آخر 10 مشاركات
1109 - شئ من الحقيقة - شارلوت لامب - د.ن (الكاتـب : * فوفو * - )           »          135 - الخطوة الأخيرة - مارغريت بارغيتر ( إعادة تنزيل ) (الكاتـب : * فوفو * - )           »          لعنتي جنون عشقك *مميزة و مكتملة* (الكاتـب : tamima nabil - )           »          بقايـ همس ـا -ج1 من سلسلة أسياد الغرام- للكاتبة المبدعة: عبير قائد (بيرو) *مكتملة* (الكاتـب : noor1984 - )           »          رهينة حمّيته (الكاتـب : فاطمة بنت الوليد - )           »          ياسميـن الشتـاء-قلوب شرقية(26)-[حصرياً]-للكاتبة الرائعة::جود علي(مميزة)*كاملة* (الكاتـب : *جود علي* - )           »          الغريبه ... "مكتملة" (الكاتـب : tweety-14 - )           »          جئت إلى قلبك لاجئة *مميزة ومكتملة* (الكاتـب : آمال يسري - )           »          جنون المطر (الجزء الثاني)،للكاتبة الرااااائعة/ برد المشاعر،ليبية فصحى"مميزة " (الكاتـب : فيتامين سي - )           »          روايتي الأولى : لعبة في يدين القدر " مكتملة " (الكاتـب : Reno .. - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

Like Tree35Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 30-07-21, 01:18 AM   #11

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي


اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة emmi hssain مشاهدة المشاركة
مبارك المقدمة كاتبة ذو قلم جميل هتابعك أن شاءالله ونعيش الروايه سوا
ف انتظار الفصل الاول
❤️❤️👍
وأنا متشوقة أعرف رأيك بالفصول


بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 30-07-21, 01:37 AM   #12

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي أنثى بحروف شرقية / الفصل الأول


لستُ ناراً...
فالنار تُطفِئُها القطرات...
ولست من نور...
فالنور يختفي وتليه الظلمات...
لست من ورد...
فالورد خلق ليموت،
وتدعسه الأقدام في الطرقات...
لست الحمام...
فالحمام سجين على الشرفات...
أنا!...
لا تسألني من أنا...
أنا
بقايا روح...
حفنة أحاسيس...
وجحيم ذكريات...



الفصل الأول

شدت أطراف ثوبها الفضفاض من حولها وتمسكت بالشال المنسدل على رأسها يستر شعرها الأسود القصير، وراحت تسرع الخطى تستقبل الرياح الهوجاء بعيون مغمضة ترمشها فقط لرؤية الطريق أمامها، فتشعر بخشونة حبيبات الرمال التي استطاعت أن تلامس سواد أحداقها العائم في بياضها الناصع.
كانت تتذمر في داخلها من فكرتها اللامعة في الخروج نهار اليوم وهي التي تعرف أن الجو متقلب، فقد تابعت أخبار الطقس ليلة البارحة وتعلم أن الرياح ستكون عاتية نهار اليوم.
بالكاد استطاعت تجاوز المرتفع سيرا على الأقدام، تصعد الدرجات المتوالية بخطى سريعة لتصل إلى الحي الذي تسكن فيه، والذي يقع أعلى منحدر صعب يشتكي أغلب ساكنيه من وعورة المسالك المؤدية إليه.
عندما دخلت العمارة التي تسكن بها تفقدت صندوق البريد، وكانت تتوقع أن تجد وصل الكهرباء والغاز وكذلك الايجار.
سحبت الوصلين بأصابعها فأوقعت ظرفا ثالثا كان تحتهما. تأملته وقد ارتفع حاجباها بدهشة: ماذا الآن؟ لقد دفعت فاتورة الهاتف والانترنت قبل أيام!
كانت ستميل بجذعها لتحمله لكنها سمعت صوت أقدام تنزل الدرج القريب فرفعت رأسها بحذر لتشاهد جارها الجديد بالبناية "محمود" وهو يملأ الفراغ أمامها بطوله الفارع. منحها ابتسامة عفوية وهو يلقي التحية: مساء الخير...
ردت عليه من بين شفاهها بصوت خفيض: مساء الخير.
انحنى إلى الأرض ورفع المغلف أمامها: هذا لك؟
التقطته على عجل وهي ترد: نعم... شكرا لك...
وأشاحت بنظرها عنه فلم تشاهد إلا جسده وهو يتنحى من أمامها وجاءها صوته وهو يقول: "طاب يومك..." قبل أن يترك العمارة مكملا وجهته إلى الخارج.
زفرت بتعب وقلة حيلة... مازالت تشعر أنها غير قادرة على التعاطي في الكلام مع الرجال بصورة طبيعية ودون أن تشعر بأنها تقترف ذنبا وترتكب خطيئة...
تراءت أمامها صورتها قبل عشرين سنة عندما كانت مراهقة في الخامسة عشرة من عمرها هي وأختها التي تصغرها ببضعة أعوام تقومان بأعمال البيت وأمهما تحذرهما من النظر عبر فتحة الباب أو النافذة، مخافة أن يطلع عليهما أحد من الجيران... تحذرهما من أن يظهر من شعرهما أو جسدهما شيء أمام الغرباء... تحذرهما من التعاطي مع الرجال بأي كلمة... ومن أين للمسكينتان في مقبرتهما تلك أن تريا رجلا غير نفر من خمس اخوة ذكور تسرعن في تلبية طلباتهم على عجل ودون نقاش حتى تتجنبن الركل والشتم...
تراقبان بعيونهما البريئة أمهما وهي تحرص على أن تلقنهما أن الرجل أرفع شأنا من المرأة وأنه عليه أن يعامل معاملة الملوك... ليس بصريح العبارة ولكن كانت مثالا حيا وهي تتقرب لوالدهما بإعلان إذعانها وولائها حتى على حساب راحتها وكرامتها، وتصبر على اضطهاده وتعنيفه لها، يهينها بلا سبب ويتفنن في تسديد ضرباته لها ليرضي غطرسته... وهي تسامحه دون أن يطلب الغفران... بل لم تكن تبدي أيما اعتراض على ما يفعله. ربما لأن أمها علمتها السمع والطاعة، وكانت تلك خصلة متوارثة في قطيع "النعاج" انتهاءًا إليها...
غزتها تلك الصور الدامية فجأة وتوالت أمامها تباعا... عنف لفظي وعنف جسدي وتأديب جماعي... لقد نالت نصيبها من عصا والدها وإخوتها بشكل قاسٍ لم ولن تنساه يوما في حياتها... آلامها وجراحها ستنزف يوما بعد يوم وقطرة بعد قطرة حتى ترقد في قبرها...
أقفلت باب شقتها بشدة خلفها وهي تصر على أسنانها وتشد على قبضة يدها بقوة حتى كادت تتلف الأظرفة الثلاثة، تحمد الله في قرارة نفسها أنها لم تتزوج حتى اليوم، فلو كان لها زوج لكانت قد أسقطت كل أسنانه بعصا من أول شجار أو محاولة فرضه لسيطرته عليها... ليس انتقاما منه ولكن انتقاما لسنواتها القاحلة في أسرتها الظالمة...
اليوم لم تعد تلك الفتاة الضعيفة التي تركن للخنوع، اليوم هي امرأة قوية بدرع من حديد، لبؤة شرسة تُهاجِم قبل أن تُهاجَم... اليوم هي مستعدة لسحق الجميع ولن تتردد في تعليم كل متملق مكانه... ليست تحب التصنع ولا تستهويها المناظر الزائفة.
إنها "نسرين سعيد" تلك البنت التي لم يكن لها من اسمها نصيب... تلك البنت التي عانت في سبيل أن تعيشى أنثى... ورغم كل ما تحملته لم تستطع أن تكون أكثر من أنثى مضطهدة بين أب وخمسة من الإخوة الذكور ينظرون إلى المرأة على أنها مخلوق أدنى منهم جميعا مرتبة... وربما كانت أمها تتحمل شيئا من المسؤولية لأنها رضت بأن تعيش على الهامش وأن تقنع ابنتيها أنهما خلقتا لتكونا مثلها...
يعتصر الألم قلبها ويغرز براثينه في سائر جسدها كلما تذكرت ما مرت به في أعوامها الماضية، ولا تصدق أنها كانت ضعيفة لتلك الدرجة... لدرجة أن تتركهم يمسحوا كينونتها ويسلبوا منها شبابها وكل دقيقة ثمينة من عمرها الذي ضاع بين المطرقة والسندان.
فتحت شبابيك الغرفة وسمحت للهواء أن يرفع ستائرها عاليا... خرجت إلى الشرفة التي كانت بالطابق الرابع ووقفت تراقب الأطفال يلعبون بالحديقة القريبة وتستمع لأصواتهم العالية. كانت تفعل هذا كل يوم... في كل مساء تستر شعرها وتخرج إلى الشرفة، انتقاما من كل أسرتها... تقف هناك وتراقب الشمس التي حرمت منها سنين طوال وهي تغيب في الأفق...
وضعت ساعديها على الحاجز وأغمضت عيونها تستنشق الهواء الذي كانت تحمله تلك الرياح العاتية العنيفة كما هي مشاعرها الآن...
وراحت تتذكر رغما عنها شيئا من تلك الأيام المريرة...
كانت تعيش في أسرة متواضعة أب يعمل براتب بسيط لإعالة أسرة كبيرة. إخوتها الثلاثة الأكبر سنا كانوا الأسوأ على الإطلاق في المعاملة، الأكبر أسامة ثم رابح وخالد. أما الأصغر سنا نبيل ووليد فلم يكونا أفضل من سابقيهم، فبمجرد اشتداد عودهما حتى سلكا النهج ذاته متناسيان حنان أختيهما ورعايتهما لهما...
أم ليس لها أي سلطة وأب يمارس اضطهاده المفرط على الجميع.
شعرت برغبة في الضحك وهي تتذكر أختها "أمل" عندما كانت جالسة في فناء البيت تراقب السماء في شروذ وتتيه في النجوم متبسمة بحالمية... يومها وقف عند رأسها الوالد العتيد بوجه عابس لا يبشر بالخير مطلقا، ونهرها بصوته الغليظ: فيما تحدقين!
ارتعشت أوصال الفتاة الصغيرة ولم تدر أي ذنب قد ارتكبته فمن الواضح أنها لا تغازل رجلا ما يختبئ خلف النجوم... إلا إن كانت تواعد ماردا من الجن!
نهرها بشدة وقد انتفض جسده مهددا بضربها: أدخلي المنزل أيتها البلهاء، سأكسر رجليك ان عدت إلى هنا...
قفزت أمل مذعورة حتى كادت تسقط أرضا وهربت كالأرنب نحو تلك الغرفة الصغيرة أين جلست ترتجف خوفا وهي لا تفهم سبب تصرف والدها ذاك... حتى نسرين نفسها لم تكن تفهم السبب وراء ما قام به والدها. لكنها اليوم تدرك تماما أنه كان في دستوره يجرم الأحلام... لا يحق لهما بأن تحلما بأي رجل ينتشلهما من غياهب الجب الذي تسكنانه... ليست تدري بما كانت تفكر أختها وهي تراقب السماء كالمعتوهة، ولكنها تجزم لو أن والدهما استطاع أن يطلع على سرها وعرف برجل ما لكان قد وأدها حية تحت الثرى!
فيما كانت هي تتذكر الماضي وتبتسم بازدرراء كان هو يراقبها بفضول. محمود الجار الجديد... منذ أن استأجر الشقة المجاورة لشقتها وهو يشاهدها كل يوم تغادر صباحا وترجع مساءا... لا يعرف ماهي وظيفتها ولكن من الواضح أنها تشغل منصبا يدر عليها المال لتستطيع دفع إيجار الشقة وفواتيرها المختلفة...
قبل أيام دخل العمارة خلفها وسار غير بعيد عنها كانت مجرد صدفة، وبما أن المصعد معطل أغلب الوقت فقد اضطرا لاستخدام السلالم، يومها تسارعت خطواتها لتسبقه وكأن سيره خلفها مباشرة أمر في غاية الازعاج لها أو ربما كانت تخاف منه، لكن مما تخاف؟.. أيعقل أنها لا تثق به رغم أنه يحاول أن يبدو لبقا كلما التقى بها!.. المشكلة أنها تتصرف معه بريبة، لا تنظر إليه، لا تحدثه، وبالكاد ترد عليه التحية...
ليس هذا تصرف امرأة مثقفة من أهل المدينة... قد يفهم تحفظها والتزامها لكنه لا يفهم سبب ارتباكها و اضطرابها كلما مر بقربها! إنها تتعامل معه بحذر وكأنها تتهمه بمحاولة التحرش كلما لاحت منه نظرة عفوية إليها...
في ذلك اليوم سبقته بأدوار وسمعها تتحدث إلى جارتيها بالطابق الثالث، وبعد تحية وأخذ ورد تابعت طريقها إلى شقتها دون مماطلة، يومها عرف أنها ليست اجتماعية، أغلب الظن أنها منعزلة تحب الوحدة... لكن الأهم من ذلك هو ما كانت تقوله عنها الاثنتان، فبمجرد ابتعادها عنهما حتى قالت الاولى: ماهي طبيعة عملها؟ من أين لها أن تدفع كل مستحقات شقتها وهي مقطوعة من شجرة، لا أهل ولا ولد... منذ أن وطئت قدمها هذه العمارة قبل سنوات لم يزرها أحد...
ردت الثانية: ربما لديها رصيد محترم بالبنك...
أجابتها الأولى: أتعرفين ما سمعته عنها... لقد رأوها بمنزل "ياقوتة" قبل بضعة أيام...
فغرت الأخرى فاها بريبة وهي ترد: لا!.... ياقوتة! أعوذ بالله.
وما إن انتبهتا لوجوده حتى صمتتا فألقى التحية بأدب وتابع طريقه والفضول يفترسه، من هي ياقوتة؟ ومالذي كانت تفعله نسرين عندها؟..
لم يستطع مقاومة فضوله... وبعد بضعة تحريات عرف أن ياقوتة هذه تدير بيوتا للدعارة بالمنطقة وقد تم القبض عليها أكثر من مرة إلا أنها كانت في كل مرة يُطلق صراحها بكفالة أو نقصان للأدلة...
لا يبدو له أن هذه الفتاة التي تهرب من رجولته بهذه الطريقة المبالغ فيها قد تكون لها صلة بعمل كهذا من قريب أو من بعيد، لكن يظل تواجدها في مكان مماثل أمر يثير الريبة، فما هو سبب تواجدها هناك!
تذكر فجأة كلمات جدته وهي تقول "لا تأمن النساء يا بني فإن كيدهن عظيم وقد شهد خالقهن عليهن بذلك..."
ليس عليه أن يحكم عليها بالنقاء لمجرد أنها أظهرت العفة المفرطة فكم من امرأة ارتدت ثوب الطهارة لتستر قبح أخلاقها!
وكأن فصيحة اللسان تلك من صنف الملائكة!!!

