آخر 10 مشاركات
المدللة *متميزة* (الكاتـب : محمد حمدي غانم - )           »          حالات .... رواية بقلم الكاتبة ضي الشمس (فعاليات رمضان 1434)"مكتملة" (الكاتـب : قصص من وحي الاعضاء - )           »          كل مخلص في الهوى واعزتي له...لوتروح سنين عمره ينتظرها *مكتملة* (الكاتـب : امان القلب - )           »          صدمات ملكية (56) للكاتبة: لوسي مونرو (الجزء الأول من سلسلة العائلة الملكية) ×كــاملة× (الكاتـب : فراشه وردى - )           »          2 - الإعصار - روايات دار الامين** (الكاتـب : ^RAYAHEEN^ - )           »          308 - بداية حب - روايات دار الحسام (الكاتـب : Just Faith - )           »          حنينٌ بقلبي (الكاتـب : عمر الغياب - )           »          307-نداء القلب -جيسيكا جوردان -روايات دار الحسام (الكاتـب : Just Faith - )           »          لا تتحديني (165) للكاتبة: Angela Bissell(ج2 من سلسلة فينسينتي)كاملة+رابط (الكاتـب : Gege86 - )           »          305-علاقات خطرة - روايات دار الحسام (الكاتـب : Just Faith - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > مـنـتـدى قـلــوب أحـــلام > قـلـوب رومـانـسـيـة زائــرة

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 15-11-20, 04:28 PM   #1

قلوب أحلام

نجم قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية قلوب أحلام

? العضوٌ??? » 266960
?  التسِجيلٌ » Oct 2012
? مشَارَ?اتْي » 334
?  نُقآطِيْ » قلوب أحلام has a reputation beyond reputeقلوب أحلام has a reputation beyond reputeقلوب أحلام has a reputation beyond reputeقلوب أحلام has a reputation beyond reputeقلوب أحلام has a reputation beyond reputeقلوب أحلام has a reputation beyond reputeقلوب أحلام has a reputation beyond reputeقلوب أحلام has a reputation beyond reputeقلوب أحلام has a reputation beyond reputeقلوب أحلام has a reputation beyond reputeقلوب أحلام has a reputation beyond repute
افتراضي لماذا أنتِ - قلوب أحلام زائرة - للكاتبة::أماني عطا الله*كاملة*




السلام عليكم ورحمة الله وبركاته










كتابة وتأليف::أماني عطا الله
تدقيق ومراجعة لغوية::أماني عطا الله
تصميم الغلاف والفواصل::noor1984




الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الفصل السابع
الفصل الثامن
الفصل التاسع
الفصل العاشر
الفصل الحادي عشر
الفصل الثاني عشر
الفصل الثالث عشر
الفصل الرابع عشر
الفصل الخامس عشر
الفصل السادس عشر(الأخير)









التعديل الأخير تم بواسطة Moor Atia ; 20-11-20 الساعة 04:07 PM
قلوب أحلام غير متواجد حالياً  
التوقيع
13th year anniversary celebration- احتفالية تأسيس روايتي الـ13

رد مع اقتباس
قديم 19-11-20, 07:44 PM   #2

noor1984

مشرفة منتدى قلوب احلام وأقسام الروايات الرومانسية المترجمةوقصر الكتابة الخياليّةوكاتبة،مصممة متألقة بمنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية noor1984

? العضوٌ??? » 309884
?  التسِجيلٌ » Jan 2014
? مشَارَ?اتْي » 23,038
?  نُقآطِيْ » noor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond repute
افتراضي






الصديق العاشق


-1-


زفر أدهم بضيق وهو يعاود النظر إلى ساعة الحائط الكبيرة المعلقة في مطار هيثرو.. ترى هل تأخرت الطائرة بالفعل أم أن حديث صديقه عن تلك الرائعة قد أصابه بالملل..؟
مازن.. ليس ابن خالته فحسب.. بل هو صديق الطفولة والصبا.. والمسئول الأول عن فرع شركته الجديد في لندن.. بالرغم من التناقض الكبير بينهما فهو يبقى الصديق المقرب إلى قلبه إن لم يكن الوحيد.
لم يبد على مازن أنه لاحظ السخط البادي فوق ملامحه.. ربما لشدة سعادته بهذه المرأة.. وربما لأن السخط والجدية الأقرب للعبوس علامة مميزة محفورة فوق وجه صديقه منذ عرفه.. عاد يهتف في نشوة:
- آهٍ.. لو رأيتها يا أدهم.. لصدقت حديثي عنها وعلمت بأنني لا أبالغ أبدًا في وصفها.. يا لها من رائعة..! سوف تجبرك بعد نظرة واحدة على تغيير رأيك الظالم في النساء جمعاء.
ابتسم أدهم في تهكم قائلًا:
- كلهن رائعات في عينيك يا عزيزي.
هتف مازن في حماسة:
- هذه المرة تختلف.
- حماستك زائدة ليس إلا.
- أنا عاشق يا أدهم.
ضاقت عينا أدهم وهو يحدق في ملامحه قبل ينفجر ضاحكًا.. كانت من المرات القليلة التي يضحك فيها من القلب.. فابتسم مازن:
- يسعدني أن الأمر يروقكَ لهذا لحد.
تفحصه أدهم صامتًا.. ملابسه الرياضية الباهظة الثمن.. السلسلة الذهبية التي تتدلى من عنقه وخاتم البلاتين الذي يزين أصبعه.. وسامته المفرطة التي يضاهي فيها النساء.. بشعره الذهبي، بشرته البيضاء، عيناه العسليتان.. نظراته الجريئة وحديثه المعسول خاصة معهن.. كل هذا جعل منه مطمعًا لهن.
في كل زيارة له إلى لندن.. يخبره عن امرأة جديدة رائعة كتلك التي يتحدث عنها الآن.. وبنفس هذه الحماسة وهذا الهيام.
ولكنها المرة الأولى التي يتحدث فيها عن العشق والغرام..!
ربما كانت رائعته هذه المرة أكثرهن جمالًا ودهاءً.. ولكنه على يقين بأن صديقه سوف يتعافى قريبًا من هذا الحب ما إن تثبت أنها لا تختلف عن سائر النساء.. بل ربما كانت أكثرهن عهرًا أيضًا.
تنبه إلى مازن حين قال:
- أمازلتَ تعمل بنصيحة جدك؟
- ولن أتخلى عنها أبدًا.. فهي ما جعلت مني رجلًا ناجحًا.
- تقصد آلة ناجحة.. أنتَ تفتقد الحياة يا أدهم.
تأمله ساخرًا ولم يعلق.. فعاد مازن يقول:
- لن تستطيع أن تكمل الحياة بمفردك مهما تظاهرت بالقوة.
- ومن قال بأنني سأكملها بمفردي؟ التزامي بنصيحة جدي لا يعني بالضرورة أنني لن أتزوج وأنجب أطفالًا.. ولكن يجب أن أحسبها جيدًا قبل أن أقدم على مشروع كهذا.
- مشروع.. وكأنكَ تتحدث عن صفقة جديدة..!
- الزواج هو صفقة العُمر أيها المتهور.
تطلع إليه مازن ساخطًا.. هذه الآلة التي تجلس بجواره لن تجدي معها كل النصائح والتوصيات.. لو عاد جده من الموت ليخبره بنفسه أنه لم يكن يقصد ما فهمه من تلك الوصية فسوف يفشل في إقناعه بالعدول عن قراره.. لن يحيد قيد أنملة عن هذا الخط الذي تبرمج على المضي في اتجاهه.. ما لم تحدث معجزة..!
عاد مازن يهتف بصبر نافد:
- لا تنسَ أمر الوظيفة.
أجابه أدهم محاولاً استفزازه:
- إن كانت رائعة كما تقول.. فلا ظني أنها بحاجة إلى وساطة للحصول على وظيفة.
- أعلم أنها تستطيع الحصول على وظيفة دون مساعدتي أو مساعدتك.. ولكنني أريد أن أكون مطمئنًا عليها.. أريدها أن تكون تحت عينيك دائمًا.
- قل أنكَ لا تثق بها.. تريدني أن أراقبها لك.. وهذا يثبت صحة نظريتي في معظم النساء.
- الأمر لا يتعلق بالثقة.
- وبأي شيء يتعلق إذًا؟
- أخشى أن يخطفها أحدهم مني.. فأنا أغار عليها حتى من ملابسها.
تأمله أدهم في عدم تصديق:
- منذ متى وأنت تتحدث بهذه الطريقة؟
- منذ عشقتها.
- عشقتها...!
- إنها ساحرة.. إنها الحياة بكل طاقاتها.. لن تتخيل ما الذي يمكن أن تفعله بأي مكان تتواجد فيه.
أطلق تنهيدة طويلة وأردف:
- حبيبتي نار تذيب الجليد وتبث فيه دفئًا لا يبثه سواها.. إعصار مدمر لا يترك شيئًا على حاله.
- يبدو أنكَ جننت..!
- أخشى أن تراها فتجن مثلي.
أشار بسبابته مُنذرًا وأردف:
- ولكن حذار أن تنسى أنها لي.. أنا من أحببتها أولًا.
هز أدهم رأسه وازداد سخرية.. يبدو أن صديقه مسحور بجرعة زائدة من مكرهن.. ولكن كلها أيام قليلة وسيقدم له عنها تقريرًا مفصلًا يفك هذا السحر.
ها هي طائرته قد وصلت بعد طول انتظار.. نهض وصافحه مودعًا.. أخيرًا كتب له أن يتخلص من ثرثرته التي بدت وكأنها لن تنتهي.. تلك التي وصفها بكل الصفات فلم يتبق في مخيلته منها إلا كونها كالساحرة الشريرة التي تدمر وتشعل وتسلب الهدوء من كل مكان تحل به.
*****
اتجه من مطار القاهرة إلى مكتبه مباشرة وما إن دلف إلى الغرفة الخارجية منه حتى انتفض فريق السكرتارية الخاص به ووقف مرتعدًا.
هتفت تهاني رئيسة مكتبه وهي تفتح أمامه باب غرفته:
- حمدًا لله على سلامتك يا سيدي.. كنتَ في لندن منذ ساعات قليلة فقط.
- هل ظننتم بأنني لن أعود؟
- ليس الأمر هكذا يا سيدي ولكن.....
- أريد تقريرًا مفصلًا عن كل ما حدث خلال اليومين السابقين.
- حالًا يا أدهم بك.
*****
رفع رأسه عن أوراقه أخيرًا وتنفس الصعداء.. كل شيء يبدو على ما يرام.. لاح له طيف جده راضيًا مبتسمًا وعاد صوته يرن في أذنيه:
- عملك هو مستقبلك.. هو ما سيحدد مصيرك وحياتك.. هو مكانتك بين الآخرين.. هو سعادتك وهو شقاؤك.. هو سبيلك لربح الدنيا والآخرة أيضًا إن أتقنته وأخلصت له.. فاهتم به يا ولدي ولا تكن مثل والدك فأنت ترى ما آل إليه أمره بسبب استهانته وإهماله.
مسكين والده الذي انحسر اهتمامه ما بين الخمر والنساء حتى لقى حتفه في سن مبكرة بين ذراعي إحدى الراقصات ليزيد من سخط والدته وعذابها.
رحل وتركه وحيدًا لأم حزينة بائسة قهرتها الغيرة والخيانة حتى لحقت به بعد سنوات قليلة وتركته هي أيضًا.. تولى تربيته جد أكثر حزنًا وبؤسًا.. جد خسر وحيده في ريعان شبابه لمجرد أنه أسرف في تدليله ومنحه كل ملذات الحياة.. فإذ بالموت كان الأقرب له منها.
الطريقة الصارمة.. الحازمة.. والقاسية أيضًا.. التي سلكها جده لتربيته تناقض تمامًا ذلك التدليل المفرط الذي تلقاه والده.. والذي تلقاه هو أيضًا منه عندما كان والده على قيد الحياة.. لم يفهم حينها.. لم يستوعب عقله الصغير أن جده يفعل به كل ما يفعله.. خوفًا من أن ينتهي به الأمر إلى نفس المصير المؤلم الذي انتهى إليه والده.
لن ينسى أبدًا تلك الليلة التي ضربه فيها ضربًا مبرحًا لخطأ غير مقصود.. هرب بعدها من منزله وكاد يضيع للأبد عندما احتضنته مجموعة من أصدقاء السوء طمعًا في ملابسه الثمينة وساعة يده الذهبية.. أيام قليلة أمضاها بينهم جردوه فيها من كل متعلقاته النفيسة وقدموا له بدائل بشعة.. بدا معها وكأنه واحد من هؤلاء المشردين الذين لا عائل لهم ولا مأوى.. وما لبثوا بعدها أن طالبوه بالعمل أيضًا حتى لا يثقل عليهم.. حمدًا لله.. قبضت الشرطة عليه من أول جريمة سرقة حاول ارتكابها.. تردد كثيرًا في إخبارهم عن جده.. ولكنه لم يجد في النهاية مفرًا من ذلك خوفًا من تحويله إلى إصلاحية الأحداث.. كان قد سمع أن الحياة في مثل هذه المؤسسات أكثر قسوة من الحياة في بيت جده.. لم يصدقه الضابط في بادئ الأمر.. لولا وجود ذلك المحضر الذي حرره جده باختفائه.
وقف يرتعد خوفًا عندما وصل جده ليتسلمه ظنًا منه بأنه سيقتله هذه المرة.. كانت صدمته شديدة عندما احتضنه بقوة وراح ينتحب في حرقة وكأنه طفل صغير.. كل شيء تغير من يومها.. بعد أن أدرك جده بأن القسوة لا تختلف عن التدليل في إفراز المزيد من المقهورين والفسدة.
تنبه من شروده على طرقات تدق باب مكتبه:
- ادخل.
دلفت الآنسة تهانى إلى الداخل بخطى مترددة قائلة:
- تخطت الساعة الثالثة والنصف و.........
- يمكنكم الانصراف.. أنا سأبقى قليلًا.
- يمكنني أنا البقاء لمساعدتك إن شئت.
- كلا.. اذهبي أنتِ أيضًا.. بإمكاني تدبر أمري.
فتحت فمها لتقول شيئًا آخر ولكنه سارع بالقول:
- لا تقلقي بشأني.. لن أمكث طويلًا.
نظرت إليه في مزيد من التردد ولكنها ما لبثت إن تركته على مضض وهي تغمغم:
- حسنًا يا سيدي.. ولكن إن احتجت شيئًا يمكنكَ استدعائي وقتما شئت.
مضت وتركته.. عاد إلى شروده من جديد.. ولماذا يجب أن يذهب الآن..؟ ما الفرق بين بقائه في مكتبه أو العودة إلى منزله..؟
في كلتا الحالتين سيبقى وحيدًا.
ومن ينتظره هناك سوى خادمه العجوز؟! بل خادم جده الذي أكل عليه الدهر وشرب وراح يتسلى بحواسه واحدة تلو الأخرى حتى ملَّ منه.. فهو بالكاد يبصره عندما يحدثه.. أما عن السمع.. فشر البلية ما يضحك.. طرائفه لا تنتهي.. كلما طلب منه شيئًا أتى بآخر لا يمت له بصلة.. لكنه لا ينكر أبدًا بأن هذه الطرائف رغم قسوتها.. هي الشيء الوحيد الذي يخطف الضحكات من أعماقه الداكنة.
ربما حان الوقت بالفعل للبحث عن زوجة عاقلة.. متزنة.. تنجب له أطفالاً وليس طفلًا واحدًا.. يكفيه ما عاناه هو من وحدة قاتلة طيلة حياته.. لا يجب أن يعاني أطفاله مثله.
ما زال يتذكر آخر كلمات جده وهو على فراش الموت:
- حذار يا ولدي من الخمر والنساء.. إياك يا ولدي من الخمر والنساء.
استمر يومها يرددها كالمهووس حتى فارق الحياة.. لم يستطع أن يلفظ أنفاسه ويرقد في سلام إلا بعد أن وعده بأن ينفذ وصيته.. وبأنه لن يسمح لقطرة خمر أن تلوث جوفه ولا لامرأة بأن تلوث حياته.. هذا الوعد وحده.. هو ما ساعده على الصمود حتى الآن وسط خضم من الإغراءات العاتية.
ما خلا من سقطات معدودات كان ندمه عليها أكثر من متعته بها.. فهو ليس ملاكًا على أية حال بل هو بشر والحياة تدفعه لملذاتها دفعًا.
دفن رأسه بين راحتيه وأطلق تنهيدة طويلة.. قطعًا لم يكن جده يقصد كل النساء.. لابد وأنه استثنى إحداهن لتكون زوجة له.. جده لن يكون سعيدًا بمشقة الوحدة التي يعانيها الآن.. ولا بقطع نسله من جذوره بهذه الطريقة المؤلمة.
لم تكن والدته المسكينة سببًا في موت والده المبكر بالسكتة القلبية.. ربما كانت تلك الراقصة التي شاركته الكحول والمخدرات حتى توفى بجرعة زائدة منها.. على العكس كانت والدته هي الضحية.. كانت المجني عليها دائمًا.
كان صغيرًا ولكنه أدرك بأنها تموت كل يوم وهي تتحمل هجر والده وإهاناته لها كلما رآها مصادفة كالغرباء.. إذا ما أرغمته الظروف أحيانًا على التواجد في المنزل..!
كانت تتحمله بصدر رحب وحب لم يقدره.. نعم.. كانت تعشق والده وتحاول إسعاده بكل الطرق ولكنه لم يكن يمنحها الفرصة.. لم يكن يشعر بوجودها من الأساس.
سوف يبحث عن زوجة تشبه والدته.. تلك الحنونة المثابرة ذات القلب الكبير. وسيعمل على إسعادها بكل الطرق.. سيعوض والدته في شخصها عن كل حرمان وقسوة ومعاناة.. سوف يكفر عن ذنب والده الجاحد في حقها.
نهض أخيرًا واتجه إلى غرفة أخرى في مكتبه.. هذه الغرفة التي لا يعلم بوجودها أحد عدا ساعي مكتبه الذي ينظفها من حين لآخر.. غرفة زودها بحمام خاص وأثاث بسيط بدت معه وكأنها غرفة في فندق صغير.. جهزها خصيصًا لطارئ مثل هذا.. سوف يبيت ليلته هنا.. فتح الخزانة الصغيرة وأخرج منامته.. سوف ينعشه حمامًا ساخنًا.. كان ينبغي أن يفعل هذا منذ وصوله من المطار.
استلقى أخيرًا فوق فراشه مغمض العينين.. استرخى جسده بينما أبى عقله أن يقلده.. بل بقى مستيقظًا يفكر في مشروع الحياة.
لم يكن عالمه يخلو من النساء.. الكثيرون من رجال الأعمال الذين يعرفهم عرضوا عليه بناتهم في حيل مكشوفة.. تارة في سهرة عمل وتارة في حفل زفاف.. بل أن بعضهم أحضرهن إلى مكتبه أيضًا.. ترى من منهن تصلح زوجة له وأمًا لأطفاله؟ من منهن يمكنها أن تقضي على وحدته وتبدد معاناته؟
******
شهقت تهاني في فزع عندما دلفت إلى غرفته صباح اليوم التالي لتضع بها بعض الأوراق والتقارير ففوجئت بوجوده يجلس خلف مكتبه مرتديًا حلته كاملة وأمامه بقايا من فنجان القهوة.
- صباح الخير يا سيدي.
- صباح النور.
هل يجلس هكذا منذ أمس..؟ فهي تصل كل صباح أول الجميع ولكنها لم تره يدخل.. متى وصل إذًا..؟ ألم يغادر كما أخبرها..؟ وإن كان قد غادر بالفعل.. متى عاد من جديد؟
عشرات الأسئلة تزاحمت في رأسها وهي تضع الأوراق أمامه ولكنها لم تجرؤ على البوح بها بل اكتفت بالقول:
- أتريد شيئًا آخر يا سيدي؟
- فنجانًا من القهوة.
- ولكن.....
رفع رأسه وألقى عليها نظرة سريعة عاد بعدها إلى قراءة الأوراق التي وضعتها للتو أمامه فغمغمت مجبرة:
- أمرك يا سيدي.
ابتسم في رضا وهو يقرأ التقرير الخاص بالصفقة التي أبرمها الأسبوع الماضي.. تلك الخاصة بأجهزة الكمبيوتر.. سوف تحقق له ربحًا لا بأس به.. يستطيع بعدها أن يزيح ذهنه قليلًا ويوجهه في اتجاه آخر.. صافي الطحان.
******
انطلق في رشاقة يتنقل من قسم لآخر مزهوًا بمؤسسته الكبيرة.. مؤسسة الشربيني للاستيراد والتصدير.. من يراها الآن لا يصدق أبدًا إنها ذات الشركة الصغيرة التي ورثها عن جده.. كانت تعاني يومها من ثقل الديون التي أغرقها فيها والده بعد سقوطه في دوامة الإدمان.
وصل أخيرًا إلى قسم الحسابات يتبعه اثنين من رجال الأمن وأحد أفراد السكرتارية الذي طوى دفتر ملاحظاته ووضع القلم في جيب سترته وكأنه أنهى مهمته.. لن يحتاجه في هذا القسم.. يكفي وجود عبد العظيم به.. فهو قسم هادئ مستقر لا يمثل مشكلة ولا يسبب إزعاجًا.. يزوره أدهم بك من وقت لآخر ليعلن لمن يعملون به بأنه تحت سيطرته لا أكثر.
استقبله عبد العظيم في حفاوة بالغة وقف على إثرها كل من بالقسم احترامًا له.. لكنه رغم هذا شعر بالضيق.. هذا القسم يصيبه بالتوتر والانقباض رغم انضباطه.. ربما كان هذا سببًا خفيًا لجعله يتجنب زيارته كثيرًا.. تكفيه تلك العيون التي تحدق به كلما رأته وكأنها لعبيد يعملون بالسخرة رغم ما يقدمه لهم من رواتب ضخمة لا تقدمها أية مؤسسة أخرى.
قال في هدوء كمن يؤدى واجبًا روتينيًا يكرره كل يوم:
- هل هناك مشكلة ما في هذا القسم؟
هز عدد منهم رأسه نفيًا في صمت بينما بقى الآخرون وكأنهم تماثيل من الشمع.. فأردف في حدة:
- هناك طلب قدمه أحدكم للانتقال لقسم آخر؟
ترددت إحدى الموظفات قائلة:
- أنا يا سيدي.
- حسنًا.. ما الذي يزعجك هنا؟
- لا شيء.. ولكن.....
- ولكن ماذا؟ أنا لا أحب التهريج في العمل.. إن كانت المؤسسة لا ترضي طموحك يمكنك البحث عن مؤسسة أخرى.. وسوف نساعدك على الالتحاق بها ونمنحك شهادة خبرة تؤهلك للعمل أينما شئت.
ابتلعت المرأة اعتراضها وأحنت رأسها في خنوع واستسلام.. كيف يمكنها إخباره بأنها تكره هذا القسم لوجود عبد العظيم به.. هذا المستبد الذي يحصي عليهم حتى أنفاسهم بوجهه العابس الكئيب.. ممنوع الضحك.. ممنوع التبرج الزائد.. ممنوع الحديث في وقت العمل.. ممنوع الانصراف قبل انتهاء مواعيد العمل الرسمية بدقيقة واحدة حتى وإن كان الموت سببًا.. هل يعلم أنه كان يفكر جديًا في تصميم زي خاص بالقسم..؟
مجرد تفكيرها في لون هذا الزي وطريقة تصميمه تصيبها بالغثيان.. يكفي أن عبد العظيم هو من سيشرف على إعداده بنفسه.
كيف تشرح له أن كآبته أصابتها وسببت لها مشكلات لا تحصى مع زوجها بعد أن انتقلت معها إلى منزلها.. ازدادت سخطًا عندما قال أدهم:
- عبد العظيم بك.. رئيس قسم لن يتكرر.. يكفي أنه يساعدكم على تحقيق الانضباط في العمل.. بسببه تنالون حوافزكم كاملة.. ماذا تريدون أكثر من هذا؟
حدق بعضهم في عبد العظيم بعدوانية لم تخف عليه.. كان يعلم أن عبد العظيم أكثر استبدادًا منه.. لا يرحم هفوة في لحظة ضعف ولا يتغاضى عن خطأ مهما بلغ صغره.. يُقدس الروتين تقديسًا.. ولكن أسلوبه المتعنت رغم قسوته كان يضمن له المزيد من الدقة والالتزام في قسم حرج كهذ.. قسم الحسابات من أهم أقسام الشركة لذا فهو في حاجة إلى أمثال عبد العظيم به.
عاد إلى مكتبه من جديد وانهمك في توقيع بعض الأوراق العاجلة التي تعرضها عليه تهاني عندما طرق الباب ودخلت إحدى أفراد السكرتارية قائلة:
- هناك آنسة تدعى إلهام صبري تريد مقابلتك يا سيدي.
قال دون أن يرفع عينيه عن الأوراق أمامه:
- من هي؟
- لستُ أدري.
تطلع إليها ساخطًا فأردفت بسرعة:
- تقول أنها على موعد مع سيادتك.. ولكن اسمها ليس مدونًا في دفتر المواعيد.
عاد ينظر لامباليًا في أوراقه وهو يغمغم:
- لابد أنها صحفية مبتدئة تجرب حظها معي.. حيلة قديمة ومكشوفة.
- ولكنها تتحدث بثقة.. ربما.........
رفع إليها وجهًا عاصفًا فأكملت في تلعثم:
- ربما تكون سيادتك قد واعدتها أو...........
أسرعت تهاني توبخها:
- هل جننت يا هند.. منذ متى وأدهم بك يواعد النساء؟!
عادت بعدها لتنظر إلى أدهم قائلة:
- عذرًا أدهم بك.. هند حديثة العمل هنا وهي لا تقصد الإساءة.
أسرعت الفتاة تهتف وهي تغادر المكتب بظهرها:
- نعم لا أقصد.. لا أقصد أبدًا.
غمغم وهو ينظر إلى تهاني بصبر نافد:
- كيف وضعت معتوهة كهذه في قسم السكرتارية الخاصة بي؟
ابتسمت تهاني في هدوء قائلة:
- ربما تبدو متهورة قليلًا.. ولكنها في براعة الحاسوب يا سيدي.
ما كاد يتجاهل الأمر ويتطلع إلى أوراقه من جديد حتى دلفت نفس السكرتيرة إلى مكتبه مرة أخرى قائلة:
- عذرًا يا سيدي.. ولكنها تقول.......
قاطعها غاضبًا:
- اذهبي وتخلصي منها قبل أن أتخلص منكما معًا.
أكملت بصوت مرتجف وهي تنصرف:
- من طرف مازن بك في لندن و..........
ضاقت عيناه قليلًا.. إنها هي إذًا.. تلك العاصفة التي تحدث عنها صديقه.. كان قد نسى أمرها في ذروة مشاغله التي لا تنتهي.. معتوه مازن.. رغم حديثه المستفيض حد الملل عنها.. فهو لم يذكر له اسمها...!
- لماذا لم تخبريني بذلك منذ البداية؟
هتفت في خوف لا يخلو من تمرد:
- هي لم تخبرني.
- دعيها تدخل.






