آخر 10 مشاركات
353 - رياح الجمر - ريبيكا ونترز (الكاتـب : حنا - )           »          وَ بِكَ أَتَهَجَأْ .. أَبْجَدِيَتيِ * مميزة * (الكاتـب : حلمْ يُعآنقْ السمَآء - )           »          صقور تخشى الحب (1) *مميزة ومكتملة* سلسلة الوطن و الحب (الكاتـب : bella snow - )           »          التقينـا فأشــرق الفـــؤاد *سلسلة إشراقة الفؤاد* مميزة ومكتملة * (الكاتـب : سما صافية - )           »          399 - خفقات في زمن ضائع - ديانا هاميلتون ( تصوير جديد ) (الكاتـب : marmoria5555 - )           »          396 - دموع على خد الزمن - جين بورتر ( تصوير جديد ) (الكاتـب : marmoria5555 - )           »          القبلة البريئة(98)لـ:مايا بانكس(الجزء الثالث من سلسلة الحمل والشغف)كاملة*إضافة الرابط (الكاتـب : فراشه وردى - )           »          طوق نجاة (4) .. سلسلة حكايا القلوب (الكاتـب : سلافه الشرقاوي - )           »          456 - حطمت قلبي - سارة مورغان ( عدد جديد ) (الكاتـب : ^RAYAHEEN^ - )           »          الستائر السوداء (الكاتـب : ررمد - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

Like Tree247Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 23-06-22, 01:53 AM   #101

Booo7

? العضوٌ??? » 409773
?  التسِجيلٌ » Oct 2017
? مشَارَ?اتْي » 65
?  نُقآطِيْ » Booo7 is on a distinguished road
افتراضي


ماعرفنا لها هالزينه يوم كان حاتم موجود ماكانت تعطيه وجه وتبيه يتعالج ليش تزعل
الكاديّ likes this.

Booo7 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 23-06-22, 02:27 AM   #102

باااااااارعه

? العضوٌ??? » 460579
?  التسِجيلٌ » Jan 2020
? مشَارَ?اتْي » 48
?  نُقآطِيْ » باااااااارعه is on a distinguished road
افتراضي

كنت متأكده انه ولد سلمى لكن الاب حاكم قوووووووويه زيد مايستاهل وامه غلطانه عيشته في الغفله واخذ الصدمه الان وتدمر عالمه 🥲🥲🥲🥲
الكاديّ likes this.

باااااااارعه غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 26-06-22, 12:24 AM   #103

الكاديّ
 
الصورة الرمزية الكاديّ

? العضوٌ??? » 490082
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 300
?  نُقآطِيْ » الكاديّ is on a distinguished road
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم

*
*

لا تلهيكم الرواية عن الصـلاة

*
*

الفصـل الثالـث والعشـرون





-
ارتعش بدن سلمى من الصدمة ، وكذلك حاكم المتخشبّ في وقفته لا يفقه كلامًا مما يقال ، وبظّن سلمى أن كلام نِعمة -وهلوستها- ما جاءت إلا إنتقامًا لها لذلك قالت مدافعة عن نفسها :
تبهتيني زور خافي الله ، أنا ماعمري خلّفت ولد من ولد عمش
-صمتت في وجل ثم همست بعمق موجوع-
لا ، أصلًا ولدي مات بعد ولادته بيومين
اقترب منهم حاكم حتى وقف بالقرب من باب الصالة وعيناه تنتقلان من سلمى تارة وإلى نعمة تارة آخرى
وبصوت مرتعش موجوع من أشباح الماضي الأليم :
وش تقولي أنتِ وش تقولي ؟ أي ولد هذا اللي مادريت عنه
تراجعت نعيمة وبناتها فور رؤيتهم لثروة والدهم المهزوزة ، الذي لأول مرة يلمحنه هكذا
نِعمة بهدوء تام ، كمن كانت مستعدًا طوال عُمره لهذا اللحظة :
تذكري قبل 34 سنة وش صار وغيّر حالش لهالحال اللي نشوفه ؟
همست سلمى شاخصة ببصرها نحو نِعمة :
34 سنة ؟
نِعمة بخفة عمييقة :
أكيد ما تتذكري ، أو يمكن نسيتي هذا الحدث مثل ما نسيتي غيره ورميتيه وراء ظهرش من فتحتي حياة جديدة بعد حاكم
حاكم بيدٍ ترتعش هتف بقسوة :
قولي وش عندش يا أم زيد
التفت له نِعمة وبحدة أبت إلا الخروج في هذا الموقف :
بالضبط ، أم زيد .. كلامي بعد شوي ما يغيّر من كوني أم هذا الولد اللي ربيّته بيديني وماي عيني لـ33 سنة
واللي صار قبل ولادته تعرفه سلمى بحذافيره
/
\
/
\
"قبل 34 سنـة ، في إحدى مستشفيـات الولاية
مسكت نِعمة يد سلمى وشدت عليها بمؤازرة قلبية :
شدي حيلش بنت عمي ما باقي شيء !
سلمى المتألمة بشدة بسبب آلام المخاض القوية التي تخوضها لأول مرة في حياتها .. رغم صغر سنّها وقلة خبرتها
هتفت بوجع والعرق ملأ رأسها ووجهها :
حسبي الله عليك يا عبدالله ، حسبي الله عليك
نِعمة بضيق بالغ تنّهدت :
يا سلمى ادعي لنفسش بدل لا جالسة تتحسبي على عبدالله ، خلاص كلٍ راح في طريقه
سلمى بذات النبرة الحاقدة :
حسبي الله عليكم كلكم ، مات أبوي ودمرتوا حياتي حسبي الله عليكم
نِعمة بجزع تراجعت للخلف :
أعوذ بالله من حقدش اللي ما تنسيه ، حنا دمرناش ولا أنتِ اللي طلبتي دمارش بنفسش ؟ استغري يا سلمى
أنا مقدرة وضعش بس بوضعش ما تستاهل هالدعاوي
ادعي لش ولولدش يطلع بالسلامة
تنّفست سلمى بإضطراب وجسدها يرتعش من شدة الآلام ، همست :
أمنتش بالله ..
-أخذت نفسًا بصعوبة-
أمنتش بالله عبدالله لا يدري بولدي ، أمنتش بالله
صرخت حين جاءتها طلقة نفضت بقلبها لا جسدها فقط . وتراجعت نِعمة بشكل أكبر لتدخل الطبيبة من الباب هذه اللحظة وهي تقول :
الطفل على وصول ، نادي لي الممرضة حميدة بسرعة
خرجت نِعمة بتعثّر خطواتها وما يؤرقها أمرين ، دعوتها في هذا الوقت الحسّاس ، وأمانتها الثقيلة
فكيف لا يعلم أب عن ولادة ابنه المنتظرة ؟
ظلَت على إنتظارها ذاك أمام غرفة الطوارئ لقلة غرف العمليات وبدائيتها انذاك ، يدها على قلبها الخافق بسبب صرخات سلمى المتألمة
ودموعها تهطل بشكل لا إرادي ، وهي تستغفر في نفسها حُرمانها من لذة وجع هذا الشعور الأمومي الذي لن تناله ما حييت
وبعد ساعات طالت بوقوفها المجهد خرجت أخيرًا الطبيبة بابتسامة عملية :
الحمدلله على سلامتها ، جالها ولد
ابتسمت نِعمة وسط دموعها وقلبها يخفق بشدة ، تكررت جملة الطبيبة عدة مرات وشعور غريب يخالجها
دخلت الغرفة حيث سلمى واقتربت منها بفرحة عامة :
الحمدلله بنت عمي الحمدلله ومبروك ما جاش
همست سلمى بنفسٍ منقطع والتعب أخذ منها مأخذ :
ابغى أشوفه !
التفتت نحو الممرضة العُمانية وأخذت منها الرضيع الصغير المحشو داخل فراش أبيض اللون
ادمعت عيناها من صِغر حجمه واحمرار وجهه ، قبّلته جبينه وسمّت بالله عليه .. حين تقدمت نحو سلمى وجدتها تغطّ في نومٍ عميق بعد تعب الولادة
فأخذت تنظر للطفل وتهدهده بين يديها حتى شعرت بحرقة الدموع تحرق خدّها"
/
\
"في ذات اليـوم ، بوقت متأخر قليلًا
دخلت نِعمة إلى غرفة سلمى التي نُقلت إليها بعد الولادة بساعة ، وجدتها في شرودٍ تام والطفل الصغير على السرير الزجاجي متمددٌ بسكون
منذ تلك اللحظة أيقنت أن ذاك الرضيع ليس كغيره ، فهو هادي بشكل كبير .. صوت بُكاءه بالكاد يُسمع
لا يطلب نداء الجوع أو البلل ، ولا يبحث عن زاده بالبُكاء
فخرج كما تيقّنت ، رقيق ليس بشقي ، هادي ليس بمزعج
اقتربت منها حتى لاصقت سريرها :
وين سرحانة ؟
أفاقت سلمى من شرودها ، لتردف بهدوء :
مكاني ، وبوضعي ! وش جابش ؟
تنّهدت نِعمة وجلست بجانبها :
رضعتي ولدش ؟
أراحت رأسها على الوسادة وأطالت في صمتها ، لو قالت أن آخر ما يهمها هو -حملٌ ثقيل- يصيح فوق رأسها طالبًا الحليب منها فلن تكذب
مئات الهموم تتكالب عليها ، آلاف المشاكل التي تبحث عن حلّها .. ولا ينقصها الآن سوى نصائح ابنة عمها :
ولدش محتاج لبدايات الحليب اللي يطلع منش الحين ، حاول ترضعيه بدل لا تخلي الممرضات يعطوه حليب صناعي
التفتت نحوها بعينين شبه مغلقتين :
اخر شيء أتمناه اسمع صوتش يا نِعمة ، طلعي من الغرفة وخلي غيرش يجيني لا بغى يساعدني
نِعمة بحزن على الشرخ العميق في علاقتهم :
سلمى آنا بنت عمش وبحسبة أختش ، عمري ما تمنيّت لش الشر
ليش جالسة اشوفش تحاسبيني على قرار اتخذتيه بنفسش وحنا نفذناه لش ؟
زفرت سلمى وأغلقت عينيها ، وبصراحة لاذعة :
ما أطيق شوفتكم ، ما أطيق لكم حس وسمع .. وجودكم يذكرني باللي عشته وأنتو تشوفوا علي بوسع عينكم ولا فكرتوا تتدخلوا
تنّهدت نعمة بهم :
والله العظيم ، وبحق هالنعمة اللي عطاش إياها ربي .. ماكنا نعرف عن سوايا عبدالله وشكّه فيش
سلمى بصوتٍ عميق :
وزوجش عبدالله ما كان يعرف بعد ؟ سميّه ما يخبي عليه شيء
نعمة بجدية بالغة :
عبدالله ما يرضى بالظلم ولو كان عارف اللي تواجهيه من ظلم وشكّ وقفّ جنبش وأسندش
همست ورأسها يثقل من شدة تفكيرها :
تأخرتوا ، ولا فات الفوت ما ينفع الصوت .. وينكم عنّي وأنا اسبح في نهر الحسرة وأتجرع ريقي من ماي الندامة ؟
وينكم عنّي وأنا تتلاقفني يدين العلّة والوجع ؟
لكن الحسافة والله مب عليكم ، الحسافة كانت على اللي وعد فأخلف
استهمّت نِعمة أكثر من ذي قبل ،
هذه المرأة مشبعة بأحقاد تنثر سواد الرماد القاتم بداخل روحها
إنها ممتلئة بعذاب رجلٍ لاحقها باسم الحُب ، وأحرقها باسمه
قالوا أنه الحُب كالشمعة .. عاقبتين له !
إما أن يُضيء كونك بمجراته ، أو أن يضرم النار فيها بلا شبعٍ وإرتواء
فيبدو أن قدر ابنة عمها جاء كالعاقبة الثانية .. وبئس العاقبة :
ما أطالبش تنسي ولا تسامحي وتغفري ، لكن أطلب منش تخففي على نفسش هذا الغلّ وتبدي من أول وجديد
المشاعر السلبية ما بتخفف من حدة الموقف ، راح تزيده
وقفت بعد كلامها وخرجت والهمّ يأكل من قلبها كل يوم جزءًا"
/
\
/
"بعد ولادة سلمـى بيومين ونصـف ..
طرقت نعمة باب الغرفة الذي طُردت منها سابقًا ، لكنّها وكعادة قلبها الطيّب لا يقدر على حمل الأضغان بل يصفّ بإمتنان -الأعذار- لجميع البشر
ليست وحدها هذه المرة ، جاءت برفقة عبدالله زوجها .. حكت له مرارًا عن روعة الطفل الصغيّر الذي سمتّه أمه -وليد- ليكون وليدًا للفرح في حياتها الجديدة بعد طلاقها
اندهشت نعمة حين رأت الغرفة خالية من سلمى وخالية من ابنها
التفتت نحو عبدالله بذات الدهشة :
بسم الله ، وين راحت ؟
عبدالله بهدوء رغم صِغر سنه واندفاعه للحياة انذاك :
يمكن في دورة المياة
انقبض قلبها ، وهذه العضلة العصيّة تُنبئها بالأسوء :
السرير مرتب ، والغرفة مسكر مصابيحها .. يارب استر
خليني اسأل الممرضات اللي هنا
خرجت وخرج خلفها ومن نبرة صوتها بدأ القلق ينتابه ، توقفا عند إحدى الممرضات فسألتها :
سلمى قحطان وينها هي وولدها ؟
رفعت الممرضة رأسها ثم بحثت بين الملفات عن المدعوة سلمى لتقول ببرود :
سلمى طلعت قبل ست ساعات ، وولدها في الحضانة
هبط قلبها لبطنها ، يستحيل ما فكرّت به منذ أول مرة رأت فيها الغرفة خالية
تمسّكت بأصغر خيوط الأمل وأوهنها حتى لا تقول أن سلمى بهذه الدناءة حتى تترك طفلها بسبب حقدها على أبيه
لا تنكر ، بل تقسم على ذلك أنها رأت نظرت الهرب وملاقاة سُبل النجاة في عينيها
عرفت منذ تلك اللحظة أن سلمى ستتصرف بتصرف
قد يجعلها في موضع -القسوة الأمومية- للأبد
جلست على الكرسي وطاقتها تخور ، ساندها عبدالله وهو يحوقل :
استغفري ربش من هالوساوس ، يمكن راحت مشوار قريب وبترجع
هزّت رأسها بالنفي والدمع يفيض من عينيها :
كنت حاسة إنه وراها شيء ، حاسة إن قلبها بيغدر فيها وتنسى عقلها وقرارته ! قول لي وين راحت ووليدها في الحضانة ؟
وين بتروح وأنا اليوم جاية أطلعها وأدخلها بيتي وقلبي وروحي؟
ربّت على يدها ليقول بمساندة:
نِعمة استغفري من سوء الظن ، ما تسويها مهما كان .. هذا ولدها كيف تتخلى عنه ؟ أنتِ من يوم ولادتها صايرة حساسة
وقفت نعمة على عجل ونظرت للممرضة :
سجلّ الولادة لوليد بن عبدالله العزم موجود عندكم ؟
الممرضة وكأنها كانت تنتظر هذا السؤال:
شهادة الميلاد معها.
لطمت خدها وبكت ، بكت بحسرة على هروبها وبكت بألمٍ عميق على الطفل اليتيم :
راحت راحت ، ياويل قلبي على وليدها راحت
شدّها عبدالله من يدها بجدية ليُسكتها ، فوّجه كلامه نحو الممرضة وهو يقول :
بنشوف الولد ، وينه ؟
الممرضة بعجلة :
روح الحضانة بتلقى هناك الممرضة ، اسأل عن اسمه وبتدلك عليه
جذب نعمة من يدها واتجَها نحو الحضانة ، سأل عن الطفل وبالفعل دلّته الممرضة عليها
وهُنا ازداد بُكاء نعمة ليصل إلى النشيج :
قلت لك قلت لك يا عبدالله سوتها وراحت .. خلّت الولد بيدين هالزمن اللي ما يرحم وراحت
ماقدرت تعاقب أبوه عاقبته هو ، حرمته من حنانها وأمومتها
-وبإنهيار تام-
ياقليبي قلباه عليه .. وياقسوتها هالأم ، غيرها يتمنى ويحفى حوف وهي عايفة .. عاييييفة
أنزل عبدالله رأسه والهم يسطّر خطوطه عليه .. ما استنبطاه فعلًا كارثة ، كارثة لا بدّ أن يتداركاها بسرعة :
لازم عبدالله يعرف بوجود ولده
رفعت نعمة عيناها الباكية له بغضب :
عيال عمنا كل واحد أهمل من الثاني ، عبدالله اللي تزوج أختي بعد ما طلّق سلمى باسبوعين ، ولا سلمى اللي جنت بعد طلاقها ؟
ما يستاهلوه ، ما يستاهلوا يكونوا أمه وأبوه
عبدالله بعقلانية :
ولو يا نعِمة يظل أبوه ومسؤول منه إذا أمه تخلّت عنه
مسحت نعمة دموعها بقسوة ، وبعزم مشروخ رغم دمار أرضها من تحتها :
هي أمنتّني عبدالله مايعرف بالولد لأنها عارفة إن اللي شككّ بالأم قادر يشكك بأبوته فيه
بس خلاص ، هالولد بعد اليوم ما راح يتمرمط بينهم
عبدالله بصدمة مما استنتجه :
وش ناوية عليه ؟
التفتت له والدموع تعود مرة آخرى برفقة ابتسامة مرتجفة :
هذا ولدي من اليوم ورايح
عضّ شفته بقوة ، ليقول بجدية :
عن الخبال ، الولد ذا ما يتيم عنده أهل .. بأي حق نتبناه؟
نِعمة بأسى :
أنت عارف إننا كنا مقررين نتبنى طفل رضيع بسبب مشكلتي اللي مالها حل ،
وإني ماخذة حبوب إدرار الحليب عشان يرضع مني ويحّل لي ، وش فرق وليد عن وليد غيره ؟
مسح عبدالله على وجهه ، هذه اللحظة تتطلب قرار غير متسرّع وفي مكان هادي وليس هكذا أمام ممر المستشفى
أكملت نعمة ببكاء عميق حين رأت الرفض على ملامحه :
أرجوك عبدالله ، أنا أطلبك وأنت الكريم اللي ما عمرك لمتني
خليني أخذ وليد معي ويصير ولدنا ونحضنه عن وجع هالدنيا
التفت إليها عبدالله بأسى :
وبعدين يا نعمة ؟ 10 سنين ويمكن 15 وإذا كبر سأل وين أهلي ، وين أمي وأبوي ! وش بتجاوبيه ؟
نعمة بعزم شديد رغم بكاءها :
أنا أمه وأنت أبوه .. هو كذا ولا كذا شايل اسمك ! اسماءكم وحده وجدكم واحد ! ما سوينا حرام
أغمضت عينيه وهو يحوقل بداخله ، ويدعو الله أن يرشده إلى طريق الصواب
قلبه يقول له وافق على هذا القرار ، عزّز حرمانك من الأبوة بطفل أبناء عمك الذين حرموا هم الآخرون من علاقتهم
وعقله يقول له تريّث .. فهذا قرارٌ كبير ومسؤولية أكبر
مسؤولية ستسأل عليهم وتُساءل
لكن لأول مرة في حياته يستمع لقرار قلبه .. ولا يندم"
/
\
/
أكملت نِعمة بهدوء تام بعد سردها لثورة الذكريات :
قدرت بخبرتي استخرج له شهادة ميلاد ثانية وهالمرة باسم زيد بن عبدالله العزم .. وتناسينا اسم وليد
كبر في حضني وكل سنة تمر يزيد تعلّقي فيه أنا وعبدالله حتى ما عدنا نفرّق هو روحنا بالضبط ولا قلبنا
شعر زيد بنصلٍ حاد مر على صدره من كلام والدته ، لتُكمل :
كانت سهلة على الناس تعرّف إني ولدت وجبت ولد لأني رجعت المستشفى بعد إجازة طويلة ، وأنتِ ؟
-رفعت ناظريها إليها بقوة-
أنتِ جيتيني بعد خمس شهور بكل بجاحة تسألي عن ولدش اللي حملتيه في بطنش شهور وما تهنيّتي فيه إلا يومين
وتعرفي وش قلت لش بدون ندم ؟
وليد توفى بعد ما صابت بكتيريا من الحضانة ، توفى بعد يومين ونص من ولادته !
وعشت حياتش لدرجة إنش نسيتيه وخلّفتي ستة غيره
-نقلت نظراتها بين سلمى وحاكم وبقسوة ما عهدوها من نعمة-
أنتو يالاثنين عاقبكم ربي بولد واحد ، لدرجة إن كلّ ذريتكم من البنات
ولدكم -إن صح القول- ما اختار نصيبه قبل 34 سنة ، لكنه جاهز عشان يختار نصيبه بنفسه هالمرة
قالت بثقة مفرطة ، بثقة من يثق فعلًا بزيد وتربية زيد وقرارات زيد .. الطفل الذي بلغ قبل أوانه وحمل همها ، ثم المراهق الذي استرجل قبل أوانه وشال حزنها .. لن يتخلّى عنها وهي ما بينها وبين الموت إلا شُعيرات
البار الحنون .. الطيّب الصالح ، النقي العادل .. لا يترك والدته تجابه حسرات الماضي وأسى المستقبل بنفسها
نقل زيد نظراته بين سلمى وحاكم تارة ، وتارة نحو نِعمة
لا يعلم من المخطئ ومن المذنب .. جلَ الذي يعلمه أنه ضحيّة طلاق ..
ضحية غدر ، ضحية أم وأب نسوا الأمومة وسط خلافاتهم ومعاركم
كان يرتعش كمن اصابته حمى شديدة ستودي بحياته
جذب الأوراق التي تحتضنها سلمى
قرأها بشكل وجامد تمامًا دون أن يتضح شعوره على وجهه
بعد ثوان قصيرة مزق الأوراق لقطع صغيرة ونثرها بالأرض
أعطاهم ظهره قائلًا بجمود:
أدوا واجبكم وتوكلوا بدربكم
هكذا ببساطة رفض ! الرد الذي لاقاه على حكاية نعمة الدرامية قُوبل بالرفض لانه ببساطة في طور الصدمة
وأي قرار يتخذه الآن ربما سيندم عليه الباقي من عمره
يريد أن يسأل -بل يصرخ- ما السبب؟
ما الدوافع وراء تركهم له صغيرا؟
ما الغاية من معرفته هذا السر المختبيء لسنين؟
قطع نصف الفناء يريد الذهاب لأفسح فناء لولا أن قاطع طريقه وقوف أميمة التي تنظر له بحسرة
توقف لثوان يتمعن في نظراتها فهمس بجمود:
قولي إن هالمسرحية كنتي تعرفيها من قبل؟
هزت رأسها بالنفي وهمست ببكاء:
والله العظيم لا ، ماعرفت إلا من يومين
شفت ورقة فحوصات قديمة في صندوق علاجات أمي نعمة وعرفت إنها عقيم
ابتسم بسخرية ، آه يالسخرية القدر !
صندوق علاجات والدته فتحه ونبشه وبحث فيه عدة مرات
لما لم يلمح الورقة التي قالت عنها أميمة؟
لما لم يأخذ حذره ويقرأ جميع تقارير الفحوصات مئة ومئتين؟ لكان وفر عليه هذا الشوط من بالتألم
تجاوزها لكن وقفت أمامه تمنعه فهمست بخوف:
وين رايح؟
أغمض عينه بقوة:
أبعد ما أكون محتاج هالسؤال ، روحي من قدامي
تخطاها مرة آخرى لكن لحقت به بدافع أكبر ، فلا تضمن رجال العزم حين يخرجون بسياراتهم غاضبين
أدخلت يدها في جيب ثوبه واستخرجت مفتاح سيارته بخفة بارعة
تراجعت للخلف خطوات حين التفت نحوها بنظرات سوداء:
ما راح اسمح لك تسوق وأنت حالتك كذا ،واجه قدرك
شعر زيد بغثيان شديد يراوده
شديد لدرجة شعوره بأمعاءه تتمزق وتتلوى من الألم
الامر فوق سيطرته لما لا يفهمون ؟
يريد الاختلاء بنفسه حتى لا يرمي شهب العقوق في وجه من اكتشف أنهم والده ووالدته
يريد الهرب ، والهرب نصف الشجاعة فلا يملك نصفها الآخر حتى يواجه قدره
دارت عليه الدنيا فأصبحت مشوشة ومعدته تعلن ثورتها أمام غياب الحقيقة لـ33 عامًا
توجه إلى أقرب حوض نخيل وبصورة سريعة أفضى ما في معدته الخالية كل شيء
كل الصدمة ،كل اللامبالاة ،كل الحسرة ،كل السخرية ،كل الوجع ،كل الحياة
وفور أن انتهى وقف والدنيا تموج أمام عينيه
اختل توازنه وقبل أن تلحق به أميم ويلحق به حاكم الذي كان يراقبه بمشاعر مختلفة
ضربت قدمه في غسالة قديمة يعتيلها علبة حمراء
سقط على الأرض وسقطت العلبة عليه
وفجأة ! صرخ بأعلى صوته من الألم الحارق الذي شعر به
وصرخت خلفه أميمة مرتاعة من منظره
وهي ترى سقوط علبة التيزاب -حمض النيتريك- على فخذه



-
ربّت على ظهرها وكتفها مرارًا وتكرارًا يحاول تهدئة شهقاتها المتتالية التي تخرج بلا إرادة منها
مختبئة في صدره العريض ورأسها على كتفه تُرثي النائم على إحدى أسرة غرف المستشفى أمامها
همس حامد بخفوت :
يابنت الحلال تعوذي من الشيطان الرجال ما عليه شر الحمدلله ، وهذا الدكتور سمعتيه بإذنش إن الحرق بياخذ وقته في التعافي وبعد ما يتعافى عملية تجميل وانتهى
لا تكبرين الموضوع وتضيقي صدر زيد !
لم تستجب لهمساته المتكررة ، ولا كلامه المطمئن .. ومنظر زيد المحترق يلوح أمام وجهها لا غير
زفرّ حامد وهو ضائق من عدم استجابتها ، ليتقدم عبدالرحمن وبيده كوب بلاستيكي به ماء يمده نحوها قائلًا :
خذي اشربي واهدي ، وأشكري ربش إن الحادث سطحي ولا تناثر شيء من الحمض داخل جسده ولا أنتِ أدرى باللي راح يصير له وقتها
شهقت أميمة برعب ، وحدجه حامد بنظرة غاضبة ليكتم عبدالرحمن نفسه ثم اندفع قائلًا بدفاع :
وأنا الصادق ، خلها تهوّن الأمور ولا تسوي من الحُبة قبة .. هي ممرضة وتعرف مدى خطورة الحمض لا دخل للأجزاء الداخلية
المقصد بس تشكر ربها وتحمده لأن زيد إصابته سطحية
ارتجفت أميمة وراحت تهمس بدمعها :
إصابته سطحية والحرق ممتد من فخذه لين آخر ساقه ؟
ربّت حامد عليها بابتسامة فخر :
هي فعلًا سطحية مثل ما قال الدكتور ، ولولا الله ثم أنتِ اللي تدخلتي بسرعة وصبيتي عليه ماي بارد كان الله أعلم بعمق حرقه
تنّهد أميمة ومسحت وجهها بخفة وهم تتمتم بالحمد والشكر ، بينما اتجهت نظرات عبدالرحمن نحو حاكم المستند بظهره على الحائط شاردًا في الفراغ
قائلًا بنبرة مندهشة :
مب مصدق السالفة اللي قلتيها عن العم حاكم وزيد .. كيف يعني يطلع أبوه بعد ذي السنين ، وكيف الخالة نِعمة كاتمة هالسر عنه ؟
تنّهد حامد بقلق . وهو الآخر سمع الحكاية كلها من أميمة التي أخبرتهم عن سبب غضبه وصُراخه وجنونه وقتما جاؤوها حين أُصيب ! ولا يصدق
فعلًا لا يصدق ، ويشعر أنه حلمٌ من أحلام الطفولة وكذبة من كذبات الصِبا ..
فلو كان الأمر حقيقة ، فـ واحسرتاه على زيد الذي عاش في وهمٍ طوال سنواته الثلاثين
تراجعا للخلف حين تراءى لهم فتاة قادمة من بعيد لترتمي في حضن أميمة ، فتبكـي بخوفٍ وهلع :
أخوي ، أخوي أمييم .. كيفه ؟
حبست أميمة دموعها بصعوبة بالغة ، فهتفت بنبرة حاولت جاهدة أن تجعلها صلبة :
بخير تطمني ، عطوه مسكنات والحين نايم مايدري وش حوله
ابتعدت عنها أسماء لتهمس بدمعها الغزير :
طلع أخوي .. اللي جيتش عشان أنبش وراه طلع أخوي ، أميم وليد هو زيد !
ابتسمت أميمة بوهن وأمالت رأسها بإيجاب ، همست بتساؤل :
أمي نِعمة شخبارها ؟
تنّفست أسماء بهدوء لتُردف :
طاحت علينا بس سمعت صوت صراخ زيد لكن الحمدلله بنات الخالة نعيمة تصرفوا
أميمة بتساؤل آخر :
وأنتِ من جابش ؟
ألقت أسماء نظراتها نحو حاكم الصامت حتى الآن دون أن يتكرم ويلقى عليهم نظراته ، بل اكتفى بسماع كلام الطبيب عن زيد وأحذ ركنًا قصيًا يشاطر آلامه مع نفسه
همست وهي ما زالت تنظر إليه :
جيت بروحي ! وصلت أمي وخواتي البيت وجيت
تنهدت أميمة وهي تشعر أن الأمور تتعقد رويدًا رويدا ، عقدة الحبل في حياة زيد ما تنكفأ عن الإسترخاء حتى تعود للشد والجذب بلا رحمة
لم يسترح في حياته ، وكل مرة يستدعي فيها السعادة تتلقّاه الهموم من زوايا بيته وعُمره ! فيواجهها دومًا بالصمت
هذه المرة الوحيد التي أعلن فيها ثورته .. وأي ثورة ؟
ثورة صمت .. لا إختلاف عن أخواتها سوى في حدة صوتها الساكت ، ونفورها
لا تستطع تبيّن ردة فعله أبدًا ، وتخشى أن تنزلق قدمه في بئرٍ ملطخ بوحل الحقد ورماد الإنتقام
تقدم حامد ليقول بنبرة جادة :
أنا برجع البيت وأطمن أمي وجدتي علينا ، شافوني وأنا أطلع بسرعة بدون ما أرد عليهم ، وبجيب علياء عندها موعد بهالمستشفى
هزّت رأسها بإيجاب فالتفت نحو عبدالرحمن بذات النبرة :
حط بالك عليهم ، ما راح اتأخر
تقدم بخطواته وتجاوز حاكم ليرشقه بنظرات مختلطة المشاعر لا معنى لها ولا تبرير .. لكن قلبه خائف من الآتي
/
\
بعد مدة من الزمن وصل إلى المنزل لتستقبله ضحى أمام باب الصالة قائلة بمرح مختلط بقلقها هي الآخرى :
أخيرًا وصل المتهم إليه للمحكمة ، القاضي ولجنة المحلفين يكيدوا لك أشد الوعيد والتنكيل .. ياويلك
ابتسم في تعب ليُردف مجاريًا لها :
ومن القاضي ولجنة المحلفين عاد ؟
تناولت ضحى كُمَته لتمشي بجانب نحو الصالة الفسيحة :
طبعًا القاضي جدتي ، اللي جالسة تنتظرك بكل عتادها وأسلحتها ، ولا تنسى عصاتها الأصلية عن مية صاروخ نووي
ولجنة المحلفين أمي وحنان وعلياء ، وكل وحدة مبيتة لك النية
فرقع اصبعيه الابهام والسبابة بصورة موجعة في جبهتها ليردف بغل مصطنع :
يالفتانة أنا ما قلت المواضيع ذي ما توصل لعلياء ؟ البنيّة تعبانة من حملها ليش تخلينها تخاف علي زيادة
مسكت قلبها بدراميّة مضحكة :
آخ ياقلبي ، أوعدنا بالحب ده ياربي
فتح عينيه على وسعهما ليُردف بتهديد حقيقي هذه المرة :
انقلعي من قدامي لا أخلي الجريمة جريمتين الحين ياقليلة الأدب
بان الرعب على وجها لتفرّ بقدميها وتحشر جسدها بين حنان وعلياء تستجدي الأمان بينهما
سلّم بصوته الجهوري وتقدّم مقبلًا رأس والدته وجدته وحنان وعلياء ، وتجاوز ضحى التي كانت تأشر على رأسها هي أيضًا
ليدفع ساقيها بقدمه بخشونة فتحركت من مكانها بصورة مضحكة ، جلس بجانب علياء ، بل ملاصقًا لها
ليأتي صوت جدته الغاضب :
ياولد ما تقولي شو هالهجة اللي هجيّتها وخليتنا وراك متروعين ، الله لا يروع قلوب المسلمين ؟
عبس بصورة طفولي ، واضعًا كفيّه على أذني علياء :
يماه الله يهداش بصير أب وللحين تناديني ياولد ، لا يسمعش ولدي وتضيع هيبتي
كتمت علياء ضحكتها وأبعدت كفيّه عنها تنظر إليه بعتاب
أردفت والدته بنبرة قلقة بعد تعنيف الجدة عزيزة :
وش صاير معكم ، ليش طلعتوا بهالشكل أنت وعبدالرحمن
عضّ شفتيه وهو لا يدري كيف يوصل إليهما الخبر ، فقال بذقن مرفوع :
ربعي الله لا يكثر خيرهم من كثر ماهم يحبوا الكرم والسخاء تضاربوا على من يدفع لعزيمة الجمعة وسيّلوا دمان بعضهم ، رحت أطلعهم من المركز بعد ما سحبتهم الشرطة
نظرت له الوجوه بوجوم وعدم تصديق . لثوانٍ طويلة حتى صدح صوت الجدة عزيزة بغضب حانق :
كذاب ياولد !
حامد وهو يضع كفيّه مرة آخرى على أذنيّ عليا :
يمه والله عيب ، كذاب وولد مرة وحدة .. خلاص نسفتي هيبتي ارحميني
زفرّت عليا بخفوت وقلق ، وهي التي تحفظ زوجها جيدًا
فحامد يرواغ ، يرواغ عن أمرٍ جلل يحاول تخفيف وطأة حدته ووقعه على مسامعهم بنكاتٍ سخيفة وقصص بطوليّة :
حامد حرام عليك ، أمي وجدتي من أول ما طلعتوا وهن يحاتين .. قول اللي عندك
قالتها عليا بهمس ، ليتنّهد بقوة وهو يشبّك كفيه ببعضهما البعض :
قولن لا حول ولا قوة إلا بالله
كررن وراءه بصمت وقلوبٍ ترتجف ، ليأخذ حامد نفسًا عميقًا ويبدأ بسرد القصة التي نقلتها أميمة على مسامعه ، سردها مع قليلٍ من " البهارات " فالماثلات أمامه إما مريضات أو حوامل ، وهو يخشى عليهن من الدهشة والصدمة
وفور أن انتهى من سرد الحكاية التراجيدية التي لا يستوعبها العقل ، لأن العقل صوّر صورة واحد ، وإيطارٍ واحد لسنواتٍ طويلة .. فلا يقبل التغيير والتعديل على شوائبها بسهولة
زفرّ ينظر إلى ملامحهن المصدومة وقال:
وزيد حاليًا في المستشفى ، حالته الصحية الحمدلله مستقرة .. لكن ما نعرف شيء عن حالته النفسيّة
لطمت الجدة عزيزة فخذها بحسرة :
لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا راد لقضاء الله .. الحمامة الهادية شرا نِعمة تسوي هالسواة ؟ لا حول ولا قوة إلا بالله
اندفعت ضحى تقول بعد أن استوعبت القصة :
يعني الشريرة سلمى تطلع أمه ، والخايس حاكم اللي طول عمره يكره زيد يطلع أبوه ؟ والله معها حق خالتي نِعمة ما تقول الحقيقة للزيد .. ونِعم الأباء
حدجها حامد بنظرة حارقة ليُردف بغضب مكبوت :
وضيحي لا تتدخلي فاللي ما يعنيش ، لمّي لسانش بس
قرصتها حنان من عضدها لتقول بحنو تِعب لحامد :
هدي بالك ، الكلمة على طرف لسانها ما تعرف وش تقول
مسحت أم حاتم دمعها بوجع على ابنتها وزوجها :
وبنتي شخبارها الحين ؟
تنّهد حامد بخفوت :
بخير يمه ، بخير صابرة ومحتسبة
-انحنى هامسًا نحو أذن علياء-
قومي لبسي عباتش وخليني أخذش المستشفى وبالمره تشوفي أميم واتطمن عليها أكثر
هزّت رأسها لتقف ويقف خلفها هو متسائلًا :
أبوي وجدي وين ؟ لازم يكون عندهم خبر .. زيد أقرب ما بحاجته لنا الحين
هتفت والدته والحسرة ترى طريقها لقلبها من حظ أبناءها :
راحوا يعزّوا واحد من الجماعة ويمكن يتأخروا
حامد بذات التساؤل :
عمي مرشد وعمي سعيد ؟
أردفت حنان بنبرة تعبة بسبب حملها الثقيل :
عمي مرشد في شقة عياله ، وعمي سعيد الله يهدي سره .. حالته ماهو حالة وخالتي هاجر ماعدنا شفناها
هتف حامد بغضب :
العلم عن قويّد ، تارك أمه وأبوه ورايح يهيت يمين ويسار .. بدل لا يرضي أبوه قليل الخاتمة
الجدة عزيزة بحنق ، فمن بين أحفادها .. قايد هو الأحب بينهم مثلما كانت زينة الأحب من حفيداتها ، ويرجع ذلك لعيشهم أغلب الوقت برفقتها في بيت الجبل :
خلي ولد ولدي في حالة وياويلك إن سمعت إنك لاكشه ( لامسه ) بكلمة
-ثم التفتت لحنان قائلة-
فيج حيل وأنا أمج تسوقين لين بيت خالتج نِعمة ؟ ما راح يهدأ بالي لين أشوفها
همس ضحى الذي وصل لأذني حنان :
قصدها ما بتهدأ لين تسحب من فمها الكلام وتهزأها
حافظت حنان على ابتسامتها وهي تتوعد ضحى بداخلها :
فيني حيل يمه بس عبدالمجيد حالف علي ما أسوق سيارة وأنا هذه حالتي
قالتها بإحباط وهي تنظر إلى بطنها المنتفخ رغم أنها في بداية الخامس ، لتُكمل :
بس بتصلّ فيه عشان يجي ياخذش ، هذا هو هنا في بيت أخوه
أردفت أم حاتم هي الآخرى بوهن وتعب :
ايه يمه اتصلي فيه وش حاجتنا لو ما وقفنا مع أم زيد في محنتها ، أنشهد إنها أجوديه وتستاهل من يوقف جنبها






