آخر 10 مشاركات
ليلة مع زوجها المنسي (166) للكاتبة : Annie West .. كاملة (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          دانبو ...بقايا مشاعر (الكاتـب : ahlem ahlem - )           »          وأذاب الندى صقيع أوتاري *مميزة ومكتملة* (الكاتـب : سعاد (أمواج أرجوانية) - )           »          سمراء الغجرى..تكتبها مايا مختار "متميزة" , " مكتملة " (الكاتـب : مايا مختار - )           »          دين العذراء (158) للكاتبة : Abby Green .. كاملة مع الروابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          و آن أوان قطافك * مميزة **مكتملة* (الكاتـب : ahlem ahlem - )           »          العشيقة البريئة(82)للكاتبة كارول موتيمور(الجزء الثالث من سلسلة لعنة جامبرلي) كاملـــه (الكاتـب : *ايمي* - )           »          بروحي أشمُّ عطرك(81)(مميزة) _حصرياً_قلوب نوفيلا_للرائعة(bambolina) كاملة+الروابط (الكاتـب : bambolina - )           »          أهلاً بكِ في جحيمي للكاتبة الفاتنة: عبير قائد (بيـــرو) *كاملة & بالروابط* (الكاتـب : Omima Hisham - )           »          قيدك الماسي (7) -رواية غربية- للكاتبة المبدعة: Shekinia [مميزة]*كاملة &الروابط* (الكاتـب : shekinia - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

Like Tree11647Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 23-07-22, 10:10 PM   #2931

جولتا
 
الصورة الرمزية جولتا

? العضوٌ??? » 464323
?  التسِجيلٌ » Apr 2020
? مشَارَ?اتْي » 540
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Jordan
?  نُقآطِيْ » جولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond repute
افتراضي


مريم اهلا وسهلا بعودتك والله اسمك اله وحشه قبل بداية كل فصل بتسجيل حضورك
ان شاء الله اخر الغيبات 😍


جولتا غير متواجد حالياً  
التوقيع
أشكو للورد عن شوقي لأجملها
فتذبل وتنثر ريحانها في الأفقي
🖤
رد مع اقتباس
قديم 23-07-22, 10:26 PM   #2932

خلود حليب

? العضوٌ??? » 426566
?  التسِجيلٌ » Jun 2018
? مشَارَ?اتْي » 226
?  نُقآطِيْ » خلود حليب is on a distinguished road
افتراضي

مرحباااااااااااا
موووفقييين


خلود حليب غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 23-07-22, 10:34 PM   #2933

نيفين حلم

? العضوٌ??? » 504629
?  التسِجيلٌ » Jul 2022
? مشَارَ?اتْي » 286
?  نُقآطِيْ » نيفين حلم is on a distinguished road
افتراضي نيفينننن

شكرا علي مجهودك الرائع ٠💕💕💕💕💕💕💕💕💕💕💕💕💕💜💜💕💜💜💜💜💜💜💜💜💜💜💕

نيفين حلم غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 23-07-22, 10:36 PM   #2934

نيفين حلم

? العضوٌ??? » 504629
?  التسِجيلٌ » Jul 2022
? مشَارَ?اتْي » 286
?  نُقآطِيْ » نيفين حلم is on a distinguished road
افتراضي نيفيييييين

❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤❤💚💚❤❤💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚 💚💚💚💚

نيفين حلم غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 23-07-22, 10:51 PM   #2935

Lamees othman

كاتبةفي قسم قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية Lamees othman

? العضوٌ??? » 453673
?  التسِجيلٌ » Aug 2019
? مشَارَ?اتْي » 2,373
?  مُ?إني » Jordan
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Jordan
?  نُقآطِيْ » Lamees othman has a reputation beyond reputeLamees othman has a reputation beyond reputeLamees othman has a reputation beyond reputeLamees othman has a reputation beyond reputeLamees othman has a reputation beyond reputeLamees othman has a reputation beyond reputeLamees othman has a reputation beyond reputeLamees othman has a reputation beyond reputeLamees othman has a reputation beyond reputeLamees othman has a reputation beyond reputeLamees othman has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   pepsi
¬» قناتك mbc
?? ??? ~
وسخر لي الجسد والحواس في سبيلك
افتراضي



الفصل السادس والثلاثون "قبل الأخير" ..



غيابك مُرّ العمر ..لا ترحل يا سُكّر!

استشارة طبية: ألاء سعودي.

ترجل منتصر من سيارة السائق الذي أوصله من دوامه وولج إلى البيت لتحضير نفسه للذهاب إلى وضاح قبل الجميع، صعد مباشرة لحجرته وهناك وجد وضاح الصغير يجول في الغرفة وبكفه هاتف والدته يصدح بأغاني الأطفال وهو يردد:
-توت.. توت.
رفع نظراته له ورمى بالهاتف على الأرض راكضًا نحوه فتلقفه منتصر وكور كفه بقبضة ليفعل الصغير مثلها ويضرب قبضته، التفتت لبنى المنهمكة في كي ربطات العنق لهما، ابتسمت له وقلبت الرابطة تطويها، تقدمت منه ورفعت وجهها تتلقى قبلتها التي سقطت ببطء ناعم على وجنتها.
همست بتساؤلها:
-لِمَ تأخرت؟
أنزل الصغير ورد عليها بإرهاق:
-الباشا كان في زيارة لنا.
هزت رأسها بهدوء وزفرت تعبها ثم عادت لوجهه الحبيب:
-هل تود أن أضع لك شيئاً خفيفاً تأكله قبل أن تذهب؟
نفى بعد إغماضة بسيطة لجفنيه المتعبين:
-لا.. سأستحم وأذهب من فوري.
أومأت له باستحسان ومضت صوب طاولة الكي التي ذهب وضاح إليها لنثر ما تحويه كالمعتاد، التقطت الرابطة التي رماها الصغير وأخبرته:
-حسنًا.. ثيابك جاهزة أساسًا.. سأصنع لك قهوة.
غاب في الداخل فرمقته بنفسٍ يشهق الحب تحفظه من عينها أولاً قبل أي عين ترمقه بزيه العسكري "الفوتيك" الذي لم تره يليق على أحدٍ مثله، بطوله وبنيته العسكرية وهيبته الفطرية الخالصة؛ مضت تلملم حاجياته وتعيد ترتيبها فتنبهت لهاتفها الذي لا زال يصدح بأغاني الأطفال، تنهدت لشقاوة الصغير وأخذته من مكانه الذي يبعثر فيه حاجيات والده وأسكتت تذمره بالهاتف، خرج منتصر يجفف شعره المبتل ورمى بنفسه على الأريكة فجاءت له كدجاجة موبخة صغيرها:
-منتصر كيف تخرج هكذا؟
خفضت من برودة المكيف وأسرعت تأخذ كفه حيث طاولة الزينة وناولته مجفف الشعر:
-هيّا جففه سريعًا.
شعر بكسل حقيقي عقب الاستحمام الذي يدعوه بشدّة للنوم، إلا أنه وافقها بمد كفه التي جذبت المجفف وبدأ بتسريح شعره، واستسلم طيعاً لذوقها إلا في انتقاء لون ملابسه
-لا يصح أن ترتدي الأسود في عرس صاحبك.. اللون الأسود للعريس.
جذب السترة السوداء بعد أن مط شفتيه وتهكم:
-هذا في قاموسكن النسوي.. نحن الرجال لا نأبه.
زمّت شفتيها غاضبة وعاندت:
-لا ترتديه من فضلك.. لقد حضرت لك هذه.
أشارت لما في يدها وتجاهل اقتراحها وارتدى على ذوقه رأته قد بدأ بتنظيم الأزرار فرفعت إليه حانقة رابطتي عنق لكي يختار ما يلائم لباسه إلا أنه استدار للمرآة وغمغم:
-لا أرتديها تعرفينني.
شهقت وقفزت أمامه ذاهلة:
-لقد قمت بكي هذه الأشياء.. لتتجاهلني.
أومأ بغرورٍ وعاد للمرآة يعدل هيئته، احتجت بقهر على سلوكه فجذبها له بخشونة وقبل جبينها:
-شكرًا لتعبك يا لبن العسل.. أنا لا أطيق التقيد برابطة العنق.. تخنقني.
لم تحد بعينيها فدنا يختطف من ثغرها مصالحة لترضيها، أتمّ تجهيز نفسه وخرج من عندها، وصل إلى مرآب السيارات وتفاجأ بعدم حضور سيارته من محطة الغسيل والتزيين للآن فأخبره سائقه أنها لم تنتهِ للآن، زفر حينها وأخبره:
-حسنًا ستوصلني إلى المحطة، وأستلمها من هناك.
شرع في فتح باب السيارة ومضيا نحو المحطة، استدار السائق ثانيةً للمنزل حين هاتف وضاح منتصر وطلبه جلب عبوة عطر خاصة به ولا يستخدم غيرها لأن عبوته كُسرت للتو، للحظة كان منتصر سيمضي نحو السوق لجلبها لولا تذكره بأنه اقتنى مع وضاح العبوة ذاتها حين تبضعا مستلزماته، وصل بيته بعد وقتٍ وهناك وجد الحالة ذاتها صغيره متمدد على بطنه يشاهد الهاتف ولبنى منكبة نحو دفتر صغير تكتب عليه، لم تنتبه لحركته إطلاقًا، جلب العبوة التي أرادها ومشى صوب لبنى التي ناداها ولم تنتبه في ظل حفلة وضاح على الهاتف بوجوده، دنا منها ولم تتنبه له بالكلية في ظل سعي قلمها الدؤوب، همس قرب أذنها:
-ما الذي تكتبينه كل هذا الوقت؟
للحظة شكت لبنى في صوته أو تخيلت أنها اختلقته، فتوقفت عن الكتابة وأغلقت الدفتر كردة فعل مبدأية، قبل أن تلتفت وتقر المحسوم، ببطء وبعنق مشدود وعروق بارزة من الرعب دارت بوجهها، فاشلة في جلب ابتسامة طبيعية فسألت بشحوب:
-هذا أنت؟!!
مد كفه بسؤال فضولي نحو الدفتر فنطقت بجزع
وخوف تمكن منها
-لا..
حاولت ثني يده، فكان أسر ع منها واجتذبه فانهارت على الكرسي ترجوه بمرة أخيرة.. وبلوعة تمكنت منها:
-لا تفتحه.
تواثبت نبضاتها فيما تكرر بهستيريا:
-من فضلك لا تفعل.
الدفتر محكم الأغلاق ولم يحاول فتحه، دارت به الدهشة من ردة فعلها فأطبق شفتيه بعد نطقه لوجهها الجزع:
-اهدأي.
لم تهدأ وزاد شحوبها
مال برأسه مستفهماً وداخله يستنكر كل هذه الهسترة والحالة الجنونية:
-لن أفتحه لبنى اطمئني.
هزت رأسها بجمود وقالت له بوجع:
-هذا الدفتر الذي كنتُ أكتب عليه مذكراتي منتصر.
غشته الراحة مصدقاً ومشفقاً فتابعت وكفها ترتجف أمام صدرها:
-أنا.. أنا تخلصت من كل الأشياء السوداء بالبوح له.
مال ووضع الدفتر على الطاولة يستمع لحديثها الملهوف:
-واليوم كنت أنهيت البوح.. وقررتُ إحراق الصفحات كلها.
دنت من الدفتر بحسم، تدرك جيدًا أن الكون يقبع بين ضفتي الهاوية أو الإصرار لذا مسّت الصفحة الأخيرة منه قائلة.
-من كل هذا الأوراق هذه الورقة لن يتم إحراقها، فهي..
صمتت تهدئ رجفتها وتابعت:
-الصفحة الوحيدة التي تخصك من كل تلك الصفحات.
زفر مختنقًا وسأل بتهكم ليغير حالة الحزن التي غشتهما:
-من كل هذا الدفتر.. لي صفحة واحدة!
أومأت بتأكيد:
-أجل آخر صفحة هي لك.
مط شفتيه وسأل ساخرًا:
-صفحة؟
مست يده ورفرفت أهدابها المبتلة بدموعها التي أغرقت محاجرها:
-أجل هي خاتمة كل ما فات.. كما جئت أنت لتكون خاتمة كل أحزاني.
ازدردت لعابها وحاولت مسح دموعها فاعتذر منها بعدما جذب وجهها وتولى إبهامه مسحها.
-لم أقصد فتحه ولا قراءته.. ظننته لدراستك ليس إلا.
حارت أحداقها فأسكنها حين رفعها إليه.
-مذكراتك.. حياتك.. ماضيك شيء يخصك أنتِ.
تابع لها ولعينيها مصمماً مؤكداً:
-لكن إن أنهيتِ كتابة كل شيء ولم يعد شيء..
قاطعته:
-لم يعد هناك شي ليكتب.
احتضن صدقها وأودعه في قلبه فشدد عليها بطمأنينة:
-ستتخلصين منه وتحرقينه الآن وللتو.
تمسك بعضدها يرسي مراكبها في مرافئ قلبه مشددا على حروفه:
-حينئذٍ سأكون أنا من يستمع لك.. لن تكتبي بعدها.
**

