آخر 10 مشاركات
همس الجياد-قلوب زائرة(ج1 سلسلة عشق الجياد) للكاتبةالرائعة: مروة جمال *كاملة&الروابط* (الكاتـب : Gege86 - )           »          العشيقة البريئة(82)للكاتبة كارول موتيمور(الجزء الثالث من سلسلة لعنة جامبرلي) كاملـــه (الكاتـب : *ايمي* - )           »          وشمتِ اسمكِ بين أنفاسي (1) سلسلة قلوب موشومة (الكاتـب : فاطمة الزهراء أوقيتي - )           »          لعنة الحب والزواج(81) للكاتبة كارول مورتيمور(الجزء الثاني من سلسلة لعنة جامبرلي)كاملة (الكاتـب : *ايمي* - )           »          فرصة أخيرة -ج 2حكايا القلوب-بقلم:سُلافه الشرقاوي[زائرة]كاملة &الروابط* (الكاتـب : سلافه الشرقاوي - )           »          استسلمي لي(164)للكاتبة:Angela Bissell (ج1من سلسلة فينسينتي)كاملة+رابط (الكاتـب : Gege86 - )           »          224 - ألن تسامحيني أبداً - كارول مورتيمر - ع.ج ( كتابة / كاملة)** (الكاتـب : Fairey Angel - )           »          رواية بحر من دموع *مكتملة* (الكاتـب : روز علي - )           »          لاجئ في سمائها... (الكاتـب : ألحان الربيع - )           »          الدخيلة ... "مميزة & مكتملة" (الكاتـب : lossil - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

Like Tree247Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 11-05-22, 04:34 PM   #31

الكاديّ
 
الصورة الرمزية الكاديّ

? العضوٌ??? » 490082
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 300
?  نُقآطِيْ » الكاديّ is on a distinguished road
افتراضي


اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نورة502 مشاهدة المشاركة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
عنوان غريب ومميز، والمقدمة أجمل وفيها من العمق والجمال الكثير والكثير.
.
.
.
‏لدي سؤال: هل هي مكتملة لديك؟
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته نورة
أسعدتيني بجزيل كلامك ❤

نعم الرواية مكتملة لدي والحمدلله

تايست likes this.

الكاديّ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 11-05-22, 11:05 PM   #32

Salma_3_

? العضوٌ??? » 421124
?  التسِجيلٌ » Mar 2018
? مشَارَ?اتْي » 197
?  نُقآطِيْ » Salma_3_ is on a distinguished road
افتراضي

متحمسسسسسه للبارت
رحمت قايد وين مايطقها عوجا 😩😩

الكاديّ and تايست like this.

Salma_3_ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 12-05-22, 06:14 PM   #33

صل على النبي محمد
 
الصورة الرمزية صل على النبي محمد

? العضوٌ??? » 404607
?  التسِجيلٌ » Jul 2017
? مشَارَ?اتْي » 2,174
?  نُقآطِيْ » صل على النبي محمد has a reputation beyond reputeصل على النبي محمد has a reputation beyond reputeصل على النبي محمد has a reputation beyond reputeصل على النبي محمد has a reputation beyond reputeصل على النبي محمد has a reputation beyond reputeصل على النبي محمد has a reputation beyond reputeصل على النبي محمد has a reputation beyond reputeصل على النبي محمد has a reputation beyond reputeصل على النبي محمد has a reputation beyond reputeصل على النبي محمد has a reputation beyond reputeصل على النبي محمد has a reputation beyond repute
افتراضي

اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد

لا تنسوا الباقيات الصالحات

سبحان الله

الحمد لله

لا إله إلا الله

الله أكبر

لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم

الكاديّ and تايست like this.

صل على النبي محمد متواجد حالياً  
التوقيع
لا إله إلا الله وحده لا شريك له
له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير
رد مع اقتباس
قديم 12-05-22, 10:17 PM   #34

الكاديّ
 
الصورة الرمزية الكاديّ

? العضوٌ??? » 490082
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 300
?  نُقآطِيْ » الكاديّ is on a distinguished road
افتراضي

مساء الخير للجميع .. نستكمل ما بدأناه على بركة الله
ومع الفصل السابـع ، أتمنى يكون طويل بعد هذه الغيبة
في هذه الفصل راح تظهر شخصية جديدة ✨

لا تهليكم الرواية عن الصلاة




الفصــل السابــع





-
بملامحه الجامدة بلا تعابير ، التفت له رويدًا رويدا ينظر إلى تقاسيم وجهه المُجعدة .. يُمعن بالكلام الذي خرج من فاهه ، شعر وكأن ما خرج منه ليس سوى دغدغة مرت على جلده وقشعرته ، ليس سوى مُزحة ثقيلة لا يقدر على حملها
همس بإستهزاء موجع :
هه ، صاحي ولا بديت تخرف يالشايّب ؟
اجترع زيد الجالس بالقرب من حاتم ريقه .. وهو يلمح الثوران في وجهه المكتوم .. خشى الإنفجار ، بل يخشى ما يتبع الإنفجار
هتف العم خلفان بذات الغضب :
هيه شيّبت بس ما خرفت ، صحيح ملّكت على واجد ناس
ومن بينهم أنت .. لكن ما نسيتك أنت بالذات
همس سيف بدهشة :
يا عمّي ، ولدي كيف يملّك من وراي ؟
اخرج ورقة من جيب ثوبه المعتّق ، بعقدة حاجبيه :
لو إن مُرشد حي كان سألته عن السبب
لكن مُرشد مات وماتت معه أسبابه
-مد الورقة للجد عزّام بجدية-
وهذه الورقة اللي تثبت كلامي .. الورقة اللي فيها توقيعه وتوقيع زينة
تناولها الجد عزّام وهو يصرّ بعينيه حتى يقرأ ما بها .. لكنه لم يقدر بسبب عدم إرتداءه لنظارته ، مدّها نحو سيف المتوتر بشدة من الموقف الذي صنعه مُرشد من خلف ظهورهم ، تمعنّ في الورقة
اسم الزوج ، واسم الزوجة وولي أمرها ، أسماء الشهود الذي ضم أحدهم اسم مُرشد والآخر اسم عديّ ابن العم خلفان .. خمسة تواقيع تُثبت أن ما قاله صحيح ، وأن حاتم هو بلا شك زوجًا لزينة
ابتلع العبرة التي سُدت حلقه ، وهو يرفع نظراته نحو حاتم الذي ينظر له بنظرات باردة
حتى أردف سيف :
توقيعك موجود ...
سكت حينها وذاك السؤال الذي راوده ابتلعه في غيهب روحه ، سؤاله الذي يقول ( لماذا تنكُر ؟ ) وهو يعرف مُسبقًا ماهية إجابته
وقف حاتم وهو يتجه لوالده ، سحب الورقة من بين يديه .. قرأها بشكلٍ سريع ومُتمعن في الوقت ذاته ، تراجع خطوة للخلف وهو يضحك .. نعم يضحك من شدة تفاهة الموقف وعدم معقوليّته
رفع الورقة بوجه العم خلفان ، وذات الابتسامة الساخرة على وجهه :
جاي تلعب علينا بورقة لها سبع مدري ثمان سنين عندك
ومن قدمها صفّرت وبهت لونها ؟
نظر له بتحدي :
إذا ما كنت تصدّق هذه الورقة ، والتواقيع اللي فيها
روح دائرة الكاتب بالعدل واطلب وثيقة الزواج
أنا عاقد .. أبرمت العقد حسب الأوصول وسلّمت المرحوم استمارة الإشعار والطلب بيدينه
شعر بنَفَسه يضيق شيئًا فشيئًا ، شعر بالحرارة تجتاحه من الأسفل للأعلى .. شعر بأن روحه على مصاف الإنهيّار الكُلي ، إنهيار لا رجعة فيه ولا إقامة .. ما كان ينتظر هذا الموضوع أبدًا ولا كان يفكّر في الزواج بمسمّاه وبمعانيه وبما يحويه من حقوق وواجبات ، يُريد أن يطمس توابعه ويطمس السبيل الذي يؤدي إليه
لديه أحلام يريد بناءها بعيدًا عن قيود الزواج ، يُريد تحقيق المراكز والبُطولات والسمعة الجيّدة ، يريد الهروب من القدر وكلام من حوله ، وياللعجب !! هاهو الكلام يُعاود الطفو على سطح عقله
( هذا مجنون .
يقولوا مسكون .
حصّلوه هو وسيارته تحت الجبل .
دخل غيبوبة وطلع منها بشخصية ثانية .
فقد الذاكرة وما يتذّكر إلا أهله .
هذا اللي أخته هربت وتزوجت في المحكمة .
شفته في التوقيف متضارب مع زوج أخته ومطيّح دمانه )
وقائمة الكلام الذي كان يتهاوى إلى أذنه كهوي الحديد على النار تطول وتطول ، وفي كل مرة كانت جراحه تزداد ، وتتملّح ، ويبكي دمًا بصمته ، وتتنامى عنجهيّته بصدره ، ويرتفع بعدها هُرمون القسوة والصلابة ، ليُصبح على ما هو عليه اليوم
قاسٍ ، عنيف ، لا مُبالي ، متغطرس ، وعابس
بدأ صدره يضيق ، قد كان يرجو الإتساع وما زالت رجاءاته تخذله ، ماعرف الرحابة إلا ككلمة .. حتى أنه جهل معناها
لم يُداري إنكماشه سوى وسادته ، لم يُلاطف وجعه سوى السماء
حتى والدته ، وهو الذي خرج من رحمها محمولًا بحنيّتها المُفرطة ولُطفها الشفوق .. لم تستطع الولوج إلى مدارات روحه
وحدها السماء كانت عادلة بقضيّته ، عادلة لدرجة أن شمسها الحارقة أدفأت شبح وجعه ، لدرجة أن سحابها الكثيف اطفى بعضًا من ولعه بالموت
رفع الورقة ، مزّقها لنصفين .. ثُم لأربعة ، ثم لثمانيّة .. ثم لقطع صغيرة جدًا
وهو بهذا الحركة يُنفي ما ذُكر فيها ، همس :
ارجع مكان ما جيت وسوي نفسك ما قلت شيء
واللي قلته الليلة لا يسمع فيه حسّ مخلوق
نظر العم خلفان للورقة التي تناثرت أسفل أقدامه :
الحركة هذه ما تمنع صحّة كلامي وقولي ، كل شيء موجود ومسجّل في دائرة الكاتب بالعدل يا حاتم
بعثر القُصاصات بقدمه ، ونبضه يتسارع ، يشعر أنه على وشك الإغماء ولكنّ قطعًا لا .. لين يُمارس إنهياراته أمام الملأ
جرّ خطواته خارجًا من الأرض التي خاض فيها معركة ، سيُصبح هو الخاسر لا مُحالة
ولأن نفسه التوّاقة دائمًا للفوز لا تسمح له بالخسارة
فقد آثر الإنسحاب .. ومثلما يُقال ( الإنسحاب طيّب )
لعله يطيب .. ويستطيب درب الحياة الذي امتلأ بالشوك
حمل نفسه تاركًا جميع من بالمجلس في موقف لا يحسدون عليه
وعلى خروجه ، تراءى له سؤال العمّ خلفان المندهش :
اسألكم بالله ولدكم بعقله شيء ؟
ولم يفته جواب والده الذي جاء مشحونًا بالوجع :
ولدي فاقد ذاكرته ، شيء طبيعي ما يتذكرّ
ولا ماهو معقول يحضر خطبة زوجته
استعجل يجّر آثاره وهو يسمع كلمة والده التي تقرّ قولًا وفعلًا باستباحة ( زوجته ) لعالمه المظلم
أخرج مفتاح سيارته ، جاهلًا عن زيد الذي يتبعه من لحظة خروجه
سقط من يده بسبب رجفته الواضحة ، وكان سينحني له لولا يد زيد التي سبقته .. ومدّته له
تنّفس بصوتٍ مسموع :
لا تتكلم ولا تقول شيء ،ابعد عن وجهي
قدّر زيد موقفه فهو يرى الكبرياء يتسامى على وجعه:
اهدى يا حاتم اهدى تبغى تسوي حادثٍ ثاني وأنت توّك ما شفيت من الأول ، ترفّق بروحك وبجسدك هاللي ما يستحمل حديد زيادة
قضم شفاته:
شياطين الدنيا تتراقص قدام وجهي ابعد يا زيد لا يطلع واحد منهم وأخليك تشهد على موتك
أردف بجدية:
ما بعاتبك على الموقف الشنيع اللي تركت فيه بنت عمك
ولا أنت بحمل قسوة وملامة على اللي سويته .. لكنّ احشم أبوك ، وماء وجه جدّك قدام ضيفه، ولمّ الموضوع بينك وبينهم .. بهداوة
زفّر أنفاسه الحارقة التي لو كانت لهيبًا لأحرقت ما أمامه :
ما لأحدٍ منكم حق يعاتبني .. اللي صار صنع يدين عمّي .. أنا مالي فيه
بنظرات حادة أعاد كلام سيف :
توقيعك موجود
صرخ وهو يئن مما حصل :
وذاكرتي مفقودة ، أي الكفّتين أرجح ؟
ليصرخ زيد بذات النبرة :
كفّة يدك طبعًا .. يوم ذاكرتك خانتّك.. شهدت عليك يدينك ، تكذّب رجال شيبة ماله بَد من إنه يبتليك ، وتصدق ذاكرتك هاللي انمسح منها سنين ؟
بأي منطق هذا ؟
أغمض عيناه بقوة ، سحل أسنانه ببعضها البعض وتلك القوة التي تسلَح بها في المجلس باتت على وشك السقوط
ضغط زيد على كف يده والمفتاح في مُنتصفها ، بجدية :
ما بتفيدك العصبية ، خذ الأمور بتروّي وحكمة .. أنت العاقل رغم المصايب، أنت الصبور رغم صروف الدهر
-فتح باب السيارة وهو يأشر له-
أنا معك للمكان اللي تبي تروح له ، معك في حزنك وفرحك
ركب حاتم ليركب زيد من خلفه وهو يلتفت له
ويبتسم رغم الدمار الواضح على ملامحه:
أعرفك ما تصخى بي ، لذلك ترّفق ترا وراي أم أنا وحيدها
هيّا توكل على الله وألعن الشيطان يا بو سيف
حرّك سيّارته نزولًا من بيت الجبل نحو أسفل القرية التي تتوسع بيوتها والتي يتضّح بنيانها المختلف عن بنيان البيوت بأعلى الجبل
فهناك في الأعلى ، بالقُرب من السحاب ورشة النديم بيوت قديمة من طين متقابلة كالسُرر .. أما بالأسفل ، بيوت واسعة مُرفهة مملؤه بالثنيات الحديثة
متخمة بالاسمنت والسيراميك الجامد وبلا زرع! واكب أحدهم التطور ، وأبى الآخرون عن التخلّي عن موروثاتهم
كان يمشي بسرعة عالية وزيد بجانبه متمسك ويتشهد بين الفينة والآخر
حتى وقف أمام بيتٍ يشبه بيوت الأسفل ، بيت عاش فيه أكثر من 30 سنة
انحنى أمام زيد وهو يفتح بابه ، ليقول دون أن ينظر إليه :
انزل وفكنّي من مرافقتك ، اعتقني من شوفة وجهك الليلة بس يا زيد
تنّهد زيد وهو الذي لا حول له ولا قوة ، نزل وهو ينحني وينظر إليه :
أنا أنتظرك ، ما بنام الليل لين أشوفك
اودع هذه الكلمة وهو يعلم جيدًا مدى تأثيرها على نفس حاتم ليُغلق الباب بهدوء ، ويبتعد من أمام السيارة
التي أسرع بها حاتم .. متجاهلًا ( المطبّات ) الموجودة أمامه
زفرً زيد وما زالت نظراته تلاحقه :
يارب وهو عبدك الضعيف .. ما عاد له شدّة على الإبتلاء يسّر أمره وهوّن عليه