-
حين تتلاقى الأرواح ، فهي تمحي رسم الحدود .. تبيد الأشواك والأسوار .. تتجاوز الجيوش والحروب وكل ما يخمدها فلا يصبح حينها هُناك مجالًا للعرف ، والعادات والتقاليد ، والثأر والدماء .. روحٌ لروح ، بصفاءها ونقاءها فقط
أسفل سماء حارقة ، يفترشان الأرض الرملية بسجادة حمراء منقشة
يتبادلان الأحاديث بينهما في ودٍ ووئام ، لتتغلغل فجأة ضحكة ذياب الخشنة يتبعها بابتسامة :
وبعدين ؟
ابتسم قايد يرتشف من فنجانه :
أبد حرّم علينا نخطي خطوة ثانية معه ، هذا العم بالذات كان أيسرهم بس لما الموضوع يتعلق بالقنص والتسلق والتخييم ما كان يعرف أخوي من ولد أخوي
ذياب بنبرة باسمة :
أتوقع كان هدفه يعلّمكم اللي اكتسبه من الطبيعة من مهارات ، بس نسى إن التلقين ما يجي بالغصب .. أو يمكن كان حاب يزرع فيكم ألفة الصحراء وودّ الصخر .. وخانه القول والفعل
اندهش قايد ، فارتفع حاجباه كردة فعل :
وفعلًا هذا اللي كان يبغى يوصله لنا ، بس وش درّاك ؟
ابتسم ذياب في صمت ، ثم أردف يقول :
يذكرني بأبوي .. الله يرحمه
أبوي كان من هواة القنص في صغره بكل أنواعه ، بري أو بحري
ومن شدة حبه لهذه الهواية وإرتحاله في الصحراء لأيام طويلة تزوج من هالديرة .. أخذ أمي رغم إعتراض أهله
لكن ما كان قادر يبعد عن الأرض اللي اكتشف شغفه فيها واللي عاش أيامه هنا أكثر من أيامه هناك
توسّم فيني إني ممكن أورث هالصفات منه .. بس مثل ما قلت لك التلقين عمره ما فلح إذا جاء بالغصب فخيّبت أمله فيني
-ازدادت ابتسامته-
كنت الكبير ، وتحتي 4 بنات تتبعني الجوهرة على طول فلما يأس مني حوّل عليها .. صارت والنعم فيها بنت الصقر
ابتسم قايد في هدوء عميق ومريب .. تاركًا حبل الكلام ينسّل من بين شفتي ذياب حتى يصل إلى مراده :
الناس صارت تناديها ببنت الصقر أكثر من اسمها ، وهذا لأنها ربّت طير الصقر بعمر الـ10 سنوات بيدينها
هو طيرها الحر رافقها سنين طويلة ، فعشان كذا صارت مثله .. حُرّة
سرح قايد في الموقف الذي جمعهم في ليلة رمضان .. حين التقوا في الحظيرة وظلّت تسرد قصة منفاها على أذنيه
حاور نفسه بنفسه حينها بـ " أنكِ الثوريّة ، والصقريّة .. والحُرة "
سمات ثلاث وُجدت لها .. لا غيرها من بين الإناث أجمع
سمات إن دّلت ، دلت على كمّ الشجاعة والإقدام والرغبة والحياة المختزلة بعمق روحها المكسورة
سمات خُلقت لها ؛ لتأتي على مقاسها .. مقاس الجوهرة لا غير
نفض أفكاره من رأسه :
وأنت ؟
ابتسم ذياب حتى تراقصت الضحكة على ثغره :
أنا دلوع الماما وياويل اللي يقرّب مني !
ضحكّ بخفة هو الآخر وأخذ يقلبّ نظره داخل فنجانه الخامس لهذه الجلسة الأخوية
شيء أشبه بالزوبعة ، بل بالإعصار يدور في رأسه بعنفٍ وقسوة
أمران يسحبانه من يديه الاثنتين : التردد والرغبة
رغبةً في الخوض بحياة يختارها بملء عقله لا بملء قلبه .. فهو سبق أن اختار بقلبه وفشل اختياره
فلما لا يتجه إلى الطريق الذي يتغنّى به العقلاء والأصحاء دون العاطفيين الحالمين .. طريق العقل السليم
تنّهد وسمّا بالله .. فحسم قراره ! يكفي ترددًا طال مداه :
ذياب أنـ..
قطع كلامه رنين هاتفه فأغمض عينه ، ليس وقته
بعد أن رتبّ السيناريوهات العديدة لقولها وشجّع نفسه أخيرًا لقولها يقطعه رنين هذا الهاتف الغبي :
ألووو
قالها بنرفزة دون أن ينتبه للمتصل ليأتيه صوت الطرف الاخر غاضب هادر :
ولد عمك الزفت لقيت وين داره ولالا ؟
نظر قايد لشاشة هاتفه فإذا به عمه مرشد ، وبهدوء :
للحين لا
هدر مُرشد بذات الغضب ، فأعصابه لم تعتد تحتمل الضغط الكثير وبات أقرب للنقيض .. النقيض تمامًا من شخصيته السمحة والمرحة :
سنة لين تلقاه ؟ اسأل عنه في المطارات والحدود البرية وشغّل علاقات المصالح اللي تتباهى فيها ، جوازه معه وهذا يعني إنه برا البلاد
اندهش قايد من هذا الهجوم ، ليقول بدفاع :
والموضوع سهل يا عمي ؟ احنا ما نعرف للحين إن كان سافر في ذيك الليلة أو بعدها
مرشد بذات الغضب :
دورت في مكاتب السياحة ؟
زفرّ قايد وهو يردف بجدية :
ما استبعد احتمال إنه حجز تذكرته بنفسه بدل مكاتب السياحة والحجز .. حاتم إن ما خبرنا مكانه بصريح العبارة فهذا يعني إنه ماخذ احتياطه عشان ماحد يعرف وجهته
شتيمة قاسية خرجت من فاه مرشد جعلت من قايد يسبر أغواره ، ما بال عمه أصبح أقل صبرًا وأقل احترامًا
صرخ فيه :
دوّر عليه في المطار ، مع ربعك في الخطوط الجوية أو أي مكان .. إللي اعرفه علاقاتكم واسعة في المطار أنت وهو
أغلق الهاتف في وجهه دون أن يترك له مجالًا للرد
نظر قايد لهاتفه وهو مبهوت من التغيّر الشديد ، وحانق كذلك على الذي اضطر لمواجهته بسبب حاتم غير المسؤول :
عديم مسؤولية وجبان يا حاتم ، خلني ألقاك وأطلع حرة عمي وزينة فيك
همس بها ليُردف ذياب بإستغراب من غمغمته :
وش قلت ؟
رفع رأسه بحدة نحو ذياب وقد سئم من هذا التردد الذي يواجهه ليُردف بنبرة جادة :
أقول تزوجني منكم لا بغيت قربكم ونسبكم ؟
اندهش ذياب بل انصدم ، رفع حاجبه والصدمة ألجمته لثوانٍ :
وش قلت ؟
زفر قايد لوهلة ، حدّة صوت عمه انتقلت إليه الأمر الذي أدى إلى خرق قوانين التردد التي صاحبته طيلة فترة وجوده مع ذياب
فأردف بنبرة أقل حدة ، أكثر لينًا :
طالب قربكم يا عيال الصقر ، تزوجني أختك ؟
نبرة صوته التي أدّى بها الطلب ، وجملة " عيال الصقر " عوضًا عن " عيال الوكيل " جعلت من ذياب يقول بجدية صارمة :
حنا صح عيال الصقر بس ما ينفي حقيقة إن ختام اسمنا قبيلة الوكيل .. الصراع القائم بيننا وبينكم ما انفضّ .. المنازعات اللي امتدت لسنين ما هدت !
فما هو وقتها نمد حبال الوصل بعلاقة نسب عشان تزيد الضحايا
اندهش قايد من ردة فعله ، لكن رغم ذلك قال بهدوء :
أنا جيتك كـ قايد ابن سعيد ، مجرد من قبيلتي ومن صراعاتهم مع قبيلتك .. مجرّد من عادات جاهلة ما تحكمني
أنا كـ قايد بن سعيد طامع في الجوهرة بنت صقر ! ترّدني ؟
تنّهد ذياب فاقترب منه .. امسك بيده :
يا قايد ما عاش من يرد خيرة الرجال مثلك وشرواك ، وأنت واثق من ثقل منزلتك عندي
لكن أختي غالية عندي وكفّتها أثقل .. أبوي ما طلع من ديرته طول هالسنين عشان يرجع يعيشنا فيها من جديد وتحت ظلهم
-همس وهو يتراجع للخلف خطوة-
ما استبعد جدي يسخّر مجهوداته عشان يكنسل هذه الخطبة لا سمع فيها
نفض يده من يد ذياب ، صدّ بوجهه ساخرًا من نفسه
حتى متى سيّظل يُرفض لأسباب لا تعنيه وإنما تعني وتخصّ الطرف الآخر ، حتى متى سيرجو الوصال بينما الآخر شحيحٌ ضنينٌ منه :
أنت ما عليك رفض على شخصي ؟
هزّ ذياب رأسه بالنفي .. ليُكمل قايد بجدية :
زين دامها خطبة جديّة أنا أطالبك تشاور أختك وأدرسوا أنت وإياها احتمالات وأبعاد هالعلاقة .. وتأكد قبل كل شيء إني شاري بماي عيني !
-وبهمس ساخر-
وجدك ما راح يرفض مرة ثانية ، اللي شافه من المرة الأولى كفّى ووفى .. ما راح يعيد المأساة
صمت ذياب لوهلة .. يقلّب الأمر في عقله ويدرس جميع احتمالاته بصورة سريعة ! هو حقًا لا يملك رفض قاطع على شخص قايد ، ولا على أخلاقياته
هو كل خوفه من أن تعود الجوهرة إلى ديارٍ هُجرت منذ أن كانوا نُطف في رحم والدتهم ، خوفه من أن تعود إلى جبروت الشيّخ وطغيان أبناءه
رغم شدة جذعهم ، وقوة بأسهم .. فإنهم تربّوا على الليّن السهل على يديّ الصقر
لكن يرى أن قايد يستحق المخاطرة ، يستحق أن يجعله في رأس القائمة لخطّاب أخته .. التي تكاد تبلغ الثلاثين ربيعًا من عمرها :
طيب يا قايد ، أبشر ولا يهمك
-وبمحاولة لتلطيف الأجواء أكمل بمرح-
بس أول دوّر لك على شغل ولا ترا ما نزوّج عطاليّة بطالية
ابتسم قايد بعد تجهّم وجهه أخيرًا ليقول :
أنت برّد فوادي أول بموافقة كريمتكم وتبشر بالباقي




-
" حجزت لش موعد عند الدكتورة اللي كنت اراجع معها في حملي بـ حسن ، دكتورة شاطرة جدًا "
قالتها مريم وهي تمرر أصابعها على مقدمة شعر زينة المتمددة على السرير ، زينة التي باتت لا تُفارق سريرها إلا للأكل أو الصلاة
همهمت بصوت خافت ، وصوت والدتها لا يتسربّ بشكل جيد إلى أذنها .. سارحة في اللاشيء .. لأنها مغمضة العينين
تسبح في فضاء ظلام إغماضها ، تموج في أعاصير أفكارها
شدّت مريم طرف جذورها : آخ يمه
ابتسمت مريم وعادت التربيت على رأسها :
ركزي معي وأنا أتكلم .. خلي السرحان الزايد عنش
ابتسمت زينة بخفّة وهمست :
حاضر والله حاضر ، أنا معش
أكملت مريم كلامها : موعدش بعد يومين ، أفكر نحجز يومين في شالية واحد من النوادي اللي عندي عضوية معهم .. بتخلص السنة وأنا ما استخدمتها ! والجو حلو الحين
ضحكت زينة ضحكة قصيرة بخفوت :
أي حلو يمه ، رطوبة تعلّ القلب والنفس
مريم بابتسامة :
ماعليه أهم شيء نطلع ونغيّر جو ، حسن له فترة يترجاني يبغى البحر .. وش قلتي ؟
اعتدلت في جلوسها ، هزّت كتفها في لا دراية لتهمس :
اللي يريحش يمه .. اللي يريحش سويه
أنهت كلامها ليّرن هاتفها الموضوع على جانب السرير ، نظرت مريم للاسم المخطوط على الشاشة وهمست :
أميم !
تنّهدت زينة ، اتكأت على ظهر السرير واحتضنت قدماها :
حطيه سايلنت ..
توقّف رنين الهاتف بعد خمس رنّات ، كأن بهذه الحركة اليائسة تُعلن حُزنها الناتج عن هذا البعد القاهر ، فلا ذنب لأميمة مما يحصل ولا ذنب لزينة من رغبتها في التعاطف
مريم بهمس هاديء :
الحين وش دخل اللي سواه حاتم بأميمة ؟ أميمة ما يلحقها شيء من فعايل أخوها يا زينة .. وقبل لا تكون حماتش تراها بنت عمش وبحسبة أختش
اراحت ذقنها على ركبتيها وهتفت بشرود :
مالها دخل يا أم زينة .. لكن زينة مالها خاطر تسمع طواري بيت العزم وأهله ، أبي أبعد يمه .. عن ضغطهم ، عن تعاطفهم ، عن رغبتهم في إنهم يوقفوا معي .. مابي منهم شيء هالفترة
تنّهدت مريم :
أنا قبل كم يوم كنت معصبّة ، ووقفت معش وصديّت عمش سيف عشان خاطرش .. لكن يا يمه النار تبرد والنفس تهدأ وعمش يسعى عشان يرّدش لحضنه
لا تعاقبي اللي حولش واللي يعزّوا عليش بسبب حاتم
زفرّت زينة واعتدلت في جلستها بضيق :
يمه لا طاب اللي في خاطري استقبلتهم .. لكن اللي بخاطري مكسور لا تجبريني أرجع لهم وأنا مكسورة
ربّتت على كتفها بحنو باسم :
ما عاش اللي يكسر بنت عزم ، اللي عزيمتها أكبر من كل شعور مُر .. خذي راحتش في حزنش يا أمي وبس تعدّي هالفترة افتحي قلبش
رنّ جرس المنزل والتفتتا الاثنتين لبعضهما البعض ، فمن ذا الذي يأتي إليهم في زيارة غير معلومة خاصة بعد انتقالهم إلى هذه الشقة البعيدة نسبيًا عن الجبال وأهل الجبال
رفعت مريم ساعة يدها وأردفت :
باشوف من جاي وبقوم أجيب الحارث من النادي ، باقي شوي ويخلّص !
وقفت مريم ، ارتدت عباءتها وحجابها .. اخذت حقيبة يدها واتجهت نحو الباب ووصاياها لزينة ما توقفت
فتحت باب الشقة وما لبثت أن تراجعت للخلف خطوة بصدمة ، فالذي تراه أمامها لم تره سوى للمرة الثانية
اجترعت ريقها بصعوبة بالغة واعتدلت بوقفتها الواثقة لتُهمس بصوت أكثر ثقة :
حيّاك الله أبو الحارث
نظر لها مُرشد وهو لاهث الأنفاس بعد أن أنهى مكالمته لقايد ولاثنين آخرين تربطه بهما علاقة مصالح يحتاجها الآن ، ومكالمة ثالثة مصيريـة كان يجب أن يقوم بها منذ أن وطأت قدماه أرض الوطن
لانت ملامحه بشكل مفاجيء لتنتقل من الحادة الواجمة إلى الهادئة المستكنة وهو يرى التي أمامه مرتدية عباءتها لا يظهر منها سوى وجهها ويديها :
الله يحيش ، أقدر ادخل عند عيالـي ولا وجودي ما مرّحب فيه ؟
شدد على كلمة " عيالي " ليخبرها في الوقت الحالي أن ما يربط بينهم هؤلاء الـ"عيال" في وقت يحتاجون فيه إلى تنحية مشاعرهم المشتعلة بمشاعرها المتضادة جانبًا :
تقدر ، المكان مكان عيالك
قالتها بثقة بالغة لتفتح الباب على مصراعيه ، ربما لو جاء بعد زيارته الأولى مباشرة لطردته ، لكنّها تثق أن زينة اليوم تحتاج إلى كلام والدها أكثر من حاجتها لصمته
دخل مرشد بخطواته الهادئة ، والواثقة .. ووقفت مريم بجانب الباب قائلة بهدوء متعقّل :
خذ راحتك !
لتغلق الباب قبل حتى أن تنظر إلى ملامحه المندهشة لخروجها هكذا دون أن تحسب له حسابًا ، أخذ نفسًا عميقًا وحاول جاهدًا تنحية شعوره القاتم ليقول بصوته الواثق :
زينة ، يالزيـن
خرجت زينة من الغرفة بعد ثوانٍ قصيرة جدًا وهي مشدوهه من الصوت الذي تراءى لمسمعها .. وقفت أمامه بعد أن رفضت رؤيته .. بالأصح بعد أن ألقت بيديه رسالة حاتم الهاربة اليتيمة ثم أوصلها لهذه الشقة واعترضت على مد جسور الصُلح والمراضاة من قِبل عمها .. وهو
اقترب منها بإستقامة وعيناه تمسحان وجهها الشاحب ، ليقول بابتسامة :
مثل عادتش ، لا ناديتش بالزين تطلعي لي من جحر الفار .. تتذكري ؟
اجترعت ريقها بتوجع ، همست بإرتجاف وهيبة حضوره تؤجج في داخلها نيران الشوق :
أتذكر ؟ ما تركت لي إلا الذكريات فـ كيف ما اتذكر ؟
مرشد بجدية خرجت رغم عنه حانية .. كما عهد نفسه :
أظن بيننا كلام معلّق من سنين وجاء الوقت اللي نسكب سيله وسطنا !
عقدّت حاجبيها ، ليس لألم جسدها .. بل لألم قلبها
ألم القلب الذي يصارع شدة نبضاته بين ضلوع صدرها
مصارحة !
تبرير وفوضى !
أتظن أنها جاهزة للاستماع من جديد ؟ لا تظن
أكمل مرشد : سبع سنين متعّلق بين طرفها حكايات ما نبيها تكون ذكرى مثل الحاجيات اللي دفناها تحت الغافة
هذه المرة فيض السبع السنين من القلب للإذن يالزين
جلست زينة على الكنبة . تقبض طرفها بكفّيها في صمتٍ ووجوم ، جلس مُرشد بجانبها وأعتى الأعاصير تدور في دواخله
تنّهد ، ثم بدأ بالسرد وعيناه تحومان على صفحة وجهها :
قبل سنين وبمنتصف الليل ودّعتش أنتِ وأخوش قبل لا اطلع من بيت الجبل ، صدف إن أبوي شافني ووقفّ بطريقي
حاول يثنيني بطريقته الشرقيّة عن سواتي اللي هو استشفّها ، رغم إنه ما كان يعرف سببها
الخوف عليكم -مب علي- كان ياكلني آكل ، ما كان قدام وجهي غيركم فكنت مستعد لأسوء النتائج عشانكم
-التفت جزئيًا بجسده إليها بجدية-
خالش قدر يزور علي أوراق اختلاس كثيرة كثيرة ، أقل حكم فيها كان بيخليني اقضي في السجن ثلاثين سنة
فسافرت من البلاد قبل لا يصدر علي تعميم كاذب واسمي يصير على القائمة السوداء .. سافرت لإيران
ظنيّت وقتها خالش بينسى السالفة بعد ما يعرف بسفري ، ويكفّ شره مني ومنكم .. ووصيّت أبو بدر الله لا يرد طاريه يعطيني الجديد يوم بيومه
-صمت قليلًا ليُكمل والوجع ينتشر على وجهه-
شهر ، شهرين .. مرت 4 شهور وأنا أقول الليلة برجع ، اليوم برجع .. كنت انتظر بو بدر يبّشرني بإن السالفة انتهت بس كان في كل مرة يجيني شايل لي أسوء البشاير !
نسيبك ما نسى يابو الحارث ، نسيبك كل يوم والثاني يطلّع دليل يدينك من تحت الأرض
خفت ، خفت تنسوني وأنا اللي قطعت تواصلي معكم خوفًا عليكم .. فبديت اكتب لكم رسائل ورقية وارسلها على صندوق بريدي اللي أنتِ تعرفي رقمه ومفتاحه
وبعضها كنت ارسلها مع بو بدر عشان يوصلّها لكم ..
-شدّ على قبضة يده بقوة قاهرة-
اكتشفت بعد مرور فترة طويلة إن خالش متطمع باللي أملكه كله .. كان ناوي يسحب أملاكي مثل ما سحب راحتي وعافيتي بكل طريقة يملكها
خالش ما كان فقير وعلى باب الله يازينة ، خالش كان طمّاع جشع ، والجشع وقتها أعماه عن كل اللي يملكه ونسى يحمد الله عليه
اتصل فيني بو بدر بعد 6 شهور وقال لي أنسى الرجوع ، الرجال عمّم عليك كل المراكز واسمك صار مطلوب .. وأي تهمة ؟ اختلاس أموال تابعة للحكومة
بعد ما قدّم خالش أدلة دامغة على تورطي في عدد من الاختلاسات وكنت سبب في إنتشار الفساد
سرحت زينة قليلًا في وجه والدها ، والجملة الآخيرة التي قالها ذكرّتها بقايد الذي تورط -ظلمًا- في قضية اختلاسات ضمن الوزارة المالية .. أيكون هذا إنعكاس لما عاشه والدها في غربته ؟
اكمل مرشد والقهر يتعاظم في صدره كلما يتذّكر ما مر به من مرارة تشبّع واُتخم بها في غربته :
ماعرفت وش أسوي من ضيقتي يومها وأنا أدور في شوارع شيراز حيران ومتردد .. أعيش في الغربة وأسبح في بحر القهر ولا ارجع بلادي وبلادي تشرّع لي حضن سجنها ؟
من شدة قهري أمشي وانكبّ على وجهي ، وصادفت قدامي مظاهرات ودخلت معهم علّ اللي بقلبي يصبّ وتبتلعه أرض شيراز
كنت أدافع عن ناس مادري ليش أدافع عنهم ؛ اضرب وانضرب من أشخاص مادري لأي فصيلة ومذهب ينتموا .. كِنت وجع على هيئة إنسان ، وجع قرر ينهي آلامه بالطريقة الأسوء
لأن بعد المظاهرات شالتنا الشرطة الإيرانية وانحبسنا في سجونها لمدة اسبوعين .. كانت أقسى اسبوعين مروا علي
اللي دافعت عنهم صاروا ضدي ، اللي انضربت علشانه غدروا فيني .. وصرت أنا المنبوذ في السجن اللي حكموا على مذهبه من هيئته
ما حتى سألوا عن هويتي أو جوازي .. كل اللي كانوا مسجونين حاقدين على بعضهم البعض
وفجأة بعد مرور الاسبوعين اطلقوا سراحنا كلنا اللي كنا بالمظاهرات
-زفرّ بصوتٍ مسموع ، من شدة همه شعرت زينة بثقله-
الخيار الأول اللي فكرت فيه كان الاهون بالنسبة لي ؛ لأني مستحيل ارجع بلادي وأسوّد وجه أهلي وعائلتي عشان ذنب ما ارتكبته .. وأنتو متأكد كنتوا بتكونوا في الحفظ والصون مع أمي وأبوي
سبع سنين يازينة عانيت اللي ما عاناه غيري ، لأني مقيّد بقيد ما اخترته وما كان بيدي أفكّه !
أغمضت زينة عيناها بقوة تمنع الدمع من التسلل
حرقة !
حرقة سوداء قاتمة تمر صدرها وتشطره!
كان بوسعه أن يقاوم بدل أن يغادر معركة الشد والجذب ..
كان بوسعه بدل أن -يجد الأعذار الواهية- القتال والمناضلة
منح نفسه حق الرحيل .. واستسلم رافعًا الراية البيضاء في وجهٍ أسود
واختار من أجلهم حربٍ أخرى .. شريفة ، نزيهةٍ أكثر
اختار أن يقاوم الجراح التي ما زالت تسيل
وما هزمته الحياة قط، ماهزمه إلا القتال بظهرٍ مكشوف
نحر كل ودٍّ كامنٍ في الأعماق
اقتربت منه بخطوتين ، وبصورة سريعة احتضنته وظلت تنتحب في صدره
القهر الذي أحس به ، انتقل إليها عبر أثير الحزن الذي تشاركاه
كل كلمة نطق بها لسانه الموجوع شعرت بها أوردتها الحانية
ربت على كتفها وظهرها صعودا ونزولا ، همس بابتسامة ميتة:
ارجع بعد هذه السنين كلها ألقاني بقبر فاضي ، وصرت في ذاكرة منسية ، أجي بعد هالسنين أدور على حضن ألقى الصدود ، ليش يا بنتي؟
ياللي أحن من أمي وأرحم من أبوي وأقرب لي من رمش العين
ارتعشت أوصالها من جملته بالغة الرقة والعذوبة ، قبلت مكان شفتيها الأقرب لقلبه الهادر ابتعدت تنظر إليه بتعب شديد:
قبل لا تروح اتخذت قرارات كبيرة -ويمكن- عشوائية تخصنا جميعًا بدون ما ترد لنا الرأي
طلقت أمي مادريت باللي تركته في رحمها ، زوجتني حاتم ما حسبت حساب النصيب اللي بيجيني
ليش يبه ؟ ليش حاتم بالذات؟
تنّهد مرشد وهذا السؤال الذي كان ينتظره منذ الأزل فقال بموضوعية بسيطة:
أنتِ كنت عارفة عن نوايا خالش في تزويجش من ولده ، لذلك أنا قطعت عليه الطريق بهذه الطريقة
قاطعته زينة ، تمسح أنفها المسيل لدمعه
بس ليش حاتم ؟ ليش؟
مرشد بذات النبرة:
ما عشان شيء معين ، أنا كنت أثق في حاتم وكان دائمًا يلبي كلما احتجت له والسبب الثاني إن حاتم كان وقتها الرجال الوحيد اللي مخلص دراسته ويشتغل
همست زينة ، كأنها ترى ذاك النهار المشؤوم -حينها-:
ما كان أحد يدري بالزواج إلا أنت وهو ، وعمي عدّي وأبوه!
تخيل يبه لو ما ظهر الجد خلفان وش كان بيكون مصيري
متزوجة وأنا على وشك زواج ثاني ، ماخفت من هالإحتمال؟
زفر بضيق عميق:
زينة أنا سافرت وبعدها بشهور تعرض حاتم لحادثه حسب ما سرد لي كيف كان ممكن احط هذا الاحتمال في البال وأنا ما أعلم بغيب ربي وحوادث أقداره؟
ابتسمت بسخرية مريرة ، قاسية ، مؤلمة:
وبس شافك رجعت من السفر رمى بأمانته عليك وسحب يدينه منها .. ارخصتني يبه
نظر لها نظرة حملت كل حنان العالم:
وش اللي يرضيش؟
ظلت تنظر له بنظرات مطولة شملت جميع المشاعر الملتهبة في صدرها
حقدٌ وحُب .. أسىً ورغبة .. منيةً وتخلي
حاتم أعاد رسم الأقدار لحياتها من جديد، أصر على إعادة السيناريوهات القاسية التي مرت بها مسبقا
هرب مرشد ووجدت حاتم أمامها ، فهرب حاتم ثم وجدت مرشد أمامها
آن لها أن ترسم الصورة بنفسها، بيديها، بقدرتها المرسومة
ما يرضيها أن تجعله يعيش الشعور الذي أذاقها إياه
أن ينظر إليها بالمتوفرة والموجودة دائمًا مثلما فعل مرشد وهو يعلم مهما حصل سيجد زينة بإنتظاره
تريده أن يذيق مر الفراق ، وعلقم الخداع
تريده أن يستطعم سُم الغدر والتخلي
همست بنبرة جادة تمامًا، حاملة كمية خبث استشفها مرشد جيدا
ابغى أرفع قضية خلع ؛ وبس يرجع ولد العم نستقبله فيها
-
ظلّ يستمع لكلامها بإنصات واضح ، وعيناه عُقب كل جملة تقولها تتسع بدهشة وعدم إدراك
حتى أنهت كلامها ، ثم أردف مُرشد بتساؤل مندهش :
أنتِ متأكدة من هالخطوة ؟
هزت رأسها بثقة مفرطة ، أن تُمسك بطرف خيط لنقطة ضعف وتستغلها - رغمًا عنك- بالطريقة التي ترضيك .. لغنيمةٍ كبيرة :
وواثقة من اللي بسويه !
زفرّ بيأس ، لو كان الأمر منوطًا إليه لرفض رفضًا قاطعًا .. فهذه الأمور ليس بها هزلٌ أو مزح :
زينة الموضوع ما فيه لعب .. وكل شيء معتمد على ردة الفعل اللي راح تتلقيّها ، فالأحسن تكوني قد كلامش
زينة بذات الثقة :
خلّك معي في الخطوة اللي باسويها ، وردة فعله على قولتك بتوضح لي إذا هو شاري أو بايع
عقد حاجبيه لوهلة ، ثم أكمل :
أنتِ تعرفي إن ما أي شيء يقنعني ، لكنّ اقولش إياها بصريح العبارة .. لو صار عكس توقعاتش أنتِ تتحملي كامل النتيجة
أمالت فمها بإمتعاض :
عادي يبه ، راضية بكل النتايج سيئة كانت ولا في صالحي
خليني بس أسوي الشيء اللي أبغاه
هزّ رأسه رغم ذلك غير مقتنع بما تقوله .. لكنه ترك وعدًا في القلب أن يقف خلفها سندًا وعِمادًا حتى تسترد ما أُخذ منها ..
فُتح باب الشقة المقابل لصالة الجلوس لهم ، دخل من خلفه الحارث بلباسٍ رياضي وحقيبة ظهر رياضية ..
اتسعت ابتسامته وزارت الفرحةُ قلبه حين لمح والده فتقدم منه وقبل رأسه ويديه بإحترام بالغ ، وباسم :
يا حي الله أبوي الغالي ، وأنا أقول وش هالنور الساطع اللي غشى قلوبنا
كان عاقدًا حاجبيه حين لمح دخوله بهكذا هيئة ، ولكن سرعان ما ابتسم ابتسامة واسعة .. لقد كبر ابنه حقًا
جلس بجانبه ، ربّت على كتفه :
الله يبقيك ذخر لي ولأخوانك ، من وين جاي كذا ؟
رمى الحارث حقيبته أمام قدمه :
من النادي يبه
عادت عقدة حاجبيه لملامح وجهه مرة آخرى :
من متى وأنت مشترك في نادي ؟
الحارث بصمت لثوانٍ قليلة :
توي يبه مالي اسبوعين
تفاجأ الحارث مثلما تفاجأت زينة بوقوف والدهما الحاد بملامحه الغاضبة المتغضنة وهو يقول بصوتٍ غاضب :
وممكن أعرف من اللي سجلّك في النادي بدون ما يحط عندي خبر ؟
ارتاع الحارث من نبرة والده التي لم يسمعها مسبقًا ، تراجع للخلف بوجل قائلًا :
أمي ، أمي مسجلتني
أغمض مُرشد عينيه بقلّ صبر .. أجل مريم !
ومن سواها قد تتصرف وتتخذ قرارات تخص أبناءه دون أن تحسب له حسابًا وتضع له قدرًا وميزانًا
اعتاد على هذه التصرفات منها ، اعتاد أن ترمي بكلامه -عرض الحائط- وتفعل ما تقول
همس بذات النبرة : وأمك وينها الحين ؟
كانت زينة سترد لولا أن قاطعها الحارث بكلامه المتعجّل دون أن يلقي بالًا لنظرات زينة المهددة :
نزلتني وراحت تزور وحدة من صديقاتها
وكأن بكلامه أشعل الحطب نارًا ، كأن هذا ما كان ينقصه .. منذ عاد وهي تُخبره بصريح العبارة " أنك لا شيء في حياتي" حتى وإن كانت حياتها ملكًا لها الآن وبعد طلاقهما الطويل ، لكن لطالما أخبرها مرارا وتكرارا أن هؤلاء الأبناء هو ما يربطهما ببعض رغم إنحلال رباط الشرع والحلال ..
خرج بخطواتٍ غاضبة يجر أقدامه الثقيلة للخارج بعد أن تعالى صوت الباب من وراءهما نتيجة سخطه
وصوت زينة من خلفه توبّخ الحارث بـ" وش فيك أنت وش فيك جاي تشبّ النار على الغاز "
.. نزل من سلالم البناية متجاهلًا المصعد
عضّ على شفته بقوة بعد ان توسط الطابق الأرضي لمواقف البناية ، في محاولة منه للتخفيف من حدة غضبه ! لكن هيهات هيهات
دارت عينيه على المكان كمن يبحث عن نبع ماءٍ يبّل به ريقه الجاف وصدره المحترق
يعلم أن غضبه غير مبرر ، هو غاضب من تجاهلها بينما يريد منها أن تجعله في المقام الأول
غاضب من أنها استطاعت تجاوزته بسهولة وأصبحت -تحلّ وتربط- دون مشورة
غاضب من شعوره الذي يتفاقم بصدره وهو يعلم تمامًا أن هذا أقصى ما قد يستطيع التعبير عنه
فتلك المرأة العصيّة على النسيان أصبحت في سلمّ غير المحرمين عليه للأبد
يعلم أنها لم تتزوج بعد قط ، ولم ترى غيره أبدًا .. لذلك فإن فرصة إعادتها إلا كنفه اضحت مستحيلة تمامًا
وقعت عيناه صدفة على سيارتها ، تمعن بداخلها فوجدها تجلس خلف المقعد ، شاردة ببصرها فيما لا يعلم
أكانت تجلس في السيارة حتى لا تضطر إلى الجلوس في مكانٍ هو فيه ؟ مجرد التفكير في هذا الأمر يجعله يشعر بالأسى
فلأي درجة أوصلها حتى جعلها تبتعد عنه مقدار أمتارٍ إذا ما اقترب شبرا
اخذ نفسًا عميقًا ، تقدم بخطواتٍ ثابتة ووقف بجانب السيارة وطرق نافذتها
اختّل توازن مريم وهي تنظر إليه عبر الزجاج ، أشرّ لها أن تنزل فزّفرت بهدوء .. أغلقت السيارة من مفتاح تشغيلها ونزلت
واجهها مرشد بشكل مباشر بعد نزولها ، وبنبرة جادة :
ليش جالسة في السيارة ؟
هتفت مريم بهدوء عميق ، ساكن :
عشان تاخذ راحتك مع عيالك
اخذ نفسًا آخرًا راجيًا من الله الصبر والثبات .. وبنبرة لا تقبل المناورة :
ممكن أعرف ليش سجلتي الحارث في النادي بدون لا تعطيني خبر ؟
هزّت كتفها بخفة ، وببساطة :
الحارث أصرّ ، ووقتها تسجيل النوادي على وشك إنها تقفل فلحقنا عليهم .. أعذرنا إذا ما خبرناك
شعر بالسخرية والاستفزاز من كلامها ، الأمر الذي أشعره بالنرفزة ليُردف بغضب طفيف :
ومن اللي تكفّل بدفع مصاريف النادي ؟ أكيد أنتِ
طبعًا يا مريم من يوم يومش شايفة نفسش إنسانة خارقة وكرامتش الغالية ما تسمح لش بالطلب والسؤال ، وهذا اللي خلاش تتصرفي براحة أكبر .. وكأني مو موجود
تلبّست مريم ثوب الهدوء الكامل وأبت أن تنجر إلى استفزازه ، فإن كان هو قد تغير .. فهي تغيّرت أيضًا ، وأكثر :
لا العفو ، ما نقدر نتعداك في هالامور ! شرقيّتكم المعتادة ما تسمح لنا نحلّ ونربط بدون ما تاخذوا التحركات أول وبأول
وتطمن ، مصاريفه مدفوعة كامل .. الله يخلي اللي دفعها
مرشد بغضب عارم ، عارم ومخيف :
مريم لا تستخفّي بعقلي ، خليش من كوننا منفصلين ومن كون المشاكل تلاحقنا من ماضينا .. لأني قلت لش مليون مرة اللي بيننا الحين عيالنا ، وعيالنا خط أحمر ما اسمح لش تدخليهم في دائرة مشاكلنا ونهدم ثقتهم فينا بدل لا نعززها
جاوبيني بكلمة ورد غطاها .. مصاريف النادي من دفعها لأني على معرفة بإرتفاع التكاليف في النوادي خاصة في الصيف؟
أشاحت بوجهها جانبًا ، لو كانت مريم هي مريم الأمس لعاندت وأصرت على موقفها وجعلته يحترق مكانه دون أن تريحه بإجابة صريحة
لكن مريم اليوم تأبى الإنصياع لتفاهات الخصام دون معنى ، ورغبة الواحد دون الآخر بفرض سيطرته و-كسر- رأسه :
أبوك ، وقبل لا تاخذك الحمية والعصبية الحارث تعوّد من يومه صغير يسجّل في هالنادي .. وأبوك بنفسه ما سمح لي أدفع بيسة وحدة من جيبي
-نظرت له وهي تقول بنظرات ممزوجة بالأسى-
عيالنا يابو زينة عاشوا على نظام معيّن والفضل بعد الله يرجع لأبوك ، لا أنا ولا أنت كان لنا موقف واحد مشرّف في طفولة الحارث ومراهقة زينة .. فـ بأي حق واقف قدامي الحين تحاسبني ؟
إن صح القول فالأولى نحاسب بعضنا البعض
زفّر مرشد بهم وأشاح بوجهه جانبًا .. يعي كلامها ويعي حجم اللوم الذي تود إلقاءه على روحيهما ! وهو لا يحتاج إلى لومٍ آخر ليتآكل أكثر مما جسده متآكل :
ما فات من العُمر شيء يا أم زينة ، احنا رجعنا ولو إن رجوعنا أخذ سنين من عُمرهم لكن قادرين نصلّح اللي فات
وأرجوش ثم أرجوش .. أي شيء تعرفي إني ما أرضاه لا تسويه من وراي .. أقولها لأنش بنت أصول وتعرفي الصح والخطأ ما أقولها عشان شرقيتي وعنادي
كتمت تنهيدة حارقة أحرقت صدرها ، وودّت لو ان تضحك بشدة أمامه .. تمسَكت بحقيبة يدها وتجاوزته دون أن ترد سواء بإيماءة رأسها
لكنها ما كادت تخطي خطوة حتى أوقفها مرشد مناديًا باسمها
لتلتفت إليه ، تنظر إليه .. بنظرات لا تدري كيف تنصّنفها ولا تدري كيف فهمها :
سامحيني
قالها ببطء وترقّب شديدين ، الكلمة التي جمّدت أوصالها وأرعشتها .. تعلم أنها لم تكن تنتظر هذه الكلمة أبدًا ، لم تود سماعها ولا الأخذ بجديّة حروفها والإعتبار بها
لأنها .. لأنها فعلًا لم تعد تكن شعورًا -أي شعور- لهذا الواقف أمامها ، ابتسمت ابتسامة تعنيها تمامًا :
ما عاد لهذه الكلمة محل يا مُرشد ..
أنا اليوم عندي اللي ينسيني اللي صار لي بالماضي ؛ الذكريات اللي ياما لاحقتني والشعور اللي ياما أتعبني ما كان بيطفي نارها هذه الكلمة لأني حتى لو سامحت فما راح يرجع شيء
عندي اليوم اللي ينسيّني المر ، ويسقيني حلاوة .. عندي يا مُرشد عيالي وإن كان خسرتك
ومثلما قلت .. بيننا عيالنا ، فمن حق عيالنا علينا نكنّ لبعضنا الاحترام وننسى الماضي باللي كان
عن أذنك
قالتها واختفت عن أنظاره في لمح البصر ، قالتها وجعلته يموج في مكانه نادمًا متحسّرًا ، بشكلٍ متأخر
هو قطعًا لم يندم على وضع أبناءه في المرتبة الأولى حتى يحميهم من بطش وحوش هذا الزمن .. لكن لو كان أكثر تمسكًا بمريم آنذاك لوجد أكثر من طريقة حتى لا يخسر طرفيّ معركته
تنّهد بهم ومسح وجهه برفق ، مريم لن تعود له .. بل باتت لا تكن له أي شعور .. فمن الأفضل أن يتأقلم مع هذه الحقيقة وأن يبدأ حياته من جديد .. بصورةٍ أقوى .. وأنظف