خرج من عندها بعد أن أشعل الفتيل في كومة الأوراق التي جمعتها، ورغماً عن بسمته اليائسة أبقت على ورقته في الدفتر فلم تحرقها، غادرها وتوجه إلى المحطة شتم حين رأى أن السيارة لم تجهز بعد، تأفف وأرسل من فوره رسالة لوضاح يخبره بتأخره قليلًا، تسلمها بعد استحسان خالص بورودها المزينة وإكليل الورد على مقدمتها، استقلها ولاحظ هبوط مرتباتها فاستغرب لوهلة ولم يملك وقت ليرفعها، قاد متوجهًا نحو بيت وضاح، كان رائقًا ولم ينغصه إلا تعليق أوامر السيارة، أسرع قليلًا وقبل أن ينعطف نحو الطريق الذي يسلك نحو مسكن وضاح غافله رنين أيمن الذي نسيه تمامًا ونسي أنه سيمر به ويأخذه فأجابه سريعًا.
-هل أنت جاهز؟
-أجل.. أنا أنتظرك.
-سأكون بعد قليل عندك.
استدار وغير وجهته نحو منزل حميه فألح رنين هاتفه مجددًا ولم تك سوى لبنى التي أخبرته بصوت خاوٍ:
-سليمان مات!
فقط.
كلمتان شاحبتان أخذتا ملامح الموتى وسليمان مات.
-إنا لله وإنا إليه راجعون.
همس لها بهدوء فهزت رأسها تكرر عليه:
-لقد مات.
لم يستطع إيقاف السيارة أو ركنها جانبًا فنطق بهدوء يمتص كل وجعها الذي حمله صوتها.
-رحمه الله.
نهنهة خافتة وصلته فضرب على المقود.
-هو في رحمة الله.. لا تأبهي به.. أجله انتهى.
نشجت بدموعها واستمع لها بعجز فنطق لها بعصبية:
-لبنى.. لبنى لا تبكي.
-كيف يكون الموت هينًا ورحمة بهذا الشكل لمن هم مثله.
استغفر الله وزفر باختناق مصححاً له
-لا يصح هذا الكلام لبنى.. أعرفك مؤمنة.
مسح بكفه وجهه وموت سليمان أسقط دلواً مثلجاً على نار فرحته بوضاح.. أ يوم زفافه ينتهي أجله.. يوم عمره يموت سليمان، أي خير هذا الذي يحدث، لا زالت هيئة وضاح الراقص معه على أنغام المجوز محفوظة في عينيه، وضاح الذي قاد الدبكة طوال الحفلة ولم يأخذ مكانه أحد، بعمره كله لم يره سعيدًا كما أمس!
أنهى مع لبنى بعدما اطمأن على دموعها التي جفت، وتأكيدها عليه بأنها في حالٍ أفضل، رمى بالهاتف مقرراً ألا يستخدمه ولا يجب عليه فما سمعه للآن يكفي، تنهد بثقل الخبر عليه تجاهل الرنين الثاني والثالث.. وتجاهل ما بعدهما، حتى شعر بحاجة من يتصل لأن يجيب، مال والتقط الهاتف الذي لم يكن سوى خالد الرائد الذي يعمل معه والذي أزف إليه بشكل شخصي:
-النقيب سلوان سيدي في طريقها للبيادر.
لحظة.. واثنتين ليكتشف أنها نفذت الوعيد الذي هددت به، فزأر بجنون لغيّها.. أنهى المكالمة واكتشف الرسالة المعنونة برقم لم يتم حفظه
(أحرق قلبي مرة.. ولك مني أن أحرقه لك أضعافًا.. أنا في طريقي للبيادر).
اشتد حر العصر عليه وانعطف مغيراً الطريق بأكمله لتصدر السيارة صريرًا شق السكون الذي يقبع فيه معلنة عن ختام مأساوي لا يستحقه المشهد ولا البطل فيه، قاد إلى البيادر بسرعة صاروخية، سرعة لم تمهله التأني عند الحفر الكثيرة مهما حاول معها، لاحظ انفلات السيطرة منه وعدم مقدرته إطلاقًا على إدارتها، إلا أن همّه المتمثل في اللحاق بسلوان وإمساكها قبل أن تصل بيت القاضي نحاه عن كارثية ما يحدث له، عاود الاتصال بخالد مؤكداً عليه
-على جثتي.. على جثتي لن تصل إلى بيت القاضي يا خالد.
كان يعلم أن حربه مع السيطرة خاسرة لا محال مهما حاول وشدّ وغير من سياسات التعامل معها، ومهما بلغت مكانة روحه لديه إلا أنه خشي أن يتسبب بأذية أرواح أخرى، لذا حاول بجهده ألا يتسبب بكارثة لمن حوله، حامداً الله على خلو طريق البيادر الخارجي من الناس، تثاقل نفسه حين بانت له الحواجز الإسفلتية، فنادى بكل جوارحه.
-يا رب!
كررها مجددًا وكله يميل عن المقود بضغطه وجهده ليخفف حدة المحتوم، اجتاز أكثر من الطريق ولحظات وتمثلت الكارثة بمطب إسفلتي عالٍ لا يستطيع أن يتجاوزه أو أن يخفف السرعة الصاروخية أو التحكم بها ليدرأ عن نفسه المحصلة الواضحة، استسلم للنتيجة مهما كانت وأغمض عينيه مُشهّداّ ومسلمًا إن نجا أو لم ينجُ وكله يبتهل فالروح غالية مهما أطلق، والفاجعة حصلت في إغماضة عين قبل أن يرف الجفن أو يستسلم لهدنة سلام، وحلت الكارثة سريعًا بشكل دامٍ، طارت السيارة لأعلى بمسافة أكثر من معقولة ثم ارتطمت بالإسفلت منقلبة على ظهرها وعجلاتها كمروحية هوائية دائرة وتدحرجت متقلبة عبر الشارع نحو الرصيف الترابي حتى تكومت كخردة هشٍة لا تعرف ملامحها وابتلعها المرج الأحمر.