وهو يتأملها من مكانه ذاك كان الفضول يقتله لمعرفة من تكون؟ من هم أهلها؟ ولماذا هي وحيدة دون سند؟..
لم يستطع أن يحيد بنظراته عنها. ولولا ارتطام الكرة بصدره من الملعب المجاور ما رجع من تيهانه.
نظر بعبوس للملعب فبادره الصبية بالاعتذار، عندها ألقى إليهم بالكرة وهو يقول: من ضربني بالكرة سيترك لي مكانه...
نظر إليه الأطفال باستفهام فرفع أحد حواجبه وضيق عينيه: من هو معوج الركبة الذي لا يصلح لقذف كرة كتلك؟
ضحكوا جميعا وهم يشيرون لصاحبهم الذي كان يذوب من فرط الخجل، ثم دخل محمود الملعب وراح يراوغهم للحصول على الكرة وهم يتدافعون ويتصايحون كعادتهم في ابتهاج.

عندما ارتطمت الكرة بصدره انتبهت نسرين لوجوده وأزعجها أنها لم تتنبه له قبل الآن، هربت للداخل وكانت ستوصد باب الشرفة خلفها عندما استطاعت أن تبصره وهو يلاعب الأطفال في الملعب القريب. كان عليها أن تتأكد فاقتربت من الحاجز من جديد... إنه فتى تافه يضيع وقته مع أولاد صغار ... ربما هو غبي بما يكفي ليترك عباءة رجولته ويخلع هيبته ليتنطط في ساحة الملعب كالقرد الأهبل...
شعرت بتفاهته وهو يتعرق من أجل كرة يترامى عليها مجموعة من الأولاد الذين لا يحسنون ركلها حتى... مالذي يفعله الغبي! لا بد وأنه مغبون مثلها يتذكر طفولة تعيسة لم يعشها كما يجب...
الرجولة التي تعلمتها هي أن يكون المرأ صارما وقورا مُهابا بنظرات ثاقبة وكلمة كحد السيف تترك أثرها أينما حلت... بحق الله أليست هذه صفات هؤلاء الذين دمروا حياتها!!!
تراقصت أمامها نقاط استفهام كثيرة... أيمكن للرجولة أن تكون غير ذلك؟
بعد أن سهمت في الأفق للحظات عادت وألقت بنظراتها المترددة إلى مجموعة الأطفال تلك وهم يراوغون محمود في سعادة، كانت البسمة تشق شفاههم وتشع من عيونهم...
استعرضتهم أمامها بالعرض البطيء، تراقب أيديهم الصغيرة تتمسك ببنطاله... وكأنها استطاعت أن تعيش معهم تلك اللحظات فتغلغلت السعادة لقلبها وابتسمت رغما عنها تشاركهم فرحتهم... حتى أنها تمنت أن تركل الكرة معهم أكثر من مرة...

********
في الشقة السفلى بالطابق الثالث كان يعيش الزوجان المسنان سليم وهناء رفقة ابنهما الوحيد فادي وزوجته سهام وابنهما الصغير أنس، اليوم عيد ميلاده فقد أتم السنتين من عمره وقد قضت أمه النهار في إعداد قالب حلوى لذيذ للمناسبة فهي بارعة في خبز الكعك والحلويات.
جهزت طاولة العشاء وتركت الكعكة بالثلاجة حتى السهرة، وما لبث أن جاء البقية في الموعد حتى يجلسوا إلى طاولة الطعام، بدى سليم سعيدا وفخورا بحفيده الذي يكبر يوما بعد يوم، بينما أبكرت هناء صبيحة اليوم لشراء أجمل هدية لمدلل العائلة، فيما نسي فادي المناسبة تماما لكنه لم يتجرأ على الافصاح عن ذلك... ابتسم وهو ينظر إلى صغيره: لم يسعفني الحظ لشراء هدية لك اليوم، لكنني أعدك بأجمل هدية صباح الغد يا حبيبي...
تجهم وجه سهام، اليوم هو الخميس وغدا الجمعة يوم إجازة... وبات من المعلوم أنه سيسهر خارجا ولن يعود قبل الفجر ليقضي يومه يغط في النوم محرما عليهما دخول الغرفة أثناء ذلك، حتى لا يفسدا غفوته التي تستمر للمساء.
زفرت بضيق دون أن تبدي الأمر، وتابعت تناول طعامها في صمت حتى حدثتها هناء: هل دعوت الجيران؟
هزت رأسها نفيا: كلا... ستكون أمسية عائلية.
ورمقت زوجها بنظرة من زاوية عينها فتجاهل تلميحها له بالبقاء وتظاهر بأنه لم يسمعها.
كانت هناء على علم بكثرة المشاكل بينهما فغالبا ما تجلس بغرفتها تتنصت على شجاراتهما الدائمة، فهما تقريبا يتجادلان مرة كل يوم... أو لنقل كلما سنحت لهما الفرصة للالتقاء لا أحد منهما يفوت التلميح للآخر عن نواقصه، خصوصا سهام التي بات الوضع عندها لا يطاق.
هناء لم تتجرأ يوما على التدخل في مشاكلهما الخاصة أو محاولة فهم غور الصراع بينهما، كانت تجلس متفرجة أغلب الوقت دون أن تقول كلمة.
بالمقابل سليم يعمل في حانوته طوال اليوم ولا يشهد منازعاتهما المتكررة إلا نادرا خصوصا أن هناء تبقي فمها مقفلا فلا تحدثه بشؤون الغير. لذلك كان لا يرى في خلافاتهما إلا وضعا طبيعيا يمر به كافة الأزواج من حين لآخر.
انتهى الجميع من تناول طعام العشاء فأسرع فادي لغرفته حتى يجهز للسهرة فيما غادر سليم إلى غرفة الاستقبال لمتابعة التلفاز قبل أن يخلد للنوم ومعه بقي أنس الصغير وهو يتنطط على ظهره من حين لآخر.
حملت سهام الأطباق إلى المغسل فأخذتها منها حماتها: عنك... لقد تعبت اليوم بما يكفي... إذهبي وتفقدي شؤون زوجك، سأغسل الأطباق...
ترددت سهام ثم تركت مئزر المطبخ لحماتها حتى تكمل عنها ما بقي من تنظيف. لطالما شعرت أنها محظوظة بحماة كتلك، عصرية ومتفهمة، بعيدة كل البعد عن ذلك النوع من الأمهات اللواتي تبقين أولادهن تحت جناحهن مهما كبروا وكأنهم حكر عليهن فقط.
كانت تقترب من باب الغرفة وهي تجهز حوارا لا يقودهما كالعادة إلى شجار لا ينتهي... لكن أغلب الظن أن الأمور ستؤول إلى الحال عينه كما هي العادة، لا ضير من المحاولة قد يقتنع فادي بالنهاية أنه يوم مهم بالنسبة لابنه وأن عليه البقاء من أجله.
دخلت عليه الغرفة وكان قد انتهى من حلاقة لحيته الخفيفة توا... إنه يبالغ في الاعتناء بمظهره كلما أراد السهر، لم يكن يساورها أدنى شك في أنه يعرف غيرها من النساء، لكنها حطت الملح على الجرح وصبرت تنتظر فرجا يمسح عنها الهموم، كما قالت والدتها من قبل: "كل الرجال عرفوا نزوات في حياتهم... لكن تذهب نزواتهم أدراج الرياح ويبقى الأصل يا بنتي... والأصل هو أنت..."
نظرت إليه وابتسمت: تبدو وسيما...
لم يبد عليه يوما أنه كان يرحب بإطراءاتها، لكنه كان مهذبا كفاية ليشكرها: شكرا... تحتاجين شيئا قبل أن أخرج؟
كلماته وضعتها أمام الأمر الواقع، إذن يبدو أنه مصمم على الخروج ولا شيء سيثنيه عن قراره...أبقت فمها مقفلا للحظات تفكر في خطوتها التالية فيما كان هو يضع قليلا من مثبت الشعر على كفه حتى يصفف شعره..
كان رجلا حنطي البشرة بني العينين معتدل القامة.. يحب أن يكون مظهره عصريا بشكل لافت... لا ضير إن اعتبرها فتاة متخلفة مثلما هدر فيها تلك المرة بأعلى صوته، فهي حتى لا تتابع أخبار الموضة أو تشتري أدوات تجميل غالية تجعل منها أكثر جمالا...
تأملت وجهها في مرآة الخزانة بجوارها، ليست سيئة لذلك الحد الذي يجعله ينفر منها بهذا الشكل!.. صحيح أن زواجهما كان تقليديا. لكنه اشترط رؤيتها قبل الزواج وأبدى إعجابه بها فور وقوع نظره عليها فمالذي تغير الآن؟
لا بد وأنه تعرف على غيرها... امرأة ممشوقة القوام متناسقة الجسد، ليس في بطنها آثار لعملية قيصرية مثلها، ولا يفسد قوامها تجمع الشحوم في منطقة البطن والخصر، ولا تملأ الخطوط أفخاذها بعد كل محاولة فقدان وزن فاضحتا اكتناز جسدها السريع في كل مرة لا تراقب فيها طعامها...
هناك من تحاول أن تخرب بيتها وهذا أمر قطعي لا جدال فيه، فلن يغير رجل من معاملته لزوجته بهذا الشكل إلا إذا دخلت بينهما امرأة...
التفتت إليه كرة أخرى ثم اقتربت منه باسمة ووضعت كفها على صدره تدفعه إلى الخلف برقة حتى تحشر نفسها بينه وبين طاولة الزينة.
تأملها للحظات بغرابة: مالذي تحاولين فعله؟
وكأنه هوى على رأسها بمطرقة! هل الوضع مبهم لدرجة أن يسأل... من البديهي أنها تحاول استمالته لشيء من الحميمية التي باتت لا تعرف طريقها إلى مخدعهما.
تجاهلت نظرته التي كانت تستفزها عميقا وحاولت أن تداعب وجهه بأناملها لكنه لم يبدي أي تجاوب معها: سهام... ليس وقته... أنا على عجل.
ضمت أناملها لراحة يدها وفي أعماقها أرادت حقا لكمه وإفساد وجهه الذي أمضى زمنا طويلا وهو يباهي به المرآة... لكنها ابتعدت عنه وفي داخلها شيء من القرف من معاملته الباردة لها... أصبح الوضع فعلا لا يطاق، علاقتهما أضحت متباعدة، دائما حجج واهية وأمور أهم تفصل بينهما... تعب العمل، الخصومة المتكررة وحتى بكاء الطفل...
هي تعلم في قرارتها أنه يستقبل حاجياته العاطفية في مكان آخر... ليست بذلك الغباء لتصدق أنه رجل بارد الشعور لتلك الدرجة... لكن مالذي وجده في غيرها ولم يجده فيها هي التي قضت حياتها في التودد إليه بمختلف الطرق دون جدوى... كان هذا السؤال مهينا لأنوثتها، لكنها أبدا لم تجد له جوابا...
تجاوزها هو بخفة ثم طبع قبلة سريعة على خدها وتركها متمنيا لها ليلة سعيدة... فبقيت تنظر إليه وهو يبتعد باتجاه الباب الخارجي للشقة وعقلها يلف ويدور دون أن يثبت على قرار... هل ستكمل ما بقي من عمرها على هذه الحال؟...

********

خرجت نسرين من الحمام وهي تجفف شعرها، ثم توجهت للخزانة وانتقت لنفسها بيجامة زهرية اللون ارتدتها وجلست على السرير تستخدم المجفف. عندما أغلقت الصنبور قبل خروجها من الحمام سمعت صوت تدفق المياه في شقة جارها الجديد خلف السور الفاصل بينهما وعلمت أنه يأخذ حماما ساخنا بعد تعرقه الشديد من جريه المتواصل خلف الكرة...
ابتسمت متذكرة منظره المزري بعد أن التصق به الغبار واتسخ بانطاله من كثرة الأرجل الصغيرة التي تركت أثرها عليه. بدى في غاية الرضى وهو يودعهم ويعدهم بمقابلة أخرى وهم يلحون عليه ألا ينسى...
أليس لديه أولويات! أمور أهم ليقوم بها! ألا يشعر بأنه قد انتقص من قيمته بتصرفه الصبياني ذاك!
كانت مشوشة ولم تفهم طبيعة هذا الكائن الذي كانت ولا زالت ترتاب من نظراته، عيونه العسلية الواسعة التي تثير لديها شعورا بالريبة كلما حدقت بها... تزورها أطياف أبيها وإخوتها بسيوف حادة كلما حاولت أن تتأملها وتميز لونها وشكلها فتصبح كالبلهاء تقدم رِجلا وتؤخر أخرى...
سحبت الهواء لرئتيها بانكسار وقامت بوجع، هي تدرك جيدا أنها لم ولن تتخلص من قيود أسرتها... ستظل حبيستهم ورهينة معتقداتهم إلى الأبد حتى وإن كانت قد نفذت بجلدها وتحررت من سيطرتهم...
دخلت المطبخ ورفعت الغطاء عن القدر لتسكب لنفسها طعام العشاء، تبدو الشوربة شهية، لكنها أبدا ليست بمذاق تلك التي كانت تعدها أمها... خصوصا أيام رمضان المبارك...
جلست على الكرسي تتذكر كيف كانت أمها تحرص على اعداد طاولة الزعيم ونوابه... تقصد أبيها واخوتها... على تلك الطاولة تكون أصناف الطعام مخالفة لما تتناوله هي وأختها وأمهما في المطبخ... فلا يستفيدان من وجبة أرقى من الشوربة مع أن الجميع صيام من شروق الشمس إلى مغيبها...
أخذت تهز رجلها في حركة سريعة من الغضب... لا تحب أبدا تذكر كل تلك الأمور التي تثير سخطها، لكن كل شيء يجرها لتلك الأيام البائسة رغما عنها... وهكذا رغم أنها خلصت نفسها من مستنقعهم منذ زمن إلا أنها في كل يوم كانت تسافر بها الذكريات إلى جحيم تستعر فيه أوجاعها...
تذكرت ذلك الظرف الذي لم تفتحه فقامت من جلوسها وكأنها وجدت منفذا لتتخلص من ذكرياتها التعيسة. التقطته من فوق الطاولة ومسدته بين راحتي يديها حتى تقيم اعوجاجه، ثم تأملته فلم تجد عنوان المرسل.
فتحته بفضول وأخرجت ورقة واحدة مكتوب عليها: " وجدتك يا فاجرة..."
شهقت بهلع ونظرت من حولها بريبة...
عادت وقرأت الورقة وهي تخمن هوية المرسل... هل هي مجرد مزحة أم أنهم حقا وجدوها وسيقتلونها!
سحقت الورقة بين كفيها بغضب يشوبه الكثير من الخوف، وهي تتمتم بسخط... لا يعقل أنهم طاردوها كل هذا الوقت واستطاعوا إيجادها بالنهاية!... لماذا تراهم يستعملون التهديد؟ لماذا لم ينفذوا وعدهم المسبق بالقتل دون إنذار؟ أم تراهم يريدون حرق أعصابها وزعزعة أركانها ببث الرعب في ذاتها والوقوف متفرجين عليها تموت ألف ميتة!..