انتـهى ❤

Salma_3_ and Maha bint saad like this.

الكاديّ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 27-06-22, 04:22 AM   #104

الكاديّ
 
الصورة الرمزية الكاديّ

? العضوٌ??? » 490082
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 300
?  نُقآطِيْ » الكاديّ is on a distinguished road
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم

*
*

لا تلهيكم الرواية عن الصـلاة

*
*

الفصـل الرابـع والعشـرون






-
يقف أمام باب الغرفة طارقًا رأسه للأسفل ، يشعر بآلام تعوث به ، آلام فعلية تؤذي قلبه وروحه
منذ أن سمع الحقيقة من فاه نِعمة وهو ليس بحاكم الذي يعرفه .. ليس بذاك الشخص الذي حشرته الدنيا بين مخالبه وجعلت منه شخصًا آخر غير الشخص الذي كان يعرفه
كأن القدر نزع منه ثوب " حاكم " وأعاد إلباسه ثوب " عبدالله " !
هذا الذي يفصل بينه وبين روحه .. باب ! هو ابنه فلذة كبده
هذا الذي لم يعرف بحقيقته سوى منذ ساعاتٍ معدودة .. بذرة صلبه
هذا الذي لطالما أكنّ له الكره والحقد المتجسد بهيئة " عبدالله " .. مقلتا عينه
أغمض عينه وسحب نفسًا عميقًا حارقًا لصدره ، خوفه هو ما جلبه إلى هنا ، خوفه على ابنه المزعوم
خوفه من أن تكون الحقيقة .. كاذبة ! وجارحة
فيستقيظ من كل هذا الحُلم على كابوس الواقع ، كابوس أن زيد ابن عبدالله الذي يكرهه .. ولما يكرهه ؟ لأنه فرّق بينه وبين سلمى
لم يحب حاكم سلمى مثلما يجب على الرجل أن يحب ، لأنه كان حبًّا تملكيًا حتى بعد رغبته المجنونة بالإقتران به
حبّه التملكي جعل من تلك المشاعر النتنة تصعد على أسوار قلبه وتدميه .. جعلته يقلب حياته رغم نكدها سابقًا إلى حياة أكثر نكدا
ما زال يتذكر اليوم الذي جاء فيه عبدالله وأمره بتطليق سلمى طرقًا عن وجهه .. كيف ثار يومها وغضب
كيف أتهم سلمى بشرفها وأتهم عبدالله معها .. كيف فار دمه حين ساور الشك قلبه من أن يكون عبدالله مغرمًا بسلمى
وبعد أن وقّع ورقة الطلاق وزالت الغمامة على عينيه ، سار هائمًا على وجهه يندب غروره وكبرياءه وشكّه المريض الذي جعله يوقع على ورقة الطلاق .. ولا يفقأ عينا عبدالله يومها
لم يكن يعلم أن الطلاق كان رغبة سلمى ،
لم يكن يعلم أنها كانت لا تطيق بحياتها معه صبرا ، وأنها هي من طلبت الطلاق لا عبدالله ونِعمة اللذان تدخلا بكل قدراتهما
مسح على صدره وفتح عيناه على وسعها ، ذكرياتٌ قاسية باتت من الماضي .. ولا يُصلح الماضي ما أفسده الشك
طرق الباب طرقة صغيرة ودخل .. كان زيد مستلقيًا على ظهره مغمضًا عينيه .. بجانبه أميمة تقرأ في مصحفٍ صغير بصوت هامس
وفور أن رأته وقفت بصدمة وهي التي لم تتوقع أن يدخل عليهما قط .. ابتلعت ريقها ونظرت إلى وجه زيد الساكن ثم تنّهدت براحة
اقترب حاكم حتى وقف إلى الجانب الموالي لأميمة ، ينظر إلى ملامح زيد ، بل يريد أن يتشبّع منهما حتى يُتخم
شعر برعشة قاسية مرت على قلبه .. هل يشبهه زيد في شبابه أم هذا ما تراءى له ؟
همس حاكم دون أن يزيح عيناه :
كيف حاله ؟
أميمة بذات الهمس خوفًا من أن توقض همساتهما هذا النائم :
بخير الحمدلله
حاكم بذات النبرة :
كيف حروقه ؟
ساور الاستغراب قلبها لوهلة ؛ فهي متأكدة أنه قد سمع كلام الطبيب فلما يعاود سؤالها مرة آخرى :
بتطيب إن شاء الله ، عميقة شوي بس مب مستحيل شفاءها
لا يدري لما يداه متصلبتان بجانبه ، لما لا يستطيع رفعهما ولمس شعره ، وجهه ، يديه ، ومكان حروقه
تنّهد بأسى حارق ومؤلم عليه .. ابنه ! ما زال لا يصدّق أنه ابنه
لو كان سابقًا يشّك مقدار أنملة بسلمى فإنه يستحيل الآن أن يشكك بأبوته لهذا الرجل .. هذا ابنه
قلبه يخبره بذلك ، روحه وعقله يصرخان بذات الكلمة .. ابنه .. ابن حاكم
التفتا حاكم وأميمة بإندهاش نحو الصوت المبحوح الذي خرج من النائم أمامهم ، بنبرة جادة جدًا :
أميم روحي نادي الدكتور
ارتعش قلب أميمة حين فتح عيناه المحمّرات التي وإن دلت على شيء دل على ألمه المكبوت
اقتربت منه في لهفة وأمسكت بيده دون أن تعي وجود حاكم :
أنت صحيت ، الحمدلله على السلامة
رقّ قلبه لهذه اللهفة في صوتها وعيناها ، شدّ على يدها بقوة ثم همس :
الله يسلمش ، روحي نادي الدكتور وتعالي
وهو يسلط نظراته نحو حاكم ، الأمر الذي فهمته أميمة تمامًا فلابد أن بين هؤلاء الاثنين حديثٌ طويل جدًا
خرجت أميمة بخطوات سريعة مغلقة الباب من خلفها ، فحاول زيد الاعتدال في جلسته لولا أن أوقفه حاكم بنبرة هادئة :
حاسب ، حروقك طريّة
نظر له زيد بنظرات عاديّة ، فهو منذ معرفته بأبوته لهذا الرجل القائم أمامه أصبح محاسبًا على نظراته التي -رغم وجعه- لا يريدها أن تدخل مدخل العقوق
زفرّ وهو يحبس الألم في صدره من الحرق الذي يؤلمه ، ليقول بجدية بالغة :
كنت تدري إنها حامل؟
تفاجأ حاكم بالسؤال المباغت ، والأدهى أنه لم يتوقع أن يدخل زيد هكذا فجأة في أرض المعركة .. فهتف بهدوء :
لا ، ظنّك لو كنت أعرف سمحت لأبوك يطلّقني منها
عقد زيد حاجبيه ، وسرعان ما انشرحا ليردف بذات النبرة :
بالضبط .. هذا اللي أبغى أعرفه ! مثل أشياء واجد أبغى أعرفها
ليش طلقتها رغم إنك ما كنت تعرف بوجودي ؟
شبك حاكم يديه خلف ظهره ، ثم هتف كمن يقف أمام محاكمة :
سلمى ما كانت مرتاحة معي ، على عكسي اللي كنت متمسّك فيها .. ولما يأست من إني أتخلى عنها لجئت لعبدالله ونِعمة حتى يضغطوا عليّ عشان أطلقها .. وطلقتها
زيد بعقدة حاجبيه الجادة :
ما تحسّ إن في تفاصيل واجد خبيتها بين هالجملتين اللي قلتها ؟
حاكم بجدية تامة :
ما تهمك التفاصيل اللي صارت لأنها صارت من قبل لا تنولد حتى .. اللي يهمك هذه الجملتين على قولتك
أنا غلطت بحق أمك صحيح بس لآخر يوم بعمري كنت مستعد أتغيّر وأصلح من حالي عشانها
ابتسم زيد بسخرية عارمة :
أمي ؟ أنا ما أعرف لي أم إلا نِعمة .. وماعرفت لي أب إلا عبدالله ! عبدالله اللي كنت تكرهه وتكرهني
تغيّر وجه حاكم للإمتعاض الأمر الذي لاحظه زيد جيدًا ، ليقول بقوة مندفعًا :
ليش كنت تكرهني ؟ ليش حقدت عليّ وشبعتني بالغيظ والغلّ رغم إني كنت طفل مراهق ما أفقه من أمور المراهقين حاجة لأني كنت مشغول أعيش رجولة مبكَرة عشان أعيل أمي وألقى لنا لقمة عيش تسدّ جوعنا وتعفنّا من الحرام
ليش كنت تكرهني ؟
أغمض حاكم عينه وأشاح بوجهه جانبًا ، للتو يشعر أن المبرر لكرهه تافهًا جدًا ، ومنحطًّا
فهو أخرج عقدة نقصه بالحقد والكراهية في زيد لأنه لم يكن يملك بدًّا من إخراجها لعبدالله المتوفي :
جاوبنــي ليش كنت تكرهنـي ؟
قالها زيد بإنفعال أكبر ووجهه يحمّر أكثر فأكثر ، ليقول حاكم بهدوء تام :
لأني ماقدرت أنسى وجه أبوك وهو يغصبني أوقع على ورقة الطلاق ، أبوك بالنسبة لي قطع كل أمل ممكن يرجعني لها
ضحك زيد ضحكة صغيرة / مقهورة :
ولأن أبوي مات لقيتني قدامك و طلعت كل غيظك وكرهك فيني
-وبسؤال مباغت آخر-
ليش جاي اليوم ؟ وش متوقع تسمع مني ؟ من واحد كرهته وكرّهته بنفسه من كثر السم اللي تشربّه إياه
تغيرت مشاعرك بعد ما عرفت إني ولد حاكم مب ولد عبدالله ؟
ارتجافة قارصة مرت على طول جسد حاكم ، العداوة التي كان يكنّها لزيد طوال هذه السنين كنايةً عن أبيه هل تتغير حقًا في لمح البصر بعد أن عرف بأبوته ؟ لربما سيحتاج إلى معجزة .. معجزة إلهية حقًا
لكنّها الفطرة ، الفطرة هي ما قد تقوم مقام المعجزة فتتغيّر مشاعره من النقيض للنقيض :
أنا ما تمنيّت شيء في حياتي كثر ما تمنيّت الولد !
قالها بشيءٍ من الحسرة والوجع ، المشاعر الذي استشفّها زيد جيدًا .. أغمض عينيه بطولة بال وأخذ نفسًا عميقًا :
وأنا صعب علي بعد هذه السنين أرجع استقبل اللي خلوني ببرود دم
-وبإنفعال شديد-
هذه 33 سنة داخل بها على الاربعة وثلاثين .. قول لي بالضبط وش أنا محتاج بعد هالسنين كلها ؟
أنا كبرت ، والشيّب شوفه يسري بين شعري ووجهي
تيتمّت واليتم زادني كبر .. عشت وحيد والوحدة علمتّني كيف أخاف وآمن بالقدر خيره وشر ! ذقت أنواع وأشكال من المر والعلقم وقلت لنفسي جعله عوافي بكرة تنصفني الدنيا
وش أنا محتاج له أكثر وش ؟
أردف حاكم بذات الإنفعال :
محتاج ترتاح .. وأنا محتاجك جنبي !
خلك من شعارات المثالية ، أنا إنسان لطخني الذنب من ساسي لرأسي وعشت متخبّط ومهزوز رأي لأني أذنبت بحق إنسانة كانت في يوم من الأيام حلالي .. الله رزقني بالبنات ومن بعد رزقته لي وانا استغفر وأتوب مخافة إنه يصيب ذنبي ببناتي ! أنت علامة توبتي يا زيد خلني أكفر ذنبي فيك
تعالى تنّفس الاثنين وكأنهما للتو خرجا من ساحة الميدان بعد عِراك طويل مع رغباتهما ومشاعرهما
ليُردف زيد بذات الإنفعال رغم هدوءه الظاهر :
أنا تعبت .. تعبت من المشاكل اللي تتحاذف علي حتى لو إني جالس في بيتي آمن متطمئن ! تعبت حتى من المبادرة
وهذه المرة ماقدر أبادر في شيء واستقبلكم بطيب خاطر وصدر رحب .. لأن صدري ما رحب ولا واسع ! صدري أضيق من فتحة إبرة
تعبت حتى من اللهث وجاء الوقت اللي استريح فيه
-نظر له بنظرات قوية-
تبغى تعرف وش اللي يشفع لك عندي ؟
نظر له حاكم وقلبه يخفق ألمًا وكمدًا وحسرة على هذا الرجل ، وعلى الوجع المرسوم على ملامحه وزوايا جسده .. بأي ذنبٍ عاش هذا الألم . وبأي ذنبٍ اكتوى به ؟
أكمل زيد بذات النبرة :
إنك ما كنت تعرف بوجودي .. لذلك صلح خطاك ، واوصل حبال المحبه اللي قطعتها بسيوف الحقد
رمش حاكم ببطء وهو يسمع -عفوه ومسامحته- المبدئية على ما مضى ، يعطيه بهذا الكلام الضوء الاخضر ليعيده ابنًا لكنفه ، وسندًا لظهره ، وأخًا لأخواته .. استراح قلبه بعد طول خفقان وأصبح الدم يجري بشكلٍ أهدأ من ذي قبل وهو يتنّهد تنهيدة عميقة مرتاحة
لا بأس إن كان المشوار طويل لأن يكسب زيد في صفه من جديد لكن المهم أن لا يفرّط في دماءه مرة آخرى مثلما فرّط سلمى بأنانيته المقيتة
قاطع سيل نظراتهما دخول الطبيب ومن خلفه أميمة وعبدالرحمن :
هاه يا زيد كيف حاس الحين ؟
اجترع زيد ريقه بصعوبة وقال بنبرة طبيعية ، رغم الألم الجسدي والنفسي :
بخير يا دكتور ، اكتب لي خروج لو سمحت
شهقت أميمة من خلفه والتفتوا الثلاثة الآخرين ينظرون إلى ملامح وجهه الجادة جدًا جدًا والتي لا تقبل المناقشة
ليقول حاكم بغضب : مجنون أنت وش يكتب لك خروج وحروقك لين الحين بنارها ؟
أصرّ زيد على موقفه عنادا :
لو سمحت يا دكتور اكتب لي خروج وعلى مسؤوليتي أنا ما راح أبقى يوم واحد في المستشفى
تقدّم منه الطبيب ليقف بجانبه ويقول بمهنية :
شوف أخوي زيد ، حروقك الآن في مرحلة حساسة لازم نتعامل معها برفق ودقة .. وخروجك من المستشفى يعني تعريض نفسك للجراثيم والفطريات وبالتالي راح تعرّض الحروق لإلتهابات وأنت تعرف الباقي .. لكن وجودك في المستشفى راح يسمح لنا نراقبها عن كثب ونهتم فيها أول بأول
زيد بنبرة جادة :
ماعندي مانع اجيكم كل ساعتين عشان تغيّروا الشاش وتحطوا المراهم عليها .. لكن جلسة في المستشفى طول هذا الوقت مستحيلة !
عبدالرحمن بغضب اقترب منه :
على وش تعاند أنت يا زيد ؟ هذه صحتك مافيها لعب وعناد
ظل زيد على قراره والآخرين يقنعوه بالعذول عنه لكن صمم على رأيه وتمسك به ، لا أحد منهم يعلم أن قلبه ويذوب ويحترق رغبةً وشوقًا لرؤية والدته بعد أن سمع صراخها هي الآخرى وقت وقوعه
وبعد أن يأسوا جميعًا ، تنّهد الطبيب قائلًا :
طيب زيد على ما تريد ، لكن راح توقع على مسؤوليتك الكاملة .. وإن كانت الجيّة تتعبك لمستشفى الولاية راح أكلم المجمع الصحي في منطقتك بحيث يستقبلوك كل 4 ساعات
أنت ما تحس بالالام الحين بسبب المسكن فعشان كذا لازم تاخذ المسكنات بشكل دوري
هزّ زيد رأسه بهدوء فخرج الطبيب ليخرج من خلفه حاكم يسأله مطمئنًا عن صحته والحالة المتوقعة التي ستكون عليها حروقه بعد فترة
بينما ظل عبدالرحمن ينقل نظراته بين زيد وأميمة ليبتسم فجأة في وجه زيد :
امف عليك من رجال ، والله طلع رأسك أيبس عن رأس حويتم ! هيه وين تروح وتسجى منه وأنت وإياه رأس برأس
ابتسم زيد بخفوت ، ونظرت له أميمة بحنو بعد خروج عبدالرحمن :
ليش كذا يا زيد ؟
مسك زيد يدها بقوة وهو يهمس بلهفة مشتاقة :
أمي شخبارها أميم ؟
مسحت على يده بمؤازرة قوية :
طيبة والله العظيم طيبة وماعليها شر ، معها خالتي نعيمة وبناتها ارتاح
أراح رأسه على الوسادة وهو يتنّهد مطولًا منتظرا خروجه من هذا المكان بفارغ الصبر رغم حروقه التي تؤلمه ويشعر بها كنارٍ مستعرة




-
دخل مرشد إلى منزل أخيه سيف بعد تلّقيه رسالة أخيه سعيد وهو يصوّت بصوتٍ عال بـ"ياعرب"
ليأتيه صوت والدته من أقصى الصالة الفارغة :
حولش أحد يمه ؟
قالها بصوتٍ عال ، فأردفت الجدة عزيزة بنبرة حنونة :
تعال يامك ادخل ما حولي احد
تقدم مرشد بخطوات البطيئة حتى وقف أمام والدته التي تجلس على الكنبة الكلاسيكية بألوانها الرائعة وحوافها المذهبّة .. بحضنها المصحف وبيدها المسباح وبجانبها راديو قديم تستمع فيه إلى الإذاعة .. قبّل يديها ورأسها وكتفها وجبينها بعمق موجوع وشوقٍ حاني ! جلس بجانبها وابتسم بخفوت في وجهها :
تقبّل الله يا نظر عيني
أغلقت المصحف ووضعته جانبها ؛ أشرّت على حضنها بإشاراتٍ يفهمها مرشد جيدًا ! فـ لبّى الدعوة بأن مال برأسه واحتضن حضن والدته :
منّا ومنك يامك ، وش فيك ضايق بارضك ؟
تنّهد مرشد وأغمض عينيه يشتم رائحتها الريّحانية التي ما تغيرت منذ أن كانو صغارًا ، خليطٌ من المسك والزعفران والصندل والريحان .. خليط يُشابه عزيزة لا غيرها من الأمهات :
مافيني شيء فديت أرجولش
مسحت على شعره الذي تخلله الكثير من الشيب :
متى بترّجع عيالك لأرضهم ؟
مرشد بهدوء : عيالي مع أمهم يمه ، وأنا وأمهم واحد
تنّهدت عزيزة والهم يأكلها على هذا الرجل الذي لاقى أنواعٍ شتى من الهموم التي أشبعته ، ورغم ذلك ما استطاع الراحة :
أبوك لك منه اسبوعين .. ولد أخوك وزوج بنتك غايبٍ عن الديرة من يومها ! سعيد وقايد على مشاكل زايدتهم بُعد ، زيد وأمه بحالةٍ ما يعلم فيها إلا الله
قوم على حيلك يا ولدي وكفيّهم مثلما كنت تسوي قبل .. مثلما كانوا يعتمدوا عليك وياخذوا دايم بمشورتك
اعتدل مرشد في جلسته وهو ينظر إليها والوجع يفيض من عينيه :
أنا بغيت أبوي وقلت لا يمه ؟ أبوي هو اللي حرمني منه من لما رجعت .. ما سمح لي حتى أتهنى بشوفته وأفرح بصحته وعافيته
-تنّهد وهو يربّت على كفها-
وزوج بنتي هذاني أدور عليه ، أما سعيد وزيد أنا أشهد إني مقصّر بحقهم
ربّتت على كفه هي الآخرى وتقول بجدية :
زين روح المجلس ، أبوك وأخوانك ينتظروك وطالبتك ياولدي تفاهم معهم بهدوء وإحترام مثل ما ربيّتك دايم
وقف وهو يقبل جبينها باسمًا :
افا يمه يعني متوقعة منّي أقل أدبي وإحترامي قدام أبوي واخواني الكبار ؟ ما سويتها وأنا صغير اسويها وهالشيب كله خط شعري
ابتسمت وهي تهزّ رأسها بإيجاب وبمودّة عارمة :
مب متوقعة منك إلا كل تقدير وإحترام ، أنت تربيتي الصحيحة
ضحك بخفة وهو يتجه نحو باب الصالة ليدخل إلى المجلس :
لا يسمعك حشاشة اليوف وياكلنا ، وعلى طاري الحشاشة خليه يجيني لا أحش رجوله
اتسعت ابتسامته بشكل مفاجئ وهو يلمح دخول حنان من باب المنزل يسندها عبدالمجيد الذي يحمل حقيبة شبه كبيرة ومن خلفه يتراقصون أطفالهم الثلاثة :
أيا سويدة الوجه
ضحكت حنان وهي تضع يدها على بطنها ، فترفع رأسها بخفة وتقبّل رأس عمها :
وجهي أبيض مثل وجهك فديتك .. خلي عنك
شد على أذنها برقة بالغة وهو يقول بابتسامة حانية :
عمّش راجع من الموت ولا قلتي أشوفه بس مرة وحدة وأتحمد له بالسلامة .. كل ذا عتب يا عيال أخواني ؟
احتضنته حنان بحنانها المعتاد الذي يسع أرض هذا البيت وأهله جميعًا ، دون نقصان بل ويفيض عن الزيادة :
سامحنا عمي .. من صدمتنا فيك ماعرفنا نتصرف صح ويمكن بهالتصرف جرحناك بدون لا نقصد !
مسح على ظهرها وابتسامة صغيرة تطفو على وجهه ، فابتعدت عنه وتوجه هو نحو عبدالمجيد الذي بالمقابل احتضنه بابتسامة تتسع أكثر فأكثر :
الحمدلله على سلامتك ، نورت أرضك وديارك
ربّت مرشد على كتفه بابتسامة ودودة ، ثم نقل نظراته بينهم :
الله يسلمك يارب ، على وين كذا ؟
عبدالمجيد بذات الابتسامة الهادئة :
عندي دورة عمل لمدة 4 أيام وجايب حنان والعيال عند عمتي ..
هزّ رأسه بخفوت وأشار له بالدخول :
الله يقويك .. تعال حيّاك تفضل الشيّاب في المجلس
صمت حينها عبدالمجيد لثوان قليلة ونظرات حنان مسلّطة عليه بترّقب ، ليقول بعدها بجدية عارمة :
لا عمي اسمح لي
عقد حاجبيه مردفًا بإستغراب :
ليش ؟
تنّهد عبدالمجيد بصمت ، ثم قال بنبرة بطيئة هادئة :
قصة طويلة ، اسمح لي استأذن الحين
اعتدل مُرشد في وقفته ، وبجدية بالغة :
ليش من قال لك إن ما أعرف هالقصة الطويلة اللي تقول عنها ؟ تعال ادخل .. ومالك إلا اللي يرضيك
رقص قلب حنان طربًا وسعادة من أن الصُلح بين زوجها وأهلها قد اقترب واخيرًا ، ويبدو أن ما قد عجز أبيها وأخوتها عن القيام به سيقوم به عمها مرشد -الحاضر دائمًا لحل مشاكلهم-
لذا ظلّت تنظر إليهم دون أن تنبس ببنت شفة ، وبعد صمتٍ مطول من جهة عبدالمجيد المتردد هتف بمرشد بجدية :
افا يا عبدالمجيد ، لهذه الدرجة مالي خاطر عندك ؟
تنّهد عبدالمجيد بأسى ، وبصدق تام :
محشوم عمي ، خاطرك على عيني ورأسي لكنّ أنا رجال موجوع بكرامته من أهل البيت
شدّ على يده بجدية أكبر من سابقتها :
صدقني أنا عارف القصة كامل ، وحامد هو حامد اللي سرد لي إياها بدون زيادة ولا نقصان .. ولو ما شايف نفسه غلطان ويبغى يصلح الغلط بس ما عارف كيف يبادر كان ما كلمّني
تعال ادخل وكرامتك محفوظة
استسلم عبدالمجيد على مضض ، فهو بقرارة نفسه ليس لديه أي مانع من الإقبال على هذه الخطوة لو وجد محفّز لها .. لكن هو لم يجد من يود مصالحته ومد يد المحبّة مرةً آخرى
دخل مُرشد إلى المجلس وسلّم بصوته العالي :
السلام عليكم جماعة الخير ، معي ضيف عزيز
التفتوا أخوة سيف وأبيهم مستغربين من الضيف الذي يتحدث عنه ، فهم كانوا ينتظرونه بفارغ الصبر لحل المشاكل الشائكة بينهم وغيرها .. وسرعان ما خرجت تنهيدة حارقة من صدر سيف حين لمح دخول عبدالمجيد عليهم خلف مُرشد
سلّم عبدالمجيد بصوتٍ خافت ، وتوجه نحو الجد وما يسيّره -إحترامه فقط- للشيخ الكبير ، وسلّم سلام يدٍ على سيف وسعيد
جلس مرشد وبجانبه جلس هو .. محتميًا من قسوة كلامهم -حسبما يظن- :
طلبتوني ؟
قالها مرشد وهو ينقل نظراته بينهم الثلاثة .. ليُردف سعيد بجدية :
الوالد كان يبغاك ! أنت صاحب الشأن وحنا ضيوفه
التفت مرشد لوالده بابتسامة :
تفضل يالغالي ، هذا أنا موجود ورقبتي لك سدادة باللي تآمر عليه
نظر له الجد عزام مطولًا ثم تنّهد .. يعرف هذا الشقي كيف يحكم قبضته على لسانه ويمسك بحلقه جيدًا :
خير ، خير إن شاء الله
علم مرشد أن والده لن يتحدث بوجود عبدالمجيد وهذا هو المغزى والغاية التي يُريدها .. أن يحتمي بعبدالمجيد باطنًا ، ويساعده ظاهرًا ! بجدية :
قبل كل شيء .. هذا الوجه الطيّب جاكم قبل سنين يطالب بحقه ومن باب الله ما جاكم من أي طريق ردي ! يومها رديتوه وكسرتوه .. وما اكتفيتوا عند ذا الحد قمتوا وطردتوه
تغيّر وجه عبدالمجيد كما تغيّرت وجوه الحاضرين غيره ، أكمل مرشد بحدة بالغة :
خلونا من سالفة ولد اخوكم ذبح ولد أخونا لأن لو عندكم شويّة إيمان كان عرفتوا إن قدّر الله وما شاء فعل .. وإن ولدهم خذا جزاه من الدولة حتى بعد ما أنتو تنازلتوا عن حقكم الخاص
بس وش خص هذا الاثنين تدمروا حياتهم اللي اختاروها بإرادتهم وراضين عنها ؟ من متى وأنتو بهالشكل ؟ هاه سيف
صدّ سيف بوجهه وهو يقول بضيق :
السالفة منتهية مرشد لا تنبشها
مُرشد بإنفعال حاد رغم إنخفاض نبرة صوته :
ويومها سالفة منتهية وش فيك ما رديّت كرامة هالرجال اللي نثرتوها قدام بيتك ، وش فيك ما استقبلته وعزيّت شانه كونه زوج بنتك وأبو أحفادك
سيف بعصبية من تدخل مرشد المتأخر :
في النهاية هذيك بنتي .. ما كنت بأدور على اللي يجرحها ويأذيها
مرشد بجدية أكبر :
بس أنت جرحتها وأذيتّها وفوق كذا غربّتها عن بيتك .. زين هم الاثنين غلطانين بطريقة تصرّفهم ، أنتو يا كبار يا قدوة دلوّهم للطريق الصح .. خبرّوهم وش تقول الأصول والعِرف ! أو أبسط حاجة دوروا عليهم وعاقبوهم قدامكم
يا مقوى قلوبكم ، هذه خمس سنين راحت من عمرها وعمر عيالها ما حتى اللي بداخلكم ويقاله "قلب" دق شوق لهم
الجد عزام بهدوء فظيع :
والمطلوب يا مرشد ؟
التفت له مرشد بذات الجدية :
ولا شيء يبه .. أنتو كبيرة القوم وكلكم على رأسي ما راح أقولكم حبّوا خشم عبدالمجيد على سواتكم ، عبدالمجيد في النهاية ولدكم
لكن على الأقل ردّوا اعتباره .. ولو كان قدام أهله وجماعته
سكت الجد عزام على مضض ، في الماضي كان قد تعرّض لضغط شديد بسبب فقدان ابن حفيده .. من جهه حامد ، ومن جهه سيف .. ومن جهة حنان ! وتلك المرة التي طرد فيها عبدالمجيد لم تكن سوى بسبب الألم الفظيع الذي أحاط بعائلته ، لم يحسب حساب هروب حنان ، ولا عودتها بثلاثة أبناء ورابعهم في الطريق
نقل نظراته نحو سيف الذي ينظر له بترّقب ، وأشار له برمشة عينه ليلتفت سيف نحو عبدالمجيد بهدوء :
ولا يهمك عبدالمجيد ، حيّاك أنت وأهلك وقبيلتك وكل من يعزّ عليك في سبلتنا ،
متى ما بغيت اختار اليوم اللي يناسبك وكرامتكم بيننا
صمت عبدالمجيد في دهشة وإن كانت لم تتضح على وجهه الجامد بملامحه، لم يظن أن الأمر سينتهي بهذه الطريقة .. وببساطة
لم يظن أن وجع السنين من الكرامة المهدورة قد ينتهي -بـكرامة- من أهل الوجع نفسه ..
لم يظن أن ما آلم حنان قبلًا ، وآلمها الآن قد ينتهي بتعزيز العلاقات من جديد في سبلة العزم التي التقوا فيها آخر مرة هو وقبيلته لعقد قِرانه بحنان
أردف سيف بإصرار يستحثّه على الرد :
هاه يا عبدالمجيد متى يناسبك ؟
وقف عبدالمجيد في مكانه واتجهت الأنظار إليه ، ليقول بعد صمتٍ قصير بصوتٍ جاد :
بعد 4 شهور .. أول ما تولد زوجتي على طول
-أخذ نفسًا عميقًا من نظرات الدهشة في أعينهم ثم أكمل-
أنا في وضع ما يسمح لي أفكر إلا بصحة زوجتي وسلامة ولدي .. و4 شهور فترة كافية عشان نصفّي اللي بيننا وما يبقى إلا الود والمحبة .. والإحترام !
قبّل رأس مرشد بإمتنان وخرج من المجلس تتبعه نظرات الجالسين .. ليلتفت مُرشد إليهم دون أن يترك لهم مجال للإستيعاب :
وإن كان شملكم اليوم عشان تحاسبوني على اللي فات ، فاسمحوا لي أقولكم إن حقكم سقط في الحِساب ..
عبدالمجيد وحنان ضحوا بواجد أشياء عشان يعيشوا الحياة اللي يريدوها .. وأنا ضحيّت بكل ما أملك عشان عيالي
كلنا يالبشر مهما اختلفت أسباب تضحياتنا تظلّها تلف وتدور على الأشخاص اللي نكنّ لهم مكانة ومعزّة ! والتضحية مو بس سبب .. التضحيّة نتيجة ! ونتيجة هالتضحيّة إني خسرت 7 سنين من حياتي وعيلتي وشغلي ووظيفتي
-وقف واتجه نحو والده فقبّل رأسه ويديه-
وإن كان يرضيك يا شيخ العزم .. فوالله ثم والله ثم والله هالسنين كلها ما خطيت بدرب إبليس ! سامحني يبه
قالها وهو يتراجع للخلف عازمًا على الخروج من هذا المجلس ولكن قبل خروجه التفت نحو سعيد الساكن بوجوم ، ليقول بابتسامة :
قايد إن ما جاك اليوم هذه اللحيّة ما على مُرشد ! ما عاش من يستقوى على أبوه وأنا حي