**


علم بوفاة عمّه واستقبل الأمر بانهيار ابتلعته رجولته فاستغفر ومضى مع أبيه وأبناء عمومته ببذلته التي خصصت للزفاف نحو المشفى لاستلام الجثة والوقوف بها لأخذ العزاء عن روح عمّه، مذ هاتفه أيمن وسأله عن منتصر وهو يغلي.. نار شبّت في جوفه أشد وطأة من خبر وفاة عمه الذي اختار يومه، لم يأت منتصر للآن.. هاتفه حتى ملّ هاتفه وأعطاه الرد الآلي رسالة مفادها أن الهاتف نفذ من شحنه.. لقد هاتفه الجميع حتى نفذ مخزون طاقته.. حمّى خوف نهشت أطرافه مع تأكيد لبنى بعدم معرفتها عنه وسؤالها الملهوف عليه، ازدرد لعابه وهو يقف مع الرجال ينتظرون إجراءات الغسل لعمه سليمان.. وهنا جاءه الخبر الذي سنن خناجره في قلبه فالأخبار المفجعة تجري كالنار في الهشيم، سمع تحاوراً بين رجلين عن حدوث حادث سيارة مؤسف ومأساوي على طريق البيادر..
والبيادر التقطها..
تذكرها..
وتذكر رسالة منتصر التالية باضطراره الذهاب لمسألة طارئة.
ولم يفكر لحظتين وغادر من فوره نحو المكان، استدل على المشهد بتجمع الناس والفوضى العارمة، في قلب المرج الأحمر سيارة تم تقطيعها بالكامل لإخراج الجسد القابع فيها، سيارة للدفاع المدني حولها وأخرى للإسعاف وسيارة شرطة تدور، غص قلبه وهو يتعرف على اللون.. وبكى حين لمح إكليل الورد.. وتيقن حين انحدرت نبضات قلبه.. التي لا تنفجر إلا لعزيز...
أنهضه رجال الإسعاف ليحملوه على العربة، أفسح لهم المجال يراقب بعينين خاويتين، إجراءاتهم في توصيل الأجهزة، تقهقر للخلف بلا حول ولا قوة، يتابع مذهولاً صديق عمره النذل الذي أسبل أهدابه تاركًا الحياة خلفه، بذلته توشحت بدمائه حين مال وجثم فوقه صارخًا بعجزٍ لاستسلامه.. لقد رأى نبضه الخافت حد التلاشي.. ونفسه المتباطئ حد العدم.. فزأر كأسد جريح:
-يا الله!
مشط خصلات شعره النافرة بكل قوته وهبط على الأرض راكعًا تسيل دمعته وتعانق التراب من أسفله فيرد بذات الوجيعة:
-يا الله!
ومنتصر لن يموت.. بل السؤال الأهم هل مات منتصر؟
***
تفننت تماضر في زينتها حتى تركتها كما طلبت، تسريحة بسيطة، وغرة واسعة تغطي جبينها الواسع وأخيرًا بشرة صافية بحمرة توتية قانية، تدخلت ضحى ووضعت لمساتها غير المرغوب بها البتة؛ جاءت آرام ابنة عمة وضاح وأعادت لكفي ثريا النقوش الأولى ذاتها التي نقشتها يوم حفل الخطبة، كانت قمحية بملامح مليحة، وبنية طويلة تكاد تماثل بنية ثريا طولاً، كانت بشوشة رغم حذرها، وسعادة ثريا بالنقوش ومعانيها طافت بها الغيم فأمس حنّ عليها وضاح وأخبرها معانيها التي تجهلها.
وأخيرًا تجهزت، كانت في أجمل إطلالة لم تتصورها أو تتخيلها أحلامها الساذجة أبدًا، سمّت الفتيات الله عليها حتى آرام تفننت في التقاط الصور لها ومن بين فرحتها بعروس ابن خالها، تسللت رنة هاتفها الخبيثة وأطلقت لها الفاجعة الأصعب بوفاة خالها سليمان.. فرمت الهاتف مهتزة وشهقت:
-خالي سليمان توفي.
رفرفت ثريا بأهدابها غير مصدقة، تلفتت نحو الجميع في ضياع، فما سمعته محض هراء ليس إلا!
-مستحيل.
هزت رأسها فمن غير المستحيل أن يُكسر قلبها للمرة التي عجزت عن عددها، وأن تذوي لهفتها كما كل مرة وأن ترقد الغصص فوق ضحكاتها.
اقتربت من آرام تسألها بدمعة على مشارف الهبوط.
-لم يحدث صحيح.. فرحتي لن تُفسد الليلة؟!!
دارت نحو ضحى تستنجد بها:
-صحيح لن تفسد فرحتي؟
عجزت آرام عن الرد عليها، فانسابت دمعتها، وأنذرت ثريا عن مطر عينيها، فاختلط بكحلها الذي لطخ وجنتيها، هاتف والد آرام ابنته للمرور عليها وأخذها فاعتذرت بدموعها وغادرت تترك الجمع ببؤسه، كفكفت ثريا دموعها وتطرفت بمشيتها حتى وصلت النافذة، جذبت هاتفها وحسمت أمرها بمهاتفة وضاح والتأكد منه، أجابها الصمت ولم يفعل هو فتركت الهاتف بخيبتها، دخلت عليها فدوى وضمتها تهدهد عصبيتها سكنت بين يديها ولم تفك طرحتها أو تقدم على جنون يعرفونه.
خرجت باطمئنان وهناك وجدت والدتها تأمر نائل بصرامة لا نقاش فيها.
-بنيّ أختك هي زوجة وضاح منذ وقت.. وهي الآن باتت ابنتهم.
سكنت خلجاتها واحتوت سؤال ملامحه الاستنكاري فتابعت:
-ما كان سيحدث الليلة مجرد إشهار لزواجها أليس كذلك؟
أجابها وهو يقترب منها:
-أجل خالتي.. كل هذا أعرفه.
أطلقت أمرها سريعاً:
-مكانها الآن بينهم.
استنكر ورفع رأسه بحدة فتابعت بهدوء:
-ادخل على شقيقتك ودثرها بالعباءة وأوصلها لبيت زوجها.. وقدّم واجب العزاء لنسائبنا الجدد.
رفض بحدة اختلجت معها ملامحه:
-لا.. لن أفعل يا خالتي.. كرامتها بأن يأتوا منهم.
تبسمت تحتوي غضبه.
-وهم لم يخلفوا عهدهم معك.
رفعت سبابتها محذرة ومصححة:
-وكرامة أختك محفوظة.
استقامت حيث موقع العباءة من المحفظة وقالت بحزم:
-هم أهل العزاء وواجبهم عليك أن تقدم العزاء لهم.
ناولته العباءة المذهبة وربتت عليها بين كفيه وقالت لوجهه المصدوم.
-وخذ أختك لمكانها اليوم.. ستكبر في عين زوجها وأهلها وستحفظ قيمتك كرجل لديهم.

**


تزاحمت الأخبار المفجعة تباعًا فانحسر السرور كموجة ابتلعت كل الأفراح وقذفتها على شواطئ خاوية، استسلمت ثريا وجذبت كرسيًا تجلس عليه وتحط بكل ما تحمله وتخبئه داخلها بعيدة كل البعد عن ضحى التي تراجعت بغصة حتى استندت للجدار وضمت يديها حول ركبتيها، ران الصمت فيما بينهما، حتى ضحكت ضحى بهستيريا لا تناسب الموقف تمامًا وعلقت لثريا التي استندت بكفها على وجنتها:
-الثالثة ثابتة يا ثريا.. زواجك هذه المرة ثابت.
استفهمت نظرات ثريا التي رفعت كفها وبدأت بفك طرحتها فشرحت:
-العروس التي يموت في وجهها أحد ما.. ستلتصق بزوجها للأبد.
ضحكت ثريا وارتد رأسها للخلف تشارك ضحى التي قالت:
-أنا وأنت نتنافس في المناسبات الكارثية.
دفنت رأسها تكتم دمعتها وتضحك قائلة:
-خطبت بفضيحة.. وتزوجت بفضيحة أبشع.. وقضيت صباحيتي في المشفى.. وعن الطلاق...
انفجرت ثريا بضحكة صاخبة أكثر:
-بشجار قاتل.
رفعت ضحى عينيها الدامعتين لتقابلها دموع ثريا، فتشدقت ضحى عليها:
-وأنت لن أعدد.. من أين أبدأ؟
صوت الباب الذي تحرك هدأ من حركتهما فتوقفتا عن الضحك ونهضت ضحى تستقبل نائل الذي جاء ومعه غلاف العباءة المفروض أن تخرج بها ثريا من بيت أهلها وصلها وحضنها طويلاً فسألته متشككة:
-إلى أين؟
-إلى حيث مكانك الصحيح.
توحشت ملامحها وأشارت للباب:
-هل هناك من جاء ليأخذني؟
نفى ببسمة حنون وقبّل جبينها طويلاً:
-احفظي الله يحفظك يا ثريا.. زوجك في عينك فاحفظيه.
تراخت بين يديه اللتين لفتا حولها العباءة.
-سآخذك لبيتك وأقدم العزاء لبيت عمك في مصابهم.
ازدردت لعابها بغصة ونفت برأسها لا تود اقتراحه.
-هيّا يا بنت أبيكِ.. لستِ أنت من تعترضين على مواقف بنات الأصول مثلك.
نشجت ملامحها برفض:
-لكنني أشعر بحزن.
حضنها بعاطفة تحتاجها وأكد:
-كلنا نشعر وأولهم أمه.. ناهيك عنه هو.. هيا اذهبي إليه واجبريه وكوني معه.
ضرب كتفها برفق حنون يحثها:
-تصرفي ما يملي عليه قلبك به.
أطاعته وخرجت مع فدوى وربيعة اللتين رافقتاها لبيتها الذي استقبلتها فيه والدته عواطف وآرام، أخذتها عواطف في أحضانها تبكي وتقبلها.
-أشهد بالله أنك أصيلة.
قبلتها على جبينها وأدخلتها تستشهد بالله.
-كنا سنأتي إليكم.. لكنكم أكرم منا.. كرّم الله وجوهكم ما أطيبكم.