******

في الشقة المجاورة كان محمود قد أنهى استحمامه وجلس في غرفة الاستقبال يتابع إحدى مباريات الدوري الانجليزي وبقربه صينية الطعام الذي كان يتناول منه لقمة كل بضع دقائق فقد كان مشدودا إلى التلفاز بكل حواسه ويتجاوب مع أطوار اللعب في مد وجزر.
عندما انتهت المقابلة كان الوقت متأخرا، ألقى بنظرة خاطفة إلى الساعة وكانت تشير إلى الحادية عشرة ليلا.
تثاءب وقام من مكانه متجها إلى غرفته تاركا بقايا طعامه دون تنظيف. لقد كان يعتزم فعل ذلك صباحا فهو مرهق الآن ولا ينوي ازعاج نفسه.
عندما دخل فراشه تأكد من ضبط منبه الهاتف وأغمض عيونه ليبدأ رحلة نومه. في تلك اللحظات التي ثقلت فيها جفونه خُيِّل له أنه سمع صوت صراخ بعيد... لم يكن بكامل وعيه فلم يعر الأمر اهتماما.
اشتد الصوت مجددا وعلا أكثر فاستقام بجذعه جالسا وبقي يتتبع مصدره. كان من الواضح أنه خلف الجدار تماما...
تمتم بين شفاهه: نسرين!
ألقى بلحافه بعيدا وأسرع الخطى تاركا شقته في قميصه قصير الأكمام وسروال بيجامته دون حتى أن يضع عليه ما يقيه البرد. ووقف قرب باب شقتها يستمع لصراخها المرعوب، يبدو أنها تتعرض لعملية سطو أو ما شابه.... طرق على الباب بشدة ومن ثم أخذ في ضربه محاولا كسره وبعد عدة محاولات تمكن من خلع القفل واقتحام الشقة. ولبلاهته لم يكن يحمل أي وسيلة دفاع بيده! أسرع للداخل وعيونه تفتش عن المجرم.
كان المكان مظلما وبالكاد استطاع تمييز الغرفة التي يأتي منها صراخها المذعور فاقتحمها بشدة.
كانت جالسة على سريرها تنتحب وهي تغطي وجهها بكلتا كفيها وشعرها الأسود القصير يغطيهما... وقد بدت نحيلة في بيجامتها الزهرية.
تأملت عيونه زوايا الغرفة تحت ضوء المصباح بقربها ثم سألها بفزع: أنت بخير؟
رفعت رأسها إليه ببقايا دموع أغرقت خديها وباندهاش نهرته: مالذي تفعله هنا؟...
ارتبك وبدى عليه الحرج وهو يرد: سمعت صراخك.... وظننت.... ظننت أن أحدا اقتحم شقتك...
قاطعهما صوت جارهما سليم وقد دخل الشقة وهو يحمل عصا كبيرة: محمود... مالذي يحدث؟
انتبه محمود فأوصد الغرفة عليها ثم رجع أدراجه إلى جاره: سمعت صراخها واعتقدت أنها حالة اقتحام... فكرت أنه قد هاجمها بعض اللصوص!
تأمل سليم زوايا المكان وهو يهيئ عصاه ثم قال: كنت سأخلد للنوم عندما سمعت ضربك العنيف للباب وتوقعت أن مكروها ما قد أصابها...
حك محمود رأسه وهو يشعر بالبلاهة فما من داع ليثير كل تلك الجلبة من أجل لا شيء، ربما هي حالة هستيريا قد أصابت جارته التي لا يعرف عنها شيئا... ربما كانت مريضة نفسيا وتعاني من الكآبة!.. في الواقع هولم يفكر في هذه الأمور قبل أن يتخذ قراره المستعجل في لعب دور المنقذ البطل...
أطلت عليهما نسرين من غرفتها وقد سترت رأسها ولبست ثوبا أطول: أنا بخير... شكرا... كان مجرد كابوس.
قالت هذا وهي تحاول أن تتماسك وتخفي عنهما انهيارها الشديد. فنظر سليم ومحمود لبعضهما البعض دون كلام. ثم توجها للباب فلا جدوى من بقائهما دون سبب.
التفت إليها سليم: تصبحين على خير... نحن هنا إذا احتجت أي شيء...
كررت شكرها وهي تومئ بنعم فانصرف إلى شقته، بينما وقف محمود مترددا وهو يشير إلى الباب: أعتقد ... أعتقد أنني... ربما... كسرت القفل!
نظرت إليه باندهاش يغلب عليه السخط واقتربت من الباب بغضب تعاين القفل: تبا... كيف سأقفله الآن؟
شعر محمود بالاحراج واقترب يحاول إصلاحه، وبسرعة تراجعت إلى الوراء حتى تحفظ المسافة بينهما. انتبه هو للأمر لكنه لم يعلق عليه فقد كان يشعر بأنه أحمق كبير أفسد كل شيء: سأتصل صباحا بعامل الصيانة ليصلحه...
عقدت ساعديها أمامها، وبغضب رددت على مسامعه: وأبيت الليلة بباب مشرع على مصراعيه!
بدى عليه الحرج وهو يقول: أنا آسف...
حاولت أن تهدأ وتتروى فتركت المكان زافرة وتوجهت للمطبخ أين سكبت لنفسها كأس ماء تروي به ظمأها فيما استغل هو الفرصة في محاولة اصلاح الخراب الذي خلفه تهوره.
رجعت بعد بضع دقائق وقد بدى عليه فشله في إعادة إصلاحه من جديد فنظر إليها بأسف: أعتقد أنه يحتاج لقفل جديد... أعدك أنني سأتكفل بالأمر، يمكنك مزاولة عملك كالعادة أنا سأهتم بصيانة الباب من جديد...
ردت مقاطعة: اتصلت مساء اليوم باللحام ليثبت بابا حديديا ثانيا وقال أنه سيحضر صباح الغد... غدا يوم إجازة وسأتدبر الموضوع.
هز رأسه بنعم وهو يكرر اعتذاره فردت عليه: لابأس... لم يكن خطأك... أعتقد أنني من تسبب في كل هذه الضجة...
ومسدت جبهتها تصارع كثيرا من الآلام التي لم تكن لتخفى عليه فاقترب منها هامسا: إن كنت في حاجة للمساعدة يمكنك الوثوق بي...
تبدلت نظراتها المتعبة إلى نظرات ترقب حذر وقد دق ناقوس الخطر عندها فعادة هكذا يبدأ أي رجل لعب دور الشهم المغوار للاطاحة بضحيته، ردت بثقة: شكرا سيد محمود... لا أحتاج منك شيئا... طابت ليلتك...
كان من الواضح أنها تريده أن يغادر لكنه اقترب من الطاولة رافعا كأس الماء الذي تركته عليها عند عودتها من المطبخ وارتشف ما بقي فيه من ماء. وعندما وضعه لمح الرسالة المجهولة ومن بين ثنايها استطاع أن يقرأ العبارة التي كُتِبت عليها: "وجدتك يا فاجرة.."
اندهش من الأمر لكنه لم يشأ أن تعرف بأنه استطاع قراءتها فترك الكأس وتمنى لها ليلة سعيدة قبل أن يغادر، ثم عاد وتوقف قرب الباب من جديد وهو يقول: إن حصل أي مكروه لا قدر الله فقط يمكنك أن تطرقي على الجدار...
هزت رأسها موافقة وهي تستعجل انصرافه في قرارة نفسها، وما إن رحل حتى دفعت الباب موصدة إياه. وخطر لها أن تسده بخزانة ما ريثما يحل الصباح.
عندما انتهت من إقفاله وضعت مزهرية على حافة الخزانة حتى تسقط وتنكسر في حال حاول أحدهم دفع الباب من الخارج بقوة...
كانت خائفة... إذا أراد صاحب الرسالة تنفيذ انتقامه فلن يجد أسنح من هذه الفرصة...
جافى النوم جفونها وهي تتقلب في فراشها مرة بعد أخرى فتركت الغرفة وخرجت إلى البهو أين انكمشت فوق الأريكة وهي تتابع التلفاز.
كان كابوسا مرعبا ذلك الذي شاهدته في منامها... بما أنهم عرفوا مكانها فهم لن يتأخروا في الوصول إليها... أي كان كاتب الرسالة المجهولة فهو أحد اخوتها الناقمين عليها... إنها فتاة جلبت العار لهم بتصديها لعاداتهم وتقاليدهم البالية... وهروبها من المنزل كان القشة التي قصمت ظهر البعير...
تعلم جيدا أنهم لن يغفروا لها فتحها لأفواه الناس عليهم، لن يسامحوها على تركها لعرسها قائما والهرب دون وجهة...
ما رأته في منامها كان النهاية المحتومة لناشز مثلها... هم لن يقبلوا بأقل من دمائها لغسل العار الذي ألحقته بكل أسرة سعيد قبل سنوات...

أقاوم كل أسواري ..
أقاوم واقعي المصنوع
من قشٍ وفخار ..
أقاوم كل أهل الكهف ، والتنجيم ، والزار ..
تواكلهم
تآكلهم
تناسلهم كأبقار ..
أمامي ألف سيافٍ وسيافٍ
وخلفي ألف جزارٍ وجزار ..
فيا ربي !
أليس هناك من عارٍ سوى عاري ؟
أليس لهذا الشرق سوى حدود زناري؟

نزار قباني

*******

جلس في المطبخ يشرب شايا ساخنا أعده للتو وهو يفكر بكل ما حدث...
ما أثار حفيظته هو تلك الرسالة المجهولة فوق الطاولة والتي يبدو أنها قد أفرغت جام غضبها عليها قبل أن تتركها هناك...
من الواضح أن أحدهم يهددها... أحدهم يبحث عنها...
"وجدتك يا فاجرة.."
كلمة فاجرة ذكرته تلقائيا بياقوتة... هل من المعقول أنها متورطة حقا في شبكة للدعارة!
عاد وتذكر كيف قفزت عنه بعيدا وبتلقائية عندما اقترب من الباب... لا يمكن أن يكون ذلك تمثيلا!.. فتاة مثلها لا تصلح لمغازلة أحد...
قالت أنها اتصلت باللحام ليثبت لها بابا حديديا آخر عند المدخل... يبدو أنها تحترز من مكروه ما... وربما تلك الرسالة هي السبب... وإن كانت تمر بكل هذا فمن البديهي أن ترى الكوابيس في نومها...
حك رأسه يحاول تشغيل دماغه، في البداية كانت مجرد سيدة متكتمة منعزلة غريبة التصرفات، أما الآن فقد أصبحت مادة دسمة تثير فضوله...
ألغاز تحيط بها من كل جانب، عالم غامض وخبايا كثيرة تنتظر من يزيل عنها الغبار... وهو متشوق ليعرف المزيد... فنهم فضوله يدفع به لاستكشافها...

انتهى الفصل الأول


بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 30-07-21, 11:14 PM   #13

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي






الفصل الثاني
أقفلت سهام هاتفها النقال ووضعته بجيب مئزر الطبخ، كانت أمها على الخط وهي تطلب منها المجيء حالا وضربت لها موعدًا عند أول الشارع... إلى أين تعتزم اصطحابها هذه المرة في الصباح الباكر؟
دخلت هناء المطبخ وأقبلت بفرح على حفيدها الذي كان في كرسيه يتناول فطوره وراحت تداعبه وتلاعبه.
التفتت إليها سهام وهي تخلع مئزرها: سأخرج لبعض الوقت أمي... هلا اعتنيت بأنس أثناء غيابي...
بدت هناء متفاجئة: هل من خطب؟
هزت رأسها نفيا وهي تبتسم: إنها أمي... يبدو أنها تعرضت لنزلة برد ولا تجد من يعتني بها... أنت تعرفين أن إخوتي الذكور لن يقوموا بأعمال المنزل... سأتفقد حالها وأعود... لن أتأخر.
بدت متفهمة وهي ترد عليها: بلغيها تمنياتي بالشفاء...
وضعت المئزر جانبا وقبل أن تخرج لم تنس أن توصيها بفادي: فادي نائم بالغرفة، لا تتركي أنس يدخل عليه ويزعجه أنت تعرفين طباعه...
أجابتها: لا تقلقي...