التعديل الأخير تم بواسطة Moor Atia ; 20-11-20 الساعة 03:47 PM
noor1984 غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 19-11-20, 07:47 PM   #3

noor1984

مشرفة منتدى قلوب احلام وأقسام الروايات الرومانسية المترجمةوقصر الكتابة الخياليّةوكاتبة،مصممة متألقة بمنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية noor1984

? العضوٌ??? » 309884
?  التسِجيلٌ » Jan 2014
? مشَارَ?اتْي » 23,038
?  نُقآطِيْ » noor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond repute
افتراضي


-2-
الإعصار

جلست الهام تحدق في الباب الخشبي الفخم بعصبية واضحة.. لم تكن تريد أن تستغل العلاقة التي تربطها بـ مازن في أمر كهذا.. فهي تمتلك من المؤهلات ما يشفع لها للحصول على هذه الوظيفة بدون الحاجة للوساطة.. ولكن يبدو أنه لا مفر فالسيد مدير المؤسسة يرفض مجرد رؤيتها.. السكرتيرة كادت أن تقتلها منذ قليل لولا معرفتها بأمر مازن.. تحول صراخها فيها إلى لطف مفاجئ وهي تعاتبها لأنها لم تخبرها بذلك من قبل.. جاهدت للتحكم في انفعالاتها عندما فٌتح باب المكتب وتطلعت إليها الفتاة ساخطة قبل أن تغمغم:
- تفضلي يا آنسة.
بادلت إلهام سخطها بابتسامة شاكرة.. لا شك أنها تسببت بلا قصد في سخطها.. يبدو أن مديرها المستقبلي صارم عنيف.. ترى كيف سيكون استقباله لها؟
جلس يحدق باهتمام في ورقة ما قبل أن يذيلها أخيرًا بتوقيعه.. اتسعت عيناها وهي تحدق غير مصدقة في تلك اللافتة العاجية فوق مكتبه.. خط فوقها اسمه بحروف ذهبية.. أدهم الشربيني.
أخبرها مازن بأنه شاب صغير.. وعدها بمفاجأة عندما تراه.. ولكنها لم تتخيله أبدًا في أوائل العقد الرابع من العمر..! أيعقل هذا؟!
من المفترض أن تلك التي ارتجفت لملاحظة غاضبة وبخها بها هي رئيسة مكتبه.. وواضح بأنها تفوقه سنًا بعشر سنوت على الأقل.. إن كان يعاملها بهذه الحدة فكيف يعامل الآخرين إذًا؟
وكأنه تنبه إلى وجودها فجأة.. أدار وجهه إليها متسائلًا:
- لماذا تقفين هكذا؟ ماذا تريدين؟
- أنا إلهام صبري.
- وماذا بعد..؟
شعرت ببعض الحرج.. عليها أن تستعين بـ مازن من جديد.. يا له من أمر بغيض أن تذكره بالوساطة مرة ثانية.. عدم قناعتها ورفضها للأمر جعلا من صوتها ضعيفًا مرتعدًا وهي تهمس:
- مازن بك هو.......
بدا مصدومًا قبل أن يحول عينيه إلى أوراقه من جديد.. ما الذي أغرى مازن في فتاة كهذه..؟!
أهذه هي حقًا من أسهب في وصفها صديقه.. أهذه هي العاصفة والإعصار والحياة و......؟
مستحيل....!
لعل هذه الفتاة كاذبة.. نصابة.. محتالة.. ولكن كيف علمت بالأمر..؟ كيف وصلت إلى مكتبه إن لم تكن هي بالفعل؟
مضى وقت طويل وهو يحدق في تلك الورقة ولكنه في نهاية الأمر لم يوقعها.. لم يعتد أن يعطي توقيعه بذهن شارد مهما بلغت ثقته في الطرف الآخر.. هكذا علمته الحياة.. وضعها في الملف من جديد قبل أن يعيده لـ تهاني قائلًا:
- سوف نكمل فيما بعد.
هزت تهاني رأسها متفهمة وأسرعت تغادر الغرفة.. ساد الصمت بينهما فترة ليست بالقليلة حتى تصاعد قلقها وشعرت بمزيد من التوتر.. رماها أخيرًا بنظرة مقتضبة أخرى ولكنها ذكرتها بالفحص الطبي الذي أجرته منذ عدة أيام لترفقه بالملف الذي قدمته للحصول على الوظيفة.. لم تكن يومها تدري أن الوساطة وحدها تكفي.
نظرة ثالثة إليها.. هذه المرة كانت أكثر ثباتًا وعمرًا.. صدمته أقل.. ولكن الدهشة ما زالت تشوبها.
من أين لها بمرآة الآن؟
أخيرًا تنحنح قائلًا:
- حدثني مازن عنك كثيرًا.
ابتسمت قائلة:
- مازن صديق عزيز.
هل بدا متهكمًا أم أنها تتخيل هذا..؟ الشيء المؤكد هو أن لهجته لم تكن تخلو من العداء حين قال:
- كيف تعرفت إليه؟
- من خلال العمل.
استمر التساؤل في عينيه فأردفت:
- زوج أختي الكبرى لديه شركة صغيرة في لندن.. من خلالها تعارفنا.
أنهت حديثها وبادلته تحديقه فيها.. رهبتها منه بدأت تتلاشى تدريجيًا.. تحولت إلى انزعاج.. لم تعد تحتمل المزيد من نظراته الفاحصة.. ترى بماذا يفكر؟
انشغل عنها بالضغط على بعض أزار الحاسوب الذي أمامه.. زوج أختها هو من قدمها إليه إذًا.. ولكن هذا لم يجب تساؤلاته الحائرة التي قاربت الجنون.. إنها ليست من نوع النساء الذي يفضله مازن.. تبدو عادية جدًا.. ربما أقل من العادية أيضًا.. ملابسها.. تسريحتها.. زينتها..!
هل تدعي الفضيلة والاحتشام أمامه؟
سوف تكشف الأيام المقبلة زيفها وتصنعها.. لن تستطيع أن تخدعهم كل الوقت مهما بلغت حيلتها.. سوف يطلب من تهاني مراقبتها جيدًا وعمل تقرير أسبوعي عن سلوكها.
تنهد قائلًا:
- حسنًا آنسة إلهام... سوف تعملين في فريق السكرتارية.. هنا في مكتبى.
- هكذا.. من دون أن تقرأ الملف الخاص بي.. ألا تريد التعرف على مؤهلاتي أولًا؟!
- يكفيني ما قاله عنك مازن.
- ولكن...
تطلع إليها متسائلًا فأردفت:
- لا أظن أن فريق السكرتارية في حاجة إلى فرد جديد.. هناك ستة أفراد يعملون به.. بالإضافة إلى الأستاذة تهاني.. رئيسة مكتبك.
تأملها مليًا محاولًا التسلل إلى أعماقها.. هل هي قوية الملاحظة بالفعل أم أنها حيلة رتبت لها كي تجذب انتباهه إليها..؟
قال أخيرًا:
- لا عليكِ.. يمكنني أن أدفع راتبًا آخر.
بدا على قسماتها عدم الاقتناع فأردف متهكمًا:
- آنسة إلهام.. اطمئني.. أنا لن أشهر إفلاسي من أجل راتبك.
- الأمر لا يتعلق براتبي.
- وبأي شيء يتعلق إذًا؟
- جئت أطلب عملًا لا إحسانًا.
- وأنا لستُ مؤسسة خيرية يا آنسة.
- أنت تكمل بي عددًا لا أكثر.. أريد أن يكون لي عمل أقوم به.
- نحن مؤسسة كبيرة.. وسوف تجدين دورًا تقومين به بلا شك.
- ولكن....
صاح بصبر نافد:
- ماذا أيضًا؟
- لو تلقي نظرة على هذا الملف.. سوف تتعرف على خبراتي السابقة وتجد لي المكان المناسب في مؤسستك.
- ليس لدي وقت لهذا.. مازن سيكون سعيدًا بتوظيفك في السكرتارية الخاصة بي .. إنها أفضل وظيفة هنا.
ها هي العاصفة التي تحدث عنها صديقه بدت تنذر.. الغيوم التي غطت قسماتها والسحب التي أطفأت بريق عينيها.. والرعد بصوتها حين نهضت قائلة:
- شكرًا لوقتك الثمين أدهم بك.
استعدت للرحيل عندما استوقفها:
- وماذا عن الوظيفة؟
رفعت رأسها في شموخ قائلة:
- احتفظ بها لـ مازن.
- ماذا؟
تحركت لتغادر مكتبه ولكن خطواتها تسمرت فجأة عندما صاح غاضبًا:
- انتظري.
لم تلتفت إليه فعاد يهتف بالنبرة ذاتها:
- ما الذي تريدينه بالضبط؟
- أنا لا أريد منك شيئًا.
- وبماذا أخبر مازن عندما يسألني عنك؟
- أخبره ما شئت.
- آنسة.. كاد صبري أن ينفد.. لن أسمح لكِ بإحداث وقيعة بيني وبين صديق عمري.. أعطني سببًا منطقيًا لرفضك العمل بالمؤسسة.
استدارت إليه لا مبالية.. كان قد نهض عن كرسيه ووقف يراقبها ساخطًا.. زاد من جنونه تلك الطريقة المستفزة التي تأملته بها قبل أن تقول بكلمات باردة رغم أنفاسها المحترقة:
- يسعدني أنك نهضت أخيرًا لتحدثني.. حتى وإن لم يكن احترامًا.
ضاقت عيناه وهو يتأملها بعدسة جديدة.. إنها غاضبة إذًا لأنه لم يقف لمصافحتها عندما دلفت إلى مكتبه.. بل أنه لم يصافحها حتى الآن.. ربما كانت تريد منه أن يعانقها ويقبلها أيضًا.. أهذه هي العاصفة التي قصدها صديقه..؟! عناد ومشاكسة وحركات صبيانية مزعجة.. سوف يثبت له قريبًا.. بأنها ليست أكثر من زوبعة في فنجان.
عاد يجلس من جديد قائلًا في لامبالاة:
- إن كنتِ لا تريدين العمل معنا فنحن لن نرغمكِ.. ولكن دعينا نبحث عن سبب مقنع لا يسبب مشكلة.
تأملته في غيظ.. ها هو لم ينكر عدم حاجته إليها.. كل ما يهمه هو عدم إغضاب صديقه وكفى.. إنه أكثر من رأت من الرجال إزعاجًا وغرورًا.. بل ووقاحة أيضًا.
صاحت في نبرة هجومية:
- أخبره أنكَ لم ترق لي.
حدق فيها مندهشًا قبل أن يضحك ضحكة قصيرة لا تخلو من سخرية.. تعجبت من تلك الغمازات الآسرة التي اخترقت وجنتيه وارتدت لتخترق أعماقها في عنف.. كيف لكئيب مثله أن يمتلك غمازات مثلها.. لماذا لم تضمر بعد؟
أشاحت بوجهها عنه حتى لا يرى البريق الذي تلألأ في عينيها بينما امتلأ صوته تسلية وهو يقول:
- لا أتذكر أنني تقدمت لخطبتك يا آنسة.
قالت في صوت جاهدت ليخرج قويًا:
- وأنصحك بأن لا تجرب.
عاد يضحك من جديد وعادت غمازاته تزعجها مرة أخرى بصورة أكثر شراسة.. ضحكته تسلب العقل..
توقف عن الضحك قائلًا:
- على أية حال.. أنتِ أيضًا لستِ من النوع الذي يروق لي.
أحقًا لا تروقه..؟! ربما لم يكن جمالها فاتنًا مثل كثيرات.. ولكنها المرة الأولى التي يخبرها أحدهم بأنها لا تروقه.. اعتادت أن تكون المرأة المدللة أينما وجدت.. ربما اليوم لم تكن تهتم بزينتها كثيرًا.. سهرت لساعة متأخرة ليلة أمس واستيقظت بعد معاناة بمزاج سيء وأعصاب متوترة.. كانت تتوق لمقابلة المدير الفذ الذي يدير مؤسسة بهذا الحجم وهذا النجاح.. لم تتوقع أبدًا أن تجده بهذا الشكل.
كانت تظنه كهلًا مسنًا كل ما سيهمه من أمرها هو إجادتها للعمل.. لم تتخيل للحظة واحدة أنها ستكون في حاجة إلى إغوائه وجذب انتباهه.
منذ أكثر من ثلاث سنوات وهي تحلم بالعمل في هذه المؤسسة.. منذ تخرجت من كلية التجارة بقسم اللغة الإنجليزية.. لم تصدق مازن عندما أخبرها أنه على صلة وثيقة بمالكها.. كانت تظنها حيلة منه للتودد إليها.
لم تتخيل أبدًا أن يكون هذا الشاب المزعج هو المدير العبقري الذي تتهافت وسائل الإعلام لاصطياد أخباره كلما واتتهم فرصة ولكن بلا جدوى.. أيقنت الآن أن معظم ما يكتبونه عنه لا صلة له بالحقيقة.. حتى الصورة التي أرفقوها مع آخر مقال قرأته عنه منذ شهور قليلة ليست له.. ذاك كان أكبر سنًا.
- اجلسي يا آنسة.
انتزعها صوته من أفكارها.. ولماذا عليها أن تطيعه.. يمكنها أن ترحل إن شاءت فهو لا يملكها.. وجدت نفسها تجلس مرغمة.. يبدو أن العمل في هذه المؤسسة مازال حلمًا يراودها.. من المحال أن تكون لهجته المستبدة هي ما أرغمتها على طاعته.. ولا أيضًا ضحكته الساحرة.
- حسنًا.. في أي قسم تريدين العمل؟
- كنت أتمنى أن تقرأ الملف الخاص بي.. لا يمضي عام واحد بلا خبرات جديدة أضيفها إليه.
- ممتاز.. سوف أطلب من الآنسة تهاني أن تقرأه جيدًا وتقدم لي تقريرًا شاملًا بكل ما جاء فيه.
تنهدت مستسلمة فأردف:
- والآن اخبريني بالقسم الذي يناسبك.
أجابته بلا تردد:
- قسم الحسابات.
بدا وكأن الأمر قد أزعجه قبل أن تومض عيناه ببريق لم تفهمه قائلًا:
- كما تشائين.. سأحقق رغبتكِ.
مهما فكر في عقاب لها على وقاحتها وطريقتها المزعجة في الحديث معه ما وجد عقاب أكثر قسوة من عملها في هذا القسم.. سيزود كل الأقسام بكاميرات مراقبة تتيح له تتبعها عن بعد.. ليته فعل هذا الأسبوع الماضي.. أو حتى أمس فقط.. كم هو في شوق لمراقبة صراعها مع عبد العظيم.. ترى كيف سيكون استقباله لها..؟! كيف ستمضي أيامها معه..؟ كم يومًا يجب أن تتحمله قبل أن تعود إليه خاضعة تبكي ندمًا وألمًا وتطلب منه نقلها إلى أي قسم آخر يفضله لها.. شرط أن يكون بعيدًا عن عبد العظيم..؟
ضغط متشفيًا على زر في مكتبه.. قال في هدوء:
- آنسه تهاني.. أحضري أوراق القيام بالعمل.. بلغي عبد العظيم بوجود موظفة جديدة في قسم الحسابات ستبدأ العمل معه ابتداء من الغد.
بدت أكثر تهذيبًا الآن وهي تبتسم قائلة:
- إكرامًا لـ مازن؟
التمعت عيناه قائلًا:
- بل إكرامًا لكِ هذه المرة.
هل أصبح رقيقًا فجأة أم أنه يفكر في حيلة جديدة يثأر بها منها..؟ هذا البريق العجيب في عينيه يثير ريبتها.
ربما كان عليها أن تقرأ العقد مرة أخرى قبل أن توقع بالقبول.. هناك شرط خاص وضع خصيصًا للمشاكسين أمثالها.. شرط يستطيع بموجبه أن يستنزفها ماليًا ومعنويًا قبل أن يطردها من مؤسسته شر طردة.. سوف يحمي مازن من شرها رغمًا عن مازن نفسه.
وقعت في سذاجة الأطفال.. لا تبدو على أي قدر من الذكاء..!
لم تتردد وتعيد قراءته حتى عندما أثار ريبتها بقوله:
- هل قرأت العقد جيدًا؟
أجابته واثقة:
- نعم أدهم بك.. أشكرك.. سوف أكون في قسم الحسابات في الصباح الباكر.



التعديل الأخير تم بواسطة Moor Atia ; 20-11-20 الساعة 03:48 PM
noor1984 غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 19-11-20, 07:48 PM   #4

noor1984

مشرفة منتدى قلوب احلام وأقسام الروايات الرومانسية المترجمةوقصر الكتابة الخياليّةوكاتبة،مصممة متألقة بمنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية noor1984

? العضوٌ??? » 309884
?  التسِجيلٌ » Jan 2014
? مشَارَ?اتْي » 23,038
?  نُقآطِيْ » noor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond repute
افتراضي



-3-

حياة بلا روح


في صباح اليوم التالي كانت إلهام تتأمل نفسها أمام مرآتها في زهو.. فهي اليوم امرأة مختلفة تمامًا عن تلك التي أثارت سخريته أمس.. نظراته إليها ما زالت تزعجها.. أخبرها صراحة أنها لا تروق له.. قالها بملءِ الفم.. غير عابئ بمشاعرها ولا بأنوثتها..!
يا له من فظ غبي غليظ المشاعر.. هي أيضًا أخبرته بأنه لم يرق لها.. كانت كاذبة تدافع عن نفسها وتصد هجومه العنيف عليها.. هل هو أيضًا كاذب..؟ هل كانت عبارته رد فعل لعبارتها..؟ هل كان يدافع عن نفسه كما فعلت..؟
يبدو أن هذه المؤسسة تُغالي كثيرًا في اهتمامها بالمظهر.. الكرة في ملعبها الآن وهي تجيد اللعب.. سوف تبهرهم.
- صباح الخير يا حبيبتي.
استدارت إلهام تحتضن والدتها بوجه متهلل قائلة:
- صباح الخير يا أمي.. ما رأيك في مظهري اليوم؟
- جميلة وأنيقة جدًا.. كأنك ذاهبة لموعد غرامي وليس لاستلام عملك الجديد.
- هذا الموعد أهم كثيرًا من كل المواعيد الغرامية.
صاحت والدتها مستنكرة:
- كيف هذا..؟ يستطيع والدك تدبير كل ما تريدينه من نقود.. أما العريس فوحدكِ من تستطيعين تدبيره.. لو كان الأمر بيدي....
ضحكت إلهام قائلة:
- اطمئني يا أمي العزيزة.. سوف أتدبره في الوقت المناسب.
- ومتى سيأتي هذا الوقت؟
ودعتها بقبلة في الهواء قائلة:
- عندما أشعر بحاجتي إليه.
أردفت في رجاء وهي تغلق الباب:
- ما أحتاجه الآن هو أن تكرري دعواتك لي بالتوفيق كلما رفعت وجهك للسماء.