-
أوقف عبدالرحمن السيّارة بداخل فناء منزل زيد ، وارتجل يحمل الكرسي المتحرك الذي سيلازمه هذه الأيام ! خرجت أميمة من الباب الآخر تحمل عكاز الذي هو الآخر سيحتاجه أيضًا
التفت زيد بعد أن توسط الكرسي إلى عبدالرحمن بهدوء :
ماقصرت عبدالرحمن ، أثقلت عليك
ابتسم عبدالرحمن وبنبرة شبه مرحة :
من ناحية أثقلت علي فأنت فعلًا أثقلت علي .. يا رجال هيئتك ما تعطي ذا الوزن اللي فيك بغيت تكسر ظهري
ابتسمت أميمة بخفة :
عمي حرام عليييك !
ابتسم عبدالرحمن ، جمع اصابعه وفرقعها في جبهتها ليقول بمرح :
عمى بعين العدو ، أنتِ والشلة الفاسدة اللي معش لا تنادوني بعمي ! توني شباب
ضحك زيد ضحكة قصيرة :
الله يكفينا حسد عيونك اللي بتطيحنا واحد واحد
ربّت على كتفه وهو يبتسم بإمتنان عظيم وجلّ لهذا الرجل الذي لطالما وقف معه في أشد أوقاته سوادًا وظلاما :
الحمدلله على سلامتك وجعلها ربي آخر الأوجاع إن شاء الله ، أستاذن منكم الحين
خرج عبدالرحمن ونظرات زيد المبتسمة تلاحقه حتى وقعت عيناه على حاكم الواقف بهدوء ، اختفت ابتسامة وصدّ عن وجهه وهو يتنّهد ! لتقول أميمة بحنان :
هاه زيد ندخل ؟
رفع رأسه لها بابتسامة هادئة سرعان ما اتسعت حين رأى خالته نعيمة تقف بالقرب من باب الصالة :
ندخل !
دلف بكرسيه المتحرك بنفسه ودون مساعدة أميمة التي لم تطلبها خوفًا من خدش مشاعره .. استقبله خالته بالدموع والأحضان والكثير من " الحمدلله على سلامتك - الله يخليك لنا - ما تشوف شر " وقلبه رغم الود منشغل بالتي خلفها
أوسعت له خالته المجال ، ودلف إلى الداخل لتسقط نظراته نحوها
حينـها .. حينها هدر قلبه عُنفًا من شدة المشاعر المختلجة بداخله
حُب !
إشتياق !
مودّة !
ولعلّه إمتنان .. امتنان عظيم جدًا يسري بين زوايا قلبه ودمه لهذه المرأة العظيمة ذات القلب الحنون والمعطاء
المرأة التي -رغم خطئها- احتضنته كابنٍ لها .. وعاملته معاملة لا يحلم بها أبدًا ، بل ولا يطمع بغيرها
هذا الوجه الدامع ، الممتلي رقّة وحنيّة هو الوجه الله عرّفه بالحيـاة .. بالحُب بالإيمان ، بالقـوة والشجاعة
هذا الوجه عرّفه بالأمومة .. صعبٌ عليه ان يقوم تعريفه بشيء آخر غيرها
اقترب منها ، أصبح كرسيه مقابل كرسيها .. شد على يديها وولثمّها بكل ما أوتي من قوة .. قُبلة يختزل فيها كل تلك المشاعر الجيّاشة :
معذورين يمـه .. ما عاشروا بياض قلبَك رغم سواد ظنونهم . ولا عرفوا طعم هالدنيـا في طِيب كلامك
أنتِ أمـي ! وقص لسان كل ما قال لأ !
هطلت دموعها بغزارة فظيعة ، ما مرّ الشك قلبها ولو بنسبة قليلة عن أن زيدًا سيتخلى عنها ! بل كانت واثقة أشد الثقة أنها ستكون اختياراته في الحياة جميعها
أكمل بنبرة قوية ، رغم قوتها تشبّعت بالحنيّة .. الحنية التي ورثها منها :
أنا وأنتِ يمه اللي خطيّنا ذكرياتنا بزوايا هالبيت ، ورسمنا أيامنا دونهم .. شلنا الحمول وقلنا يالله تساهيـل .. والفرج من الله
أنا وأنتِ بداخل إطار الصورة وثالثنا أبوي ، واللي بداخل الصورة ما يتغيّر
لا يلحقش خوف وشك من إني ممكن أخليش بعد هالعُمر كله .. قليل أصل وتربية لو سويتها ، والله بس كيف يقواني قلبي عليها ؟
أنا ولو ما طلعت من ظلمة رحمش ، يكفيني إني كبرت من نور عيونش
مسحت على ظهر كفه وابتسامتها تتسّع وسط سيلان دموعها الغزيرة .. اقترب منها وقبّل رأسها بقوة ثم احتضنها ، تنّهد بعمق
هو لا يعرف غير مسكيّة هذه الرائحة التي يشتمّها ، لا يعرف غير طراوة حضنها .. غير ذبذبات همساتها .. لا يعرف غير نِعمة واحدة أهداها الله إليه ! سواها
اقتربت أميمة وقبّلت رأسها بابتسامة هادئة ، مسك زيد بيدها وجعلها تجلس بجانبه على الكُرسي :
أنا وهي عيالش .. وبكره هالبيت يمتلي بأحفادش ! ونعيش ذكرى عبدالله أعوام وأعوام
همست نِعمة بابتسامة والبُحة قد نالت منها :
آمين ، آمين يارب
ابتسم ليتراجع بكرسيه للخلف ، نظر لخالته ولبناتها خلفها ! اتسعت ابتسامة المُحرجة من تحديقهن الغريب فيه
فرفع يده اليمنى مسلمًّا بنبرة حاول إخراجها طبيعية .. ففشل :
السلام عليكم خواتي !
احمّرت وجوه "أخواته" فعلًا .. لم يكن يتخيّلن أن هذا الرجل الرائع بنظرهن سينتهي به المطاف كأخٍ لهن .. هُن الذي لطالما تمنيّن الأخ ها هن يحصلن عليه على طبقٍ من ذهب
حين طال صمتهن ابتسم بإحراج بالغ ، ليقول بهدوء :
لا تسلّمن ، قدامنا الأيام تعرفن زيد كأخ فعلي ، بدل ولد الخالة
فمن جهته هو كان سعيد .. سعيد جدًا رغم الوجع الهائل الذي لاقاه من هذا السر الذي انكشف بعد سنواتٍ طوال ! فهو قد عاش وحيدًا وحدة قاتلة ، لم يكن يعينه عليها سوى معرفته بحاتم وقربه من والدته .. كم تمنّى فعلا لو حصل على أخوان وأخوات قبل وفاة والده وامتلى هذا المنزل دونهم
لذا بعد أن حصل على "درزن" أخوات حقيقيات .. فلن يتوانى عن إلتقاط الفُرص في القرب منهن ! لن تسوّل له نفسه معاقبتهن بذنبٍ لا يفقهن منه شيئًا







-
فور خروجه من مجلس والده إتجه مباشرة نحو المكان الذي كان يتحرقص على الذهاب إليه منذ أول يوم وطأت قدماه أرض الوطن .. وها هو أخيرًا يقف أمامه ڤيلا حديثة من طابقين وحديقة أمامية رائعة وخلابة
طرق زر الجرس مرتين ، ثم اتبعها بالثالثة .. نظر لساعة يده وإذا بها السادسة عصرًا ! وآذان المغرب على وشك أن يُرفع
سمّى بالله وانتظر خروج المعني من خلف الباب بفارغ الصبر
بعد دقيقتين وبعد رنة جرس آخرى خرج من خلف الباب وهو يقول بتأفف :
زين ياللي وراء الباب جيت جيت
فتح الباب على مصراعيه غاضبًا من الذي أزعجه في هذا الوقت الحرج ، لكن ما لبث أن اتسعت عيناه على وسعها وشهق بصمت شهقة كادت تؤدي بحياته
ابتسم مرشد بشرّ :
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته !
كان سيدخل للداخل هربًا كالجبناء لولا أن امتدت يد مُرشد إلى " فانيلته البيضاء " التي يرتديها ، جذبه إليه بقوة وأغلق باب المنزل خلفه :
على وين يالحبيب ، حلوة بحقك تسكّر الباب في وجه ضيوفك ؟
اجترع ريقه بصعوبة بالغة والشر في وجه مُرشد يخيفه :
بيتي مراقب بالكاميرات
ألصقه مُرشد بجانبه ، ربت على كتفه بطول يده
ليقول بابتسامة خابثة :
افا بس ، صديق وجاي يشوف صديقه وش بتسّجل يعني الكاميرات .. تعال اركب السيّارة
أبو بدر بعصبية بالغة :
ما أبغى أركب معك مكان !
ربّت مرة آخرى على كتفه ولا بصورة أقسى وأقوى:
لا ما اتفقنا على كذا ، بس سالفة صغيرة أقولها لك وأرجعك لا تخاف .. اركب يالله
ركب أبو بدر على مضض وهو خائفٌ بحق ، خائف من رؤية مرشد التي لم يستوعبها حتى الآن وخائفٌ مما سيقوم به
قاد مرشد سيارته ذات الدفع الرباعي لدقائق طويلة حتى وقف بأعلى تلة رملية في مكان شبة مهجور
التفت له وهو يأمره بنبرة تغيّرت تمامًا إلى القسوة :
عشان لا تسجّل الكاميرات إني اعتديت عليك قدام بيتك ، انزل
زفرّ أبو بدر يحاول إكتساب أكبر قدر من القوة ولا يدع مجالًا للصدمة حتى تحتّل منه ، نزلوا ووقفوا متواجهين
يتصدد أبو بدر بوجهه عن مُرشد ، وينظر إليه مُرشد بنظرات قاسيّة وهو يقترب منه :
وش تعلمنا من البراري والقنص يالزميّل؟ إنه إن كان لك حق .. فـ خذ هذا الحق ولو بالقوة ، صح ؟
قالها وهو يسدد لكمة على وجه أبو بدر الذي تراجع للخلف وهو يصرخ بقوة من المفاجأة
لهث مُرشد وشمّر عن ساعديه ليقول بذات القسوة :
ووش تعلمنا من الجبال والصحاري ؟ إن القوي والشجاع دايم يربح صح ؟
أتبع سؤاله بلكمة آخرى جعلت أنف أبو بدر ينزف بشدة وهو صامت رغم ذلك .. صرخ مُرشد فيه بغضب :
كيف طعم الفلوس عجبتك ؟ كيف شفت طعم الغدر يا سافل .. حلو ؟ ياحبيبي تتهنّى عساها زقوم في بطنك
مسك شعره بكفّ يده وسدد لكمة آخرى ولكن هذه المرة لبطنه التي تسبقه .. فصرخ متوجعًا متألمًا
هتف أبو بدر لاهثًا بتعب وقلة بأس :
مرشد ، لحظة يا مُرشد .. لحظة خلينا نتفاهم
زفرّ مرشد وهو يتراجع للخلف ثلاث خطوات ، يتنفس بصورة سريعة جعلت صدره يهبط ويصعد في صورة متواترة بحدة :
نتفاهم ؟ نتفاهم على ضياع 7 سنين من حياتي وحياة عيالي ؟ ولا يهمك يا خسيس تعال نتفاهم
تراجع الآخر عدة خطوات مترنحة حين تقدم منه مُرشد بغضب ، صارخًا فيه :
أغرتك الفلوس وخلّتك تغدر بصديق عُمرك .. هذا مقامك ؟ لذي الدرجة كانت عينك جوعانة ، لذي الدرجة ساويت نفسك بالتراب ! طلقت زوجتك ونسيّت عشرة العُمر اللي بينكم لأنها ما رضت بسواتك ، تركت نص عيالك عندها ونصهم سحبتهم لجهنمك عشان كم بيسة .. كم بيسة يا حقيير
مد مرشد قدمه وسدد ضربة نحو ركبة أبو بدر الذي خرّ راكعًا على الأرض يحتضن ركبته :
يوم كنت أقولك يابو بدر وصلت الرسائل لأهلي ، كنت تقول وصلت ؟
يوم اسألك أهلي بخير وعيالي بخير ؟ كنت تقول ماعليهم باس
وأنت لا وصلت رسايلي ولا وصلت لي أخبارهم .. أنت غارق في العسل ما زوجتك الجديدة وحياتك الجديدة
مد قدمه ونثر الرمل على وجهه متعمدًا ليقول بقسوة :
كنت متخبي ضامن إني ماقدر أرجع والتعميم مستمر علي ، لكن ما كنت عارف مُرشد وش يقدر يسوي !
-انحنى بركبة واحدة أمام وجهه الممتليء بالدم وأنفاسه اللاهثة-
أنا رجعت ، وتأكد من شيء واحد .. إني راح اسحب كل ذا المُلك اللي معيّش نفسك فيه بالحرام حبّة حبّة !
وعشان تتأكد إني صادق ، الدعوى القضائية انرفعت ضدك وضد الخسيس الثاني اللي يقال له نسيبي من اسبوع ! ويشتغل عليها أشطر المحاميين في السلطنة .. يعني لا تتعب نفسك وغيرك عشان تدور مخرج من هالمصيبة .
حلالي اللي سرقتوه بغيابي راح أرجعه طرقًا عن خشومكم السوداء !
استدار تاركًا إياه ينظر إليه بصدمة ودهشة ، ليقول قبل أن يركب السيّارة :
دور لك رفيق ينزلك من هالتلة .. ودام المغرب بيأذن أخوانك الصالحين ما راح يقصروا معك ! عساهم ياخذوك ولا يطلع لك شوف
-التفت له قبل أن يركب بنصف عين-
وايوه صح .. لا تنسى تخبّر الشرطة إن الجن وصلوك لـ هالحالة لأن محد راح يصدقك وأنت جاي وحدك في نص هالتلة
ضحك بسخرية ليركب سيارته وانطلق بها عائدًا إلى الديرة وهو يتنفس الصعداء أخيرًا ، أخيرًا فعل الشيء الذي كان يتمنّاه ، أخيرًا اقتص من المسمى بصديق عمره ولو جزئيًا .. وسوف يسعد حقًا لو اقتّص منه كاملًا بعد أن تنتهي القضية على خير
وصل أمام منزل والده وجلس في السيارة لدقائق طويلة بعد أن صلّى المغرب في طريق عودته واستغفر الله كثيرًا .. ترّجل من السيارة وهو يشعر ببعض التعب لكن هُناك أمور يسعى لتنفيذها دون أن يأجلها
رأى نور سيّارة قادم قريب من منزل والده ، اتضحت عنده الرؤية ليقول :
هلا هلا هلا أخيرًا
خرج قايد من السيّارة المقابلة لسيارة مُرشد ، فتقابلا هما كذلك حتى اقترب قايد راغبًا بتقبيل رأس عمه
لكن مُرشد باغته بصفعة على خده جعلته ينظر إليه بصدمة :
يعني وين ما أروح ألقاك حايس الدنيا من وراك ؟
قايد بصدمة ينظر إليه :
عمي عيب عليك تصفعني وأنا في هالعمر
صرخ مرشد في وجهه ، ويبدو أن ثورته قبل قليل ستعود مرة آخرى في وجه قايد :
أنا تقول لي عيب ؟ وأنت ما عيب عليك مخلي أبوك يترجاك ويترجى مسامحتك؟
ياغبي يا حمـار أبوك ولو رمـاك في النار تقول له سمعًا وطاعة ، ما تحتمي في جدك يالدلـوع وتقول وخروا عني أنا في حِماه
حكّ قايد خده الخشن الذي جلس دون حلاقة لعدة أيام وهو يتنّهد .. أكمل مُرشد بعصبية :
بدال لا رايح تراضيه جالس تناقز لي من مكان لمكان ، أبوك الطيّب الحنيّن اللي ما عمره قال لك لا تسوي فيه كذا ؟ أنت شفت الهـم اللي على وجه أبوك ولا ما شفتـه ؟
جاوبنــي ؟
ارتعب قايد من نبرته التي تعالت بشكل مفاجئ اخافته ،
عمه مرشد لن يتغيّر وقت عصبيته ما حيا .. يمتلك صوتًا حهوريًا وقت الغضب يخرج على أعلى مستوياته مصحوبًا بنبرات الوعيد والتهديد والتنكيل بالعذاب :
ما شفته من لمّا رجعت من الصحراء
مرشد بذات النبرة والملامح الحادة :
والخيبة والله .. ونعم ابن صراحة ! الحين قدامي بتروح وتستسمح من أبوك يا أسود الوجه وتبوس يدينه ورأسه وإن عرفت هالشيء متكرر ومخلي أبوك وراك مثل المذنب يداري خاطرك لأصلبك مثل ما صلبّتك أنت وربعك في المقابر ، والله وأنا حلفت
تراجع قايد بجزع وهو يتذكر واحدة من أسوء الذكريات التي تلقاها هو وحاتم وحامد ذات مرة حينما كانو مراهقين ، حينما وجدهم مُرشد -لسوء حظهم- يتحدثون في أمور سيئة أكبر من أعمارهم ، فعاقبهم أشد عقاب حين ربطهم في مدخل المقبرة ليظلّوا بعدها يحلمون بكوابيس كثيرة ويتبوّلون -بكرامتكم- أسفلهم كثيرًا ، يكاد يقسمون أن مُرشد ربّاهم أكثر مما تربّوا بين كنف والديهم :
عمي الله يهديك أنت تحلف على ولد الطعش بذا العقاب ، ترا كبرنا الله يخليك لنا
مرشد بحدة :
ليش من متى الواحد يكبر على العقاب ؟ اللي يغلط يعاقب .. قدامي يالله
تنّهد قايد :
أصلًا رايح له رايح من قبل لا ألقاك ، أبغاه هو وجدي بموضوع مهم
نظر له مرشد بشك : أي موضوع ؟
تحمحم قايد لوهلة ، عدّل من وقفته ووضعية أكتافه ليقول بابتسامة رائعة :
أنا خطبت وعطوني الموافقة
مرشد بدهشة مما يقول ، وعدم استيعاب :
من هالمجانين اللي وافقوا عليك ؟
كشّر قايد فجأة من تقريع عمه ليقول :
ما تقصد ياعمي ..
-ثم أكمل بابتسامة متسعة .. لأقصى أحد-
خطبت بنت الصقر بن الوكيـل
تصلّبت نظرات مُرشد على وجه قايد وهو يستشّفه وينظر له بدهشة أقرب للصدمة ، وفي خاطره تجول الكثير من الأسئلة
لكنه في الأخير ابتسم .. بل ضحك حتى انتشرت ضحكاته المحيط من حوله ليقول :
صدق إنك تدور الكايد ما أنت حول الهيّن أبد .. الحين وحدة أهلها سفّلوا فيك تسفيل ومع ذلك راكض لهم تطلب نسبهم ! ماعندك كرامة أنت ؟
تقبّل قايد كلامه بصدر رحب دون أن يأخذ بخاطره ، فقال بمرح :
يجيك يوم يا عمّ ويبليك ربي بالكايد اللي ما يعرف للهوانه درب ونشوف وين تودي كرامتك وقتها




انتهى ❤


Salma_3_ likes this.

الكاديّ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 29-06-22, 02:33 AM   #105

الخلووود°`

? العضوٌ??? » 499965
?  التسِجيلٌ » Mar 2022
? مشَارَ?اتْي » 63
?  نُقآطِيْ » الخلووود°` is on a distinguished road
افتراضي

لا لا ماتوقعت انه زينه ممكن تفكر بكذا شي وتقرر انها ترفع قضية خلع على حاتم صدمه كبيره بتكون له اذا عرف
وإلي متأكده منه انه اكيد هوه رايح يتعالج ويرجع لها اقوى وافضل من قبل ما أهيه إلي كانت تطلب منه هالشي صح هوه غلط انه تركها بدون لا يعطيها خبر بس لازم تفكر وتفهم وماتتسرع

Salma_3_ and الكاديّ like this.

الخلووود°` غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 29-06-22, 04:22 PM   #106

الكاديّ
 
الصورة الرمزية الكاديّ

? العضوٌ??? » 490082
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 300
?  نُقآطِيْ » الكاديّ is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة الخلووود°` مشاهدة المشاركة
لا لا ماتوقعت انه زينه ممكن تفكر بكذا شي وتقرر انها ترفع قضية خلع على حاتم صدمه كبيره بتكون له اذا عرف
وإلي متأكده منه انه اكيد هوه رايح يتعالج ويرجع لها اقوى وافضل من قبل ما أهيه إلي كانت تطلب منه هالشي صح هوه غلط انه تركها بدون لا يعطيها خبر بس لازم تفكر وتفهم وماتتسرع

افا عليك، انتظري وش زينة مجهزة لحاتم 👀


الكاديّ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 29-06-22, 04:27 PM   #107

الكاديّ
 
الصورة الرمزية الكاديّ

? العضوٌ??? » 490082
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 300
?  نُقآطِيْ » الكاديّ is on a distinguished road
افتراضي

'
مساء الخير والسعادة يا حبايب، عساكم بصحة وعافية جميعًا يارب ✨
اليوم بإذن الله راح يكون ختام غافة العزم
وموعودين بفصل طويل جدًا جدًا متخم بالمشاعر ✨!
أثرت إني أقسمه، لكن ما وجدت له داعي

موعدنا الساعة 10 مساءً بتوقيت مكة المكرمة ❤

Salma_3_ likes this.

الكاديّ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 29-06-22, 10:07 PM   #108

الكاديّ
 
الصورة الرمزية الكاديّ

? العضوٌ??? » 490082
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 300
?  نُقآطِيْ » الكاديّ is on a distinguished road
افتراضي