******

غادر اللحام بعد أن ثبت الباب الحديدي وقبض ثمنه فيما بقيت هي تجرب فتحه وإقفاله لترى إن كان يصدر صريرا. قابلها وجهه الباسم وهو يقطع آخر الدرجات باتجاهها: مرحبا كيف أصبحت؟
تجنبت إطالة النظر إليه وردت باختصار: بخير، شكرا...
تأملها للحظات لكنه خشي أن تتوارى من نظراته خلف الباب وتقفله فتدارك أمره وجعل الكيس الذي بيده قبالتها: اشتريت لك قفلا جديدا...
تأملت الكيس بصمت وأجابته باقتضاب: لقد تدبرت أمري... شكرا لك.
من الواضح أنها تحاول صرفه من أمامها... هذا الأمر يجعله أكثر اصرارا وتصميما على اقتحام عالمها المقفل. اقترب من الباب ليتفحصها ووجد أن القفل لا يزال مكسورا: يبدو أنك لم تتدبري أمرك كما يجب..
نظرت إليه بامتعاض: سأقفل الباب الحديدي ريثما يحضر عامل الصيانة.
اقترب من الباب وجثى على ركبتيه ليشتغل على القفل: لم يعد هذا ضروريا...
لم تجد كلمات لتصرفه بها عنها فاكتفت بعقد ساعديها أمامها وهي تراقب عمله بتجهم، فالتفت إليها بابتسامة: ألا أستحق أن تضيفيني شايا ساخنا..!
هزت رأسها بنعم ودخلت شقتها متوجهة إلى المطبخ.
وهي تعد الشاي كانت ملايين الأسئلة والتوجسات تجول بذهنها ، ماذا لو كان أحد أفراد أسرتها يراقبها من بعيد ويرصد خطواتها، مؤكد أنها في نظرهم فاجرة لا تستحق الرحمة فلماذا ترهق نفسها في تبريئ ذمتها... سيعتقدون أن محمود عشيقها و هذا ليس بغريب عن منطقهم الساذج!
لاحت منها التفاتة إليه وهو منهمك في عمله ثم عادت وسهمت أمامها تتذكر ذلك اليوم المشؤوم من أيام حياتها... في الحقيقة تحتفظ بالعديد من الذكريات التعيسة بألوان ونكهات مختلفة، لكن هذا اليوم بالذات له طعم خاص... لأنه ساعتها وفي سن مبكرة تعلمت أن الحب عيب والعشق حرام... على الأقل في شرع والدها...
ذات يوم في مراهقتها كانت وأختها تتسامران في الحديث عندما سمعتا صوت جلبة وصراخ والدهما يملأ الأرجاء... لم يكن هذا غريبا فكثيرا ما تنفجر براكينه بالمنزل لأسباب متعددة، تفهم أنه لا يستطيع أن يعيش دون أن يثبت رجولته بخشونته، لكن ما لم تفهمه يومها هو سبب دخول والدتهما عليهما وفي يدها أحد أنابيب الغاز، والذي سرعان ما انهالت به عليهما تعلمهما الأدب... ولم تعتقهما من ضربها المتواصل حتى تركت آثار سوطها على جسديهما الصغيرين.
في الأخير فهمتا أن أحد الشبان يرعى الأغنام قريبا من بيتهم وأن والدهما الفطن يشك في أن احداهما عاشقة له لهذا هو لا يتزحزح من جوار المنزل!
في الحقيقة الاثنتان لم تعرفا بوجود هذا الشاب حتى الساعة التي نالت منهما السياط... وبالنسبة للوالد حصل ما يفكر فيه أم هو مجرد وهم برأسه، ستظل بكل الأحوال هذه خطوة احترازية وقائية تجنبهما الخوض في مثل هذه الأمور أو حتى التفكير في الخروج عن الطوع والطاعة...
قضوا جميعهم على أحلامها في منبتها فلم تزهر يوما في ظل أسرة كتلك... بل لم تكن تعرف كيف تحلم حتى... أو أسوأ منه، كانت تخاف من أن يطلع أحدهم على أحلامها الجميلة فيدنسها بنعله القذر...

سكبت الشاي في فنجانين ووضعت قطع السكر داخلهما ثم حملتهما أين كان محمود منهمك بتثبيت البراغي بالمفك. قدمت إليه فنجانه فالتقطه من يدها وشفاهه تنحني لتمنحها ابتسامة امتنان، شاكرا إياها بصوت هامس أربكها وجعلها تشعر بقشعريرة غريبة.
ارتشفت من فنجانها ثم قالت له: أعتذر... تعلم أنني لا أستطيع دعوتك للدخول.
رد وقد ارتشف من فنجانه أيضا: لا تقلقي أتفهم الوضع...
هزت رأسها بنعم، وبالكاد شقت شفتيها ابتسامة محتشمة وهي تتأمل فنجنها في صمت... وبعد برهة جاءها صوته الذي شعرت به دافئا يجتاح مسامعها: تحسنت؟
رفعت رأسها إليه وغرقت في عيونه القريبة منها. استطاعت ساعتها حقا أن تتأكد من لونها وتميز شكلها مثلما تمنت أن تفعل سرا في داخلها... شيء من الفضول انتابها لتطوف على تفاصيل وجهه وكأنها تحني سيوف عشيرتها للحظات حتى تسترق نظرات محرمة...
كان يعاكسها في كل شيء... بشرته أفتح من لون بشرتها وشعره كستنائي اللون متموج بعض الشيء بعيون عسلية وذقن قليل الشعر يمنحه وقارا ويزيد رصيد رجولته... استطاعت أن تمنحه لقب الوسيم دون تردد... شيء ما فيه يثير ارتياحها على غير العادة... هي لا تثق برجل... أو بالأحرى لا تثق برجل ولا بامرأة، لطالما تعاملت مع الناس بحذر... لكن قلبها منحه استثناءً لم يأذن له عقلها الذي ظل يتعجب من بلاهتها آن ذاك!
كرر سؤاله عليها فعادت من تيهانها وحطت بنظراتها على فنجانها من جديد: أنا بخير... الحمد لله.
وضع فنجانه جانبا وعاد إلى عمله فمالت على الجدار حتى لامس كتفها وبقيت تتأمله وهو يضع آخر لمساته على ذلك القفل.
عندما انتهى من عمله وقف على قدميه وأخذ يجرب فتحه وإقفاله فيما كانت هي تقدم له شكرها وامتنانها: أشكرك... أعلم أنني تسببت لك بكثير من الازعاج...
رد عليها وهو منهمك بمعاينة القفل للتأكد من جاهزيته: لا تقولي هذا... نحن جيران...
في هذه الأثناء سمعا قرع حذاء ذو كعب عالي على الدرج، وتراءت لهما امرأة ممتلئة الجسد شقراء الشعر في الأربعينات من عمرها وهي تكسر ذلك الصمت الدامس، اقتربت منهما بمشية استعراضية وكلاهما ينظران لثيابها الضيقة التي تبرز مفاتنها بطريقة مغرية.
ألقت التحية وبسرعة عانقت نسرين وهي تخبرها باشتياقها لها. بدت هذه الأخيرة في غاية الارتباك وهي تدعوها للدخول، ثم التفتت إلى محمود وعيناها تشيان له بشدة اضطرابها: شكرا لك سيد محمود... طاب يومك..
رد هو بدعابة: ان احتجت أي شيء اطرقي على الجدار وحسب...
هزت برأسها وهي تصطنع ابتسامة صفراء ودخلت مباشرة مقفلة الباب خلفها. وقبل أن يبتعد سمعها وهي تناديها بياقوتة.
لم يكن متفاجئا فمظهرها نبأه بهويتها قبل أن يعرف اسمها، لكن أكثر ما لفت انتباهه هو ارتباك نسرين من هذه الزيارة... من طريقة ترحيب ياقوتة بها استطاع أن يعرف أن صلتهما وثيقة وليست مجرد معرفة سطحية... لكن نسرين بدت غير مرتاحة من زيارتها...
ابتعد عن الباب وكثير من الأسئلة تجول بذهنه، في كل يوم تزداد الألغاز غموضا وتحاصره التساؤلات... من تكون نسرين هذه يا ترى؟

******
وصلت سهام لأول الشارع فوجدت أمها سامية في انتظارها وهي تراقب ساعتها وقابلتها بسخط: لقد تأخرت... سنفوت موعدنا عند الشيخ...
تفاجأت الأخرى: أي شيخ؟
أجابتها باندفاع: شيخ مبارك ما زاره مريض بنية الاستشفاء إلا وشفاه ولا بنية قضاء أمر إلا ويسره له...
شهقت برعب: تقصدين مشعوذا دجالا يا أمي!!!
هدرت فيها بغضب: أعوذ بالله من هذه الأمور... كيف تتهمين أمك بالشعوذة والدجل! تعتقدينني بلا دين ولا ملة!!!
ردت عليها: اسمعي ما تقولينه أولا...
صرت على أسنانها بغضب: إنه شيخ مبارك لا يقول إلا كل خير... حديثه كله من القرآن ويتبع شريعة الرحمان بحذافيرها... اسمعيه وستفهمين ما أقول...
بدت سهام تائهة وهي تقول: ولماذا أسمعه؟... لست مريضة يا أمي...
أمسكتها أمها من أذنها ولم تتردد في سحبها أمام المارة وهي تتألم وتطلب منها إفلاتها: يا قليلة الفهم، ألا تدركين أن حياتك كلها تدمرت بفعل عمل شرير قامت به إحدى صديقاتك الحاسدات...
أبعدت يدها عنها وهي تجيبها: أي صديقة يا أمي؟
تابعت سامية شرحها وكأنها اكتشفت الجاذبية قبل نيوتن: يا ذكية، كم فتاة حسدتك على زواجك! أتتذكرين ما قالته رميساء عندما شاهدت زوجك! لقد حسدتك على أناقته ووقفته وعلى عمله وحتى على حماتك قليلة الكلام... وغيرها الكثير الكثير.... أنسيتِ ابنة عمك كيف كانت تنظر إليك بغيرة وحسد نهش عظامها! أنسيت كيف قامت ابنة خالتك بإضرام النار في باقة الورد التي كنت ستحملينها مع ثوب الزفاف...
ردت سهام وقد طفح كيلها: كان حادثا أمي!
نهرتها: لم يكن كذلك!.. كلهن حاسدات!... وإحداهن هي من قامت بالعمل القذر... واحدة منهن هي من صنعت سحرا عند مشعوذ ما لتنقلب حياتك هكذا إلى الجحيم...
أرادت مقاطعتها فلم تترك لها مجالا لذلك: حدثتني رباب أمس عن ابنة شقيقها قالت أن حماتها تسببت في طلاقها بعد أن سحرتها عند عجوز مشعوذة... أصبح زوجها يعاف النظر إليها ويرى وجهها كوجه الحرباء كلما تأملها، وكانت هي تشم رائحة قذرة به كلما اقترب منها... انفصلا بالنهاية وبعد ذلك اكتشف الزوج حزمة من الشعر والطلاسم وجلد الحرباء كانت ملفوفة في قماشة بيضاء وموضوعة في مكان آمن بعيد عن متناول الأيدي بغرفة نومهما... وما كان عثوره عليه إلا صدفة...
بدت سهام مبهوتة: أمن المعقول أنه يعافني ويراني بمنظر قبيح!
ضربت أمها على كتفها وهي تسحبها إلى وجهتهما: هذا هو التفسير الوحيد لما أنتما فيه... وسنجد الحل إن شاء الله عند هذا الشيخ المبارك... قالت رباب أنه يفك أصعب السحر حتى المستعصي منه... لنأمل خيرا فالله هو المعافي على أية حال...

*****

جلست ياقوتة في غرفة الاستقبال وهي تتأمل الشقة بفضول: أصبحت شقتك جميلة... لقد غيرت فيها الكثير!
جلست نسرين على الأريكة المجاورة وهي ممتعضة من هذه الزيارة المفاجئة: ماذا تشربين يا ياقوتة؟
ردت وهي تتابع تأملها للشقة: لا شيء... فما أشربه لن يكون ببرادك.
وأطلقت ضحكة طويلة رنانة أثارت حفيظة جليستها: كيف هي أخبارك؟
نظرت إليها وهي تهز رأسها بأسف: أعلم أنك لا تحبين رفقتي وتخجلين من معرفتك بي... لكن العين لا تعلو على الحاجب كما تعلمين...
ردت نسرين وكأنها لا تريد فتح الدفاتر القديمة: أعلم...
صمتت ياقوتة قليلا ثم التفتت إليها: أخوك الأصغر ذكريني ما كان اسمه...
ردت بسرعة: وليد!
هزت رأسها: أجل هو... شاهدته البارحة بالشارع المجاور.
شهقت نسرين وتجمدت ملامحها: متأكدة؟
ردت الأولى باندفاع: أكيد... حتى أنه يشبهك...
تعرف نسرين أنها لم تلتقه منذ ثمانية عشر سنة، كان وقتها في العاشرة من عمره. هي نفسها تشك في أنها ستعرفه إذا ما التقته صدفة بالطريق. لكن ياقوتة مازالت تزور بلدتهم الصغيرة رغم سمعتها السيئة، وقد سبق لها والتقته أكثر من مرة هناك على مدى سنوات متفرقة، ومن المؤكد أنها لن تخطئه.
وضعت نسرين كفها على جبينها وأغمضت عيونها بألم ثم نطقت من جديد: تلقيت رسالة من مجهول مكتوب عليها عبارة "وجدتك يا فاجرة.."
ردت ياقوتة بملل: فجر الله رأسه...
حكت نسرين كفيها بقلق وهي تفكر بحل لمصيبتها: سيقتلني يا ياقوتة... أعلم هذا...
أجابتها: اذن تشهدي على روحك في كل وقت وحين...
هزت الأخرى رأسها بنفاذ صبر: أنا جادة في كلامي...
انتفضت بوجهها: لماذا لا تأخذين الرسالة وتودعين شكوى بمركز الشرطة، سأشهد معك... كفي عن خلق مشكلة من لا شيء!
غضبت نسرين وقامت من جلوسها: وكأنك لا تعرفينهم... لقد جرحت كرامتهم، أطحت بكبريائهم ودست على أنوفهم... سيقتلونني يا ياقوتة أعلم هذا... كيف تفسرين أنهم لم ييأسوا من اقتفاء أثري طوال ثمانية عشر عاما!!!
صمتت ياقوتة مفكرة ثم رفعت رأسها للواقفة تدور في الغرفة في اضطراب: هل تريدين مني أن أتحدث إليه؟
هزت رأسها نفيا: سيعلم ساعتها أنني أعرف بتواجده هنا...
عقدت الأخرى ساعديها: والحل!
ردت بخيبة: لا أدري...
نظرت ياقوتة إلى الساعة المتلألئة في معصمها ثم لرفيقتها: سأتركك لتفكري بحل... لدي أعمال وعلي كسب رزقي... سأتصل بك لاحقا...
وقامت من جلوسها متوجهة إلى باب الشقة ونسرين تلحق بها: أشكرك ياقوتة... أقدر لك إخباري بالموضوع...
التفتت إليها ياقوتة: لا تقولي هذا... نحن رفيقتان وبيننا خبز وملح... ودموع وذكريات مريرة...
وأطلقت ضحكتها الطويلة تلك بينما اكتفت نسرين بالابتسام: اعتني بنفسك...
مدت يدها إلى المقبض لتغادر الشقة وهي توصي رفيقتها: توخي الحذر حبيبتي... خصوصا في أوقات عملك...
ردت عليها مطمئنة: لا تقلقي.
وضعت ياقوتة قدمها خارجا ثم عادت أدراجها والتفتت لنسرين: لم تخبريني من كان ذلك الرجل بهي الطلعة... لم أعهدك ممن يعقدون صداقات مع الرجال... أخبريني ما سره؟
دفعتها نسرين خارجا وهي تقول: مع السلامة ياقوتة... شكرا على الزيارة.
احتجت الأخرى: أصبح بيننا أسرار يا قليلة المروءة!!!
زفرت بحنق وردت عليها بصوت خفيض حتى لا يسمعها إن صادف وخرج من شقته: إنه جاري بالشقة المجاورة... ارتحت الآن!!!
غمزتها بعينها في خبث: المهم أن تكوني أنت مرتاحة...