*****
طرقات كعبها العالي داعبت أرضية الطابق الثالث في نعومة وكأنها أصابع سحرية لعازف ماهر فوق أوتار آلة موسيقية ضخمة.. استدارت الوجوه نحوها تتبسم استحسانًا وطربًا.. ضحكت في لامبالاة وهي تلوح لهم وكأنها تعرفهم منذ زمن.. تشجعت السنتهم تسألها عن وجهتها.. فغمزت في دلال مشيرة إلى قسم الحسابات.
عطرها الثمين سبقها إلى القسم الذي تقصده ليخبر بوجود امرأة مميزة.. بخطوات بطيئة دلفت إلى غرفة كبيرة امتلأت بالمكاتب الحديدية التي جلس خلفها عدد من الموظفين بوجوه كالحة لم تعانق الشمس منذ زمن.. تعجبت كون هذا القسم جزء من مؤسسة الشربيني التي لطالما حلمت بالعمل فيها.. هل هؤلاء البائسون هم من حلمت بالعمل بينهم..؟ هم زملاء المستقبل؟!
ابتسمت مرغمة عندما لاحظت أنهم أيضًا يحدقون فيها.. وكأنهم سينقضون عليها بعد قليل.. همست في عذوبة لم يعتدوها:
- صباح الخير.
تأملها عبد العظيم في بلاهة قبل أن ينهض قائلًا:
- صباح الخير يا سيدتي.. كيف يمكنني مساعدتك؟
تذكرت طريقتها الخجولة أمس وهي تعلن عن شخصيتها.. تلك التي جعلته يهزأ بها.. كم مرة راح ينظر في الأوراق أمامه ليتذكر اسمها..؟! ظل يناديها بالآنسة طوال الوقت.. عليها أن تكون أكثر قوة الآن.. عليها أن تجعل من اسمها علامة لا تنسى.. بصمة لا تتكرر.
أجابته بصوت مدلل ملأه الغنج:
- إلهام صبري.. موظفة جديدة بالقسم.
استراح جالسًا دون أن يرفع عينيه عنها.. ظل يتأملها في دهشة أقرب إلى الصدمة قبل أن يقلب في الأوراق أمامه ويهتف:
- نعم.. أعلموني بهذا.. ولكن......
- ولكن ماذا؟
هز رأسه وكأنه يحاول التحرر من تأثيرها الطاغي:
- لماذا قسم الحسابات؟
تصنعت الغضب قائلة:
- ألا تريدني أن أعمل معكَ؟
ابتلع ريقه قائلًا:
- السكرتارية أو العلاقات العامة.. كانا أفضل لكِ كثيرًا.
- عرضوا عليَ بالفعل العمل في فريق السكرتارية الخاص بـرئيس المؤسسة ولكنني رفضت.
- رفضتِ العمل ضمن السكرتارية الخاصة بـ أدهم بك؟!
- نعم.
تأملها في شك فأردفت وهي تهمس وكأنها تغازله:
- وفضلتُ العمل معكَ أنتَ في هذا القسم.
كتمت ضحكتها بصعوبة وهي تراه يجاهد للحفاظ على توازنه أمامها قبل أن يتصنع الخشونة قائلًا:
- إن كنتِ تظنين أن هذا القسم للترفيه.. أو أنني أقل التزامًا من أدهم بك فأنت مخطئة.
- إطلاقًا يا عبده بك.. أنا أعشق الالتزام.
- اسمي عبد العظيم بك.
- حسنًا.. يسعدني العمل معك عبد العظيم بك.
تسمرت عيناه فوق قسماتها طويلًا قبل أن ينتبه إلى همهمات المحيطين به وابتساماتهم المغرضة.. تنحنح عابسًا وازداد صوته خشونة وهو يقدم لها ملف من الملفات التي تراصت أمامه قائلًا:
- حسنًا يا آنسة.. أظهري لنا مهارتك في مراجعة هذه الحسابات.. عليكِ الانتهاء منها قبل موعد الانصراف.. قبل الثالثة مساء.
- أمركَ عبد العظيم بك.. أين مكتبي؟
أشار بيده:
- ها هو.. أحضره عامل النظافة أمس.
تأففت في أنوثة عندما هالها كم الغبار الذي يغطي المكتب.. أعادت إليه الملف قائلة:
- هل احتفظت بهذا الملف قليلًا من أجلي.
أخرجت من حقيبتها علبة كبيرة من المناديل الورقية كانت قد أحضرتها معها لتضعها فوق مكتبها.. استهلكت معظمها في تنظيف المكتب وما تبقى منها بالكاد أفلح في تنظيف الكرسي حيث ستجلس.. فتحت حقيبتها من جديد لتخرج زجاجة من العطر الثمين وتطلق منه بخات سخية لتعطرهما.. اتجهت بعدها لتأخذ منه الملف.. تحولت ابتسامتها الناعمة إلى ضحكة مجلجلة عندما لاحظت أنه مازال ممسكًا بالملف بين يديه وكأنه يخشى أن يصيبه الغبار فوق مكتبه رغم أن الساعي يحرص على تنظيفه بانتظام دون سائر المكاتب الأخرى خوفًا من بطشه ولسانه السليط.
همست في غنج وهي تتناوله منه:
- شكرًا عبده بك.
غمغم بصوت متحشرج:
- أخبرتك سابقًا.. اسمي عبد العظيم.
- شكرًا عبد العظيم بك.
جلست أخيرًا.. مررت أصابعها في خصلاتها اللامعة عدة مرات وكأنها تعيد ترتيبها من جديد.. ابتسمت للوجوه التي تحدق فيها وكأنها إحدى المخلوقات الفضائية.. أو ربما ظنوها قد هربت للتو من مشفى للأمراض العقلية.. اتسعت ابتسامتها قائلة في مزيد من الاستفزاز:
- نسيتُ مرآتي في الحقيبة الأخرى .. هل مظهري مازال بخير؟
ضحك بعضهم ملء فمه واكتفى آخرون بابتسامة مرحة وهز بعضهم رأسه بابتسامة مستنكرة لا يصدق ما تفعله.. لم يزعجها سوى تلك النظرة العدائية التي طلت من عيني إحدى زميلاتها قبل أن تنحني فوق أوراقها التي تعمل بها وهي تتمتم ساخطة بكلمات لم تفهم إلهام منها شيئًا.
لم يكن ينقصهم سوى وجود هذه المعتوهة المرفهة.. وكأنهم في حاجة إلى المزيد من الاستفزاز.. ها هي قد بددت حتى الآن ما يقارب أجر يوم كامل ولم تبدأ العمل بعد.. إن لم تكن في حاجة إلى النقود فلماذا أتت للعمل معهم في هذا القسم البغيض وتحت إشراف عبد العظيم..؟!
هتف عبد العظيم ساخطًا:
- يا آنسة إلهام.. عليكِ الانتهاء من مراجعة هذا الملف قبل الثالثة.
ازدادت نظراته سخطًا عندما نظرت إليه في لامبالاة وأمسكت بحقيبتها من جديد.. ترى ما الذي ستخرجه منها هذه المرة..؟
أطربها أنه لم يكن وحده الذي يراقبها.. ابتسمت وهي تخرج آلتها الحاسبة الصغيرة لتبدأ عملها في حماسة ونشاط أصابهم بالدهشة.
ساد الصمت طويلًا.. لم يكن يعكره سوى زفرات الضيق التي تنبعث من حناجرهم تباعًا لتزيد من وطأته وطغيانه.. لم تدر كم من الوقت مضى قبل أن ترفع رأسها عن أوراقها وتحرك ذراعيها في تمرين خفيف لاستعادة حيويتها.
تجولت نظراتها في القاعة الكبيرة التي ضمتها مع زملائها الجدد.. كانوا سبعة من الرجال وخمس نساء هي السادسة بينهن.. يرأسهم عبد العظيم ذو الصلعة اللامعة والكرش الكبير الذي تدلى أمامه وكأنه حامل في شهرها التاسع.. يبدو متسلطًا عنيفًا ولكنها على يقين بأنه سيسقط سريعًا ويعلن هزيمته.
الوجوم.. كان الصفة الوحيدة التي تجمعهم وكأنه وباء تفشى بينهم.. لولا ذكرياتها الجميلة التي حملتها معها من لندن.. حيث عملت من قبل في قسم الحسابات مع زوج شقيقتها.. لانتقل وجومهم إليها.. عندما اختارت العمل في قسم الحسابات هذا كانت تظنه لا يختلف عن ذاك.
رفع أحدهم رأسه وابتسم لها ولكنه ما لبث أن تأوه في ألم عندما لكزته إحدى زميلاته ساخطة وهي توجه لها نظرة نارية وكأنها تحذرها.. يبدو أن بينهما علاقة ما.. لكنهما ليسا خطيبين.. لا يرتدي أي منهما خاتمًا للخطبة.. عاشقان هما إذًا.. أخذت نفسًا عميقًا واستنشقت أخيرًا رائحة الورد بين الأشواك.
- كم مرة يجب أن أخبرك بأن تنتبهي لعملك.. مازال اسمك بالقلم الرصاص.. يمكنني الاستغناء عن خدماتك يا آنسة.
صاح فيها عبد العظيم محذرًا.. لاحظت بعض الشماتة في عيون زميلاتها بينما هتف أحدهم:
- رفقًا بها يا أستاذ عبده.. فهو اليوم الأول لها في القسم.
نظر إليه عبد العظيم وازداد صراخًا:
- اسمي الأستاذ عبد العظيم يا سعيد أفندي.. ولا شأن لك أنت بهذا الأمر.. من الأفضل أن تنتبه لعملك.
ابتسمت لزميلها في امتنان قبل أن تنهض وتتجه إلى حيث جلس عبد العظيم ساخطًا متوعدًا.. قدمت له الملف قائلة:
- تفضل عبده بك.
- ما هذا؟
- الملف الذي تريده.
نظر في ساعته قائلًا:
- مازالت الواحدة.. أمامك ساعتين.. سوف أمنحك فرصة أخرى.
- لست في حاجة إلى فرصة أخرى.
- ماذا؟
- لقد أنهيت عملي.
شعر ببعض الإحباط قائلًا:
- هل مللت العمل معنا بهذه السرعة؟
ضحكت في دلال قائلة:
- كلا بالطبع.. بل أنهيت العمل الذي طلبته مني.. راجعت الملف وكتبت لكَ تقريرًا عما جاء به.
تأملها في شك قائلًا:
- بهذه السرعة.. راجعيه مرة أخرى.. الأخطاء في هذا القسم لا تغتفر.. وقلبي يحدثني بأنه مليء بالأخطاء.
اقتربت منه وهمست في نعومة كادت أن تفقده وعيه:
- طمئن قلبك يا عبده بك.. ها هو.. يمكنك مراجعته بنفسك.
ابتسمت في ثقة عندما مسح عدسات نظارته الطبية عدة مرات بمنديل كبير من القماش قبل أن يتناول منها الملف ويدقق في الأرقام والنتائج التي دونتها بحثًا عن الأخطاء بها ولكنه رفع رأسه أخيرًا ليحدق فيها بإعجاب قائلًا:
- رائع يا آنسة إلهام.. لا يوجد خطأ واحد.. خطك جميل ومنسق لا يحتاج إلى نسخة مطبوعة على الحاسوب.. مرحبًا بكَ في قسم الحسابات.
نظر إلى الابتسامة التي ملأت شفتيها وأردف:
- كنتُ أظن أن اهتمامك بجمالك وأنوثتك هما أقصى ما تستطيعين فعله.
- هل أعتبر هذا غزلًا عبده بك؟
تنحنح عبد العظيم مستنكرًا قبل أن يضحك ضحكة طويلة شاركه فيها كرشه الضخم مما زادها طربًا ومرحًا وجعلها تشاركه الضحك هي أيضًا.
تحولت نظرات الشماتة التي رأتها منذ قليل إلى نظرات حاسدة.. منذ متى كان عبد العظيم يتحدث بمثل هذه الحماسة والإعجاب.. لا يتذكرون أنه ضحك هكذا من قبل.. هل عملها رائع بالفعل أم أنها سلبته عقله بدلالها وخلاعتها..؟ عجبًا لم يكن هذا ظنهم به.. كانوا يظنونه أكثر وقارًا واحترامًا رغم عدم اتفاقهم معه.
*****
في صباح اليوم التالي وصلت إلهام إلى عملها مبكرة.. طلبت من عامل النظافة أن يغير مكتبها بآخر أفضل حالًا.. يفضل أن يكون من الخشب.. كهذا الذي يجلس عليه عبد العظيم.. طلبت منه أيضًا أن ينظف الغرفة قبل أن يأتي بقية الزملاء.. لا مشكلة إن استعان بأحد زملائه.. وضعت في قبضته مبلغًا سخيًا.
لم تكن نقودها وحدها هي ما أغراه لينفذ كل ما طلبته منه.. بل تلك الابتسامة العذبة واللهجة المدللة التي تتحدث بها.. نظر أخيرًا إلى عمله في رضا قائلًا:
- ما رأيك الآن يا أستاذة..؟
- سلمت يداكم.. لا أدري كيف أشكركم؟
- ستعود الحياة لهذا القسم بوجودك فيه.
- ماذا تعني؟
- لا عليك.. كان الله معك.
بالكاد تركها وانصرف عندما أقبل عبد العظيم وتطلع إلى ما حوله ساخطًا قبل أن يهتف:
- عمال النظافة في حاجة إلى توبيخ وتأديب.. سوف أكتب تقريرًا عنهم وأقدمه بنفسي لأدهم بك.
تطلعت إليه في دهشة قائلة:
- لماذا..؟ ألا ترى أن المكان صار أفضل كثيرًا؟
- بلى.. المشكلة يا آنسة هي كونهم لا يقومون بواجبهم إلا لمن يدفع لهم وكأنهم لا يأخذون أجرهم بالفعل نظير عملهم هنا.. كم دفعت له حتى ينظف المكان بهذا النشاط؟
- هو لم يطلب مني شيئًا.
- ولكنك دفعت له.
- من قبيل المساعدة ليس أكثر.. فهو عامل فقير.. مهما بلغ راتبه لا أظن بأنه يكفيه للحصول على بعض الترفيه.
- ترفيه.. ومن منا يحصل على الترفيه حتى يحصل هو عليه..؟ أنت مازلت في بداية الطريق.. لا مسئولية عليك ولا حمل يحني ظهرك.. عندما تتزوجين وتنجبين أطفالًا سوف تدركين معنى ما أقوله لك.
وصل بقية الزملاء واحد تلو الآخر قبل أن يغلق عبد العظيم دفتر الحضور.. أزعجتها تلك النظرات اللامبالية.. وكأن الأمر لا يعنيهم.. لا كلمة شكر واحدة رغم أن عبد العظيم صرح أمامهم.. بنبرة متهكمة.. بأنها منحت العامل نقودًا لينظف لهم الغرفة.
زاد من سخطها ذات النظرة العدائية حين قالت:
- لماذا مكتبك مختلف عن مكاتبنا.. هل تظنين نفسك أفضل منا؟
أجابتها إلهام بلهجة باردة:
- اطلبي من العامل أن يحضر لك مكتبًا مثله.
- ليس معي ما يزيد عن حاجتي لأدفع له.. أمثالك هم من جعلونا سلعًا لكل منا ثمن.. صار بعضنا أرخص حتى من ملابسه التي تستره.
تطلعت إليها إلهام ساخطة.. أكثر ما كان يغضبها هو أن يحمل أحدهم الآخرين نتيجة فشله الخاصة.. هذه المرأة تثير جنونها وتشعل مشاعرها.. لا شك أن حياتها مظلمة.. يكفي أنها تنظر في مرآتها بهاتين العينين السوداويتين.
رفعت رأسها في كبرياء قائلة:
- احتفظي بعُقدك لنفسك.. ولا تتحدثي معي بهذه الطريقة مرة أخرى.
استشاطت المرأة غضبًا وهمت أن تجذبها من شعرها الذي تتباهى به لولا تدخل عبد العظيم الذي صرخ فيها:
- أستاذة فاتن.. ما هذا الذي تفعلينه هل جننت؟
هتفت بلا وعي:
- أنا من جننت..؟ أم أنتَ من فقد عقله منذ وصولها؟
صرخ في هيستيريا:
- خصم ثلاثة أيام من حافزك.. وإن لم تعودي حالًا إلى مكتبك سوف أكتب بشأنك مذكرة وأصعدها لمكتب أدهم بك.
تراجعت المرأة فجأة وكأنها كانت في غيبوبة واستيقظت منها.. انحنت فوق مكتبها وانهمرت في البكاء حتى شعرت إلهام بالشفقة عليها.. لم يحاول أحد من زملائها الآخرين التحدث مع عبد العظيم ليثنيه عن قراره بشأنها.. هل تحدثه هي..؟ وماذا لو أحرجها..؟ ماذا لو أحرجتها المرأة نفسها؟
فضلت الصمت وانقضت على الملفات التي وضعها عبد العظيم فوق مكتبها.. عليها أن تنتهي منها قبل الثالثة حتى لا يتفوه بكلمة لا ترضيها.. أعصابها لم تعد تحتمل.
أثنى عبد العظيم كثيرًا على عملها للمرة الثانية.. وكافأها بالمزيد من العمل حتى فقدت حماستها.
كان من القادة الذين يعرفون كيف يقتلون النجاح..!
لم يعد أحد يبتسم لها الآن.. بل تجنبوا حتى مجرد النظر إليها وكأنهم يحملونها المسئولية كاملة عن الخصم الذي تعرضت له زميلتهم.
ثلاثة أيام مضت ولا جديد.. لم تشرق الشمس بعد في هذا القسم المظلم.. وجوههم العابسة وهم يردون تحيتها لم تشجعها على بدء حوارات جديدة معهم.. لم يحدث أن أصابها يأس كهذا من قبل.. رغم تلك اللامبالاة التي حاولت أن تتظاهر بها لتداري شعورًا داخليًا بالقهر والهزيمة.
ربما من الخير لها أن تترك هذا القسم قبل أن تنتقل كآبتهم إليها.
لم تعد تحتمل حتى شعرها المسدل عندما داعبه هواء المروحة الكهربائية فكومته فوق رأسها في لا مبالاة.. لم يعد يهمها رأيهم فيها الآن.. هؤلاء القوم فقدوا قدرتهم على التذوق منذ زمن بعيد.
حانت فترة الراحة فكانت أول من غادر الغرفة وهي تتنفس الصعداء غير مبالية بصراخ عبد العظيم الذي صاح محذرًا:
- أمامكم أربعون دقيقة على الأكثر.. كل دقيقة بعدها ستخصم من حوافزكم.. لن أقبل أية أعذار.. حذار من......
يا له من متسلط كريه يكرر عبارته يوميًا بلا كلل ولا ملل.. لكن مثابرته تستحق الحسد بلا شك.. كم عام مضى وهو يكرر حديثه هذا؟!
جلست في عصبية ترتشف عصير الليمون الذي اكتفت به بعد أن فقدت شهيتها للطعام.. قسم الحسابات هذا لا يمت بصلة لقسم الحسابات الذي عملت به من قبل.
لا تكمن المشكلة في كيفية إسعاد شخص ما بقدر ما تكمن في رغبة هذا الشخص نفسه في السعادة.. وهؤلاء لا يؤمنون بوجود السعادة من الأساس بل احتفظوا بالحزن كله لأنفسهم حتى صاروا مصدرًا له.
هل ينبغي أن تعود لهذا المستبد من جديد وتطلب منه نقلها لقسم آخر.. ولكن أي عذر ستخبره به لتبرر فشلها هنا..؟ وهل سيوافق على نقلها بلا مشاكل أم سيتوجب عليها الاستعانة بـ مازن مرة أخرى؟
لاحظت فجأة أن الكافتيريا ليست مكتظة بالموظفين كعادتها خلال الأيام السابقة.. تطلعت إلى ساعة يدها بقلق.. هل شردت أكثر مما يجب ومضى الوقت دون أن تشعر به؟
هناك حركة غير اعتيادية حولها.. لماذا كل هذه الضجة وكأن كارثة في الطريق؟!
إنه هو.. كان ينظر إليها.. تستطيع أن تقسم بأنه كان ينظر إليها رغم النظارة الشمسية الكبيرة التي تغطي عينيه وكأنه متنكر..
استبداده أكبر كثيرًا مما تخيلت.. من يكون عبد العظيم لتحمل همه إذا ما قارنته بهذا الطاغية المتعجرف؟
لم يكن يتحدث.. كان يكفيه أن يشير بيده.. بل بإصبعه.. ليختفي من أمامه ما استنكره.. نار تنطلق من خلف نظارته لتصهر كل الأشياء وأولها الهدوء والسكينة.. جاهدت كي تتوقف عن هز قدميها.. تلك الحركة العصبية اللعينة التي تلازمها منذ الصغر.. مهما حاولت إخفاء مشاعرها فلابد وأنه قد علم الآن بمدى توترها.
اقترب منها وكاد يتجاوزها ولكنه توقف فجأة أمامها.. لم تكن تريد أن تنهض عن كرسيها لولا أن ساقاها أعلنتا العصيان فوقفت رغمًا عنها.
تحركت شفتاه في كبرياء قائلًا:
- آنسة....
توقف عن إكمال عبارته وكأنه يبحث في ذاكرته عن اسمها.. هل حقًا لا يتذكره أم أنه يتصنع الجهل..؟
مضى بعض الوقت قبل أن ترفع رأسها لتبادله غطرسته قائلة:
- صديقة مازن بك.
إن كان حقًا لا يتذكر اسمها فلن يهمه أن يعرفه وإن كان يتسلى فلتتسلى معه إذًا.. هل ظهرت غمازتيه حقًا أم كانت تتوهم قبل أن يقول في خبث:
- أرجو أن تكوني سعيدة في قسم الحسابات.
الشيء الذي لا يمكن أن تخطئه عيناها هذه المرة هو ذلك البريق الذي طل من عينيه وهو يخبرها بأنه سيوظفها في قسم الحسابات إكرامًا لها.. لم تفهمه حينها.. ولكنها الآن أيقنت بأنه يعاقبها على مجادلته.. ينتقم منها لأنها تمردت على الحسنة التي قدمها لها بالعمل في طاقم السكرتارية الخاص به.. كان يعلم بالموت البطيء الذي يصاب به كل من يعمل هنا..
فما الذي ينتظره منها الآن؟
حسنًا.. سوف تموت في قسم الحسابات ولن تذهب إليه تطلب الرحمة.
بادلته كبرياءه قائلة:
- سعيدة جدًا.. أشكرك على كرمك.
تأملها متفحصًا وما لبث أن أكمل طريقه في تفقد المؤسسة.. قاومت رغبة مجنونة دعتها لنزع نظارته حتى تتمكن من رؤية عينيه بوضوح علها تصرح بشيء لم تصرح به شفتاه..
تحسست شعرها بلا وعي وعاودتها تلك الرغبة الملحة في النظر إلى المرآة.. أزعجتها تلك الكومة التي جمعتها فوق رأسها بلا اهتمام.. ترى كيف تبدو..؟
لماذا تكون دائمًا سيئة المظهر عندما يراها..؟!






التعديل الأخير تم بواسطة Moor Atia ; 20-11-20 الساعة 03:56 PM
noor1984 غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 19-11-20, 07:49 PM   #5

noor1984

مشرفة منتدى قلوب احلام وأقسام الروايات الرومانسية المترجمةوقصر الكتابة الخياليّةوكاتبة،مصممة متألقة بمنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية noor1984

? العضوٌ??? » 309884
?  التسِجيلٌ » Jan 2014
? مشَارَ?اتْي » 23,038
?  نُقآطِيْ » noor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond repute
افتراضي



4- رأسًا على عقب ..!

