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 24-08-20, 02:27 AM   #29

نغم

كاتبة في منتدى قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية نغم

? العضوٌ??? » 394926
?  التسِجيلٌ » Mar 2017
? مشَارَ?اتْي » 2,980
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » نغم has a reputation beyond reputeنغم has a reputation beyond reputeنغم has a reputation beyond reputeنغم has a reputation beyond reputeنغم has a reputation beyond reputeنغم has a reputation beyond reputeنغم has a reputation beyond reputeنغم has a reputation beyond reputeنغم has a reputation beyond reputeنغم has a reputation beyond reputeنغم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
افتراضي

عنوان جذاب ، شخصيات جميله ، حبكة مشوقه
سرد سلس و أحداث سريعة
تسلم ايديكي و كل التوفيق ليكي إن شاء الله


نغم غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 24-08-20, 04:21 PM   #30

سعاد (أمواج أرجوانية)

كاتبة في منتدى قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية سعاد (أمواج أرجوانية)

? العضوٌ??? » 476570
?  التسِجيلٌ » Aug 2020
? مشَارَ?اتْي » 3,605
?  نُقآطِيْ » سعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond reputeسعاد (أمواج أرجوانية) has a reputation beyond repute
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نغم مشاهدة المشاركة
عنوان جذاب ، شخصيات جميله ، حبكة مشوقه
سرد سلس و أحداث سريعة
تسلم ايديكي و كل التوفيق ليكي إن شاء الله
حبيبتي تسلميلي يا رب💞💞💞💞
متشكرة جدا على رأيك😍😍


سعاد (أمواج أرجوانية) غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 02:30 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.