**

أوصلها نائل لكف عمها فوضاح لم يكن هناك، صلّى معهم الجنازة عليه في دجنة الليل فلم ينتظروا دفنه لليوم التالي لإكرامه، افتقد وضاح وود السؤال عنه ولم يستطع أبدًا حين خرجوا لبيت العزاء تشجع وسأل:
-أين وضاح؟
أجابه حمد منكس الرأس:
-منتصر في المشفى.. بين يدي رحمة الله.
خرج من بيت العزاء وهناك اصطدم بموسى الذي حياه وسأل:
-هذا بيت العزاء لآل الغربي.
أجابه نائل بصدمة:
-أجل هو هذا.
شكره موسى وتقدم قبل أن يستوقفه نائل بفضول:
-هل تعرفهم أنت؟
التفت بموسى وأجاب بحزن:
-لقد دعيت للحفل الذي انقلب لعزاء.
هز نائل رأسه وحياه مغادرًا وكله يتساءل رغما عن إعجابه بهيئة موسى:
-ما الذي جمع شمل الشامي مع المغربي!
***
الوحيد الذي أجابه وضاح هو منذر الذي تبعه بذات السرعة وقبل أن ينحرف نحو بوابات البيادر رحمه حين رد بصوت ضائع عقبما استقل سيارته وقام بتحريكها يتبع سيارة الإسعاف:
-هو في سيارة الإسعاف متجهين إلى المشفى.
سأله منذر الذي يناور الطريق:
-أ أدخل البيادر؟
لهث وضاح وقال بأنفاس واهنة:
-لا انتظره عند المنحدر.
قاد خلف سيارة الإسعاف وعيناه لا تحيدان عن فوضى الأطباء في السيارة وتحركاتهم نحو الجسد المسجى أمامهم وصلوا المنحدر الذي يوصل البيادر بالمدينة عند الجسر فاستوقفتهم سيارة منذر الذي ركنها على جانب الطريق وصعد سريعًا نحوهم، منذر الذي ارتد للخلف برؤية منتصر مسجى بشكل موجع فردد:
-يا الله.
تحكم في انقباضة قلبه التي اعتصرته، فرغماً عن الطب وما عايشه وما سيعايشه لن يشبه أبدًا تعرضه لرؤية شخص يعز عليه، تقدم للأمام بحركة عثرة إلا أنها حافظت على توازنه وعيناه تدرسان الجسد الراقد أمامه، وعى وفي وعيه مصيبة فركض بتخبط صوب الممرض الذي يرقد فوق رأسه ويجري الإسعافات بعد أن اطمأن لسير الأجهزة فبدأ بتفحصه سريعًا وهالته الجروح المقطعية والدماء التي سالت من خلف رأسه والتي غطت وجهه، راقب الكدمات وتوقف عند قدمه اليسرى فأرعبه صوت الممرض الذي ناظر شاشة الجهاز وردد بصوت الموت:
-النبض ضعيف.
ارتفعت نظرات منذر نحو الجهاز بقلب هوى بين أضلعه وأمره:
-أعطني آخر قياس لك لضغطه.
أملى له الممرض آخر قياس، فأعاد قياس ضغطه ووجده هابطاً بشكل خياراته محدودة فغمغم الممرض بتوقع:
-هناك نزيف في الدماغ على ما يبدو.
ازدرد لعابه والممرض يسهب في شرحه ولا يساعده بل يشتته:
-أظن أنه لن ينجو من غيبوبة طويلة.
مد منذر كفه نحو الحامل وتناول المصباح الصغير موجهًا إياه نحو عينيه مسلطاً الضوء عليهما، سقط قلبه حين لم يلمح استجابة أبدًا منه، شدد على الضوء تزامنًا مع صراخ الممرض:
-القلب توقف!
زمجر به متعثرا:
-اصمت.
لكن الممرض أعاد بهسترة مرعبة:
-لا نبض.. لا يوجد نبض.
قرأ منذر الشاشة وصرخ بخوف:
-يا رب.
هوى بكفيه نحو قلبه بإنعاش يدوي، يداه تضغطان بقوة على قلب منتصر بكل ما يحوي
من عزم، وعيناه تلمحان الشاشة التي تومض بالخط المستقيم دون تعرجات أو ميلان، ضغط بقوة أكبر مردداً من بين أنفاسه اللاهثة ونبض قلبه يتفجر فابتهل وكل رجائه عند الله:
-لن تموت.. لن تموت.
لم يعد يعي كم الضربات التي حاول بها إنعاش القلب، لم يعبأ بعرقه المسال والمتصبب منه، عيناه جاحظتان باحمرار كثيف لهول ما يشهد اللحظة ودموع تحجرت في مآقيها ردد بصوت أقرب للنحيب ومنتصر لا يساعده.. مطلقاً لم يرحمه.
-لن تموت.. على موتي لن يحدث.
خلع سترته ورماها أرضًا، شخر بقوة وقفز على السرير يثبت ركبتيه على كل جانب حتى أصبح فوق منتصر أكيدًا من كسره لأحد ضلوعه أو أذى محتم لركبتيه المتضررة، لهث بقوة وعرق رقبته يصخب بجنون، نسي الزمان والمكان ولم يعد يشعر بشيء سوى بكفيه اللتين تضربان الجسد الهامد تستنجدان بموت محتم أن يخالف الاستقامة .
-هيا منتصر.. هيا.
طالبه ورجاه وجسده يقاتله بكل ما يملك فإن كان مصراً على الموت فإصراره على حياته أقوى، ساح جسده بالعرق ولم يزده إلا تشبثاً بمضخته التي تعمل، فلن يبرح هذا الجسد إلا وقد أحياه أو أفاقه من سباته سادت الفوضى والممرض يتبع الشاشة ويملي مؤشراتها بذعر وانتفاضة تمسه كل هذا كان لا شيء أمام لهاثه مختنقاً ومشهد منذر فوق الجثة المقاتل بعزم وجنون أطار صوابه، كان حدثاً دموياً فإلحاحه المستميت بها لتحيا أوقف قلبه، عاود منذر الانكباب بجنون أكبر وشكّ الممرض للحظة بصلاح يديه فيما بعد، نادى وعيناه حادتا أخيرًا عن الشاشة وتصوبت بعزيمة نحو الراقد أسفله فلم يعد يثق بأرقامها هو كله ثقة بأن الله سيبعث الحياة له وسيشعر بها، لا زال الممرض يقرأ المؤشرات بأمل أعثاه منذر بصوته وتسلل له أمل بتعرج المستقيم الخامد، استنزفت طاقات منذر وتعثرت كفيه للحظ ولم يستسلم للارتماء بل واصل بيديه المتخدرتين، وعضلاته التي تشنجت بفرط الضرب المستميت بقوة.
-لن يتوقف.
كفاه تتوسلان:
-لا تمت.
ضغطه يتفجر..
قلبه مستنزف..
وصوته قد بُحّ:
-قلبك سينبض
ومن خلفهم وضاح الذي لاحظ الهرج والمرج في طاقم الإسعاف، ارتشعت يداه وازدرد لعابه وهو يلمح منذر الذي سقط فوق منتصر، وجسده يركع بصورة أوضحت له ماهية عمله، لكنها زلزلته وهو يلاحظ استمراره بلا جدوى، وفجأة كما بدأ كل شيء انتهى كل شيء وانزلق منذر عن السرير مستنزفًا لاهثاً لا يحس بيديه ولا بأي جزءٍ من جسده مشخصة أبصاره نحو سقف السيارة بجهد.
زمجر وضاح بجنون حين ترنح منذر وسقط عن السرير، فأصدر بوقا من سيارته وحاول تجاوز السيارة بجنونه والإغلاق عليها ليعرف ما حدث، إلا أن السائق الخاص بها الذي مد يده لوضاح مشوحاً غافله واستبقه بمراحل.

**

حين وصلت الإسعاف المشفى كان الجميع في انتظارهم عدا لبنى التي لم تعرف عن الخبر للآن، حيث ذهب إليها والداها للمجيء بها، دقائق مرت والجميع في الممرات هائمون ومرتعبون، فبعد الإنعاش الذي قام به منذر صالح نبض قلب منتصر الحياة واندفع في عروقه يعلن ميلاد الأمل لهم. غاب في الداخل مع بقية الأطباء تاركًا لهم الخوف وبقي بيدين متألمتين حد التعضيل، بعدما أعلمهم أن منتصر في غيبوبة ولم يستيقظ للتو ولا لوقت طويل، مع تفاصيل أخرى كجروح قطعية وصلت كل شبر بجسده وكسور شتّى في قدميه ويديه، وإصابات نالت كل جانب لا تبشر بخير أبدًا ناهيك عن الأضرار الجسمانية والرضوض التي طالته من كل جانب.
*عند لبنى*
-قولا لي هو ميّت؟ لأترحم عليه فقط!!
تشنجت في حضن والدها ولم تستقم عقبما ارتمت أرضاً في المكان فبعد أن أخبروها أن زوجها افتعل حادثًا، ابتلعت الصدمة واطمأنت لصدق الرواية، حتى خرجوا بها من باب المنزل ورأت كيف تهافت أقرباء منتصر نحو بيتهم، فانهارت دون سقوط وغمغمت بصوتٍ ميت لا حياة فيه:
-قولا لي حاله بصدق.. لأعرف تحديدًا بماذا أدعو له.
شهقت والدتها التي تماسكت حد الرمق الأخير أمامها كي لا تفجعها إلا أن تماسكها احتضر وقالت لها:
-هو حيّ لم يمت.
سالت دمعة عينها اليمنى وتخشب جسدها استعداداً للقادم فتوسلت بهمس:
-استحلفك بالله قولي الحقيقة.
جذبتها إنصاف وأخذتها في صدرها:
-أقسم لك هو حي يرزق في المشفى.
أخذوها إلى المشفى وسط صمت تام منها بلا أية إيماءة تعلن عن نضوب صدمتها واستحلال الواقع كما يكون، ظلت منتظرة إياه رغم رجفة قلبها التي اكتسحتها قبل الغروب مع انزلاق الهاتف من بين يديها دون سبب يذكر، فجأة وجدته يتناثر على الأرضية تاركاً دقات قلبها تشاركه النثر ذاته، سمّت بالله وحاولت استخدام الهاتف الآخر ففشلت في جلب رمز حمايته، غابت الشمس ولم يحضر السائق الموكل إليه إيصالها، ولم تحضرها السكينة ولم يطمئن قلبها فأحست.. ورغمًا عن الذكر والقرآن الذي حاولت التشبث به.. لم يهدأ قلبها الذي اعتاد القلق.
وصلت إلى المشفى وتوجهوا بها إلى الممرات، هناك وجدوا رونق تضم وضاح بهسترة دون صدور حركة منه تدل على وعيه لها، فسرعة الأخبار المفجعة تنطلق كما الضوء وبإشعاعات غير صحيحة، فاختلط على الناس أن وضاح الذي تعرض للحادث ولم تقتنع بتصحيح النبأ مُصرّة على ترك عزاء عمها واللحاق بالمشفى للتأكد، هناك صدقت وكذبت الخبر وانهالت على وضاح بعناق كاسح:
-ظننتك أنت.
شهقت في صدره بلوعة فرفع ذراعه يحوي ظهرها ويطمئنها.
-ها أنا أمامك.
تشبثت في قميصه فقبّل مفترق جبينها وطمأنها:
-اهدأي أنا بخير.. وادعي لمنتصر هو بحاجة الدعاء.
تشبثت فيه أكثر وعلى ذكر منتصر رفعت له عينيها الباكيتين وسألت:
-أين لبنى؟
رد عليها بخواء:
-لا أعرف.
تركته وتنقلت نظراتها بين الحضور حتى استقرت على لبنى الشاحبة شحوب الموتى جامدة في كرسيها بين والديها تناظر المشاهد حولها بوجه متخشب لا يحيد عن جموده، وكأنها في عرضٍ لا يخصها ولا يعنيها، ركضت نحوها وعلاء يقف مع وضاح الذي تمتم بصوت جاف
-الحادث مفتعل.. تقرير الكروكا يفيد بعطل فني مقصود.
وجم علاء وسأل بذهول:
-من له مصلحة في ذلك.
رمقه وضاح بصمت وعاد برأسه للجدار يطرقه طرقات رتيبة
-لا أعرف.. ولا أعرف مصير منتصر في الداخل.
**
-أنا بخير رونق.. لا تقلقي.
كانت رونق منهارة أكثر منها فأخذتها إنصاف بحنو وهمست لها:
-رونق أنتِ لستِ بخير.
غمغمت لها من بين دموعها:
-لا بأس.. سأكون بخير.
استقامت إنصاف نحو علاء الذي حياها وأسف لها عما يحدث فقالت له:
-امرأتك ليست بخير.. اطمئن عليها سريعاً.
تذكر حالة رونق فشددت عليه تذكره.
-نفسها واقفٌ.. وكأنها كانت تركض أميالاً.
جذب علاء رونق كما طلبت وسلك بها صوب عيادة النسائية في مشفاهم، وجد طبيباً يعرفه فقاس لها ضغطها وسكرها وصنع لها محلولاً طبياً لتنتعش، كشف عليها وأسرّها بفرح:
-هناك كيسان للحمل في رحمك.
تبسم بعد ذكر الله وشرح لوجهها المرهق:
-السوائل جيدة ووضع الرحم ممتاز هما بخير.
شبك أنامله من خلف المكتب وطلب منها.
-ستعاودين طبيبك لمعرفة ملاءمة دواء الضغط لك في الحمل.. ومن ثم المرور عليّ للتنسيق فيما بيننا.
شكرته بإجهاد وكلها يعود إلى حوار الصباح الذي دار مع علاء حين جاءها ليوصلها لمشغل التجميل والتفت أصابعه حول بطنها المكشوفة أمام المرآة حيث كانت متجردة إلا من صدرية خفيفة.
-إلى متى ستخفين عني أمره؟
تلكأت أصابعه على بشرة بطنها المخملية فتوحش صوتها تسأله:
-وما الذي يهمك في أمره؟
رد بحنو مفتعل يكز على أسنانه كيلا يضربها:
-كيف لا أهتم؟ أ لستُ والده؟
حاولت نفض كفه بخشونة فشدد عليها بنفس خشن أخافها وأرعبها إلا أنها أكملت له بتسلط:
-أجل والده.. لكنه شأني لقد رأيت اهتمامك في حملي السابق.
أغمض عينيه وأطبق شفتيه كيلا يتصرف بحماقة وجنون وقال لها بصوت خشن:
-وهذا الطفل وسيلة لي كي أريكِ اهتمامي.
مال فمها مهتزًا فجذبه بخشونة إليه وعانقه بقسوة تستحقها.
اقشعرت للمسته المعاتبة وعادت لواقعها مصدومة، هي حامل.. وبتوأم!! كيف حدث؟
لقد تذكرت سلالة عائلتها بالمجمل لم يكن هناك توأم إطلاقاً.. كيف جاءا إليها؟
توأم ..
أعطية أكثر مما طلبت وتمنت، أكثر مما حلمت..
-سآخذك للبيت هيّا.. تحتاجين راحة.