-



-
على عكس ردة فعل حاتم الصاخبة بشدة ، كانت ردة فعل زينة هادئة وساكنة وصامتة بشكل مُرعب ومُخيف
مثل الذي طوال عُمره يغرق ويكابد على النجاة من جُبّ البحر
يقاوم النفس القليل ، وأسماك القرش ، وفقاعات الوجع ولما يجد يد تنقذه من الموت والغرق تبقى هذه اليد ..
يد حاقدة وكارهة وتبدأ بإغراقه زيادة
مثل الذي ظل على أعتاب المستشفيات يبحث عن علاج لعلّته يتنقل بين هذا وذاك وكلّه أمل أن كلام الأطباء يأتي على ما يهواه
كلامهم الذي يأمله ويجعله يعود بُحب الحياة والتشبث بها .. وحين يصادف طبيب من بين آلاف الأطباء يقول له بابتسامة كلها برود ( أيامك معدودة )
شعورها مثل الذي رمى سيف على مُنتصف صدرها وعلى مدار أيام مُضينة يسحب السيف رويدًا رويدا .. وعلى حين غرة يسحبه مرة وحدة .. وتنزف دم حتى الموت
كل المشاعر التي عاشرتها ، المشاعر التي كانت تسمع عنها ولم تخضها ، كل المشاعِر المتناقضة من فرج وصبر وأمل وفرح وحُزن ووجع وإنتظار وترّقب
تسربلت نحو صدرها بشدة موجعة وهي تتلقى هذه الصدمة التي جعلت من جسدها الغُر الحُر يفقد جزء من طاقته .. تلك الطاقة التي دائمًا ما كانت تجعلها في موقع قوة أمام أحزانها
صمودها لم يدم .. مقاومتها لم تدم ، نزيفها إثر السيف اصبح مُرعبًا رعبًا هائلًا غطّى جسدها بأكمله
أخيها التي كانت تحسبه يومًا سندًا وظهرًا
هاهي تُصبح ظهره وسنده ، تختبي خلفه بينما هو يستند عليها ، ترمي بوجعها خلفها بينما هو يرمي بثقله عليها
صرخة عميقة خرجت من فاه سعد جعلت من أصحاب المجلس يرتعدون خوفًا
فزينة .. دون دراية منها ، أبيّضت مفاصلها وشحُب وجهها الفاتر .. وبهُتت شفاهها الندية لتتحول للون الأبيض
وعيناها ، وآهٍ من عيناها القاتلة بحُب
فقد شخُصت حتى خُيّل للذي يراها أن ملك الموت في زيارةٍ لها
كادت أن تسقط .. فصمتّها خلّف آثارًا أقوى من آثار الصواريخ على بنايات غزة العزَة .. وشموخها المزعوم أبى مشروخًا بخُزي كخُزي الكِيان الصهيوني أمام شعبها الجبّار
وهو يرى أطلال البنايات يرتفع من مُنتصفها دماء الشُهداء
وأعلام الإنتصار ، وزغرطة الأمهات الثكلى وصرخة جيلها الأبي من أطفال ، شابات وشُبّان
خانتها قدماها .. كمن خان أولى القبلتين وثالث الحرمين
كمن سوّلت له نفسه الدنيئة ليسلك مسار التطبيّع مع العدو فنحنُ بالأقصى نقف وتنتصب ظهورنا ، وتشتدّ أقدامنا
وهي هُنا تُصارع لأن ترسى بثباتها على ميناء الصبر
علّ من مدّ شباب فلسطين بالمُجاهدة الشريفة
يمدّها بعضًا منها في هذا الموقف من فصل حياتها
استطاع سعد تلّقيها قبل سقوطها ، والحارث المفجوع ينظر إليها وهو وسط صدمته
حتى صرخ فيه سعد وهو الآخر الموجوع بأخيه :
ليش تشوفوا علي .. ساعدوووني
تدارك الحارث لموقفه وهبّ لمساعدة سعد ذو البنيّة الصغيرة ، بالكاد استطاعت الإفاقة بعد صرخة سعد التي صمّت بأذانيها وتردد صداها على صدرها الخاوي
وبالكاد اشتدّ عودها عند يد عمّها سيف الذي مدّ يده لكتفها
همست والضعف ينتشر بجسدها :
وخروا عني
نبرتها المُرتجفة أبت إلا الإنصياع والاستجابة لها ، تراجعت يد سعد التي كانت تُحيظ ظهرها ، ويد سيف المستريحة على كتفها وبقى الحارث يسندها بدل الدمّار الذي خلّفه المدعو خلفان قبل قليل
جرّتها خطواتها نحو الخارج ، بروح متنصلة من جسدها
بلامُبالاة قصوى لنداءات جدها الموجوعة .. وبرغبة الحارث في بقاءها بين يديه
تركت المجلس بما يحمله .. وقلبها يقودها إليها
إلى من زرعت الذكريات بها على مدار سنين عِجاف ..
إلى من ملأت بها الأماني والرجاءات حتى فاضت
صادفت أميمة في طريقها ، تجاهلتها رغم الدموع التي تهطل .. وقفت أمام باب الغرفة ، ليست غُرفتها
بل الغُرفة التي وضعت بها جميع ذكرياتها منذ الطفولة وحتى الصِبا
وقفت أمامها وهي تأخذ نفس عميق ، مشحون بالشوق
والرغبة في إحتضان الماضي الذي أسرها .. وإيجاد الحقيقة
مسحت على صدرها بكفّ يدها ونبضاتها تضطرب
لأول مرة تدخل هذه الغُرفة بعد أربع سنوات من الهِجرة
لذلك هي عاجزة حتى عن التنفس ، لعلمها أنها بعد قليل ستتنفس غبار الأسى
أخرجت القِلادة التي تستوطن عُنقها ، واتضّح نهايتها ذاك المُفتاح الذي احتفظت به بالقُرب من قلبها .. حتى لا تتغافله
ادخلته في مكانه .. والتردد يحفّها من كل جانب
هُنا ستعاود بعثرة الماضي ، ولملمة أشواق المآسي ، هُنا إما أنها ستموت ، أو تحيا من جديد
استجمعت شجاعتها ، وطردت ترددها غير المبرر .. مسكت مقبض الباب ، وفتحته بخفّة مرتجفة
ما زالت الرؤية ضبابية ، مظلمة ومشوشة بسبب الغُروب
ولكن مفاتيح الإنارة بجانب رأسها
دخلت .. بخطوات مرتجفة ، وهي تغلق الباب من خلفها
أغمضت عينيها هذه المرة حتى تمنع الدمع من النزول
لن تبكي ، ليس هُناك داعٍ للبكاء الآن فهي على وشك مجابهة وحش الخيال والذكرى
سحبت نفسًا عميقًا وسرعان ما زفرته وكحّت من بعدها بسبب كمية الغُبار الذي دخلت عُمقها المجّوف ، كحّت وكّحت حتى صاحب كُحتّها شهقات الخوف والرُعب
من كلام خلفان الذي تلّقته
فتحت أصغرإنارة متواجدة بالغُرفة ، لتتبيّن بعدها معالمها .. غرفة شبة صغيرة ، يحوي جدارها الأول على دُولاب ملابس
و الثاني جدارٌ أمتلأ بالصور الكثييرة جدًا جدًا
وجدارها الثالث يحوي على كنبة أثيرية مغلّفة بفراش قُطني ذا لون رمادي ، وأمامه طاولة بها من الكُتب ما الله به عليم
وآخر جدرانها يحوي نافذة صغيرة ، بجانبها مكتبة طويلة
ممتدة من اسفل الأرض وحتى أعلى السقف ومحشوة بكتب لا حصر لها .. جميع ما تحويه الغُرفة من ملابس وصور وكتب يخصّها ويخص والدها
ما كانت تنوي نبش جراحها التي وضعتها أسفل الغافة
ولا كانت تريد التلذذ بملوحة دموعها
لكنّها هُنا وبعد سنوات جاءت لتبحث عن الحقيقة
فوالدها بطبعه الحريص ، كان شغوفًا بتسجيل أصغر معلومة يحصل عليها وهذا سبب امتلاكه لهذا الكتب ، لهووسه العظيم بتفاصيلها وفواصلها ونُقاطها وعلامات استفاهمها
أيقنت أنه ولا بد أن والدها ترك ثُغرة لها بين كتاباته ، ثغرة لم تنتبه هي لها بسبب حُزنها المتكّوم بصدرها
تجاهلت جميع ما بهذه الغُرفة واتجهت الى دولاب الملابس أو لذاك الدَرج المغلق اسفل الدولاب
جلست على الأرض الغبرة ، وأنظارها نحوه ، لتهمس بأسى:
دست على جروحي ونقضت عهدي ورجعت لهالغرفة
بس عشان يا يبه أدور اللي ينفي كلامهم
أدور على اللي يقول لي " مُرشد ما غدر فيك ولا باعك .. مُرشد ما ربط مصيرك بمصيره ، ولا أورثك نصيب أمك "
وأنا أناجي ربي ثم أناجيك يبه
لا تجيني عكس ما أهوى لأجل ما أموت أكثر مما مت بعد موتك .. أناجيك وبيننا أميال وقبرٍ فاضي ما ملاه غير دمعي إنك تفرحنّي بالخيبة وأنا اللي ما فرحت بالخيبة أبد
ابتلعت ريق الغصّة المتخمة وهي تجاهد أن لا تبكي :
ما ببكي ، لأن البُكاء يقين مؤكد على واقع الشيء
وأنا واقعي وماضيي يأكد لي إن يدك برا هالسالفة
لا تخيبني يبه ، لا تخيب ظنّ بنتك فيك
نفضت الغبار عن سطح الدرَج ، فتحته بخفّة وهو بالكاد يُفتح
نظرت إلى داخله .. الكثير من الأشرطة القديمة يحوي أغلبها أسماء مشهورة " خالد عبدالرحمن ، أبو بكر سالم ، شادية ، وردة الجزائرية ، وديع الصافي ، فريد الأطرش"
والدها الرقيّق ، المُحب للفن والموسيقى والأدب والكِتابة
لا يمكن أن يكون أنانيًّا بيوم من الأيام
ظلت تبحث وهي تُصادف رسائل بطوابع بريدية مختلفة
قادمة معظمها من " سوريا ، والعراق ، وكندا ، واليمن "
وهي تعلم مسبقًا محتواها فقد قرأتها مئات المرات
قصاصات تحوي معلومات ، رسومات تشبه السكاكين يستحيل أن تنسى أن والدها مهووس صيدٍ وقنص ، فهذه القصاصات دلالة على إحترافيته في هذا المجال
زفرت نفسها الذي كاد أن ينقطع بسبب قلة الاكسجين
ما زالت مصرة أن هُناك ورقة تخصّها ، تُنفي جميع الأكاذيب التي قيلت في مجلس جدها
أكملت بحثها لما يُقارب النصف ساعة وهي تنتقل عدة مرات بين ذات الأوراق والأشرطة
حتى خرج منها صوت دلالة على قهرها حين انقضت دقائقها دون فائدة ؛ صوت يائس ، وقانط من شدة الوجع الذي تشعر به
اراحت جبهتها على طرف الدَرج ، وأمل مبتور ما زال يشعّ من جانب صدرها .: همست لنفسها وهي مغمضة العينين :
بلقاها ، أبوي ما يغفل عن هالشيء ولو هالشيء غزّة شوكة دخلت برجلي ، أبوي ما يبيع الذكريات ولا يتركها رهن عقله النسّاي ، أبوي أكبر من الغفلة .. أكبر من إنه يسمح للزمن يخونه بذاكرته
يارب ساعدني ، مدّني بالقوة .. لا تخلّي كلامهم يهدم الصروح اللي بنيّتها
أنا يارب أسرفت من عُمري سبع سنين حتى أحيّا بشيء من الفرح ، لا تسمح لهم يدمروني وأنا باقي ما وصلت للمُنى
استجمعت آخر نَفَس باقٍ في صدرها ، رفعت رأسها بخفّة مرتجفة
سقطت عيناها على الأشرطة المُبعثرة بسبب عشوائية بحثها
جميع أغلفتها تحوي صُور المُطربين ، إلا ذاك الشريط
الخالي حتى من غُلافٍ يستر من عورة المشاعر المختزلة
سحبته بسرعة بين يديها ، وهي تعلم يقينًا أن هذه إستجابة ربها لمناجاتها قبل قليل
فتحت علبة الشريط البلاستيكية ، الخالية من الأغلفة والورق .. وقفت بشكل مترنح وهي تبحث عن المسجلّ الذي يخصّ والدها
ألقت أنظارها نحو الغُرفة وهي تسترجع متى آخر مرة رأته فيها ؛ لتزداد نبضات قلبها حين وجدته مختبي خلف أكوام الكتب الموضوعة على الطاولة
اقتربت منه ، جلست على الكنبة الوثيرة بقلق يرتعش به جسدها
هذا الشريط قد يحوي تسجيلًا وتصريحًا بكلام والدها
ظنّت " أو ربما هذا ما خيّل لها " أن والدها أراد تسجيل صوته بدل الكتابة لكي يقطع الشكّ باليقين
دقائق معدودة وهي تحاول حلّ مشكلة المسجل العتيق بسبب قِدَمه ، دقائق وهي تارة تضرب المسجّل بقهر
وتارة تنفخ على الشريط لتُعطيه بعضًا من الروح .. حتى أصدر أنّه بسيطة سمحت لثُغر زينة بالابتسامة اتبعتها ضحكة مُرتاحة
ثواني حتى جاءها صوتٍ صغير جدًا ، صوتٌ يبكي ويئن
عقدت حاجبيها .. حين تسلسل صوت تأفف والدها ومن بعيد .. من غيهب البُعد يأتي صوت قد نثر الزمن عليه غِباره ، صوتٌ نست حتى نغمته الرنّانة كيف تكون
صوت والدتها مريم ..
ابتلعت ريقها ، وهي ترفع من صوت الراديو بخفّة ليزداد معه البُكاء ، مرفقًا بصوت والدها وهو يقول:
" نوميها ، البنت تعبانة تبا تنام "
يبدو أن والدها ضغط زر التسجيل دون دراية لأن صوت والدتها جاء بشكل متأفف غاضب
" هلكتني تعبتني ، اللي تعبان ينام بدون صياح "
دقيقة صمت مرّت بعد هذا السخط الغاضب ، و تعلم يقينًا أن من يبكي في التسجيل ( هي ) حين كانت صغيرة جدًا .: وبشكل مفاجيء ، بشكل أرعب قلبها الموجوع ، وأهلك جسدها المُتعب
تساقطت الدموع من عيناها الذابلة .. تساقطت بشدة عميقة جعلت من شهقاتها ترتفع بشكل مُتسارع
ونبضها يضطرب بوجع ، كاد أن يفتك شرايينها
حين تراءى لمسمعها كلماتٌ يستحيل أن تنساها ، كلماتٌ مرت عليها اليوم صباحًا حين أغدقت السماء برزقها عليها
" يالله تنام يالله تنام
وأهديلك طير الحمام
روح يا حمام لا تصدّق
نضحك عالحِلو لينام "
هذه التهويدّة التي تسرّبت من فاه والدتها وأصابت قلبُها في مقتل ! ليس ما أبكاها هو كلماتها ، بل النبرة الحنونة التي لم تسمعها قبلًا من والدتها
بكت بُكاء المشتاق للحنّو ، بكت بكاء المغلوب
بكت بُكاءً لم تبكيه من قبل وهي للتو تستشعر حاجتها لمن يمسح على ظهرها
بكت إفتقارها لغِناء مريم ، وهي التي لم تذقها يومًا حلاوة
كبتت صراخاتها التي تفاقمت ، وجلّ أمنياتها الليلة هو حضنها فما أصعب أن يموت والدك ، وتُنفيك والدتك لعدم حاجتها لك .. ما أشدّ القسوة حين تأتيك ممن خرجت من رحمها ضعيفا وكبرت بجانبها مُستندًا على كتفها
احتضنت المسجّل بين صدرها ، أمالت بجسدها نحو الكنبة
ونشيجها يتعالى مصحوبًا بنوبة بُكاء عالية وبشهقات مكبوتة حتى غفت وهي تحتضن المسجل ، وتحتضن صوت التهويدة بين قفصها الصدري
-
-
إن كانت زينة هُناك تجاهد أن لا تُخرج صرخاتها فهُنا حاتم يصارع على أن يصرخ بأعلى صوته ، كان يقف في مُنتصف الخِواء ، بمُنتصف الليل
يصرخ ، ويُشاركه الدم الذي يسيل من أنفه وفمه الصُراخ
لم يكن خبر اليوم جارحًا له ، بقدر ما آلمه عدّم تذكره ، بقدر ما أوجعه فُقدان ذاكرته في هذا الوقت
لطالما كان صامدًا أمام فراغ ذاكرته التي باتت معظم مواقفها في مهب الريّح رغم معرفته التامة أنه لن يستعيدها بيوم من الأيام لأن كل الذي رحل منها هو أيامه الحلوة .. وساعاته اللطيفة
بُقرب أهله .. وأخواته ، وأصحابه ، وعمله .. وشغفه ! كلها كانت تدفعه للعيش .. كلها كانت كنَفس ، كحياة
تعطيه روح فوق روحه وتجعله يعيش أيامه بهدوء وراحة بال
لأول مرة يستشعر عجزه ، لأول مرة يشعر أنه ناقص وهو الذي كان طوال عمره يحاول الاقتراب من الكمال
لأول مرة ذاكرته تُدميه .. تجعله ينزف ، تجعله يستشعر طعم المُر الحقيقي بعد ما كان يتذّوق مقدماته
صاح بصوته المبحوح ، الذي تجرّح من الدم ..
دمه اليوم يشاركه الأسى .. يشاركه الفقد والخسارة
ضرب رأسه عدة مرّات على طرف سيّارته وهو يتنفس بصوت عال ، وعال جدًا :
تعالي .. تعالي وهاتي معش أيامي وسنيني
ارجعي لي وارحميني من المرارة اللي ذوقتيني إياها
أنا غلبان بدونش ، اعترف والله إني غلبان ومالي قوة أحارب
لأني فقدتش ، فقدت أساسي وسرّ أحلامي
كرهتيني بنفسي ..
-زمجر بغضب عاليًّا وكأن يناجي شخصًا حسيًّا-
كرهتيني واستبدلتيني بواحد ثاني أكره أكونه
لكنّي مضطر أكون هو .. مضطر أتلبّسه
خليتني ألجا للقسوة ، خليتيني أذّوق خواتي العلقم
خنتيني .. وخنتي أيامي وأنا المتمسّك فيش بأسناني
اعتدل في وقفته ، بعد أن أدمى جبهته بطرف سيارته
أصبح وجهه حفلةٍ من دم ، يجري من فمه ، وأنفه والآن جبهته ، يشاطره الألم .. لأنه دومًا قَرَن الدم بالألم
مسك حجرة متوسطة الحجم ، رماها وبظنّه أنه يرمي الجبال الشاهقة أمامه ليصدح صوته الغاضب :
أنا جنيت على نفسي ، ومتّ بعد الحادث مليون مرة
أنتي لييش أجرمتي فيني .. لييش
تنفس بصعوبة ، وقواه تخور .. ونفسه يضطرب
اتكأ على سيارته بظهره ، وهو يهمس بتعب عميق :
سمحتي لهم يلعبون فيني ، سمحتوا لهم ينهشوني
صرت لهم لعبة ياخذوني يمين ويسار .. يحركوني مثل ما يبون وأنا واقف واتفرّج على حياتي اللي صارت بيدش
-همس بإنهيار -
أنا يارب تعبت أنهار من الثبات ، تعبت من السكوت اللي يهدّ الكلام ما عاد بي حيل على الصمود .. ولا عاد للصمود معنى