عادت إلى منزلها ساهمة واجمة.. أكثر ما كان يزعجها هو المظهر البائس الذي رآها به.. تفحصتها والدتها في قلق وما لبثت أن تبعتها إلى غرفتها وداعبت شعرها في رفق قائلة:
- ماذا بكِ يا حبيبتي؟
تصنعت ابتسامة قائلة:
- أبدًا يا أمي.. أنا بخير.. فقط مرهقة من ضغط العمل.
- لماذا لا أصدقك؟
- أمي.. لا تضخمي الأمور.
تأملتها والدتها في شك قبل أن تربت على ظهرها قائلة:
- حسنًا.. بدلي ملابسك وتعالي لنتناول الطعام.. والدك في انتظارك.
تصنعت ابتسامة عندما أعاد والدها على مسامعها العبارة ذاتها وهو يسألها عن سبب تغيرها.. هل ضيقها واضح لهذا الحد؟!
- أنا بخير يا أبي.. كل ما في الأمر أن قسم الحسابات هنا يختلف كثيرًا عن القسم في لندن.
ابتسم والدها في ارتياح قائلًا:
- أهذا كل ما يزعجك.. من الطبيعي يا ابنتي أن تختلف التكنولوجيا بين البلدين وربما أسلوب التعامل أيضًا.. ولكنكِ ستتأقلمين مع عملك الجديد بمرور الوقت.. غدًا أفضل بإذن الله.
اتسعت ابتسامته وهو يشير إليها قائلًا:
- هل نسيتِ شعارنا؟
ضحكت قائلة:
- إن لم تجد السعادة فاوجدها.
ضحك ثلاثتهم في مرح نسيت معه يومها الشاق.. ملفات عبد العظيم التي أحنت ظهرها اليوم كله.. وصياحه المزعج الذي لا يتوقف أبدًا.. وجوههم العابسة التي تقبض الأنفاس.
شيء واحد بقي عالقًا في مخيلتها وأبى أن يفارقها...
نظراته التي لم تكشفها نظارته الداكنة وهو يتطلع إليها بهذه الكومة من الشعر فوق رأسها.
سألتهم في مرح:
- ماذا ستفعلان الشهر القادم؟
تظاهر والدها بالعبث في طبقه قائلًا:
- ماذا تقصدين؟
ضحكت قائلة:
- أنت تعلم ما أقصده.. هل حجزت في الرحلة التي حدثتني عنها؟
- كلا.
- لماذا..؟ كيف ستحتفلان بعيد زواجكما إذًا؟
- ما زال الوقت مبكرًا.
- تبقى أقل من أسبوعين.
- سنكتفي باحتفال صغير هنا في المنزل.
- وماذا عن رحلة شرم الشيخ؟
- لن نستطيع تركك بمفردك.
- أبي لا تجعلني أشعر بالذنب.. أنا كبيرة بما يكفي ويمكنني الاعتناء بنفسي فلا تعطلا سعادتكما من أجلي.
ابتسمت والدتها قائلة:
- تزوجي إذًا حتى نكف عن القلق بشأنك.
- أمي.... أنا لا أمزح.
- ومن قال بأنني أمزح.. أنا أتحدث جديًا وعليكِ أن تفكري بالأمر.. ربما شعورك بالذنب لأجلنا يصبح حافزًا لزواجك.
- أبي.. قل أنتَ شيئًا.. قل أنك ستحجز في هذه الرحلة في أقرب فرصة.
- والدتك محقة.. تزوجي أولًا وبعدها...
أمسك بيد زوجته في حب وأردف:
- سوف أبدأ مع حبيبتي عهدًا جديدًا.. شهر عسل لا ينتهي.
تنحنحت قائلة:
- عندما أجد رجلًا مثلك سأتزوجه في لحظتها.
نهرها قائلًا:
- كوني أنتِ في وداعة أمك وعذوبتها أولًا.. وستجدين الأفضل مني، المشكلة ليست في الرجال.. بل في رأسك العنيد هذا.
*****
- ماذا تفعلين يا آنسة؟
- كما ترى.. أعلق المرآة.
نهض عن كرسيه وصرخ فيها:
- مرآة.. هذه المرآة تضعينها في درج مكتبك.. أو ربما من الأفضل أن تخفيها في حقيبتك.
- لماذا يا عبده بك؟
قال ساخطًا وهو ينزع المرآة من فوق الجدار:
- لأن هذا ممنوع.. لا يليق.. نحن نعمل في قسم الحسابات.. في مؤسسة لها مكانتها.. لسنا في محل "كوافير" يا آنسة.
تظاهرت بالغضب وهي تضع المرآة في درج مكتبها قائلة:
- أنا المخطئة.. كنت أريدكم أن تشاركوني فيها ولكن يبدو أن لا نصيب لكم.. على كل منكم أن يأتي بمرآة خاصة به.
قال عبد العظيم ساخرًا:
- وما حاجتنا للمرآة؟
طأطأت بشفتيها في استنكار قائلة:
- المظهر ضروري جدًا عبده بك.
ظل يحدق بها في بلاهة بينما تابعت في دلال وهي تتفحصه من رأسه حتى قدميه:
- أنتَ مثلًا.. رئيس قسم لكَ مكانتك.. أنت وجهتنا وعنواننا عبده بك ولكن...
مطت شفتيها صامتة فصاح غاضبًا:
- ولكن ماذا يا آنسة..؟
- شعرك.. شاربك.. ملابسك...
جن جنونه فقال هازئًا وهو يتحسس صلعته:
- غدًا سأضع باروكة وأحلق شاربي.. سأبحث عن قميص مشجر أو ربما وردي اللون أو أحمر قرمزى و شورت و.........
قاطعته بضحكة طويلة وهي تتخيل منظره كما وصف نفسه.. أسعدتها تلك النوبة من الضحك التي انتابت القسم كله.. حتى فاتن.. تلك العدوانية الكئيبة.. لم تنجح في كتم ضحكتها.. عبد العظيم نفسه كاد أن يبتسم..!
نعم... سوف تحرر هذا القسم من عبوديته للحزن والكآبة.. لن تذهب إليه ذليلة خاضعة تطلب رحمته وترجوه أن يكرر إحسانه ويعرض عليها العمل في سكرتارية سيادته.. لن تحقق له هدفه أبدًا.. هذا المتعجرف الذي لا يعترف بها ولا بقدراتها غير العادية التي منَّ الله عليها بها.
تمكنت أخيرًا من السيطرة على انفعالاتها بينما هو يراقبها ساخطًا دون أن يرفع عينيه عنها.. تمادت في دلالها حتى بلغت الوقاحة عندما امتدت يداها إلى عنقه لتضبط ياقة قميصه قائلة:
- أولًا.. أنتَ تحتاج إلى ربطة عنق فاخرة تليق بمركزك الكبير.. شاربك يوحي برجولة طاغية ولكنه يحتاج إلى تهذيبه قليلًا ليصبح أقل وحشية.. أما صلعتك فهي دليل على عبقريتك ونبوغك وعليك الاهتمام بها.
ابتلع ريقه بصعوبة قائلًا:
- وكيف يمكنني الاهتمام بها من وجهة نظرك؟
- بالكريمات.. وخاصة تلك المضادة للشمس.. سوف تحفظها وتجعلها تضوي.. ستكون مرآة لنا جميعًا في القسم عبده بك.
تعالت ضحكاتهم هذه المرة واستمرت طويلًا قبل أن يفيق عبد العظيم من غفوة المراهقة التي سقط فيها ويخشن صوته قائلًا:
- حسنًا.. نلنا من الضحك ما يكفي شهرًا كاملًا.. علينا أن نبدأ العمل الذي نأتي إلى هنا لننجزه ومن أجله نحصل على رواتبنا وحوافزنا.. هل كلامي واضح يا آنسة؟
في منتصف النهار جاء بعض العمال إلى القسم يحملون عددًا من النباتات والزهور.. استقبلتهم إلهام في سعادة قائلة:
- وصلتم أخيرًا.. ضعوا كل أصيص بين مكتبين.. أريد واحدًا هنا.. بجوار الشباك خلف مكتبي.. وواحدًا من الجهة الأخرى أيضًا..
نظرت إلى فاتن مبتسمة وهي تصيح في أحد العمال:
- ضع أصيصًا بجوار مكتب الأستاذة فاتن.
رفعت فاتن رأسها نحوها.. لم تبادلها ابتسامتها ولم تتفوه بكلمة شكر واحدة كعادتها.. ولكن نظراتها لم تكن عدوانية هذه المرة..
انصرف العمال فهتف عبد العظيم وكأنه كان ينتظر رحيلهم بصبر نافد:
- يا آنسة.. من سيدفع ثمنًا لكل هذا؟
قالت في لامبالاة:
- أنا.
تطلعوا إليها في دهشة واستنكار.. هذه النباتات لابد وأنها تكلفت الكثير من النقود.. ما يقرب من أجر شهر كامل.. كانت نوعًا من الترفيه والرفاهية خارج نطاق اهتمامهم وحاجاتهم.. لم تكن ولن تكون إطلاقًا ضمن أولوياتهم.. هذه الفتاة مجنونة بلا شك ولكن من الظلم أن تتحمل ثمنها كاملًا بمفردها..
قال أحدهم وهو ينظر إلى بقية زملائه في تردد:
- ربما علينا مشاركتك يا أستاذه إلهام.
عاد يتطلع إلى زملائه في تمعن وأردف:
- الأمر ليس إجبارًا على أحد بالطبع.. من يريد المساهمة فـ............
قاطعه عبد العظيم وهو ينظر إلى إلهام قائلًا:
- لم نكن في حاجة لهذه الرفاهية.. لدينا أولويات أهم كثيرًا لننفق فيها أموالنا.. تكفينا متطلبات أطفالنا ومصروفات مدارسهم التي لا تنتهي.
ضرب كفًا بأخرى وأردف مستنكرًا:
- وكأننا لا نجد ما ننفق فيه أموالنا الزائدة..!
تطلعت إلهام إليهم قائلة:
- أنا لم أطلب نقودًا من أحد.. سوف أدفع التكلفة كاملة.. اعتبروها هدية من زميلة جديدة معكم في القسم.. عربون صداقة.
حدق فيها عبد العظيم قائلًا:
- أنا لا أصدق.. لا أستوعب ما تقومين به.. لماذا تكلفين نفسك عناء العمل مادمتِ لستِ في حاجة إلى نقود..؟ أنفقت راتبك قبل أن تحصلي عليه.. ماذا أقول عنك..؟!
زفر بضيق وهو يخرج حافظة نقوده قائلًا:
- حسنًا.. سوف نتقاسم المبلغ سويًا.. إلا إن كان لأحدكم ظروف خاصة تمنعه من المشاركة.. الأمر ليس إجباريًا كما قال أستاذ أحمد.
صمتت وهي تتأملهم في انفعال.. فهم ليسوا بالسوء الذي توقعته.. هم فقط في حاجة ماسة إلى النقود.. ها هي فاتن أيضًا تعبث في حقيبتها لتخرج بعضًا من نقودها للمشاركة معهم.. لم تكن متذمرة ولا حانقة.
صاحت بهم فجأة:
- مهلًا.. أنا....
قاطعها عبد العظيم في صرامة:
- كلنا سنشارك هذه المرة ولكن حذار أن تفعليها مرة أخرى.. سوف نتركك حينها تتحملين التكلفة كاملة بلا وخزة ضمير واحدة.
- أنا ممتنة لكم.. وسعيدة أيضًا.. سعيدة جدًا.. ولكن الأمر لم يكلفني كثيرًا كما تتخيلون.. هذه النباتات كلها جمعها العمال من حديقة المؤسسة.
اتسعت عيونهم دهشة وهم يحدقون فيها فأردفت:
- كانت مكدسة بلا اهتمام يذكر خلف المبنى الرئيسي.. رأيتها وأنا أتفقد المكان مصادفة.. فأوصيت العمال بجمعها ونقلها إلى هنا..
- وماذا عن النقل والمزهريات الجديدة؟
- هذا هو كل ما تكلفته.
- كم دفعت؟
عندما أخبرته عن الثمن الزهيد الذي دفعته للعمال هز رأسه قائلًا:
- حسنًا يا رجال يمكننا نحن تحمل هذه النفقات دون أن نكلف النساء شيئًا منها.. فقط سيكون عليهن الاعتناء بها حتى لا تذبل.
نظر إلى إلهام وأكمل:
- بما فيهن الآنسة إلهام أيضًا.
همت أن تعترض قائلة:
- ولكن.........
- يكفي أنكِ صاحبة الفكرة.
كأنه شعر بالخجل من كثرة تحديقهم به فعاد يهتف:
- ولو أنني مازلتُ أتساءل.. ما جدوى هذه النباتات في القسم؟!
هتفت إلهام في حماسة:
- إنها حياة جديدة عبده بك.. روح خصبة خضراء أرجو أن تشملنا بالخير وتملأ نفوسنا بالبهجة.
صاح في توتر:
- كم مرة أخبرتك أن تناديني عبد العظيم..؟!
تطلعت إليه في دلال وما لبثت أن ضحكت في عذوبة شاركها فيها كل من بالقسم حتى عبد العظيم نفسه...
*****
مرت أيامها التالية أكثر دفئًا.. لم يكن عبد العظيم وحده هو من يرتدى رابطة عنق الآن.. معظم الرجال في القسم أصبح مظهرهم أكثر رقيًا وتحضرًا.. النساء أيضًا بدأن في الاهتمام بمظهرهن مع بعض التحفظ.. القسم الآن مختلف كثيرًا عما كان عليه منذ أيام قليلة.
- لم يكن عهدكِ البخل يا إلهام.
رفعت عينيها إلى عبد العظيم في تساؤل فأردف قائلًا:
- ارفعي صوت الموسيقى قليلًا حتى نستمتع بها نحن أيضًا.
أمسكت بالمسجل الصغير الذي أحضرته معها والذي اعتادت العمل دائمًا بين الحانه الحانية.. رفعت الصوت قليلًا وهي تبتسم قائلة:
- خشيتُ أن أسبب إزعاجًا.
قال أحد زملائها مستنكرًا:
- إنها موسيقى رائعة تحفز القدرة على الأداء.. ألستم معي يا رفاق؟
شعر عبد العظيم بالدهشة وهو يراجع الأعمال التي قام بها مرؤوسيه.. من أين لهم بهذه السرعة والدقة..؟ أخطاؤهم التي اعتاد أن يجدها تملأ حساباتهم تكاد تكون منعدمة الآن.. هو أيضًا لم يعد متذمرًا.. ساخطًا كما كان من قبل.. هو الآن هادئ سلس متفهم إلى حد كبير.
وإن كان لا يزال يقدس الروتين كعهده دائمًا.. خاصة فيما يتعلق بمواعيد العمل الرسمية.
هل الموسيقى حقًا هي ما حفزت قدرتهم على الأداء وساعدتهم في إتقان عملهم.. أم أن هناك روحًا جديدة في المكان؟ وأية روح هذه..؟ روح النبات الأخضر كما أخبرته أم روحها هي؟
*****
تقدم أحدهم ليحمل عنها الكرتونة الكبيرة التي تحملها قائلًا:
- ما هذا يا إلهام.. ألدينا احتفال؟
- نعم.
- أهناك عريس في الطريق؟
ضحكت قائلة:
- العريس كان ليلة أمس في منزلنا.
صاحت إحدى صديقاتها مُهللة:
- هل تمت خطبتكِ؟
- ليس بعد.. احتفل والداي ليلة أمس بعيد زواجهما التاسع والعشرين.. وبما أن التورتة والحلوى كما هي لم تمس.. فقد قررت أن نعاود الاحتفال به هنا اليوم.
- رائعة.. تأتين بالمناسب في الوقت المناسب.. سأوصي عم عوض كي يأتي لنا بالمشروبات من الكافيتريا.
قال عبد العظيم في راحة لا يدري لها سببًا:
- تهانينا القلبية لوالديك مع أمنياتنا لهما بالسعادة الدائمة.. ولكن اسرعوا في التهام الحلوى.. لدينا عمل إضافي.
- اليوم أيضًا؟
- نعم.. خاص بالفرع الجديد الذي افتتحه أدهم بك الشهر الماضي.
أردف وهو يلاحظ بعض التذمر في قسماتهم:
- ماذا حدث ؟ وكأنكم لا تأخذون بدل العمل الإضافي ..!
كل شيء تبدل الآن.. في القسم الأخضر.. كما بات يطلق عليه الكثيرون.. لم يعد ذلك القسم المرعب الذي طالما فاض حزنًا وكآبة وتمنى معظمهم الهروب منه.. الآن تحسدهم بقية الأقسام.
مشاكلهم العائلية تناسوها حتى اختفت هي أيضًا.
فاتن وعلا ودعاء كن أكثر من تبدلت أحوالهن للنقيض تمامًا فباتوا أكثر الجميع مرحًا.. فاتن كادت أن تُطَلق الشهر الماضي لكم التعاسة والشكوى التي اعتادت أن تصحبها لمنزلها كل يوم بعد انتهاء العمل حتى ترك زوجها المنزل.. ولكنه عاد أمس فقط وطلب منها أن تغفر له.
دعاء أعلنت خطبتها لـ أحمد زميلها في القسم لتبرر اهتمامها الزائد به وغيرتها الملحوظة كلما تحدث إلى من سواها.. علا تحسنت علاقتها مع حماتها بعد إتباعها لبعض النصائح التي أوصتها بها إلهام والتي ضحت على إثرها ببعض من راتبها لتشتري لها هدايا من وقت لآخر مصحوبة ببعض الكلمات الناعمة حتى نالت الرضا من حماتها وزوجها أيضًا.. كل شيء انقلب رأسًا على عقب.
*****
تمدد فوق الأريكة الجلدية.. فرد ساقًا فوق أخرى وألصق رأسه المنهك بقبضتيه المتشابكتين محاولًا الاسترخاء قليلًا بعد عناء السفر المتلاحق لأكثر من عشرين يومًا.. طرق أحدهم باب مكتبه ودلف للداخل ما إن سمع صوته يدعوه للدخول.
- عفوًا يا سيدي.. يمكنني المجيء في وقت لاحق.
قال دون أن يفتح عينيه:
- اجلس.
- ولكنكَ وصلت للتو وتبدو.........
- هات ما عندك يا صلاح.
تفقده لفروع المؤسسة في شتى المحافظات لا يجب أن يمنعه من متابعة الأمن في الفرع الرئيسي لها مهما بدا مجهدًا.. استمع في لامبالاة إلى ما قصَّه على مسامعه مدير الأمن بالمؤسسة من أحداث طيلة فترة غيابه الشهر الماضي.. كانت في مجملها أحداثًا عادية ليست في حاجة لتدخله شخصيًا.
توقف صلاح عن إكمال حديثه وحدق في وجه أدهم بدهشة لا تخلو من القلق عندما اعتدل الأخير في جلسته فجأة ونظر إليه قائلًا:
- ماذا قلت؟
ظهر الارتباك على وجه صلاح الذي انعقد لسانه وهو لا يعرف من أين يعاود الحديث فأردف أدهم بانفعال:
- كرر جملتك الأخيرة مرة أخرى.
- كان هناك احتفال الأسبوع الماضي في قسم الحسابات.
- القسم الذي يرأسه عبد العظيم؟!
ابتسم صلاح قائلًا في حماس:
- نعم يا سيدي.. قسم الحسابات تبدل تمامًا.. حتى عبد العظيم نفسه لم يعد كسابق عهده.. أصبحوا يطلقون عليه الآن القسم الأخضر.. سيادتك لن تصدق ما حدث حتى ترى بعينيك مدى التغير الذي طرأ عليه.
قطب حاجبيه في دهشة بينما أردف صلاح مرحًا:
- إلهام قلبته رأسًا على عقب.
تطلع إليه أدهم في حدة فغمغم مُرتبكًا:
- تلك الموظفة الجديدة التي انتقلت للعمل به منذ أقل من شهرين.
- يبدو أنكَ تعرفها جيدًا.
- المؤسسة كلها تعرفها يا سيدي.
- ماذا؟
- إلهام هذه كالـ........
صاح به أدهم غاضبًا:
- عندما تتحدث عن زميلة لكَ في المؤسسة أرجو ألا تغفل الألقاب.
- عذرًا يا سيدي.. أقصد الآنسة إلهام.
- بل تقصد الأستاذة إلهام.
- نعم يا سيدي.. الأستاذة إلهام.
صمت بعدها وكأن الكلمات كلها هربت من مخيلته دفعة واحدة.. عاد أدهم يغمغم ساخرًا:
- أكمل حديثك.. الأستاذة إلهام كـ ماذا.. كنتَ تحاول وصفها.. هيا...
ابتلع صلاح ريقه قائلًا:
- كنتُ أحاول فقط القول أنها.. متحمسة جدًا للعمل ومليئة بالحياة.. أقصد بالنشاط.
ظل يحدق فيه طويلًا حتى أحنى الرجل رأسه إحراجًا.. يبدو أنه غفل عنها بسبب انشغاله في الفترة السابقة.. ولكن المرة الأخيرة التي رآها فيها بكافتيريا المؤسسة أنبأته بأنها لم تكن على ما يرام.. كان على يقين يومها بأنها ستأتي خلال أيام قليلة لتعتذر له وتعلن عن رغبتها في العمل مع فريق السكرتارية.. أو على الأقل لتطلب منه نقلها لقسم آخر.. فما الذي حدث؟
زفر بضيق وهو يرتدي سترته قائلًا:
- يبدو أنه لا مفر من عمل زيارة مفاجئة لهذا القسم.
- ألن تستريح قليلًا؟
- اتبعني.
تبعه صلاح على عجل.. توقف فريق السكرتارية في حركة عسكرية عندما غادر المكتب كالسهم الغاضب مشيرًا لاثنين منهم باللحاق به..
نظرت تهاني إلى صلاح في تساؤل ولكن الأخير مط شفتيه في حيرة .. كان يتساءل هو أيضًا عن سبب انزعاج أدهم الشديد.. ما ذكره له عن قسم الحسابات لا يتعدى كونه ملحوظة صغيرة لا شأن لها بالأمن من الأساس.. ولن تؤثر سلبًا على المؤسسة خاصة وأن الأعمال الخاصة بالقسم أصبحت أفضل من ذي قبل.. لدرجة أن تهاني استغلت السلطة التي منحها لها أدهم بك ووافقت على الحوافز الاستثنائية التي تقدم بها عبد العظيم نيابة عن القسم كله تشجيعًا لجهودهم الكبيرة وانتهاءهم من عملية الجرد في فترة قياسية استعدادًا للسنة المالية الجديدة..
أكُل هذه الزوبعة لمجرد احتفال صغير بالقسم؟!






noor1984 غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 19-11-20, 07:49 PM   #6

noor1984

مشرفة منتدى قلوب احلام وأقسام الروايات الرومانسية المترجمةوقصر الكتابة الخياليّةوكاتبة،مصممة متألقة بمنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية noor1984

? العضوٌ??? » 309884
?  التسِجيلٌ » Jan 2014
? مشَارَ?اتْي » 23,038
?  نُقآطِيْ » noor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond repute
افتراضي




5- المستبد ..

ما أكثر الجزاءات التى لحقت بموظفي الأقسام التى مر بها في طريقه إلى قسم الحسابات..؟! يبدو أن وجوده المباغت وخطواته السريعة لم تتح الفرصة للإبلاغ عن وجوده فلم يهيئوا أنفسهم لاستقباله ولم يأخذوا حذرهم كما كانوا يفعلون في المرات السابقة.
اقترب من قسم الحسابات فصمَّت أذنيه ضحكة رنانة أرغمته على التراجع قليلًا ليلقي نظرة متأنية على اللافتة المعلقة فوق الجدار وكأنه يتأكد من كونه القسم ذاته الذي زاره منذ أقل من شهرين..
أهذا هو قسم الحسابات وتحت رئاسة عبد العظيم..؟!
كانت إلهام قد جلست فوق أحد المكاتب ووضعت ساقًا فوق أخرى فارتفعت تنورتها القصيرة لتكشف عن ساقيها اللامعتين في مشهد يفيض إغراءً وفتنة بينما انطلقت ضحكاتها المرحة لتملأ المكان ضجيجًا..
استندت على قبضتيها واستدارت في حدة لتحدق في المتطفل الذي سلب زملاءها فرحتهم وجعلهم ينهضون فجأة فوق أقدام مرتعدة لم تعد تقوى على حملهم.
بقيت طويلًا على وضعها وكأنها لقطة فوتوغرافية أُخذت في غفلة أو تمثال شمعي شيده فنان مجنون فوق المكتب في لحظة أكثر جنونًا.. ساد صمت قاتل حصد كثيرًا من القلوب التي سقطت صرعى لشدة رهبتها من وجوده.
لم تنهض هذه المرة.. هل هي رغبة مكبوتة في التحدي تاقت إليها طويلًا..؟ أم أن صدمتها لرؤيته الآن فاقت صدمته لرؤيتها في وضع كهذا..؟
قالوا أنه في رحلة عمل منذ فترة طويلة.. قالوا أيضًا أنه لا يزور هذا القسم إلا نادرًا.. تحدثوا كثيرًا عن تلك الزوبعة التي تسبق مجيئه..
فكيف ولماذا أتى الآن بهذه الطريقة؟!
لم يكن مرتديًا تلك النظارة الداكنة هذه المرة.. تستطيع الآن أن ترى عينيه اللتين تطلقان نارًا لهيبها قادر على حرق القسم كله.. بل المؤسسة كلها..
شعرها الأحمر الذي جعدته حول وجه زينته بمساحيق أشد صخبًا من ضحكاتها.. ذكراه بالعاهرات اللواتي يتسكعن في شوارع لندن ليلًا.. ترى هل تعثر بها مازن هناك؟
ليتها ظلت تتظاهر بالحياء وتمثله لكان هذا أهون كثيرًا مما يراه الآن.. كيف يمكنه أن يبقيها في مؤسسته بهذا الشكل الفاضح؟ ستكون كالفيروس تدمرها قسمًا بعد آخر حتى تهدم أساساتها.. ألم يخبره صلاح بأن المؤسسة كلها تعرفها وليس قسم الحسابات فقط؟!
تنحنح عبد العظيم وهو يحاول التحكم في صوته المرتعد قائلًا:
- إلهام.. أستاذة إلهام.. هذا أدهم بك.
للوهلة الأولى بدا وكأنها لم تسمعه.. ولكنها ما لبثت أن قفزت من فوق المكتب في حركة زادت من عري ساقيها مما زاده جنونًا فهتف في صوت خشن دون أن يرفع عينيه عن وجهها:
- ما الذي يحدث هنا يا عبد العظيم؟
تلعثم الرجل وكأنه فقد النطق فجأة.. فتابع أدهم في لهجة أكثر قسوة:
- يبدو أنكَ شخت مبكرًا ولم تعد قادرًا على قيادة موظفيك.
- أبدًا يا سيدي ولكن.....
- سأكتفي هذه المرة بخصم أسبوع واحد من راتبك.
حوَّلت نظراتها إلى عبد العظيم الذي أحنى رأسه مستسلمًا.. مسكين عبد العظيم.. هي السبب في الخصم الذي تعرض له.. مررت أصابعها في خصلاتها علها تتغلب على العصبية التي أصابتها.
يا لها من وقحة وكأن الأمر لا يعنيها.. أليس لديها قليلاً من الحياء..؟! ها هي تتمادى دلالًا وتداعب شعرها في لامبالاة وكأنها بريئة من الخصم الذي وقعه للتو على عبد العظيم..!
صاح من جديد وهو يدور بعينيه بين موظفي القسم المذعورين:
- سأكتفي بمجازاة عبد العظيم هذه المرة.. ولكن لو تكرر هذا الأمر في زيارة أخرى ستكون قراراتي أكثر حزمًا.. أرجو أن تنتبهوا لأعمالكم التي كُلفتم بها بطريقة أفضل.
لم تعد تحتمل الصمت مدة أطول فهتفت:
- نحن في فترة الراحة يا أدهم بك.
وكأنه كان ينتظر حديثها بصبر نافد لينفجر بها:
- فترة الراحة يا أستاذة لا تعني أن تتحول المؤسسة إلى كباريه.
اتسعت عيناها وفتحت فمها لتعترض ولكنه لم يمهلها بل عاد يصرخ من جديد وهو يلتفت إلى صلاح الذي وقف يرتعد بجواره آمرًا:
- عامل الأمن الذي سمح لها بالدخول للمؤسسة بهذا الشكل الفاضح يتحول للتحقيق فورًا.
ارتعدت شفتاها قائلة:
- لا يحق لكَ أن تتـ...........
- إن كان والديكِ قد سمحا لكِ بالخروج من منزلك بهذا المنظر.. فمن حقي أنا أن أمنع دخولك إلى مؤسستي به.
أصابتها الصدمة بخرس مفاجئ عجزت معه في الدفاع عن نفسها.. أشاحت بوجهها عنه حتى لا يرى مبلغ انهيارها بينما قال زملاؤها في محاولة للدفاع عنها:
- إلهام زميلة عزيزة لم نجد منها ما يسوء.
- أدهم بك.. إلهام إنسانة مهذبة رقيقة لا تستحق هذه القسوة.
- أدهم بك تمهل بها رجاءً.
تأملهم ساخرًا قبل أن يلتفت إليها ويقول في لهجة أكثر سخرية:
- كل المدافعين عنكِ من الرجال.. لماذا يا ترى؟
قالت إحدى زميلاتها في توتر:
- يكفي أن إلهام جعلتنا نحب العمل في هذا القسم.
- وكيف لا تحبونه بعد أن صار ملهى ليلي..؟ حفل سمر تأتون إليه لتريحوا أنفسكم من هم الأعباء المنزلية؟!
تجولت عيناه فوق ملابسهم التي أصبحت أكثر وقارًا وأناقة.. مظهرهم المهندم رفع من شأن القسم كثيرًا.. بل من شأن المؤسسة ذاتها.. لو لم يجدهم في هذا الوضع المخزي لربما كان كافأهم.
النباتات والزهور التي انتشرت في المكان حولته إلى حديقة غناء تزهو بنسيمها وأريجها العطر.. نسيم معطر برائحة الطبيعة وصفائها.. رفاهية يفتقدها هو شخصيًا في مكتبه المكيف.. كيف له أن يتساءل بعد كل ما يرآه عن سر السلام المفاجئ الذي يملأ وجوههم؟
تسمرت عيناه قليلًا فوق المكتب الخشبي الذي بدا براقًا لامعًا.. كان مختلفًا.. الملفات فوقه رتبت بعناية فائقة في مجلدات ملونة ليست من تلك التي يوزعونها في المؤسسة.. وكأنه مكتب لمدير عام وليس لمجرد موظفة صغيرة لم تكمل شهرها الثاني بعد في هذا القسم.. أيقن أنه يخصها حتى قبل أن يقرأ تلك اللافتة الصغيرة التي وضعتها فوقه في اعتزاز "إلهام صبري"
رغم هذا فقد سأل بصوت جهور:
- لمن هذا المكتب؟
أجابه عبد العظيم في ارتباك:
- مكتب الأستاذة إلهام.
- ولماذا يختلف عن بقية المكاتب؟
عضت على شفتيها بغيظ.. من أين لها بكلمات تعبر عن مبلغ آلامها وغضبها الآن..؟ لكم تود أن تصفعه أمام الجميع ثأرًا لكرامتها التي أهدرها أمامهم؟!
أردف بعد قليل وهو يشير لأحد مرافقيه:
- احضر لي بعض العمال من الخارج.
هل يعقل أنه سيفعل ما تفكر فيه الآن..؟!
أيقنت صدق استنتاجها عندما جاء العمال فأمرهم في حسم:
- أحضروا لي مكتب آخر مثل بقية المكاتب.
استدارت إليه في حدة قائلة:
- كان الأجدر بكَ أن ترتقي بمستوى القسم لا أن تنحدر به.. المخازن بها عشرات المكاتب الخشبية المكدسة.. تكفي لهذا القسم وتفيض.
- أنا المدير هنا يا أستاذة.. حذار أن يعلو صوتكِ مرة أخرى.
رفعت رأسها في كبرياء قائلة:
- يسعدني أن تقبل استقالتي إذًا.
أجابها في لهجة باردة:
- سوف أفصلك أنا.. ولكن بعد أن تدفعي ثمنًا لوقاحتك أولًا.. وكلما استمريت في وقاحتك.. كلما ازداد دينك.. وحينها لن أفصلك فحسب.. بل وسوف أسجنكِ أيضًا.
- ماذا..؟ من تظن ذاتك؟
أشار بسبابته محذرًا:
- اقرأي شروط العقد الذي وقعته مع الشركة قبل أن تتفوهي بشيء وتندمي عليه لاحقًا.
تركها حائرة مصدومة واستدار ليوجه حديثه للعمال قائلًا:
- افرغوا محتويات هذا المكتب الخشبي وأعيدوه إلى المخازن.
ما إن أفرغوا محتويات الدرج الأول حتى غمغم وهو يمسك بها ساخرًا:
- مرآة.. أدوات تجميل.. زجاجة عطر.. وماذا أيضًا؟
استدار إليها وتابع في وقاحة:
- هل نكمل إفراغ ما تبقى من الأدراج أم أن بها ما يخدش الحياء..؟
زفرت في عصبية فهتف في عصبية أكبر:
- ما هو عملكِ بالضبط هنا..؟
أغمضت عينيها وتماسكت بصعوبة.. كيف يطلب منها أن تصمت إن كان يحدثها بهذه الوقاحة.. لن يكفيها قتله عقابًا على ما يفعله بها.. ولا التمثيل بجثته أيضًا.. يومًا ما سوف تنتقم منه بطريقتها الخاصة.
انتهى العمال من مهمتهم وقال أحدهم:
- هل تأمرنا بشيء آخر يا سيدي؟
أشار إلى النباتات التي ملأت الغرفة قائلًا:
- ضعوا هذه في الطرقات والممرات.. ليس من العدل أن يستأثر بها قسم دون آخر.
استدارت إليه في ثورة قائلة:
- الحديقة مكتظة بالمئات مثلها.. كانت مهملة تغطيها الأتربة.. ليس من العدل أن تأخذها من هنا بعد أن تعبنا في.........
اختنق صوتها فلم تستطع أن تكمل جملتها بل أشاحت بوجهها عنه من جديد.. فليذهب للجحيم هو ونباتاته ومكاتبه الخشبية بل ومؤسسته بكاملها...
قال بعد فترة صمت:
- اتركوا لهم بعضًا منها.. إكرامًا لدموع الأستاذة.
غادر بعدها القسم وتركهم في حالة من الوجوم قبل أن يلتفوا جميعًا حول إلهام التي ارتمت فوق المكتب الحديدي الذي تركه لها وراحت تنتحب في هيستيريا غير مبالية بالغبار الذي غطاه وانطبع فوق جلدها وملابسها.. تذكرت الآن ذلك الشرط البغيض الذي يتحدث عنه في العقد.. قرأته جيدًا يومها ولكنها لم تتوقف عنده طويلًا.. لم تكن تتخيل أبدًا أنه قد يستغله لمعاقبتها وإجبارها على العمل في مؤسسة طالما حلمت بالعمل فيها..
لن يحق لها ترك هذه المؤسسة قبل قضاء سنة كاملة من العمل فيها.. وإن فعلت يكون من حق مدير المؤسسة اتخاذ الإجراء الذي يناسبه..
سوف يسجنها...!
هذا هو الإجراء الذي وعدها بأن يتخذه ضدها.. أمامها خياران لا ثالث لهما.. إما أن تقضى سنة كاملة تحت استبداده وإهاناته التي يبدو أنها لم تبدأ بعد.. وإما السجن.. بالنسبة لها فالسجن أهون كثيرًا.. ولكن ماذا عن والديها..؟ ترى هل سيتحملان أمرًا كهذا؟
******
عادت أخيرًا إلى العمل بعد غياب استمر ثلاثة أيام متتالية.. لم يكن تهديده وحده هو ما أرغمها على العودة إليه.. بل ذلك الإلحاح الذي لم ينقطع من قِبل والديها أملًا في أن تخرج من حالة الاكتئاب التي ألمت بها.. أخبرتهما بأنها قد رأت حادثًا في طريق عودتها للمنزل وبأن فتاة شابة لقت حتفها خلاله.. تعللت بأن ذكرى المشهد هي ما يؤرقها ويحزنها.. وكيف كانت ستخبرهما بكم الإهانات التي تعرضت لها على يدي ذلك المستبد؟
ساعدتها نظارتها الشمسية الداكنة في تجاهل النظرات التي سُلطت عليها منذ دخولها من باب المؤسسة الخارجي حتى وصولها للقسم الذي تعمل به.. يبدو أن المؤسسة بكاملها قد علمت بما فعله معها في زيارته الأخيرة.
استقبلها زملاؤها في حفاوة بالغة كادت تبكى لها وهي تقول بصوت أقرب للهمس:
- أشكركم.. وأرجو أن تقبلوا اعتذاري عن كل ما سببته لكم من إزعاج بلا قصد.
نظرت إلى عبد العظيم وأردفت في تأثر:
- أغفر لي يا أستاذ عبد العظيم.. تسببت في إهانتك بسبب طيشي وتهوري.. لم أكن أتخيله مستبدًا لهذا الحد.. سوف أتحمل أنا الخصم بدلًا منكَ.
أجابها سعيد أحد زملائها في القسم:
- القسم كله سوف يتحمل هذا الخصم.. بفضلك يا إلهام توحدنا.. منذ الآن سوف نقتسم الخير والشر.. خاصة إذا كان الأمر يتعرض لكبيرنا الأستاذ عبد العظيم.
علقت علا التي لطالما اشتهرت بعدائها الشديد له:
- صدقًا يا أستاذ عبد العظيم.. لو أن أدهم بك خصم الأسبوع من راتبي ما كنتُ حزنتُ كما حزنتُ من أجلكَ.
وافقتها فاتن قائلة:
- نعم يا أستاذ عبد العظيم.. كلنا فداء لكَ.. لقد أصبحت أخًا أكبر لنا جميعًا وكرامتك قبل كرامتنا.. سوف نبذل قصارى جهدنا مستقبلًا حتى لا نعرضك لكلمة واحدة قد تخدش كرامتكَ.
قال عبد العظيم مبتسمًا في تأثر لما لمسه في كلماتهم من حب صادق يشعر به للمرة الأولى:
- لا عليكم.. الخصم الذي تعرضت له ما هو إلا ثمن بخس لهذا الدفء الذي صرت أشعر به معكم.
لم تمض أيام قليلة بعدها حتى توقف عبد العظيم ذعرًا عندما وجد أدهم بك أمامه مرة أخرى.. حاول أن يحذر إلهام علّها تغلق مسجلها الصغير وتوقف تلك الموسيقى التي اعتادت العمل على نغماتها.. ولكن أدهم أشار إليه بالصمت.
وقف يراقبها طويلًا وهي منهمكة في عملية حسابية دقيقة استولت على تركيزها كاملًا.. رفعت رأسها أخيرًا واتسعت عيناها في دهشة ما لبثت أن تحولت إلى عدوانية قبل أن تتجاهله وتعاود النظر إلى أوراقها من جديد.
ضغط على أزرار المسجل في غضب فتوقفت الموسيقى وهو يصيح فيها قائلًا:
- عندما تتحدثين إلى رئيس القسم يتوجب عليكِ أن تقفي له احترامًا.. وأنتِ الآن تتحدثين إلى رئيس المؤسسة شخصيًا.
أخذت نفَسًا عميقًا وهي تنهض على مضض متحاشية النظر إليه.. استندت بكفيها فوق مكتبها وتسمرت عيناها فوق أوراقها أملاً في أن يذهب ويتركها ولكنه جذب الملف الذي تعمل عليه وراح يدقق النظر فيه.. عملها كان رائعًا بالفعل ويستحق الإعجاب ولكنه ألقى بالملف في طريقة زادتها سخطًا قبل أن يأمرها قائلًا:
- افتحي أدراج المكتب.
حدقت فيه مستنكرة قبل أن تنفذ ما طلبه منها مرغمة.. عجبًا.. أين ذهبت أشياؤها الخاصة.. أين اختفت مرآتها وأدوات زينتها.. لا تتذكر أنها أخذتها معها للمنزل.. ربما كانت في درج آخر.. سوف يعثر عليها بلا شك.
يا الله.. لم تكن في مزاج يسمح لها بتقبل المزيد من إهاناته.. سوف تدافع عن نفسها هذه المرة وليكن ما يكون.. حانت منها نظرة إلى فاتن التي غمزت لها مبتسمة.. هي من أخفتها إذًا عندما رتبت لها أغراضها في المكتب الجديد.
ابتعدت مطمئنة لتفسح له الطريق ليفتح بقية الأدراج.. لم يجد شيئًا سوى المزيد من الملفات.. أغلق الأدراج أخيرًا وعاد يتطلع إليها في حدة بادلته إياها قائلة:
- هل تريد أن تفتش حقيبتي أيضًا؟
تجاهل عبارتها وراح يتجول ببصره في القسم بحثًا عن هذه الروح الجديدة التي تملأه.. كانت أقوى من أن يكسرها.. تأمل المفارش الجديدة التي غطت مكاتبهم جميعًا بما فيها مكتب عبد العظيم.. الملفات رتبت فوقها في عناية ونظام قلما وجده في الأقسام الأخرى.. الإطارات والصور الزاهية الألوان تشع إشراقًا فوق الجدران وكأنها شموس خاصة بهم وحدهم.. المكان نظيف عطر الرائحة ينبض بالحياة والبهجة.
قال في نبرة هادئة:
- أخبرتني تهاني بالحوافز الإضافية التي منحتها لكم تشجيعًا للانتهاء المبكر من كل ما يخص حسابات السنة المالية الماضية.
نظروا إليه في ترقب.. هل سيتراجع عن منحهم الحوافز الإضافية التي وقعتها رئيسة مكتبه نيابة عنه وينتظرون صرفها الأسبوع القادم؟
قال أخيرًا:
- تستحقون مكافأة أخرى نظير عنايتكم بالمكان.. وكذلك بمظهركم الذي أصبح مشرَّفًا.. وسوف أطالب بتعميم ما قمتم به في هذا القسم حتى نرتقي ببقية الأقسام.
غمرت الفرحة وجوههم وهم يرددون عبارات الشكر والامتنان.. هي أيضًا كانت تبتسم ولكن ما إن نظر إليها حتى اختفت ابتسامتها وعبس وجهها مجددًا.
غادرهم على النقيض تمامًا هذه المرة.. كانوا يتنفسون سعادة وفرحًا.. اقتربت فاتن من إلهام وقدمت لها أدوات الزينة قائلة:
- حدثني قلبي بأن هذا سوف يحدث لذلك أخفيتها ونسيتُ أن أعيدها إليكِ.. ها هي ولكن من الأفضل أن تضعيها في حقيبتكِ.
*****
- أدهم بك.. أدهم بك...
هز رأسه وهو يتطلع إلى تهاني وكأنه استيقظ من غيبوبة.. ما الذي يحدث له..؟ لماذا يؤرقه التفكير في قسم الحسابات لهذا الحد؟!
- أدهم بك هل أنتَ بخير؟
- نعم.
- هناك بعض الأوراق تحتاج إلى توقيعك.. إن كنتَ متعبًا الآن يمكننى أن آتي في وقت لاحق.
- حسنًا.. اتركيني ساعة واحدة استرخي فيها قليلًا.
ابتسمت تهاني وهي تغادر المكتب متمنية له الراحة والسعادة.. ولكن من أين له بالراحة والسعادة وهو يتذكر نظرات عبد العظيم المتيمة إليها.. يستطيع أن يجزم بأن وحشه الصغير سقط في فخها.. لا شك في أنها تعمدت إغواءه حتى سقط في حبائلها.. هذه الوقحة.. لابد أنها تعلم بكونه متزوجًا ولديه أبناء صغار أحدهم مايزال في المرحلة الابتدائية على ما يتذكر.. فماذا تريد من رجل مثله..؟
لا يبدو أنها تهتم به على الإطلاق.. كان يأكلها بعينيه بينما هي منهمكة في عملها وكأنها لا تراه.. لو كانت تضعه في حسبانها لحظتها ما خرجت حساباتها بهذه الدقة التي راجعها بنفسه، ولا بهذا النظام والخط المنسق.
لم تكن الساعة قد انتهت بعد عندما فوجئت به تهاني يغادر مكتبه.. فهتفت بدهشة:
- أدهم بك.. ما......
- سأعود سريعًا.