**

مرّت رونق على منزل منتصر وأخذت الأطفال لديها من أيمن الذي شكرها من كل قلبه ووجدها فرصة لكي يطمئن على منتصر الذي لم يستفق للآن، لحق الجميع إلى المشفى وأول وجه رآه هناك كانت إنصاف التي عبرت الممر أمامه بمصحف صغير، ازدرد لعابه لمرآها المحمر بإثر الدموع التي سالت منها فتبعها ووصل قسم العناية الحثيثة، نبض قلبه بصخب ومشهد آخر مرّ عليه لم يكن بعيدًا.. تأوه بلوعة فلن يحتمل قلبه موت منتصر الذي لم يطمئنهم الأطباء باستحالته أو تجاوز الخطر لحد الآن على الأقل.
-يا رب الطف به!
همس بها بتضرع فمنتصر كل الأشياء الجميلة التي عرفها، سمّى بالله وظهر إلى الممر المكتظ بكل الناس المتشحة بالحزن وظلال الفجيعة تخيم عليهم بدون استثناء فغص ريقه وشعر بالفقد.. الشعور الذي ما انفك عن ملازمته، توقف كضائع يحير بصره بين الوجوه لم يشأ أن ينظر للبنى فقد تجاهل هيأتها متعمدًا.. يا الله إلا وجه لبنى المقبوض (بالفقد) الذي يخشاه!! وهنت وقفته وتحجر زمرد عينيه بدموع عصية.. والعار إن انسكبت هو رجل ولن يبكي.. ومنتصر لن يموت.
وكأنها أحسّت به، جاءته إنصاف التي تركت زوجها خائر القوى ووصلت أيمن.
-أيمن.. حبيبي هل أنت بخير.
تلفت إليها فشددت النظر نحوه وقالت بأمان لا تعرفه.
-ادع له.. سيكون بخير.
تمتم خلفها فنزلت دمعتها مجبرة ومن حيث لا يعلم جذبته بيدها اليمنى من وسطه بخشونة وانزوت به خلف الجدار وبكت بقوة.. بصوت مرير تشهق فيه ووسطه في قبضتها الذي أحكمت عليه كمقبض، عجز أمام دموعها ولا يعرف لماذا اختارته للنحيب، حتى أدرك أنها تذرف الدموع التي تمسك بها أمام لبنى، ازدرد لعابه وبصعوبة ربت على ظهرها.
-لا تبكي يا خالتي.
ردت عليه بنشيج وصوتها مكتوم امتلأت غصصه:
-أنا لا أستطيع البكاء أمامها.
نطق بتردد وأنفاسه بدت عسيرة عليه:
-لا بأس ابكي..
تمسكت في كتفه وشرحت بصعوبة:
-أختك صامتة بشكل يذبحني.. يخيفني ويرعبني.
ابتعدت عنه للحظة ونفضت رأسها، عيناه تعلقتا بدموعٍ طفرت من بين أهدابها:
-هذا الصمت يقتل!
رجفت شفتاها:
-فقط تنظر بلا رد.. وحال زوج أختك خطير.. بشكل يقبض على قلوبنا.
حاول تهدئتها فمسحت دموعها واستأذنت منه الذهاب إلى الحمام لغسل وجهها أمعن في إثرها وتنفس عميقاً رغم كل شيء، لقد تذكر وجودها منذ أن دخلت حياته بشكل مباغت بدءًا من الفجر الأول الذي قضته في بيت والده، لا ينس أبدًا مغادرته المقهى بعدما تحقق من وجه حفصة وكله عزم على إخبار منتصر، لكنه ارتأى لعدم ملائمة الوقت، ومع ذلك لم يستطع إلا أن يبعث برسالة له وهو على أعتاب باب بيته الذي وصله، حاول أن يحرك المفتاح ففاجأته إنصاف حينها حيث سبقته وتحت الباب مستقبلة إياه:
-أهلاً أيمن.
دهش.. وحدق بها غير قادر على الرد، ورغماً عنه رمق أسدال الصلاة الذي ترتديه فنبهته:
-هل ستبقى طويلاً عند الباب؟!
ازدرد لعابه وكتم تنهيدة بدخوله صامتًا، فالتفتت له تخبره:
-والدك في المسجد.. هل صليّت أنت؟
رد عليها بخفوت:
-لا لم أفعل بعد.
مالت بوجهها محدقة به وطلبت منه بحزمٍ رقيق:
-اذهب للمسجد لم يصدح المسجد بالإقامة للآن.
فتح عينيه على وسعهما، فاقتربت منه وتناولت الحقيبة منه:
-اذهب الآن ولا تتأخر أيمن.
أرفقتها مع ابتسامة حنون أجبرته الطاعة كان ليعاند ويتصرف كما يستحق إلا أن هناكَ سلامًا حط على قلبه فاستسلم لها وناولها الحقيبة، وخرج من فوره للصلاة فأوقفته:
-ألن تتوضأ؟
وعرف أنها تتعمد الحديث معه.. وعرف بنواياها فقال بصوت مكتوم:
-سأتوضأ في المسجد.. لا تؤخريني.
تألق فمها ببسمة راضية وودعته:
-بأمان الله.
اشتد فمه ولم يرد، بل بقي في طريقه بلا أية كلمة، صلّى وعاد مع والده بذات الصمت إلا من كلمات مقتضبة تناولاها، وصلا ثم توجه من فوره لغرفته للنوم، حين رأى زوجة والده بلا حجاب استغفر وصمت، وقبل أن يصل نادته بنعومة:
-لا تقل إنك تود النوم الآن.
أومأ برأسه وفتح الباب فعاندته:
-لن تنام.. كلانا يعرف أنك لن تفعل هيّا تعال معي إلى الحديقة.. والدك سبقنا لقد صنعت الشّاي والشروق على قرب.
رد بحنق:
-أنا متعب.. وأشعر بحاجتي للراحة.
اقتربت منه ببسمة حلوة ومصرة أكثر من كل شيء:
-سترتاح في هذه الأجواء هيّا.
مالت على طرف الأريكة وأخذت حجابها:
-اتبعني بأبريق الشّاي.. هيّا.. لن نفّوت شروق الشمس وأنت هنا.
تبعها بخنوع تام وارتشف الشّاي بطواعية معهما، حتى غافلته بتحضير الفطور ومشاركته معها، يدرك من عمق قلبه وهذا ما يجعله يستقبل (جوعها) الأمومي نحوه الذي (سلبوه) منها مجبرين فتقدمه له بتفانٍ ولهفة موجعة، فهي لم تمارس حقها في لبنى ولم تعش المراحل معها، وما اكتشفه أنها تغذي النقص فيه، تدخل عليه كل وقت أثناء دراسته الصيفية بمرطبات باردة، تتفقد نومه وتدثره بالغطاء بعد الفجر، تطرق أبوابه كل صلاة، تعلق عليه آمالها في نجاحه بالثانوية وأنها ستجازف في تدريسه التخصص الذي يحب وإن كلفها ثروة، وهو معها (مجبر) على تحقيق نواقصها وليس(مخير) فالشفقة التي تنتابه نحوها أكبر بكثير من كل فقاعات عقده التي تحلق شيئاً فشيئاً معها. لا ينسى أبداً أنها عبرت له بغصة أن لها طفلاً من والده مات قبل أن يأتي للحياة وأنه يكبره بسنتين، ولو كان حيًّا لتخطى سنته الدراسية الأولى في الجامعة، في تلك اللحظة شعر بألمها الحقيقي الذي احتفظ فيه للأبد، لذا تقبل منها تطفلها عليه ومده بفيضها الحنون الذي لا ينتهي، ومشاركتها له لكل صغيرة وكبيرة حتى كانت صدمته حين باعت إرثها وأعطته للشيخ طالب لتوزيعه على الأيتام الدارسين.
عادت له فخرج من ذكرياته معها، طلبت منه ما إن أصبحت عنده:
-أيمن.. خذ أختك للمنزل.. ابن عم منتصر سيقلّكم إلى هناك.
تلكأت نظراته عليها بورطة.
-لم أر لبنى للآن.
-اذهب إليها واحتضنها ربما هي بحاجتك.
جرّته فنفض كفه عن حركتها معه وأكمل سيره بهدوء حتى وصل لبنى وجاورها.
-سيكون بخير.
ردت عليه بعدما نظرت له بصقيعية:
-أعرف.
ناولتها إنصاف المصحف لتقرأ به عله يسكنها ويخفف عنها فرفضته بعدما قبّلته
-أمي أنا لست في وضع خاشع لأقرأ.. لو قرأت لن أركز في كلمة.
كانت مصممة وجاحدة حروفها كل حين تطرف نحو باب العناية المقفل في وجهها ويحتبس روحها خلفه، لم يستيقظ وإصابة دماغه خطيرة ناهيك عن الكسور التي وطأت كل شبر منه، كل هذا هيناً أمام قلبه الذي أنعشوه للمرة الثانية، طال الوقت وتجاوز الليل منتصفه الكل في ازدحام متعب وهي متعبة.
-لبنى هيا غادري مع أيمن.. أطفالك بحاجتك الآن.
ردت بحزم:
-لن أذهب.
زمّت إنصاف شفتيها وراقبت لجوءها لحضن مأمون الذي لم ينتبه للحوار واكتفى بترتيل الآيات في أذنها.
-لبنى.. أنت بحاجة للعودة للمنزل.
أغمضت عينيها فتراجع مأمون يسمح لرحاب صدره أن يغمرها
-أنا المعنية بالتواجد هنا إلى الأبد.
**
خف ضغط الحضور مع انتصاف الليل، فلم يعد هناك سوى أبناء عمومة منتصر وبيت حميه المتواجدين مع لبنى، آخر طبيب خرج من غرفة العناية كان منذر الذي يشعر بهلامية ساقيه كما يديه وكل شيء في جسده، سار بكسل حتى وصل وضاح فجاوره واستلقى في كرسيه وغمغم:
-على حاله.
تنفس وضاح بهم العمر وسأل:
-لا يوجد تحسن؟ أي شيء أواسي فيه نفسي؟
رفع منذر رأسه ورمقه طويلاً.. طويلاً وفجر الفاجعة:
-غيبوبته ليس لها أجل.. أي لا نعلم متى سيصحو.
صُدم وضاح فلم يتردد منذر الذي تابع بإرهاق:
-أجل هو بين يدي رحمته.. فادع له.
نكس وضاح رأسه بغمّ وخرج من المكان نحو الساحة الخارجية للتنفيس عن غضبه بنفث تبغه، لحقه منذر الذي تحضر للرحيل وأخذه معه فعلى ما يبدو وضاح نسي نفسه وامرأته التي تقبع في بيته.
-أنهيت سيجارتك؟
التفت مجفلاً لمنذر وحدق في السيجارة للحظة وأجاب:
-لا.. كما ترى.
تثاءب منذر وأمره بنعاس:
-تعجل.. ستقوم بتوصيلي معك.
بدا مغيباً وغبياً فردّ بخشونة:
-سأبقى هنا.. لن أستطيع إيصالك.
اقترب منذر منه ولكمه على ظهره:
-ستقوم بإيصالي والعودة لمنزلك وامرأتك.. هل نسيت أنها هناك؟!
وكأنه نسي.. بل نسي أمر ثريا عروسه حقًا ولم يتذكرها، بالنظر لبلاهته وحدقتيه الرماديتين اللتين تكاثف دخانها فبدا ضائعًا بالحرفية هز رأسه يغتسل من أفكاره السوداوية وكله منصب على المرأة التي جاءت لمنزله وأبلغه عنها علاء.. ولأسفه نسيها والله يعلم أنه كان مجبرًا..
-ومنتصر!
تنهد منذر بقلة حيلة:
-أبناء عمه عنده.. هيا تعال واخلع عنك ثيابك المخضبة بالدماء.
تردد في خطوته فحسمه منذر الذي واساه وأقنعه بدهاء:
-منتصر بحاجة لمحاربين.. ولن تكون بهيئتك.
ثم تبسم لوجهه بصدق وأكد بما لا مجال للشك فيه.
-هو لن يقبل أن تتواجد هنا وأنت عريس.
هز رأسه وهمس:
-أجل هو لن يقبل.
مشى منذر صوب المرآب:
-إذن هيا..
توقف وضاح ورمى بسيجارته وسحقها أسفل قدمه واستدار صوب بوابة المستشفى فيأس منذر منه لكنه قال قبلاً:
-انتظر..
مرت أنامله بضياع نحو جيوب بنطاله حتى وجد المفتاح:
-شغّلها ريثما آتي.
ومن ثم مشى صوب قسم العناية، يناظر الباب للمرة الأخيرة وخرج لمنذر الذي لم تسعفه حالته سوى بفتح الأبواب، جاءه وضاح واستقل كرسي القيادة ولمح وجه منذر المسود فلان قلبه بشفقة وسأله:
-هل إصابة يدك مؤلمة إلى هذا الحد.
فتح منذر عينيه اللتين أغلقهما والتفت بصمت نحو وضاح ورد
-لا.. ليست بذلك الألم.
حدق في كفه اليسرى المغطاة بمشد أزرق يغطي باطنها فقط ويده اليمنى ملفوفة بشاش حتى الساعد ونطق:
-كان قلبه يستحق.
ازدرد وضاح لعابه ونشزت إحدى نبضات قلبه عن مسارها الرتيب المرهق وصخبت بإيقاع أوجعه فوق الوجع مرات فأدار المحرك بصمت يحترم صمت منذر الذي سكن إلا من أنفاس هادئة تعلن عن وجوده.
أخيرًا أوصله إلى منزله وودعه، هبط منذر بترنح وخطواته تجر بعضها وتغفو عند محطات الطريق القصيرة، رفع بصره حيث غرفة نومه فوجد أنوارها مغلقة فتبسم رغمًا عنه فجيداء نائمة ولا تدري عنه، فتح الباب وصعد للأعلى استند على حاجز السلالم وتوقف باستنزاف ثم جلس على إحدى السلالم ومد يديه أمامه، نكس رأسه قليلا ثم رفعه ومشط خصلاته النافرة بأنامله، مسّ عينيه وحركهما فجاءه همس حذر
-منذر..
وكان صوتها ليطمئن أن الخلاء الموحش لم يكن نصيبه، بل هناك من معه، التفت إليها فتقدمت منه بهيئتها المشعثة بقدمين حافيتين، وثوب قطني التهم جسدها المكتنز، هبطت حتى وصلته وسألته بقلق:
-أخفتني.. لمَ تجلس هنا؟!
جاورته ورأت كفيه الملفوفين بمشدات فشهقت بخوف ومستهما بلهفة:
-هل أنت بخير طمأني؟
حدقت بعينيه اللتين حوتا كل إنهاك الدنيا، بريقهما الزاهي الذي يشعها بنوره مطفأ فأطفأ قناديلها، حثته عيناها الوجلتين أن يجيب فسألت باضطراب:
-هل حصل شيء سيئ لمنتصر؟
وكأنه يستكثر عليها الاطمئنان ويبغي جنونها فأجاب بعد صمتٍ بغاه فلا طاقة له بالحديث وملامحه تنضح إعياء:
-هو بخير.
ازدردت لعابها فحاد عن عينيها وحدق في كفيه وهمس:
-إصابة عمل.. مجرد ألم بسيط فقط.
-يا حبيبي لقد أخفتني.
مالت برأسها على كتفه وضمت وسطه بيدها تشكو له رعبها.
-لم أستطع النوم مطلقًا.. بقيتُ مستيقظة.
رفعت وجهها إليه.
-الآن سأنام براحة.
ضحك ومال برأسه يتكئ على راحتها يتنشق روائح الغسول التي تدثر شعرها جيدًا فأراحته رائحة الليمون رغمًا عن أنفه.
مست كفه ومرت على المشد تمسه بأناملها بنعومة:
-خفت عليك.. حمداً لله هما بخير.
قبل خصلاتها وأجاب:
-لا تخافي أبدًا.
تبسمت حين نطقها بلهجته السلطية التي تثقل الحروف وتفخمها فغمرت وجهها في كتفه وتدللت
-لا أخاف.
تنهد وأغمض عينيه فأحست به، استقامت من مكانها ووقفت أمام نظرته المستغربة فجذبت كفه:
-هيّا إلى النوم.. سترتاح بعد حمام منعش.
شدته بإصرار فاستسلم لها وتبعها، سبقته إلى الحمّام وأعدت له ما يحتاجه ثم سحبت من الرفوف أحد الزيوت التي ستحتاجها لاحقًا، خرجت واستقرت متربعة على السرير خلطت له الزيوت التي ستدهن له بها كفوفه وعضلات جسده المتشنجة، دقائق ووجدته استقر على طرف الفراش ومنشفته في كفه يجفف شعره، رق قلبها له بكل ما يحمله من حب، فزحفت على ركبتيها وقبل أن تصله كان بالفعل قد تمدد ورأسه على الوسادة وعيناه نحو السقف حادت نظرته لها فوجدها عابسة فمد كفه لها ورماها على جانبه.
-لا أريد زيوتاً.. أريد حضنك فقط.
رفعت رأسها وأشرفت عليه من علو وكفها تتهادى على جبينه فشعره الندي، لم يستطع النظر لها، بل أغمض عينيه تحت لمسات الدفء التي تمسح بها عليه.
-وأنا كلي لك.
مالت نحو الشرشف وجذبته ليغطيهما سوية، تسللت يديها نحو جسده وكفها ملست قلبه الذي يهدر أسفلها؛ أبقت عليه طويلاً، ويده اليسرى عانقت يدها الثانية التي استقرت فوق بطنه، ومسامعه خشعت للمعوذات وآيات السكينة التي تلتها عليه.