-

-
طرقات خفيفة على باب الغُرفة جعلتها تقفز برعب من قيلولتها الطويلة
رمشت عيناها بعد إستيعاب ، لتنقل نظراتها نحو المكان
ثم أنزلتها نحو المسجّل الذي كان بُحضنها
عاودت الدموع على الصعود .. حين تذكرت حجم الأسى الذي أصاب قلبها لمجرد سماعها صوت والدتها
تركته على الطاولة المكتظة بحذر ، زفرّت نفسها العميق ثم اجترعت ريقها وهي تمسح وجهها
عمل عقلها بشكل سريع .. لتخطط بشكل أسرع
رفعت عيناها لساعة الحائط المهترئة ، ويالحظها أنها ما زالت تعمل .. قد تركت صلاتي المغرب والعِشاء بسبب آلامها
اقتربت من دورة مياة الغُرفة ، وهي تدعو الله أن يكون هُناك ماء دافيء حتى لا تضطر للوضوء من حوض الفِناء المتجمد
قبضت مقبض الباب بخفّة ، وأشعلت الإنارة المُزعجة
فتحت صُنبور المياة .. أصدر صوتًا في البداية وعاد لإخراج الماء المتكلّس أولًا
انتظرته حتى رأت صفاء الماء ، وتوضت
وبوضوءها استغفرت لنفسها .. ولتقصيرها في صلاوتها
تؤمن إيمان قاطع لا يقبل الشكّ أن من استقامت صلاته .. استقامت حياته
أنه من أدى صلواته في وقتها .. دون دقيقة تأخير
زارته البركة وراحة البال المنشودة .. وغير ذلك
فقد وعده الله بعيشة ضنكا ، وهي لا تُريد هذه الحياة
التي تعيشها مخيّره بيديها
خرجت ، صلّت صلاتها بخشوع تام .. وهي تُحاول الإستعاذة بالشيطان الذي يوسوس لها بكوابيسها .. وجِراحها
أنهت صلاتها وهي تستغفر .. وما زالت تستغفر مُنذ استيقاظها
شارفت الساعة على الثانية عشر
وهذا ما تُريده .. أن يُصبح الجميع نيام حتى تعمل على ما خططت له في هذه الدقائق المعدودة
أقفت نحو باب الغُرفة ، لتتوقف هُنيهة ، هذه الغُرفة .. بما تحمله من مشاعِر أججها الدخول إليها باتت مُشتاقة لها ، بات ذاك الشوق ينخر فؤادها للعودة إليها
من يهجر الموطن غير القانط ؟.. من يهجر الأرض النديّة غير الهارب؟
وهي لا تُريد أن تُصبح قانطة أو هاربة
عزمت على أن تعود لها .. وتُحيي نورها وشمسها وهواها
عزمت على أن تنفض الغبار من أعلى الكُتب ، والأشرطة والملابس
خرجت وأغلقت الباب وراءها .. وقفت في مُنتصف الفِناء
وللحظة تساءلت :
لماذا لمرة وحدة لم تحاول رؤية الأشياء من منظور صحيح ؟
لما حين ردد عقلها ( هانت ) ..
تهاونت عليّها المصائب ولم تقدر على المواجهة؟
لما على كثرة تأملها للسماء ليلًا ، لم تستطع أن تقطف نجمة وتحشرها وسط صدّرها لتُنير ظلامها
على قدر الأمطار التي هطلت ، لم تستطع غسل آثامها لتنسلخ من تعبها
على تكاثر الحجر حولها وتزايده عند كل عاصفة ، لما لم تُرجم ماضيها الذي أسرَها منذ الأمد
لما لم تُسامح ؟ هذا هو السؤال الذي يتبادر لذهنها دومًا
لما لا تعرف طريقًا للتسامح ، لما لا تعرف شكله
ولونه .. ومذاقه ، وهيئته .. لما لا تعلم لذّته ورقتّه وعذوبته التي يتغنّى بها الكثيرون منذ سالف العصر
وأيقنت أن جميع تساؤلاتها تنّصب حول إجابة واحدة
لأنها ( لم تُحاول ) .. لطالما سمعت أن التجربة خير بُرهان وخير دليل .. وخير بينّة !
ورغم المُغريات حولها فإن المحاولة كانت صعبة بالنسبة لها صعبة وجدًا أن ترمي نفسها بشرر ، أن تُلقي روحها للتهلكة رضىً وقناعة
تلّحفت الليلة بالسواد ، عزمت على التمردّ ومجابهة الطريق الوعر
تقدمت نحو باب البيت بعد أن سرقت من الرف مُفتاح سيّارة جدها
وتلك الأصوات تدور في رأسها
" تشجعي زينة ..
لازم تخطين هذه الخطوة
سكتتي سنين وتغاضيتي دهور ، لا تسكتين هالمرة
زينة تلّبسي بالجسارة اللي كانت تتلبّسش ومُرشد موجود
البسي ثوب التمرد والجموح ، واتركي الضعف على جنب "
تواسي نفسَها على المضي قدمًا بلا رفّة شفقة
لأن في اللحظة التي قالوا لها " زينة أنكتمي ، زينة لا تتكلمين " كانت تخضع رغم شراستها ، كانت تخفض رأسها إذلالًا رغم عتّوها
لكنّها اليوم عزمت .. ولأنها ابنة العزم فهي لا تعرف التراجع
-
وما إن خطتّ أول خطوة خارج أسوار المنزل حتى خرّت باكية على السلم الذي جار عليه الزمن واعتكفت تبكي بدموعها .. لا لشيء
بل لأنها وعلى مدار سنين .. حينما كانت تتشجع
وتواسي نفسها بنفس الطريقة التي واست نفسها قبل قليل كانت تجد قايد ينتظرها أمام الباب حتى يقطع خطواتها المجنونة
ما زالت تذكر الأيام التي يبيت فيها في ذات المكان التي انهارت فيه ليمنعها من رمي نفسها إلى هلاكها ، إلى طريق والدتها
بكت بُكاءً ما فتر ، وابتلّ السواد الذي يحفّها
ولو كان هُناك لونٌ أكثر غُمقة من اللون الأسود ، للونته بدموعها
شعرت بيدين تحتضن كتفها ، ورائحة حنونة تحتضن جيوبها الأنفية وصوت دافيء ، رقيق وهامس جاءها :
بتهون ، بس رخّي عليها وهونيّها
تعالى بُكاءها بشكل أكبر ، وهي تُردف بكل قهر العالمين الذي اكتضّ به صدرها :
ماتهون يا أميم ، ما تهون .. هونّاها لين أهننا نفسها
هونّاها لين دسنا على قلوبنا مثل ما ندوس على هالأرض
محنا خاليين قلب حتّى نسير بخطانا بلا حفَاوة وحنّا المليانيين هم والشبعانين منه
شدّدت من احتضان كتفها ، وهي تُجاهد على أن لا تبكي لبُكاءها ، لتُكمل زينة :
بقلبي جمرة ما انطفت ، بظهري سهام ما ظنيّت بيوم انطعن فيها
بكفوفي حروووق ، حروق من هالدموع اللي سيلها ما توقّف
أنا اللي واريت دمعي ، وتبّسمت في وجه الضيق
أنا اللي تشمتتّ بأوجاعي وضحكت لها بكل سخرية
أنا الشامخة .. بنت الرشاد ، وحفيدة العزم
تكسر فيني ورقة وتوقيعين
-التفتت لها -
وش الطريقة الصحيحة يا أميم ؟ دليني ..
دليني على مخرج ، على طريق مرصوف بالورد بدل الشوك
دليني على أي باب يغفر لي هالمآسي اللي غرقت نفسي فيها
أنا مو أنانية .. والله العظيم مو أنانييية بحقّ قلبّي لكنّي أموتَ وأحيا وبالأخير لا هو موتي اللي شفع لي ، ولا حياتي فتحت بابها بوجهي
عقدت حاجبيها وهي توَجه نظراتها للأسفل بعيدًا عنها ، لتهمس بضيق :
المخارج كلها قدامش ، مو واحد ولا اثنييين .. ملييون يا زينة .. مليون مخرج ومنتي قادرة تسلكين درب واحد منها
لأنش خايفة ! والخوف مقيّد كل ردّات فعلش اللي كان لازم تتخذيها من البداية
-رفعت عيناها لها بذات النبرة-
زواجش من حاتم .. ما لازم يكون القشّة اللي تقصم ظهرش ، لا تسمحين لورقة وتوقيعين تهزّ ثباتش
أنتي كنتي تقولين إنش بنت الجبل .. سمعتي بجبّل ينكدّ
غير الجبّل اللي شهد عليه موسى بقدرة ربه وربنا ؟
أغمضت عيناها وصُداع يداهمها :
وش ممكن يكون أسوء من هالُثقل اللي يهد جبال مو بس أحوال ؟
زفرّت أميمة بلوعة قلب :
الأسوء إنش توقفين بداية الطابور وتوصمين على كل مرحلة جديدة في حياتش بالفشل .. وأنتِ ما بعد خُضتي امتحاناتها
مسحت دموعها بظهر كفّها ، لتقول بسخرية :
الكُتب اللي نستلمها ، واضح عنوانها وضوح الشمس ، وكتابي أنا وأخوش .. محكوم عليه بالإعدام مو بس بالفشل
همست لها وهي تبتعد خطوة :
أخوي طيّب يا زينة ...
سكتت عندما قاطعتها زينة بضحكتها الساخرة وهي تمسح حدود وجهها بقلّة صبر
لتُكمل أميمة :
لدرجة لو وزعنّا حنيّته على هالدنيا لأكتفينا من الأسى
ولكنّ الظروف اللي مريتي فيها ، مر هو بأسوء وأفظع منها
الظروف اللي شكّلت حاتم الجديد
وأنا مؤمنة تمامًا ، إن طرف طيبة باقي بقلبه .. لو انسحب
لتعرّى من هالشخصية المتجبّرة
سندت رأسها على طرف الجدار وهي تُسبل بعيناها لتقول بسخرية :
تقولين كذا ما بكأنه هو اللي سطّر علاماته على ظهرش
مو هو اللي حفر السواد تحت عينش ليالي طويلة
ولا هو اللي لفّ خصلات شعرش بين يدينه في وقت غضبه
امتلى قلبها ضيقًا وحسرة .. وكلام زينة صحيح تمامًا
لكنّها تعلم يقينًا ، أن لا بُد لظلام ليله أن ينجلي وتنقشع تلك الغمامة التي تحجب عنها لُطفه وحينّته
زفرّت وهي تبتسم بخفوت :
ما أبرر سواياه .. لكنّ أعرف عن الحسرة بقلبه
أعرف عن النيران اللي تشتعل بداخله ولا توضح حتى عن وجهه
تخيلي يا زينة إنه داخل صندوق زجاج مشتعل نار
وهذا الصندوق صامد رغم كل شيء ، صندوق رغم إنه من زجاج لكن باطنه كبيّر ومختلف تمامًا عن ظاهره
يحترق من سنين ، يحترق بدون ما يتاكل ولا يترمدّ ، يحترق بصمت وهدوء وريبَة .. لا هو اللي بيده شيء
ولا حنا كان بيدنا الحل
توقفت زينة على الكلام .. والصوت المسموع الوحيد هو صوت نشيجها ، وصوت صرصور الليّل المُزعج .. صمت مُرعب أعقبه كلام أميمة ، ولم تصمت زينة لتأييدها
إنما لمعرفتها أن ما تقوله أميمة كلام سخيف بنظرها
اجترعت أميمة ريقها لتُهمس :
زينة ...
قاطعتها بلامُبالاة لكلامها الذي ودّت وقوله :
أمي ضيّعتني قبل 23 سنة ، وهنت على أبوي قبل 7 سنين
ما أفهم ليش أقرب الناس تكسرنا وتحاول بشتّى الطرق تعصف بنا
ما تحملّنا عواصفنا ، وهبوب رياحنا .. كيف نتحمّل وجع من هم لنا البطَن والظهّر ؟
-ضحكت بسخرية اختلط به بكاءها-
قبل سبع سنين بس دخلت بيت عمي عدّي وأنا بنيّة بريئة ، مليانة روح ، متلوّنة بالفرح ، مشعة ومنيّرة دنيَة أبوي
وخرجت منه وأنا متزوجة .. معقودة يديني برجل أكملت له نصف دينه ، خرجت منه وأنا بالغة وعاقلة
والمُصيبة العظمى إني قاصر ..
جريمة بحق مراهقتي ، بحقّ سنّي الصغير .. بحق أيامي اللي خططت أعيشها بجنون ، وحقّ قلبي اللي يبغى الدنيّا وفرحتها
سُلب منّي حق القرار ، انحرمت من إني أفكر وأقرر وأستخير ، من إني أشوف فرحة أبوي ودموع أمي ووقفة أخواني بالبشوت
عُمري ما راح أنسى إن هُنت لهذا الحدّ
وتقولين هونيّها ؟ أنا كل ما قلت هانت .. تهاوت علي الأوجاع
وكأنها ما تعرف من الوجوه إلا زينة .. وكأنها ما تعرف إلا قلبي وطريقي
تراكم الضيق في قلب أميمة وهي العاجزة عن مواساة زينة
لعلمها أن لا كلمة قد تُوصف ما فعلوه بحقّها
فهي محقة ، مهما كانت الأسباب والظروف والأقدار فالحقُ كل الحق معها في الصراخ بوجه الإعتراض والتنديد به
ألقت نظراتها نحو يدها التي تُمسك بالمفتاح :
وين كنتي ناوية تروحين بهالليل ؟
أنزلت نظراته الحانقة نحو المُفتاح ، ابتسمت بسخرية :
أدور الأسباب .. لكنّ كبّلتني أسباب ثانية