noor1984 غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 19-11-20, 07:51 PM   #7

noor1984

مشرفة منتدى قلوب احلام وأقسام الروايات الرومانسية المترجمةوقصر الكتابة الخياليّةوكاتبة،مصممة متألقة بمنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية noor1984

? العضوٌ??? » 309884
?  التسِجيلٌ » Jan 2014
? مشَارَ?اتْي » 23,038
?  نُقآطِيْ » noor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond repute
افتراضي





6- مع سبق الإصرار

شعرت سحر بالدهشة عندما وجدت دفتر الحضور ما زال مفتوحًا.. عادت تنظر في ساعة يدها بشك.. هناك خمس دقائق تأخير.. ربما أخطأت ساعة عبد العظيم.. ولكن أيعقل هذا..؟
نظرت إليه في تردد قائلة:
- كان الطريق مزدحمًا جدًا و.........
- وقعي يا سحر.. شرط ألا تكرريها مرة أخرى.
أسرعت توقع في الدفتر قبل أن يتراجع عن إحسانه قائلة:
- أبدًا.. لن أكررها أبدًا.
كان واضحًا منذ بداية اليوم أن عبد العظيم ليس في حالته الطبيعية.. ظل صامتًا طوال الوقت.. وإن تحدث فصوته مختنق وعيناه محمرتان ويسند رأسه طويلًا فوق مكتبه وكأنه ذهب في سبات عميق.
اقتربت منه إلهام قائلة:
- أستاذ عبده.. هل أنت بخير؟
ابتسم في وهن قائلًا:
- نعم.. اطمئني.
- تبدو مريضًا
- لا تشغلي بالك.. فقط ابتعدي قليلاً حتى لا تصابي بالعدوى.
- أنتَ مريض بالفعل إذًا..؟
أغمض عينيه وأخذ نفَسًا عميقًا عندما تحسست جبهته في نعومة قبل أن تهتف في قلق قائلة:
- يا إلهي.. حرارتك مرتفعة جدًا.. سوف أرسل أحد العمال ليأتي لكَ ببعض الأدوية المسكنة حتى تستأذن وتذهب للطبيب.
- لا تشغلي بالك يا عزيزتي.. الأمر ليس بهذا السوء.
لم تلتفت لاعتراضه وهي تعطي النقود للعامل وتطلب منه إحضار بعض المسكنات على وجه السرعة.. التفتت إليه بعدها قائلة:
- عليكَ أن تتناول شيئًا قبل أن تأخذ الدواء حتى لا تؤذي معدتك.
أحضرت إحدى الشطائر التي وضعتها والدتها في حقيبتها وجلست فوق مكتبه وهي تضحك في دلال قائلة:
- هيا يا عبده بك.. كُلها من يدي حتى لا أغضب.
توقعت أن يشاركها زملاؤها ضحكاتها المرحة ولكنها بدلًا من هذا لاحظت الغضب الممزوج بالقلق الذي كسى ملامحهم.. تضاعفت دهشتها عندما سَعَل عبد العظيم حتى كاد يختنق بالقطعة الصغيرة التي قضمها من الشطيرة بعد إلحاح منها..
نهض في فزع قائلًا:
- مرحبًا أدهم بك.
تراجعت إلهام في ارتباك.. ماذا سيقول عنها هذه المرة..؟ حتى أدهم نفسه بدا حائرًا وهو يمرر أصابعه في شعره بعصبية وكأنه هو أيضًا لا يعرف من أين يبدأ.
راح ينقل نظراته بينهما متغاضيًا عن بقية الموظفين الذين أحنوا رؤوسهم خجلًا وحيرة.. ربما كانت إلهام مدللة أكثر مما ينبغي ولكنها لم تكن سيئة أبدًا.. هُم على يقين من هذا بعد أن عاشروها لما يقرب من شهرين لم تحاول خلالهما إقامة علاقة خاصة مع أي منهم خارج جدران المؤسسة.. ولكن كيف يمكنهم إقناع أدهم بك بوجهة نظرهم بعد أن رآها في هذا الوضع المخزي مجددًا..؟!
قال أخيرًا وهو يضغط على حروفه مستنكرًا:
- أريد تفسيرًا شافيًا لما رأيته الآن.
حاول عبد العظيم أن يقول شيئًا ولكنه تلعثم وما لبث أن نكس رأسه صامتًا.. أسرعت إلهام لنجدته قائلة:
- أستاذ عبده مـريض وكنـ........
- أستاذ ماذا..؟
همت بتكرار عبارتها ولكنها ما إن رأت تعبيرات وجهه المستهجنة حتى ضحكت في مرح أصاب رفاقها الذين جاهدوا للتحكم في انفعالاتهم خوفًا من إثارة غضبه:
عادت تقول بعد فترة في نبرة مدللة زادته سخطًا:
- يمكنك أن تضع يدك فوق جبهته لتعرف كم يعاني من المرض.. درجة حرارته مرتفعة جدًا.
صاح في عصبية:
- وكنتِ تدللينه حتى يشفى..؟!
- وماذا كنتَ تريدني أن أفعل وهو يرفض تناول الطعام؟
نظر إليها في تهكم قبل أن يلتفت إلى عبد العظيم الذي أحنى رأسه حتى كادت تنكسر وقد تخضب وجهه احمرارًا ما بين المرض والخجل حتى بدا كطفل ضخم ضبطته والدته بفعل فاضح.
قال أدهم ساخرًا:
- سلامتك يا أستاذ عبده.
- سلمك الله من كل مكروه يا أدهم بك.
- يمكنك أن تستأذن الآن وتذهب لطبيب المؤسسة؟
عاد ينظر إلى إلهام وأردف في صوت لا يخلو من التوبيخ:
- فالتدليل ليس علاجًا.
ابتلع عبد العظيم ريقه قائلًا:
- سوف أترك توكيلًا لـلأستاذ سالم قبل أن أذهب لطبيب المؤسسة.. شكرًا لاهتمامك يا سيدي.
رفع أدهم رأسه في حسم وقال موجهًا حديثه إلى إلهام:
- أما أنتِ يا أستاذة فعليك جمع أغراضك حالًا.
حدقت به في تساؤل فأردف:
- سوف تنتقلين غدًا للعمل في مكتبي.
- أخبرتكَ سابقًا بأنني لا أريد العمل في مكتبك.
- وأخبرتكِ بأنني المدير هنا.
هتف عبد العظيم الذي دبت فيه الحياة فجأة وكأنه لم يكن بالكاد يتنفس منذ قليل:
- هذا القسم لا يستغني عن خدمات الآنسة إلهام يا أدهم بك.
أسرع يلتقط أحد الملفات من فوق مكتبه ويقدمه إليه متابعًا:
- أنظر يا أدهم بك.. تأمل تناسق الحروف ودقة الحسابات.
تجاهل أدهم يده المدودة في رجاء واكتفى بالتحديق في وجهه المتوسل.. لم يعد يرى سوى وحشه القديم الذي لطالما أرعب به قسم الحسابات وهو يكاد الآن يبكي حزنًا على فراق من أغوته بنعومة الحيات فراح يلقي بنفسه بين براثنها كالمخمور..
وحشه في حالة عشق متأخرة لهذه الساحرة الشريرة.
قال أخيرًا:
- عليكِ أن تكوني في مكتبي قبل الثامنة.. آنسة تهاني لا تتهاون مع المتسيبين وأكثر ما يثيرها هو عدم احترام المواعيد.
هتفت في تمرد:
- كونكَ المدير لا يعني أن تظلمني.. لا يحق لكَ نقلي مادمتُ أجيد عملي هنا وأتقنه.
- حسنًا يا آنسة.. بغض النظر عن كوني مدير المؤسسة ويحق لي أن أتخذ ما أريده من إجراءات مهما بدت ظالمة.. أنا سوف أنقلك من هنا لأنك تجيدين أشياءً أخرى أكثر من إجادتك للعمليات الحسابية.
- ماذا تعني؟
صاح في عصبية:
- إن كنتُ قد تغاضيتُ عن التحقيق في المشهد الفاضح الذي جمعكما عند دخولي.. فهذا لا يعني أبدًا أنني سأسمح بتكراره مرة أخرى.
تلعثم عبد العظيم قبل أن يدفن رأسه بين كفيه صامتًا.. بينما هتفت هي تحاول الدفاع عن موقفهما:
- أخبرتك بأنه كان مريضًا وكنتُ أحاول إجباره على تناول الطعام.
نظر إليها وهز رأسه في مزيج من السخرية والاستنكار قبل أن يغادر الغرفة قائلًا بلهجة آمرة:
- حذار أن تتأخري غدًا.
صرخت في صوت بلغ مسامعه:
- لن آتي إلى مكتبك لا في الغد ولا في أي يوم آخر.
كانت تتوقع عودته ثائرًا.. ربما يغضب ويفصلها هذه المرة.. كيف يجبرها على العمل في مكتبه بعد أن رفضته أمام الجميع..؟
فهي قد أهانته إن كان لم يفهم بعد.. إنها تتحداه وتقلل من شأنه.. عليه أن يعود ليدافع عن كرامته على الأقل..
ولكنه مضى وكأنها تصرخ في الفضاء..
*****
في صباح اليوم التالي وصل إلى مكتبه متوقعًا رؤيتها بين فريق السكرتارية ولكنه لم يجدها.. ها هي قد نفذت وعيدها إذًا وقررت عصيانه.. ولكن من المحال أن تكون قد وقعت بالحضور في قسم الحسابات بعد أن أصدر قرارًا مكتوبًا بنقلها من هناك.. رغم يقينه فقد أمسك بسماعة الهاتف وطلب قسم الحسابات.. أخبروه بأنها لم تأتِ.. تغيبت عن العمل.. عبد العظيم أيضًا تغيب عن العمل.. هل يعقل أن يكونا قد تواعدا على لقاء خارج المؤسسة؟
مازال يتذكر تلك الهيستيريا التي أصابته أمس فور علمه بأمر نقلها من القسم.. الأبله لا يدري بأنه يفعل كل هذا لإنقاذه من شرها.
اليوم الذي تلاه لم تحضر أيضًا.. هل قررت الانقطاع عن العمل نهائيًا غير مبالية بتهديداته..؟ بإمكانه الآن اتخاذ ما يلزم من إجراءات قانونية كفيلة بسجنها وليس فقط بمنعها من العمل في أية مؤسسة أخرى.. ولكن ماذا عن مازن؟
ربما عليه أن يتركها وشأنها.. يكفيه أنها رحلت من مؤسسته بلا مشاكل تُذكر.. إن كانت قد أغوت بعضًا من ذوى النفوس الضعيفة فهذا لا يهم.. سوف ينسوها بمرور الوقت.. يكفي أن مؤسسته قد تطهرت منها للأبد.
وجد نفسه يضغط على الأزرار أمامه مرغمًا.. فأحضرت له تهاني الملف الخاص بها.. لا شك أن عنوانها مدون في هذا الملف.. قدم العنوان لسائقه الخاص قائلًا:
- أحضرها حية أو ميتة.
- هل سرقت منكَ شيئًا يا سيدي؟
- لا شأن لكَ بالأمر.. نفذ فقط ما طلبته منك وحذار أن تتحدث مع أحد بهذا الشأن.
- أمركَ يا سيدي.
ماذا حدث لساعته السويسرية الباهظة الثمن..؟ اشتراها منذ شهر واحد فقط.. هل كلَّت xxxxبها بهذه السرعة؟ بل ماذا حدث لعقله وكأنه توقف عن العمل هو أيضًا ولم يعد يشغله سوى أمرها..؟!
لماذا تملّكه هذا القلق الرهيب.. أكل هذا فقط لمجرد أنها تحدته؟ رفع رأسه في لهفة قبل أن ينجح في التحكم بانفعالاته قائلًا لمن طرق باب مكتبه:
- ادخل.
شعر بخيبة أمل قوية عندما دلفت تهاني إلى الغرفة متجهمة الوجه فبادرها قائلًا:
- ماذا حدث؟
- سيدي.. لماذا ترغم هذه الفتاة على العمل هنا بالمكتب؟
تسمرت عيناه فوق قسماتها في مزيد من التساؤل فأردفت:
- كادت تقتحم مكتبك بلا استئذان وعندما اعترضتُ طريقها لم تستحِ من الصراخ بوجهي في وقاحة لتخبرني بأنك في انتظارها على أحر من الجمر غير مبالية بالذهول الذي أصاب كل من بالغرفة..!
ادهشها عندما قال في هدوء:
- ادخليها.
دلفت إلهام إلى غرفة مكتبه ساخطة.. كيف سمح لنفسه بإحضارها بهذه الطريقة البوليسية البغيضة..؟ كادت والدتها تجن وهي ترى سائقه وإصراره العجيب على اصطحابها معه.. أقنعتها بصعوبة أنها قد أغلقت أدراج مكتبها على بعض الأوراق الهامة وأنهم في حاجة ماسة لها الآن ولا يوجد مفتاح بديل.
تظاهر بالنظر من النافذة حتى لا ترى مبلغ التسلية التي ارتسمت على وجهه..
ما الذي يغريه في وقاحتها..؟!
سألته في حدة:
- ماذا تريد مني؟
استدار إليها وضاق ما بين حاجبيه وهو يتأملها في زيها الأشبه بزي الرجال.. حتى حذائها لم يسلم من اللمسة الذكورية.. أين أنوثتها المفرطة التي اتخذتها سلاحًا للتغرير بضحاياها السذج.. هل قررت أن تتحداه رجل لرجل؟!
قال في نبرة حادة:
- حذار أن تتحدثي إلى مديرك بهذه الطريقة.
- وكيف تريدني أن أتحدث إليكَ إذًا؟
- إجازاتك كادت أن تنتهي.. كنتُ أتوقع أن تشكريني.
- أشكرك..؟!
- لا أحب أن تتحملي مشقة العمل عندي بلا أجر.
- اقبل استقالتي إذًا.. أو افصلني إن شئت.
- سوف أفصلك إن كنت مستعدة للسجن.
- ولماذا تسجنني.. أنا لم آخذ منك شيئًا.. كاد الشهر الثاني لي في مؤسستك أن ينتهي.. قم بخصمه إن شئت.. راتب الشهر الماضي يمكنني أن أعيده إليكَ أيضًا.
- تحتاجين إلى شهادة خبرة لتتمكني من العمل في مكان جيد.. بهذه الطريقة لن تحصلي عليها أبدًا.
- أنا لا أريد العمل.. سوف أعود إلى لندن.
- تريدين اللحاق بـ مازن.. أليس كذلك؟
نظرت إليه في دهشة فأردف قائلًا:
- الأمر لم يعد خيارًا لكِ.
- لماذا تفعل بي هذا؟
- لأنكِ تعاملتِ معي بوقاحة وتحديتِ أوامري أمام الموظفين.
هتفت ثائرة:
- لن أعمل في مكتبك وافعل ما شئت.
- لا تتسرعي.. إن كنتِ قادرة على تحمل السجن ومتاعبه فلا أظن أن والديكِ سيتحملانه.
- بأي جرم سوف تقاضيني؟
تظاهر بالتفكير قائلًا:
- لنقل بأنكِ تسببت في خسارة المؤسسة لـ نصف مليون جنيه.
- ماذا؟
- يمكنني أن أثبت أنه مليون جنيه وليس نصف المليون فقط.
هزت رأسها بعدم تصديق.. قطع الصمت قائلًا:
- سأتركك تعودين إلى منزلك الآن.. مظهرك لا يصلح للعمل في مكتبي.. عودي غدًا قبل الثامنة صباحًا.
- وماذا لو لم أعد؟
- لن أرسل السائق لاستدعائك هذه المرة.. بل الشرطة.
قابل عدوانيتها بابتسامة ساخرة قبل أن يهمس:
- والآن اذهبي.. يكفي ما ضاع من وقتي بسببك.
*****
عادت إلى منزلها ممتلئة بكل المشاعر السلبية.. كلا.. لن أعمل في مؤسسته مهما بدت العواقب وخيمة.. عام خلف القضبان أهون كثيرًا من العمل بين قبضتي ذلك الطاغية.. سوف تتصل بـ المحامي الآن.. ستخبره بالقصة كلها لتعرف ما لها وما عليها.. ربما كانت تبالغ في قلقها منه..؟ هل يعقل أن يسجنها لمجرد عصيانها له؟
تنبهت على صوت والدتها حين قالت:
- حبيبتي هل أعطيتهم الأوراق التي يريدونها؟
- أية أوراق؟
- تلك التي كانت في درج مكتبك.
هزت رأسها وتصنعت ابتسامة قائلة:
- نعم أعطيتهم الأوراق.. ومفتاح الدرج أيضًا.
- ماذا تقصدين؟
- لن أذهب لهذا العمل مجددًا.
للحظات بدا التأثر فوق قسمات والدتها قبل أن تهتف في ابتسامة لا مبالية:
- لا عليكِ يا حبيبتي.. بإذن الله عندما يحصل والدك على الترقية لن تكوني في حاجة إلى العمل.. بل سيكون باستطاعته أن يجد لكِ وظيفة أفضل عندما تتسع علاقاته واتصالاته.
احتضنتها إلهام قائلة:
- ترقية.. يا له من خبر جميل..! كم كنت في حاجة لسماع أخبار سارة..؟!
أقبل والدها في تلك اللحظة.. قبلها قائلًا:
- اطلبا من الله التوفيق أولًا.. الأمر لم يحسم بعد.
- سوف تحصل عليها فأنت تستحقها.
- المنافسة قوية.. مركز المدير العام.. مطمع للكثيرين.
- لكنكَ من سيحصل عليها.. ولا تنسَ هديتي.
ضحك قائلًا:
- لن أنسى.. على أية حال ليس في حياتي.. حمدًا لله.. ما قد يؤثر سلبًا على سمعتي أو سمعة عائلتي.
عاد القلق يغزو قسماتها قائلة:
- إذا ما قررت ترك العمل فجأة.. لو انقطعت عن العمل في مؤسسة الشربيني.. هل سيؤثر ذلك على ترقيتك؟
- بالطبع يا ابنتي.. سوف يقومون بعمل دراسة حالة لكل المرشحين للمنصب قبل أن ينتقوا الأفضل منهم.
تأملها مليًا وأردف:
- ولماذا لا تتقدمين باستقالتك إن كان العمل لا يروق لكِ؟
- مدير المؤسسة يرفضها.
- إن كان الأمر كذلك فالعمل في حاجة اليك.. انقطاعك عن العمل معناه أنكِ لستِ على قدر من تحمل المسئولية.. وهذا سوف يؤثر سلبًا على أية وظيفة تتقدمين لشغلها في المستقبل.
- لا يهمني إن كان سيؤثر على عملي أنا أم لا.. المهم هو هل سيؤثر ذلك على ترقيتك أنتَ؟
- بالطبع يا ابنتي.. ماذا سيكون انطباعهم عني لو علموا بأنني ربيت ابنتي على عدم تحمل المسئولية؟!
هز رأسه ساخطًا قبل أن يردف:
- سيكون الأمر أكثر سوءًا لو أن هذا المدير تقدم بشكوى ضدك واتهمك فيها بتعطيل سير العمل.
حدقت في والدها فزعة.. إن كان قلِقًا من مجرد شعوره بأن أدهم قد يتقدم ضدها بشكوى يتهمها فيها بتعطيل العمل.. فماذا سيفعل إذا أخبرته بأنه هددها بالسجن أيضًا..؟ ربما يتهمها بالإهمال والتقصير بل قد يتمادى ويتهمها بالاختلاس.. كلها أمور مخزية بلا شك.. كيف سيكون شعور والدها حينها؟
أخذت نفَسًا عميقًا قبل أن تغمغم محبطة:
- هذا يعني أنني لابد وأن أذهب صباحًا إلى المؤسسة.. قبل الثامنة.
- وما المشكلة في ذلك..؟ تستيقظين قبل الثامنة حتى في أيام العطلة.
*****
قدمتها تهاني إلى زملائها في امتعاض بادلته في لا مبالاة زادتها حنقًا عليها.. لماذا يصر أدهم بك على ضم هذه المتعجرفة إلى فريق العمل الخاص بهم..؟ فهم ليسوا في حاجة إليها.. رغم هذا فقد وضعت أمامها الكثير من الملفات وطالبتها بدراستها جيدًا وكتابة تقارير عنها.. تقارير كانت قد كُتبت بالفعل ولكنها شعرت بحاجة ماسة إلى الانتقام منها ليس أكثر.
قبل أن يدلف إلى مكتبه أنبأهم ساعي المكتب بوصوله.. تصنعت الانشغال بقراءة المستندات بين يديها.. لن تشاركهم هذه التحية العسكرية كلما مر بينهم.. لن تنهض لاستقباله.. إن كان يظن بأنها ستخضع لابتزازه فهو مخطئ.. ما إن يحصل والدها على منصبه الجديد حتى تتخلص من سيطرته واستبداده.
سوف تتحمله قليلًا إكرامًا لوالدها فقط.
تلكأ متعمدًا وهو يتحدث إلى تهاني بعبارات لا معنى لها آملًا في أن تنهض كما فعل رفاقها ولكنها لم تفعل.. أيعقل أنها لم تلحظ وجوده بعد..؟!
هتف أخيرًا بصوت غاضب:
- أستاذة إلهام.. اتبعيني.
زفرت في ضيق زادهم دهشة واستنكارًا قبل أن تنفذ ما طلبه منها.. أفسحت لها تهاني الطريق في عدوانية.. يا لوقاحة هذه الفتاة.. كيف تتجرأ وتتعامل بهذه الطريقة مع أدهم بك شخصيًا؟
- ماذا تريد..؟
تطلع إليها في حدة قائلًا:
- ماذا أريد؟! جرأتك في الحديث معي لا تروقني.
رفعت رأسها صامتة فتابع في نبرة أشد عنفًا:
- إن كنتِ تظنين بأنني سأتهاون معكِ وأنتِ تُحقرين من شأني أمام الموظفين فأنتِ مخطئة.
- إن كنتَ تريدني أن أحترمك عليـ......
قاطعها ثائرًا:
- احترامي ليس اختياريًا يا آنسة.
- كيف أحترمك و أنتَ ترغمني على العمل هنا؟
- أنا لا أرغمك.. يمكنك أن تختاري الآن.. ما بين العمل هنا أو الاتصال بالشرطة.
- وهل هذا اختيار؟
جلس يحدق فيها صامتًا.. عجبًا.. جنونه لا يقل عن جنونها وكأنه هو من سقط ضحيتها.. وكأنه ليس الجائر والجاني..! كان غاضبًا لمجرد كونها لم تشاركهم تلك التحية العسكرية البغيضة كلما مر بينهم..!
شعرت بأنه لن يتردد في طلب الشرطة بالفعل في حال قررت عصيانه.. لولا والدها.. لو لم يكن يتوق لهذا المنصب الهام قبل أن يحال إلى التقاعد....
ظل يحدق في وجهها مترقبًا ولكنها لم تقل شيئًا.. فقال يحثها على الحديث:
- حسنًا.. ماذا قررت؟
غمغمت أخيرًا بصوت مختنق:
- سوف أعمل هنا.
نهض واقترب منها وراح يضغط على حروفه قائلًا:
- سوف تعملين عندي.
تأملته في عدوانية يبدو أنها لم تعجبه.. لماذا يزيد الأمر سوءًا؟ أما لاستبداده من نهاية..؟
عاد لحديثه الجاف:
- أول قواعد العمل هنا هي احترام مدير المؤسسة وعدم محاولة استفزازه ولو بنظرة كـ التي تطل من عينيك الآن.. هناك خطوط حمراء لن أسمح لك بتجاوزها.. هل كلامي واضح أم أكرره؟
زفرت بضيق ساخطة فأردف وهو يشير بأصبعه محذرًا:
- لا تزفري في وجهي.. حتى وإن كنا بمفردنا كما نحن الآن.
صاحت بعصبية:
- هل يمكنني أن أتنفس في وجودك أم لا..؟ هل يحق لقلبي أن ينبض أم تريده أن يتوقف هو أيضًا احترامًا لك؟!
تطلع في عينيها الناريتين قائلًا بصوت بارد:
- بل أريد لنبضاته أن تتسارع لأقصى مدى يمكنها الوصول إليه.. فكلما زادت نبضاته أدركت كم ترهبينني.
- قد يتسارع غضبًا وبغضًا و........
طأطأ بشفتيه محذرًا قبل أن يجلس خلف مكتبه في هدوء قائلًا:
- سوف أضطر لخصم أسبوع من راتبك للمحافظة على هيبتي أمام الجميع.. إذا ما أحسنت التصرف خلال الأيام القادمة.. سأعوضك عنه من حافظتي الخاصة.
- احتفظ بنقودك لنفسك فربما احتجت إليها.
زفر بضيق وراح ينقر بأصابعه على خشب مكتبه غاضبًا.. قبل أن يصرخ فيها:
- حسنًا.. سوف أحتفظ بنقودي لنفسي.. ولكنني حقًا لا أريد أن أخصم من راتبك أكثر من هذا.. أخبرتك سابقًا بأنني أكره أن تعملي عندي بلا أجر كالعبيد.
- شكرًا لكرمك أدهم بك.. أهناك أية أوامر أخرى يا سيادة المدير؟
تجاهل السخرية في نبراتها قائلًا:
- عندما أريدك سوف أرسل في طلبك.