***


لها في مضمار الخيبات حصة الأسد فتصل الأولى بحزنها وبؤسها ودموعها التي تذرفها بعيدًا عن الأعين، تكومت فوق ثوب زفافها تنعي أحلامها الليلة وتبذخ في سكب عبراتها.
-يا الله اشفِ منتصر!
كانت ناقمة وساخطة حين جاءت رغم لهفتها لرؤية وضاح ومواساته؛ إلا أن نبأ منتصر أحرق كل غضبها وأحاله رمادًا فكلها مبتئسٌ.. موجوع.. وكثيرها يرجو وضاح أن يأتي لتطمئن وتُطمْئن قلبه.
استقامت بعدما فرغت كل حسرتها وتذكرت أن هناك ثوباً أبيض كهذا ارتدته باكية والفرق أنها بكليهما لم تزف.
-قدرك اللهم ولا اعتراض.
شعرت بسخطها يفوق المعقول حتى تساءلت:
-لماذا أنا يا ربِّ؟!
فكممت فمها بوجع واستغفرت راضية بإمضاء قدره، رفعت الثوب عن الأرض وتركته في مكان مناسبٍ، ثم اغتسلت وفكت خصلاتها التي رفعتها بتسريحة خفيفة بناءً على طلب وضاح لكيلا تزعجه، بسخرية مال فمها وغمغمت:
-من نصيبي أنني لم أعلق خيمة فوق رأسي.
انتقمت من جسدها وشعرها بالاغتسال، وخرجت ترتدي ثوبًا صيفيًا مريحًا، ارتمت على السرير بقلق فهل تجازف وتنام فيه؟
إلا أنها هزت رأسها تؤكد لنفسها بعزمٍ:
-هذا بيتي على أية حال.
ارتمت في السرير وحاولت إغماض جفنيها، تركت عنها كل شيء هذه الليلة وتهيأت صورة صافية بيضاء لتتسلل إلى وعيها كحيلة كي لا تفكر، إلا أن عيناها هلّتا بالدموع بلا حول ولا قوة، تقلبت بين يمنة ويسرة حتى طلبت من الله بتضرع:
-أريد النوم.. يا رب ساعدني.
انغلقت أجفانها شيئاً فشيئاً واهتدت في السكون الذي مدها بسقيا راحة هي بحاجتها.
أنار المنزل بعدما فتح بابه وأقبضت عليه الوحشة والخوف كوحشٍ ضارٍ كيف ولماذا لا يعرف، ولج للممر الذي يصل بغرفة نومه وتنهد طويلًا قبل أن يدير المقبض ويخطو للغرفة التي أنارت إضاءتها الخافتة قلبه قبل الرواق!
تسربلت خطواته بنعومة وسقطت أنظاره على الثوب المكوم على الأريكة في مغلف كبير، ازدرد لعابه بخيبة تخصها منه ومن حظه وكل الظروف مجتمعة..
بجهاد نحى نظراته عن السرير الذي يشي بأنفاسها الهادئة، التفت لها وجدها تحتل السرير وظهرها يواجهه بلا أي غطاء؛ تضخم قلبه بكيانها الأنثوي الذي نسيته جدران بيته كما قلبه وتأقلمت مع ذكوريته، سار نحوها ببطء ومد الغطاء على جسدها، ربط هاتفه بمقبس الكهرباء ليشحنه، واستلقى قرب أنفاسها فعلى حسّها قلبه المتألم سيسكن، لم ينم وفشل في الاسترخاء وجسده منشد كلما ومض الهاتف برسالة نصية، حل السَحر وبدأت المساجد بنداء الأذان الأول فرّن منبه هاتفها، كان ساكنًا وانتفض بالتفاتة نحوها اتسعت عيناه حين وجد وجهها مقابلاً له وكأنها كانت تتأمله منذ وقت.
-اهدأ هذا المنبه فقط.
همست بها بصوتٍ ناعس واستقامت تغلق الرنين وعادت له..
-وضاح!
ناجت..
أسكنت..
ضمدت..
وهيجت!
فنطق بصوت أجش:
-شكرًا لأنك هنا.
جذبت كفه تدعمه ولم يغب عنها حاله المهلهل ولا قميصه المفتوحة أزراره والمبقع بنقط حمراء.
-عظم الله أجركم.
نطقتها بأسف وحزن فوجم ورد:
-لم يمت.
تنبهت بتشتيت الأمر عليه فصححت.
-أعزيك في عمّك.
وكأنه تذكر فرفع رأسه وازدرد لعابه بمشقة ولم يجب سوى بهزة رأس.
رفع جذعه ووازى جلسته وقلص حجم المسافة فيما بينهما حد اختلاط الأحداق ببعضها وعناق الأنفاس فمس جبينها وتنفس رائحتها شاكرًا.
-شكرًا لمعدنك الطيب الذي لم يخذلني يومًا.
عيناه حمراوان محتقن دمعهما والليل يجثم أسفلهما.
-ما فعلته لي.. يزنك بالذهب من قمة رأسك حتى أخمص قدميكِ.
قبل جبينها مجددًا ومال برأسه على كتفها:
-أنت غالية.. وعالية في قدرك.
أتبع بشبه انتفاضة تمكنت من كتفيه:
-ولا تستحقي كل ما حدث الليلة.
غاص في كتفها ومسها بلل أرجف فمها، فتأوه بلوعة:
-لكنه منتصر!
من قال أن دموع الرجال في حضرة نسائهم عار؟
بكاه.. وبكت هي حزنه..
فرفعت يديها وأفسحت له الغرق في حضنها تضم دموعه.. وتحوي وجعه، وتنهيدته التي سننت غصصها داخلها.
-وآهٍ من منتصر لو فعلها وتركني.
مالت على أذنه وهمست بالقرب منها.
-لن يتركك.
أفرغ جعبته فيها حتى جفت مآقيه معلنة عن توقف السيل الذي بلل ثوبها وسكنت كتفيه عن الاهتزاز، تثاقل وزنه في حضنها فغاصت أناملها في شعره المشعث تقبله حينًا وتهدهده في أحايين، اطمأنت لاستغراقه في نومه فمالت تعدل جلستها دون أن تتركه ومددته تريح تعبه، رق قلبها حين أصدرت حنجرته صوتًا غير مرتاح وبين كل حين وحين يهمس باسم
-منتصر.
استقامت عن السرير ودارت حوله، خلعت حذاءه، وفكت أزرار قميصه الأخيرة خلعته بمساعدة ثقل نومه بفرط تعبه، وحين اطمأنت له.. ذهبت لصلاتها، ناظرته بعد ما توضأت وأنبت نقمتها وسخطها.
-أهذا يستحق منك أن تغضبي عليه.
**