*******

جلست سهام في حجرة مريبة يتوسطها شيخ ذي لحية طويلة فضية اللون وهو يرتعش ويتمتم بأشياء لم تفهمها. وبجوارها جلست أمها وهي تسلم على يده و تقول: أسعد الله يومك يا شيخنا.
ثم لكزت ابنتها بمرفقها لتفعل المثل. والتي كانت في غاية الاضطراب وهي تتأمل الحجرة الغريبة وشيء ما بداخلها يجعلها غير مرتاحة في جلوسها هناك.
عندما انتهى الشيخ من تمتماته نظر إليهما وقال: ما أحضرك إلى هنا يا سهام؟
ارتعشت وهي تنظر إليه بخوف: تعرف اسمي!؟
أجابها: أنا أعرف كل شيء... أستطيع رؤية السحر الذي كوّنوه لزوجك من مكاني هذا...
تلعثمت سهام بينما قبلت أمها كف الشيخ من جديد: أتوسل إليك يا شيخنا... فك هذا السحر فابنتي تعاني الأمرين...
دخل في روحانياته للحظات وهو يتمتم ويتشنج في حركاته ثم رجع إليهما بنظره وهو يقول: صعب... صعب...
ردت سامية باندفاع... قالوا أنه لا يصعب عليك شيء يا شيخ... أتوسل إليك...
أجابها: أخشى أن يكلفك الأمر الكثير...
أجابته بلهفة: سندفع لك ما تريد... أعد لها حياتها كما كانت وحسب...
نظر الشيخ إلى سهام التي كانت تشعر بالوجل من هيئته وقال: لست في حاجة إلى مالك يا ابنتي فالله قد رزقني ما يكفيني، ولكن فك السحر يستوجب موادا لا تتوافر هنا وأنا أستخدم أناسا يستوردونها لي خصيصا من الخارج... أحتاج مثلا إلى رشة من مسحوق ناب الفيل وقطعة من جلد النمر لنستطيع تجهيز ما يلزم لفك السحر.. وأنا أحضرها من أدغال افريقيا...
نظرت الاثنتان إلى بعضهما البعض ثم إليه ولم تقولا أي كلمة. فتابع هو: إن كان في مقدوركما إحضار هذه المواد فأنا هنا لأفك هذا السحر عن زوجك وبالمجان لوجه الله... فليس للإنسان إلا ما سعى...
ردت سهام بارتباك: أخبرني كم سيكلفني طلبها من عملائك بأفريقيا...
فكر قليلا ثم أجابها: سأسأل وأخبرك... يمكنك الاتصال لاحقا لمعرفة السعر... وتذكري، ما ستدفعينه لن يدخل جيبي، إنما هو فقط ثمن مواد نادرة غير متوافرة عندنا. أنا هنا لمساعدة المساكين أمثالك ممن غدر بهم من لا يخافون الله...
هزت رأسها بنعم دون أن تقول أي شيء فقد بعثت كلماته شيئا من الطمأنينة داخلها، بينما أخذت سامية في شكره والدعاء له بكل خير مترجية إياه أن يفك سحر زوج ابنتها ومتوعدة إياه بدفع ما يريد إن هو حقق الاستقرار الأسري الذي حرمت منه ابنتها زمنا طويلا...

*******
مضت بضعة أيام متشابهة وكان هذا مساء يوم الاثنين، ترجل محمود من سيارته التي ركنها بالموقف المجاور للعمارة التي يسكن بها، ثم أقفل الباب وسار مبتعدا وهو يتأكد من بعض المكالمات التي وردت على هاتفه، كانت عشرين مكالمة لم يشأ الرد عليها، تمتم بين شفاهه: ألا تتعبين...
ألقى نظرة أخيرة للساعة التي كانت تشير إلى الخامسة مساءًا وأعاده لجيبه يسرع الخطوات فاستوقفه أحد أصدقائه الجدد من الأطفال الذين يشاركهم لعب الكرة: لا تنس موعدنا هذا المساء...
رد بضحكة: لن أنسى...
ولم يخفف من سرعته إلا عندما تعرف على السيارة الرمادية اللون التي تقل نسرين من عملها كل مساء تتوقف قريبا.
نزلت قبله ببضعة خطوات، شكرت السائق وأطلقت الريح لساقيها باتجاه العمارة، كانت تعلم جيدا أن الشارع لم يعد آمنا وهي لن ترتاح قبل أن تدخل شقتها وتقفل البابين معا...
كان سيلحق بها ليتبادل معها بعض الأحاديث الروتينية، فهو لم يلتق بها بعد ذلك اليوم الذي قام فيه بإصلاح قفل الباب. لأنها كانت تقصد عملها صباحا ولا ترجع إلا في مثل هذه الساعة وهكذا دواليك...
رن هاتفه مجددا فأخرجه من جيبه ليتأكد من هوية المتصل وكان وديع على الشريحة الجديدة، زفر ساخطا لأنه اتصال كان في انتظاره منذ يومين. فتح الخط ورفع الهاتف لأذنه.
- مرحبا وديع، كيف حالك؟
- بخير سيد محمود... وأنت؟
- الحمد لله ، كيف هي الأخبار عندك؟
- لدي الكثير من الأخبار منها ما سيعجبك ومنها ما سيعكر صفو يومك...
- هات ما عندك...
استعد لسماع الأخبار التي كان في انتظارها منذ أيام وقد توقف للحظات قرب إحدى الشجيرات على الرصيف، ما إن بدأ وديع في سرد التفاصيل حتى رابه منظر شاب يختبئ خلف إحدى السيارات وهو يطل على نسرين ويختفي. نسي اتصاله وبقي يحدق بالفتى المجهول حتى شاهده يصوب مسدسا باتجاهها، كانت صيحة واحدة تحذيرية: نسريييييييييييييين...
تلتها طلقة نارية أوقعتها أرضا قبل أن تلتفت...
هرب الفتى واختفى في لمح البصر، بينما ركض محمود باتجاه نسرين التي كانت ممددة على الأرض ودماؤها تنزف شيئا فشيئا تروي الأرض من تحتها. فزع ولم يدر كيف يتصرف لم يكن بالمكان أحد ولم يسمع غير صوت وديع على الهاتف وهو يصيح: سيد محمود... سيد محمود.... أنت بخير... هل تسمعني؟
رد محمود باضطراب: أسمعك... أنا بخير... أحتاج لسيارة اسعاف... تعرضت نسرين لإطلاق نار...
بدى وديع متعجبا: من نسرين؟
هدر فيه بغضب اطلب الاسعاف فورا... أنا لا أحفظ أي رقم...
رد وديع: سأفعل سيد محمود، هل أرسلها إلى عنوانك السكني الجديد؟
أجابه وهو يضغط على موضع الجرح في الجانب الأيسر لنسرين: أجل، أجل... تصرف سريعا...
أقفل الهاتف وقد بدأ الناس بالالتفاف حوله يتساءلون عن حالها. ضرب هو خدها بخفة: نسرين... نسرين أتسمعينني؟
فتحت عينيها بصعوبة ونظرت إليه بألم شديد ثم أقفلتهما من جديد دون أن تقول أي كلمة...
وضع كفه على خدها ففتحت عيونها من جديد ونظرت إليه تتأمله عن قرب فمسح عليه برقة وعيونه تبوحان بقلقه: ستكونين بخير...

********

أقفلت سهام باب غرفتها وجلست على السرير تعد ما استطاعت جمعه من مال حتى الآن، باعت كل مجوهراتها إلا خاتم خطوبتها واستبدلتها جميعها بأخرى مزيفة حتى لا ينتبه أحد للأمر. كذلك فعلت أمها بكل صيغتها ولم يكتمل المبلغ بعد... طمأنتها أمها قبل قليل على الهاتف وقالت أنها ستستدين المبلغ من خالها وستعيده إليه على مهل.
زفرت بأسى، ليست تدري إن كان ما تفعله صحيحا أم خاطئا... بدى ذلك الشيخ مسالما ولم تظهر عليه أي أمارة للشر... من يدري ربما كان مباركا فعلا!
سمعت من كثير من النسوة في غرفة الانتظار أنهن يجنين ثمار عمله سريعا... الجميع أكدن على أنه مبارك وأنها كرامة ورثها من أجداده أن يشفي المرضى ويزوج المطلقة ويقضي حوائج الآخرين... كل شيء يبدو عاديا حتى الآن فهي لا تضر أحدًا، كل ما تبحث عنه هو إصلاح ما وصلت إليه حالها من فساد فهل من ضير في أن يبحث المرء عن مصلحته!..
طرق أنس على الباب بشدة فأسرعت بجمع مالها وأخفته في الخزانة ثم فتحت له، بدى مرعوبا وهو يحاول إخبارها بأمر ما لم تفهمه حتى وصلت هناء وهي مصفرة اللون: قال سليم أنهم أطلقوا النار على نسرين فور عودتها من العمل!
بهتت سهام: نسرين!
تابعت هناء: كان مع أنس يدفع به الأرجوحة بالحديقة عندما سمع صوت إطلاق النار...
بدت سهام مشوشة: ومن فعل بها هذا؟
ردت هناء: الله أعلم... قال أنه لم يشاهد أحدا...
تأسفت على حالها وهي تقول: المسكينة... كيف حالها الآن؟
أجابتها: لا أدري لكن سليم توجه إلى المشفى وقال أنه سيبلغنا بأي جديد..

********

كان محمود مع مجموعة من الجيران الذين شهدوا الحادثة في قاعة الانتظار بالمشفى الحكومي ينتظرون أي خبر.
دامت العملية عدة ساعات فاضطر أغلبهم للمغادرة بعد أن أخذت الشرطة أقوالهم فيما بقي محمود مع سليم.
كانا ينتظران في صمت إلى أن نطق محمود: ألم يبلغ أحد أهلها بالخبر؟
هز رأسه نفيا: لا أدري...
بعد صمت قصير تابع سليم: لم يزرها أحد منذ أن سكنت بالشقة قبل سنوات... ربما كانت وحيدة في هذه الحياة...
وجدها محمود فرصة ليعرف عنها المزيد، فسليم سكن بالعمارة قبل زمن وهو يعرف نسرين أكثر منه: أليس لديها أصدقاء؟
رد سليم: لا أدري... هي ليست اجتماعية ولا تنخرط في مجالس النساء... منذ أن عرفتها وهي من البيت للعمل، ومن العمل للبيت وهكذا دواليك...
اقتنص الفرصة للسؤال: وماذا تعمل؟
فكر سليم ثم سحب الهواء لرئتيه قبل أن يجيب: والله لا أعرف... تقلها سيارة رمادية في توقيت مضبوط كل صباح وتعيدها في المساء...
هز رأسه بنعم وأفكاره تأخذه لتلك الرسالة المجهولة، ثم إلى علاقتها بياقوتة... كل شيء مريب، من المعروف أن المنخرطين في عالم الدعارة يتعرضون لمختلف أنواع التهديد، خصوصا بتعاطيهم مع فئة معينة من أصحاب النفوذ الذين يفضلون تصفية حساباتهم في الخفاء.
هل نسرين فتاة ليل تابت عن ماضيها ولا يسمح لها هؤلاء بالعيش حياة نقية كما يجب؟... رجعت به ذاكرته للترحيب الحار الذي حظيت به من ياقوتة... إنهما صديقتان مقربتان هذا مؤكد...
أغمض عيونه من التعب فسمع صوت وديع في مكتب الاستقبال، توجه إليه مباشرة وتنحيا جانبا حتى يتمكنا من الحديث بحرية.
بدى وديع قلقا: كيف أنت سيد محمود؟
رد محمود مطمئنا: أنا بخير، لا تقلق... لكن لا خبر عن الفتاة...
هز رأسه بأسف: أتمنى لها الشفاء...
ثم انتبه: من تكون نسرين هذه يا سيد محمود؟
رد محمود بملل فهو يعرف مسبقا ما سيكون جواب الواقف معه: جارتي بالسكن...
بدى وديع جادا وهو يحذره: سيد محمود، لقد كان السيد محسن واضحا في تعليماته... أنت يجب ألا تتعاطى مع أي كان حتى تنتهي هذه الأزمة...
رد محمود غاضبا: وإن لم تنتهي؟
أجابه وديع باستياء: سيتم تسفيرك خارج البلد...
ضرب بقبضته على الحائط فاستطرد وديع قائلا: لكن لا تقلق، على الأغلب سينتهي هذا قريبا... والدك سيحل المشكلة مؤكد، قال أنه سيصل إلى اتفاق مع...
قاطعه بنفاذ صبر: اذهب إليه وأخبره أنني لن أسامحه أبدا... لن أغفر له أنه استخدمني منشفة لقذارته...
رد بدبلوماسية: السيد محسن يحبك جدا وهو حريص على سلامتك... لا تفكر أبد أنه سيتخلى عنك...
بدى محمود مغتاظا وهو يسمع هذا: في الأساس هو سبب كل المشاكل، أنا كنت بألف عافية قبل أن أتولى ذلك المنصب... أو لنكن صريحين، قبل أن يضعني في الواجهة ويعمل هو في الخفاء... والآن ماذا... عقوبة سجن قد تصل لعشرين سنة إن قرر ذلك الوضيع تسليم المستندات التي بحوزته للعدالة...
لم يقل وديع أي كلمة فيما كان محمود يغلي ويضطرب: لكن هذا خطئي.. كان خطئي بالأساس... أنا من كان يوقع دون أن يراجع أي كلمة... اعتقدت أن منصب الادارة رفاهية ومباهاة...
صمت قليلا ليستطرد بشحنة من الألم: تبا لي ولكم... أغرب عن وجهي الآن...
ترك وديع المشفى باتجاه المنزل الفخم لسيده محسن فهو يجب أن يزوده بكل التفاصيل لنهار اليوم، فيما عاد محمود لمقعده بجوار سليم في انتظار أي جديد عن حال جارته ذات التفاصيل المبهمة.
وضع سليم كفه على كتفه مطمئنا وهو يردد بين شفتيه: ستكون بخير...
التفت إليه محمود فلمح طيف ابتسامة شقت شفاهه وكأنه استرق سرا من أسرار قلبه، لا بد وأنه أساء تفسير هذا الاحباط الذي يشعر به محمود الآن... فهو حزمة من الخيبات، كل خيبة أسوا من اختها فمن أين يبدأ وأين سينتهي...
لابد وأن سليم يعتقد أن الاثنين تجمعهما علاقة حب، سيبدأ بالثرثرة الآن وليس من المستبعد أن يبارك لهما أهل العمارة غدا خطوبة من صنع مخيلاتهم التي تهوى اقتفاء السراب...
أسوأ من هذا هو تعابير وجه نسرين عندما تسمع الخبر! لتتحسن حالها فقط وكل شيء سيجد له حلا بإذن الله...
التفت إلى باب حجرة العمليات وهو يدعو الله في سره أن تسير الأمور على خير...
بعد بضع دقائق خرج الدكتور المشرف على العملية فأسرع إليه محمود وسليم: كيف حالها؟
بدى الدكتور متعبا وهو يجيب: إنها بخير... استخرجنا الرصاصة بالجراحة وحمدًا لله لم تخلف أي أضرار...
صمت قليلا ثم تابع كلامه: ستبقى بالعناية المركزة لأربع وعشرين ساعة... يمكنكما المغادرة للراحة فهي لن تستفيق قبل الغد...
شكر كلاهما الدكتور وأفسحا له المجال للرحيل ثم قفلا عائدين إلى مقعديهما وسليم يخرج هاتفه من جيب بنطاله: سأخبر زوجتي... اتصلت أكثر من مرة لتسألني عن حالها...
رد عليه محمود: أعتقد أنه ما من داع لبقائنا هنا...
ضغط سليم على الأرقام ووضع الهاتف على أذنه وهو يشير لمحمود: لنغادر... سنتفقدها غدا صباحا بحول الله...




noor elhuda likes this.