وين أدورها ؟ بقبر أبوي الفاضي ؟ ولا بباب أمي المسدود !
همست أميمة وهي تنظر لها بحنيّة :
ووش اللي منَعش من الروحة ؟
أعرفش يا زينة لو المسُتحيل قدامش فما راح توقفين مكتوفة يدين وتنتظرين من الدنيّا تقدم لش الأسباب على طبق من ذهب
رفعت عيناها الدامعة نحو السماء لتُهمس بهدوء :
قايد منعني - تنّهدت بوجع - يا هالرجال اللي بيذبحني أول وتالي
يوم إني كنت أفكر أخطي بخطاويي عند أمي لأجل أرمي بعتابي قدامها كان ينهاني .. ويمنعني بكّل قوة ملكها بيوم
كان يقول لي ، الغضب بينهيش أنتي وقلبش .. وبينهي الجنّة اللي دايم تحلمين فيها
كان يقول لي جنّتش ونارش ، أيّهم تبين ؟
كان يوقف هنا .. بكل غضبه الممزوج بحنيّته
يضغط على يده ، ويخفض صوته بس لأجل ما يوسّع الشرخ اللي بقلبي
ينصحني مرة ، يعصب علي مرتين ، يحنّ ثلاث وأربع
وبكلّ مرة ينجح ، ويخليني أرفع راية الإستسلام بوجهي
-التفتت لها بابتسامة حارقة-
تقولين تكرهينه .. ليش وكيف ؟
أنا كرهت قايد لأنه كان يصدّني في أوقات قوتي اللي استمديتها من حالات ضعفي .. الأوقات اللي ما كانت سهلة علي أبببد !! لأن تطّلب مني الأمر روح وعينين وسيلٍ من دموع
حتى أقتصّ من أنين مُهجتي المنحورة
واكتشفت متأخر إنه كان يوقفني لأجلي أنا .. لأجل ما أخسر فوق خسارتي
اكتشفت إني ما كنت أكرهه ، كنت مقهورة منّه وعليه
ليه منّه ؟ لأن كان ممكن أنهي الوجع وهو حامي بس حال دوني ودون الحديد
وليه عليه ؟ لأنّي فرّغت كل مشقّتي بدربه وتعبّته كثييير
في الوقت اللي كلّ اللي حولي انشغل ، كان هو الوحيد اللي يسامر آلامي ، ويحاول يبريها
ابتسمت بضيق :
ماهي غريبة ، قايد من صغرنا وهو يدّور راحتش! كان وما زال مُستعد يخسر أمانه حتى يهديه لش
-نظرت لها بإستفسار-
وش ناوية عليه ؟
صدّت بنظراتها ، لتُركز نحو نقطة معينّة وبهدوء مُقيت :
أنحر سبايب أوجاعي .. لو فيها موتي هالمرة
أنا عزّمت ، وما تعلمنّا حنا يا عيال العزم نتهاون ونتخلّى ، وإن كان وقع الفأس فالرأس ! فأنا راح أخلق رأس جديد
-لتنظر لها بنظرات مستفسرة-
ليش ما رجعتي بيتكم ؟
ابتسمت أميمة بحنّو عميق ؛ اقتربت منها والتصقت بها
احتضنت عضدها بكلتا يديها وهي تُريح طرف خدها على كتفها لتُهمس وهي تُغمض عيناها :
نظرتش وأنتي طالعة من المجلس هزّت فيني الأمان ، تذكرت نفسي لمّا كنت أجي وأشكي لش من جبروت حاتم
نظرتش قالت لي إنش تبيني ، فجلست حتى أرد الديّن
اللي حمّلتش إياه وسط حساباتش
قرصت خدها ، وابتسمت هذه المرة بتعب :
ديونش بتردّيها لا منّش صرتِ ند لأخوش ولا أنا مابي شيء من بعد دين مُرشد
فتحت عيناها ونظرت لها :
وعمّي وش يدين لش ؟
أمالت رأسها نحو رأس أميمة لتُغمض هي الآخرى عيناها
وكأن طيف أبيها يحوم حولها حاملًا أسبابه التي جعلته يُقدم على هذه الخطوة التي أخذت من عزّة نفسها الكثير والكثير لتُهمس بشوق :
اسمه اللي يعقب اسمي !
-
-
-
وقف أمام غُرفته بكلّ تعب الدُنيا الذي تكدّس بجسده
يده بدأت تنبض من شدّة الألم الذي يتوّسطها .. فبمجرد أن تتغيّر نفسيّته للاسوء ، تُصاب يدّه الموبؤة بالألم النفسي الذي لا يُطاق
ممتليء ثوبه باللون الأحمر من أعلى رقبته وصدره
ويتكدّس جزء منه في أنفه ، شعره الأغبر حال بينه وبين أناقته الصارخة التي لا يحب التخلّي عنها
ولحيته الكثيفة المُهملة تشيء بنوبة جنون لا حصر لها
سقط المفتاح من يده عدة مرات ، وشمته مئات المرات
نزل حتى يأخذه ، وهو يستمع لصوت قفل الباب المُقابل لغُرفته ، تجاهل الخارج منه .. وتجاهل إنتظاره الذي كان يحترق به
مسك مقبض الباب وهمّ بالدخول إلى الغُرفة لولا صوته الخشن :
وصلت فيك قلّة الإحترام تسفهني وتمشي ؟
تنّهد وهو يُنزل نظراته للأرض بصبر :
نعم يابوي ؟ 33 سنة ما كفّت عشان تعلّمك إني كبرت
وما احتاج مراقبة على الطالعة والنازلة ؟
اقترب منه بخطواته الثقيلة ، ليردف بجدية:
ولو إنك شيبة بالسبعين .. ما توقّفت عن مراقبتك
كان يراه وهو يتصدّد ويشيح بوجهه بعيدًا عن وجه والده لكي لا يلمح الدم الذي شكّل بقعًا كثيرة ليُكمل بهمس :
أشقيتني وأشقاني همّك ، والليل كلّه ما زارني هناء النّوم
وأنا أقلب السبايب اللي خلّتك تغض الطرف عن مناداتي لك
أبوك أنا يا حاتم .. طال الزمن لو قصر ، كساك البياض ولّفك المهد أو الكفن أبقى أبوك اللي يشيل الحِمل عنك
هاته ياولد سيف .. هاتّ همّك وأرميه عليّ .. لا تقول أبوي كبر وماهو بعازة حمول ! أنا لكم فهالدنيا سند وملجأ
اضطرب قلب حاتم من هذا الإعتراف الصريح والرقيق بشكلّ كارثي ، يعيَ حنيّة والده ، ولكنّه يعي بالوقت ذاته رجولته الشرقيّته التي توارثها هو كذلك
لكنّه ما كان يظن أنه سيشهد على هذا التصريح في هذا الوقت بالذات
اجترع ريقه وهو يقول :
همّي للجماد يبه .. للبحّر وللجبل ، وقبلهم لرب العباد ! إن شاله إنسان عزّ الله عاف الحياة وما فيها
مدّ يده لكتفه ، وهو يلمح إشاحة وجهه :
شوف علي وأنت تكلمني
تنّهد بأسى .. لا يُريد الإلتفات لأنه يعلم يقينًا لو رآه والده بهذه الحالة سيتذكر دومًا حالته حين خرج من الحادث المُميت بدماء مُرعبة
شعر بأصابع والده تتنصل لذِقنه ، وتدفعه نحو جهته
لتلقي نظرات عينيهم الحادة والمُتشابهة ، ليلتقي البرد والدفء ، لتلتقي القوة المصطنعة بمصدرها الأساسي
زفر بضيق :
تصد وتلد بعيونك عني ظنّك ما راح أشوف هالدم ؟ دمَك ولا شيء من أفعال حُزنك يا حاتم ، من يومك صغير إذا زعلت شاركك الدم في زعلك ! ويوم كبرت .. قبضة يدينك وعقدة حواجبك خير دليّل
علمنّي يا حاتم ، اللي جاك يستاهل تقضي العمر دونه بالحسرة ؟
ازدادت عقدة حاجبيه ، فتح باب غرفته على مصراعيه
ليُاشر لوالده بالدخول .. جلسا على الكنبة الرقيقة بملمسها الصارخة بلونها :
إلا أنت اللي علمنّي يا أبوي ، هو الحُزن ما يعرف درب غير دربي؟
وكأنهم اتفقوا الليلة على مُشاركة القول والفعل
فهاهو حاتم يكرر سؤال زينة لأميمة
تنّهد سيف بوجع :
لا منّك تعلمت تآمن فيه ، بيقطع درب الوصل لك
رفع حاجبه بإستنكار وهو ياخذ منديل مبلل ويمسح الدم المتكدّس بأنفه :
ومن اللي يآمن بالحزن غير المجنون المشتهي عيشة سوداء ؟
نظر له بنظرات جادة :
هذا أنت اللي تعتبر نفسك العاقل الراكز معيّش نفسك عيشة سوداء ، وش فرقك عن المجنون ؟
مسح على شعره نزولًا وصعودا وهو يشد عليه تارة ويرخي عليه تارة آخرى ، يشعر بالعجز في كل مرة يحاول التفكير بمخرج ، مخرج لحالته المُستعصية ، ولروحه المتقيّدة خلف جسده
.. وصل همس والده إلى أذانه :
ما جيت أنبش جرحك ، عن سوايا مُرشد جيت أكلمّك
ولا ضحكة عابرة ولا جمعٍ وتباريك وبخور وقهوة ممكن يذّكرك باللي صار ؟
عقد حاجبيه بشدّة ، وهو يحرق السجّاد بنظراته :
ولا نقطة
تنّهد سيف ، ومسح حدود وجهه باصبعيّه السبابتين
ووقف من مكانه متجهًا نحو الباب :
إذن الكلام معك فارغ ، اجلس جلسة مع نفسك .: أنبش شريط عُمرك القديم وحاول تتذكر ولو طرف خيط
وإذا تذكرته .. اسحبه ولفّ به نفسك
ما راح أخليك تدخل على بنت عمّك وأنت بهذه الحالة
بظلمك وبظلمها
توّقف مكانه حين تراءت له ضحكة ساخرة من خلف ظهره
ليلتفت ببطء شديد وهو ينظر إليه والبسمة تعلو ثُغره
ليُردف بسخرية :
ما يحتاج أتعب عقلي بسنين خربانة ، وذكريات معطوبة لأن بنت عمّي بتروح في حال سبيلها
وتطمن ، ماني داخل عليها أنا وحالتي هذه على قولتك
احتدّت نظرات سيف :
وش ترمي له يا ولد صُلبي ؟
وقف حاتم وهو ينزع ثوبه الدامي بصورة سريعة ويرميه على الأرض ليقول ببرود :
تدّور لها درب غير دربي .. والله يستر عليها
زمجر سيف بغضبه من كلامه المفاجئ:
حاتم !
أراح حاتم ظهره على الكنبة وهو يعدّل مستوى المخدة من خلفه :
الناس نايمة يبه وأذني قريبّة منك .. ولا تتعب حالك بإقناعي ! مثل ما وصلتها ورقة زواجها بتوصلها ورقة طلاقها
زواج فيه شخصين واحد فاقد ذاكرته والثاني متسلّح بذكرياته زواج ما يمتّ للواقع بصلة
توّقف في مُنتصف الغرفة وهو يقول بجديّة مرعبة :
حالتكم ما تغيّر من صحة زواجكم شيء ! وعمّك المرحوم ما يخطي خطوة إلا وله نظرة فيها .. ولا تنسى إن نظرات عمّك ما تخيب
أغمض عينيه يحاول التنّعم بالنوم وهو مُرهق :
هذاك أول ، لأن النفوس ما هي مثل أول .. وعمّي ماهو بحيّ
ليقول سيف بحدة :
وهذاك أول تخطط بدون شوري ، إن كنت تارك لك الحبل على الغارب عشان راحتك هالمرة ماني تاركه لك ولبنت أخوي عشان تنهشكم الناس بكلامها
اعتدل في جلسته وهو يعضّ شفته السفلية بقوة ويصوّب نظراته نحو والده :
محدٍ داري بالورقة غير خلفان ومجلس جدي ، تطمن سمعة بنت أخوك سليمة - وبسخرية - دامها بنت مُرشد
زفّر وهو يستغفر بداخله من هذا الغريب :
ونسيت الضيوف اللي كانوا حاضرين المشهد ؟ تلقى الحين الشمالية والجنوبية دروا بزواجك ، مو بس خطبتك
أشاح بوجهه بعيدًا ليردف بإصرار :
وإن دروا ما يلحقني همّ ، أشري راحتي لو على قطع رقبتي يبه وزواجي من بنت أخوك ما أبيه
نهرب من الوجع ونلقانا فيه .. وش هالحياة الباليّة والله
ولّاه ظهره وهو يخرج بلا مُبالاة من إعتراضه لأنه وإن كان معترضًا على طريقة زواجهم فهو قد تم ، وليس هُناك داعٍ لإنهاءه أبدًا
بل يشجّع جدًا على السير فيه ، لعلّ من ألهم مُرشد هذه الخطوة هو إحساسه أن حاتم وزينة هما الدواءان لسقم أرواح بعضهم
أردف ببرود :
زين على راحتك .. أول ما توصلّ لها ورقة طلاقها
ذكرني أعقد نكاح زيد وأميمة
-التفت له وهو يبتسم-
زيد الحكيم اللي دق الباب طالب بنتي بالإسم
شعر بكهرباء سرت في كامل جسده حتى جعلته يقفز من الكنبة التي كان مُنبطحٌ عليها ، يرشق والده بنظرات غاضبة ، مصدومة ، مصعوقة ورافضة
كشّ جسده حين تخيّل أن الوضع يتكرر من جديد ، أن يتكرر الصراخ والعويل واللطم والنُواح ! أن تتكرر غُربته ، وتنصّل الروح من جسده ، هُروبه وبعده
وقف منتصبًا من مكانه وهو يقول بصوتٍ غاضب حارق ومُلتهب :
على جثتي وإعدام روحي
ما راح اسمح لكم تلدغوني من نفس الحجر مرتين