اثنان وأربعون يومًا كفيلة بحسم اختيارها الذي تركه لها، لا بل الأصح اختيارها كان واقعاً مذ أن تركها على مفترق اختياراته الغبية مثله، ناقمة وساخطة عليه ومع ذلك لم ترحمه وهي تعرف بكم يريدها، أمس أنهت جلستها مع سند الذي عرض عليها في آخر الجلسات كل كتيبات الأسئلة الأولى ولدهشتها وجدت كل إجاباتها قد تغيرت وحين دخلت عليه وجدته يعشب وانهمكت معه بضمير ووقتئذ سألها:
-أنهيت الأسئلة كلها؟
أومأت في حماس فسأل بعدما ضيق حاجبيه:
-كيف كانت إجاباتك؟
تأوهت من شوكة صغيرة وأجابته بعدما بللت شفتيها:
-لا تشبه أبدا ما أجبته في أولى جلساتي.
حينها ابتسم وصرح عليها ما تتوق له:
-لم تعودي بحاجة لجلساتي منذ اليوم.
قطبت وباغتتها الحقيقة التي تجلت له فسألت:
-حقًا.. هل تظن أنت ذلك؟
سألها مناوراً:
-ألم تحسي بذلك أيضًا؟
نفت وهزت رأسها مصعوقة بكلها:
-بما يكفي لأطمئن؟
ازدردت لعابها وهي تنظر إجابته:
-منذ زمن لم تعودي بحاجة إلى المجيء هنا.. منذ وقت كنت مطمئنة سالي.
مال برأسه وخلع قفازتيه ونفض كفيه يمشي صوب النافورة:
-منذ أن تغيرت مسمياتك لكل العناوين في حياتك.
كررت خلفه مصدومة:
-عنوانين حياتي؟
هز رأسه مشجعًا وسأل سريعًا بلا فواصل:
-زيد
أجابته بأنفاس متعثرة:
-حياتي؟
رفع حاجبه فنطقت سريعاً تصحح:
-أصبح مدار حياتي..
هزت كتفيها تنفي تهمة عنها
-هو الآن حياتي تدور معه.
أطبق شفتيه وغمر كفيه بالماء أكثر وشغل النافورة يشتت عليها متعمداً وسأل:
-أغيد؟
-ابني!
-ابنك فقط؟
ردت عليه بعفوية:
-ألا تكفي كلمة ابني لتعرف يقينا أنه قطعة من روحي.
-والعائلة؟
-شيء أتمنى أن أستظل بظله ليوم يبعثون.
-البيت؟
-مستقري.
-ليلى؟
-خالة محترمة أكرمتني.
-وجبة الغداء..
-تجمع عائلتي.
-غرفة نومك؟
ازدردت لعابها وانتشر الاحمرار في وجهها فأسبلت أهدابها وقالت:
-المكان المقدس لنا.
-أن تتزيني لزوجك؟
لهثت وغصت وتعثرت خطوتها تستند على الحاجز الخشبي في الحديقة.
-لأكون مرغوبة في عينه.
-ترغبينه؟
تلجلجت في وقفتها معترضة:
-أنت تصعبها عليّ..
كرر بلا رحمة:
-ترغبينه؟
ردت بخفر:
-كأي امرأة.
-كزيد.. أم كزوج؟
خجلت فشدد:
-كزوج؟
نفت بهزة كتف ..فكرر الخيار الآخر
-ترغبين زيد؟
أومأت في استنزاف فهاجم:
- تكونين معه.. محررة أم مأسورة..
ردت بصدق:
-ولا مرة كنت متحررة.
ساوره الشك وصدّق أن التعبير يخذلها فجلس على الصخرة مقابلها:
-يجبرك؟
نفت وأصدرت بشفافية:
-يأسرني فيه فلا فكاك.
ابتسم واقترب منها وهمس بتحريض دموي:
-اذهبي إليه واجلبيه من أذنه لغيابه عنك.
ابتسمت بشر وتوحشت زرقة عينيها:
-ليتني أفعل.
-لماذا تتمنين.. هيا هاجمي.
تحمست وتأهبت كمقاتلة:
-سأفعل.
أدرك شفائها من اللحظة التي بكت فيها وأخبرته بغيابه؛ كان قد خصص لها قوساً ومجموعة سهام تضرب فيها زيد وتصب عليه كل لعناتها.. يناورها.. يستمع.. يسجل ويلاحظ تقدمها حتى صرح لها بتعافيها، منذ أن أخبرها سند وهي تخطط بدموية الطريقة التي ستقابله فيها، خصصت الليلة في صالون تجميل واعتنت بخصلاتها أبقت على أغيد عند والدة زوجها والتي استقبلته بمودة وشجعتها في سبيل راحة ابنها التي هي أهم من كل شيء بالنسبة لها.
-لا تنتظري لحظتين.
سارت مع بكورة الصبح حيث البحر الميّت لبيتهم البحري، هبطت من السيارة بلهفة ووصلت البيت فوجدته فارغاً ركلت حقيبتها والباب وحين تعبت استندت على الحقيبة، هاتفت رشاد الذي أخبرها:
-زيد في العقبة.. يجري أضخم صفقاته.
كان قد رمى نفسه في بعدها في العمل بلا نفس مستقطع وتولى صفقات الميناء التي يحب، مضغت اللبانة وصنعت منها بالونات كما تحب، ثم نهضت ببسمة متشفية واستخدمت "كريم" للذهاب إلى العقبة، وصلت أول الليل مع دخوله البيت للتو، كان قد أتم أهم خطوة في تاريخه، أحس بحركة ما في الخارج ولم يعبأ بها، سار صوب المطبخ وجلس على كرسي خلف الرخام، حرك زر الآلة وانتظر مشروب القهوة خاصته فليلته طويلة على ما يبدو!
اثنان وأربعون يومًا من الانتظار..
ولا شيء سوى الانتظار..
غافله رنين جرس باب المنزل فاستغرب إذ لا زوار لديه ولم يوص شيء، توجه للباب وحدق بالكاميرا الأمامية فرآها..
انحبس نفسه في صدره..
وركض أميالاً في مضمار النبض.. حتى شك بفقدانه!
فتح الباب سريعًا يقبض على الحلم كيلا لا يغدو سراباً فارتطم بوجهها المشتاق:
-أكرهك.
ضربت صدره ودفعته للداخل:
-كما لم أفعل من قبل..
ابتلعه الموج في عينيها ومراكبها تهدد بغارة، فأطبقت على ثغره بقوة، تركته على إثرها مترنحًا وقائلاً:
-أين الجديد.. طوال عمرك كرهتني.
جذبت قميصه لها:
-أجل.. لم أحبك يومًا..
همس بنشوة:
-لكنني أحببتك في كل أيامي..
-لا أريد حبك الغبي الذي يعطيني الخيارات.
شدته لها وأقبضت على عنقه:
-أي غبي أنت لتفلتني من بين يديك؟
تولى عنها مهمة التماس وأسكنها بفوضاه التي أسكرتها:
-أنت ِ أهم مما أريد.
ضربته في صدره:
-بئساً لمثاليتك.
أصدر السائق بوقا مغتاظًا فتذكرته وتركته بقسوة قائلة بدلال:
-اذهب وحاسب الرجل في الخارج.. واجلب حقائبي.
**