التعديل الأخير تم بواسطة rontii ; 24-08-21 الساعة 01:54 AM
بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 31-07-21, 02:01 AM   #14

Soy yo
عضو جديد

? العضوٌ??? » 390429
?  التسِجيلٌ » Jan 2017
? مشَارَ?اتْي » 483
?  نُقآطِيْ » Soy yo has a reputation beyond reputeSoy yo has a reputation beyond reputeSoy yo has a reputation beyond reputeSoy yo has a reputation beyond reputeSoy yo has a reputation beyond reputeSoy yo has a reputation beyond reputeSoy yo has a reputation beyond reputeSoy yo has a reputation beyond reputeSoy yo has a reputation beyond reputeSoy yo has a reputation beyond reputeSoy yo has a reputation beyond repute
افتراضي

الرواية اكتر من رائعة...لا ظن حيت السرد والا من حيث الشبكة.....وحقا معاناه نسرين يعانون منها الكثرات ......مع الفصول ستتضح بعض الخيوط و الاسرار ..وخاصة عمل نسرين و علاقتها بياقوتة.

Soy yo غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 31-07-21, 03:07 AM   #15

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة soy yo مشاهدة المشاركة
الرواية اكتر من رائعة...لا ظن حيت السرد والا من حيث الشبكة.....وحقا معاناه نسرين يعانون منها الكثرات ......مع الفصول ستتضح بعض الخيوط و الاسرار ..وخاصة عمل نسرين و علاقتها بياقوتة.
فعلا نسرين عانت من أسرتها طويلا واختارت الخلاص منها... هل فعلت الصواب وماهي علاقتها بياقوتة... هذا ما سنتعرف عليه خلال الفصول القادمة.
شكرا لوجودك حبيبتي.
متابعة شيقة


بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 01-08-21, 01:29 AM   #16

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي أنثى بحروف شرقية / الفصل الثالث






الفصل الثالث

عندما فتحت عيونها تراءى لها طيفه وهو يعانق السراب... كانت لتحاول لمسه لو أنها استطاعت مد يدها إليه، فقط لتتأكد من أنه حقيقة وليس خيال...
هل تخدعها عيونها الآن؟ أم أنها حقيقة يرفض قلبها الاذعان لها!
أسبلت أهدابها وكل ذرة فيها تتشرب صوته العذب: أنت بخير؟
أحست بصوته المتفجر حنانا يغرقها عطفا واهتماما، وكم كانت عطشى لشيء اسمه احتواء وانتماء...
تتذكر كيف مرت يده مساء الأمس فوق خدها الناعم، تعرف أنه قد أزهرت كل نقطة لامستها أصابعه. تستطيع أن تتذوق الآن شيئا من الجنون الذي لن يرضخ لجلاديها من أهلها ولا حتى لسيوف عشيرتها... كانت تعلم أنها منذ الآن فقدت نسرين... كيف استطاع بنظراته تلك أن يهبها روحا جديدة!..
تشعر أن شيئا خاملا فيها منذ الأزل قد استيقظ... بركان اتقد ولن يخمد...
ناداها: نسرين...
فتحت عيونها إليه وكأنه انتشلها من قاع عميق، وحدقت فيه بتيه... كانت ابتسامته الحانية في انتظارها... تلك الابتسامة التي تذيب شيئا من الكبر المفرط بداخلها فتجعلها ترضخ له وتمنحه ابتسامتها الرؤوم بعد فرط تمنع.
نطق بعد صمت: قال الدكتور أنك ستتحسنين...
لم تستطع لشدة تعبها أن ترد عليه بكلمة، لكنه بقي يحدق فيها بشيء من السعادة التي استطاعت أن تلمسها في نظراته.
قاطعتهما الممرضة: سيدي... انتهت الزيارة، على المريضة أن ترتاح...
هز رأسه موافقا والتفت إلى نسرين من جديد: سأعود لزيارتك.
لم تجبه، لكنها أعلنت له رضاها بابتسامة منهكة أهدته إياها على تعب. فغادر وكله شوق للقاء ثان بينهما قد تُسمعه فيه صوتها فترتاح نفسه.
لم يكن يفهم حقا تلك المشاعر المبهمة التي بدأت تزحف على قلبه، سيكون أحمقا متهورا إن سولت له نفسه أن يحبها، هو حتى الآن لا يعرف عنها غير اسمها، والباقي غموض في غموض، هذا إن تجاهل علاقتها المريبة بياقوتة وعالمها العفن... ضف إلى ذلك حالته المزرية وحريته المهددة في أي لحظة.
مسح على شعره بإرهاق وتابع تجاوزه للمارة في طريقه لمغادرة المشفى محاولا قدر المستطاع تجنب تلك الوساوس التي بدأت تعبث بعقله.

******

دخلت سهام غرفتها وأقفلت الباب من خلفها ثم أخرجت من بين ثيابها قطعة من الجلد الأسود محاطة بخيط يسد على شيء ما يابس بين ثناياها. تلمستها بأصابعها وهي حقا لا تعرف ما يوجد بداخلها فقد أبكرت أمها صباح اليوم إلى الشيخ المبارك وأحضرت هذا الشيء من عنده، ومن ثم بلغتها أنه يوصيها بوضعه تحت وسادة زوجها أثناء نومه... سيفي هذا بالغرض ريثما تصل المواد التي طلبها من عمق أفريقيا...
اقتربت من السرير ووضعت وسادة زوجها في حجرها محدثة فيها شقا استطاعت من خلاله جعل القطعة الجلدية داخل الحشوة بحيث لن يتمكن من إيجادها ولا حتى الشعور بها.
ليست تدري لماذا انتابها الخوف مما تقوم به، لكنها مضطرة لتجريب كل شيء من أجل أن تحظى وزوجها بأيام أفضل.
يقولون أن الغريق يتشبث بقشة، ورغم الشكوك التي تساورها تجاه هذا الشيخ إلا أنها تغض طرفها عن كل شيء ولا تستمع إلا لما يقوله الجميع عن براعته وكلها أمل في أن يريحها مما هي فيه من هم ونكد ويعود زوجها محبا ومخلصا من جديد.

بعد العشاء أنهت تنظيف الصحون وترتيب المطبخ. ثم علقت مئزرها على المشجب وأسرعت باتجاه الحمام أين أخذت حماما سريعا ودخلت غرفتها تاركة زوجها وأبويه في الصالون يتابعون الأخبار ويمرحون مع أنس.
جففت شعرها واستخدمت أدوات زينتها لتبدو في مظهر أفضل. ثم توجهت إلى الخزانة وانتقت منها قميص نوم أسود اشترته مؤخرا لنية تحز في نفسها.
وقفت أمام المرآة تتأمل نفسها وتسرح خصلات شعرها الأحمر الطويل الذي يصل حتى خصرها بعناية. لقد كانت جريئة في اختيار هذال اللون لصبغ شعرها، فهي غالبا لا تخاطر ولا تجازف. لكنها أرادت أن تخلع عنها السواد الذي رافقها منذ زواجها، وأن تخطو خطوة نحو التغيير عل الجندل الذي ينام بقربها كل يوم يهتز ويشعر بالاختلاف، أو ربما يقدر لها ما تبذله من أجله. يوم عادت من صالون الحلاقة تأملها في صمت ثم منحها نصف ابتسامة وهو يقول: هل من أعراس على الأبواب؟
ناظرته بعبوس ثم ابتسمت في وجهه وأجابته وعيونها تلمع بحب: أنا أتزين من أجلك أنت، ما رأيك بهذا التغيير؟
لم تفهم حقيقة ذلك التعبير الذي ارتسم على وجهه لكنه أخفاه سريعا بنظرة إعجاب وهو يقول: تشبهين أبطال الحكايات...
ثم أخذ خصلة منه ولفها حول أصابعه واقترب منها على مهل وهو يهمس لها: لست في حاجة لأن تتزيني حتى تكوني جميلة. أنت رائعة كما أنت...
ضمت جسدها بذراعيها في حالمية، لقد كان يوما غير كل الأيام... كان دافئا يملأه الشغف وليس باردا كباقي أيام السنة...
تمنت أن تكون ليلتها اليوم بجمال ذلك اليوم... بروعة تلك الليلة وبعذوبة أيامهما الأولى معا...
أضافت القليل من الماسكارا على رموشها لتصل إلى الطلة التي تريدها. ثم ضربت رأسها بحسرة متذكرة أنها نسيت وضع العدسات الرمادية التي تحتفظ بها في درج طاولة الزينة أخذتها في يدها بسرعة وألصقتها في عيونها بحذر مخفية لونها البني بآخر رمادي شاحب ناسب لون شعرها الصارخ.
بقيت تجول بالغرفة ذهابا وإيابا وهي تفكر فيما سيحصل بعد أن يدخل فادي وهل ستنتهي الحكاية بينهما على خير أم أنهما سيتصادمان كالعادة.
توقفت قرب طاولة الزينة من جديد وبخت عطرها الفواح مستمتعة باستنشاق عطره. ثم دخل فادي وهو يشد يد ابنه ويحدثه.
توقف عند الباب يتأملها بدهشة ثم ولج للداخل وأقفله. وبقي ينظر إليها بجمود، دون أن يقول كلمة. شعرت بالوهن وهي تراقب صمته... توقعت منه أن يبدي اعجابه أو على الأقل يظهر تفاجأه!
انتبهت على صوت أنس وهو يرفع ثوبها لاهيا به ويقول: ماما جميلة... ماما جميلة...
أخذت ثوبها من يده وعذرت براءة طفولته ثم حملقت في فادي الذي نطق أخيرا وهو يقول: كان عليك أن تجعلي أنس ينام قبل أن تقومي بكل هذا...
تأتأت ثم قالت: أنس سيخلد للنوم حالا فهو متعب من الجري طول النهار... أنا فقط أردت مفاجأتك...
كان من الواضح أنه اغتصب ابتسامته ليقول لها بوداعة. اعتني بأنس...
ثم غمزها ليتابع: سأنتظرك.