-

-
خيوط الشمس هذه المرّة غازلت مكان آخر ، ومنطقة آخر
وعالم مُختلف تمامًا عن العالم الذي يبحرون فيه !
لم تنزل أشعة الشمس في هذا الصباح على الجبل ، بل نزلت في الصحراء المتفسّحة
هُناك .. حيث تقبع ( عزبة ) شبة متطورة تعود ملكيّتها لشيخ جبّار من جبابرة العصر العريق
تحتوي على منزل مرتفع عن سطح الرمل ؛ من صالة ومجلس وغُرفتي نوم ومطبخ صغير
بأسفلها جلسة شعبية ممتلئة بالزينة التُراثية من كل حدبٍ وصوب
وعلى الجهة الآخرى ، مقابلًا للمنزل
هُناك سور حديدي كبير يضمّ مختلف الحيوانات
من جِمال ونياق وبقر ومواشي آخرى !
وبداخلها ( الصندقة ) شيء أشبه بالصندوق الكبير
بثلاث جدران ، ومكشوف من جداره الرابع
يضمّ أعلاف الحيوانات وغياراتها .. ويضمّ قايد النائم
-
فتح عيناه ببطء وهو يشعر بإنزعاج من طريقة نومه
وهذا الإنزعاج تسلل إلى أنفه من شدة الرائحة الكريهة
وإلى قدمه التي يشعر فيها بالحكّة
كحّ عدة مرات من الغُبار الذي يغطي شعره لينفضه بخفّة
حينها قفز قفزة أشبة بالمُرتعبة لمّا تبيّنت له معالم الحياة
من الشمس والأرض والهواء والبُرودة القارصة
كيف وصل إلى هذا المكان ؟ وما هذه الرائحة الكريهة التي تتسلل إلى أنفه وتُعبس نتيجتها ملامحه
سحب قدمه والحكّة تتزايد .. لينصدم من القيد الذي يقيّده .. جذب السلسلة المُتصلة به وهو يراها معقودة في الجدار بجانبه
زادت حركته وهو يحاول إنتزاع القيد دون جدوى وهو مصدوم ، بل مدهوش وبشدة من الحالة الذي وصل إليها
بالأمس كان في الجبل ، بجانب الحجر والشجر واليوم في مكان ضيّق بشدة بجانب الرمال والإبل والمواشي
التفت بحدة حين تراءى له صوت يبغضه :
على هونك ، تضارب حديدة من صباح الله خير ؟
نظر له قايد ، والغضب استفحل في قلبه :
مربوط مثل الحيوانات ليش ؟ تظن إني بهرب منكم بعد ما سلّمتكم نفسي بنفسي ؟
ابتسم سويلم بسخرية وهو يسحب كُرسي معدني منخفض ويضع أمامه صينية معدنية بها إفطار بسيط :
أظن ليش ما أظن ؟ ما تنضمنون يا عيال العزم
زفّر قايد وهو يرتدي لباس البرود ، رغم أنه يرتجف من البرد القارص في هذه الصحراء الرحبّة
رفع خصلات شعره النازلة عن ملامح وجهه وهو يتكئ بظهره على الجدار ، تسلّح بنظراته القارصة وقد عزم على مُعاملتهم بهذه الطريقة ، فلا بدّ أن لا يبّين إنخضاعه وبذات الوقت لا يسمح لهم بكسره مهما كلّفه الأمر حياته
أتكئ سويلم على فخذيه وهو ينظر إليه بابتسامة شامتة :
كيف شفت الجو في المنفى ؟ عسى ناسب تتطلعاتك
جابهه قايد بذات الإبتسامة :
من جبل لصحراء .. أبد ما كانت تطلعاتي أكبر من هالوضع ، توقعت أهون الأمر إنكم تحطوني في قبر
ضحك ضحكة مجلجلة كريهة :
لااا انتظر ، على هونك يا قايد .. القبر بتحفره أنت بيدك
وبترمي فيه نفسك ! وحنا بنطلع منها مثل ما تطلع الشعرة من العجين ، لا تظن إننا أغبياء نلوث يديننا بدم غيرنا
أمال قايد فمه بابتسامة ضاحكة :
اللي يسمعك ما يقول هو اللي أمس شياطين الانس والجن فوق رأسه ! وما دونه ودون دمي سوى شعرة لولا أبوك
احتدت نظرته الحادة نحوه ، وهو يقول بصوت أجش :
اسجد سجدة شكر وأدعي لأبوي اللي نجّاك من بين يديني
ولا أنا وإياك الحين تحت الأرض
تأفف للحظة بصوت مصطنع ، ليُردف بملل :
الشكر لله ، وما لأبوك الشيبة عندنا فضل ولا منّة
عضّ شفته بحنق ، نثر التراب بقدمه لينتثر في وجهه وعلى أثره بدأ قايد يكحّ بشكل متواصل من كمية التراب التي دخلت حلقه
وقف سويلم وبوقوفه سقط الكُرسي المعدني ، ليردف بحدة:
على ضعفك ، وهشاشة موقفك .. وقلّة حيلتك فارد لي جناحيك على عرضها ، تبي من يكسّرها لك ؟
أيامك هنا مطوّلة يا قايد فالأفضل لك ما تستفزني بقول أو فعل أيامك كلها بتكون سوداء وأسود من ظلام الليل ، بتعدّ الساعات على خلاصك ولا تلاقها ، بتدّور السبيل والحُرية ولا بتذوقها ..
أكبر أحلامك بتكون كيف تقضي اليوم اللي بعده .. وكيف تبني عشّة ضعيفة وهشّة بهالمكان اللي مالك منه مفرّ
سمعتني ؟
ابتسم قايد وهو يسند رأسه على الجدار :
تطّمن ، ماني متوقع تعيشوني بواحة خضراء وسط هالصحراء ولاني متأمل تحوفوني بالراحة من كل جانب ولكنّ بس تخلّص أيامي هنا يا سويلم ، بنلتقي أنا وأنت
مو فالجبل ، ولا فالصحراء .. بنلتقي جنب العِين .. وين ما لقيت جثّة ولدك ! ونتصافى ، مهما طالت بك الآمال وشمخت بنتصافى
اشتّد عُرق عنقه من شدة حُرقته على ذكر ابنه المتوفى
بهذه البساطة وبهذا المرور السلس دون تأثير أو تأنيب ضمير .. وعلى لسان من ؟ على لسان قاتله
وقاتل براءته .. وطفولته .. وأعوامه الخاسِرة
اقترب منه والغضب أعمى عيناه السوداء ، مد قدمه ليضربه في مُنتصف بطنه ضربة جعلت قايد ينحني للأمام وهو يتنفس بصعوبة بالغة ! ليمسك بطنه بقوة وهو يُحاول التقاط أنفاسه
ضحك وهو ما يزال منحني ليردف دون أن ينظر إليه :
ماعليه هاليوم اضرب ، بكرة واللي بعده اقسم بالله يا سويلم تمد طرف اصبعك لأنحرك وسط نياقك
تراجع سويلم وهو يتنفس بسرعة إثر غضبه:
لا تتعالى وأنت بالقاع ما بينك وبين الذل شعرة ! شموخك المزيّف هذا بينهيك قبل لا يبدأ إنتقامي
-نظر له بعلّو ليقول-
إكرامًا للضيوف اللي أنت مو محسوب منهم ، بنجيب لك وجباتك لين عندك! بعد اشكر ربك عايش في فندق بنص نجمة ونجيب لك أكلك لين رجولك ! ولا ما بتلقى عدّو بهذه الشهامة كلها
عضّ شفته وهو يستقيم من إنحناءته ليبتسم باستخفاف :
زين اللي اعترفت إنك عدو بكل سوءك ورداءتك وشّرك
والله يكفيني شر شهامتك اللي ما أبيها
نظر له باستنقاص :
هه يا مسكين أنت .. افطر بس .. اليوم يوم إجازتك الوحيدة طوال وجودك هنا ! ومن بكرة برمي قدامك تعب الدنيا ووهنها .. خلّك جاهز
خرج ونظرات قايد تتبعه بضيق عميق وقلّة حيلة من وضعه المجهول ليردف بهمس وهو يمسح على بطنه الذي يُصدر أصواتًا جائعة :
الله لا ينّول اللي ببالك يا سويلم ، واطلع من أرضك بأقل الخساير
-
بينما خرج سويلم بخطواته الغاضبة وهو يركل ما أمامه وما خلفه ، لو أن والده يعطيه الضوء الأخضر لأفضى سلاحه في رأسه دون أن يرّف له جفن وتنام له عين
لكنّ والده " ومنزلته " لا تسمحان له بالإقبال على هذه الخطوة
تقدّم حتى دخل إلى الجلسة الشعبية وهو يرى جلوس والده ودلّة القهوة أمامه يشرب منها صباحًا قبل إفطاره
رمى جسده بجانبه وهو يقول بغضبه :
إن شاء الله ما اضطر كل مرة أواجه هالقاتل المغضوب عليه ؟ والله يا شيخ إني وإياه يا ناحر يا منحور
تجاهله بنظراته وهو ما زال يرتشف القهوة المقنّدة :
ما قلت لك لا تروح له ، لا تروح لسبب وجايعك ! إلا ما تعنّد وتسوي اللي برأسك
-التفتت له بحدة وهو يقاطع كلامه-
ومن قال إنك بتتواجه معه كل مرة ؟ شلّ شلولك وارجع بيتك جنب عيالك ومرتك ومالك حاجة في ولد العزم !
جنَ جنونه وهو يرى والده يسحب يده من إنتقامه الذي خطط له ليلة كاملة من شدّة حر جوفه وحُرقته العارمة
اشتاط غضبًا حين ظنّ أن آماله برؤية قايد ذليل حال ، وبئيس قلب ، موجوع ومُهان ومحروقٌ روحه ستطير في مهب الريح
التفت له وصوته يتعالى في وجه أبيه بغضب :
يوم إني بغيت أروي روحي بدمّه منعتني قدام آل عزم وبلعتها لأجل مكانتك
والحين .. بعد ما صار يفصل بينهم وبين ولدهم جبال وصحراء وهو بلا حيلة ومسلّم لأمره ، تجي تمنعني منه ؟ الإنتقام يخصّني وحدي يايبه ، لا تتدخّل
أشر الشيّخ بيده وهو يقول بهدوء :
مالك عند قايد ثار وإنتقام ، دوّر ضحيّة ثانية غيره .. ولد سعيد من اليوم ورايح تحت يديني .. ومالكم به
شدّ على قبضة يده وهو يقول بذات الغضب :
يبه لا تحرّ جوفي كثر ما ماهو محتّر ومضيوم ! جسد ولدي ما بعد تحلل تحت التراب .. والله لا يحللني إن تركت حقّه يروح
ضرب الشيخ بقبضة يده على فخذه من إنزعاجه بسبب هذا الابن المُندفع أشد إندفاع :
خـلاص يا ولد .. لا تخليني أعيد وأزيد في كلامي ! أرجع مكان ما جيت وأنسى قايد وطوايف قايد .. وإن كانك متشّفق على الإنتقام ، فارتاح .. بيديني اللي جار عليها الزمن راح أخذه بدالك
كاد أن يُقاطعه ، ويندد برفضه القاطع لأوامر والده
فقطعًا لن يتراجع عن القِصاص بقايد .. لن يتراجع عن من لوّن حياته وحياة عائلته باللون الأسود بعد فُقدانهم لأصغر أطفالهم ، وأكثرهم بهجة وحياة
إلا أن الشيخ قاطعه بحدة مُنهيًا النقاش :
كلمة زيادة وبطردك من العزبة ولا عاد عيني تشوفك .. اسكت لا بارك الله بلسانك الطويل ورأسك العنيد
سكت سويلم على مضض وهو الذي لا يقدر على زعل والده ، فهو يعتبره ذراعه اليمين رغم أنه أوسط أولاده
في ذات الوقت ، أقبلت من الجهة المكشوفة تمشي بخطوات مزلزلة من شدّة تعاليها وشموخها .. وبكل خطوة يصدح صوت الخلخال الثقيل في قدمها الحافية والتي تُلامس الرمل البارد
أقبلت بـ"جلابيّتها الراقية" رغم وجودها في المنفى ، وبـ"شيلتها" السوداء ، وشعرها الأسود المتمّرد من خلفها
حدّة ملامحها تشيء بأنها ابنة الصقر ، لا غير
أنفها الشامخ ، فمها الواسع والمزموم بدّقة مُتناهيّة صوّرت صورة إلهية عجيبة
وعلى ذاك الثُغر ، ابتسامة واثقة جدًا .. مُتحديّة ، ومتأهبة
تحمل بيديها صينية يتوسطها فطور شرقي بِحت ، تقوده لجدّها ولذاك الذي بجانبه .. أشرقت عليهم كما تشُرق الشمس من خلف الرمال ، أشرقت كلهيبها الحارق وأشعتّها الصاخبة
تهلل وجه جدّها فور أن رأها مُقبلة نحوهم ليُردف بابتسامة :
ارررحب يا حيّ الله الصباح اللي به شوفتش ! اقبلي جعلني قبلش ، اقبلي على جدّش الله لا يحرم جدّش من هالشوف
تجاهلت ترحيبه وتهليلة والفرحة على ملامحه ، وهي ما زالت محتفظة بابتسامتها التي تُفلق الصخر من شدة ثقتها ، أنزلت الصينية على الأرض بجانبه وهي تُلاحظ فتور ابتسامته وانخفاضها شيئًا فشيئا .. وهذا الذي تُريده
أن تزرع الحُزن ، والبأس ، والكآبة والتعاسة على وجوههم
ابتسم سويلم بسخرية وهو يمدّ يديه نحو اللبن الطازج
الموضوع بجانب الفطور ، ويشرب منه على عجل :
صبّحش الله بالخير يا بنت أخوي العودة
اعتدلت في وقفتها الشامخة ، بظهرها المستقيم
لتُردف بنفس سخريّته :
الله لا يصبحك بخير وعافية يا سويد الوجه !
شرّق باللبن الذي يشربه ليتسرب بعضًا منه لثوب والده ، وهو يغصّ به ! لم يكن يتوقع سماع هذا اللقب من فاههِا رغم أنه تعوّد على سماع أعتى من هذا الكلام
التفت لعصبيّة والده بسبب اللبن الذي سقط ، وهو يأخذ غترته ويسمح بها على المكان المبلل :
آسف يا شيخ ، آسف اعذرني
-صوّب نظراته الحادة نحوها-
بس بعض الناس كل يوم يبهروك بقلّة تربيتهم وأدبهم
أبعد الشيخ يد سويلم وهو يرمي غترته في وجهه :
صدق إنك سويد وجه وما تستحي ، قم بس اطلع من مكاني ولا عاد أشوفك جاي ومكرر لي الكلام اللي قلته .. قم يالله
عضّ على شفته وهو ينقل نظراته بين والده وابنة أخيه ليُهمس :
يبه ! ما خلّص كلامنا
احتدت نظرات الشيخ ، حتى كادت تلتهمه بأكمله!
ليبتعد سويلم وهو يتأفف بخفوت :
افطر وأطلع ، جاي على لحم بطني من ساعتين ولا ما يجوز لي بعد ؟
أقفت بخطواتها وهي تقول بصوت مسموع متعمد شامت وضاحك ومُتشّفي :
زقوم إن شاء الله
جهر جدّها بغضب من لسانها اللاذع :
الجووووهـرة
توقفت الجوهرة حين شعرت بقدماها ترتفعان عن مستوى الرمل ، لتُصبح معلّقة في الهواء بسبب يد سويلم
التي أحاطت رقبتها ! أردف وهو يعضّ طرف لسانه بحنق :
قليلة أدب من أول وتالي .. لا أبوش عرف يربي البنت الصغيرة اللي فيش ولا جدش قدر يروّض جموحش وسط هالصحراء ! تبين سويلم يالجوهرة ؟ تبين عين عمّش الحمراء ؟
سمّي واختاري ، أيّ الوجوه تبغين ؟
ما زالت مُحتفظة بابتسامتها ، ويديها تُحيطان بيدا عمّها على رقبتها :
طبعًا .. عندك باع طويل في القتل والتعذيب ، ما هو أنت دايم متعطّش إنك تشوف دم غيرك على الغريب ، وعلى القريب .. وأي قريب بس ؟
تسلل الإحمرار لعينا سويلم حتى اختفى بياضها ليُصبح كثور هائج يبغي الإنتقام ممن احتسبه وجعله فُرجة للشامتين ! لا يحتاج لكلامها المسموم حتى يذّكره بما مضى ، ولا يحتاج لرؤية ابنة الصقر لكّي ينعى الصقّر .. هو كل يومٍ في ندمٍ شديد ، وكل ليلة في بُكاءٍ مرير بسبب يده التي سوّلت له على حين غرّة وحين غضب
ازدادت قبضة يده على عُنق ابنة أخيه ، ابنة الصقر الشامخ حتى كادت تُخرج عيناها من شدة ضغطه على عُنقها وبات نفسها يضيق شيئًا فشيئًا ، إلا أنها أبت الخضوع والإنكسار لتُردف بصوت خانق وابتسامة مزمومة :
انت تدري وأنا أدري ، والسماء والليل يشهدون ! بس جهلك في سواياك زاد الطيّن بلّة .. لا تنسى ولا تسوّل لك نفسك تمشي بدرب النسيان.. عُمرك لا تنسى وجهي ، ونظرة الصقر بعيني
بظل أذكرك إني جحيم لك وبظل أجرعك الزقوم بيديني
أنت واللي وراك كلهم ، كلكم يا الوكيل
عضّ على شفته وهو يقول بحنق غاضب :
الجوهرة لا تستفزيني .. خيوط الدم والوصل ما بتشفع لك عندي
قاطعته بحدة وهي تغرز أظافرها في جلد يده بقوة :
ما شفع لك ضميرك ، ولا شفع لك دمك اللي يجري بجسد أخوك ظنّك بيشفع لي دمي عندك ؟ يا خاين .
مد يده عازمًا على تلقينها درسًا لن تنساه ، ومل أكُثر الدروس التي لقّاها إياها دون فائدة مرجوة
رفعها للأعلى وهو يهوي بها على خدها ، ليوقف كلامها المُنساب من عُمق جوفها الحارق رغم الحقيقة المرّة التي تتفوه بها لكنّ ضميره النائم يجعله يشتاط غضبًا وكرهًا لها
صرخة والده هي من أيقضت نظراته الحادة الموجهة نحو صفحة خدها التي تحولت للإحمرار الطفيف وسط سمارها الرقيق ليتراجع خطوة للخلف حين جاءه عتاب والده :
تمدّ يدك عليها وأنا قدامك يا قليل المرجلة ؟ خلاص رفعناك لسابع سماء وجيت لي طايش وخايب .. احذرني تعيدها يا سويلم .. والله ما أرحمك
لم يكن سويلم من ردّ عليه .. بل تلك الجوهرة العاتيّة رغم وجعها من ردت بحقد :
تهدده وأنت المشبعنّي ظلم وقهر ياللي تسمي نفسك شيخ ؟
-ضحكت بسخرية-
الله أكبر على رحمتك اللي ما تاسع هالصحراء من كثرها
تراه ولدك ومن صُلبك ، وطينته هي طينتك .. يا فاسدين
تنّفس سويلم بصوت عالي وسط سكون والده المؤسف
ليُردف بقهر :
وأبوش ولده ، ولا نسيتي
التفتت له بسرعة ، وبنظرات حادة :
تخسي أنت واللي وراك .. أبوي ما تدّنس دمه بفسادكم
طاهر مثل طهارة ماي زمزم ، الطهارة اللي ما يستوعبها جسدكم
-انحنت وهي تأخذ شيلتها السوداء لتنظر له بسخرية-
صحيح مرت أيام وهالأيام خذت من زُها عمري لكنّ سنتين قليلة على روحي بهالمنفى ، وأيامي الغفيرة تنتظرني برا هالأسوار !
إن طالت شواربكم ، وقصرت أيامي بالعدد ..
ما راح أطلع وأنا الخاسرة .. لأن بنت الصقر ما تخسر ، بنت الصقر تحارب لآخر رمق ولو ما كان في ساحة الحَرب غيرها وغير نفسها
-صدّت بظهرها وهي تمشي بخطواتها الجبّارة وتُهمس-
عهدٍ علي لأخليكم تجترعون القسوة من طرفي لين تلفظون وجعي .. ودمع أمي ، وبُكاء خواتي ، وروح أبوي
شدّ على قبضة يده وهو يلتفت لوالده الواجم وجهه
بصمتٍ وسكون مُرعب
يعي ما يشعر به بسبب كلام الجوهرة التي لا ترحم به أحدًا لكنّه يعي أيضًا أن مكانته في المجتمع أهم من مكانة الجوهرة في قلبه
جلس أمامه بعد أن سدّت نفسه عن الفطور
ليردف بإمتعاض :
قلت لك زوّجها لواحدٍ يطلع الخوف اللي متسّلحه بقوته .. لواحدٍ بيكسر شوكتها المتقوّية على جدها وعمامها ! أنت ماقدرت عليها .. ولا حنا قدرنا ! بيقدر عليها رجال غريب ، طيع شوري
زفرّ نفسه وهو يقول يهدوء مغلّف بالبرود :
لو أطيع شورك كانت حفيدتي الحين تحت تراب .. ما تفرق شيء عن غيرك ! قم وارجع لبيتك أحسن لك ولنا
وقف والضيّق ينتشر بوجهه وهو صامت ، ليوّليه ظهره خارجًا
التفت فجأة له بعد دقيقة تفكير ، بدهشة :
قايد ما لازم يلمح زول الجوهرة .. انتبه يبه
نظر له الشيخ وهو فائض من غضبه :
ولسنه يا هالولد ، بتطلع ولا بقوم وأذبحك بعز هالنّهار ؟
تأفف بداخله وهو يقول بضيق :
استغفر الله العظيم ، زين افتح لي البوابة
ولا تبيني اتكهرب وتذبحني صدق ؟
رشقه بنظرات حادة وهو يُخرج الجهاز الصغير الذي يُلازم ملابسه دائمًا ليضغط الزر ويُفتح البوابة الحديدة
في تقنية عالية الجودّة أسسها حين أحضر الجوهرة إلى العزبة حتى لا تسوّل لها نفسها الهرب من هذا المكان إلا بأمره