noor1984 غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 19-11-20, 07:52 PM   #8

noor1984

مشرفة منتدى قلوب احلام وأقسام الروايات الرومانسية المترجمةوقصر الكتابة الخياليّةوكاتبة،مصممة متألقة بمنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية noor1984

? العضوٌ??? » 309884
?  التسِجيلٌ » Jan 2014
? مشَارَ?اتْي » 23,038
?  نُقآطِيْ » noor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond repute
افتراضي




7- الأسيرة

لم تترك لها تهاني الفرصة كاملة للسيطرة على ملامحها الثائرة وهي تعلن على الملأ في شماتة:
- كان أدهم بك رحومًا بكِ عندما اكتفى بخصم أسبوع واحد من راتبك.. عليكِ إظهار المزيد من الاحترام في المرة القادمة.
صرخت بها في عصبية:
- كفى حديثًا.. انتهى الأمر.
عادت بعدها إلى أوراقها غير مبالية بعيني تهاني اللتين اتسعتا حتى كادتا أن تبتلعاها وهي تحدق فيها غاضبة.. لا عجب في أن هذه الشمطاء الأربعينية لم تتزوج حتى الآن.. إن كانت هي لا تطيق تحملها ساعات العمل القليلة التي تمضيها معها.. فمن هذا الذي سيمكنه أن يتحملها العمر كله؟
خرج بعد قليل من مكتبه وراح يتحدث إليهم بكلمات واهية لا معنى لها.. نهضت في بطء لتشاركهم تحيتهم العسكرية البغيضة.. كان واضحًا أنه أتى خصيصًا ليمتحن مدى طاعتها لأوامره الأخيرة.. فهو يريد أن يعيد هيبته أمام الجميع كما أخبرها.. حانت منه نظرة إليها.. تراخت نظراتها الحادة لتسقط فوق أوراقها بدلًا من وجهه.
قال وكأنه يبرر سبب وجوده.. وكأنه لم يكن يستطيع أن يطلب هذا بضغطة زر فوق مكتبه:
- تهاني.. أريد فنجانًا من القهوة.
- أمرك أدهم بك.. سوف أعده لك بنفسي.
- أشكرك.
ها قد مضى أسبوعها الثالث أيضًا.. والشهر الثالث لها في المؤسسة.. بخلاف تسلط تهاني ورغبتها المستعرة في الانتقام منها بكل فرصة متاحة لم يكن هناك مشكلات تذكر.
أما هو فقد نجحت بسخطها الدائم ونظراتها الحادة في جعله يبتعد عن طريقها قدر استطاعته.. صار يعبرهم كالسهم إلى مكتبه غير عابئ بها أو بغيرها.
تنفست الصعداء وهي توقع في دفتر الانصراف.. غدًا عطلتها الأسبوعية.. يوم من أيامها الحرة التي باتت معدودة منذ عملت في هذه المؤسسة.. بل في مكتبه.. مازال عليها أن تتحمل تسعة أشهر أخرى لتحصل على حريتها كاملة.
دلفت تهاني إلى مكتبه وهي تكاد تهمس كي لا تزعجه:
- سوف أذهب يا أدهم بك.. هل تريد شيئًا؟
- اجلسي.. أريد التحدث معكِ قليلًا.
جلست تتأمله في ترقب.. أخيرًا سألها:
- ما رأيك في الموظفة الجديدة؟
حاولت أن تبدو هادئة حين قالت:
- أداؤها ليس سيئًا.. ولكن...
حدق فيها متسائلًا فأردفت ساخطة:
- طريقتها في التعامل مع زملائها بمن فيهم أنا غير لائقة.
سألها بقلق:
- ماذا تعني بـ "غير لائقة"
- ليست فقط غير متعاونة معنا.. بل متعجرفة وعنيفة لأبعد الحدود.
هز رأسه متفهمًا.. هذا أفضل كثيرًا من إغوائها لهم على أية حال.. لكم أزعجه أن يرى "باسم" أحد أكفأ رجال مكتبه وهو يتلصص النظر إليها خلسة.. لا يريده أن يواجه مصير" مازن" و"عبد العظيم".
- أدهم بك.. عذرًا لتطفلي.. ولكن ما الذي يهمكَ من أمرها.. لماذا تصر على عملها معنا و نحن لسنا في حاجة إليها؟
- هل نسيتِ أنها من طرف مازن بك؟
هزت رأسها في تفهم ولكنها ما لبثت أن عادت تسأله في قلق:
- هل يفكر مازن بك في الارتباط جديًا بهذه الفتاة؟
- هذا ليس من شأننا.. كل ما أريده منكِ هو أن تراقبي تصرفاتها جيدًا.. وأن تكتبي لي تقريرًا مفصلًا عنها من حين لآخر.
- ولكن.....
- تهاني.. نفذي ما أطلبه منكِ فحسب.
- أمرك يا أدهم بك.
*****
ما كادت أعصابها تسترخي قليلًا أمس حتى عادت تضطرب اليوم مجددًا.. جاهدت طويلًا لإقناع نفسها بضرورة التأقلم مع ذلك الروتين القاتل مادامت فشلت في التمرد عليه.. ولكن هذه الشمطاء تزيد مهمتها صعوبة.
كانت منكبة فوق الملفات المكدسة التي وضعتها أمامها وطالبتها بإنهائها عابسة كعادتها.. عندما اقتربت منها فجأة قائلة:
- أدهم بك يريدك في مكتبه.
- يريدني أنا؟
- هل تحدثت لغة غير العربية؟
حدقت في وجهها ساخطة قبل ان تنهض لتنفذ ما طلبته منها.. لم تدخل إلى مكتبه منذ المرة الأخيرة التي طالبها فيها باحترامه.. وها هي تلتزم بخطوطه الحمراء التي رسمها لها.. فلماذا يريدها الآن؟
تطلعت إليه صامتة.. كان منهمكًا في مطالعة بعض"الكتالوجات" فلم يلحظ قدومها.. تنبه أخيرًا إلى وجودها فأشار لها بالجلوس:
أغلق "الكتالوج" وأخرج ملفًا آخر سحب منه ورقة ما وتفحصها قائلًا:
- هذا هو التقرير الذي أعدته الأستاذة تهاني بشأنك.
حدقت به في ترقب.. لن تندهش إذا ما وجدت هذه الشمطاء قد شوهتها وقالت فيها كل سيء.. شعرت بصدمة عندما قال:
- إتقانك للعمل خمسة وتسعون بالمائة.. قلما تمنح تهاني هذه النسبة لأحد مما يعني بأنك متميزة بالفعل.
تأمل تأثير كلماته عليها قبل أن يتابع:
- لاحظت أنا أيضًا مهارتك من خلال التقارير التي كتبتها عن بعض الصفقات التي نفذتها المؤسسة مؤخرًا.
سألته في لهفة:
- هل يعني هذا بأنك ستفرج عني قريبًا؟
تأملها متسائلًا فأردفت في رجاء:
- لحسن السير والسلوك على الأقل.
ابتسم في عذوبة قائلًا:
- أمازلتِ عند رغبتك في ترك العمل؟
إن كان في استطاعته أن يبتسم بهذه الطريقة فلماذا يبخل بها؟ هل يعلم تأثيرها الدامي على كل من يراها لذا يترفق بالآخرين..؟ حتمًا هو لا يدخن.. وإلا ما امتلك تلك الأسنان الناصعة البياض التي تتلألأ كالألماس في فمه.
- آنسة إلهام.. أين ذهبتِ؟
- أنتَ وسيم جدًا عندما تبتسم.
- ماذا..؟
ابتلع ريقه وابتسم في تهكم.. هل تفكر في إغوائه هو شخصيًا هذه المرة.. تصنع اللامبالاة قائلًا:
- فيما يتعلق بالسلوك.. هناك بعض الملاحظات.
نظرت إليه.. بريق عينيها لم ينطفيء بعد.. تابع وهو ينهل بعضًا منه.
- التقرير يقول بأنكَ تتعالين على زملائك وتعاملينهم بعنف.
- هل تريدني أن أدللهم.. ألم يكن هذا يغضبك من قبل؟
صوتها المدلل زاده إزعاجًا فخرج صوته مرتفعًا رغمًا عنه:
- أنا لا أطلب منكِ أن تطعميهم أوتجلسي فوق مكاتبهم و...........
- وماذا أيضًا؟
ضغط على أسنانه قائلًا:
- هناك دائمًا حلول وسطى.. ابتسامة جميلة.. كلمة طيبة.. اعتبريها صدقة إن شئتِ.. على أن تكون بلا هدف خفي.. بلا إغواء.
همست هائمة:
- لماذا لا تتصدق أنت إذًا.. وصدقتك تغريني للتسول؟
ضاقت عيناه وهو يتأملها في تسلية قائلًا:
- اذهبي.
- هل أنتَ على يقين؟
تسمرت عيناه فوقها في تساؤل فأردفت:
- هل تريدني أن أذهب.. أليس هناك ملاحظات أخرى في التقرير ؟
- كلا.
هزت كتفيها في استسلام وهمت بمغادرة الغرفة عندما استوقفها:
- أخبرتكِ من قبل بأن هذه الملابس الرجالية التي تتعمدين ارتداءها على مدار العشرين يومًا لا تناسب سكرتيرة بمكتبي.
همست في نبرة بدت له وقحة:
- أمرك يا سيدي.. فقط اطلب من حارس الأمن السماح لي بالدخول.
- تذكري.. حل وسَط.
ضحكت في مرح قبل أن تغمز له بطرف عينيها وتغادر الغرفة.. ظل يحدق في باب مكتبه شاردًا لبعض الوقت قبل أن يهز رأسه ضاحكًا.. أهذه هي الحياة التي تبثها فيمن حولها؟
كاد يجن في صباح اليوم التالي ما إن وقع بصره على "باسم" الذي بدا كالأبله وهو يحدق في ساقيها بينما هي قد وضعت ساقًا فوق أخرى وكأنها تتباهى بهما أسفل تنورتها القصيرة..
كانت أول من نهض لاستقباله هذه المرة وعلى شفتيها ابتسامة واسعة للمرة الأولى منذ انتقلت للعمل بمكتبه.. في عينيها بريق اخترق زجاج نظارته الداكن ليعبر إلى عينيه.. ما الذي تنوي فعله هذه المرة؟
صاح غاضبًا:
- أستاذة إلهام.. أريدِ في مكتبي.
تأملتها تهاني في عدوانية واضحة بينما ابتسمت هي في لا مبالاة قبل أن تهمس في دلال زادها سخطًا:
- هل أفسحتِ لي الطريق يا آنسة تهاني.. أدهم بك ينتظرني؟
تحركت تهانى كالنائمة لتفسح لها الطريق.. كيف تبدلت هذه الفتاة بين يوم وليلة.. ما هذا الذي تفعله..؟! كانت بالأمس وقحة ولكنها اليوم أكثر وقاحة.. ترى ما الذي يريده منها أدهم بك.. ؟ يبدو غاضبًا.. لا شك في أنه سوف يوبخها على هذه الخلاعة التي لا محل لها في مؤسسة الشربيني.
- أمرك أدهم بك.
مضت فترة من الصمت راح خلاله يتأملها من رأسها ذي الشعر الناري وحتى أظافر قدميها التي طلتها هي أيضًا بلون أحمر صارخ فراحت تلمع في حذائها الأبيض ذو الكعب المسمارى الطويل.. تركت شعرها أملسًا هذه المرة فبات أكثر طولًا عن ذي قبل عندما رآه مجعدًا..
دارت فوق أطراف أصابعها في مهارة راقصة البالية قبل أن تقطع حبال الصمت قائلة:
- ما رأيكَ في أنوثتي الآن؟
همس بصوت خشن:
- ساخنة أكثر مما ينبغي.
ضحكت في مرح قبل أن تهمس في نبرة بدت له أكثر من وقحة:
- الساخن هو ذلك الشورت الذي كنت أنوى ارتداءه لولا خوفي من أن لا يسمح الأمن لي بدخول المؤسسة.. وأنت تعلم أن إجازاتي المتبقية أصبحت محدودة جدًا.
صاح مستنكرًا:
- إلهام...!
كانت المرة الأولى التي يناديها فيها بلا ألقاب.. بدت لها طريقته حميمية آسرة.. كل ما فيه يسلب العقل.. كيف لم تلحظ هذا من قبل..؟! لكم تتمنى الآن أن لا تنتهي هذه السنة أبدًا..؟!
- ما الذي تكتسبينه من إغواء الآخرين ثم تركهم يتألمون؟
- أنا؟
- نعم.
- تتهمني أنا بإغواء الآخرين بينما أنتَ الإغواء ذاته.
- كوني جدية من فضلك.
- ألم تكن هذه أوامرك أمس..؟ أتنكر أنك طالبتني بإظهار بعضًا من الأنوثة في ملابسي.
- ها أنت قلتِها.. بعضًا من الأنوثة وليس كلها.
- شكرًا لإطرائك ولو كان بلا قصد.
ظل يتأملها صامتًا فتابعت:
- ما الذي يثيرك في ثوبي هذا..؟ فهو بالكاد يلفت الانتباه
زفر بضيق.. كيف يخبرها بأن ثوبها في حد ذاته ليس بمشكلة..؟ حركاتها.. ضحكاتها.. نعومتها.. دلالها المفرط.. هم سبب كل الكوارث.. دلالها الذي لا يترك حرفًا من حروفها إلا ويأسره ويأسر معه القلوب.. دلال يغري بالتهام لا شفتيها فقط بل ولسانها أيضًا.. بشرتها التي تلمع كالزجاج فيخطف بريقها العيون خطفًا إليها.. نعومتها المفرطة تغري لعناق أبدي لا فرار منه..
لا شك أن هذه هي الفتاة التي حذره منها جده.. هذه هي من سقط والده قتيلًا بين ذراعيها.. نعم.. أنها هي.. إلهام.. عليه أن يتخلص منها سريعًا.. لابد أن يطردها من مؤسسته ومن حياته شر طردة.. ولكن ماذا عن مازن..؟ ماذا عن هؤلاء المساكين الذين يسقطون في شباكها كل يوم..؟
عليه أن يبقيها هنا في مكتبه.. يحصرها تحت عينيه ليل نهار حتى يأمن الآخرون شرها.. سوف يجعلها تكفر عن كل الساقطات اللواتي دمرن حياته.. عليها أن تحيا عذاب والدته وتعاني مثلها من دموع لا تجف.. عذاب جده أيضًا.. حتى موت أبيه في ريعان شبابه سيجعلها تدفع ثمنًا له.
- أدهم بك.. أين ذهبت..؟ إلى هذا الحد أنوثتي ساخنة؟
أصابها الذهول حين صاح في عدوانية مفاجئة:
- منذ الغد.. بل في مطلع الأسبوع المقبل سيكون هناك زيًا موحدًا للسكرتارية.. سأعمم بعدها التجربة في كل أقسام المؤسسة.. وإلى أن يحدث ذلك عليك أن تلتزمي بزي محتشم لبقية الأسبوع.
- ماذا؟
- ممنوع منعًا باتًا وضع ساقٍ فوق أخرى.. وكذلك الضحك.. صوتك أيضًا يجب أن يكون أكثر خشونة.
- أكثر خشونة..!
- تحكمي في مخارج الفاظك.. اضغطي على حروفك حتى تخرج كاملة.. لا تتحدثي مع الموظفين خاصة الرجال منهم.. وإذا تحتم الأمر فـ......
قاطعته في عدم تصديق:
- أنتَ مجنون.
- مخصوم منكِ ثلاثة أيام.. والآن اخرجي من مكتبي وارسلي لي الآنسة تهاني.
ظلت تحدق به مستنكرة.. ما الذي حدث له..؟ ليس هو ذاته من كانت تحدثه منذ دقائق قليلة..؟!
خطواتها المتهادية زادته جنونًا وقد ظنها دلالًا.. ماذا سيفعل بمشيتها أيضًا؟
نفذ وعده بالفعل واختار لهم زيًا موحدًا.. بلون البن الداكن.. تنورتها الطويلة الضيقة أعاقت خطواتها النشطة المليئة بالحياة.. لابد من شقها قليلًا لتتيح لها المزيد من الحركة والتحرر.
تمادى في استبداده وأمر بتسريحة شعر موحدة للجميع.. تشعر الآن بأنها لم تعد تشبه تهاني وحدها.. ولا بقية زميلاتها من النساء فقط.. بل باتت تشبه زملاءها الرجال..!
اتصلت تهاني تليفونيًا لتعتذر عن عدم المجيء للعمل بسبب صحة والدتها التي تدهورت فجأة وتحتاج إلى رعاية خاصة.. ظروفها تجبرها على أخذ إجازة.. يومين أو ثلاثة على الأكثر حتى تتحسن حالتها قليلًا.. أو تجد ممرضة مقيمة تقوم برعايتها خلال فترة تواجدها في المؤسسة.
شعر بالدهشة عندما رشحتها تهاني لتحل بديلًا عنها حتى تعود هي للعمل.. رغم العداء الظاهري الذي لطالما أرقه بينهما.. لم تكمل بعد شهرها الثاني في مكتبه.. فبالله كيف أصبحت أكثرهم دراية بشتى أموره..؟ على أية حال هو يثق تمامًا في موضوعية تهاني ودقة اختيارها.
لا مفر الآن من السماح لها بالدخول إلى مكتبه.. ألقى عليها نظرة عابرة وهي تتهادى نحوه في خطوات واثقة..
عجبًا..! وكأن كل ما فعله بلا جدوى.. هل هذا هو الزي المحتشم الذي فرضه على كل من يعمل بمكتبه خصيصًا من أجلها..؟!
شعرها الناري مازال مجنونًا يحلق حولها رغم كونها جمعت بعضه خلف رأسها كما طلب منهم.. الخصلات التي تطايرت منه بفعل فاعل زادته جاذبية وزادتها إغراءً.. ماذا الذي يمكنه أن يفعله بها حتى يقلل من تأثيرها الطاغي حتى عليه هو شخصيًا؟
أخذ نفسًا عميقًا قبل أن يعاود النظر إليها من جديد.. ابتسمت في عذوبة وهي تلقي عليه تحية ردها في إيماءة صامتة.. شعرت بالسخط.. أهذا هو استقباله لها بعد طول انتظار..؟ لم تقترب منه منذ جن جنونه في المرة السابقة واتهمها بإغواء الآخرين.
وكأنه يحذر الحديث معها.. لم يتفوه بكلمة واحدة وهي تقدم له الأوراق ليوقعها واحدة تلو الأخرى.. وكأنه يحفظها لا فقط يقرأها.. لماذا يستغرق كل هذا الوقت في استيعابها..؟ أما زال يشك في قدرتها على القيام بالعمل..؟ لماذا لا يثق بها؟
أما هو فكان في عالم آخر حمله إليه عطرها الذي كثيرًا ما جذبه جذبًا إلى قسم الحسابات.. مازالت تستخدم العطر ذاته لم تغيره بعد.. حفظ اسمه عن ظهر قلب منذ اللحظة الأولى التي أخرجه فيها العمال من درج مكتبها.
قال فجأة في لهجة جافة:
- اتركي الملف واذهبي.
- بعض الأوراق يحتاج إلى توقيع عاجل.
- لن أوقع على ورقة قبل التمعن فيها جيدًا.
- خذ وقتك.. سوف أنتظرك.
- كلا.
- لماذا..؟ تهاني كانت تنتظرك حتى توقعها.
- قلتُ اذهبي.. سوف استدعيكِ عندما أنتهي منها.
حدقت فيه بضيق قبل أن تتركه وتذهب على مضض.. لماذا يعاملها بهذا الجفاء..؟ أي ذنب جنته لتكون تلك القسوة جزاء لها..؟ ألم تكفر بعد عن عصيانها ووقاحتها غير المقصودة معه؟
بالكاد غادرت مكتبه فأطاح بالملف في عدوانية لم يستطع التحكم فيها..غير عابئ بأوراقه التي تبعثرت وتناثرت أرضًا.. لا جدوى من الإنكار.. هذه الفتاة سوف تصيبه بالجنون حتمًا.. إلى متى سيتركها تعبث بوجدانه وتلهو به وكأنه طفل صغير..؟ إن لم يعد قادرًا على التحمل فلماذا يصر على بقائها في مكتبه..؟ لماذا يتشبث بها؟
هل مهاراتها المميزة في إجادة العمل هي ما يغريه للتمسك بها متغاضيًا عن وقاحتها التي تفتت الصخور..؟ هل يحمي الآخرين من شرها كما يزعم..؟ أما زالت تطارده حقًا تلك الرغبة في الانتقام منها؟!
أمسك بسماعة الهاتف.. عليه أن يتعجل عودة تهاني إلى العمل.. يجب أن يتخلص من إغوائها له في أسرع وقت ممكن.. حاول أن يستعيد هدوء أعصابه وهو يستمع إلى صوت تهاني على الطرف الآخر من الخط:
- أدهم بك.. كيف أعبر عن شكري لكَ؟
- لا داعي للشكر.. لم أقم سوى بواجبي.. هل وصلكِ المظروف الذي أرسلته مع السائق؟
- نعم يا سيدي.. لم تكن في حاجة لإرسال المزيد من النقود.. خيراتك دائمًا تغمرني.. كيف يمكنني رد أفضالك التي لا تنتهي؟
- كيف حال والدتكِ الآن؟
- أخشى أن صحتها تتدهور بشكل يثير القلق.. ولن يمكنني العودة إلى المكتب قريبًا.. إن كان العمل في حاجة ماسة لي يمكننى البحث عن مرافق لها و......
- كلا.. لا تشغلي بالك.. الأمور هنا تسير على ما يرام.. فقط اعتني بوالدتك.
- بالطبع يا أدهم بك.. وما إن تتحسن حالتها بإذن الله سأعود للعمل فورًا.
- لا عليكِ.. العمل لا ينتهي.. عودي متى شئتِ.. تذكري فقط أن والدتك وحدها لن تتكرر.
وضع السماعة وهو أكثر إحباطًا عن ذي قبل.. لا أمل في عودة تهاني قريبًا.. عليه أن يتحمل هذه الشيطانة لبعض الوقت.. ولكنه سوف يحصن نفسه منها بطريقته الخاصة.