بسم الله الرحمن الرحيم

*
*

لا تلهيكم الرواية عن الصـلاة

*
*

الفصـل الخامـس والعشـرون - الأخيـر






-
بعد خمــسة أشهر :
خرجت أميمة من جهة مطبخ الجناح ، ترتدي قميصًا فضفاضًا وبنطال يشابهه في السِعة .. وشعرها المبعثر يعلو قمة رأسها في صورة فوضوية لذيذة محببة للقلب .. تحمل بيدها كوبين من القهوة سريعة التحضير
وضعت إحداها على تسريحة الزينة أمام زيد الذي يمشط شعره المبلول.. أشعلت الجمر ووضعت عليه العود واللبان معًا حتى يحافظ العود على إحتراقه :
اشرب قهوتك زيد توّكم على صلاة الجمعة !
خلخل أصابعه على شعره وهو يقول بابتسامة :
وهو قايد مخلنّا في حالنا .. أذوّة ، يبينا نملكه ظهر بعز الشمس وإلا اللي برأسه يسويه ، لين ما عمي مرشد تدخل وأقنعه يملّك مغرب !
ضحكت أميمة بخفة ، أمسكت بالمبخر جهة زيد :
مسكين ولد عمّي نشفوا ريقه تنشيف ، ما صدّق على الله تهدأ الأمور بيننا وبين بيت الوكيل عشان يقتنع أخو البنت بالملكة
ولما جاء وقت الملكة وش صار ؟ ولدت حنان
ابتسم زيد وهو ينظر إليها بابتسامة متمعنة ، يعلم ما خلف ضحكتها الهادئة من أعاصير قاسية تقتلع قلبها دون هداية .. تدميه وتشطره لأنصاف الأنصاف دون رحمة :
خله يعصب لين يشبع ، بعد كيف يبي عايلته تحتفل وولد حنان تعبان .. الله يطلّعها وإياه بالسلامة
تنّهدت أميمة بخفة ، أختها وابنها الصغير هما ما يؤرقان بمضجعها .. ولدت حنان قبل اسبوع من اليوم رغم دخولها الشهر العاشر ، إلا أن الطفل لم يخرج بعد من العناية الفائقة لمشكلة وجدوها عنده في التنّفس
وها هم يتضرعون لله أن يخرج طفلها سليمًا معافى .. الطفل التي أسمته " حاتـم " أسوةً بأخيها الغائب حتى اللحظة
شعرت بأصابع زيد تتحرك بمنتصف ذقنها ، رفعت عيناها الرائقة تنظر إليه بشيءٍ من الصمت والكثير الكثير من الحُب
همس بصوتٍ هادي جدًا رغم هدوء المكان حولهما أصلًا :
ودّي يوم تجيني وتقولي لي يا زيد أنا حامـل .. يا وقتها راح أشيلش بين النجوم والغيوم ولا اسمح لش توطي الأرض لو هو بطرف أصابعش
عبست ملامحها فجأة ، الأمر الذي أقلق زيد فهو قال جملته بعفوية تامة
وضعت المبخر على التسريحة ليتفاجأ بها ترمي رأسها على صدره وتنتحب .. قلق زيد بشدة فهتف :
ياحبيبتي ليش الصياح ؟ والله العظيم جملة عفوية ماقصدت من وراها شيء
شدّت عليه وهي تحتضن ظهره ، ويمسح هو الآخر على ظهرها ! لتردف بنشيج الدموع :
أنا اللي ودّي وودي يا زيد ، ودّي أعطيك هذه الفرحة ! عشان كذا أنا خايفة إن يكون عندي مشكلة فعلًا
أمسك كتفيها وهو يُبعدها عن حضنها ثم ابتسم بحنو مرح:
وليش ما تكون المشكلة عندي انا .. تبيني أفحص ؟ عادي ترا أنا واحد "أوبن مايند" ولا هي همّي سوالف الـ أنا الشيخ اللي نسلي ما ينقطع
-ضحك بخفة حين رأى ملامح وجهها فقال بهمس-
أنتِ توش مسوية فحوصاتش السنوية ، فيمكن جاء دوري اللي أفحص ! أنا بس مافكّرت بالموضوع كثر اليوم .. ودي أفرّح أمي أكثر مما أفرحنّي
ابتسمت وكادت تمسح دمعها لولا أن منعها وهو يقوم بهذه المهمة بعد أن قبّل عينيها الدامعتين :
يعني نزور الدكتورة ونقول غايته ؟
ضحك وهو يهزّ رأسه بإيجاب :
غايته غايته ( وقته )
صمتا بعد فترة من الزمن .. ينظران لبعضهما البعض بكمٍّ وافر من العِشق والإخلاص والحُب والتضحيّة ! وحده الله يعلم كم كانت الأشهر الماضية صعيبة عليهم جميعًا ، كم جاهد زيد لأن يستعيد صحته وعافيته حتى تستريح وتطمئن والدته
فغرزة شوكة في قدمه هي حد السكيّن في قلبها
كم حاول جاهدًا من أجل أميمة ، ومن أجل السعادة التي أضفتها على حياته .. رغم ذاك الألم المنحشر في بياض عينيها بسبب غياب أخيها الذي طال كثيرًا
مرت تلك الشهور وزيد لم يلتقي بـ أبيه أو أمه .. بل ظل رافضًا رفضًا قاطعًا زيارتهم رغم محاولات نِعمة المستميتة لإقناعه بالعدول عن رأيه .. حتى تعِبت
لكنّه التقى بحاكم .. وكثيرًا ! حاول حاكم تعزيز العلاقات من أساسها وبناء جسر الأبوة نحوه من جديد
فتقبّل زيد محاولاته بصدر رحب لأنه ببساطة .. يشتاق
يشتاق لرائحة أب افتقده طوال رحلة مراهقته المتعبة ورجولته المثقلة
يشتاق إلى تلك النظرة الأبوية الحانية والتي لم يتوانى حاكم عن إغداقه بها .. على عكس والدته تمامًا
همس بعمق وهو ينظر إلى دواخلها :
عندي لش خبر ما أعرف كيف أصنفه
همهمت بهدوء وهي مأخوذة لحركاته السحرية التي يقوم بها ، ليُكمل زيد بذات الهمس :
أتوقع إني أعرف مكان حاتم
ارتعشت شفتيها لوهلة وبتساؤل بطئ :
تتوقع ؟
ابتعد قليلًا ، ليقول بذات الهدوء :
حطيت في بالي كل الاحتمالات إلا احتمالية وجوده في مصر ، لأني عارف ذكريات مصر وش هي بالنسبة لحاتم
بس لأنه حاتم فيعني كل شيء ممكن في حضرة وجوده
كلمت عمي سيف يعطيني أوراق المصحة اللي كان يتعالج فيها عشان ألقى دليل تواصل معهم سواء إيميل أو رقم تلفون واليوم بيسلمني الأوراق وراح أبدأ ابحث فيهم
ارتجفت مقلتيها حتى خيّل له أنها على شفا حفرة من سقوطهن في فيضانات الدموع ، همست :
متأكد زيد ؟ متأكد ؟
هزّ كتفيه بلا دراية وهو يقبل جبينها الدافئ :
لا يا روح زيد ما متأكد ، ولا تاخذش الفرحة قبل لا نتأكد .. هذا مجرد احتمال بس قولي يارب
كررت الكلمة وراءه وهي تبتسم بخفة عميقة جدًا ، وراحة عجيبة تتسلل إلى قلبها ! آمنت وراءه كثيرة ، ودعت مطولًا
حتى رن جرس المنزل فالتفتت لزيد بابتسامة واسعة :
عندي لك مفاجأة صغيرونة ، بس انتظرني أغيّر ملابسي
دخلت إلى دورة المياة وسط دهشته ، فخرجت بعد دقائق ترتدي جلابية مطرزة بالخرز بلونها الكحلي وشيلة بيت عريضة بلونها السماوي
اتجّهت نحوه وهي تقول بحماس :
يالله يالله تعال
ضحك بخفة على حماسها الطفولي ، واتجه برفقتها للخارج حين رن الجرس للمرة الثانية
فتح باب المنزل وأميمة من خلفه لترتسم الصدمة على وجهه بشكلها الكامل وهو يرى الجمع الغفير الذي أمامه
أخواته " جميعهن " لأمه وأبيه يقفن أمامه بهيئاتهن المختلفة وكل واحدة منهن تحمل حقيبةٍ ما
سرعان ما ابتسم حين رأى التردد والخجل ليقول بنبرة ضاحكة :
لا والله يا خواتي من أولها غش وخداع ، حنا ما اتفق على الهجوم الكاسح هذا .. حبة حبة على قلبي
تباينت ردود الأفعال بين تنهيدة مرتاحة ، وضحكة سعيدة ! إلا أن ريناد -أصغر أخواته لأبيه- كان لها ردة فعل مغايرة
حين اتجهت نحوه وارتمت على ظهره متشبثة في رقبته :
وش رأيك بالمفاجأة ، تراها فكرتي خل أقولك من الحين لا أحد يسرقها مني
ضحك زيد ، وضحكت من خلفه أميمة .. انحنى بظهره للأمام وهو يقبّل ظاهر كفها بمرح :
يا أم الأفكار العبقرية أنتِ ، ينخاف منش ترا
تقدمن منه واحدة تلو الآخرى يسلمّن عليه سلام أخوي محبب لقلبه السعيد .. تطور علاقته مع أخواته لأبيه كان أكثر سهولة من علاقته باخواته لأمه
فهن كنّ يأتين كثيرًا مع خالته لزيارتهم وزيارة والدته بالذات ، بل والمبيت معهم أحيانًا
لذاك كان كسر الحدود الجسدية أسهل بكثير، في حين أن الروابط والحدود العاطفية متينة منذ البداية
لكن أخواته لأمه ماعرفهن قط ، فاستغرق وقتًا طويلًا وهو يتواصل معهن من خلف الشاشة .. خاصة مع أروى وأسماء .. التي سلّمت عليه أخرهن
ابتسم زيد بخفة وهو يشد على يد أسماء وسط نظرات أميمة:
السوبر هيرو وصاحبة الحاسة السادسة ، أخيرًا شفناش كـ أخت
ابتسمت هي الآخرى بعينٍ دامعة استغربها زيد قليلًا
لكن بطبيعته المعجونة من ماء نِعمة الحنون احتضن كتفها ورّبت عليه بشكلٍ مطمئن
التفت لأميمة بابتسامة مرحة :
ضيفي لمواصفاتهن السابقة إنهن دلوعات وحساسات .. يعينك ربي على قلوبهن الرهيفة يا زيد
ضحكت أسماء بخجل وهي تتراجع عنه ، لتقول :
لا صبرك علينا .. تونا ما عارفناك زين ولا أنت عرفت اللي ورانا
تدخلت أروى التي قالت ضاحكة :
بتعرف معنى عبارة يا ما تحت السواهي دواهي
في حين انشدّت ابنة حاكم لحديثهن قائلة بذات المرح :
وبتمسك رأسك وتنااادي وتولول يئصف عمري على هيييك بلاء ياربي !
مسك زيد مؤخرة رأسه بورطة :
غنّي يازيد مااا أطول ليلك
تعالت الضحكات من حوله ، فأردف بتساؤل:
وش اللي بيدينكن ؟
ابتسمت رغد ابنة حاكم بحلاوة تخللها بعض الخجل :
عزمنا نفسنا على بيتكم وجبنا غدانا وحلانا وناوين على السهرة عندكم لين الليل .. عندك وقت لنا ؟
ابتسم زيد بإمتنان ، رغم أنه اليوم بالذات لا يملك الوقت نظرًا لملكة قايد وعزيمة أهل عبدالمجيد وجماعته
لكن لا مانع من اقتصاص بعض الوقت لأخواته ، يعني لِما لا ؟
فهو ليس بعهده هذه الأجواء العائلية ولا تفاصيلها الصغيرة :
عندي كل الوقت ، حياكم البيت بيتكم
سارعت أخته ريناد بقولها المندفع :
نبغى نجلس في حوش بيتكم ما نبغى ننحشر داخل في الصالة
ضحك زيد وهو يهزّ رأسه بإيجاب :
على راحتكن ، أميم طلعي لكم مراوح الرذاذ تلاقيهت في المخزن اللي بالمطبخ
ابتسمت أميمة بحب لفرحته العميقة وهمست بخفوت :
حاضر من عيووني
أسرع بخطواته نحو صالة المنزل حيث تجلس والدته .. دخل وهو يهتف بنبرة شبة متوترة لكن رغم ذلك باسمة :
يمه بناتش هنا
ابتسمت نعمة التي كانت تشاهد التلفاز على احدى القنوات المحلية بشرود :
حياهن الله
تقدم منها زيد .. جلس على ركبة واحدة أمامها :
كلهن يمه
توسعت عيناها لوهلة .. ما ظّنت أن بنات سلمى سيقمن بزيارة منزلها -رغم رفض سلمى القاطع منذ زمن لزيارتها اليتيمة هي - ولكن رغم ذلك ابتسمت لهذا الرجل الذي يموج بقلقه لمجرد رؤية أخواته في منزله :
وأنت وش رأيك بزيارتهن ؟
ضحك زيد بتوتر .. رغم ذلك هتف بثقة :
رأيي إنهن اشجع مني يمه .. أنا اللي صدّني الخوف عن شوفتهن صارن هن أشجع مني وخطّت خطاويهن ساحة بيتنا !
بس مدري يمه .. متوتر !
عقدت حاجبيه بخفة .. وابتسمت وسط رفرفة رموشه وتنهيدة صدره وابتسامته الصغيرة :
ليش ؟
خيّل لها أنها رأت إلتماعة عينيه فخفق قلبها وجعًا وكمدًا عليه .. ليُكمل عليها حين قال بخفوت :
دخولهن يمه كان مثل اللي نثر ماي الورد على قلبي بعد ما كان شاب بنار الحسرة .. وجودهن أشعل فتيل المحبّة اللي في صدري بعد ظلمة الوحدة ، أنا اللي جلست أرسم الصور لوجودهن جنبي .. فجأة ألقاهن قدامي بدون مقدمات
ربّتت على كتفه وقلبها الملتاع يلتوي حزنًا عليه ، ماذا صنعت بهذا الرجل المتخبّي في ثياب الطفل حتى تجعله يعيش في وحدة طال أمدها لثلاثين ربيعًا ويزيد ..
كان من الأجدر أن تكشف السر مبكّرًا ، حتى يحظى وينعم بقُرب الأخوات
فالبنات جنّة .. جنّة لكل من تطأ قدماه أرضها
وربما لكانت حياة زيد أقل تحفظًا .. أكثر سعادة مما كان عليها طوال رحلة عُمره الفتيّة
تنّهدت ، والأماني بلا طائل تزيد من لوعة القلب :
لا تترك شيء للزمن يا ولدي ، هالمره أنت اللي بادر وأنت اللي ارسم الصورة اللي تبغاها .. حياتك راحت في شد وجذب
خليها هالمره تكمل في وفاق وراحة ! خواتك سندك بعد الله
ابتسم زيد وهو يقبّل رأسها ، أخذ بكرسيها المتحرك وأخرجها حتى جلست وسطهن وأقبلن يسلمّن على رأسها بذات المودة
فـ نِعمة محبوبة الجميع ..
لأخلاقها وحنيّتها وأمومتها التي تكفي للكل ! أم الجميع وأخت الجميع ، وابنتهن كذلك
جلسوا في جلسة رائقة لأبعد مدى ، لا ينغّصها كدر ولا حزن
تخللها ضحكات زيد المرتاحة ، ونظرات أميمة العاشقة .. وشقاوة ريناد وأخواتها
ائتلفوا سريعًا .. شعروا كما لو أن هُناك رابط يربطهم منذ زمن عاد للظهور في هذا اليوم
فهُدمت الحدود ، وأُبعدت الرسميات .. وأصبح الودّ والوئام على طاولة الوصل يشدو ويغنّي
ارتفع آذان الظهر الأولي ، فوقف زيد وهو يشرف عليهن من أعلاهن ليقول بمرح :
الله أكبر والله حق ، خلاص حش يا خواتي وكل وحدة تمسك سجادتها وتتوجه لربها وتدعي ! خلن البركة تزيد في بيتنا
هتفت رغد بسرعة فاجأته :
بترجع تتغدى معنا ؟
رغم أنها تعلم أن هُناك عزيمة ما ، لكن خانها لسانها لرغبتها في وجوده أكثر .. فقال بمحبة :
ما يصير .. اليوم عزيمة رجال في السبّلة ، بس إن شاء الله ألقاكم بعد الغدى
-ليُكمل بمرح وهو يأشر لأسماء أن تقف معه-
خلوّا بالكم من أمي ، وياويل اللي يرفع ضغطها .. أروى أمي فأمانتش أنتِ الكبيرة عليهم.
ضحكت أروى بخجل وهي تقبض اصابعها وترفع اصبعها الإبهام في رد للإيجاب على كلامه
بينما وقف هو بالقرب من أسماء وأخذ يمشي بجانبها حتى وصلا إلى باب المنزل ، وقال بجدية حانية :
فيش شيء ؟ من جلستي وأنتِ يادوب تمر الضحكات على وجهش .. وعينش تسرح يمين ويسار واشوفش تتهربّي من عيوني ! وش اللي مضايقش ؟
تنّهدت أسماء وهي تفرك يديها ، توتر من أن تضع عينها في عينيه فهي لم تعتاد على أن -تُكاسر- الرجال بنظراتها
لكن زيد هتف بهدوء عميق ، وحان :
شوفيني أسماء .. اكسري حدود الرسميات في وجودي ، عززي راحتش وأنتِ تشوفي عليّ ، خليني أعيش دور الأخ اللي يحاتي ويخاف على خواته
أنا صح عليّمي في هالسوالف ، بس مو جاهل فيها !
شوفي على عيني وقولي اللي بخاطرش
رفعت عيناها له ، وسرعان ما أنزلتها .. احتقن وجهها بألم لتسأله بسؤال مباغت :
في أمل إنك تسامحها ؟
ارتفع حاجبها بدهشة وبانت الصدمة على وجهه ، وحمد الله على صدود وجهها حتى لا ترى تلك النظرة ويزداد ألمها
غلّف ملامحه بالهدوء وقال :
لو كنتِ مكاني ، بتسامحيها ؟
اجترعت ريقها بصعوبة ، وهمست :
ماعرف .. لكن على الأقل سمعت أسبابها
عقد حاجبيه وذاك الوجع الذي تناساه عاد للإنتشار في قلبه :
أسباب ؟ أسماء أنتِ بنت غريزة الأمومة عندش أكبر .. لو تركتي ولدش في المستشفى وهربتي عشان ما تتحملي مسؤوليته أو يمكن لأنش
-وبسخرية مريرة-
لأنش تكرهي أبوه وحبيتي تعاقبيه فيه .. بأي وجه راح ترجعي تطالبي فيه ؟ ناهيش عن إنها ما حاولت حتى تمد حبال الوصل معي
-وبهمس خافت- مثل ما سوى أبوي
أسماء بإندفاع :
ولأن غريزتي أكبر إتجاه أولادي فأنا راح أسعى إني استرجع مكانتي عندهم .. زيد أنت ما تعرف شيء ، ماتعرف عن الأعاصير اللي تموج فيها أمي ! ما تعرف حتى عن اللي واجهته في حياتها قبل
هي تعاقبت قبل وجودك ، وتعاقبت بعد وجودك وااااجد .. واجد والله
شعرت بالدموع على مصاف عيناها ، الأمر الذي أوجع زيد كثيرًا .. أتبكي أمامه وهي من رأته اليوم فقط ؟
تنّهد بأسى ، وقالت بنبرة يائسة :
خلي كل شيء للزمن أسماء .. الزمن كفيل إنه يمحي هالندوب اللي منتشرة على صدري ! ولا تلوميني في شيء
أنا واحد موجوع من هذه السواه اللي ما يسويها إلا معدوم ضمير ومعدوم قلب
ربّت على كتفها بابتسامة وخرج تاركًا إياها تسرح في حزنها ، الأمر يفوق طاقته ولا يحقّ لأحد أن يرشده بما يجب أن يقوم به
هو مثلما قال لوالده تِعب من اللهث والركض .. سيدع كل الأمور تمشي بهداوة ! وحينما يحلّ الصُلح فهو سيحّل لا محالة
حين أغلق الباب وجد حاكم أمامه ، فاندهش
لكن سرعان ما ابتسم بهدوء عميق .. اقترب منه زيد بخطوات بطيئة وسلّم على يده .. انحنى عازمًا تقبيله لكن يد حاكم منعته :
لا تنحني ! ولو عشان رضاي.
شدّ على يده بقوة وهو يقول بصدق :
تظّل أبوي .. وبوسة اليد أبسط شيء أقدمه لك
قالها بصدق عميق .. موجع في عُمقه ، قالها دون تشويه ولا تزوير .. هي كما هي
ابتسم حاكم وهو يرّبت على كتفه :
يكفيني شوفة الصدق بعيونك .. جاهز ؟ جيت أمشي معاك كتف بكتف قدام جماعة العزم كلها
جيت أقولهم هذا ولدي .. سندي وظهري ! بدون تردد
زفرّ بصوت مكبوت دون أن يخرج ، وقلبه يخفق بلا راحة ! كثيرٌ على قلبه هذا اليوم
أولها أخواته .. ثم أسماء وحديثها عن والدته .. ثم والده الآن -كما لم يراه من قبل-
ردد في داخله مثلما كان يردد طوال الأشهر الخمسة الماضية " سبحان الله مقلّب الأحوال "
ليقول بنبرة باسمة :
جاهز يبه .. وإن ما تغنينّا بوجودك مالنا عازة في الغناة !
ليخرجا كتفًا بكتف ، متجهين إلى جامع القرية ثم إلى السبلة بعد ذلك





-
مُرشد ، سعيد ، سيف ، وزيد .. والجد عزّام .. يقفون متقابلين أمام بعضهم في فِناء منزل سعيد ينتظرون نزول قايد -بحلّة العريس-
زفرّ مرشد وهو يأرجح عصاته الخشبية من نوع " الجرز " يعلو رأسها قطعة من الفضة الخالصة بنقوشاتها العربيّة
ثوب ناصع البيّاض و"مصْرّ" أبيض بخياطة كشميرية خضراء فاتحة ، يستكين في خنصره خاتم من الفضة بحجر العقيق
ولم يختلفوا الأربعة الآخرين عنه سوى في لون المصْرّ ونوع العصا الملازمة ليديهم
هتف بضيق :
ولدك وين ؟ هذا اللي حاشرنا يبي يملّك قبل الظهر ومصّر على عناده آخر شيء يلطعنا في الحوش ما بكأنا أعمامه
عقد سعيد حاجبيه في وجه مُرشد ، وقال :
بينزل وش معجلك .. وبعدين ليش شال عصا الجرز ؟ ما من عادتك
نظر مرشد إلى عصاته ذو الرأس الحاد ، الأشبه برأس عصا لعبة الجولف .. ليرفع نظراته نحو سعيد بابتسامة واسعة :
شايف ذي العصا ؟ جاتني هدية من زميلي اللي عايش في خصب (منطقة بشمال السلطنة) وأنا من شفتها نفسي انفتحت .. قلت بس ! اليوم يوم قايد يعني ما بتتكسر إلا في ظهره
هتف سعيد بجزع وهو يلمح الجدية بعينه :
مرشد أمنتك بالله خلي ولدي في حالة وفكنّا من عادة تكسير الظهور .. عندك يد استخدمها ! هذه العصا بتعلّم في ظهره ويمكن ما تروح علامتها
رقص بحاجبيه وهو يقول بابتسامة خابثة :
عزّ الطلب .. ولدك قاهرني له سنين خلني اطلّع قهري فيه عشان يصفى بالي
عقد حاجبيه بغضب :
عيني عليك طول الملكة ، ياويلك لو شفتك مقرّب منه
-
وفي الأعلى ، في غرفة قايد بالتحديد
كان ينهي آخر لمسات زينته التقليدية بالثوب الأبيض ، والمصرْ الوردي .. والخنجر الذي يلتّف حول خصره ! بعطر خلّاب بالغ الفخامة بخليطٍ من العود والعنبر والمسك !
نظر إلى هيئته بشرود .. ما تمنّاه حصل
حطّم رأس عائلة الوكيل وأخذ حفيدتهم له .. له هو سليل العزم ووريث سعيد .. العدو
سعيد .. وسعادته لا يضاهيها شيء خاصة حين تلقّى مباركة والده السعيدة ، بل ورأى إلتماعة الفرحة في عيناه كأنه راضٍ عن خطوته أتم الرضا .. فالمهم أن تأتي رائحة عذاري إلى منزله إن كان قد فقدها هي إلى الأبد
جلس على سريره ، يضرب هاتفه في راحة كفّه بتردد يتضح جليًّا على ملامحه
لكنه أخيرًا عقد العزم ، وأخذ يرن لرقم بات مستكنٌ لوقتٍ طويل في قائمته ! وبعد ثوانٍ جاءه صوتٌ مختلف
متغيّر، بل ومتعبٌ أيضًا :
نعم قايد ؟
زفّر وأغمض عيناه بحسرة ، لا يعلم أين ذهبت تلك اللهفة التي تضرب منتصف قلبه كلما سمع اسمه من فاهها
أحقًا اختلفت زينة مثلما قالوا ؟ أم هو من تناسى حُب سنين نما بقلبه منذ الصغر ؟ لا يعلم
كل الذي يعلمه تلك المسؤولية التي شعر بها حتى يُلقي على مسامعها أمر خطبته -التي تعلمها بالتأكيد- :
السلام عليكم بنت عمي !
خفق قلبها ، ليس لشيء .. ولكن لهذه الكلمة التي فقدتها منه :
وعليكم السلام والرحمة ياولد العم !
قالتها بمودة عميقة لم يجهلها مسمعه ، فتنّهد بصوتٍ مكبوت ليردف بجدية :
شخبارش ؟
هزّت رأسها بإيجاب كأنه يراها :
الحمدلله على كل حال
هتف قايد بذات الجدية ، ولكن بثقة أكبر :
اعذريني أولًا على إتصالي المتأخر يا بنت عمي ، هذا الاتصال كان لازم يصير من شهور لكن ما كانت عندي القدرة أواجه صوتش .. وحالتش ! ولكن يشهد الله إني ما نسيتش ، ولا نسيت أمانة حاتم
عقدت حاجبيها بإستغراب من جملته الأخيرة ،
فهمست بصوت وصل لمسمعه :
أمانة حاتم ؟
تنهّد ثم صمت ، ليُكمل بعد ثوانٍ :
حاتم قبل لا يختفي بليلة جاني ووصّاني عليش ، بالأصح أمنيّ عليش ! رغم ضيقي وقهري منه جاني أنا لأنه عارف وش أنتِ بالنسبة لي .. احنا يا زينة مهما حصل نظل إخوان
واللي يصيب طرف مننا ، يوجع الثاني !
أنا أعتذر إني ما قدرت ألقاه طول هالشهور ، لكن والله ما زلت مستمر في البحث عنه .. وصدقيني إن قاله ربيّ ! فرجعته قريبة
تنّهدت زينة والوجع ينتشر على وجهها ، ومن كلامه ذاك لم ترد إلا على جزئية واحدة فقالت :
معذور ولد عمي .. وعداك القصور
وقف قايد في مكانه ، وشعر بتوتر ما يزور قلبه :
أنا بملّك اليوم
ابتسمت بوهن ، قائلة بصدق :
عساها ملكة مبروكة ، والله يجعلها فاتحة خير على وجهك وحياتك
ابتسم قايد براحة عميقة .. أن يتجاوز صوتها كما لم يكن ، أن يتجاوز كلماتها المنمقة وأسلوبها المهذب .. أن يتجاوز نبرة صوتها المُهلكة لأذنيه ، لأمرٌ يريحه
يعترف في قرارة نفسه أن زينة لم تمر يومًا مرور الكرام على حياته ، بل هو عشقها كما لم يعشق قيس محبوبته
وقف في وجه جميع الأطفال في صغرهم ، يقتصّ من كل واحدٍ منهم حين يقترب منها
ظلّ يحميها منذ صغره ، وفي كِبره ! وبعد وفاة والدها المزعومة ازداد حسّ المسؤولية بإتجاهها
فأصبح يرى نفسه أنه المخوّل الوحيد لحمايتها والمحافظة على ذاتها ، إلا أنه لم يتمكّن من قلبها
جلّ ما يشعر به نحوها الآن هو الامتنان ، إمتنان عظيم لأنها كانت تدفعه للحياة .. كانت تدفع رجولته للثوران ، تدفع شبابه للحِمى ، تدفع قوته للنِضال
كانت -ولا تزال حقًا- مصدرًا للكثير من المشاعر الذي عايشها معها أول مرة .. لذا هو ممتن للإندفاع الذي جعله يرى الحياة بنظرة جديدة
ووجوده في الصحراء لشهور ، جعله ينظر إلى الأمور من زاويتها الصحيحة وينصبها في مكانها الصحيح ! فعرف مدى تفاهة حنقه وقهره من حاتم .. ومدى حُزنه وجرحه من زينة
آمن مراتٍ عدة ، وكثيًرا ما ظل يآمن ليلًا ونهارًا على القدر والنصيّب !
فهما كالسهم ، يصيبان منتصف الهدف بلا إنحراف زاوية :
إذا احتجتي شيء لا يردش إلا لسانش !
زينة بذات النبرة الهادئة ، والصادقة :
شكرًا قايد ، أعني شكرًا على كل شيء قدمته لي في صغري وحتى بعد ما كبرت ! وبالمخصوص شكرًا على وقفتك جنبي وقت تعبي وحزني على أبوي
قايد بثقة أكبر :
انسي ، ما يحتاج تشكريني على شيء سويته من طِيب خاطر .. ولا سويته عشان أمنّ فيش عليه !
احنا عيال عم ، عيال العزم ..مهما كانت الجراح اللي تلقيناها تحت غافتنا راح تظلّ تذكرنا بأصلنا
جذور ثابتة في عُمق الأرض ، جذع شامخ شموخ الثبات ، وأوراق كثيفة تستر جراحنا وتداويها
تذكري هالشيء دايم
هزّت رأسها وعيناها تدمعان من عُمق كلامه ، همست بنبرة مبحوحة :
إن شاء الله ولد عمي ، إن شاء الله
ودّعها وأغلق هاتفه وهو يتنّهد براحة ، لينتهي هذا الفصل من حياته ويقلب الصفحة لصفحةٍ بيضاء آتية ، صفحة تنتظره على بُعد خطوات قليلة ليضع فيها توقيعًا شرعيًا أبديًا برفقة الصقريّة والثوريّة
اتسعت ابتسامته حين تذكرها ، وارتفعت اللهفة في أنفاسها ، فخرج سريعًا وهو يحمل السيف الفضّي ونزل للأسفل
تلقاه عمه مرشد بصرخة ، كانت تفزعه وباتت تضحكه :
سنة لين تتكشخّ أنت وهالوجه ؟ اللي يسمع يقول ولي عهد واقفين ننتظره هنا
ابتسم قايد بثقة وهو يقف بقربهم :
بالله يا عمي ما من حقّي ، كم واحد يتزوج بذي الهيبة والكشخة؟
نظر له مرشد بإزدراء :
لابس لي مصْرّ وردي وتقول لي هيبة ؟ أخس يالبنية !
عقد قايد حاجبيه بقهر ، وبنبرة خرجت حانقة :
ما برد عليك لأنك عمي الصغير اللي المفروض احترمه
مرشد بضحكة ماكرة :
شطور يا بابا
طرق الجد عزّام عصاته على الأرض وهو يقول بغضب :
أنت يا ولد ما بتكبّر عقلك عن عيال أخوك ، حاط دوبك من دوبهم
امشوا العرب ينتظرونا في السبلة والمليّك واصل من ربع ساعة .. وأنسابنا موجودين هِناك لهم فترة
ضحك سيف وهو يقود والده إلى السيارة على ملامح وجه مرشد التي امتضعت من كلمة "ولد" التي يمقتها كثيرًا :
تجيب الكلام لنفسك يا رجال ، يلا خذ معك قايد وسعيد وأنا معي أبوي وزيد
دقيقتين يا مُرشد لا تلف وتدور بالعريس ترا المليّك ما عنده كل الوقت لهبالكم
اقترب زيد من قايد وهو يحتضنه ويبارك لهم بصوتٍ هامس في أذنه ، ليرد عليه قايد بابتسامة أكبر
شعور -العريس- الذي يعيشه ، شعور رائع بحق ! أمال نحو عمه مُرشد بهمس :
ياخي عمي ليش ما خبرتني كيف شعور العريس بليلة ملكته
التفت له مرشد بسخرية واضحة :
وأنا وش دراني بالمشاعر الغبية ذي ؟ اختباري كان قبل أكثر من 26 سنة أمداني نسيت الإجابة
هزّ رأسه سعيد بيأس واتجه متقدمًا نحو السيّارة وهو يقول :
الولد طالع على عمه .. خلكم في هالمناقرة لين يروح المليّك وتتأجل الملكة
شعر قايد بالجزع ، تأجيل الملكة ؟ سيموت لا مُحالة
يكفي أن ملكته تأجلت كثيرًا وسط محاولات إقناع ذياب لعائلة أبيه .. وحين تحدد الموعد أخيرًا تأجلت ( حفلة التلبيّس ) بسبب ولادة حنان ! الأمر الذي تقبّله قايد على مضض بعد أن أشعل الدنيا بسبابه وشتائمه لحنان التي بظنّه ( ولدت في الوقت الخاطئ) فهو بذلك لن يستطيع رؤية الجوهرة
لكن حتمًا ما يخطط له أبعد من رضاه عن موضوع التأجيل
فابتسم بخبث وركب السيّارة متجهين إلى سبلة العزم
-
-
انتهت الملكة على خير ، وأصبحت ابنة الصقر زوجةً لابن العزم ..
ائتلف البحر بالجبل ليكونّا تضادًا ناصعًا بالقوة والثقة والخيلاء
كانت السبلة تضجّ بالمهنئين ، كأن القبيلتان أرادتا أن يثبتا قوة كل واحدة منهم بالسند والظهر .. بل وجميع أهل القرية تهاتفوا ليروا هذا الاجتماع التاريخي
فمنذ الثمانينات ، لم يجتمعا بيت الوكيل وغافة العزم في مكانٍ واحد ..
تلقى قايد تهنئات أبناء الوكيل الممتعضة فلم يعرها اهتمامًا، وتلقّى كذلك تهنئة شيخ الوكيل الذي ألقاها على مسمعه بهدوء مخيف قائلًا له
" حفيدة عيني تحطها بعيونك الثنتين وبين ضلوع صدرك ، لا ينغز جلدها الرقيق غرزة شوكة وتطيح منها قطرة دم وحدة .. وقتها والله يا ولد العزم لأكرر الماضي وأدمّر المستقبل "
ليردّ عليه قايد بكلمة واحدة ، واثقة ، متأنية ، قوية ، ولاهبة
" بعيوني "
مرّ ذياب من أمامه وهو يسلّم على ذاك ، ويرحب بذاك
فأمسكه قايد من عضده وجذبه إليه ، هتف ذياب بابتسامة :
جايك يالنسيب بس خلّني أرحب بجماعة أم ذياب
هزّ رأسه بالنفي ثم هتف بجدية :
ثواني بس
-التفت يمنة ويسرة ليقول بقوة واثقة-
أبغى أشوفها
اتسعت عينا ذياب بإندهاش حين علِم من المقصودة ، ليقول قايد بذات الجديّة :
الناس بيتغدوا وبيسري كل واحد منهم لبيته ، وحفلة التلبيس السخيفة هذه من الشكليّات اللي راح نتمّها بالسلامة
بس من حقي أشوف زوجتي ، ولا عندك إعتراض على حق ربي يابو صقر؟
اعتدل ذياب في وقفته واقترب منه هامسًا بجدية :
ماعندي اعتراض يا قايد ، لكن لو إنك متكلمّ قبل كان ممكن أمشيها .. هالحين اسمح لي ماقدر أعجّل أختي على شوفتك
نظر قايد لساعة بجلدها الاسود وخلفيتّها الصدفيّة :
عندك نص ساعة ، كافية إنها تتجهز !
تنّهد ذياب بتردد واضح ، فهو لا يحق له الرفض .. حتى عاداته التي تربّى عليها تسمح له برؤية زوجته في منزلها ! لكنه لا يضمن ردة فعل الجوهرة على ما اقترحه قايد
إلا أنه قال أخيرًا :
زين يا قايد لك اللي تبيّ ، بس عطني ساعة مب نص ساعة ! عيب تترك ضيوفك وتمشي
قالها بابتسامة قابلها قايد بابتسامة أكبر مزفرًا في راحة ، فهو كان متخوفًا من ردة فعل ذياب على طلبه ! وها قد بدأ بعد الدقائق في هذه الساعة التي أُعطيت فاصلًا بينه وبين لقاءها
اتسعت ابتسامته حين مرّ من جانبه مُرشد بكبرياء :
حاط لك حرّاس تحسب ماقدر أكسّر هذه العصا في ظهرك ، ترا خالد وحامد أطيحّهم بشوتة مني
زمّ شفتيه لكيلا يضحك ، عمه مُرشد بات مصدر الضحكات لثغره الحاد ! كثيرًا ما "يتناقرا" بخشونة وقوة لكن ما يلبثا أن يعودا "سمنٍ على عسل" :
عمي ترا ذي العادة انقرضت ، آخر مرة شفناها في عرس جدي عزام
رفع مرشد حاجبه :
يا كذاب وأنت كيف حضرت عرس جدك عشان تقول إنك شفتها ؟
رقص بحاجبيه في صورة ماكرة ، يهوى مناكشته حقًا :
مال أول أنت ، العلم تطور وصرنا نشوف الماضي حتى لو ما كنّا فيه
وقف مرشد بجانب وداس على قدمه بإمتعاض :
ياكثر ملاغتك ياولد ، وين عبدالمجيد ؟
عضّ قايد شفته بألم من قدم مُرشد ، وهمس بإمتعاض أكبر :
شوفه واقف عند باب السبلة ينتظر الناس تروح عشان يركض عند حرمته المنحوسة وولده الفار !
ابتسم مرشد ابتسامة خبيثة :
عزّ الله إنها بنت عمّها مُرشد ، ضيعّت عليك شوفة الحبايب هاه ، تستاهل ياولد سعيد
-غمز له بمكر-
شوفة ممتعة لحرمك المصون ولا تنسى تضبّط عمك
مشى مو أمامه متجهًا لعبدالمجيد ليضحك قايد بخفة وهو يهمس :
بسم الله الرحمن الرحيم منك يا عمي السكنّي !