-

-
ومن وسط الصحراء إلى طرف الساحل ، حيث تنتشر البيوت بالقُرب من البحر
في يوم أثيري بارد ، والضباب يغازل منازلهم برّقة
يجلس حامد في المجلس ، على طرف الكُرسي الواسع
يمسح بيديه حدود وجهه التعِب ، ويزفر بين الفينة والآخرى
أيام قضاها يتردد على علياء ، ويُقنعها باللين والطيّب
حتى تعود إلى منزلها وعشّتهم الصغيرة
ولكنّها تتحجج في كُل مرة يصارحها برغبته في عودتها
لتختم حججها بالبُكاء الذي يؤجج النار بصدر حامد
ولكنّ أتى اليوم يحمل العزم الصارم حتى يجعلها تعود بغير رضاها
فهو لا يقدر على بُعدها .. ولا يقدر على إنعدام حسيسها في غُرفتهم رغم جفاءها
رفع معصمه ينظر لساعة يده ، الساعة ما تزال السادسة والنصف صباحًا
عضّ شفته بإحراج حين تذّكر نظرات عمّه والد علياء الذي ظّل يرمقه بها وهو يقدّم له التمر والقهوة
وكأن بنظراته كان يقول له "عديّناك ولدنا بس مو لدرجة تدق جرس البيت من فجر ربّي "
ليُقيه باقي الإحراج وهو يتركه بعد أن قاله له " علياء بتجي بعد شوي "
وها هو بعد خروج عمّه بأكثر من عشرين دقيقة ظلّ ينتظر ابنته العنيدّة والعتيّة على التصديق
وما إن لمحها بالقُرب من الباب ، مُرتدية لقميص قُطني قصير وتلّف حولها الشال الثقيل
وشعرها الطويل مسدولٌ على ظهرها على سجيّته
وجهها خالي من المساحيق ، كيفما عشقها
لولا ذاك الإنتفاخ الذي يقيم عُروسًا أسفل عيناها
تقدّمت حتى قطعت نصف المسافة ، لتُردف بهدوء مُصطنع
تغلّفه بالنُعاس :
صباح الخير
وقف وهو يرسم ابتسامة رائعة ، ابتسامة خلاّبة
يعلم تمامًا مدى تأثيرها على قلبها
قطع نصف المسافة الباقي .. ليقف أمامها وهو يلمحها بعين الرضا
انحنى ، قبّل خدها برقة ليبتعد وسط ابتسامته :
صباح النور والسرور .. كيفش ؟
صدّت بوجهها الرقيق عن يمينها ، وهي تُهمس :
خمس أيام تسأل نفس السؤال ، وخمس أيام أعيدلك الإجابة
حالتي ما تغيّرت من أمس لليوم .. والكيف في مكانه
عضّ طرف لسانه وهو يصطنع المرح :
أوف أوف ، وشفيها الحبيبة اليوم معصبّة ؟
لالا الإعدادات خربانة
نظرت له بطرف عينها وهي تقول بغضب طفيف :
مبّكر في توقيت الجيّة عشان تحرجني مع أبوي
اللي جاي يصحيني بعتابه ويهاوشني من تحت لتحت
احتضن يداه خلف ظهره وهو ينظر إليها بابتسامة :
ايوه .. هاتي وسمعيني عتاب عمّي الغالي
تراه قبل شوي يعاتبني بنظراته .. زين عاتبك بلسانه
لّفت الشال بشكل أكبر بسبب البرودة التي دخلت من النوافذ لتُردف بضيق :
حامد وش عندك ؟ جاي تفشّلني مع أبوي وتمشي
إذا كان هذا مُبتغاك فأنت وصلت له
اعتدل في وقفته .. واراح يديه على جوانبه ليقول بجديّة غلّفها بحنيته :
جاي استردّ زوجتي ، اللي نست إنها عندها بيت وزوج
وعجبتها الجلسة ببيت أهلها
يالله يا علياء .. شوفيني جايّش من أقاصي الغرب لين أقاصي الشمال
حتى أردّ طيفك اللي فقدته في الغُرفة
تعقدّت حواجبها بضيق ، لتجلس على الكُرسي بجانبها
هتفت حين جلست بجانبه وهي تشعر بإتقاد صدرها :
ليش تبيني أرجع وأنا حتى القيمة فقدتها عندك
علمنّي يا حامد ، وش الشيء اللي ممكن يخليني أرجع وأنا طايرة على جناحيني وأنسى أقدامي ؟
تنّهد ليُردف:
ما تعرفين من الكلام إلا اللي يوجع القلب يا علياء
قيمتش هي هي ، معززة مكرمة ومرفوعة بقلبي ما غير
-عضّ شفته وهو يصّر عينيه-
يعني فوق ما أنش طلعتي من بيتي بدون رضاي
هذاني جاي لش أطلب رضاش
ما لجيتّي عندش معزة؟
اعتلت الدموع لوجهها لتقول بصوت خفيف :
بيدي عُمر وبقايا أماني ، وضحكتين وطفل
وقلب ممتلي رغبة ولهفة
بس أنت وش بيدك يا حامد؟
اقترب وهو يشد بيده على يدها ليُهمس بحنو:
معي مفتاح هالعُمر لا منّك أقبلتي على بابي
بابي المسدود بوجه الغير ، والمشرّع لش
عشان خاطر الحُب والأيام الهنيّة بقربش يا علياء
عشان خاطرها ارجعي لحامد
نظرت لدواخل عينيه ، لحنانها المُتعاظم رُغم أساها
يالله! كيف لهذا الرجل الخشن أن يكون بكلّ هذه الرقة المؤلمة للقلب
كيف يسعى لرضاها ، وهوادة قلبها ، وتجفيف دمعها
كيف يكون بهذه الكثرة على قلبّها الهش الغُر الذي تغلّف بالقناعة والرضا
فبقُربه تطالب ! تطالِب بالمزيد والمزيد ولا تكتفي
تبتغي الوصل عاجلاً غير آجل
تشتهي غيثًا ، نافعًا غير ضار
تُريد الأمل .. أملًا صادقًا غير يائس
اجترعت ريقها وهي تُقيم ظهرها في حركة دفاعية لردة فعل حامد على ما ستقوله بعد قليل
وأبعدت يدها عن يده حتى لا يُهشمها
لتردف بخفوت خائف ولكنّه واثق :
بيبان كثيرة لازم تتشرّع يا حامد ، وغيثك مثل ما نالني بعد القحط
خليه ينول غيري .. وغيري أولى فيه
عقد حاجبيه بعدم فهم :
بالنسبة لي ، أنتي المبداه بعد أمي
تراجعت خطوة وهي تنظر لعينيه بهدوء :
افتح باب الصُلح مع حنان ، وبشرّع لك الدنيا وما فيها
سبايب الوجع اللي كنّا نهرب حتى من ذكراه
راح يكون هو سبب اللّم من جديد
احتدّت نظرة عيناه ، بشكل مُرعب ليردف:
اقطعي الطاري
أصرت على موقفها لتقول :
جُهدك وسعيك طوال هذه السنين عشان تمحي ذكراها من قلبك ومن صدى البيت ماهو جايب نتيجة
مو يقولون ما يفل الحديد إلا الحديد ؟
فلّه دام اثنينكم حديد
وقف ومزاجه تعكّر بشدة ، رصّ على قبضة يده خوفًا منه عليها ، ليقول بغضب :
اسكتي يا علياء ، لسلامتش وطيب حالش اسكتي
وقفت مُقابلًا له ، وغضبه هذا يمدّها بالجسارة :
لين متى وأنت وأخوك تتغذون على كُرهها وتقتاتون من بقاياها
أختك ما غلطت .. أنتو اللي زوجتوها
وفرحتوا لها بخُطبتها وبملكتها
أنتو اللي احتضنتوها وبخرتوهت وزفيتوها
وحطيتوا يدها بيد عريسها
ووش لاقت بعد هذا كله ؟ القطيعة اللي يهوي فيها المُسلم لجهنم بسببها
اعتلى صوته شيئًا فشيئا وهو يرتجف من شدة عصبيّته
التي يعلم أنها ستردي أحدًا ما قتيلا:
علياء انكتمي
-صرخ بحرقة قلبه -
أنا زوجتها بالحلال بس ما بعتها
ما طعنتها في ظهرها .. ما خنتها ولا بدّيت غيرها
ما لعبت في حسبة حياتها ولا ضربت بقلبها عرض الحايط
أنا ما ذبحت ولدها ولا اخترت طريق القاتل أمشي فيه
أنا فرشت لها الأرض ورد ونزعت الشوك بأصابعي
وهي رمت هالشوك بطريقي .. وبدون ما يرّف لها جفن
صرخت بصوت مبحوح من صُراخه الذي تعالى :
بس هي ما غلطت .. ما غلطت يا حامد
هي أنقذت زواجها من الإنهيار واختارت الشريك اللي بتقضي معه باقي عُمرها
لين متى وأنت تحمّلها غلطة ما ارتكبتها ؟
شدّ على شعره وصُداع ما داهمة بشدة ، صداع جعل الرؤية تتضبب عنده ، بسبب شعوره باليأس
رفع عيناه الحارقة لها وهو يقول بحدة عارمة :
وولدنا ؟ نسيتيه ؟ نسيتي ليالي الشوق والبُكاء عليه ؟
نسيتي القوقعة اللي احتضنتي نفسش فيها وأهملتيني بسببها
نسيتي ملابسه .. ألعابه وأغراضه .. صوَره اللي مالية الأدراج
كيف بسهولة تقولين افتح باب الصُلح معها
وأنا وجع موت ولدي ما نسيته فيش ؟
هطلت دموعها حين تذكرت صغيرها الميّت ، والشوق يُقطعها نحوه
ارتجفت أوصالها من ذِكراه وهي التي لم تنساه .. شعرت بالدوار لتجلس على الكُرسي وتحتضن دموعها بخديّها
اهتّز جسدها اثر قشعريرة أصابتها لتُهمس بوجع :
ماحد ينسى بِكره وأول أفراحه
ماحد ينسى البهجة والفرحة اللي جلبها أول حفيد لأمك وأبوك
لكنّي ما أرضى بالظُلم .. ولدي راح وماهو راجع بالكره والحقد
وأنا عشت من بعده سنين مليّانة قهر وضيق وأنا أشوف أخوها وتؤامها يوعد قلبها بالوجع الضامي
-رفعت عيناها الدامعة نحو وجهه الجامد-
ماقدر أرجع لبيت كل زاوية فيه مليانة غل وعداوة
ماقدر أنثر عبير زهري في بيت ما يقدّم على قائمة أطباقه إلا الأشواك
لا منّك مديّت جسور الوصل لأختك .. رجعت لك ولبيتك
أنزل رأسه للأسفل وهو يضحك ، يضحك بسخرية عارمة
يضحك بوجع حُشر وسط حُنجرته
يضحك بحجم الصدمة التي استولت على ملامحه :
خمس سنين أشجعّش وأحاول فيش تنزلين الميدان بسيوفش
ولمّا نزلتي .. ما زرعتي هالسيوف إلا بصدري
يا حيف والله
-اعتدل في وقفته وهو ينظر إليها بصورة مُرعبة ليردف-
أنتي قد كلامش ؟
هزّت رأسها ودموعها تجري بلا توقّف ، ليصدّ بظهره ويتجه نحو الباب قبل أن يعلق وسط إنهياره
وهو يقول بصوت مبحوح جامد :
بيني وبينش الطلاق لو تصافت النفوس وبنيت الجسر من جديد
خيسي ببيت أبوش ، ومتى ما شبعتي دليّتي بيتي
أغلق الباب وراءه بقوة عارمة ، جعلت علياء من خلفه تجهش في البُكاء بسبب صدمتها من وعيده
ظنت أنها ستُعيد المياة الشفافة لمجاريها ، ما ظنّت أنها عكرت مجرى ماءها