عجلة الليالي تدور ببطء صعب، لم تبارح لبنى المشفى لحظة رغم طول المدة التي قضاها منتصر في سباته، استفاقته مرهونة بحالته النفسية وهذا ما يؤلمها، تعود للمنزل للتبديل والاطمئنان على الطفلين الذين كانا بين رونق ووالدتها فقط وباقي وقتها بين يدي أنفاسه.
-قف هنا من فضلك.
طلبت من السائق أن يتوقف عند شارعٍ يسبق المشفى، راغبة أن تمشي وتسري طاقتها المكبوتة في خطواتها، لقد أظهرت تماسكًا غير مسبوق أذهل الجميع، تصلي وتذكّر الجميع بالصلاة، مصحفها بين كفيها واليقين تحمله في قلبها، سينجو ويعود لها.. وستعوضه.. تقسم أنها ستكون له كما كان لها طوال حياته.
-أنت فقط أفق.. وقلبك أنا كفيلة به.
مسحت دمعتها وجلست على كرسي استراحة أسفل شجرة وارفة لا يقف أحد عندها.
-بل سأكفل بسعادتك وألتقمها من فم الدنيا التي عاندتك.
نكست رأسها وجلبت الدفتر الصغير من جيبها رمقت الصفحة الوحيدة التي لم تطلها النيران، بل لفحت وجهها.. شعرت أنها مثلها نصفها محترق والنصف الآخر يخضر بالدعاء.
-يا رب اشفه لي.. فلا حال لي بعده.
أجهشت بالبكاء وتحكمت أخيرًا في إيقافها ودخلت المشفى، شعرت بالاختناق والغصة تسحبها لأعلى درجات الألم فسلكت صوب المصلى تتوسد صفحات المصحف تارة والأرض تارة أخرى في حاجة وسجود، غفت على السجادة التي طوتها بعدما طالت جلستها ولم تعبأ بالوقت، فتحت عينيها بلا رفرفة أهداب وصمتت بلا حركة، شيءٌ أشبه بالإلهام وحدس سخّر لها السكنى وكأنها نامت واستفاقت برؤيا، خاشعة نبضاتها وأنفاسها تشهق في لحظات السَحر والصبا، أطرافها باردة وكأنها انغمست برياحٍ مؤنسات، نور ..نور توهجت به وكأنها مصباح في مشكاة يلهب الضوء في كل مكان، اعتدلت من غفوتها وملست كفها قلبها بتوجس، ما هذا الاطمئنان المخيف وهي التي اعتادت الخوف، رددت بلا وعي وعيناها تنقلان النظر نحو السقف:
{اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِۚ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ ۖ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍۖ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ َتمْسَسْهُ نَارٌۚ نُورٌ عَلَىٰ نُورٍۗ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُۚ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِۗ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
بقيت تذكرها بلا توقف، حتى سمعت صوتاً لحوحاً ينادي باسمها، عرفته إذ لم يكن سوى منذر الذي فاق صبره المدى ودخل عليها من الباب يهتف بها فرحًا:
-منتصر استفاق..
شهقت بدمعتها وصدمتها وخوفها وسألت بصوت مجنون:
-استفاق؟؟
هز رأسه مؤكدًا فانهارت ساجدة على الأرض ومنذر خرج من عندها صوب وضاح الذي جاء توًا من الصيدلية فصرخ به لبعده عنه
-منتصر.. منتصر استفاق يا وضاح.
التفت وضاح بجزع وسأله بغير تصديق فأكد منذر بفرح غامرٍ:
-استيقظ النائم وأخيراً
-رب لك الحمد.. رب لك الحمد..
نطق بها بفرحٍ وركبتاه تخران سجوداً بحمده
**

زوجة مع وقف التنفيذ، تود الإجابة هكذا لكل فم فضولي ثرثار يسألها، هذه الأسئلة لم تتجرأ بها سوى صديقاتها المعلمات، وجيداء الوقحة. وهي حائرة فعلاً ما الذي تقوله لهن أن زوجها حالته النفسية صعبة ولا تراه إلا في أوقات النوم وجسده مشدود ليس لقربها وحرمانها عليه يا حسرة، بل مشدود للهاتف الذي ينتظره كل لحظة.
-منذ متى والباميا تنفرط هكذا؟
غمغمت بسخط حين ذابت حبات الباميا المقلية في رب الطماطم الذي حضرته مسبقًا، سبكت الثوم وأضافته متذمرة:
-حين قررت عرض مواهبي.. أخزتني قدرتي.
نفخت بغل وقلبت الأرز على الموقد بعدما خففت الحرارة أسفله، وقررت الصلاة الآن، مشت خطوة والتفتت للقدور متمتمة:
-يا رب بيض وجهي.
خالتها عواطف تحب الباميا ولقد قررت أن تطهوها اليوم لها وتأخذ الطعام لبيت حميها وتجلس هناك، هي في كل الأحوال تمارس الأخوة مع زوجها، ولسوء حظها ذابت الباميا وكأنها لم تطهها من قبل، ارتدت الأسدال وبدأت الصلاة، ما إن سلمت حتى سمعت حركة المفاتيح استغربت حضوره للتو بندائه المستمر لها فأجابته
-أنا هنا..
طل عليها من الباب وأخذته إليها في زيها الأبيض، فهتف لها بفرحة:
-منتصر استفاق.
أجابت فرحة:
-حقًا؟
مشى حتى وصل إليها وجثى على ركبتيه قربها:
-لقد عادت روحي إليّ تواً.
-يا حبيبي.
نطقتها بحب وكفيها تحتضان وجهه بحنان خالص، ترمق فرحته التي تسحبت عنها البراءة شيئاً فشيئاً مما أوجسها، شعت في غمام عينيه الرغبة وتراقصت الحاجة على سحبه الكثيفة، والدعوة نُطقت مع أول قبلة نزلت كالغيث فأمطرتها وأمطرته، تعثرت مرعوبة مع سيل العاطفة الذي سيجرفها فتمتمت بلا وعي:
-أريد زفافاً تعويضاً عما حدث.. سيتكفل به منتصر.
جذب الأسدال عنها وأخذ جسدها البض إليه:
-سآخذ حقي منه مضاعفًا.
نطقت بلهاث تنجو والغرق في حضرة الإعصار واجب.
-ويعوضني عن شعوري وقتها.
غمغم وطول حرمانه يقضي على آخر ما تبقى لديه:
-سيعوضنا.
مال بها فأوقعته غير متأسفة وقالت:
-القدور على الموقد ستحترق.
أمسك يدها وقال بضحكة متعبة:
-لا بأس فنحن أيضًا سنتحرق.
-القدوو...
والراء اختطفت بالضمة، واللمسة، ورضيت بما حظيت به، فحظوة العشق غنى!



انتهى الفصل.













التعديل الأخير تم بواسطة Lamees othman ; 23-07-22 الساعة 11:39 PM
Lamees othman متواجد حالياً  
التوقيع
ست وعشرون نجمة وبضع من سماء روحي معلقة بين ثنايا الأفق!



(وَاجْعَل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ)

سبحان الله والحمدلله، ولا إله إلا الله، والله أكبر.❤
رد مع اقتباس
قديم 23-07-22, 10:52 PM   #2936

جولتا
 
الصورة الرمزية جولتا

? العضوٌ??? » 464323
?  التسِجيلٌ » Apr 2020
? مشَارَ?اتْي » 540
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Jordan
?  نُقآطِيْ » جولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond repute
افتراضي

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 46 ( الأعضاء 15 والزوار 31)
‏جولتا, ‏مهاصوفي, ‏ام سليم المراعبه, ‏Lamees othman+, ‏نفوسا, ‏نيفين حلم, ‏زهراء يوسف علي, ‏خلود حليب, ‏مريم احمدو, ‏دانه عبد, ‏زهرورة, ‏عمرااهل, ‏Iraqi1989, ‏نـاي, ‏شما بيري



مراااحب💁🏼‍♂


جولتا غير متواجد حالياً  
التوقيع
أشكو للورد عن شوقي لأجملها
فتذبل وتنثر ريحانها في الأفقي
🖤
رد مع اقتباس
قديم 23-07-22, 11:15 PM   #2937

جولتا
 
الصورة الرمزية جولتا

? العضوٌ??? » 464323
?  التسِجيلٌ » Apr 2020
? مشَارَ?اتْي » 540
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Jordan
?  نُقآطِيْ » جولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond repute
افتراضي

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 78 ( الأعضاء 19 والزوار 59)
‏جولتا, ‏منة ابو شرمة, ‏Lamees othman+, ‏فديت الشامة, ‏نهوتي, ‏Nora372, ‏عمرااهل, ‏Booo7, ‏hapyhanan, ‏ام سليم المراعبه, ‏مهاصوفي, ‏نفوسا, ‏نيفين حلم, ‏زهراء يوسف علي, ‏خلود حليب, ‏مريم احمدو, ‏دانه عبد, ‏زهرورة, ‏I

♥❤💃🏻


جولتا غير متواجد حالياً  
التوقيع
أشكو للورد عن شوقي لأجملها
فتذبل وتنثر ريحانها في الأفقي
🖤
رد مع اقتباس
قديم 23-07-22, 11:34 PM   #2938

ايلياء مراد

? العضوٌ??? » 481110
?  التسِجيلٌ » Nov 2020
? مشَارَ?اتْي » 44
?  نُقآطِيْ » ايلياء مراد is on a distinguished road
افتراضي

ما كل هذا الالم والابداع دموعي لم تتوقف لحظة مبدعة انت لميس مبدعة, إنعاش منذر لمنتصر موت اعصابي كنت واثقة فيك لكن المشهد مكتوب بحرفية

ايلياء مراد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 23-07-22, 11:49 PM   #2939

جولتا
 
الصورة الرمزية جولتا

? العضوٌ??? » 464323
?  التسِجيلٌ » Apr 2020
? مشَارَ?اتْي » 540
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Jordan
?  نُقآطِيْ » جولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond reputeجولتا has a reputation beyond repute
افتراضي

لذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 93 ( الأعضاء 24 والزوار 69)
‏جولتا, ‏Shadwa.Dy, ‏maram alsaeed, ‏ايلياء مراد, ‏زهراء يوسف علي, ‏strom, ‏م ممم ممم, ‏بشرى لطفي, ‏نورسسين, ‏رودينا رونى, ‏سناء يافي, ‏مروشه, ‏منة ابو شرمة, ‏فديت الشامة, ‏نهوتي, ‏Nora372, ‏عمرااهل, ‏Booo7, ‏ام سليم المراعبه, ‏مهاصوفي, ‏نفوسا, ‏نيفين حلم, ‏خلود حليب, ‏مريم احمدو


جولتا غير متواجد حالياً  
التوقيع
أشكو للورد عن شوقي لأجملها
فتذبل وتنثر ريحانها في الأفقي
🖤
رد مع اقتباس
قديم 24-07-22, 12:11 AM   #2940

سناء يافي

? العضوٌ??? » 497803
?  التسِجيلٌ » Jan 2022
? مشَارَ?اتْي » 447
?  نُقآطِيْ » سناء يافي is on a distinguished road
افتراضي فجر يلوح بمشكاة

الله الله يا لميس فصل ولا اروع فيه كمية أحداث محزنة ونهاية مفرحة فصل طويل وتستحقين أجمل الكلمات والثناء على كتابتك شكرا لكي

سناء يافي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 01:48 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.