******
تركت نسرين المشفى بعد أربعة أيام من العلاج، تحسنت حالها لحدٍ ما وصار بإمكانها الوقوف والسير على مهل. في ذلك اليوم الذي وصلت فيه إلى المنزل زارها كل أهل العمارة. فلم يفرغ المنزل من المباركين لها على سلامتها.
في الأخير وصلت ياقوتة فانفض الجميع من هناك على مضض، وكأنها وباء فتاك معدي... حتى هي كانت تعرف رأيهم بها منذ البداية فلم تكلف نفسها عناء التسليم عليهم. أقفلت الباب بعد آخر قدم تركت الشقة وعادت تتمختر في مشيتها وهي تسبهم وتلعنهم: حمير قليلي ذمة... هل هذا تصرف بشر؟...
ودخلت على نسرين: جيرانك أسوأ من برغوث على ظهر كلب أجرب...
حاولت الأخرى أن تستقيم في جلوسها وهي تحاذر على جرحها فأسرعت إليها وسوّت لها الوسائد خلف ظهرها: على مهلك حبيبتي...
ردت الأخرى بتعب: شكرا... يكفي.
جلست ياقوتة على طرف السرير وزفرت بأسى: هل بلغت عنه الشرطة؟
ردت: تقصدين وليد؟
أجابتها: ومن غيره!
صمتت نسرين دون أن تقول أي كلمة فنهرتها بغضب: أعرف أنك لم تفعلي هذا.... مازلت تخافين منهم.
هدرت فيها: ليس الخوف... لن تفهمي...
عقدت ساعديها وردت بازدراء: ما الذي لن أفهمه! أنك تخافين أن يُسجن!!!
صمتت نسرين فأكثر ما يزعجها هو مشاداتها الدائمة مع ياقوتة التي غالبا ما تسفر عن لا شيء... تنهدت بأسى وهي ترخي الشال الذي كان يستر شعرها على كتفيها. سهمت للحظات متناسية همها تفكر بشيء آخر. فتأملتها رفيقتها لبعض الوقت ثم نطقت من جديد: أين رفيقك مصلِّح الأقفال؟ لم أشاهده في من حضر!
وكأنها استطاعت الولوج لأفكارها... هكذا كانت دائما تستطيع استقراء أفكارها من نظرة واحدة...
اصطنعت اللامبالاة وهي ترد: لا أدري، ربما كان مشغولا...
ضيقت عينيها في شك: حقا!
أرادت تبديل الموضوع حتى لا تعلق معها في دوامة لا نهاية لها: أرغب في الخروج لغرفة الاستقبال... أحب استنشاق الهواء العليل من الشرفة.
ساعدتها ياقوتة في الوصول لغرفة الاستقبال أين هيأت لها مكانا مريحا على الأريكة ثم دخلت المطبخ وراحت تعد لها حساءً وهي تدندن لحنا من التراث القديم.
أثناء ذلك كانت نسرين تفكر بمحمود الذي لم يزرها منذ ذلك الصباح الذي استفاقت فيه... مضت أربعة أيام لم تسمع فيها شيئا عنه مع أنه وعدها برؤيتها ثانية، ليست تدري لماذا لم يفي بوعده!.. شيئا ما يجعلها تشعر بافتقاده، بالمعنى الأصح، استبد بها الشوق لرؤيته دون أن يرحمها ويقف عند بابها.
جالت برأسها آلاف التكهنات دون أن ترسو على بر... لا شيء يدعوه لهذا الغياب المفاجئ دون سبب! تذكرت أنها لا تعرف عنه شيئا وأن السبب الحقيقي الذي يحجبه عنها قد لا يخطر على بالها أبدا...
أفكار تأخذها وأخرى تعيدها كالبحر في مد وجزر، رن الجرس فأقبلت ياقوتة باتجاه الباب وهي تردد: قادمة... قادمة...
ثم نظرت لنسرين: متأكدة من أن ضيوفك سيرحلون فور مشاهدتي.
وأطلقت ضحكتها الرنانة وهي تفتح الباب. فيما بقيت نسرين تترقب ضيفها وقلبها يخبرها أنه من تنتظره لا غير، لم تكد تصدق نفسها عندما سمعت صوته وهو يسأل عنها عند الباب ثم دخل وفي يده باقة ورد وعلبة شكلاطة من النوع الفاخر. استلمتها عنه ياقوتة ودعته للجلوس. بقي هو واقفا يتأملها من مكانه وعيونه تحتضن عيونها التي تحمل شيئا من العتاب. شعرها الأسود الناعم الذي تصر أن تجعله قصيرا وخدودها المتوردة من الخجل تحمل براءة طفلة صغيرة... وهي على حالتها تلك. انتبهت لنفسها أخيرا فغطت رأسها واستحت منه، أما هو فقد احتفظ بصورتها الأولى بعيدا في مخيلته، سيحتاج لرؤيتها كلما جرفه الشوق إليها... شعر بالإحراج وهو يقترب منها، فأشارت له بالجلوس على الأريكة المجاورة. وهي تخفي ارتباكها المضاعف من قربه منها.
رفع رأسه إليها وهو يفرك أصابعه ثم قال: لم أستطع زيارتك قبل الآن...
شعرت بصدق كلماته واستطاعت أن تلمس في رنتها افتقاده لها... أحست بسعادة عارمة تجتاحها فرفعت رأسها إليه وسألته سؤالا واحدا نطقاه معا سويا: أنت بخير؟
ضحك الاثنان فيما تابع محمود: أنا من يجب أن يسألك... تحسنت؟
ردت ببقايا ابتسامة زينت ثغرها: الحمد لله أنا أفضل... وأنت؟
بدت مصرة على معرفة ما شغله عنها، وكان من الصعب أن يشرح لها حياته المعقدة في جلسة واحدة.
رد عليها باختصار: أنا بخير...
هزت رأسها بنعم، المهم أنه الآن بجوارها وبصحة جيدة... بقيا صامتين لفترة وكل منهما يحاول التواصل مع الآخر بأي طريقة إلا أنه لم يكن بينهما أي قواسم مشتركة...
حط بناظريه عليها فأسبلت عيونها بحياء. لم يكن ينوي الاكتفاء من مشاهدتها مهما طال به المكوث هناك، لكنه رحم خجلها فقال: هل من جديد في محضر الشرطة؟
ردت عليه: لم يجدوا الفاعل بعد...
لم يعقب بكلمة، وإنما كانت تجول برأسه ملايين الأسئلة، ارتأى أخيرا أن يصارحها بما يعرفه عنها خوفا عليها من القادم، أراد أن تضع يدها بيده حتى يتمكن من حمايتها تحت جناحه. قال بعد صمت طويل: أعرف بشأن رسالة التهديد...
رفعت رأسها كمن لسعته عقرب وتمتمت بحيرة: كيف؟
كان قد عزم على مصارحتها بالحقيقة كاملة ولن يتراجع عن ذلك، أجابها: في ذلك اليوم الذي صلحت فيه القفل... عندما ارتشفت الماء من الكأس الذي تركته على الطاولة...
تلمست تلقائيا شفتيها، لقد حط في ذلك اليوم شفتيه على نفس الكأس الذي نهلت منه قبله، لقد قبل موضع شفاهها عليه في غفلة منها... وليست تدري إن كان تصرفا عفويا منه أم أنه يومها أراد إيصال مشاعره إليها بطريقة ما...
تابع هو بينما حاولت هي أن تنصت إليه دون تشويش: يومها قرأت الرسالة صدفة... كانت متلفة فوق الطاولة.
استاءت كثيرا من تصرفه ذاك ولم تتقبل فكرة أن يقتحم عالمها رغما عنها وهي التي تعودت طوال عمرها أن تطرد الجميع من أعتابه فلا أحد مرحب به عندها... أجابته بحنق: كيف سولت لك نفسك الاطلاع على شيء يخصني؟
بدى محرجا وهو يحاول تبريء ذمته: أرجوك لا تغضبي من تصرفي، لقد حدث كل شيء صدفة... لم أقصد التطفل على أسرارك أأكد لك...
بدت فعلا ساخطة وظهر هذا جليا على ملامحها، بينما حاول هو قول ما يفكر فيه: نسرين... إن كنت تعانين من أي مشاكل يمكنك الوثوق بي...
ونظر باتجاه المطبخ ليتأكد أن ياقوتة لا تسمعه، ثم تابع كلامه: إن كانت تلك المرأة تورطك في المشاكل فأنا هنا لأساعدك... أعلم جيدا أنها متورطة في قضايا للدعارة وأنها غارقة في الوساخة، وإن كانت تستعمل معك الابتزاز فأنا هنا لحمايتك منها...
تراقصت أمامها علامات استفهام كثيرة، لم يكفها أنه تطاول على أسرارها وها هو الآن يقحم نفسه عنوة في علاقاتها الشخصية! رغم كل شيء تظل ياقوتة هي اليد الوحيدة التي امتدت إليها وقت الشدة وهو كغيره يحكم على المظاهر، وأكثر ما يوجعها أنه تخيل ولو للحظة أنها تغرق في نفس الوساخة مع ياقوتة... عادت روح نسرين المتسلطة لتتلبسها فجأة فلم تصبر على ما يقول وردت بحزم: سيد محمود...
نظر إليها، فتابعت: أولا اسمي الآنسة نسرين وليس نسرين... ثانيا لا يحق لك التدخل في حياتي... فحياتي ملكية شخصية وهي حكر علي... ثالثا لا أحد يهددني أو يبتزني ورابعا...
انتظر ما ستقول ولم ترد هي أن تنطقها لكنها لم تستطع أن تكبح جماح غضبها، فتابعت كلامها: رابعا... طاب يومك.
بدى متفاجئا وهو يراقب غضبها. استاء من نفسه أنه تدخل في شؤونها واستاء لأجلها فلم يكن ينوي أن يتعبها أكثر مما هي متعبة.
قام من مكانه ولم يخفى عليها انكسار خاطره مما فعلته، تعلم أنها تسرعت وما كان يجب أن تتصرف بتلك الطريقة لكنها تعترف أنها لا تملك نفسها وقت الغضب.
رد عليها باحترام: طاب يومك.
وأولاها ظهره مغادرا، شعرت بأنها ترتكب حماقة لكنها لن تجرؤ على طلب الصفح منه فكبرياؤها فوق كل شيء.
كاد يرتطم في طريقه بياقوتة وهي تحمل صينية الشاي، نبهته: حاذر أرجوك!
ابتعد عن طريقها: آسف.
تعجبت من رحيله المبكر: إلى أين؟.. لقد أعددت لك الشاي.
رد باقتضاب: شكرا، ربما في وقت لاحق.
ترك الشقة فيما بقيت هي واقفة تحمل صينية الشاي بيدها في اندهاش، ثم التفتت لرفيقتها: هل قلتِ ما أزعجه؟
لم تشأ نسرين أن تقحمها فيما يدور بينهما فهزت رأسها نفيا وردت: لديه مشاغل...
أشارت للباب بإبهامها: كان ذاك خروج رجل كسير الخاطر...
تجرعتها على مضض، ولم تعقب بكلمة بينما وضعت ياقوتة صينيتها على المائدة وهي تدندن نفس اللحن القديم: دعينا نشرب الشاي... أعرف أنه لا خير يأتي منك في مثل هذه الأمور أنت لن تبرعي بكسب ود رجل حتى تقوم جدتي من قبرها...
تأففت نسرين من تعليقات رفيقتها لكنها لم تكن لتستطيع التخلص من شعورها بالذنب، ذلك الإحساس الذي انتابها فور تأملها لعيونه قبل أن يوليها ظهره مودعا... تعلم أنه لن يتدخل في أمورها بعد الآن... وتعرف جيدا أنها ربما وأدت مشاعر دافئة في مهدها، لم تمنح نفسها فرصة احتضانها و عيش لحظاتها...
تذكرت للحظات ذلك الشاب الذي كانت تجده في طريق عودتها من المدرسة الإعدادية والذي كان يبتسم لها بود أغلب الوقت. بدى لها أكثر من وسيم وهو يعتلي دراجته النارية ويحدق فيها بعيون عاشقة، أو ربما كانت تخفي كثيرا من الرغبة... لم تكن لتستطيع في تلك السن أن تميز هذه الأمور. كانت تلك أولى نظرات قبول لها على وجه الأرض، فقبله كانت تشعر أنها منبوذة... لم تعرف أكثر من نظرات أمها المتذمرة، ووالدها وإخوتها القساة... عيونه أخفت شيئا جميلا غير ذلك... كانت أول باب يُفتح أمامها لتعيش الحياة.
على الرغم من سعادتها التي كانت تحرص على أن تخبئها عميقا في قلبها لم تجبه يوما بكلمة، كانت فقط تسمح لكلماته العسلية أن تطرق شغاف قلبها لتذوب فيها أياما وأيام... وتسكر في لطف وبهاء عباراته... ربما العوز العاطفي هو من صنع بها ذلك... ربما كانت لتكتفي منها لو أنها وجدت الاهتمام من أقرب الناس إليها... وما كانت بعدها ستحتاج كلماته المستخلصة من شهد النحل...
أحبته، أو لنقل أحبت ما يضفيه وجوده لحياتها المقفرة وتعودت عليه. وظل هو ينتظر موافقتها ليبدآ قصتهما... طلب منها مرارا أن تلقاه خفية عن الأعين لكنها كانت متمنعة إلى حد كبير... لم تكن مسألة ثقة فهي كانت مسلمة به من أول نظرة...
ما أمسكها عنه هو سيوف إخوتها التي تهدد بضرب عنقها في أي لحظة... هي لن تتجرأ على العصيان. لقد منحتها أسرتها مناعة ضد أي شيء اسمه التمرد... فحتى بعيدا عنهم وعن أعينهم ما كانت لتتجرأ على فعل ما يخالف رغباتهم...
انتهت القصة بأن اكتشف أحد الشبان من أصدقاء إخوتها ما يدور بينهما وهددها بإبلاغ أسرتها بالأمر. منذ ذلك اليوم لم تتجرأ على النظر إليه. وبعد أيام قلائل بلغها أنه تعرض للضرب المبرح على يد رفيق أخيها ذاك، وأنه ترك البلدة ليكمل دراسته في المدينة... تعلم جيدا أنه هدده بكشف أمره وتبليغ إخوتها... هذا ما جعله ينفذ بجلده بعيدا... وهكذا تحطمت قصة حبها الأول قبل أن تولد... وها هي الحياة تكرر نفسها مرة أخرى وستظل تنعتها بالفاشلة حتى موتها...
*****

كانت الأيام الأربعة الماضية أكثر من رائعة بالنسبة لسهام إذ يبدو أن بركات ذلك الشيخ قد أهلت على المنزل برمته، فمنذ أن دست المربع الجلدي بوسادة زوجها وكل شيء على خير ما يرام... تلك الليلة التي أعدت لها عدتها جاءت بنتيجة واستطاعت أن تحرك فيها مشاعره الجامدة... لقد حظيت بلحظات غامرة وعاشت عواطف كانت متعطشة لها منذ زمن.
لم يشغل بالها غير بعض الأمور العارضة التي استطاعت ملاحظتها على زوجها في علاقتها معه فقد اكتشفت أنه يتناول بعض المقويات ويحرص على إخفاء الأمر عنها... ربما كان يعاني من خطب ما ولم يستطع مصارحتها بالأمر...
ربما لم تفهمه، ففي الوقت الذي كان هو يعاني في صمت كانت هي تتذمر من تقصيره معها. شعرت بشيء من تأنيب الضمير ينتابها... كيف يا ترى ستعوضه عما فات... عليها أن تكون سندا له لا علة...
ما لا تفهمه هو ما يجعله مصرا على السهر خارجا، إذا كان يكاد يكون عاجزا عن معاشرة غيرها فما السر في بقائه خارجا حتى الفجر! لا بد وأنه يشرب الكحول ويتعاطى المخدرات مع رفاقه... لكن ليس عليها أن تقلق بعد الآن فذلك الشيخ قد وعدها بشفاء صحته...
بدت متفائلة وهي تنظر إلى الساعة على الحائط فأمها ستصل بين فينة أو أخرى حاملة "الدواء الشافي" الذي وعدها به شيخها المبارك وقد اكتمل تجميع العقاقير المكونة له. فحسب قوله تم عمل سحر مستعصي له وهو من تسبب في هدم علاقتهما الزوجية حد إصابته بالمرض... الآن وقد صنع لها ترياقا لفك السحر سيتعين عليها إطعامه منه في مواعيد مضبوطة. وعند فك السحر نهائيا سيعود زوجها إلى سابق عهده وتنتهي كل أحزانها!!!
مستعدة لفعل أي شيء من أجل أن تعيش حياة هادئة رفقة زوجها بعيدا عن المشاكل والصراعات... صحيح أنه لم تجمعها به قصة حب قبل الزواج لكنها أعجبت به فور رؤيته وبدت أيامها الأولى سعيدة معه...
تتذكر جيدا ذلك اليوم الذي التقت فيه مع أمه هناء عند طبيبة الأسنان، يومها تعارفتا وتبادلتا الحديث مطولا رغم تباعد السن بينهما، كانت سهام يومها فتاة مرحة كثيرة الضحك وليست امرأة نكدة مثلما آلت إليه حالها اليوم...
أعجبت هناء بها لدرجة كبيرة وحدثتها أنها تبحث عن زوجة لابنها وأنها قد راقت لها... احمرت خجلا يومها وهي لا تدري كيف تجيبها... وسارت الأمور بشكل جيد فأعجب فادي بسهام فور رؤيته لها بعد زيارة تعارف بين العائلتين، تقدم لخطبتها رسميا وقد تعرف سليم على والدها وعقدا علاقة طيبة فزاد الأمر من تكاثف الأسرتين. تزوجا بعد بضعة أشهر وكانت أيامهما الأولى رائعة كأي عريسين جديدين... لكن لسوء الحظ لم يدم الوضع بينهما على حاله وبعد فترة قصيرة بدأت النزاعات التافهة تنشب بينهما... قالت أمها أنه من الطبيعي أن تحدث الصدامات بينهما في أولى فترات حياتهما فمن المعروف أنهما لا يزالان في فترة تعارف، وأن الأمور ستهدأ بينهما فور تعود كل واحد على الثاني وستنسجم العلاقة بينهما تدريجيا... مضى على زواجهما حتى الآن ما يقارب الثلاث سنوات ومازالت الصراعات بينهما قائمة... ألا تكفي ثلاث سنوات من التعارف!!!