-
يجلس منذ ربع ساعة ويزيد في مجلس عمّ ذياب بقريتهم ، ينظر إلى الباب آنًا ، وإلى ساعته أنةً آخرى
يطرق قدمه في الأرض بتوتر ، أيكذب إن قال أنه ليس بمتوتر ؟ يكذب والله
وشعورٌ بالتوق إليها يكتسح فؤاده ، يتوق رؤيتها بلا حواجز !
بلا ذاك "البرقع" البغيض الذي يحجب عنه اكتمال الصورة
بلا عباءة الرأس الضافية التي تخفي عن عينيه جسدها الأنثوي وشعرها البدوي !
يتلّهف كما لم يتلهف من قبلٍ على شيء لرؤية ملامحها كاملة .. ولولا ذاك البرقع التي نادرًا ما تنزعه من وجهها لاستطاع رسم الصورة في عقله
لكن ما يوقنه تمامًا ، وما هو مستعدٌ لمجابهته بكل عتاده هو عيناها الصقريتان .. التي سيدخل معهما في معركة خاسرة منذ البداية
زفرّ وهو يمسح على صدره يهدئ من نبضات قلبه السريعة :
اعقل قايد ، اعقل لا تصير خفيف بزيادة
قال جملته بهمس في اللحظة التي فتح فيها ذياب الباب مرحبًا بصوته العالي :
يا حيّ الله قايد ولد العزم ، يا حيّ الله نسيبي الجديد
وقف قايد بطوله وجسده العريض ، عينيه الحادتين انتقلتا مباشرة للجسد الملتّف بالسواد لا يظهر منها سوى وجهها وكفيّها بابتسامةٍ خجلى
ومن خلفهم هي .. نعم هي !!
دخلت كـعادتها حينما تتواجد في مكان ما .. بسيطرتها المفروضة ، بحضورها الخلّاب .. بثورتها العنيدة ! بصقريّة نظراتها
مرتدية لجلابيّة تنطق فخامة ورقيّ ، ينسدل فوقها قماش شبكي أسود بأطراف مذهبة، وأصر الذهب التقليدي إلا أن يغازل يديها ونحرها في هذا النهار
ارتفعت عيناه لا إراديًا نحو وجهها فابتلع ريقه بعيدًا عن نظرات ذياب ووالدته ..
وجهها ! بحدّته الرقيقة
أنفها الشامخ ، شفتيها المكتنزتين، شعرها الليلي -يقسم أنه لم يرى أكثر سوادًا منه- وعيناها
آه من عينيها الصقريتين .. مجنونةٌ حين زادت حدّتهم بكحلها العربي الأثيير ! قاسيّة ، حتى في حضورها اليوم قاسيّة
تقدم بثبات مصطنع تمامًا ، فالرعشة في يديه تزداد
قبّل رأس أم ذياب
التي احمّر وجهها ، فهي لأول مرة تراه شاخصًا أمامها .. فهمست :
الله يكبر قدرك يا ولدي
جلس ذياب بجانبه وبدأ بالكلام درءًا للحرج الذي استطاع رؤيته في وجهه ، وبالمقابل جلست هي ووالدتها جنبًا إلى جنب
بجلسة واثقة ، متصلبّة ، متلبسة بثياب الخجل والحياء !
ليست صغيرة سن حتى تتصرف بتصرفات هوجاء طائشة ، بل حاولت بكل ما تحمل من قوة أن تظهر الهدوء على ملامحها
فلا تنكر خوفها الفطِري من هذه الخطوة التي أقدمت عليها .. الرجل الذي لطالما نعتته بالـغبي ، أصبح فجأةً زوجها شرعًا وقانونًا ! الرجل الذي عاشت معه في المنفى لأسبابٍ مختلفة .. يُصبح رجُلها
تفاجأت بإنسحاب والدتها وأخيها من المجلس بخطوات سريعة ، وشعرت لوهلة بإنخفاض الأكسجين في دمها
وعيناها ما زالتا تنظران نحو الأرض ، عاجزة -وياللغرابة- عن النظر في عينيه التي أرقتها كثيرًا
شعرت بتقدم خطواته ، وجلوسه بجانبها ، بل الإلتصاق به
ويده التي تسللت -لشيلتها- السوداء التي كانت تضعها بإهمال على منتصف شعرها تسحبها وتبعدها
فارتجفت ، ليشعر بإرتجافتها ويبتسم بخفة عميقة .. عميقة لدرجة الظلام القاتم بنورٍ وحيد ينير قلبه اسمه الجوهرة
قبض على يدها المستريحة على فخذها ، ولم تحرّك ساكنة :
مبارك علي أنتِ يابنت الصقر
قالها بهمس حنون، حنون للغاية خرج من جُب قلبه ، وحين طال صمتها أردف بابتسامة أكبر :
ترا عندي وقت محدود ، لو ما تكلمتّي باخلّي ذياب يمدد الوقت لين اسمع صوتش
أخذت نفسًا عميقًا وداخلها يرتجف خجلًا وحياءً ، وهو يصرّ إصرارًا مباشرًا على كسر هذا الخجل :
أقول مبارك علي أنتِ يالجوهرة
هتف بها مرة آخرى لتُردف بنبرة واثقة -لكن مرتجفة- :
الله يبارك لنا جميعًا
اتسعت ابتسامته وزفرّ براحة كأنما كان يحبس نفسه واستراح بعد سماع صوتها :
وين بنت الصحراء اللي ما خلّت نعت ما نعتتني فيه ؟
تحول وجهها للأحمر القاني وهي تتذكر تلك الأيام ، وقد رقّ قلبها للقب الذي لقبّها به " ابنة الصحراء " ياه ! يا لغرابة تشبيهه
ظل قايد يمعن النظر في وجهها ، كأنه في سباقٍ مع الزمن يريد فقط أن يمتصّ جميع جزئيات وجهها وحدوده ، يريد الاستقاء ودرء الظمأ عن قلبه بعد طول خُطى
هذه المرأة الأنثوية التي أمامه ذات جمالٍ بدوي خالص ، جمالٌ نبت من عُمق الصحراء ونعومة الرمل وحفيف الشجر اليابس ! جمالها يأكل فتِات القلب من رقّة حدته .. ويالروعة تضاد ملامحها !
أخرج من جيبه علبة زرقاء غامقة ، وهو ما زال ممسكًا بيديها المرتجفة بين يده الكبيرة فاتضح الخاتم الماسي الرائع بعد أن استضاء بإنارة العلبة المسلطة عليه :
حنا عرب ما نعترف إلا بالذهب الأصفر لأن مافي شيء يماثله في أناقته وثقله ..
بس لمّا شفت هالخاتم عرفت إن الألماس لناس .. وناس
-أمسك بالخاتم وألبسها إياه ليقبّل يدها المرتجفة بتروي وبطء-
وأكيد هالناس .. كلها أنتِ
نظرت إلى الخاتم الرائع بنظرات لا تعرف كيف تصنّفها حقًا ، لكنه كان خاتمًا براقًا راق على استحسانها :
الجوهرة أنتِ راضية على هالزواج ؟
فاجأها بسؤاله الجدي فرفعت عيناها تنظر إليه بإستغراب هامس :
ليش هالسؤال ؟
-اعرف إنش ما أول مرة تشوفيني ولا أول مرة تتعاملي معي ، فلـيش أحس إنش متصلبّة شوي ؟
صمتت الجوهرة لثوانٍ قليلة ، ثم أردفت بنبرةٍ خجلى :
وليش ما تقول إني على طبيعي وإن هذه شخصيّة الجوهرة
اتسعت عيناه لوهلة ، ثم ما لبث أن تناثرت ضحكاته هُنا وهناك ليقول بمرح :
والإنسانة الناريّة اللي تعاملت معها شهور بنت من كانت ؟
ابتسمت الجوهرة ابتسامة سرقت لُب قلب قايد ، لدرجة أنه فغر فاهه في صورة مضحكة حقًا :
الظروف كانت تحكمني أتخلص من هذه الشخصية عشان أواجهها بشخصيّة أقوى .. ما كانت عندي رفاهية ذيك الحياة حتى أتعامل برقّة وهدوء مع الظروف
صمت قايد مبهوتٌ بجمال ابتسامتها للحظة ، ثم قال بهمسٍ متقصد :
خلّش قدامي دايم على سجيتش ؛ وخليني أكون سبايب هالابتسامة !
هزّت رأسها على إستحياء ، وهتفت بعدها بنعومة :
قايد ، ليش اخترتني ؟
سكن للحظة بإسترخاء من سؤالها المتوقع ، بما يجيبها ؟ يحتاج للوقت ، والوقت فقط حتى يسطّر الموشحات لإجابة سؤالها
مال عليها هامسًا عن قُرب :
أما عن السؤال فأنتِ إجابته .. وأما عن الجاي ، فأنتِ أهم تفاصيله










-
بعد 4 أشهـر أخرى :
-
اقتربت أميمة من زيد فور رؤيتها لدخول نِعمة إلى غرفتها تجرّ نفسها بكرسيها ، تلمح ذاك الضيق المسيطر على وجهه منذ الصباح ! لكنّها فضلت السكوت حتى لا تنتبه نِعمة وتشتعل قلقًا على ابنها
وضعت كأس الشاي الأحمر بورقة نعناع يتيمة أمامه ، وجلست بجانبه لتمسّد ظهره بحنانٍ لا ينضب :
مشغول بالك من يوم الصبح ، وش فيه الهمّ ما ملّ من وجهك ؟
تنّهد زيد وهو يتناول كأس الشاي ويرتشف منه رشفة واحدة ، التفت ينظر إلى ملامح وجهها الحنونة . ملامح أم لا حبيبة وزوجة .. هتف بشرود :
حيران ، ومتضايق !
وضعت ذقنها على كتفه ، وهمست بالقُرب من أذنه :
شاركني حيرتك وضيقتك خلني أخففها عنك !
همس زيد وهو ينظر إلى نقطة معينة بذات الشرود :
9 شهور مرت وماقدرت ألقى صديق عُمري في أي بقعة هو ، 4 شهور كاملة أكلم المصحات وحتى المصحة اللي كان فيها بدون أي رد يبرد القلب .. وهم متحفظين على أسرار مرضاهم واجد ! وين بلقاه من بين ملايين النسمة اللي في مصر ؟
همست أميمة -فهي تعلم هذه المعلومة- :
وبعد ؟
أكمل زيد بتعب :
وأم أسماء اتصلت فيني !
اتسعت عينيها من المفاجأة ، أم أسماء .. سلمى بحد ذاتها :
أمك ؟
قالتها بنبرة مشدوهة ليلتفت إليها زيد بضيق وحنق :
بأي عُرف هي أمي ؟ شوفي أميم ما حتى قادر أناديها بأمي خوفًا من إني أجرح مشاعر أمي اللي ربتني
هدأت أميمة من ثورة إندهاشها لتقول بتعقل :
ياحبيبي أمي نِعمة أعلنت رضاها عنك وعن أي خطوة بحق أهلك من زمان .. الأمر بعد الله كله بيدك ! وش قالت لك عمتى سلمى ؟
صمت زيد والحزن يرتسم على ملامحه ، والقليل من الحسرة :
كانت تبكي !
ازدادت الدهشة في وجهها ، همست :
تبكي ؟
هزّ رأسه بخفة وقال ناكسًا رأسه للأرض كأن الهم تمكّن منه :
تبكي لأنها حسّت في هذا اليتيم متأخر ، تبكي تبغاني أسامحها .. وتبغى تلقاني
ارتفعت دقات قلبها بحزن عليه :
وش قلت لها ؟
ابتسم زيد بخفّة ، ابتسامة مملوءة بالوجع والحسرة :
قلت لها بسنّي عقوق .. إن جيتش ما تصديّني
بروح لها ، خلني أسمع أسبابها وأكفي نفس من طول غِياب وطول عقوق
اتسعت إبتسامتها براحة عميقة اختلجت قلبها ، تعلم أن زيد كان يريد أن يخطو هذه الخطوة منذ زمن .. بالأصح منذ أن حادثته أسماء قبل عدة أشهر
استغرق الأمر منه مطولًا لكي يتشافى من وجعه وآلامه التي سببتها والدته -الصدقيّة-
وبعد مناقشاتٍ مع عقله علِم أن الدنيا بقصيرة .. أخذت منه والده عبدالله وهو لم يشبع منه ، فلا يُريد أن تنسّل سعادات صغيرة آخرى من بين يديه تحت مسمى عائلة وأخوات
وما المانع من أن يحظى بأميّن ، وأب .. وعشرات الأخوات
قبّلت كتفه برقة ناعمة ، همست كأنها تسترجع ذات الجملة التي قالتها لزينة قبل سنة :
هونها وتهون حبيبي .. بكرة بتشوف هذا الوجع كله مضى وصار بخبر كان !
-أكملت بإستفسار مهذب-
وحيرتك ؟ وش منها ؟
كان أن يرد لولا أن قاطعه رنين هاتفه الذي تعالى ، فانتفض من مكانه جزعًا بسبب صوته العالي وتساقطت بضع قطرات على قميص النوم المنزلي الذي يرتديه
ضحكت أميمة وهي تبتعد عنه وتقف في مكانه :
يوه زيد خففّ من هالنغمة كأنك في ثكنة عسكرية ، بقوم أجيب لك قميص نوم ثاني
اتسعت ابتسامته وهو يضحك على -خفّة قلبه- ليقول بهدوء :
لا حبيبتي جيبي لي دشداشة بيضاء وكمّه ، وراي مشوار للسوق
رفع هاتفه بعد أن مشت أميمة لجناحهم وعقد حاجبيه من الرقم الدولي على هاتفه ، ردّ على الرقم وهو خالي البال ليأتيه الصوت البعيد .. البعيد جدًا رغم قربه :
زيـد !
هدر قلبه بعنف من هذه النبرة التي اشتاق لها كثيرًا
حاتم !
يقسم أنه هو وكيف ينسى نبرته المميزة بصوته الأجش
صمت طويلًا ليقول بعدها بنبرة محمولة بالعِتاب :
عاش من سمع صوتك .. يابو ليــن !




-
يمشي في زقاقٍ لا ينام ، زقاق تعود المرور إليه طوال فترة إقامته في هذه المنطقة
الصخب -ولأول مرة- يجعله يشعر بأُلفة غريبة تحيط به
وكأنه .. ليس بغربةٍ نهشت من روحه عُمرًا ، ومن قلبه حياة
يكاد لا يبصر أين يضع قدماه من شدة الإزدحام !
كيف ولا ؟ وهؤلاء الناس يشكلّون صورة خلابة لإيطار يحمل التفائل والشجاعة والشرف .. والعزم
مرّ على أحد المطاعم الصاخبة في حيٍّ متواضع ، واستأنس للعامل المصري المكافح الذي يعمل ليله بنهاره هُناك
سلّم يده رافعًا ودعاه للجلوس .. فقد اعتادوا على رؤيته يمر من هذا الزقاق لشهورٍ طِوال
استأذن منه على عجاله وتعذّر من قبول دعوته ، رغم أنه كان يريد دعوته بملء قلبه فهو سعيد
سعيد جدًا لما آل إليه تقدّمه في العلاج النفسي الذي آثر أن يخضع لقبضته بدلًا من أن يخضع لدمار حياته القادمة بأكملها
فهُناك ما يستحق أن يعيش من أجله .. هُناك هي
هي بعينيها الساحرتين ، وسخريتها المحببة ، وتمنّعها الرقيق
واعترافها المتأخر !! اعترافها .. واعترافه كذلك الذي طال أمده
خرج من أرض .. رجلٌ صامت ، ليصرخ في أرضٍ آخرى بجميع كلمات الحُب والهيِام .. لها وحدها صاحبة العزم
هل اجترتّه يدا العِشق نحوها ؟! نعم فعلت ومنذ زمن
منذ زمنٍ بعيد .. وموقف أبعد !
بات في طيّات نسيانها ما مات في عقله رغم عُطب ذكرياته
هل غرق في بحر الهوى بعد أن كان ربّان السفينة المتمكن؟!
غرق .. ويالجمال هذا الغرق العميق إن كان بين أحضانها
هل حلّقت به جناحيه نحو سماءٍ لا تعرف إلا غيوم روحها ؟!
بلى! حلّق حتى ما عاد يشعر من فرط تحليقه بالتعب
كيف لا ؟ والتعب والوهن عثراتٍ خُلقت من أجل الوصول إلى نعيم جنتها
تنّهد بعمق الشوق في قلبه وهو يصعد السلّم في العمارة التي يقطن بها منذ شهور !
فتح باب شقته الصغيرة وولج للداخل ، لداخل غُرفته بالتحديد
جلس على السرير وأخرج حقيبة بأرقام سريّة كان قد اشتراها فور وصوله .. يضع فيها كل أوراقه الثبوتية حفظًا من السرقة
وكعادته .. حين يتآكل بصمتٍ من الشوق ويجترع علقمه فإنه يبحث عن ما يستزد منه في تلك الورقة
ورقة زواجهما ، فحوى توقيعها البرئ الخجول -المستغرب- !!
وتوقيعه الواثق الصاخب -المتردد- !
الورقة التي قرنتهما ببعضهما البعض مسطّرة أبهى قصص الغرابة، والإستحالة
ورقة تثبت أنها ما زالت ملكه وملكته .. بل مملكته بأكملها
ورقة تثبت أنها له .. حقه !!
وكيف كان ليستزيد من طريق الغربة لولا وجودها
الغريب أن غيره كان ليحتفظ بصورة ، بدبلة ، بقبلة ، بخصلة شعر، بذكرى معنوية
لكنّه هو .. هو الغريب الذي لا يخضع -للطبيعيّة-
آثر الإحتفاظ بورقة زواج !
فأين وصل سهم الغرام في هذا الرجل الذي كان مضجرًا بدماء السوداوية ؟
زفرّ بقوة فضحت شوقه العارم وأعاد الورقة إلى الحقيبة !
لكن يده اصطدمت بها لتقع على الأرض وتنتثر أوراقها جميعًا ملء الغرفة
نظر إليها بحنقٍ وغيض !!
جلس على الأرض وبدأ بحصر الأوراق وترتيبها داخل الحقيبة كما كانت قبلًا !
انتبه لورقة مطويّة بشكلٍ مستطيل وكأنها كانت مختبئة بين عدة أوراق .. عقد حاجبيه بغرابة فهو لم يشهدها هُنا من قبل !
قرأها بسرعة .. ثم ما لبث أن تباطأت تدريجيًا تزامن معها اتساع عيناه ودقات قلبه
ورقة فحص .. ليس بأي فحص !
فحص حمل، وباسم زينة بنت مُرشد !
وقعت عيناه سريعًا على النتيجة .. لترتجف يداه بشدة صاحبها ارتجافة يده
النتيجة تقول أنها إيجابية .. النتيجة إيجابية !
هذا يعني أن زينة، زوجته، حبيبته وابنة عمه حامل .. بطفله هو !
نقل نظراته نحو التاريخ ، لتنطلق من بين شفتيه المطبقتين شهقة قصيرة ذبحت ما تبّقى من أملٍ فيه صدره !
التاريخ تمامًا قبل 9 أشهر .. 9 أشهر كاملة ، ومناسبة حتى تضع حملها
الصدمة ألجمته ، وبذات الوقت سيّرته ! سيّرته لإلتقاط هاتفه والرنين لرقم بات نائمًا لوقتٍ طويل في دفتره
رقم يحتاج منه سماع الحقيقة لا غير !
بل رقم يرجو أن ينفي هذه الحقيقة فليس مستعدًا لثقلٍ آخر يضعه على ميزان ضميره
طال الرنين وقلبه -يتراقص- رعبًا ورغبةً عميقة .. حتى فُتح الخط أخيرًا ليقول بلهفة صوته :
زيــد !
صمتٌ عميق موحش و"قاتل" لروحٍ حاتم المغتسلة بسواد ذنوبها .. صمتٌ ظل يكويه بنارٍ حارقة !
ولم يجرؤ هو على النطق، كيف يقول وما يقول ؟ ضاعت منه أبجديات الحروف ليعود طفلًا صغيرًا ينتظر توبيخ معلمّه على تعثّره
لكن ما لبث أن جاء صوت زيد بنبرة حملت الكثير من نفحات العِتاب
ومن بين جملته .. كلمة واحدة ذبحته :
عاش من سمع صوتك .. يابو ليـن !
خرج صوتٌ يائس من حنجرته ، فرد قدميه أمامه واتكأ بظهره على حافة السرير في صورة يائسة لا تليق بحاتم .. أبدًا
هو حادَث زيد حتى ينفي ما قرأه ، وها هو يؤكد عليه أن الأمر قد وقع
وقع كالنقبلة النووية ، حطمّت ما حولها وحولته إلى أشلاء .. وقلبه واحدٌ منها !
تمنى لو لم يستفتح زيد عتابه بكنيته الجديدة ، تمنّى لو أن أمهله قدرًا من الوقت حتى ينتقل من جحيم مستعر إلى آخر برفقٍ وتروي
تمنّى أن الورقة كاذبة !
والنتيجة خادعة !!
تمنّى لو أنه لم يفتح تلك الحقيبة ، ولم يرها
تمنّى .. تمنّى لو أنه لم يُسافر متعذرًا بعذره السخيف -لنفسه-
ظل يكرر الاسم الصغيّر .. اسمها ، ابنته
فليس غبيًا ليعلم أن زينة قد وضعت حملها ، وأنجبت فتاة
لكنّ الصدمة -التي يتأرجح بينها كالحُلم واليقظة- ما زالت تصمّ بلسانه وتُعمي عينه :
أبو لين !!
قالها بهمسٍ ميت ، شفوق وملتاع !
همسٍ لم يعطْ لزيد بطاقة رحمة لقلبه !
فاجأبه بصوتٍ غاضب ، حانق ، متألم :
عاش من لاقى أخبارك ، عاش وسط خوف وحيرة 9 شهور !
قرّة أذني بصوتك .. ربيعك وأخوك وشريك دربّك
عساك مرتاح بس بعد المعمعة اللي دخلتنا فيها ؟ عسى قلبك ارتاح بعد ما هدّيت كرامتك الغبيّة وضميرك الأغبى ؟
كيف كان الدرب يا أخوي ؟ بشرني بسّط لك قلبه وأفرد لك قلبه
كيف مصر معاك ؟ عساها استقبّلتك مثلما عُمان لفظتك وراها
كان زيد يتراقص غضبًا وحزنًا !
ربما لأنه مجروح بحق من تصرّف حاتم
هما اللذان كانا التؤام لا يفترقا منذ الطفولة وحتى الشباب ! لا غصبًا عنهما ولا بإرادتهما
ليفعلها حاتم على حين غرةٍ منه حتى لا يكشف أحدٌ عن ألمه وتألمه
كرامته -كما يزعم- لا يليق بها أن تهتز خجلًا لمجرد مساعدة ، أو مؤازرة سخيفة :
زينة يا زيد ؟
قالها بنبرة مستوجعة لينتفض زيد غضبًا وهو يزيد من -عياره- قليلًا :
زينة يا حاتم، زوجتك واللي المفروض توّقف معها تآزرها في صدمتها برجعة أبوها !
زوجتك اللي عافت الجبل وبيت الجبل واعتصمت بشقة صغيرة ما تليق ببنت العزم !
بنت عمّك اللي هربت من ماضيها بعد ما لاحقها حاضرها وأشبعها المستقبل خوف
وخلّي صاحبة الشأن على جنب .. اللي هي سبب إتصالك اليوم بعد صوم 9 شهور
وش عنّي أنا ؟ اللي شاركك ضحك الطفولة ، وجنون المراهقة وعقل الشباب ؟
وين كنت منّي لما قررت هذا القرار الرهيّب .. وين كان موقع زيد من إعراب حياتك حتى تنفيه بقسوة ؟
انزين ماعليه خليني أنا أخوك الروحي اللي لاقى عايلته الحقيقية أخيرًا
وش عن أخوان دمّك .. حامد اللي استقبل ولده وحنان اللي جابت سميّك ؟ وينك عن أفراحهم وأتراحهم بعد ما قررت تهرب بعيد عنهم
وش عن أمك وأبوك يا عاق ، ياللي سمحت لهم يعيشوا هذا الشعور بغياب بِكرهم
-خلاص !
همس بها حاتم بتعب ، ليصرخ زيد بحرقة قلب :
اشبع من الغُربة يا حاتم وخلّك تتمرغ فيها .. اللي ما يحتاجنا في حزنه وألمه ما نحتاجه في فرحنا وسعادتنا
اختلجت عضلة فكّه وألم زيد انتقل إليه عبر الأثير بصورة موجعة !
يالله هل هذا حقًا "زيد الحنون "؟!
هل هذا من قال له ذات مرة أن لا يقسى لأن القسوة حينما تأتي من "الحنيّن" ، -توجع-
هل هذا رقيق القلب، قليل العِتاب، كثير العطاء ؟
إن كانت هذه ثورة زيد ، فكيف ستكون ثورة الباقي ؟
كيف سيفسر لهم غيابه الذي اختاره -وحيدًا- حتى يجنبهم القلق -جميعًا-
تجاهل جميع عتابه الحارق وما يشغل باله أمرٌ واحد :
زيد أنا صرت أب ؟
بنبرة مشتاقة قالها .. قالها فعلًا بشوق من تمنى الذريّة طوال حياته !
ليتنّهد زيد وهو يصرّ بأسنانه :
صرت أب .. وبنتك طلعت للدنيا وأنت بعيد عنها ! افرح بس
هتف بلهفة متجاهلًا -تقريعه- :
أنا راجع على أقرب طيّارة ، استقبلني يا زيد .. مالي غيرك
زيد بجمود تام ، وساخر :
ليش الحين صرت في حاجتي ياولد العم ؟ أنا آسف بس دوّر لك قواد ثاني تقوده معك .. وأنصحك لا ترجع
عمي مُرشد يستحلف بأغلظ الإيمان حتى يوريك الويل .. كمّل هروبك إذا ما كان عندك عذر
صرخ فجأة بغضب وهذه الحقائق تضغط عليه :
ما خايف من عمي مُرشد ولا من غيره .. أنا ما سويت اللي سويته حتى يشاركني واحد منكم رحلتي اللي اقتصيّت تذكرتها بإرادتي
-قليل الثقة فينا ولا قليل الأمانة ؟
صرخ بها زيد ليهتف حاتم بصوت مختنق ، أجش :
ولا واحد ، ولا واحد !
زيد بذات النبرة التي لا ترحم :
فسّر لي ، اشرح .. لي عندك يا حاتم دين التبرير ! والله ما أسامحك عليه لو على موتي
ارتعش قلب حاتم ، وهذا ما كان ينقصه .. هتف بثقل لسانه :
لك اللي تبي ياخوي بس أنا برجع ، استقبلني
صمت زيد يقلّب الأمر في نفسه ، و كلام مُرشد يرنّ في أذنه رنين الجرس
ليقول بعد تفكير مطول :
متى رحلتك ؟
هتف حاتم بلهفة وهو يفتح حاسوبه على إحدى مواقع حجز التذاكر ، فيجد أن اقرب رحلة من القاهرة إلى مسقط العاصمة
ستكون الساعة الرابعة فجرًا من صباح الغد ، أي بعد 13 ساعة من الآن :
بكرة الساعة 9 راح أكون خالص إجراءاتي .. استقبلني في المطار جهة مواقف الموظفين ! سيّارتي واقفة هناك
زيد بنبرة لم تخل من الغرابة :
وليش تبغاني أجيك دام سيّارتك موجودة في المواقف ؟
سقط حاتم أرض وهو يقول بنبرة عطشى ، هامسة :
لا تسأل الملهوف عن مقدار شوقه، لو لاقى قطرة ماي في أرض جرداء ما تردد على حفر بير !
تعال لي يا زيد ، واقتصّوا مني مثل ما بغيتوا





-
انقلب على جنبه الأيسر وهو يتأفف بضيق من رنين الهاتف المزعج الذي يؤرق نومه
تناوله دون أن يكلف نفسه عناء فتح عينيه ، وأجاب عن المتصل
بنبرة ممتلئة بالفظاظة ، متجاهلًا هذا الذي خلف الخط !!
أمه كانت ، أم أبيه .. أم رئيسه في العمل :
اقسم بالله لو ما كان الموضوع مهمّ لأكسر تلفوني ذا على رأسكم !
فُتحت عينيه رويدا رويدا وهو يستمع لكلام المتصل على الطرف الآخر بشيء أشبه بعدم الإستيعاب
لينتفض من سريره قافزًا وهو يهتف بنبرة سريعة :
تم تم ولا يهمك !!
أغلق الهاتف ورماه على السرير ، نزع قميصه ليرميه هو الآخر بجانب الهاتف
اتجّه نحو دورة المياة ليهتف بنبرة مندهشة -عالية نوعًا ما- :
وش مصحيّش بهالوقت ؟
فالساعة ما زالت السابعة والنصف مساء ، وموعد استيقاظها بات يحفظه عن ظهر الغيب .. لا يزيد ولا ينقص بدقيقة !
كتّفت الجوهرة يداها أمام صدرها ، جالسة على السرير مستندة بظهرها على الوسادة وعيناها ترشقانه بنظرات حارقة
دلف إلى دورة المياة ليغتسل بصورة سريعة، ثم خرج ليقف جهتها ويجذبها إليه بصورة -عنيفة-
همس ويداه تسيران من ذراعاها نحو كتفيها ليستريحان على وجنتيها :
ياكبرها عند ربيّ ذي النظرات ، وش فيش ياروح قايد ؟
أمالت شفتها بإمتعاض، ثم أردفت:
أنت راعي اللي ينقال فيه كلام الليل يمحوه النهار ! بس أنت محيته من عقلك بعد مب بس من أفعالك
ضغط على وجنتيها ، ينحني ليقبّل أحدهما ويقول بعمق عاطفته :
حبيبتي ياروحي ، زوجش واحد ينفلت لسانه فجأة وما يعرف وش يقول بالنهار ما بالش بالليل
-وبإبتسامة ماكرة-
اللي أصلًا ما أكون فيه بعقلي
ضربت صدره بصورة قوية لتُهمس بغيض :
وقح !
تأوه بألم مصطنع ، قائلًا :
ما اتفقنا على الضربات ، بالراحة يا بنت الصقر وقولي لي وش مصحيش على غير وقتش وأنتِ شوي وتذبحيني بذيك النظرة
تنّهدت الجوهرة ويداها تخيمان على صدره العريض الذي تكاد تلتصق به :
يعني قايد الكلام اللي قلته أمس تظنه عادي ؟
قلّب قايد تفكيره وهو يُحاول التذكر أي كلام قاله ، لتتسع عيناه بخفة وهو يستوعب للتو مقصدها!
وبنبرة جادة عكس ما كانت عليه نبرّته اللينة منذ قليل :
عادي وصحيح وسليم بعد ، ليش وش قلت غير الحق أنا ؟
تراجعت الجوهرة للخلف بغضب !
لكن يداه لم تسمح لها لتُعاود الإلتصاق به من جديد :
ما ينفع ترمي جملة عرضية وتكتمها بوحدة من حركاتك الوقحة بس عشان ما أرد عليك وأجادلك وأنت عارف إني قادرة على إقناعك
رغم ثورة جديّته ، وثورة غضبها .. ابتسم :
أنتِ أول شيلي من لسانش .. "حركاتك الوقحة " عشان ما أوريش الوقاحة على أصولها
-وبجديّة عادت تتلبسّه-
ترا اللي قلته حق ، وتسكيتتي لش لأني كنت عارف إن يبغالش دقّة بسيطة عشان تفهميني وتستوعبي كلامي
مهما كان يالجوهرة يظّل جدش، دمّه من دمش .. وهو الحين رجّال مريض ماحد يعلم يومه من آخره
فلينّي قلبش عليه .. مثل ما علمّش الصقر !
لا تخيبي ظنّي فيش
عقدت حاجبيها وهذا الكلام لا يُعجبها .. أبدًا !
ماذا تعني زيارة جدها - الذي لاقت منه وعائلتها أنواع العذاب والويلات- ؟ خطوة لا تفكر في تنفيذها
لكن بعد اقتراح قايد ، وجديّته الصارمة .. ثم -تسكيتته- لها بعاطفته المشتعلة ! لم تسنح لها الفرصة بمناقشة مغزى فكرته
وها هو ذا يميل عليّها ليقبّلها بصورة متأنية .. متباطئة
في كل مره يفعلها تسرق لبّ قلبها ، وتغذّي جنون دقاته
ابتعد قليلًا ليُهمس بحنو عميق :
الجوهرة اللي أعرفها ما ترضى بالظلم ، واللي ما ترضى بالظلم راح تسعى إنها تشهر سيف العدل وتثقل ميزان التغاضي
كلامي كان مجرد إقتراح ، لا هو أمر ولا طلب
عقلش ثم قلبش قادريين يوازنوا المعادلة صح ، بعدها أنتِ وضميرش
أصدرت صوتًا حانقًا ، لتقول بعد دقيقة صمت :
تعرف إنك غبي ؟
ضحك بضحكته الخشنة، التي باتت تعشقها منه لينحني مقبلًا أرنبة أنفها :
وتعرفي إنه لسانش يبغاله تربيّة من أول وجديد ؟ الغبي كان رفيق منفاش .. أنا الحين حبيبش وشريك روحش
ابتسمت ابتسامة قصيرة وهو تؤمئ برأسها في صورة هادئة ليبتعد عنها قِسرًا حين رن هاتفه من جديد ، فاتحًا الخط :
ايوا زيد ؟ جاهز انتظرك قدام البيت
ارسله قبلة طائرة نحوها وهو يخرج من الغُرفة غالقًا الباب من خلفه ، لتتسع ابتسامة الجوهرة أكثر من سابقها
وضعت يدها على قلبها !!
ها هو ذا كعهده .. ينبض بصورة شديدة لمجرد قُربه
قربه الذي بات يشكّل لها طِيبًا من جنة ، وواحةً من حياة
قربه الذي أصبحت .. تُدمنه بكلّ حواسها
عرف كيف يستميل قلبها في فترة قصيرة !!
كيف يسرق الحروف من شفاهها ليجعل روحها تنطق !!
منذ تزوجا .. قبل شهرين ! وهو لا يتوانى عن إظهار سيول مشاعره التي تتلقاها في مصبّ روحها
بكرمٍ .. وسخاءٍ ، وإمتنان
نعم .. إمتنان !!
بل بالِغه !
فقايد وجد مفتاح خروجها من ذكرياتها السيئة التي وضعت ندوبها على قلبها !!
ليفتح لها بوابّة حياته -النعيمية- ، وينثر بطريقها الورد والياسمين
معه فقط .. تشعر أنها فتاة بالغة الأنوثة
معه فقط .. معه تعود إلى طفله صغيرة بدلاله .. وحنانه !
رغم سنواتها التي قاربت الثلاثين ..
إلا أن امتزاج روحيهما أنستهما ما كانا من سنين ، ليعطيهما خليط من حُب وإنسجام وألفة
تنّهدت وهي تمسح شفتها بابتسامة حنونة لتُهمس :
الله يخليك لي كثر ما شفت إني بعيونك .. جنة !
-
-
-
-
نزل أخيرًا إلى أرض الوطن ، ومشاعر جمّة تسيطر عليه
أهمها الخوف !
ليس الخوف من المواجهة .. لكن الخوف مما هو مقبلٌ على رؤيته !
تقدّم يسحب حقيبته متجهًا إلى الطابق الأرضي حيث مواقف السيارات -للموظفين والزوّار-
اتجه نحو الموقف ،حيث تقبع سيارته .. المغبّرة جدًا
بإنتظار زيد الذي أخبرهم برقم الصفّ ورقم المواقف
يلتفت حوله ، ينظر لساعة يده ! يطرق بقدمه في الأرض بصورة متوترة
ما باله -هو الواثق لدرجة الغرور- يرتجف قلقًا وترقبًا هكذا ؟
لا يعلم !!
هل هو شوقه الجبّار .. أم رغبته العارمة !
أم .. أم تلك الصغيرة المسمّاة بابنته .. ليـن !
تنّهد بقلّ صبر .. جرّ حقيبته حتى وقف بالقرب من شارع المخرج ، متيقنًا أن زيد أضاعه
لكنّه تفاجأ بشكل غريب من وقوف سيّارة شرطة أمامه وخروج إحدى راكبيها
ليقف أمامه بصورة مهيمنة وهو يقول من أسفل نظارته :
حاتم بن سيف ؟
هزّ رأسه حاتم بإيجاب والغرابة تتلبسه لتنعقد لسانه حين هتف الشرطي بجدية بالغة :
تفضّل قدامي لمركز الشرطة
اتسعت عيناه بدهشة ، ثم هتف :
نعم ؟!
عقد الشرطي حاجبيه ليقول بجدية ذاتها :
حاتم بن سيف، أنت سافرت خارج الدولة وعليك قضيّة رميتها وراك ! امشي معي أصحاب الحق يبغوا يسترجعوا حقهم
لجم حاتم حقًا !
أي قضية هذه التي رماها خلفه وسافر كما يزعم -هربًا- حتى لا تُسترد الحقوق إلى أهلها ؟
هو تأكد قبل سفره أن ينظّف سجله هُنا!
أعاد الأموال إلى المدانين !
وأعاد الوصل إلى المنقطعين
فأي قضية هذه التي يتكلم عنها .. أي قضية !