noor1984 غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 19-11-20, 07:53 PM   #9

noor1984

مشرفة منتدى قلوب احلام وأقسام الروايات الرومانسية المترجمةوقصر الكتابة الخياليّةوكاتبة،مصممة متألقة بمنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية noor1984

? العضوٌ??? » 309884
?  التسِجيلٌ » Jan 2014
? مشَارَ?اتْي » 23,038
?  نُقآطِيْ » noor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond repute
افتراضي




8 - غيرة

جاءت لتخبره بأن هناك زائر يدعى حامد بك يريد مقابلته.. صُعقت عندما فوجئت بالأوراق التي تناثرت بعرض الغرفة وطولها..! ترى ما الذي أغضبه في عملها وأثار زوبعته بهذا الشكل؟
راجعتها كلها بعناية قبل أن تعرضها عليه.. فهل هناك ما أغفلته واكتشفه هو..؟ حتى وإن كان قد اكتشف في حساباتها بعض الأخطاء فليس من حقه أن يثور بهذه الطريقة ويلقي بمجهودها أرضًا.. عليه أن يعلم بأن خبراتها لم تنضج بعد إذا ما قورنت بخبراته أو بخبرات الآنسة تهاني..!
تأملته بريبة في نفس اللحظة التي دلف فيها زائره إلى غرفة مكتبه مهللًا:
- أدهم الشربيني.. لك وحشة يا صديقي.
كادت أن توبخ ذلك الهمجي الذي سمح لنفسه بالدخول عنوة قبل أن تأذن هي له.. لولا تدخل أدهم الذي نهض ليصافحه في حرارة رغم ابتسامته الوقورة التي بالكاد ارتسمت فوق شفتيه.
- حامد بك.. يا لها من زيارة كريمة..!
استرخى حامد في كرسيه وابتسم قائلًا:
- أولًا.. أنا سعيد بهذه الزيارة لأنني رأيتك.
- شعور متبادل.. ولكن ماذا عن ثانيًا؟
ضحك حامد قائلًا:
- يا إلهي.. أنتَ لن تتغير أبدًا.. كل ما يشغلك هو العمل.
اتسعت ابتسامته ولم يعلق فأردف زائره:
- حسنًا.. جئتكَ بخصوص أجهزة الكمبيوتر التي استوردتها حديثًا.. أنا في حاجة إلى جزء منها.. وأرجو أن تمنحني سعرًا مقبولًا.
- بالطبع حامد بك.. حدد السعر الذي يناسبك واعتبره في خزانتي منذ الآن.. ما الكمية التي تريدها؟
عض على شفتيه ساخطًا عندما صمت الرجل فجأة وراح يحدق في جسد إلهام بنظرات نهمة تملؤها الشهوة بينما هي قد انحنت أرضًا غير مبالية لتجمع الأوراق المتناثرة وتعيدها للملف.
هتف في عصبية لم يحاول إخفاءها:
- اتركيها الآن وعودي إلى مكتبك.
بدا وكأنها لم تسمعه فأردف في نبرة أعلى:
- آنسة إلهام.. انهضي.
التفتت إليه في لامبالاة قائلة:
- أخشى أن تتلف إحداها.. على أيـ..........
قاطعها في حدة:
- يكفي هذا.. ارسلي الساعي ليجمعها.
همت أن تعترض عندما لاحظت نظرات حامد الوقحة تلتهم ساقيها.. نهضت على عجل وراحت تهندم ملابسها في عصبية قبل أن تقذفه بنظرات نارية قائلة:
- هل تحب أن أرفع تنورتي قليلًا حتى يمكنك مشاهدة ساقىّ بشكل أفضل؟
تأملها الرجل في دهشة أقرب للصدمة قبل أن ينفجر ضاحكًا بمرح بينما زفر أدهم قائلاً في غضب:
- اذهبي الآن.
وضعت الأوراق أمامه وذهبت ساخطة تتبعها نظرات حامد الذي حاول أدهم جذب انتباهه بعيدًا عنها بلا جدوى.
- حامد بك.. لم تخبرني بعد بالكمية التي تريدها.
وكأن الرجل لم يسمعه هتف:
- من أين أتيتَ بهذه الفتاة؟
- ماذا؟
- تسلب العقل.
غمغم أدهم وكأنه يوجه سؤاله لنفسه قبل أن يوجهه إلى حامد:
- ما الذي يغريكَ فيها؟
- كل ما فيها يغريني.. بدءًا من شعرها الناري حتى ساقيها الناعمتين.
ضحك أدهم في عصبية بينما أردف الرجل متيمًا:
- هذه الفتاة النارية لن يقدرها سوى رجل مثلي.
- دعك منها واخبرني بالكمية التي تريدها من الأجهزة.
- سآخذ الكمية كلها لا تقلق.. وبالسعر الذي تحدده أنتَ.
هم أدهم أن يعلق ولكن حامد اقترب برأسه منه وأردف في فضول:
- ولكن اخبرني أولًا من أين أتيت بها؟
- لماذا تشغل نفسك بشأنها لهذا الحد..؟ علمتُ بأنكَ تزوجتَ الشهر الماضي من حسناء بالكاد تجاوزت العشرين.
ضحك حامد قائلًا:
- كان هذا الشهر الماضي كما قلتَ بنفسك.
- هل تقصد بأنكَ قد تتزوجها هذا الشهر؟
- لو عجزت عن الحصول عليها بلا زواج.. ما الذي يمنع؟
مرر أدهم أصابعه في شعره بعصبية لم تخف على حامد الذي همس وهو يحدق في وجهه متفحصًا:
- هل يهمك أمرها..؟
- ماذا تعني؟
- أعلم بأنكَ لا تفكر في النساء كثيرًا.. ولكن لكل قاعدة استثناء.. خاصة وإن كانت إلهام هي المستثناه.
ابتلع أدهم ريقه بصعوبة.. مادام حامد قد التقطت اسمها من المرة الأولى التي سمعه فيها.. فهذا يعني بأنها عششت في رأسه ولن يتركها لتفلت منه كعادته مع أمثالها.
أجابه في حدة رغمًا عنه:
- أنا لا أفكر في النساء لا كثيرًا ولا قليلًا.. كل ما في الأمر أنها تخص صديق لي.. هو من توسط لها للعمل بمكتبي.
- اخبر صديقك هذا بأنني مستعد أن آخذها للعمل عندي بلا أية وساطة.. بل سأدفع له مكافأة.. وربما لكَ أنتَ أيضًا إن أردت.. ما رأيك؟
- عذرًا.. أخبرتك أنها تخص صديق لي وهولا ينوي المتاجرة بها.
تنفس الصعداء عندما نهض حامد أخيرًا ونظر في ساعة يده قائلًا:
- سأترككَ الآن.. فكر في الأمر جديًا.. ألستُ أنا أيضًا صديقك..؟
أستدار إليه مرة أخرى قبل أن يصل إلى الباب وأردف:
- يمكنكَ أن تترك لها الخيار.. أخبرها بالأمر وأنا واثق بأنها ستوافق.. يكفي أنني سأحررها من هذا الزي المدرسي الذي ترغمها على ارتدائه.
تصنع أدهم ابتسامة باهتة ولم يعلق فعاد الرجل يقترب منه قائلًا:
- ما رأيك لو تحضرها وتخيرها الآن.. اتركني أنا أعرض الأمر عليها؟
لم يحاول أدهم إخفاء غضبه وهو يجيبه:
- يمكنكَ أن تعرض عليها الأمر في أى مكان يروق لكَ عدا مكتبي.
ضحك حامد قائلًا:
- حسنًا يا أدهم.. سأفعل.
انصرف زائره وتركه يحترق.. هل ما يشعر به الآن ناتج عن خوفه على حامد بك منها..؟! لماذا لا يتركها له وكلاهما أشد وقاحة من الآخر..؟ حامد هذا أكثر الرجال سعيًا خلف شهواته وملذاته وهي من أكثر النساء دلالًا وخلاعة.. سوف يتركها بعد شهر أو شهرين.. بعد عام على الأكثر.. وهي سوف تجني من ورائه ثروة لا بأس بها.. بل ربما تختار لها زوجًا آخر من هذه الطبقة الثرية قبل ان تتحرر منه ويطلقها رسميًا.. سوف يخلص مازن منها.. سوف يتخلص هو أيضًا من إغوائها المستمر ويخلص مؤسسته منها...
ضغط على الزر فوق مكتبه بعصبية ودعاها للحضور.. وجدها أمامه وكأنها كانت خلف الباب تنتظره كي يمن عليها بالدخول:
- أمرك أدهم بك.. هل أجمع بقية الأوراق من فوق الأرضية؟
ظل يحدق في وجهها حتى أربكها فأشاحت به بعيدًا عنه.. هل تخضب احمرارًا بالفعل أم أنه يتوهم هذا؟ طرد الفكرة من رأسه سريعًا عندما انحنت لتلتقط الأوراق غير مبالية بما حدث منذ قليل.. حانت منه نظرة عابرة إليها قبل أن يبعد أنظاره عنها ويحدق من نافذة مكتبه في اللا شيء.. معذور حامد في إلحاحه إن كان قد أصابه هذا الشعور الذي أصابه هو لتلك النظرة الخاطفة..!
- أدهم بك.. أنتَ لم توقع الأوراق بعد.
استدار إليها بحدة قبل أن يقترب منها عابسًا.. شهقت في ذعر عندما راح يجمع خصلات شعرها المتناثرة بعنف ليضعها كلها في كومة واحدة خلف رأسها ويربطها بتلك الربطة التي نزعها من شعرها بوحشية لا تقل عن الطريقة التي أعادها إليه بها.. لم يدرك في قمة غضبه أنها قد أصبحت بين ذراعيه.. ولا أن عطره هو ما خدرها فلم تعد تشعر بقسوة جذبه لخصلاتها.
همست بصوت يختنق انفعالًا:
- أدهم... أدهم بك يكفي هذا.
تنبه فجأة إلى كونها تلتصق بصدره فأزاحها عنه في عنف قائلًا:
- أوامري يجب أن تطاع كاملة.. تنفذ حرفيًا.. عندما أطالب بجمع الشعر إلى الخلف فأنا لا أجزئه.. لا خصلات متناثرة بعد اليوم.. هل كلامي واضح؟
منعتها انفعالاتها من إجابته.. فظن صمتها تمردًا وعاد يصرخ فيها ثائرًا:
- هل أرضت غرورك نظراته النهمة إلى جسدك؟
- لم أكن أعلم أنه ينظر إليَ.
- أحقًا؟
- حقًا.. ومن أين لي أن أعلم.. كل ما كان يشغلني هو جمع الأوراق لمعرفتي بمدى أهميتها بالنسبة لكَ؟
صرخ غاضبًا:
- فلتذهب الأوراق إلى الجحيم.. ليذهب عملي كله للجحيم.. كان يجب أن تنهضي ما إن أمرتك بهذا.
لم تعد قدماها قادرتان على حملها.. هل يعقل أن يغار عليها لهذا الحد؟ أدهم المتصلب المتحجر ينصهر غيرة من أجلها.. برقت عيناها هامسة:
- أعذرني لم أنتبه للأمر.. سوف أكون أكثر حرصًا في المرة القادمة.
هدأت ملامحه قليلًا قبل أن يشير لها محذرًا:
- نعم.. من الأفضل لكِ أن تنتبهي.. فأنا لن أحتفظ بصوابي للأبد.. والآن عودي إلى مكتبك.
همست في سعادة:
- أمرك.
ما كادت تبتعد عنه حتى عاد يناديها صارخًا:
- انتظري.
استدارت إليه في لهفة فتابع ساخطًا:
- لا أتذكر أن الزي الذي أوصيتُ بتصميمه كان يحتوي على هذه الفتحة الكبيرة في ظهر "الجيب".
- أنا من فتحتها.
- ماذا؟ وتتجرئين على قول هذا أمامي؟
- هل تريدني أن أكذب عليك؟
- الكذب بالنسبة إليكَ حسنة تفتقدينها.
زفرت ساخطة فأردف:
- ولماذا فعلتِ ذلك؟
- هل تقصد لماذا فتحت تنورتي؟
- نعم.
- حتى أستطيع أن أتحرك بحرية.. كانت تعوق حركتي كثيرًا.
قال ساخرًا:
- ولكنها في المقابل لا تعوق حركة زميلاتك الأخريات.
- تعوقها بالطبع.. ولكنهن يرهبنك فقط.
- وسوف أعلمكِ أنتِ أيضًا كيف ترهبينني.
ضحكت في لامبالاة زادته سخطًا وحنينًا في آن واحد ولكنه تصنع القسوة قائلًا:
- سدي هذه الفتحة حالًا.. وعودي لتأخذي الأوراق بعد أن أوقعها.
غمغمت في غنج مثير:
- سوف تعوق حركتي.
- إعاقة حركتك أفضل كثيرًا مما تفعلينه بالآخرين.
استدارت قائلة:
- أنظر جيدًا.. فهي ليست بالسوء الذي تتخيله.
ابتلع ريقه قائلًا:
- اخرجي فورًا ونفذي ما طلبته منكِ.
عادت بعد فترة لتأخذ منه الأوراق التي وقعها.. نظر إليها في دهشة وهي تقترب منه ببطء وكأنها رجل آلي يتحرك بـ "الريموت كونترول".
- لماذا تمشين بهذه الطريقة؟
استدارت ساخطة.. كانت قد سدت الفتحة الكبيرة كما طلب منها.. تصنع الجدية قائلًا:
- هذا أفضل كثيرًا.
- ولكنني لا أستطيع الحركة.
- سوف تعتادين الأمر بمضي الوقت.. تحلي بالصبر.
فتحت عينيها مستنكرة فأردف غير مبالٍ:
- هيا.. خذي هذه الأوراق وعودي لمكتبك.
تقدمت عابسة والتقطت الأوراق.. مازال متجهمًا وكأنها لم تفعل كل هذا إرضاءً له.. ابتعدت بخطوات سريعة لم تسعفها بها تنورتها الضيقة فسقطت أرضًا وراحت تتأوه في ألم:
تمتم ساخطًا في تأثر قبل أن يقترب منها ويساعدها على النهوض.. ما لبث أن أجلسها فوق الأريكة وجلس بجوارها قائلًا:
- هل أنتِ بخير.. حركيها حتى نطمئن.
هتفت في عبوس ممزوج بالألم وهي تدلك الكدمة التي أصابت ركبتها:
- ها أنا قد سقطت بسبب التنورة الضيقة.. وها أنتَ قد هدأت أخيرًا.. وكأنكَ فرحٌ بسقوطي.
ابتسم قائلًا:
- بل سقطتِ بسبب كعب حذائك العالي الذي تصرين على ارتدائه رغم تحذيري المتكرر لكِ.
تطلعت إليه بغضب طفلة فاتسعت ابتسامته قائلًا:
- ثم أنني لستُ سعيدًا بسقوطك حتى وإن كنتِ تستحقين العقاب بعد عصيانك لأوامري.. سقوطك آلمني جدًا.
همست:
- أحقًا؟
بادلها همسها وهو ينظر في عينيها شاردًا:
- حقًا.. أنا منزعج لأجلكِ أكثر مما تتخيلين.
لم تعد في حاجة لتسمع المزيد بل امتدت أناملها ببطء لتتلمس وجنتيه قبل أن تغرسها حالمة بين غمازتيه العميقتين.. انتفض فجأة وأبعد وجهه عنها كمن مسته حية.. أمسك قبضتيها بعنف صائحًا في لهجة أكثر عنفًا:
- ما هذا..؟ هل جننت؟
غمغمت كالمسحورة:
- أدهم.. قبلني.
- ماذا؟
- ضمني إليكَ وقبلني.
ضاقت عيناه وهو يتأملها مذهولًا.. كم يتمنى أن يصفعها الآن..؟! أن يلقى بها ركلًا خارج مكتبه.. خارج مؤسسته.. بل وخارج حياته كلها.. ولكن.. ما الذي يمنعه من أن يفعل؟!
لم يكن يومًا مسلوب الإرادة كما هو الآن..
كالمنوم مغناطيسيًا وجد نفسه بلا وعي يقترب ويلثم شفتيها في تردد قبل أن تزداد قبلاته عنفًا ويحكم ذراعيه حولها حتى ذابت بين يديه وتسربت بين عظامه..
أزاحها عنه أخيرًا وأطلق زفرة طويلة وكأنه يطردها من أعماقه التي تسللت كالهواء إليها بينما ظلت هي بلا حراك تستجمع شتاتها الضالة بلا جدوى.. جزء منها مفقود بين حنايا صدره.. هل سيطلق سراحه ليعود إليها أم سيقرر الاحتفاظ به إلى الأبد..؟
تنحنح طويلًا ولكنه لم يقل شيئًا.. هل فقد صوته أيضًا ضمن أشياء أخرى كثيرة سلبتها منه..؟
قالت بعد أن هدأت أنفاسها:
- أدهم.. أنا.......
هتف في لهجة دفاعية:
- اسمي أدهم بك.. حذار من أن تسقطي الألقاب بيننا مرة أخرى.
تأملته في دهشة.. لماذا يفسد كل لحظة جميلة تجمعهما بمثل هذه القسوة والعدائية المفاجئة.. كيف استطاع أن يُقبلها بهذه اللهفة والرغبة لو لم تكن تعني له شيئًا..؟ جاهدت لتدافع عن كرامتها ولكن الكلمات خانتها.. هربت وتركتها وحدها معه.. تسمر خلف زجاج نافذته وكأنه تمثال من فولاذ لا قلب له ولا مشاعر.. وكأنه لم يكن نارًا صهرتها منذ قليل.. كيف يتبدل هكذا بين لحظة وأخرى؟!
تنبهت لصوته:
- ما حدث بيننا الآن نزوة.. ولن تتكرر مرة أخرى.
- هل أزعجتكَ لهذا الحد؟
- نعم.. لم أكن أتوقع أبدًا أن أفعل شيئًا كهذا مع موظفة عندي.
جمعت الأوراق وهمت بمغادرة الغرفة.. كادت أن تتعثر من جديد وتسقط أرضًا لولا تماسكها في اللحظة الأخيرة.. لم تكن تنورتها الضيقة وحدها سببًا هذه المرة.. بل تلك الغشاوة التي أظلمت عينيها.. لم يسرع لنجدتها كما فعل من قبل رغم كونه استدار عندما سمع تأوهاتها.. اكتفى بالتطلع إليها بملامح جامدة لا حياة فيها قبل أن يستدير لينظر من النافذة مجددًا..
ألم تجد سوى هذا المتحجر لتلقي بقلبها بين صخوره؟
سافر في صباح اليوم التالي دون أن يمر بمكتبه.. أخبرها بالأمر أحد زملائها بعد محادثة هاتفية قصيرة أجراها معه.. لماذا لم يتحدث إليها مباشرة..؟ أليس من المفترض أنها مديرة مكتبه حتى تعود تهاني من إجازتها..؟
كان واضحًا أنه يتجنبها بقدر ما تحاول هي التقرب منه.. لكنها لم تعتد الهزيمة من قبل.. لن تستسلم وتعلن انكسارها أمام لسانه الجارح الذي يقذف سهامه كالأعمى بلا هدف.. يكفي يقينها الذي لا يكذب بأنه يبادلها مشاعرها بأعنف منها.
أسبوع كامل كاد الشوق فيه أن يضنيها بينما اكتفى هو بتحية غير مبالية ألقاها عليهم ليعلن بها عن عودته.. دخل بعدها إلى مكتبه وكأنه لم يتغيب عن عينيها سبعة أيام ولياليها.
دلفت إليه في لهفة ما بعدها لهفة.. ترى هل أعجبه الديكور الجديد الذي اختارته لمكتبه..؟ هل تروقه هذه الزهور الحمراء التي تصرخ بحبه في كل نظرة يمنًّ بها عليها..؟ هل يحلم بها تشاركه هذه الجنة التي جسَّدها فنان مبدع في "تابلو" رائع وضعته فوق الجدار المواجه لمكتبه..؟ النباتات العطرية التي أحضرتها من شرفة منزلها خصيصًا لأجله هل يعشق أريجها كما تعشقه..؟
هتفت في نشوة:
- ما رأيك في غرفة مكتبك الآن؟
أجابها دون أن ينظر إليها:
- لا بأس بها.. أين الفواتير؟
- أية فواتير؟
- التي اشتريتِ بها هذه الأشياء.
- لم أفكر في النقود.. كنتُ أحاول فقط إسعادك.
- هذه المرة سأحاول تقدير ثمنها وأعيده إليك.. احرصي على إحضار الفواتير في المرة القادمة.
انفرجت شفتاها في بلاهة.. ما هذا الجحود الذي يعاملها به..؟ هل هو نادم حقًا على تقبيله لها..؟
- أين تهاني..؟ بلغْني أنها عادت من إجازتها خلال سفري؟
- نعم.. عادت منذ يومين ولكن حالة والدتها تأخرت مرة أخرى فاضطرت إلى تجديد أجازتها حتى تتحسن.
- ووكلتك أنتِ أيضًا؟
صاحت ساخطة:
- إن كنتَ تملك بديلًا يمكنني التنحي.
أجابها فى لامبالاة:
- لا بأس كلكم سواء عندي.
حدقت فيه بعيون تقطر المًا وإحباطًا من فيض قسوته.. ما الذي يعنيه بتلك العبارة.. هل يطالبها صراحة بالبعد عنه.. أيحاول نزع أحلامها من جذورها حتى لا تنبت ثانية..؟
- هل وصلت صفقة العطور الفرنسية؟
- نعم.. موجودة في المخازن منذ ثلاثة أيام.
- حسنًا.. اطلبي لي صافي تليفونيًا.
- من..؟
- صافي هانم الطحان.. رقم هاتفها مدون في الدفتر الذي تحتفظ به تهاني في درج مكتبها.
تطلعت إليه بقلق.. من هي صافى..؟ هل صافي هو اسمها كاملًا أم أنه يدللها؟ هل هي متزوجة أم لا..؟ ولماذا يريدها الآن..؟ ما نوع العلاقة التي تربطه بها؟ وإن لم تكن متزوجة.. فهل يفكر في الزواج منها؟
- لماذا تسمرتِ هكذا؟
تلعثمت قائلة:
- في أي شيء تريدها؟
- ماذا..؟ وما شأنكِ أنتِ؟
- أقصد.. بماذا تريدني أن أخبرها؟
- أخبريها فقط بأنني أريدها في مكتبي.. الآن.
الثقة التي يتحدث بها أقرب للغرور.. ألهذا الحد يثق بتلك "الصافى".. أم أنه يثق في نفسه ليس أكثر..؟
تحركت تائهة لتنفذ ما طلبه منها عندما استوقفها صوته متهكمًا:
- ها قد بدأتِ تتأقلمين جيدًا مع التنورة الضيقة رغم عدم وجود فتحات بها.
غمغمت في حدة ملأته تسلية رغمًا عنه:
- يكفي أنني تأقلمت مع العمل في مكتبك لأتأقلم مع أي كارثة أخرى.