-

-
وإلى بيت الجبل .. يجلسون بجانب بعضهم البعض على بساط بنيّ اللون المنقوش بنقوش إسلامية عريقة
والذي وصل هدية للجد عزّام من باكستان بالذات ! على طرفها الحارث بتكشيرته الذي استيقظ بها من الصُبح
وأمامه الفطور التي تقدّمه العاملة
وعلى الطرف الآخر الجدة عزيزة والجدّ عزام ، المتكيء على عصاته بتفكير عمييييق ومُوحش
يتسلل لمسامعه صوت الحارث ، الذي يتأفف مرة ، ويغضب مرة
ويسكت على مضض مرة .. ويزفر نفسه آلاف المرااات
ضيقته التي شارك فيها أخته كان بسببها .. بسبب الوجع الذي
لمحه بعينيها وقتما التقت أعينهم ببعض
كان يظنّ أنه هو المحتاج للسند والظهر ، أنه هو المائل دائمًا ويحتاج من يقيمه ، أنه هو الذي فقد الأب والأم الحيّة
لم يستوعب إلا متأخر أن زينة فقدت أبيها وأمها كذلك
ولم يأخذه التفكير بيوم أن زينة تحتاج لتتكيء بظهرها على أحد ، ونسي أن يمسح على آلامها ويطبطب عليها في حضرة آلامه هو
شعر بأنانيته وقتما لمح خيبة أملها التي جسدّتها عيناها في صورة قاسية وبقوة ، لأول مرة تعلن إستسلامها في صمت تام
صمتها الذي غلّفته بالقوة المصطنعة حتى لا يقولون " بنت مرشد إنهارت بعد مُرشد"
وموضوع زواجها الذي حصل ، يكسر ظهره زيادة عن كسرّته
عوضًا عن رفضها للموضوع كامل .. إلا أنه يرى أن حاتم غير لائق فيها بتاتًا
وهذا الذي كان يضايقه منذ الصباح ، والتي وصلت ذبذبات ضيقته لجدّه :
أبوي لفّ الدنيا كلها ، وعرف من الناس أشكال وألوان .. حتى الجن الأزرق كان يعرفهم
يوم إنه كان خايف على أختي لهالكثر ليش ما اختار لها إلا حاتم
حاتم عاد يا جدّي ؟ حاتم بن سيف مرة وحدة !!
تنّهدت الجدة التي علمت بالموضوع البارحة بعدما أخبرها الجد عزام بذلك ، رغم اعتراضها الخفيّ على حركة ابنها
المُهينة في حق ابنته !
فهي امرأة البحر ، تربّت على الشموخ والعزّة .. وأن لا تُهين نفسها أمام أي مخلوق كان
أن تجعل لها شأن ، ورِفعة وسط مجتمع كان يُكبت المرأة
أن تثور وتهيج مثل هيجان البحر إذا مدّ أحدهم طرف اصبعها على جلِدها
لتردف بضيق :
وأنت وش مضيّق خلقك ياولدي ؟
أبوك الله يرحمه ويغفر له كانت نظرته ثاقبة .. يعرف أصول الرجال ومراجلهم من نظرات عيونهم
أكيد شاف حاتم وقتها الرجال اللي بيناسب أختك
ضرب كفّيه ببعضهما البعض وكلمة " قهر " قليلة في حقّه هذه المرة .. أن يُسلب حق أخته من بين يديها بسبب " كلمة رجال " أمرٌ يجلب القهر والحسرة :
لو إني وقتها ولد الطعش كنت وقفت في وجه حويتم الكلب ..
لو فيه نخوة ورجولة ما تزّوج بنت الـ17 سنة بدون علمها ورضى أبوها
آخ يا يبه ، آخ وميّة آخ على فعلتك في أختي
ووينها أختي الحين ؟ من أمس حابسة نفسها بغرفتها
هي خذت من عُمرها عُمر .. ولما قررت تواجه الواقع لقت نفسها محشورة وسط الذِكريات
عيّب في حقها والله .. عيبّ عليكم تكسروا الزيّن وهي اللي دفعت ماي عينها حتى تزيّن حياتنا
هزّت الجدة عزيزة رأسها بلا فائدة من ثوران الحارث المتزايد بشدة في كلّ مرة ينظر فيها إلى غُرفة أخته القريبة منهم
حتى أقل المشاعر التي كان يجب أن تتلّقاها ، تنصّلت من بين يديها بلا رحمة
أكمل الحارث بقهر وهو ينظر إلى سكوت جدّه : الرأي الأول لها يا جدّي .. إن قالت افسخ عقدي منّه ، فسخته
وإن ما رضى المعقّد ، بنرفع عليه قضيّة خلع
لأن أختي ما تنغصب .. أختي ما يلوي ذراعها كلام رجال وسط المجالس ، طز فيهم كلهم
أردفت الجدة عزيزة بغضب هذه المرّة : إنا لله منّك يالصغيّر
لا ترمي النار بحطّب عشان تشبّها .. يكفي ما طالنا من دُخان
التفت لجدّه وهو يشد شعره من غيضه ، ومن سكوته الواجم :
ليش ساكت ياجدّي ؟ ليش ما خلّيت ولد سيّف يبرر لك ويشرح موقفه .. طلع من المجلس شابَ نار
وقلوبنا كانت مليانة بنزين ! ما احترق غيرنا
رفع الجد عزّام عيناه لحارث الذي تحوّل وجهه للون الأحمر من شدّة إحتراقه لوجع أخته ، والذي لم يشعر به إلا الآن
ليقول بهدوء عميق جدًا :
يالحارث ، أنت لا منّ لامست كفوفك الجمرة
وش أول شيء بتسويه ؟
رفع الحارث حاجبيه بإستغراب من كلام جده ليقول:
ارميها
ليُكمل الجدّ عزام بذات الهدوء :وإن طالها الأثر ..
وش بتسوي بعدها ؟
زفزَ الحارث وهو لا يعلم ما مقصد جدّه ليُجاريه : أحاول أخفي هالأثر
أنزل عيناه وهو يخوض في تفكيره من جديد ، ليردف:
وهذا حال ولد عمّك ، لامس روحه إللي أقسى من الجمر
لامس عقله أيام طويلة مخزّنة في ذاكرته واحترقت
وبان عليه الأثر ، بان على حَمار عيونه ، وشرخ رقبته ، وحديد يدينه
وصامد يحاول يخفيه .. ماهو ضعيف ولا قليّل مرجلة حتى يشبّ النار في غاز قلوبنا .. لكنّه قليل حيلة
وقليل الحيّلة ما يعرف للعذاريب درب .
مسح على حدود وجهه وهو يقول بتعب من حالته :
ما هو الوحيد اللي خالي همّ ، هذه زينة توازيه بالهمّ وإن ما كان الأثر باين عليها
والله يا وُسوم قلبها .. كنّها على قلبي أنا
كنّ ما احترق وترمّد سواي من همّ هالعمَله
أرمقه بنظرات باهتة ليقول بصوت أجش :
ونهاية كلامك يالفَطِيم ( من لم يُفطم بعد )؟
اشتعل الغيض في صدر الحارث الذي يستصغره جدّه بهذا الكلمة ليردف بجدية :
المغزى يا جدي بنت مُرشد تختار طريقها لحالها ، ما يختارون لها .. بنت مُرشد تبني دربها بكفوف يدينها
هي تختار الحجر وهي تختار لون الاسمنت وهي تصبّه على الأرض
مهما كانت الغايّة وراء زواجها من حاتم ، فهي ما راح تكون الوسيلة لأي سوء
وإن مسّها سوء والله لأقوم الدنيّا باللي فيها ، يكفيها ما نالتّه
اقتربت أميمة على آخر كلامه التي كانت تحمل حقيبتها وعباءتها في يدها وهي تتنّهد من كلامه الثائر ، لا تلومه
فهي رأت بالأمس دموع عيناه التي حاول إخفاءها بعيدًا عنهم حين ابتعدت زينة من خلفه وحشرت نفسها في الغُرفة
والذي ظلّوا من بعدها ينتظرون خروجًا بفارغ الصبر حتى أهلكهم النوم وسلكوا مسلكه .. إلا هي
التي شهدت على ما بعد الطُوفان ، شهدت على برودة الألم بعد إشتعاله ودموع القهر بعد المؤاساة
آه ما أشد أن يبُرد القلب بعد الحرائق ، ما أقسى ملمح الوجه حين يُصبح باردًا ، قارصًا حين لا يجد ممشىً للخُروج والتفّسح
اقتربت وهي تزفر بهدوء لتقول الجدة الذي نظرت إليها بلهفة :
زينة ما صحت للحين ؟
انحنت وهي تُقبّل رأس جدها وجدتها وترتدي عباءتها ببط :
أنا بنزل البيت ، أبوي اتصل فيني يبيني
-تنّهدت وهي تُجيب على سؤال جدتها-
وين زينة الله يخلّف على وجع زينة بالفرح
صحيت وما لقيتها جنبي .. الله يستر عليها وين ما راحت
شهق الحارث ، وهو يقف من مكانه بسُرعة ويتّجه نحو باب البيت غير مُبالي بتعثّره الذي تعثّره من السُلم الصغير
ليفتح الباب الحديدي بقوة ، وهو يرى خلّو الموقف من سيّارة جده .. عضّ على شفتيه وهو يضرب فخذه الأيمن بقبضة يده
عدة مرات تلو البعض .. كيف استيقظت ورحلت ولم يشعر بها
وهو الذي استيقظ عند بزوغ أول خيوط الشمس من سهد قلبه
على أمل أن يراها تطلّ عليه مثلما تفعل كل صباح
كيف اختفى نورها ولم يلمح الظلام الذي حلّ بعدها ؟
كيف سهت عينه عن طيفها ، كيف سمح لشُهبها أن يرحل معها ؟
ودّ في هذه اللحظة لو أنه كان جُرمٌ يدور في فلكها ويسبح .. فيُصبح في رحلِها ومتاعها ، لو أنه كان شهابٌ حارق يشعر بها حين تمرّ بجواره
جلس على طرف السلم ، حيث جلست ليلًا وبكت وهو يندب حظه الخائب على مُراعاته
خرجت في هذه اللحظة أميمة ، متمعنة في حالته البائسة .. كأن كبر عشرة أعوام فوق أعوامه السادسة عشر
وكأن الشيّب جرى مجرى الوادي لشعره في هذه الليلة فقط
همست بهدوء وهي تُخفي مكان زينة بعد أن وصلتها رسالتها
" ديني وشرع ربي يمنعني من المقبرة
ودام الحيّ أبقى وأعرف من الميّت ، أنا رايحة للباب المسدود
أفتحه وأسحب منه الأسباب .. وراجعة
لا تقولين لأحد ، خلّش بير "
نظرت له بهدوء :
أكيد رايحة تنفض همّها وراجعة ، أنت تعرف زينة تحب تلقي همّها للطبيعة
رفع عيناه الذابلة لها ليقول بخفوت :
أنا عكّازها .. ليه تخطيّ خطواتها وهي بهالعرَج ؟
ربتت على كتفه بهدوء ، ثم سحبت يداها داخل عباءتها لتُردف:
مصيرها تتعافى من هالعرج ، ولكنّ إن ما دوّرت دواء علّتها كيف بتتعافى ؟
نظر لها والخوف من كلامها استوطن قلبه ، ولا يدري لما :
وتتخلى عنّي ؟
ابتسمت برقّة حين لمحت خوفه الطفولي الذي يتصارع مع علامات نضوجه وبلوغه :
أنت بياض عينها ، ولا منّه البياض تورّد وأحمّر .. صابت العين علّه
لذلك خلّك دوم أبيض روح وأبيض قلب ، وأبيض حُضن
خالي همّ وعاري سُود !
-أمالت رأسها بابتسامة حنونة-
ممكن توصلّني لبيت أبوي يالشيخ ؟
تنّهد وهو يقول وينفض ثوبه من التُراب المبتّل بعضه بالمطر ليُردف بخفوت :
انتظريني ، أشوف سيّارة قايد واقفة من أمس في المواقف اللي جنب دكّان أبو ناصر ، بدّور المفتاح وأجيش
هزّت رأسها وهي تقول له بابتسامة بعد أن رأت ذهابه : زين انتظرك عند السيّارة ، سارع بخطواتك يالشيخ
هزّت رأسها بضحكة وهي تراه يِسارع خطواته فعلًا ويرفع ثوبه لمُنتصف خُصره ويركض بخفة لكيلا يسقط من الماء
نزلت من السلالم لتُكمل خطواتها نحو السيّارة ، لتبتسم بحنّو وهي ترى " أبو ناصر " يفتتح دُكانه الصغير
آسرها المنظر لدرجة أنها ودّت أن لا تحتفظ به عيناها فقط ، بل أخرجت هاتفها وجعلت منه صورة مُصمته قد تعود لها يومًا من الأيام
تنهدت على بساطة الصورة ، وجمالها الآخاذ في آنٍ واحد
ظهر أبو ناصر الذي يرتدي ثوبًا بنيّ اللون ، وفوقه معطف بلون أغمق منه ، يلّف غترته البنية حول رأسه بإحكام
وهو يسحب الباب الحديدي بخفّة حتى لا يسقط من قِدمه
في طرف الصورة تظهر أشعة الشمس الخلاّبة التي أبت إلا أن تُشارك أميمة جمال المنظر ، ومن أعلاها يتضحَ بعض السحاب بعد يومٍ مُمطر
احترقت خجلًا حين لمحها أبو ناصر وهو يقول بإبتسامة دافئة :
صباح الخير يا بنتي ، حياش الله تفضلّي
تراجعت للخلف وهي تخفي هاتفها وتختبي خلف السيّارة لتقول بخفوت :
صباح النور يا عمّي ، الله يسلمك ويجزيك خير
التفت ينظر من حوله إن كان معها أحد ليقول بذات الابتسامة :
تنتظري أهلش ، ولا تنتظريني أفتح دكاني وأبسط بمكاني
ابتسم أميمة على استحياء ، فلا حاجة لها بدُكانه الذي يحوي مُفرحات بأنواعها البسيطة
لكنّها لم تُحبذ كسر خاطره ، وهي التي اعتادت على جبرها لتردف بابتسامة :
النّهار أقبل علينا ببراده ، عندك شيء يدفي صدورنا يا عمّ ؟
ضحك وهو ينحني للكيس الذي بجواره :
الله الله
-رفع الدلة في وجهها-
زوجتي سوت لي دلّة حليب بالزنجبيل .. اقربي ذوقي منها
وأشهد إنش بتدفين طول هالشهور الباردة مو بس اليوم
اقتربت منه ، كان يجلس على كُرسي حديدي مُتهالك
بالقُرب من باب الدُكان .. بحُضنه المصحف والقلم القاري
وعند أقدامه الدّلة ، التي يرتشف منها حتى يقي نفسه برد الشتاء من أن يتسلل لصدره الكهل
جلست على طرف الممر الاسمنتي الصغير ، بالقُرب منه
وابتسامتها تتسع شيئًا فشيئًا حين بدأ بسكب الحليب لها في كوب ورقي
سمّت بالله وهي تتذوقه ، لترفع عيناها وسط تلذذها على سؤاله :
من بنته أنتي ؟
أبعدت الكوب عن فمها وهي تقول ببسمة رقيقة :
بنت سيف العزم يا عمّ
رفع حاجبه بدهشة :
والله والنّعم وسبعة أنعام في عيال العزم من أكبر رأس لأصغر رأس
انحرجت من إطراءه اللطيف لتُهمس :
الله يسلّم رأسك ويبقيك ، ماعليك زود يا أبو ناصر
اتسعت ابتسامته التي فقد بها بعض من أسنانه :
تعرفيني ؟
ضحكت بخفة وهي تحتضن الكوب بحضن يديها :
يعني عشان طلعنا من الجبل ونزلنا لمواطيء الأرض صرنا ما نعرف أهل سيلجا ؟
عزّ المعرفة يا عمّ ، وسمعة دكانّك سابقتك ما شاء الله
ابتسم وهو ينظر بنظرة بانورامية إلى دُكانه المتواضع جدًا جدًا :
الله يجبر بخاطرش .. شوفة عينش شبر بشرّ لكنّ ربي سخّر لي خلقه الحمدلله
-التفت بنظراته لها-
الرزق يا بنتيّ .. الرزق موزعّ ومقسم على عباد الله وكلن باللي يستحقه
مهما اجتهدنا ، مهما ثابرنا وعزمنا ، مهما خِبنا وخابت خطواتنا
-ابتسم أكثر-
مهما وسّعت هالدكان الصغيّر وسويته محل كبير .. رزقي بيجيني مثل ما هو .. بدون زيادة ولا نُقصان
احنا وش علينا نسوي في هالحالة ؟
نظرت له بشغف ورغبة في سماع باقي كلامه
ليُكمل هو بقلب شاكرٍ حامد :
علينا نرضى ونقنع ونشكر ربنا ونحمده بالرزق اللي أعطانا إياه
ولا نمدّ عيننا لرزق غيرنا .. لأن عين تصيب وعين تخيب
وإن صابت ما صابت إلا قلوبنا
فالحمدلله على كل حال ، في سرّاءنا وضراءنا
ابتسمت بخفوت وهي تمسح طرف خدها لتُهمس بإطمئنان :
الحمدلله حق حمده ، يسلم منطوقك ياعمّ
-رفعت عيناها حين لمحت قدوم الحارث بعقدة حاجبيه
لتقف وبيدها الكوب وهي تُأشر له بعيناها-
استأذنك ياعمّ ، وفرصة سعيدة اللي سمعت فيها كلامك
وعلّم أم ناصر نبي الخلطة السريّة لهالحليب اللي طال دفاه روحي
ابتسمت له حين بادلها الابتسامة بضحكة كهِلة سعيدة
كم تُحب كِبار السن وكلامهم الرائع المختزن فيه حكمة جليلة
يروون لك الحكايات من تجربة ممتدة لعشرات السنين
فيها من المواعظ والنصائح والمواقف الشيء الكثير
صعدت السيارة وهي ما زالت ترى تلك العقدة بحاجبي الحارث
لتُردف بهدوء :
علّمت جدي إنك بترجعني البيت ؟
زفرّ وهو يقود السيّارة ويخرج من بيت الجبل رويدًا رويدا :
علّمته ، وهذا هو قايم خوفه قومه على زينة
ويتصل فيه مليون مرة ولا تردّ عليه
التفتت له وهي تبتسم بهدوء ، تعلم أنه يجب على زينة أن تخطي هذه الخطوة
أن تواجه آلامها حتى تُحدد موقفها وتُشخص حالتها :
بترجع ، هوّنوها عليكم شويّة
التفت لها بنص عين وهو يقول : أنتِ تعرفين مكانها صح ؟
تعرفينه ولا ما تكونين كذا باردة وكأن ما هامّش وين رايحة
استرخت في الكُرسي وأنظارها على الطريق المملوء بأشجار النخيل الكثيفة :
أنا واثقة في زينة ، وواثقة في قراراتها .. هي تحتاج مساحة خاصة فيها عشان تواجه وجعها ، ولا كيف بتعرف سببه
رفع حاجبه بدهشة حين استنتج اخر كلامها وهو يشهق :
لا يكون راحت المقبرة ؟ تسويها بنت أبوي ؟
نظرت له بإنزعاج وصداع داهمها :
الحارث اسكت واللي يعافيك .. بديت تخرّف من خوفك
وصلني البيت ثم اطلع بيت الجبل
إياني وإياك تروح يمين يسار وأنت ماعندك رخصة ، سمعتني ؟
تأفف وهو يقود بتركيز : زين حاضر عمتي