*

-
يجلس منذ نصف ساعة في غرفة التحقيق
ينتظر قبسًا من نور يخرج من خلف هذا الباب المصمت !
شكوكه طالت وظنونه أرهقته !
فكّر مرارًا وتكرارًا بأمر هذه القضيّة التي وضعت عليه .. ولا يذكر شيئًا !
لعل الشُرطي مخطيء ، لعله تشابه أسماء !!
سيجنّ !
سيجنّ لا محاله .. لا وقت لديه لكي يجلس في هذا المكعب الغارق بظلامه إلا من نورٍ يتيم يتدلّى من أعلاه
وطاولة حديدية مربعة بثلاثة كراسي يجلس هو على أحداهم !
زفرّ بقل صبر يكبت لجام غضبه !!
إن كانت عليه قضية مثلما يقولون .. فعليه أن يبقى مرتاحًا ، وواثقًا !
دخل رجل إلى الغرفة أخيرًا ! وهذه المرة مرتديًا للباس عادي ليس بلباس شرطة
فاستنتج أنه المحقق ، ليتنّهد مستعدًا للمواجهة
سحب المحقق الكُرسي ، وجلس عليه واضعًا قدمٍ على قدم :
الحمدلله على سلامتك يا حاتم، ما بغيت تنّور ديارك
ردّ بإقتضاب :
الله يسلمك، الظروف كانت تقتضي هذا الغياب
وضع الملف على الطاولة وفتحه ، ليقول :
تعرف وش القضيّة اللي عليك ؟
هزّ رأسه بالنفي ليُكمل المحقق بهدوء متمرس :
الحقيقة قضايا مو قضيّة وحدة .. وأصحاب الحق ينتظروا حقهم من زمان
متى طلعت من السلطنة يا حاتم ؟
زفّر ليقول بهدوء ، لم يصطنعه :
من شهر 7 !
رفع المحقق حاجبيه بدهشة من عرف معلومة جديدة :
ما شاء الله ، هذه 9 شهور .. وش كنت تسوي في مصر بالضبط ؟
ليقول حاتم بإقتضاب :
أتوقع خلفيّة ملفي صارت عندكم ، وسبب وجودي في مصر صرتوا تعرفوه
ابتسم المحقق بهدوء :
نحب نسمعه منك !
رفع حاتم حاجبيه لوهلة متيقضًّا ، ليقول بنبرة هادئة :
كنت أتعالج .. في مصحة نفسيّة !
الأوراق اللي تثبت هذا الكلام موجودة في شنطة يدي اللي صادرتوها
المحقق بذات الابتسامة المهنيّة :
هدي بالك يا حاتم ، حنا هنا لكم سند ! ما جبناك هنا في موضع إتهام
كل اللي نبغى نفهمه .. كيف طلعت من السلطنة وأنت عليك كذا قضية ؟
هز كتفيه بلا مبالاة ، وبصدق :
ما طلعت من بلادي إلا وأنا راد لكل ذي حقٍ حقه ! إن كانت علي قضايا بعد سفري وأُتهمت فيها زور فنّورني عليها.
قلّب المحقق في صفحات الملف واحدة تلو الآخرى ، قائلًا بجدية :
قضية دين ، قضيّة تأخر سداد، قضيّة من جهة عملك .. وأخيرًا قضيّة خلع
عندك تفسير لكل وحدة منهم ؟
تجمدّت نظرات حاتم نحو ثغر المحقق من الجملة التي نطقها آخرًا
قضية خلع !!
خلعه لمن ؟ زينة ؟
لا يكاد يصدق ما يسمع ، كلّ هذا -الهراء- بات لا يستوعبه عقله ولا حتى تفكيره
كيف تفعلها تلك العنيدّة -المتكبرة- وتستقبله بعد طول عطشٍ كان هو الظمآن الوحيد في واحتها بفراقٍ محتوم
بل كيف تجرأت على الإقدام بهذه الخطوة -المهينة- بحقه ؟
وشوقه الذي عاد يطفو للسطح ، عاد هذه المرة برفقة غضبه
ليست زينة من تصرَفت وحدها في هذه القضيّة
هو يعلم رغم -تمردها- أنها أجبن من أن تقطع خيوط البقاء بينهما دون أن تحظى بتفسير
دون أن تكون لها الكلمة الأخيرة في هذه العلاقة
أعاد المحقق كلامه وهو يقول :
حاتم عندك تفسير لكل من هذه القضايا ؟
هتف حاتم بجمود :
قبل كل شيء ، ما مدى مصداقية هذه القضايا المرفوعة ضدي ؟
عقد المحقق حاجبيه لوهلة ، ليقول بعد صمتٍ قصير :
تحققنا منها كلها .. بما تقتضيه الوظيفة
ليقول حاتم بذات جمود ، وبلمحة ذكاء مرت عليه :
إن كانت هذه القضايا حقيقية ليش ما انمسكت من شرطة المطار ؟ لأن على أقل تقدير هذه القضايا الأربعة كافية إنها ترفع تعميم باسمي
التمعت عينا المحقق ولم يفته ذكاء حاتم ، بل كان هو أذكى منه ليقول بهدوء عميق :
من قال لك شرطة المطار ما تعرف باللي عليك ؟ لكن فضلنّا نضيفك خارج المطار حيث كانو ينتظروك
-استطرد المحقق بجديّة-
عندك تفسير لهذه القضايا ؟
تنّهد حاتم وهو يغمض عيناه ليقول بتعب :
صاحب الدين اللي تتكلّم عنه تفاهمت معه قبل سفرتي ، أعطيته نصف المبلغ والنصف الثاني وعدته أدفعه بعد ما أرجع
المحقق وهو ينظر إليه بهدوء جاد :
وقضية تأخر سداد ؟ أنت عندك سجّل تجاري باسمك لأحد المحلات وبعد تحرياتنا المحل تقفّل من شهور طويلة وصاحب المحل يبغى حقّه بعد ما تهرّبت من دفع الإيجار
عضّ حاتم شفتيه بغضب ، وهو يتذكر هذا المشروع -اليتيم-
الذي أنشأه برفقة ذاك الخسيس " حسين "
صحيحٌ أنه انسحب منه إثر الخلاف الذي حصل بينهما ، لكن لم يكن يتذكر -دون ُملامه- أن السجل التجاري باسمه
وإن كان باسمه .. فمن كان يدفع الإيجار طوال هذه السنين؟ :
المحل كان شراكة بيني وبين زميلي ، انسحبت أنا منه بعد خلافي معه لكن ما كنت أعرف إن السجل التجاري باسمي
المحقق بتساؤل جدي :
من كان يدفع إيجار المحل إن ما كنت صاحبه ؟
هزّ كتفيه بعدم دراية ، لا يعقل أن يكون حسين ، لأن ذاك -الخسيس- ليس في هذه الأرض قطعًا :
وقضية عملك ؟
تنّهد حاتم ، وهو يشعر أن هذا كثيرٌ عليه !
لكنه قال بجدية بالغة :
لعلّكم فهمتوها خطأ ، أنا قبل شهور رفعت تظّلم للشركة اللي اشتغل فيها
بعد ما استنثوني بالكامل من أحد المشاريع اللي متقدّم لها حالي حال المهندسين الثانيين
وبسبب الإصابة اللي تعرّضت لها في موقع العمل -المسؤولين عن أمانه- ، ما سمحوا لي ارجع مرة ثانية .. فقدّمت تظلم
القضيّة من جهة عملي احتمال تكون إستئناف من المحكمة ، وأكيد القاضي مايقدر يستأنف قضية بدون وجود المتهم .. والمتهم عليه
حرّك المحقق القلم أمامه ، وهو يقول بنبرة غامضة :
وقضية الخلع ؟
ابتسم حينها حاتم بسخرية مريرة :
علمي علمك فيها ، طلعت من البلد وأنا وزوجتي سمن على عسل .. إن كان في طرف آخر في الموضوع فأنا ماعندي علم
وقف المحقق ليجمع الملف وهو يرمقه بنظرات غامضة وغريبة ثم جرّ خطواته نحو الباب خارجًا
حينها فقط زفّر حاتم بقوة حارة !
وخرجت من لسانه شتيمة بذئية لا تليق بوجوده في مركز رسمي
جميع القضايا التي رُفعت -ضده- إما أن كانت قديمة ، أو قيد التنفيّذ ! وجميعها لا تستدعي المحاكم أساسًا
فمن ذا الذي نبش في حفرة ديونه حتى يوقعه فيها دون رحمة!
من ذا الذي ظلَ يبحث عن ثُغرات تدينه -بمجرد أن يطأ أرضه-
هُناك أمرٌ غير مفهوم ، هُناك حلقة مفقودة !
وما كاد يستنشق نفسًا يتيمًا حتى فتح الباب وبانت من خلفه إجابة إستغرابه
ظهر الأمر -غير المفهوم- ، وظهر شطر -الحلقة المفقودة-
فور رأه رفع رأسه للأعلى وضحك بصورة مزجت بها لا مبالاته بغضبه !
عمـه مُرشد !
ها هو يقف أمامه متبجحًا بتلك الابتسامة -المستفزة- :
كان لازم أعرف من هذا الداهيّة اللي قدر يستخرج من قضايا عادية ثغرات قانونية .. أكيد طبعًا قائد الصحاري والبراري
أغلق مرشد الباب وتقدم حتى وقف أمام الطاولة بذات الابتسامة :
بعض علاقات المصلحة تخدمك في أوقات ما كنت تظن إنك بتمر فيها .. وعمّك يا -ولد أخوي- يعرف كيف يستغل أقل الظروف لصالحه
حاتم بابتسامة مائلة :
معلوم ، كيف ما نعلم اللي وراك !
-وبجدية أكبر-
والنهاية من حركتك يا عمي ؟ ترهبني ؟ ترعبني ؟ أو تأدبني
-لا لا ياولد أخوي .. ولا وحدة منها ! أنا صحيح جبتك هنا بطريقة ملتوية لكن طلبي راح يكون مستقيم
رفع حاجبه بترقب ، ليُردف :
طلبك ؟
وضع ورقة يتيمة برفقة قلم واحد على الطاولة أمامه ليتلبّس ثوب الجدية :
بالأحرى .. طلب زينة !
أنزل نظراته نحو الورقة ليقرأ ما فيها ، وسرعان ما نبتت ابتسامة ساخرة جدًا جدًا على ثغره وقست ملامح وجهه :
جاتني من الخلع ، وجيتني من الطلاق !
كيف واثق إنني ممكن أوافق على الاثنين ؟
جلس مرشد على الكرسي أمامه ليهتف بجديّة عارمة :
بتوافق ، طِيبًا منك أو غصبًا عليك .. عندك الخيارين اختار اللي يحفظ كرامتك وماء وجهك !
أنا بنتي ما زوجتها واحد عديم مسؤولية عشان يرميها ويسافر وهي حامل !
وما حتى يتنازل ويرفع سماعة التلفون عشان يطمنّا عليه .. أو يطمنها هي على الأقل
أنا من المفترض إني زوجتها رجال يحفظ لها ذكراي في قلبها ويهديها أيامٍ بيضاء تنسيها اللي عاشته بعد هروبي بذنوبي
ما أحسنت حفظ الأمانة يا حاتم ، واللي ما يحسن حفظ الأمانة يُحرم من رزقه
وإن كانت بنتي رزقك وجاتك بدون تعب ، فـ راح تُحرم منها
تكتفّ حاتم وهو يعاود الإسترخاء على كرسيه :
رغبتك ، ولا رغبتها ؟
مرشد بذات الجدية :
رغبتها طبعًا ، ليش ظنَك إني من الرجال اللي يغصبوا محارمهم على شيء ؟ هذا كله بإرادتها
أردف حاتم ببرود شديد ، وإستفزاز صريح :
اغصبنـي !
لثوانٍ كان يقف مُرشد يعتصر ياقة قميص حاتم حين ألصقه في الحائط خلفه وهو يقول بغلظة شديدة :
أنت عارف إني قادر أغصبك ، مثل ما زوجتك إياها قبل سنين قادر أطلّقها منك اليوم!
لكن خلها تجي من طِيب نفسك .. لأن غصيبتي ما راح تعجبك
همس حاتم بصوت واثق ، وجاد :
زينة بتظل زوجتي وأم بنتي ، لين تسحب هالروح مني
مافي أحد قادر ينزعها من عصمتي وذراعي ! وّفر على نفسك يا عمـي!
تراجع مرشد للخلف وهو ينفض يديه عنه ، وبقوة :
وش تبغى ؟
حاتم ببساطة عدّل من هندامه سريعًا :
زوجتي وبنتي ، أبغى أحافظ على عائلتي
مرشد بجدية قاسيّة :
مالك عيلة بعد سواتك .. الجبان خله يتوارى خلف الظلّ
أمال فمه بابتسامة مستفزة ، ليُردف ببطء :
وليش ما تواريت أنت خلف الظل بعد هروبك ؟
صمت مُرشد بمفاجئة من كلام حاتم الذي باغته ، ليُكمل حاتم بذات البساطة :
أنا وأنت وجهين لعملة وحدة إن كنت ناسي ياعمي ، أنت هربت حتى تحافظ على عائلتك .. وأنا -سافرت- حتى أحافظ على اللي بقى مني عشان عائلتي
أنت تركت زوجتك وفوقها طلقتها لما كانت حامل ، وأنا سافرت بدون أدنى معرفة بأن في بطن زوجتي .. طفلي
تشابهت ظروفنا ياعمي ، تشابهت وسيلتنا ، والغايّة
فما عاد عندك الحق إنك تجبرني أو -تغصبني- على خراب بيت بنتك
أطرق مرشد لثوانٍ برأسه ، يفكر بما قاله .. ولكن ما لبث أن رفع إليه عينين ممتزجتين بقسوة سوداء
وهو يسحب الورقة الموضوعة على الطاولة :
إن ما جابك الطلاق ، بيجيبك الخلع
احصد يا حاتم نتيجة اختيارك !
خرج من الغرفة بخطواتٍ غاضبة وهو للتو يتصوّر التشابه العميق بينه وبين ابن أخيه
صدق حاتم ! هما وجهان لعملة واحدة !!
هدفهما كان واحد .. وسيلتهما واحدة .. والجرح واحد
فعلام يلومه ؟
توقف أمام الاثنين الذي يرمقانه بنظرات متأهبة ليقول بإقتضاب :
تصرفوا مع ولد عمكم وبس يخلّص من غايته طلعوا يدينكم من سالفته !
نظرا قايد وزيد لبعضهما البعض ثم ألقيا نظراتهما نحو مُرشد الذي يدك الأرض بغضبه ، ووقع الذنب على سيّارته بشدته معها
تنّهدا دون أن يعلّقا ، فانتظرا دقائق طويلة حتى خرج حاتم من المركز وهو يمشي بذات الخطوات الغاضبة التي خرج بها مرشد
تقدم منهم حاتم ليفتح الباب الخلفي ويقول بغضب أسود :
أي واحد منكم يتكلّم أقص رأسه قدام المركز ولا أبالي
ودوني شقة -حرمي المصون- حالًا






-
هدهدت طفلتها الرضيعة في حضنها لدقائق طويلة حتى غطّت في نومٍ عميق
تشعر بدوارٍ شديد ووهنٍ أشد !! وهي بالكاد تحمل طفلتها
طفلتها الجميلة .. التي أسمتها لين !
لا تعلم لما اختارت هذا الاسم بالذات !
لعلها أرادت أن تكون حياتها المقبلة -بوجودها- في لينٍ ويسر بدل الشد والجذب اللامُنتاهي في حياتها السابقة
هي -بظنها- قد تخلّصت من ذكريات الماضي
فلا تريد شدّته بعد اليوم .. لذلك لجأت لـ -لين- الحاضر
استلقت على سريرها رغبةً منها في التنّعم بنوم هانيء بعد بكاء طفلتها المطول
تضع يدها على بطنها جهة رحمها ، والآخرى على صدرها المتحجّر بحليبه
طفلتها -العنيدة- تأبى الرضاعة من صدرها !
كأنما تنتقم منها على هذا الهروب الجبان من بيت الجبل وأهله .. وهروبها من أبيها
أدمعت عيناها لتُغمضهما بقوة ، لن تبكي !!
ستتوقف بعد اليوم عن البُكاء ، ولا تعلم إن كان هذا الأمر ممكنًا مع ما تمرّ به من تغيّر في هرموناتها لنفسية -الوالِد-
ستدخر بكاءً واحدًا تسكبه في مكان يتيم .. على صدره
هو المعني بالشكوى ، هو المعني بسيول الحزن التي اجترفتها
هو المعني بكل هذا فعليّه تلقيّها بصدرٍ عريض وقلبٍ أبيض
شعرت بأصابع والدتها على فروة رأسها!!
وكم أصبحت والدتها تتفهم حاجتها لشيء ، دون أن تقول
همست مريم بحنو عميق :
ارتاحي يا أمي ، لين نامت الحمدلله وإذا نهضت أنا جنبها
لا تحاتي شيء!
همست زينة وهي مغمضة العينين :
يمه !
همهمت والدتها لتُكمل زينة بذات النبرة المبحوحة :
رجع
كانت كلمتها تتأرجح بين تقرير إجابة ، وبين إستفسار سؤال ! فلم تعلم مريم ما تقول وهي تفهم من المقصود
أجل تعلم أنه اليوم سيعود ، كما علمت عن خطة زينة ومرشد
خطة كـ "قرصة" صغيرة ، لتعلمه أهم درس في هذه الحياة !
التمسك بمن يحب !!
تذكرْ حين ثارت يومها في وجه مُرشد على خطته -الغبية- وأتهمته بحشو رأس زينة بأفكار تافهة لا تجدي نفعًا
كانت حينها ستشبّ حربًا ثالثة بينهما لولا تدخل زينة الجاد
بقولها لوالدتها أنها من ارتضت بهذه الخطة !
وأنها تتفق جملةً وتفصيلًا مع ما يحيكه والدها !!
غضبت يومها كثيرًا، لكن عرفت زينة كيف تسترضيها
حتى وضعت مولدتها، بعد عُسر ولادة .. وتناست كل شيء إلا إنبهارها بتلك المعجزة التي حظيت بها :
وش أسوي فيه يمه ؟ أعاتبه، أقهره، أصارخ بوجهه، أسبّه
وش المفروض تكون ردة فعلي ومابيني وبين لقياه بعد غربة قاهرة إلا ساعات؟
همست مريم بذات النبرة الحانية :
افتي قلبش ، قلبش دليلش !
ابتسمت بسخرية على وضعها :
قلبي يمه بيخليني أدوس على نفسي وكرامتي .. قلبي بيآمرني اطيح بحضنه وأعاتبه وأنسى اللي سوّاه
مريم بابتسامة شفوق :
قلب زينة كذا يقول ؟ تأكدي من كلامه
سرحت زينة لثوانٍ ، ماذا يقول قلبها -الفتيّ- بحبه ؟
أنها تحبه ؟ وعلى إستعداد أن توقعّ على صفحة غفرانه بعد أن تستمتع لتبريره ؟
هي ليست -ناكرة- ، ليست قاسية كذلك
تحبّ أن تكون لها الكلمة الآخيرة صحيح .. لكنها لا تتوانى عن سماع تبرير الطرف الثاني
لأن التبرير -ينصب- الأمور في نصابها الصحيح .. ويمحي خيوط الكره ولسعات الحقد
قلبها ماذا سيقول فور أن تراه .. أن تتمعن في عينيه الحبيبتين
أن تلمح خشونة ملامحه وثقلها الرجولي !
أن تحظى بعناقه .. وتشتم رائحته !!
رائحته !!
غاصت بها ، رائحته الرجولية شديدة العذوبة !
كيف لا وهي التي باتت شهورها الطويلة معه يحتضنها بتملّك آسر قريبٌ من عنقه
انسحبت لعالم الظلام تاركه سؤال والدتها -الواقعي- معلّق
لتدخل إلى غُرفة -الأحلام- التي اصطدمت برائحته أولًا
تشتمها .. هو هُنا ! قريبٌ منها
تشعر بذلك .. شعيراتها الأنفية تخبرها بوجوده
همسها الصادق والمتيّقن الآن يؤكد لها ذلك :
ريحته أقرب من اللي حسيّت فيها قبل ، خليّه يجي يمه !
خليّه يجي يشوف حبيبة الغافة وش صار فيها من بعده
انهت كلامها لتغط في نومٍ عميق بعد طول ألم وطول سهر
غافلة عن ذاك الواقف أمام باب الغُرفة يلمح المشهد الذي أمامه بقلبٍ راجف !!
وعينين فائضتين باللوعة والوجد والجوى !!
-
-
هطلت دمعة يتيمة من عين مريم لتمسحها بسرعة وهي تقوم من مكانها
لتدرك -مثلما أدركت ابنتها- أن حاتم هُنا بات قريب
لذلك التفتت نحوه وهي ترمقه بنظرات جدية غير راضية
ثم وقفت بجانبه قائلة بجمود عميق :
لولا ثقتي في بنتي ما كان خليتك تلمح طرف منها وهي في هالحالة !
لا تنهضها من نومها مهما كان ، خليها غايصة في عالم الأحلام اللي صار لها أقرب من واقعها
لم يحرك حاتم عيناه من على -أميرته النائمة- ، ولم يصله كلام مريم بتركيز صحيح
فعقله وروحه وكل طرف من جسده كانت مشتتة نحوها ، نحوها هي فقط !!!
ماذا فعلت هذه الشهور بها ؟!
بل ماهو صانعٌ بها ؟ هذه الاثيرية المدللة .. محبوبته الجامحة
كيف رُوضت كبوة جوادها بهذه الصورة اليائسة
شعر بإنغلاق الباب من خلفه .. لتُصبح الغرفة خاليةً إلا منه
هو وهي !!
ولا مجال لواو العطف بينهما
فشوقهما المشتعل ، وعاطفته المتأججة بينهما أكبر من مجرد عطف
هو لسعات الجحيم ، ونفحات الجنة
هو نارٌ من عدم ، ومطرٌ من برد!!
هو صحراءٌ الفناء ، وواحة الحياة
اقترب منها بخطوات بطيئة جدًا ، صعد على السرير وتمدد عليه بالقُرب منها
مرر يده خلف رقبتها بعد أن تأكد من غطّها في نومٍ عميق ليجذبها برفق -لم يعهده- على نفسه مداريًا وضعها الصحي بعد الولادة
زرعها في حضنها واحتضنها بكامل جسده
يده، صدره، قدميه !! اصبحت منه وفيه .. أصبحت له
وبالقُرب منه
همس وهو يغمض عينيه ليغوص معها مثلما غاصت، وبصوتٍ ثقيل من شدة تعبه:
اقرب لش من الاحلام .. مثل ما كنت دايم




-
لا يدري كم من وقتٍ مضى وهو متمدد في فِراش وثير أنساه تعب ما كان !
ثمانية عشر ساعة مجموع الوقت الذي ظلّ فيه متيقضًا !!
لهفته وتوقِه ، أنسته معنى النوم والراحة ..
تلك الصبابة التي ما تركت له بابًا للسكينة والإسترخاء حتى يطأ أرض بلاده .. أرضها هي
فتح عينيه بصعوبة بالغة، عاجزًا عن رؤية ما حوله .. وما الساعة
لكنه تيّقن من الشفق الأحمر الذي يغازل طرفيّ الستارة أن الغُروب قد بان .. والشمس استترت
رفع جسده العلوي بيدٍ واحد .. متسائلًا أين تلك التي نامت في حضنه وكيف تنصلت من قيوده ؟!
لتأتيه الصدمة -اللطيفة- حين رآها على طرف السرير تجلس منحنية الظهر بشكلٍ خفيف
تزايدت دقات قلبه والوجد يُنعشها !!
وكمن سيّره الجرح، والإشتياق، والتعب، والحُب .. اتجه لها
لفّ يده اليمنى حول خصرها .. فتجمدّت
دسّ أنفه في شعرها .. فارتعشت
آآه قصيرة، ملتاعة خرجت من فاهه وهو يستنشق بصورةٍ قوية عطر شعرها المتلّهف على الغوص بيّن ثنيّاته المجعدة
آه خرجت، فضحت إحتراق داخله طوال هذه الشهور
مايعني البُعد عن من تُحب ؟
هو فقدانٌ لريحٍ باردة تُنعش صفحة وجهك !!
هو تواري لنبضٍ خفّاق لمن لم يعرف سبيل العذاب في الحُب
هو شغف .. شغف الغوص في ظلام عالمٍ ما ظننت يومًا أنك ستدخله !
البُعد هو الموت البطيء !! وليس هُناك أكثر من مات ببطء كحاتم
شعر بها تُبعد يده عنه وتقف .. ظهرها له
عاجزةً عن النظر إليه ! ولا تدري لما
وقف حاتم على قدميه، وما بينه وبينها إلا شبرٌ، وعشرة دموعٍ، وألفٍ ألفٍ من نسيم الهوى
-زين !
هتف بها حاتم بصوته الأجش، صوتٌ حمل الكثير من الرجاء
ظلّت على وضعها، تنظر للأرض، لقدميها الحافيتين بجمودٍ وصلابة
-لفيّ وجهش لي
استفزها هذا الأمر فأصرّت على موقفها، والآخر من خلفها يحترق ويترمدَ
العنيدة المتكبّرة -المدللة- والقاسيّة تشحّ عليه بنظرةٍ واحدة يروى بها ظمأه ..
تضنّ عليه الغرق في بياض عينيها والإصطفاف بجانب رموشها
وحين طال الصمت من جهتها، قطع ذاك الشِبر بينهما وتقدم منها
وضع يديه على كتفيها وأدارها نحوه، فأغمضت عينيها بقوة، قوة مُرتجفة كادت تخونها
رصّ حاتم على كتفيها، ما زالت متشبثة بعنادها اللطيّف الذي يدعي القوة
هل تظن أنه قطع كل هذه المسافة التي أكلت عقله بالتفكير، وقلبه بالإحتراق أنه سيخضع لمتنّعها ؟!
هو حتى لم يفكّر برؤيته ابنته -التي كانت جزء من السبب لعودته المبّكرة- قبل أن يرى ويروي شوقه من الشامخة أمامه
وجد أن أول طريق لفضّ الصمت وملاقفة العِتاب هو الاعتذار ..
لذلك أنحنى من عليائه ليقّبل ما بين عينيها قبلة طويلة، متأنية، محمولةٌ بالسبعين ألف عُذر
وهو يراهن على أن هذه القبلة التي -تحمل الاحترام أكثر من الحُب- ستجعلها تفتح عينيها
لأنه يعلم أن جلّ ما تحتاجه هو -الاحترام والتقدير- لكي تشعر أنها مهمةٌ في حياته، لا مهمشّة :
أنا آسف .. على كل شيء
كتم ابتسامة النصر وهو يلمحها تُرفرف برمشها، لتفتح عينيها بعد ثوانٍ طويلة لكنّ تلك النظرة الخاوية أوجعت بقلبه :
والعذر .. حل كل شيء ؟
قالتها بنبرة جامدة صقيعية، ليقول بحنان ويداه ما زالتا تحيطان بكتفها :
يرفع العِتب ويشعل الحطب، على الأقل
أشاحت وجهها عنه بملامحٍ متألمة، فأردف حاتم بهمسة الحنون :
راهنت على ذكائش بس خذلني، أنتِ من بدهم كلهم ظنيتش بتعذريني
التفتت له بحدة، وهو تقول بصوتٍ قوي رغم اختناقه:
أعذرك؟ همشتني من قرارك وتقول أعذرك .. متى حسستني بأهمية وجودي في حياتك عشان من بدهم كلهم " ما أخذلك "؟
تنّهد حاتم ليقول بهدوء :
زينة لا تخليّ غضبش يمحي اللي بيننا من ذكريات حلوة، تذكري وش كتبت لش قبل لا أسافر؟
أبعدت يديه من كتفيها بعنف وأنفاسها الحارقة بسبب حريق قلبها تتزايد وتتصاعد وتيرتها !!
اتجهت نحو كامدينة السرير وأخرجت من رفّها الثاني ورقة ظهر عليها تعريّة الزمان
رمت الورقة -أو الرسالة- على وجهه لتقول بحدة خانها فيها صوتها المبحوح:
تقصد رسالتك قبل لا تهرب، وآخرتها رسالة ياولد عمي؟
هذا قدري عنك .. مجرد رسالة من جملتين في ورقة بيضاء
بمضمونها اللي أبهرني فعلًا !
أغمض عينيه وهو يستقبل عِتابها بصدرٍ رحب، احتضن الورقة بين يديه! لتُكمل زينة بإنفعال:
زينة ،
تأخرت على هذه الخطوة واجد .. أنا رايح، بس راجع
وأوعدش لا رجعت أهديش أعذاري على طبق من ذهب
حفينيّ بدعواتش !
بسس !! هذه اللي خليتها وراك في غرفتنا وما حتى كلّفت نفسك تقولها لي وجه لوجه !
اعتصر حاتم الورقة بين يده هاتفًا بخفوت :
وهذا أنا رجعت عشان أنفذ وعدي لش، ما تبغي تسمعي أعذاري؟
هزّت رأسها بالنفي مرارًا وتكرارًا حتى تطايرت شعيراتها والتصقت بوجهها نتيجة تعرقّها :
ما تشفع لك الأعذار ، مايشفع لك اللي خليتني أعانيه بسبب بُعدك
حاتم بإصرار أكبر تقدم منها حتى ما عاد يفصله عنها إلا ذراتٍ من هواء :
أنا رحت أنفذّ لش شرطش، تتذكري يا زينة ؟
تتذكري وش قلتي لي أول يوم في زواجنا ؟ وش كان شرطش لاستمرارية هذا الزواج ؟ إني أتعالج
صرخت بصوتٍ مكبوت، ضربت الأرض بقدمها لتهمس بغضبٍ عارم :
تتعالج وأنا جنبك، أمسك يدك وأشد من آزرك .. أبقى قُربك واطبطب على جرحك !
أنت حتى حرمتني من هالوقفة، حرمتني من هالأجر
مشيت مخلي وراك دميّة لا تسمن ولا تغني من جوع
دميّة مركونة في رفّ الذكريات
أنت ما حتى سألت عن تعبي الواضح لك،
ما سألت عن ورقة الفحص اللي حاطتنها بدرجك !!
ما سألت عن كومة أجهزة اختبار الحمل اللي سويتها في آخر يوم بوجودك
أنت أناني، ما فكرت إلا بنفسك، ولا فكرّت بزينة اللي أورثتها الماضي بذكرياته .. وخليتها تعيش من جديد شعور موت مُرشد
-تحشرج صوتها وهي تقول بنبرة متوجعة-
أنت خليتني استسلم لقدري، وأؤمن إن هذا نصيبي
نصيبي اللي يقول لي إنك يا زينة بلا حظ
حاتم بلينٍ ونبرة شفوق :
ولو كنت أعرف بحملش كان خليتش؟ سأليني يا زينة ليش ما شاركتش القرار والرحلة ؟
قولي لي يا حاتم وش هو المانع اللي خلاك تستثنيني ؟
-أخذ نفسًا عميقًا ثم أكمل بهدوء عاتب-
كنت حاس إن تعبي النفسي بنى بيني وبينش حاجز كل يوم عن الثاني يكبر
رغم قربش مني ووجودش في حضني كنت أحس إنش بعيدة
موجودة معاي بجسدش وبعيدة عني بمشاعرش اللي حاولت إني أدفعها بإتجاهي
لا تعبت لجأت لحضنش، ولا تعبتي ركضتي لغرفة ذكرياتش
كنت حاس إني في آخر قائمة أولوياتش
ولا تلوميني على هالشعور، أنتِ اللي ما ترددتي تبينيه لي !!
أشاحت بوجهها وأغمضت عيناها في ألم!!
اقترب، حاصر خصرها بيديه ، همس :
سأليني عن وجع الغُربة، حرمني حتى من شوفتش حلم
وتعرفي وش كان يصبرني؟ ورقة زواجنا
الورقة اللي شايلة توقيعي وتوقيعش !!
كنت أقول أنا هذا رهاني في الحياة، إني أرجع لها بشكل يليق فيها، بشكل يفخروا في عيالي .. وعائلتي
اجترعت الغصة التي صعدت لحلقها وهي تشعر بقلبّها مكبّل
تمامًا مثلما يكبّلها حاتم الآن ويحاصرها في حضنه
همست بصوتٍ خفيض جدًا، كمن يستحي التعبير والإفصاح:
ما عشت حياة تأهلني على إني أنثر مشاعري بسخاء
ما بين مشاكل أمي وأبوي ، وخوفي على نفسي وأخواني
ما بين هروب أمي وموت أبوي .. أنا فقدتني
وش كان يرتجي وليف المفقود إلا صلاة الغائب ؟
اختجلت عضله قلبه لوهلة، هل هذا إعتراف -غير مُباشر- من هذه العصيّة على النسيّان ؟
كيف يخبرها، بملء فمه وملء قلبه !!
كيف يصرخ بوجهها
قائلًا بما يجول في خاطره بصوتٍ رغم تعبه .. حقيقي !
كيف يقول لها : أنني .. أنني
( لم أترككِ
لم أتخلى عن ما بقي منك فيني
كنت أمُسك بذكرياتي معكِ
بمخالب حُبي
كُنت أغلق النوافذ والمخارج
كي لا تشتت الريح
أيامنا المُبعثرة
كنتِ .. رغم سراب الوجدِ
صورةٌ بإيطارِ الحياةِ
كنتِ .. رغم الغياب الأهوجِ
حاضرةً بلا مددِ
لم أترككِ
كنتِ موجودة ..
تبتسمين معي
تتدللين معي
ترسمين الأماني معي
وكُنت في الليالي، أحلم يقظةً
بوجهكِ، بيومٍ يُلملمني فيكِ
وأقول لجحيم الغربة
كانت هُنا
كانت معي )
لكنّه أكمل بهدوء مجاريًا لها، فلا يريدها أن تصمت !!
بل ولتُكمل هذا الإعتراف -المنقوص-:
روحي كانت خاوية وأرضي جرداء، وجيتيني مثل الغيمة بديِمها بعد صلاة إستسقاء
أنتِ كنتي أساس أرضي
أنتِ في أرضي .. ما عُمرش كنت مفقودة!
كبتت تِلك الـ-آآه- الحارقة التي كادت تخرج من منتصف صدرها
واعترافه -بكينونتها- في أرضه التي تِعبت من الدخول إليها ، والخروج منها بخفيّ حنين .. لإعترافٌ يشعل القلب
شعرت أنها ستسقط من طولها من شدة ثورة مشاعرها
التي يؤججها رونق حضوره، وعبق كلامه، ونضال مشاعره
وتلك التنهيّدة مالبثت أن خرجت مصحوبة بصوتٍ باكٍ، موجوع
فاقدٌ للعِناق، فاقدٌ لبرد الحُب، فاقدٌ لنعيم التمنّي
خرجت ومالبث أن كتمها حاتم حين زرعها في صدره ليحتضنها بقوة شديدة، هامسًا برقة شديدة لا تليق به:
يا عساها بأعدائش، اللي تبغييه يا بنت عمّي أنا حاضر
جاءها بصدرٍ حمي، بإنتفاضة الرجولة، وبهيجان الإنسانية
الألم المحشور بين جُنبات وجهها، أوضح له مدى عذابها
فإن كان هو الداء، ليُعطيها الدواء .. بنفسه
شعرت بأن قواها تخور، وحصونها تُدك، وجيوشها تهزم
بصوتٍ محترق بالشوق والحُب ورأسها ما زال في حضنه، دموعها تُسكب ! كما كانت تتمنّى وترتجي :
دارت رقعة الشطرنج وطاحت وسطنا، ما كنت بيدق تافة في أرض السواد والبياض
كنت الملك اللي ينهي ويآمر على القلب !!
هذا الإعتراف -على لسانها العذب- كان كافيًّا لأن يأجج فيه شعور عاطفته المشتعلة !!
كان كافيًّا لأن يقرع بصدره الطبول ويوقظ به الجيوش المهتاجة !!
أبعدها عن صدره، ليقبّلها بعمق وتروي ..
قبلة سردت جميع القِصص المختبئة بين جُنبات روحيهم
قُبلة، احتفظت بذكرياتٍ الماضي مشعلةً ذكريات الحاضر والمستقبل
قبلة .. كافية لريّ الظمأ ، شافية لندوب الجِراح !!
أطال بها كثيرًا، كثيرًا دون إنقطاع حتى شعر من فرط اللهفة بإنقطاع نفسه .. ولم يُبالي
فمن ذا الذي يُحاسب العطشان بعد طول مسير في الصحراء على قطرة الماء ؟
شعرت بإختلال قوتها؛ لتنّهار جالسة على الأرض ويجلس هو معها ليبتعد سنتميترًا واحد
فعاد يهمس فيها بوافر الحُب وجزيل الهِيام، كلمةٌ واحدة :
أ ح ب ش !
ليزاد بكاءها ويتعالى، بكاءٍ ملهوف .. بكاءٍ مُتعب، بكاءٍ مصدوم، بكاءٍ مُحب .. محبٌ حقًا
تركها تبكي في حضنه كيفما شاءت، لتطهر نفسها من عقبات الماضي وعثرات أوجاعه!!
لم يُحاول أن يقول شيء، أو يتصرف بتصرفٍ آخر
هي أحوج ما كانت الآن للنحيب والنشيج .. لتعود زهرة يانعة
لا ذابلة ، يابسة !
ظل يحتضنها ويمسح على ظهرها مراعيًا لحالتها الصحية ، لوقتٍ طويل
حتى انتفضا هما الاثنين على بُكاء الطفلة الرضيعة
وقفت زينة بسرعة وعجلة، مسحت دموعها بخشونة واتجهت لسرير ابنتها !!
حملتها في حضنها وظلّت تهدهدها بالتهويدة الرقيقة التي لطالما سمعتها من والدتها !!
وذاك كان جالسًا في الأرض، في جلسةٍ يائسة مهترئة !!
صغيرته !! على بُعد قليلٍ منه ..
صغيرته التي حملت اسمه بعد ولادتها، وحملت روحه بعد تشافيها
كالمعجزة، بالفعل كمعجزة جاءت له كترياقٍ بعد طول تعب
كان عاجزًا عن الوقوف، عن حملها ورؤية وجهها
صدره يرتجف، بإرتياع ورغبة !!
يحتاج لرؤيتها، لإستنشاق طُهر براءتها
وها هي ذي زينة تلتفت إليه أخيرًا، وبيدها قطعة قماشية يكاد لا يتبيّن وجهها
جلست على رُكبتيها، تنظر إلى بعينين مليئة بالدموع
وصوتٍ هامس مبحوح خرج منها لتقول:
ليـن، ليـن بنت حاتم!
أنزل نظراته بتروي نحو الملاك النائم في حضنها !
لتخرج من صدره تنهيدة بصورة قوية حارقة وهو يغرس رأسه في تجويف عُنقها
هزمته بالجلادة، هذه الصغيّرة التي لا تفقه من أبجديات الحياة شيء .. هزمته
هزمت كبريائه وشموخه، هزمت عنجهيتّه وسواده، هزمت قوته القاسيّة
وكأن ما كان .. لم يكن !
رفعت زينة عيناها للأعلى تمنع دموعها من النزول، وهي تفهمه
تفهم الصراع الدائر بين السواد والبياض في حياته!
ذاك السواد الذي لم يتبّقى منه سوى قطرة .. محتها "لين" بسهولة و-لين- !
تفهم رغبته في الحظي بحياة نظيفة تليق بأبناءه .. ونسله
تفهمه -وياللعجب- تعذره على ما مرّ به
تفهم الآن قدرته -وأخيرًا- على التنّفس بصورة صحيحة، لأنه حارب المرض النفسيّ بكامل عتاده
استرجعت مدى سوء تلك الأيام التي كان يستيقظ فيها من نومه فزعًا بسبب كوابيس الحادث
استرجعت وجعه -الخيالي- الذي يصيب يده المعطوبة ..
وكيف كان يحشر يده في أي زواية قاسيّة حتى يهدئ من وجعها
نظرت لأصابعه التي اتجهت نحو وجه لين، يتلمسّها برقة شديدة
يهمس بصوتٍ حنون، مرتاح:
قرّة عيني وروحي بشوفتش، قرّ قلبي بعد طول شدّة
قبّل يدها الصغيرة الظاهرة من أسفل منامتها، واستنشق العبير المسكّي حتى ارتوت منه روحه
رفع رأسه بشكل مفاجئ، لينظر إلى -معذبّة قلبه- قائلًا :
كنتِ تعرفي إني في مصر ؟
صمتت لوهلة، لتُهمس بعد فترة بإبتسامة تعبة:
كنت أعرف
هزّ رأسه متعجبًا :
كيف عرفتي ؟ وليش ما خبرتي أهلي أو حتى قايد وزيد ؟
تنّهدت زينة بخفوت، لتُكمل بهمسٍ هادي:
عرفت من رسالتك، وجملتك " تأخرت على هذه الخطوة واجد " اللي قلتها لي
أما عن ليش ما خبرتهم، لأني أفهمك
نظر له بدهشة، وفي كل مرة زينة تبُهره ، أكملت :
أفهم شعور الإنسان لما يبغى يستتر من جِراحه، أفهم كيف يعتكف في أشد الأماكن ظُلمة حتى ما تبين ندوبه
أنت كان لازم ترمم نفسك بنفسك، لأنك أنت اللي دخّلت نفسك هذه الحالة
أحيانًا الإنسان ما يحتاج يد عون، كثر ما يحتاج ينقذ نفسه بأقل الأضرار بس
مسح على خدها بحُب عميق وعيناه تشتعلان بعاطفته العميقة
لتقول زينة وسط تأملاته في صفحة وجهها بجدية:
أبسط لي يدّ الوعد
-عقد حاجبيه بخفة وسط كلامها لتُكمل زينة-
أوعدني ما يجي يوم تهمّش دوري من حياتك؟ وتعدّني زوجتك وبنت عمك وأم بنتك؟
أوعدني لأن لو تصرفت مرة ثانيـ..
قطع انثيال كلامها، اصبعه الإبهام .. ليقترب منها وهو يقول بهمس عميق جدًا، محب وعاشق:
بعد وجودش مافي مرّة ثانية، وأوعدش اليوم، والجاي من عمري كله إنش تكوني الأوُلى .. والأوَلَى
ليختتم كلامه بقبلة رقيقة، هادئة، توعدها بحياة تشبهها