noor1984 غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 19-11-20, 07:54 PM   #10

noor1984

مشرفة منتدى قلوب احلام وأقسام الروايات الرومانسية المترجمةوقصر الكتابة الخياليّةوكاتبة،مصممة متألقة بمنتدى قلوب أحلام

 
الصورة الرمزية noor1984

? العضوٌ??? » 309884
?  التسِجيلٌ » Jan 2014
? مشَارَ?اتْي » 23,038
?  نُقآطِيْ » noor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond reputenoor1984 has a reputation beyond repute
افتراضي




9- وديعة و شرسة

ها هو اسمها.. صافي الطحان.. وجدته في الصفحة الأولى من دفتر تهاني.. أمسكت سماعة الهاتف وطلبت الرقم في عصبية.. انتظرت قليلًا حتى بلغ مسامعها صوت ناعس هادئ النبرات.. زادت عصبيتها وبلغت ذروتها عندما استشعرت تلك اللهفة والسعادة التي غمرت صوت صافي وهي تخبرها برغبة أدهم في لقائها.. صوتها وحده كان إعلانًا صريحًا عن كونها متيمة به.. ومن الواضح أنه يعلم هذا جيدًا.
بالكاد ساعة قد مضت قبل أن تجدها أمامها.. كانت في بدايات العشرينات بيضاء البشرة.. رقيقة الملامح.. يتوج رأسها شعر أسود لامع طويل يزيدها أنوثة وجاذبية..
همست في نعومة ورقة:
- أدهم بك في انتظاري.
ظلت تحدق فيها بعض الوقت قبل أن تنهض مرتبكة لتقودها إلى مكتبه صامتة.. لم تسألها حتى عن اسمها.
نهض يصافحها بابتسامة عريضة وحرارة بدت لها مزيفة كتلك التي انبعثت منه عندما ضمها إلى صدره منذ أيام قليلة.. لماذا كرهت غمازتيه في هذه اللحظة بقدر ما عشقتهما سابقًا..؟
قالت غريمتها بصوت متيم يهيم شوقًا:
- أدهم... سعادتي بدعوتك لا تقلل من دهشتي لها.
اتسعت ابتسامته قائلًا:
- وصلتني مجموعة رائعة من أشهر العطور الفرنسية.
- أهذا ما ذكرك بي؟
اكتفى بنظرة جريئة وابتسامة خفيفة لم تغادر شفتيه.. أحنت صافي رأسها الذي تخضب احمرارًا لشدة الخجل وربما العشق.
هي أيضًا تخضب وجهها احمرارًا لكنه لم يكن خجلًا.. كان جنونًا وغضبًا.
ما الذي يجبرها على البقاء في مكتبه حتى الآن ومشاهدة هذه الدراما القاتلة..؟ لماذا لا يطردها هو ما دامت قدماها لا تطاوعانها على الذهاب وتركهما معًا..؟
ولكن إن كان يفعل هذا في وجودها فما الذي سيفعله حال ذهابها..؟ هل يمكن أن يضمها ويقبلها كما فعل معها..؟ وبمثل هذه اللهفة التي كان عليها؟
شوقه يومها لم يكن يقل عن شوقها إليه مهما حاول تجاهل الأمر وإنكاره..!
فتح الكرتونة التي أحضرها له الساعي منذ قليل ورص محتوياتها فوق مكتبه بالقرب من صافي قائلًا:
- اختاري ما شئتِ منها.
نظرت إليه بتردد فأردف بنبرة ناعمة لم تعتدها منه:
- يمكنك الاحتفاظ بها كلها إن شئتِ.
اتسعت ابتسامتها قائلة:
- اختر لي أنتَ العطر الذي تفضله.
ألقى نحو إلهام نظرة عابرة زادتها جنونًا.. وكأنه ينتقم منها..! ولكن لماذا وهي لم تعشق أحدًا في حياتها كما تعشقه؟
فقدت قدرتها على التحكم في انفعالاتها فهتفت في صافى:
- يمكنني أنا مساعدتك مادمتِ لا تستطيعين التمييز.
التفتت إليها صافي في حدة وكأنها تراها للمرة الأولى بينما صاح هو بها في لهجة جافة:
- أمازلتِ هنا..؟ عودي إلى مكتبك.
كان يتعمد إهانتها.. يتظاهر بأنه تفاجأ بوجودها.. وكأنه لم يكن ينظر إليها منذ قليل..!
همست بصوت عانت كثيرًا للتحكم في نبراته:
- أمرك أدهم بك.
تبعتها صافي بعينيها في ريبة حتى غادرت الغرفة واستمرت بعدها طويلًا تنظر للباب المغلق خلفها.. هو أيضًا لم يتفوه بكلمة واحدة حتى غمغمت صافي:
- من تكون هذه الفتاة؟
تصنع اللامبالاة قائلًا:
- صديقة مازن.. طلب مني تعيينها في مكتبي.
- عذرًا.. ولكنها تبدو وقحة جدًا.
ابتسم في تهكم قائلًا:
- دعكِ منها.. أمازلتِ تريدين مني اختيار عطر لكِ؟
هربت من عينيه وعضت على شفتيها وهي تهز رأسها موافقة.. تأمل ملامحها التي أكلها الخجل عن آخرها فلم يعد يميزها.. تقدم منها وبين يديه زجاجة من العطر قد نزع غطاءها.. عانى ليرفع رأسها التي التصقت بصدرها توترًا وخجلًا.. استنشقت بعضًا من الزجاجة التي قربها من أنفها وابتسمت راضية.
نعم.. صافي هي الزوجة التي يريدها.. رقيقة مهذبة ناعمة.. تسلم له إرادتها طواعية.. صافي ستجعل الحياة سلسة هادئة.. سوف تربي أطفاله على الخلق والفضيلة.. يكفي أنها لن تشاكسه ليل نهار كتلك النارية المجنونة التي لا تكف عن مجادلته كلما جمعهما حديث مشترك.. تلك الحمقاء الوقحة التي لا تتورع عن إشباع رغباتها البشعة مهما استنكرها من حولها..!
*****
لم يكن الحال في منزلها أفضل.. تعرضت والدتها لأنفلونزا مفاجئة سقطت على إثرها طريحة الفراش.. والدها كان أكثرهم انزعاجًا.. فقد حصل على الترقية الأسبوع الماضي.. أصبح الآن مديرًا عامًا في وزارة الري .. كان يتمنى أن تشاركه زوجته عشاء العمل الفاخر الذي أعده زملاؤه له في أكبر فنادق القاهرة.. ولكن كيف وحالتها تزداد سوءًا ساعة بعد أخرى رغم الأدوية والمسكنات والكمادات التي لا يكف عن وضعها فوق جبهتها منذ الصباح..؟
همست زوجته بصوت واهن وأنفاس متقطعة:
- حبيبي.. اقبل اعتذاري عن هذا الذنب غير المقصود.. كم كنت أود أن أكون بجوارك في هذه المناسبة الرائعة ولكن ما باليد حيلة..؟!
قال محبطًا:
- لولا أن هذا العشاء أقيم خصيصًا لأجلي ما كنتُ ذهبتُ.
ربتت على كفه قائلة:
- تهنئتي القلبية يا زوجي الحبيب.. تمتع بوقتك وعندما تتحسن حالتي سأطالبك بتعويض في نفس الفندق.
- وكيف سأذهب بمفردي بينما كل منهم مع زوجته؟
هتفت سلوى في حماسة رغم وهنها:
- خذ معكَ إلهام.. ربما يتحسن مزاجها السيء.. منذ فترة وأنا أراها مهمومة شاردة.. يبدو أن العمل في هذه المؤسسة يزعجها بالفعل.
- أين هي الآن؟
- في غرفتها.
- وماذا عنكِ..؟ كيف نتركك بمفردك وأنت على هذه الحال؟
- أنا سوف أخلد للنوم الآن.. لا تشغل بالكَ بي.
جففت دموعها سريعًا وتصنعت ابتسامة باهتة لم تقنع والدها الذي دلف للتو إلى غرفتها.. راح يدقق النظر فيها طويلًا قبل أن يغمغم:
- لقد طرقتُ بابك ولكن يبدو أنكِ كنتِ شاردة.
انفرجت شفتاها لتقول شيئًا ولكنها عادت لتطبقهما من جديد بعد أن عجزت عن تنسيق كذبة مقبولة لا تثير ريبة والدها الذي جلس بجوارها على الفراش وأمسك يدها في حنان قائلًا:
- ماذا بكِ يا حبيبتي.. أمازلتِ تعانين من العمل في مؤسسة الشربيني؟
- أبدًا يا أبي.. بدأتُ أعتاد الأمر.
- صارحيني يا ابنتي.. ربما أمكنني مساعدتك؟
- مجرد روتين مزعج.. لم أعتده من قبل.
تنهد وهو يتأملها في شك قبل أن يقول:
- هيا ارتدي ملابسك إذًا.
- لماذا؟
- سنكسر الروتين الذي يزعجك.
- وماذا عن والدتي؟
- هي صاحبة الفكرة.
*****
لم يكن أحد ليصدق أبدًا بأن هذا الشاب الهادئ الوديع.. هو ذاته أدهم الشربيني الذي تتبارى الصحف لالتقاط صورة حقيقة له بعد كل ما أثير حوله من حكايات أقرب للأساطير.
نظراته تتحرك في بطء وكأنها كاميرا رادار متخفية تسجل كل ما حوله من أحداث بالصوت والصورة.. بالكاد تنفرج شفتاه بكلمات مقتضبة من حين لآخر لتعلن عن مشاركته في الحوار مع هذا اللفيف الكبير من رجال الأعمال والذي لم يكن يتوقع هو شخصيًا أن يجتمع عندما قبل دعوتهم.
يبدو لامباليًا.. من يراه لا يمكن أن يصدق أبدًا أن رأسه يزدحم بعشرات الصفقات وأتى اليوم خصيصًا كي ينتهي منها.
ها هي صافي قد أقبلت تتأبط ذراع والدها.. على شفتيها ابتسامة واسعة تلاشت عندما تعثرت نظراتها بـ زينة الباجوري تجلس بجوار أدهم وتهمس في أذنيه بميوعة لم ترق لها.. ليتها بكرت قليلًا في المجيء.. لكانت هي من تجلس بجواره الآن.
إيمى زهران أيضًا جلست بجواره من الجهة الأخرى وتحاول جذب انتباهه باستماتة.. صوتها كاد يغطى على كل الأصوات الأخرى بما فيها أصوات الرجال لا النساء فقط.. عيناها تسمرتا فوق وجهه في ولع مفضوح.
ولكنه.. رغم الصخب من حوله.. مازال يسمع رنين ضحكاتها المرحة في كل الأصوات.. وكأنها الوحيدة التي تعرف كيف تضحك..!
كل شعر ناري يخطفه إليها خطفًا.. لم يستطع أن يطردها من أعماقه بعد.. محاولاته كلها فشلت.
اهتمامهم الزائد به وتدليلهم المفرط له زاده سخطًا بدلًا من أن يفرحه.. كان من المفترض أن هذا عشاء عمل يحاول من خلاله الترويج للبضائع التي امتلأت بها مخازنه.. عله يُفسح مكانًا للبضائع الجديدة التي ستصل خلال أيام قليلة.. لماذا أحضر كل منهم ابنته معه وكأنها دعوة خاصة لعشاء عائلي حميمى..؟
لقد وقع اختياره على صافي الطحان وانتهى الأمر.. ولكن ربما ليس من الصواب أن يعلن عن هذا الآن.. فليترك لهم الأمل في الإيقاع به حتى يحقق هو أمله في عقد صفقات ناجحة معهم.
ساعدته الكميات الكبيرة التي يستوردها على تقديم سعر منافس قوي.. أقل كثيرًا من الأسعار المتداولة في السوق مع الاحتفاظ بقدر لا بأس به من الربح.
لم يمض وقت يذكر حتى تمكن من بيع معظم الكميات الموجودة لديه إن لم يكن كلها.. كان محظوظًا بالفعل.. من الجيد أنه لم يرفض دعوتهم له اليوم كما اعتاد أن يفعل سابقًا.
بدأ يشعر بالملل ويفكر في طريقة لبقة للهرب من صحبتهم عندما اقترب منه حامد وهمس في أذنيه:
- أدهم.. أليست هذه الفتاة النارية هي بعينها التي رأيتها في مكتبك منذ أيام قليلة؟
استدار أدهم في حدة ليحدق إلى حيث أشار برأسه.. إنها هي بالفعل.. تبدو هائمة وهي تستمع لهذا الخمسيني المتصابي الذى يبادلها نظراتها العاشقة وعلى شفتيه ابتسامة واسعة.. ترى من يكون هذا الرجل..؟ كان واضحًا أنه المحور الرئيسي لهذه الجلسة.. كيف وأين ومتى تعرفت عليه..؟
هتف به حامد بصبر نافد:
- أدهم.. فيما تُحدق كل هذا الوقت..؟! أنا على يقين من أنها هي بعينها.
استدار ساخطًا وتصنع البلاهة قائلًا:
- لست متأكدًا بعد.. شكلها مختلف.
- كيف هذا..؟ أنا على يقين بأنها هي.. هى تمامًا كما تخيلتها أنا بدون زيك المدرسي الذى تفرضه عليها.
جاهد ليظهر هادئًا بينما أردف حامد في شماتة:
- أتمنى لكَ حظًا أوفر في المرة القادمة يا صديقي.. يبدو أنها تفضل الناضجين أمثالي.. أنظر كيف تحيط عنقه بذراعيها؟
أشار حامد إلى نفسه وعاد يقول معاتبًا:
- ألم يكن صديقكَ أولى بهذه الرومانسية..؟
زفر أدهم بضيق ولم يعلق.. فأردف حامد مبتسمًا:
- ولكن لا بأس.. الفرصة لم تزل سانحة.. لن يهدأ لي بال حتى أصل إليها وأجرب طبعها الناري.
راح يضحك لنفسه بصوت مرتفع زاد أدهم جنونًا وهو يقاوم بصعوبة تلك الرغبة الملحة التي تدفعه دفعًا للتلصص عليها.. وكأنه في حاجة إلى المزيد من الدلائل على فجورها ووقاحتها..!
اقترب منه أحد رجاله وهمس له بشيء جعله يتمتم بضيق:
- كيف عرفوا بالأمر؟
- لستُ أدري يا سيدي.. ولكنهم على أبواب الفندق.
نهض بلا مقدمات واختفى من بينهم.. تتبعته صافي بنظراتها ظنًا منها بأنه ربما ذهب لدورة المياه كما ظن غيرها.. ولكنها شعرت بصدمة عندما وجدته يغادر الفندق فجأة.
انطلق يهبط الدرج عدوًا ليستقل سيارته ويهرب من المكان.. ابتسم لنفسه وهو يتذكر الصحفي الذى أمسك بالكاميرا وكاد أن يصطدم به عندما عبر بوابة الفندق مسرعًا في اللحظة ذاتها التي كان هو يغادره فيها.
نظرت إلهام في دهشة إلى الصحفي الذي اقترب من طاولتهم مبتسمًا وراح يلتقط لهم مئات الصور كان لها ولوالدها النصيب الأكبر منها.. تطلعوا إلى بعضهم البعض في تساؤل.. ترى هل أخبر أحدهم الصحافة بالأمر..؟ ومن هو صاحب هذه اللفتة الرائعة؟
هتف والدها في تأثر:
- شكرًا لكم يا أعزائي.. ولكن الأمر لم يكن يستدعي كل هذه الضجة.. الصحافة أيضًا.. هذا كثير..!
نظر زملاؤه بعضهم لبعض في حيرة.. هناك التباس ما في هذا الأمر.. فكرة إبلاغ الصحافة لم تخطر ببالهم من الأساس فكيف علم رجالها؟!
لم يمض وقت طويل حتى ارتفعت ضحكات هيستيرية من مائدة على بعد خطوات منهم.. تضاعفت دهشتهم وهم يحدقون في هؤلاء الرجال الذين تخلوا عن وقارهم فجأة وراحوا يضحكون بهذه الطريقة الصبيانية الملفتة.. بينهم الكثير من الرجال الذين استطاع والدها تحديد هويتهم بدقة.. كانوا على قدر كبير من الشهرة والثراء.. هى أيضًا تعرفت على بعضهم.. ممن يأتون إلى مكتب أدهم لعقد صفقات معه.. انقبض قلبها في عنف.. أتراه هنا الآن؟
تجولت عيناها فيهم كالمحمومة تبحث عنه ولكنه لم يكن بينهم.. ها هي دميته الجميلة تجلس هناك وعلى شفتيها ابتسامة تشبهها.. بلا نكهة خاصة.. رفعت رأسها في كبرياء عندما غمز لها حامد مبتسمًا.. الوقح الذي كان يتمعن في ساقيها ذلك اليوم..
أشاحت بوجهها عنه غير مبالية.. ولكن يبدو أن الرجل لم ييأس بل نهض واقترب من طاولتهم وطلب منها مشاركته في الرقصة التي بدأت للتو.. تأمله والداها في دهشة قبل أن يترك لها حرية الاختيار كعادته.
قالت في هدوء تقدم الرجل لوالدها:
- حامد بك.. أحد عملاء مؤسسة الشربيني يا أبي.
هز والدها رأسه متفهمًا قبل أن يصافح حامد الذي يبدو أنه فوجئ بالأمر قبل أن يغمغم مبتسمًا :
- أنا سعيد بمعرفتك يا سيدي.
لم يكف حامد عن الضحك وهو يراقصها.. نظراتها النارية لم تخفف من وقاحته واستفزازه لها بحركاته الصبيانية.
- ما رأيك في العمل معي؟
- وماذا عن أدهم بك؟
- أدهم كالجن.. لا تحملي همه.
ابتسمت ولم تعلق فأردف:
- ألم تري كيف اختفى الليلة قبل أن يصل الصحفيين إليه؟
لم تُخف صدمتها وهي تغمغم:
- أدهم.. أدهم بك كان هنا الليلة؟!
- واختفى كالشبح بعد أن تخلص من كل السلع الراكدة في مخازنه.. لم يكن تسلله من الفندق مفاجأة للصحفيين فقط.. بل كانت مفاجأة لنا جميعًا.
- كل هؤلاء الصحفيين كانوا لأجله إذًا..!
- نعم.. يبدو أن هناك أنباء تسربت عن وجوده في الفندق الليلة.. ولكنه علم بالأمر في الوقت المناسب كعادته.
هز رأسه وأكمل ساخرًا:
- عجيبة هذه الدنيا..! تبسط ذراعيها دائمًا لمن يدير لها ظهره.. تخيلي.. كل وسائل الإعلام تسعى خلف أدهم وهو يسعى للهرب منها.. مع أن جميعنا نسعى إليها من حين لآخر.
صمتت شاردة.. ترى هل رآها أدهم..؟ ما الذي كانت تفعله عندما رآها..؟ وماذا سيظن بها هذه المرة؟
عُقَده لم تعد خافية عليها.. فهو أكثر من رأت تزمتًا وجنونًا وتفسيرًا شاذًا لكل أفعالها.
- إلهام.. أين ذهبتِ؟
تصنعت ابتسامة قائلة:
- انا فقط أنصت إليكَ.
- محظوظ أدهم.
- لماذا..؟ لأن الصحافة تطارده؟
ضحك وقال يغازلها:
- يكفي كونكِ تعملين في مكتبه لأحسده.
بادلته ضحكاته في مرح قائلة:
- إلى هذا الحد؟!
- وأكثر من هذا الحد.. أنتِ تدفنين نفسك بالعمل مع هذا الفظ المغفل.
ضاقت عيناها مستنكرة فأردف:
- تخيلي أنه لم يتعرف عليك عندما أعلمته بوجودكِ.. رغم كونه ظل يحدق فيكِ زمنًا.
ابتلعت ريقها في عصبية لقد رآها بالفعل.. وهل حقًا لم يتعرف عليها أم أنه تصنع البلاهة كعادته كلما أراد الهرب من موقف يزعجه؟
عاد حامد يقول ساخرًا:
- كم مضى لكِ بالعمل في مكتبه؟
- ثلاثة أشهر تقريبًا.
- هل صدقت إذًا..؟ أدهم ليس له في النساء..عندما يتعلق الأمر بهن يكون أكثرنا غُشمًا وغباءً.
صمتت قليلًا قبل أن تسأله في فضول:
- وماذا عن صافي الطحان.. يبدو لي أنه ميال إليها؟
ظهرت الدهشة فوق ملامح حامد وهو يغمغم:
- صافي الطحان..؟!
- نعم.. يستقبلها في مكتبه.. وهي أيضًا تبدو متيمة به.
- من الطبيعي أن تتيم هي به.
أشار إلى الطاولة التى تجمعهم وأردف:
- انظرى.. كل هؤلاء الفتيات.. أتى بهن أباءهن خصيصًا من أجل أدهم.. فهو بالنسبة لمعظم رجال الأعمال وبناتهم زوج لن يتكرر.. كنز بكل ما في الكلمة من مَعنى.
- أكل هذا من أجل ثروته؟
- كلا بالطبع.. بالإضافة إلى كون أدهم شاب وسيم ثرى موفور الصحة.. فهو مشهود له بالسمعة الطيبة والخلق الرفيع.. يكفيه فخرًا كونه لا يدخن ولا يشرب الخمر.. عكس ما هو سائد في عالم رجال الأعمال.. أما عن تجاربه مع النساء فتكاد تكون منعدمة.
قالت تستدرجه في الحديث ليكشف لها عما يعرفه:
- لكل قاعدة شواذ.. ربما صافي شيء آخر بالنسبة له.
- على أية حال.. صافي الطحان كالسلعة المعمرة.
- ماذا تعني؟
صدمها قائلًا:
- إن كان يتقرب منها حاليًا.. فهذا يعني أنه قد بدأ يفكر جديًا في الزواج لإنجاب ولي العهد.
غمغمت بضيق:
- زواج.. وماذا عن الحب؟
قهقه حامد قائلًا:
- الحب.. الحب كاللعنة بالنسبة لأدهم.. مُحال أن يمكنه من نفسه.. أدهم كالآلة لا قلب له ولا مشاعر .. حاسوب الكتروني كل مخرجاته تعتمد على الأرقام والعمليات الحسابية.
هل ما تسمعه الآن يمكن أن يكون حقيقة..؟ هل ألقت بقلبها بين الصخور بالفعل..؟ ألن يتزوج أدهم سوى بهذه الطريقة الحسابية البغيضة؟
ابتسمت في ارتباك قائلة:
- أرى أنكَ تبالغ بحكمك هذا.
- تقولين هذا لأنكِ لا تعرفين شيئًا عن حياته الخاصة.. ولا كيف كانت طفولته وصباه.. أدهم عانى كثيرًا.
- لقد أثرت فضولي حامد بك.. كُلي آذان صاغية.
أشار لوالدها قائلًا:
- ليس الآن.. والدك يستعجلنا.
- متى إذًا؟
- اختاري أنتِ الوقت والمكان الذي يناسبك.
كان الفضول يقتلها لمعرفة كل ما يتعلق به.. كادت أن تهتف في حامد لهفة "أخبرني الآن.. هنا في هذا الفندق.. حيث نرقص".
ولكنها في النهاية تصنعت ابتسامة قائلة:
- صعب جدًا حامد بك.. ليس لدي وقت.
- ماذا عن الغد؟
- سأكون في مكتب الشربيني.
- كوني في مكتبي أنا.. دعكِ منه.
- سوف يفصلني.
- هذا ما أريده.
ضحكت في غنج ولم تعلق.. فعاد يلح عليها:
- ما رأيك في تناول العشاء معي هنا غدًا؟
- سوف يتأخر الوقت بنا.. لن يوافق والدي.
- نجعلها غداء بدلًا من عشاء.
- وماذا عن مواعيد المكتب؟
- استأذني منه ساعة مبكرة.. وسوف أنتظرك بسيارتي أمام بوابة الخروج الرئيسية.
تاهت في صراع ما بين القبول والرفض.. ما بين فضولها وحيائها.. فهي لا تنوي إقامة علاقات خاصة مع زملائه من رجال الأعمال.. ماذا سيظن بها أدهم لو علم بالأمر مصادفة؟ ألا يكفي أحكامه الجائرة عليها لمواقف طالما كانت للدعابة لا أكثر..؟!
عاد حامد يحثها على القبول:
- لا تترددي يا إلهام.. أعدكِ بأنك لن تندمي.. سأجعله يومًا مميزًا جدًا في حياتك.
لم يكن إلحاحه سببًا في قبولها لدعوته بقدر ما كان فضولها حافزًا قويًا لها.. كانت في حاجة ماسة لمعرفة كل شيء عنه.. لا شك في أن هناك شيء ما بماضيه له علاقة قوية بكل ما تعانيه هي من عنف وقسوة لا مبرر لهما.





noor1984 غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:24 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.