-



وقفت أمام الباب وهي تُغلق هاتفها الذي يظهر في شاشته
رقم جدّها القلق ؛ الذي أشبعها إتصالات ، ولم تردّ عليها
تنّهد وهي ترفع أنظارها إلى الباب الأسود المحفوف بالذهبّي
احتضنت عباءتها جيدًا وخبأت يدها المُرتجفة بداخلها
متى آخر مرة وقفت أمام هذا الباب ؟ قبل عزاء والدها
حين جاءت لوالدتها .. التي رحلت بملء رغبتها
تاركة خلفها ابن وابنة .. وقلوبٍ مُحطمة ودموعٍ مسكوبة
انقطعت بعدها الأوصال إلى هذا المنزل
الذي كُسر فيه شعور الحنيّة بقلبها .. والشفقة على نفسها
عادت بعدها للمنزل وهي تتساءل "كيف عادت نفسي لنفسي وأنا بهذه المأساة ؟
كيف لم تذوب بواقي جسدي في الطريق شيئًا فشيئا ؟
كيف هُزمت ؟ كيف جاءت الهزيمة مفاجئة بلا بوادر حرب
حرب احتّلت نصف ما فيّا
كيف جرى الأسى مجرى دمي وعشت بشموخ حتى هذا اليوم؟
كيف وكيف وكيف ؟"
تنّهدت التردد بصدرها ، رفعت طرف سبابتها وهي ترّن الجرس
متسلّحة بقوة مُرشد ، وثقة عزّام .. وعزيمة زينة
خرجت في هذه اللحظة العاملة ، لتنقل نظراتها نحو ثم تبتسم بسخرية وتهمس :
عشتو ، صار عنده خدم وحشم هالطاغيّة
-اجترعت بحتّها وهي تقول بجدية-
وين ماما مريم ؟
أشرت العاملة للدخول ، وهي تأخذها إلى المجلس المشرّعة أبوابه دائمًا للضيوف المفاجئين
دخلت زينة وهي تترك عباءتها وغطاء رأسها عليها دون أن تُنزلهم
لتنقل نظراتها إلى المجلس الذي تغيّر جذريًا عن آخر مرة رأته فيها
كان يضج بالفخامة من كل مكان ، مغطى بالإنارات الصفراء والثُريات الضخمة والكراسي الفيكتورية العريقة
لوحات بمختلف أنواعها ومزهريات من كُل مكان
كان يطغى عليه الطابع الكلاسيكي المُكلف ، عكس ما كان عليه قبلًا
فقد كان باهت اللون ، سادة بلا ملامح زينة ، بلا كراسي ولا طاولات .. فقط سجادة ومخاد محشوَة بالقُطن
ابتسمت بسخرية وهي ما زالت تنقل نظراتها :
والله توقعت بعد جوره ينتقل لقصر ، بس حركة تُحسب له
لما فكّر يجدد بيته بدون ما يغيّر مكانه
شعرت بقرقعة قريبة من الباب ، وصوتٌ بعيد
لتتسارع نبضات قلبها أكثر من ذي قبل .. ها هي ستُقابل والدتها بعد زمنٍ من القطاعة
زمنٍ كانت فيه رسائل زينة لها حاضرة .. دون رد
لشيء واحد ، وهو خوفها من عذابّ ربها
وقفت بمجرد أن فُتح الباب ، لتدخل والدتها من خلفه عاقدة الحاجبين
ويالوجع القلب حين رأت زينة والدتها وجهًا لوجه بعد مُدة طويلة
تجمدت أقدامها في مكانها ، شكّت لوهلة أنها هي
من هذه المرأة التي تُصغر نفسها بـ10 أعوام عما هي عليه ؟
من هذه ذو القوام الممشوق ، والوجه المشدود ، والشعر المجدول ؟
أين علامات الحُزن على مُحياها ، أين دموع الندم على عيناها ؟
أين التجاعيد التي صعدت لوجه زينة عوضًا عن وجهها ؟
أين ذاك البطن الذي خرج منه ثلاثة ، وعاد كما لو أنه لم يخرج منه أحد أبدا
ابتلعت ريقها ، وقواها تخور شيئًا فشيئا .. لولا تماسكها المزعوم
تحولت نظرات مريم المتمللة ، إلى نظراتٍ مدهوشة
هذه هي المرة الأولى التي ترى فيها ابنتها البِكر وأولاهم بعد أن بلغت من الجمال ما بلغت
ونزعت ثوب المُراهقة والتمرّد
رغم صدمتها ، ودهشتها .. وإستغرابها الذي نبت بقلبها
إلا أنها غلفت نظراتها المندهشة بنظرات باردة وهي تجلس على الكُرسي المنفرد ساقًا فوق الآخرى
وتُريح يداها على ذراعي الكُرسي ، لتهتف ببرود :
وأنا أقول من الضيف اللي جاي لنا بهالوقت .. أثاريها بنت مُرشد

ابتلعت زينة تلك التنهيدة التي كادت أن تِبين ضعفها لمجرد رؤيتها ، ورغم المآسي التي تعوث بصدرها ابتسمت :
وبنت مريم بعد ! السلام عليكم يا يمّه
نظرت لها بلامُبالاة :
وعليكم السلام والرحمة ، وش جابش ؟
جلست زينة مُقابلًا لها وهي تحتضن يداها لكيلا تتبين رجفتها الواضحة :
كثير أشياء ، أولها شوفتش .. لكنّ ما شاء الله
أشوف إنش بأحسن حال ولا كأنش خلّفتي ثلاث
رفعت خصلات مقدمتها لتُردف بذات البرود :
قل أعوذ برب الفلق .. لا يكون كسرت آمالش بشوفتي؟
وش كنتي متوقعة تشوفيني ؟ أبكي وأنوح وأندب حظي ؟
اراحت ظهرها على ظهر الكُرسي ، ابتسمت ابتسامة صغيرة :
ما بكيتي بعزاء أبوي حُزن ، بتبكين على شوفتي فرح ؟
لا والله ما رفعت سقف آمالي ، والحمدلله إنش بخير يا يمّه
كتفت يداها بترّقب :
ايوه .. وش اللي جابش بعد هالسنين ؟
-أكملت بسخرية-
وبعد ما ضربتي خالش العود بوسط ملكه وبيته ؟
زفرّت زينة بيأس ، أمل صغير كان ينصب خيامه وسط قلبها من رؤية والدتها بصورة متغيّرة عن ذي قبل
لكن يبدو أن والدتها لن تتغيّر ما حييت :
تطمنّي ، ما جيت بعد هالسنين طامعة في عطايا خالي
ولاني متوقعة أشوف كثرة الغنايم
جيت اليوم لشيء واحد .. شيء واحد يا يمّه إما يبني صروح ولا يهدمها
أردفت بتملل :
وأنا صار لي ربع ساعة انتظر هالشيء ، تكلّمي يا بنت
ما أحب اللف والدوران
وقفت واتَجهت نحوها .. لكنّ بغير إرادة منها توقفت بنصف الطريق
ليس لها القُدرة على الإقتراب من مصدر البراكين ، لخوفها من الثوران
هتفت بحزم ، وهي تشّد على قبضة يدها :
كنتي تعرفين عن زواجي اللي خطى فيه أبوه بخطواته ؟


انتهى ❤

duaa.jabar, NON1995 and تايست like this.

الكاديّ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 13-05-22, 11:00 PM   #35

Salma_3_

? العضوٌ??? » 421124
?  التسِجيلٌ » Mar 2018
? مشَارَ?اتْي » 197
?  نُقآطِيْ » Salma_3_ is on a distinguished road
افتراضي

باااارت جميل 😩❤❤❤

Salma_3_ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 14-05-22, 11:48 AM   #36

الكاديّ
 
الصورة الرمزية الكاديّ

? العضوٌ??? » 490082
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 300
?  نُقآطِيْ » الكاديّ is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة salma_3_ مشاهدة المشاركة
باااارت جميل 😩❤❤❤

الله يسعد قلبك يا جميلة ):❤❤

NON1995 and تايست like this.

الكاديّ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 16-05-22, 05:44 AM   #37

Salma_3_

? العضوٌ??? » 421124
?  التسِجيلٌ » Mar 2018
? مشَارَ?اتْي » 197
?  نُقآطِيْ » Salma_3_ is on a distinguished road
افتراضي

متى مواعيد نزول الفصول ؟؟

Salma_3_ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 16-05-22, 10:53 PM   #38

غدا يوم اخر

? العضوٌ??? » 5865
?  التسِجيلٌ » Apr 2008
? مشَارَ?اتْي » 1,155
?  نُقآطِيْ » غدا يوم اخر is on a distinguished road
افتراضي

روايه رائعة اتمنى لها الاكتمال قريت في بدايتها ثم نسيتاسمها ولقيتها مجدادا كم بارت
القصه فيها كميه اشرار خلف الستار يعقدون بين القبيلتين /الاسرتين بالمشاكل
هل الجد اراد تزويج قايد لبنت الصقر غالبا مثل هالحلول لعلاج الثارات خلط الدم ببعضها الباض هل صقر هو الذي اتهم به مرشد واهل الصقر علي معرفه ان سليم هو منقتله واضح انهكان يدافع عن مرشد
تحمست حسيته فلم درامي


غدا يوم اخر غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 17-05-22, 08:57 PM   #39

الكاديّ
 
الصورة الرمزية الكاديّ

? العضوٌ??? » 490082
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 300
?  نُقآطِيْ » الكاديّ is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة salma_3_ مشاهدة المشاركة
متى مواعيد نزول الفصول ؟؟
كل ثلاثاء وخميس ان شاء الله ♥

NON1995 and تايست like this.

الكاديّ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 17-05-22, 08:59 PM   #40

الكاديّ
 
الصورة الرمزية الكاديّ

? العضوٌ??? » 490082
?  التسِجيلٌ » Jul 2021
? مشَارَ?اتْي » 300
?  نُقآطِيْ » الكاديّ is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة غدا يوم اخر مشاهدة المشاركة
روايه رائعة اتمنى لها الاكتمال قريت في بدايتها ثم نسيتاسمها ولقيتها مجدادا كم بارت
القصه فيها كميه اشرار خلف الستار يعقدون بين القبيلتين /الاسرتين بالمشاكل
هل الجد اراد تزويج قايد لبنت الصقر غالبا مثل هالحلول لعلاج الثارات خلط الدم ببعضها الباض هل صقر هو الذي اتهم به مرشد واهل الصقر علي معرفه ان سليم هو منقتله واضح انهكان يدافع عن مرشد
تحمست حسيته فلم درامي

سعيدة لمرورك 🥰♥!
نعم غالبًا حلول الثأر عند القبائل تنتهي بزواج أطرافها.. لكن القصة هنا أبعد عن ما تكون مجرد حل قضية عن طريقة قضية ثانية

أيضًا مرشد ماله علاقة بصقر وأهله .. اللي له علاقه فيهم شخص ثاني ذو قرابة مع مرشد !

NON1995 and تايست like this.

الكاديّ غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:32 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.