-
يقف أمامه كالمذنب ، بلا ذنب .. أمام باب المنزل
جميع الأعذار والتبريرات التي كان يودّ صفّها، خانته من نظرة قهر واحدة في عينيّ والده :
اسأل نفسي، يحق لي بعد هالسنين كلها أمد يدي عليك وأنت اللي تجاريني في الطول؟
قالها سيف بنبرة حملت وجع الاب على ابنه ، ليقول حاتم بخضوع تام :
روحي يبه لو تطلبها ما سألتك عن حقي فيها!
وبعد كلامه، هوت صفعة على خد حاتم رغم ضِعفها !!
صفعة فاجأته ولا ينكر.
ليقول سيف بنبرة مرتجفة من الغضب :
هذه عشان أمك اللي ظلّت ترثي ولدها الغايب الحاضر وما بقى فيها ذرّة عقل من شوق في صدرها !
لا تطلب مني عفو ومغفرة، أنا أعذرك لأنك تربية يديني
بس أمك، ثم أمك، ثم أمك .. إن ما سعيت لرضاها وطيّبت خاطرها .. بيتي يتعذرك
أخذ حاتم نفسًا عميقًا وهو مغمض العينين، ليفتحهما بعد ثوانٍ طويلة وهو يقترب من والده
انحنى، لثّم يديَ والده في قبلة إعتذار عميقة وقد هاله ذاك التَعب وكمّ الحسرة المنحشر داخلها :
سامحني يبّه، عهدٍ علي ما أوجعكم بفعايلي مرة
أمس أنا ابن وزوج، واليوم أنا أب .. اللي يوجعني، تأكد ما راح أوجعك فيه
تراجع سيف وهو يتنفس بعمق، ليقول بنبرة جادة:
ادخل على أمك وخواتك!
استجاب حاتم لطلبه وهو يدخل للداخل ملهوف الخطى، يمتطيه حصان الشوق والإشتياق ويجلده سياط الذنب والوجع
وقف أمام باب الصالة وزفرّ بقوة، ثم رسم ابتسامة واسعة
واسعة جدًا ، حقيقية لا مصطنعة !
فتح الباب ودخل، وحين رأته والدته بعد دقائق صدمةٍ وعدم تصديق .. بكت !!
لم يكن بكاءً فقط، بل عويلًا خالصًا ناصع الراحة والسكينة
لم يبكيها طول بُعده، ولا شوقها المتقّد بداخلها
ما أبكاها إلا نور وجهه .. وطول ابتسامته
عاد حاتم، عاد ابنها مثلما كان عليه قبل سنوات !
عاد نظيفًا، نقيًّا، خالٍ من العيوب التي شوّهت جمال روحه
سارع بخطواتها نحوها، احتضنها بقوة شديدة !!
الحضن الذي كان يتملّص منه شابًا، ها هو ذا يعود إليه رجلًا
تنّهد والأسى يكويه، لكن لا !!!
لا مجال للأسى اليوم، لن يرفع سوى لافتات الحُب والإشتياق
طبطب على ظهر والدته وهو يهمس في إذنها بجميع لغات الإعتذار !!
دمعةً واحدة منها تسوى ألف ألف عذرٍ .. فكيف بهذا الكمّ الهائل من الدموع ؟!
همست والدته وسط نشيجها بصوتٍ حانٍ :
إن كان في صدري كلمة عتب عليك فيشهد الله إني نسيتها بعد ما شفتك داخل عليّ بابتسامتك
يكفيني هالوجه الأبيض .. يكفيني
قبّل رأسها وجبينها ويديها بقوة ، هامسًا بعمق العُمق:
ما أكبر قلبش يا أم حاتم، مهما خطّ الشيب شعري ترجعيني له طفل صغير
ربتت على خده وهي تمسح دموعها بابتسامة مماثلة:
ومن قال إن الشيّب مقدارك عندي، أنت بكري أول أنعُمي ، مهما جاورتني بالمشيب تظل بعيوني طفل!
تنّهد براحة نافست نبضات قلبه، ليلتفت نحو -أميراته الثلاث- المصطفات بجانب بعضهن البعض
والدموع تجد مجراها كسيولٍ جارفة :
ما بتسلمن على أخوك ؟
قالها بابتسامة لينتفضن ثلاثتهن من مكانهن ويحتضننه في حضنٍ جماعي -أخوي- محبب للقلب
ودّت أم حاتم في وقتها لو أن تلتقط صورة لهذا المشهد وتبقى محفورة في الذاكرة وفي الإيطار :
خلاص يا بنات الحلال ملابسي غرقت !! تو أعرف إني غالي لذي الدرجة
ابتعدت ضحى أولًا وهي تمسح أنفها السائل ودمعها المنسكب لتقول بمرح رغم تنشجها :
والله غالي من زمان بس أنت العيّار اللي ما خليت لنا مجال نبين لك غلاتك !
قرص خدها وهو يضحك بخفة :
العيّارة أنتِ ياللي لسانش يطول ما يقصر !
تبادل الاحاديث الوديّة مع أختيه ، سألهما عن زيد وعبدالمجيد .. وعن حامد المستلم لعمله منذ يومين، سأل عن آبن اخيه ، وعن سميّه بالذات
التي هتفت على إثرها حنان بدهشة :
كنت تعرف إني مسمتنه عليك ؟
حاتم وهو يضع يده من كتف والدته :
هيه أعرف، زيد باقي يهلّ الأول والتالي
نظرت له أميمة بحنقٍ مصطنع، وهي سعيدة بهذه التغييرات التي تشهدها في أخيها :
الحين زيد اللي ماقدر يمسك لسانه، يا مسكين الله يلوم من يلومه
هتفت ضحى بإندفاع تام :
بدأ شفت وزارة الدفاع بدأ .. فكيّها الله يفتحها بوجهش
قرصتها أميمة من فخذها ليبدأن بتراشق الضربات من هُنا وهُناك وابتسامة صغيرة ترتسم على وجه حاتم
دخلت حنان إلا إحدى الغُرف ثم عادت وبيدها -حاتم الصغير- الذي أجلسته بحضن -حاتم الكبير-
مسح حاتم على رأسه بحنان عظيم وقبّل رأسه :
السلام عليكم خالي الصغيّر، نورت الدنيا
ابتسم حاتم الصغير فجأة لتتبين لهم أسنانه القصيرة التي على وشك الخروج
ضحك حاتم وهو يلتفت لوالدته :
أميمة سمّت سيف وما طلع على سميّه، ولما سمّت حاتم طلع شبه أبوي
ابتسم أم حاتم بخفوت :
عقبال أشيل بنتك وعيالك في حضني !
ابتسم حاتم بخفّة، ناول ابن أخته لضحى القريبة منه، انحنى على إذن والدته هامسًا بحب:
يمه زينة تعتذر لش على اللي بدر منها طول هالشهور، وحلفتني من بكرة أوديش عندها من صبح ربيّ !
ربتت أم حاتم على صدره هامسة بطيب قلب :
ياولدي أنا ما ألوم زينة على اللي سوته، ضربة وراء ضربة وراء ضربة لين قلب المسكينة تعب !
الله يغفر لها ويطيب خاطرها ويخليك هي وبنتها لك
همس بآمين خافتة، رغم خفوتها كانت قوية شديدة
وقف من مكانه، ودّع والدته ووعدها أن يعود ليبيت في غرفته الليلة وبالقُرب منها
ودّع أخواته كذاك وعدًا إياهن بجلسات أخوية أكثر دفئًا ومحبًا
خرج من المنزل، ليلاقي أمامه زيد المتكتف وعلى وجهه نظرة حارقة
تنّهد حاتم وابتسم، رفع يديه على مستوى كتفه وأردف :
الحين أنا جاهز لأي قِصاص ترضاه !!
أنزل زيد يداه، تقدم نحوه بعقدة حاجبيه وظلّ ينظر إلى صفحة وجهه بتمعن !!
وما هي إلا ثواني فصلت بينه وبين قبضة يده التي وجّهها نحو بطنه
انحنى حاتم يمسك بطنه بقوة وهو يشعر بأمعائه تعتصر من قوة الضربة، أردف بنفس مكبوت باسم :
عايلة مع تعرف تعبّر عن شوقها إلا بالعُنف
أمسكه زيد من رقبته بحدة، ليجعل وجهه في مستواه، ثم سدد لكمة آخرى بنفس مكان أختها
تنّفس حاتم بصعوبة وهو يضحك:
يا سلام عليك، كنت انضرب عشانك وصرت تضربني بيديك !!
صدق من قال علمته الرماية ولما اشتدّ ساعده رماني
عضّ زيد على شفته بقوة، وهو ما زال صامتًا أمام نكات حاتم السخيّفة
لا يدري كيف يُكمل -القِصاص- مثلما يقول، هو لا يحبّذ الضرب
بل وفي حياته بأكملها لم يضرب أحد، على العكس فقد كان يتعرض للضرب
وفي كل مرة يتعرض له، يأتيه حاتم لينقذه !
لكنّ الآن، الآن قلبه يحترق .. يشمّ تمامًا رائحة احتراقه بسبب هذا الأحمق الذي جعله يعيش شعورًا كريهًا في بُعده :
ماتوقعت يجي اليوم اللي اضربك فيه .. وارتاح
هتف بها زيد بإنفعال، ليضحك حاتم :
دروس الماضي جابت فايدة يعني ؟
لكنّ أخيرًا انطفى ذاك الحريق في صدره وهو يرى بسمة حاتم وضحكته ..
أخيرًا انتثر الرماد بفعل ريحٍ باردة !!
ليحتضن حاتم بقوة، قوة أوجعت صدر حاتم المتحسّر
بادله الاحتضان ليتنّهد ببطء !!
إلا زيد .. إلا هو
متأكد أنه مستعدٌ أتم الإستعداد لإشعال النار من أجله
من أجل أن لا يرى شوك الحسرة والوجع ينغز خاصرته
هذا -بسيط الروح- لا تُناسبه إلا -عظمة الرُتب- !! :
بطلّع هذه الغيبة من عيونك عارف ؟
قالها زيد هامسًا، ليضحك حاتم بخفة وهو يهزّ رأسه :
ما تكون زيد أصلًا ..
ابتعد زيد وهو يتنّهد، يمشّط وجه حاتم بسكينة عميقة استوطنت روحه
حاتم بخير، حاتم عاد .. وهذا المهم
بادره حاتم بسؤاله المفاجيء - المحبب لقلبه فعلًا - والذي يفخر بإجابته في كل مرة :
لقيت أهلك ؟
-لقيتهم !!
-سامحتهم ؟
-ما كان لي قلب أغضب عليهم، تعرف ربيعك
-عزّ المعرفة، وش شُعورك وأنت صار عندك -درزن خوات- مثل ما تحب وتتمنى ؟
ضحك زيد وهو يتراجع للخلف خطوة :
أولًا خواتي ما ينقال عنهن -دزرن- ، ينقال عنهن "حاشية"
ثانيًا شعوري خليّه على الله .. ولا اللي عندي ما خوات ، مشاركات ( طباين )
حاتم بضحكة ثقيلة :
كان الله في عون أختي عليك ..
بان التردد للحظة في وجه زيد، لكنّه أردف بمصارحة -تأخرت- ربما :
حاتم، تذكر قبل سنة لما كلمتني عن وصية ابوي وليش ما فتحتها رغم مرور هذه السنين كلها ؟
هزّ حاتم رأسه بإيجاب في صمت، فأكمل زيد وهو يتنّهد :
فتحت الوصية قبل شهر، ومثل ما توقعت .. كان أبوي كاتب فيها نسبي الحقيقي لأبوي حاكم !
ومن وقتها عرفت سبب خوف أمي وبُكاءها في كل لحظة أخبرها فيها عن الوصيّة
تنّهد حاتم بخفة، وضع يده على كتف زيد مؤازرًا :
هذه خالتي نِعمة، تشوف الدنيا في كُم وزيد في كُم ثاني، إنهيارها كان من خوفها !!
تخاف تفقدك، أو تتضايق منها بعد ما تعرف الحقيقة
نظر له زيد بدهشة، ليقول بتأثر بعد وهلة:
حاتم عُمري في حياتي ما راح أتخلى عن أمي مهما كانت الأسباب عظيمة، الأم ما اللي تولد .. الأم اللي تربيّ وتكبّر
وأنا أمي رغم فقرها ذاك الوقت، شالتني في عيونها الثنتين
ابتسم حاتم :
الله يخليك لها، وتأكد إن جزاك عند رب العالمين عظيم ! أنت يا زيد ابن بار بأمك .. والحين بعد ما صار عندك أميّن .. وأب
ما أتوقع إن برّك فيهم راح يتغيّر
ابتسم زيد بسكون وإمتنان، ليلتفتا الاثنين إلى قايد الذي تقدم منهم قائلًا بصوتٍ أجش :
خلصتوا غراميات أنت وإياه ؟ ولد عمّكم الفقير يبغى نصيبه
نظرا حاتم وزيد لبعضهما البعض، ليقول الأخير :
هذا وهو متزوج قريب !
تزايدت ضحكات قايد ليتقدم نحو حاتم ويحتضنه بقوة، قوة أودع فيها مدى طِيب خاطره ورضى نفسه، ورضاه عليه
ليس غاضبٌ بعد الآن على حاتم، ولا حتى زينة
يبقوا أبناء عمه، ومهما حصل فإن " الظفر ما يطلع من اللحم " :
نورت بيتك!
قالها قايد بابتسامة هادئة، ليقابله حاتم بشبيهتها :
الله يسلمك، مبارك عليك زواجك .. هذا هو قايد ما سهل أبدًا
يضرب الرأس اللي يبغاها ولو بشقّ الأنفس
ضرب قايد صدره قائلًا بفخر -مرح- :
ولدك عمك ما يحط في رأسه شيء إلا وجابه ..
-ليقول بعدها بحنقٍ حقيقي-
وزين منك رجعت، يا عمّك مُرشد هذا جنني طول ذا الشهور
قسم بالله حسيّت يوم من الأيام إن ذابح عياله
يا رجال عمّك هذا غريب غريب، صرت خايف بدلّوا له عقله من رجع !
تخيّل بس، تخيّل قبل زواجي بيوم جانا بيت أبوي وقال لي قم بس خلنا نصعد الجبل !
مستوعب أنت ؟ خلاني اصعد الجبل وأنا في حياتي كلها ما صعدته .. لا وماخذني مع ربعه الشيّوبة !
مطلعني أول الصبح ومرجعني آخر النهار .. ووالله يا تضاربوا هو وأبوي وتلافعوا بالعصيات
وأبوي معصبّ يقوله ولدي بكرة عرسه وأنت ماخذنه يضارب مع ذي الجبال
وعمي مرشد يصرخ من صوب إنه ذا اختبار حال رجولته عشان ما يفشلنا بكرة في بنت الناس
طوال ما كان قايد يتحدث، فإن الضحكات لم تختفي عن ثغر حاتم وزيد !!
كم عانى قايد من مُرشد كثيرًا، ترّصد له، أدبه و -طلّع عيونه- !! لكي يتحدث بهذه الحُرقة
حاتم بابتسامة واسعة، وهو يغمز للواقف خلفه:
وش سويت أنت ؟
رفع قايد يده بلامبالاة هاتفًا :
طنشتهم باثنينهم وقفلت على نفسي في غرفتي، ونمت نومة عميقة ما حسيت فيها إلا اليوم الثاني ظهر
-ما شاء الله، واقف تفتخر لي ببطولاتك اللي بدون مجهود ؟
أغمض قايد عينيه بقوة وسط بسمات الاثنين أمامه، همس:
يارب ما اللي في بالي يارب ما اللي في بالي
-ولد !!
قالها مرشد بصوتٍ ثقيل فالتفت له قايد بعينين محذرتين :
شوف، والله لو فكرّت تمد يدك عليّ بصرخ وبألم العالم عليك
-ياحبيبتي أنتِ لهذه الدرجة أنا أخوف ؟
قالها مرشد بسخرية مصطنعة، انتصب قايد في وقفته
حكّ رقبته بشيء من التفكير :
ياليل ما أطول هالليل، عمي أصبح وأفلح تراك واجد حاط دوبك من دوبي
هذا زوج بنتك استلمه بعد نحشته !
ابتسم مرشد فجأة وتقدّم نحوه ليضع يده على كتفه:
خلاص خلاص، أنا كنت أربيّك من شفتك حايد عن الطريق المستقيم .. بس ما شاء الله
واضح مجهودات بنت الوكيل عليك
سرح قايد لوهلة، ثم قال بنبرة تشّع من الشوق:
ياحي ذا الطاري، أشهد إن الشوق ماكلني .. وكله بسبب زوج بنتك!
صرخ مرشد في وجهه بغضب، ليرتاع قايد وهو ينفذ بجلده متجههًا لسيارته بعد أن رآه يتناول حجرًا صغيرًا ويرميه عليه
بصوته العالي الغاضب:
يا أسود الوجه ما تستحي تتغزل فيها قدامي، اتفووه يا خسارة تربيتي فيك
صرخ قايد هو الآخر قبل أن يرفع نافذته :
والله ما أخليها لك يا مُرشد، راجعة لك راجعة
فر هاربًا بعد أن نثر بعض الغُبار بسبب عجلاته سيارته وسط ضحكات حاتم وزيد المستمتعة بهذا الحوار
فعلًا شخصيّة عمهم مُرشد قد تغيّرت كثيرًا منذ آخر مرة رأوه فيها
ابتسم مرشد وهو يهزّ رأسه بالنفي:
هذا الولد على كثر ما يجننبي، لكنّي أحبه .. الله يحفظه





*
-
تعاقب الليّل والنهار، توالت الأيام يومًا بعد يوم .. بعد يوم
مسطّرة في صفحاتها مسيرة عزمٍ، جرت مجرى الدماءِ بهم
قصة، ابتدت أولى حروفها تحت الغافة، لتكتمل في ذات المكان
ليست النهايـة، بل هي البداية بحدّ ذاتها
-
في بيت الجبـل، وتحديدًا في غرفتهم الخاصة -بعد التجديد-
خرجت زينة من دورة المياة بعد استحمامٍ مطول
ينتشر الاحمرار على وجهها نتيجة الماء الساخن وبخارها
هتفت بدهشة وهي ترى حاتم يناغش لين على السرير، التي أكملت اليوم شهرها الثالث :
حاتم، بعدك جالس هنا ؟ أهلنا على وصول
رفع حاتم رأسه، بل وجسده بأكمله حين رآها تخرج بهذه الصورة، صورة ملاك
ملتفّة بالروب الأبيض، وشعرها الأجعد يسطّر من خلفها حكاية عنفوانٍ وصخب
مدّ يده لها، فاستجابت له .. أجلسها على قدميه وهتف بابتسامة:
والله أهلنا هذا البيت بيتهم، ما يحتاجو عزايم ولا استقبال
أمالت فمها بعد رضى، لتُردف :
العلّة ما في أهلنا، العلّة في راعي البيت اللي من يشوف بنته ينسى الدنيا
ضحك حاتم وهو يلتفت إلى لين المتمددة على ظهرها في السرير، تنظر له بشغف الأطفال:
شفتي العيّارة لعبتها الجديدة ؟
عقدت زينة حاجبيها، لتراه يمدّ يديه إلى لين ويحملها، وفور أن حملها دسّ أنفه في عنقها وبدأ بإصدار أصواتٍ من فمه
في حين بدأت لين بالضحك كثيرًا
ضحكت زينة على هذه الحركة، بل وعلى ضحكات ابنتها
أردفت برقّة :
حاتم بــس حرام عليك !!
إلا أن حاتم وضع ابنته على السرير بشكلٍ سريع، ليهجم عليها بنفس الحركة، حينها تزايدت ضحكاتها هي الآخرى
فشعيرات ذقنه النامية كانت تدغدغها كثيرًا :
عرفتي ليش بنتي تضحك الحين ؟
هدّأت زينة من الضحك بعد أن ابتعد عنها حاتم لتقول بأنفاسٍ مقطوعة:
عرفت عرفت، وأنت لازم اللي تطبقه فيها تطبقه فيني ؟
غمز لها بحنيّة :
لا تغار الأم من بنتها، ويضيع حاتم بينهم
وقفت من على قدميه لتتجه نحو طاولة الزينة وهي تتناول مبخرها وتضع فيه بخورها :
استريح كان هذا بيريّحك، ما أغار من بنتي على أبوها
-التفتت له برجاء-
حاتم فديتك في أغراض في السيّارة ما نزلتها، روح نزّل لي إياها
أنا توي طالعة من المطبخ وما صدقت على الله آخذ شاور ينعشني قبل لا يجووا أهلنا
وقف حاتم وهو يحمل لين في حضنه برفق ليقول:
زين حبيبتي، باخذ لين معي عشان تتجهزي على راحتش
خرج مع ابنته متجهًا إلى سيارته المركونة في مواقف بيت الجبل !!
أخرج منها الأغراض المنشودة ووضعها أعلى سقف السيّارة
لتتسع إبتسامته وهو يرى السيّارات تصعد تباعًا ، ها قد وصلوا أهله إلى منزل الطفولة والصِبا !
في عزيمةٍ على شرف عودة زينة .. وولادة لين !
كان قايد والجوهرة هما أول الواصلين، وفور رؤيته قايد للين اتسعت ابتسامته وأردف:
ياحلااااة البنات، هات يا ولد
حملها قايد وهو يقبّلها مرارًا وتكرارًا حتى أوشكت لين على البُكاء، أعادها بسرعة لحاتم يداري جريمته ليُردف :
أقول خذ بس، دلوعة ومايّعة بنتك
ضحك حاتم بخفّة :
لا ياشيخ ، بعد ما أجرمت فيها جاي تسّبها
-وجه كلامه نحو الجوهرة بأسلوبه المحترم والجاد-
مسّاش الله بالخير يابنت صقر !
توارت الجوهرة قليلًا خلف جسد قايد العريض لتُردف بهدوء:
بالنور والسرور يابو لين، مبارك ما جاك ! الله يخليلك إياها
حاتم بذات النبرة :
اللهم آمين، والعقبى لكم .. تفضلّي حياش الله الصالة على يمينش
تقدما قايد والجوهرة إلى باب بيت الجبل، لتتسع ابتسامة حاتم وهو يرى وقوف سيّارة زيد برفقة أميمة
ومن خلفه سيّارة حنان وعبدالمجيد الذي نزلوا منها أطفالهم ليُحاوطوه راغبين برؤية لين :
شوي شوي يالقرود، باقي تتسلقوني أنا وبنتي
ضحك زيد وهو يسلّم عليه -خشمًا لخشم- ثم قبّل حاتم رأس أميمة:
لا تسمعك بنت عمي، والله ما تخليّك الليلة إلا بعد ما تقرأ عليهم الرقيّة الشرعية
مسحت أميمة على يد لين التي تحركها في الهواء :
أنتو اذكروا ربكم عليها بس، حبيبتي ياحلوة ودي أكلها
تراجع حاتم خطوة بابتسامة ضحوك:
لا تآكليها يكفي في بطنش واحد .. وخري عن بنتي
أميمة بابتسامة تغمز له وتنظر لزيد في آن واحد :
مافي وخرّي ما وخرّي، بنتك لنا من الحين !
-خالي نزلها أبغى أشلها
-خالي أبوسها أبوسها
-أنا أنا !!
كان الثلاثة يتراقصون حوله بإزعاج ليُردف بصوتٍ جاد :
خلاص أنت وإياه، دخلوا داخل وخالة أميم بتجيبها لكم .. يالله
-ثم التفت نحو الاثنين أمامه-
هيه على شحم أنتِ وإياها، ما باقي إلا عادات الجاهلية أطبقها في بنتي .. بنتي شيخة بختار لها شيخ
صفّوا في الطابور
-شامّة ريحة خيّانة، من اللي بياخذ بنت أخوي من ولد عمتها ؟
وخروا أنتِ وإياه .. لين لسميّ أبوها
قالتها حنان من خلفهم بذات المرح المعجون من روحها، ليضحك حاتم على جدالهم، وهو يلّوح بيد لين في الهواء :
لا الظاهر بنجيّب الدفتر ونسجّل المرشحيّن بالدور
دخلا زيد وأميمة بعد تبادل الضحكات، سلّم حاتم على عبدالمجيد بودّ وهدوء، وكذلك على حنان بعد أن قبّل رأسها :
وين حامد ؟
-جاي وراي معه زوجته وأمي وأبوي !
قالتها حنان لتدخل لداخل المنزل ويتجّه عبدالمجيد إلى المجلس
وما لبث أن صعدت سيّارة حامد برفقة من ذكرتهم أميمة
ابتسم بهدوء، كُتب عليهم اليوم أن يستقبلهم جميعًا .. واحدًا تلو الآخر
قبّل رأسه أمه وأبيه وسلّم على حامد وزوجته :
يمه الله لا يهينش خذي هذه الأغراض وأعطيها زينة
هزّت والدته رأسها بإيجاب ودخلت بعد أن قبلّت خد لين التي تنظر للداخلين تباعًا
كاد أن يدخل خلفهم لولا أن رأى سيارة آخرى قادمة فوقف في مكانه يضحك بخفّة .. خرج منها عبدالرحمن .. وحاكم
وسرعان ما اتسعّت ابتسامته حين تقدّما منهم وسلمّا عليه :
من الحين ياعمّ لاصق في عم حاكم ؟ لا تقولي ياعمّي ما أغلى من البنت إلا زوج البنت ؟
هزّ حاكم رأسه وهو يضحك بخفة :
وأنا أشهد .. عبدالرحمن نسيبي ومن توقيعة العقد هو بحسبة ولدي
دعوة لطيفة خرجت من ثغر حاتم بعد أن دعاهم للدخول !!
عبدالرحمن خطب رغد من حاكم !! لأمرٌ عجبوا منهم
لكنّ استنتجوا -وإن لم يذكروا- أن عبدالرحمن أراد أن يعزز العلاقات مع زيد بعدما فعله معه في أوقات شدّته
تنّهد حاتم وهو يلاحظ أثر غروب الشمس لهذا اليوم
تقدّم بخطواته ووقف أمام الغافة الشامخة .. وعقله، يأخذه إلى ذاك المشهد الوحيد و-اليتيم-
/
\
"
كان عائدًا من مباراة كرة القدم برفقة أصحابه، متشحًّا بالتُراب والطين والعرق الكثيف
يحمل حذاءه في يده .. وما إن تقدم لكي يدخل بيت الجبل ويستحم
فوجئ وهو يستمع لصوتٍ خافت قادمٌ من إحدى .. أغصان الغافة الثقيلة
رمى حذاءه واتجه بحميّة صبي الـ14 ربيعًا آنذاك إليها، وما إن وقف حتى صرخ في المتعلّقة بالغصن :
يا مجنونه وش طلعشّ فوق ؟
-زينة- التي صعدت الغافة عن طريق جذعها المنحني بشدة، لم تجد طريقها للنزول !
فظلّت تبكي خوفًا من السقوط، وخوفًا من الوحيد :
حاتم ساعدني، طلعت وماقدرت أنزل
كانت آنذاك في عُمر الستة سنين .. ضئيلة الحجم، قصيرة الطول !
كيف استطاع الصعود إلى هُناك دون مساعدة؟
لكنّها زينة -المتمردة- منذ صغرها .. كيف لا تستطيع ونزعة المغامرة موجودة فيها منذ الصغر !!
والفضل بعد الله يرجع إلى أبيها مُرشد
درس الوضع سريعًا وهو متوتر، إن صعد جذع الغافك فلن يستطيع النزول بها
وربما قد يتعثرونه ويسقطون جميعًا في الأرض الممتلئة بالحصى والحشائش الميتة
لذلك وجد أن الحل واحد .. تلّقفها
وقف أسفل تمامًا، هتف بجدية سابقة لسنّه:
سمعيني .. أنا بمد يديني وأنتِ طيّحي نفسش !
هتفت برعب ممتليء بالدموع :
بطيح بطيح وأتعور
زمجر فيها بغضب، ليقول محاولًا تهدئة نفسه :
ما بتطيحي ، أنا بمسكش بيديني لا تخافي ! انزين ؟ زيينة شوفيني أقولش انزين ؟
هزّت رأسها ببطء والدموع تشوش النظر، مسحتها بسرعة وهي تستمع لعدّه من الواحد حتى الثلاثة
وما لبث أن نطق بالثلاثة حتى رمت نفسها بين يديها وتلّقفها بحضنه !!
تمدد على الأرض بظهره والآخرى بجانبه، سقوطها كان -شبة- قوي نظرًا للإرتفاع الغصن
تأوه حاتم وهو يشعر بالحرقان في يده، وبكت زينة التي تألمت هي الآخرى
لتهتف بجزع حين رأت الدماء، دماءه ودماءها :
دم دم !!
وقف حاتم بهدوء وهو يُمسك -كوعه- الذي تأذي من السقوط بجرح غائر .. ليمسك كفّها الذي تأثر قليلًا مردفًا بهدوء:
دم خفيف شوفيه، ما واجد !
روحي داخلي خلي عمي مُرشد يطهره لش، ولا تخليّه يعرف إنش طالعه الغافة بدون وجوده
-وأنت؟
قالتها بنبرة مرتاعة، تنظر إلى جرحه ليقول بهدوء متألم :
جرحي بطهّره وحدي .. روحي يالله
رحلت حينها وعيناها تلاحقنا، وما استراحت حتى رأته يدخل ويغسل الدم ويطّهره وحده -مثلما- قال "
-
ابتسم لهذه الذكرى التي مرّت على عقله، واحدة من الذكريات التي لا ينساها
منذ الطفولة، امتزج دمه بدمعها تحت أسفل الغافة، وما زال الجِرح هُناك بندبته برفقة ندوبه الآخرى
همس لابنته لين التي هاجمها النُعاس في حضنه :
شفتي أنا وأمش ؟ جمعنا أول جرح تحت هالغافة ..
وتشرّب ترابها قطرات دمنا
وأنتِ .. بكرة تغزل لش خيوط الشمس الحكاية تحت غافة العزم
وبدعي يا أبوش بعمق شموخها إنها ما تواجهش بالجراح






نحنُ شمسٌ ضديدها القمْر
نحنُ الغافةِ عديلها المَاء
نحنُ عينٌ وردُها الفَلج
نحنُ البداءة نحنُ المُستَهَلّ
نحنُ الخِتام ونحن المستقرّ
النهـاية ❤

yasser20, soml angel and Salma_3_ like this.

الكاديّ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 30-06-22, 03:35 AM   #109

Salma_3_

? العضوٌ??? » 421124
?  التسِجيلٌ » Mar 2018
? مشَارَ?اتْي » 197
?  نُقآطِيْ » Salma_3_ is on a distinguished road
افتراضي

رووووايه جميله 🥹❤

استمتعت بقراءتها مشكوره 💕


Salma_3_ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 30-06-22, 11:29 AM   #110

BNO1957
 
الصورة الرمزية BNO1957

? العضوٌ??? » 456128
?  التسِجيلٌ » Oct 2019
? مشَارَ?اتْي » 232
?  نُقآطِيْ » BNO1957 is on a distinguished road
افتراضي

ماشاءالله الرواية تجنن ابدعتي يامبدعه ومنتظرين جديدك 💙

BNO1957 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:05 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.