*****
حل الليل فتأكد من إقفال شبابيك الشقة قبل خلوده للنوم. لم يتعود العيش فيها حتى الآن ولولا ما أدخله حضور نسرين في حياته ما كان ليطيق بقاءه بالمكان. اكتشف أنها وأسرارها شغلته عن معاناته وأنسته همومه... لكن أي حضور هذا الذي يجعله ينسى نفسه!!!
بدى متضايقا من هجومها الشرس على أفكاره، فمنذ أيام لا يخطر غيرها على باله... أمن المعقول أن مشاعره في تطور مستمر تجاهها!
فحتى خلال الأيام الأربعة الماضية التي قضاها في منزل والده كان لا يكف عن التفكير فيها وفي ما أصابها. وقد تلهف طويلا للعودة لشقته من أجل الاطمئنان عليها.
تذكر طريقتها الصارمة في طرده من حياتها، لا بد وأنها لا تبادله شيئا من تلك المشاعر الغريبة التي تجتاحه!.. لابد وأنه ليس أكثر من جار متطفل بالنسبة إليها!..
أي جنون هذا الذي أصبح يعتريه، لقد فكر حتى في أن ينسى ماضيها البشع إن كان له وجود، لا يهمه ما فات المهم عنده من هي اليوم وكيف ستكون... بدى متحمسا لدخولها حياته ولم يهتم حتى في ما ينتظره من سجن وتهديد...
وكأنها أعطته أملا جديدا... منحته أحلاما لم يكن في انتظارها... فتحت أمامه أفقا من وهج وسط الدياجي التي كان يتخبط فيها منذ شهور... غريب هو الحب، يزهر أينما حل وارتحل!
الحب! هل بلغ شعوره هذه المرتبة في حين غفلة منه!!! لا يعرف حقيقة ما يختلجه تجاهها لكنه سيحاول الابتعاد عنها قدر المستطاع... سيحاول نسيانها وتجاهل تواجدها وسيرى إن كان سينجح في ذلك...

أما هي فقد كانت تحاول النوم... أطفأت كل الأنوار بغرفتها وبقيت تتأمل نور القمر المتسلل إليها عبر شقوق النافذة.
تشعر بالاستياء... كيف استطاعت التصرف بهذا الجفاء... من الواضح أنه كان يهتم لسلامتها، لكنه فكر بالطريقة الخطأ وصاغ أفكاره بطريقة أسوأ...
هو رجل لم تقابل مثله في حياتها، رجل لمست فيه من الحنان ما يجعلها لا تصدقه... لم تتعود يوما على هذا القدر من الاهتمام... لم يكن اخوتها كذلك فما نالها منهم من جفاء لا يجعلها تصدق ما يقدمه لها هذا الغريب عن طواعية...
تتذكر جيدا أنهم كانوا يمنعونها وأختها من متابعة المسلسلات التلفزيونية بحجة أنها تفسد أخلاقهما وتعلمهما ما لا ينفعهما...
ذات يوم قررتا الاختباء تحت طاولة الخياطة الكبيرة في ورشة أخيها رابح ومشاهدة مسلسل مكسيكي رائج في تلك الفترة كان هو يبيح لنفسه مشاهدته أثناء عمله.
عندما انتهى العرض انتبه لأقدامهما الصغيرة وأمسك بهما. نالهما منه ضرب موجع بلا رحمة. استطاعت نسرين أن تفلت من جلده لهما بينما استمر هو بضرب أمل بلا هوادة... تتذكر جيدا أنها حملت حذاءه الكبير من أمام الباب وقذفته صوب رأسه. لحظتها توقف عن ضرب أختها باحثا عن مصدر الضربة فاستطاعت أن تفلت منه وهربت الاثنتان باتجاه المنزل، لكن المسرحية لم تنتهي لحظتها فقد لحق بهما وراح يطرق بشدة على الباب الذي أقفلاه عليهما محاولا فتحه وبالكاد استطاعت أمه تهدئته وهي تتوسل إليه أن يعذر طيشهما...
المهم، كلفهما ذلك أياما من الاحتراز فلم تكونا لتخاطرا بالتصادم معه بعد ذلك حتى لا ينالا جزاء تمردهما...
في الواقع لم تكن الحادثة مفاجئة لنسرين فحتى والدتهما نفسها لم تكن تتمتع بهذا الامتياز... لازالت عالقة بذهنها حتى اليوم صورة أمها وهي مقابلة لشاشة التلفاز بانتظار بداية المسلسل التلفزيوني عندما مر أسامة قبالتها وأطفأه بوجهها... لم تحتج ولم تنتفض ولم تقل أي كلمة... انتظرَت منها أن تقوم لتشغيله مجددا لكنها لم تبارح مكانها... حتى اليوم لم تستطع أن تفهم ما كان يدور برأس والدتها. أهو الخوف أم الإذعان أم ماذا؟
تقسم لو أن الله رزقها بولد وقلل معها بهكذا طريقة الأدب لركلته حتى يلاقي وجهه الجدار!
لن يفهم أحد سبب رحيلها عن ذلك المنزل، لأنه لا أحد غيرها عايش ما عايشته ولا احتمل ما احتملته...
عادت بها الذكريات لتلك الليلة التي هربت فيها، كانت أمسية احتفائية في منزلهم الصغير تسبق اليوم الذي ستزف فيه لبيت عريسها، حضر جميع أقاربها وأحاطتها بنات الأعمام والأخوال. حممنها صباحا في حمام البلدة وسط الزغاريد ومشطن شعرها الأسود الطويل وهن يباهين بعروسهن في أبيات شعر لا تنتهي... ربطت بيدها الحناء ليلتها ورقصت معهن على الدفة والزغاريد. كانت أمسية فرح وسرور زينت فيها البسمة ثغر الجميع إلا هي...
إلا هي... كانت العبرة تخنقها في كل حين... وغصة بصدرها تأبى مفارقتها... ذبيحة ستُزهق روحها غدا على يد رجل تعيب فيه كل شيء... رجل تكرهه ولن تحتمل أن يلمس خصلة واحدة من شعرها الأسود الطويل...
ذلك الشعر الذي طالما سمعته يتغزل به فعافته لأنه يعشقه... ليلتها حملت المقص وراحت تبتر خصلاته واحدة تلو الأخرى مرة بعد مرة ولم تهدأ حتى أتت عليه ولم تترك غير وجه أنهكه الوجع يغرق في عواصف من الأحزان...
كانت قبل قليل ابنة عمها المتزوجة تملي عليها ما يجب أن تفعله غدا ليلة زفافها وهي تستمع لها بخدود ملتهبة من الخجل... يقولون أن كل ذلك عيب وحرام... يكبتون أنوثتها في ألف دثار ثم وفي لحظة واحدة يحررونها من كل ذلك ويقولون اذهبي وافعلي هذا أنت حرة الآن فذلك زوجك... كلمة زوجك التي غالبا ما اقترنت في ذاكرتها بكلمة إله... فهكذا كانت أمها تبجل والدها... زوجها الذي لن تتجرأ يوما في حياتها أن تقول له لا...
الأمرّ من هذا وذاك هو هذا الزوج الذي ستُزف إليه في حد ذاته... إنه الوغد الذي نال من حبيب قلبها... وها هو يستعمل علو مكانته في عيون أهلها ليفرض نفسه زوجا لها دون حتى الأخذ بمشورتها فهم الأدرى بمصلحتها... وكأنه يخبرها منذ الآن أنه سيدها الجديد...
قبل سنتين منعها إخوتها وتحت مباركة والدهم من مزاولة دراستها، فقد رأوا أن نضوج جسدها قد اكتمل وعليها البقاء بالمنزل حتى تزف لبيت عريسها... كثمرة أينعت ودنى وقت قطافها. يحتفظون بها بعيدا عن الأعين في مخدعها وحتى إشعار وصول من يخطبها ستشتغل هي في إعداد جهازها... ستطرِّزه خرقة خرقة وتفصل شراشفه قطعة قطعة...
لم تغفل يوما ومنذ أن حدث ما حدث بين حبيبها وهذا المقيت أنه كان ينظر إليها بشيء من الجرأة... ربما نفس نظرات سابقه إلا أنها كرهت هذا وأحبت ذاك... أحيانا لا تكون المشكلة في الوجبة... قد تكون المشكلة في طريقة تقديمها! وربما هذا ما حصل معها حينها... الطريقة التي دخل بها هذا العريس حياتها لم تمكنه من ولوج قلبها فضلت تراكم كرهها له حتى طفح بها الكيل...
تركت المقص ينزلق من يدها ويقع أرضا ثم أقبلت باتجاه خزانتها وأخذت هويتها وكل أوراقها من الدرج خبأتها بسرعة بين ثيابها وركضت باتجاه باب المنزل، وقعت بالفناء ولم تستطع الصراخ... كان عليها أن تتحمل الوجع حتى لا توقظ أهل البيت النيام... استطاعت أن تقف على قدميها من جديد وفتحت الباب الموصد بأكثر من قفل، ثم فرت في جنح الظلام باتجاه منزل جارتهم ياقوتة.
لطالما عُرِفت ياقوتة بعلاقاتها المشبوهة هناك، كانت تمتلك أسرار أكابر رجال المنطقة ممن يقضون وقتا ممتعا رفقتها. على الرغم من سمعتها السيئة لم يستطع أحد أن يطردها من البلدة، لن يجرؤ أي منهم على إزعاجها والتسبب في فتح فمها المقفل، فكل واحد من مدعي الشرف هؤلاء حظي بليلة أو اثنتين رفقتها. بالمقابل هي تتمتع بحمايتهم الخفية ورعايتهم لها...
لم يكن أمام نسرين إلا ذلك الباب لتطرقه فهي تعلم جيدا أنه لن يستقبلها أحد من أهل البلدة، وحتى من يمكنها من الدخول سيشي بمكانها لوالدها فور ولوجها.
كانت ياقوتة تكره ما يمارسه والدها وإخوتها من اضطهاد لها ولأختها أمل وأمهما... لطالما أبدت استياءها من تصرفاتهم. حتى أنها تجادلت طويلا مع والدتها عندما منعها إخوتها من مزاولة دراستها... دافعت عن حقها في التعلم بشراسة لكن لا حياة لمن تنادي. انتهت تلك المشادّة الكلامية بأن انصرفت أمها وهي تهدر بغضب أنها لن تأخذ النصيحة من قليلة أدب مثلها. وأنه لو كان فيها خير كانت قد أحسنت اختيار طريقها...
في ذلك الحين قالت ياقوتة كلمات ظلت عالقة بذهن نسرين حتى اليوم وربما هي ما حدى بها للجوء إليها، فبفرط غيظ ردت على تلك التي أولتها ظهرها وراحت تباهي بعفتها: يمكن أن أخطأ، ويمكن أن أغرق في الخطأ ، لكن لو كانت لي ابنة لما سمحت لها أبدا أن تكرر نفس خطئي... كنت سأدافع عنها وعن حقها في عيش حياة أفضل حتى النهاية... ولن أسمح لأي كان باستغلالها... الفرق بيني وبينك أنني أعرف ما أريد أما أنت فموقفك أسوأ... أنت حتى لا تبصرين خطأك...
التفتت إليها تلك التي لم تكن قد ابتعدت عنها كثيرا وردت: عافانا الله من الخطأ نحن أناس شرفاء نعيش الحياة كما يرضي الله...
ناظرتها بازدراء وهي تقول: وهل تسمين ما أنت فيه حياة! أنت على هامش الحياة تتشربين قذارة أسيادك...
صمتت قليلا ثم تابعت: ما أعرفه أن الله لا يرضى بالظلم فلماذا تظلمين ابنتك وتصرين أن تحني رأسها بالقوة لترتشف معك نفس القذارة.
تلك الكلمات أعادت شيئا من الاحساس بالكرامة لنسرين، شعرت أن لها وجودا وتمنت في تلك اللحظة أن تكون ياقوتة هي والدتها... فرغم أنها لم تكن تتجاوز الثانية والعشرين من عمرها آن ذاك إلا أنها تبنت نسرين كابنة لها ودافعت عنها بكل جرأة...
القوة والحماسة في نبرتها جعلتها تشعر أنها الحامي الوحيد الذي قد ينقذها من حياتها البائسة...
كانت تركض والدموع تتطاير من عيونها. طرقت على باب المنزل فأطلت ياقوتة وهي تتثاءب، بدت متفاجئة وهي تشاهد الصغيرة أمامها في تلك الحال المزرية، أدخلتها وفهمت منها ما حدث. بدت نسرين مرعوبة وخائفة لم تكن تريد العودة لبيتها خصوصا بعد أن أعلنت تمردها، كانت تعلم أنها إن خطت خطوة واحدة خارج أسوار البيت فلن يعود بمقدورها العودة اليه من جديد.
فهمت ياقوتة منها كل ما حدث ورابتها كلماتها الأخيرة: "إما أن تساعديني على الهرب وإما أن أقتل نفسي وأنتحر..."
لم تكن لتسمح لهذه الصغيرة أن تنتحر... هي لم تجرب من الحياة شيئا بعد... أجرت اتصالا أو اثنين مع بعض معارفها بالمدينة ثم وضبت حقائبها وتركتا البلدة في جنح الظلام على أول قطار باتجاه العاصمة...
كان الفجر قد لاح للأفق عندما أقلع القطار، طمأنتها ياقوتة أنهما ستصلان بعد سويعات قليلة.
كانت نسرين تعلم أن حياتها ستأخذ منحًا جديدا... وظلت مصممة على مزاولة دراستها من جديد والتفوق فيها... فقط يلزمها درع حماية يوفر لها الأمان...
تأملت الجالسة بقربها والتي كانت غارقة في الأفق تنتظر بزوغ الشمس من خلف الجبال، هل هذه من ستكون حاميتي حقا! أم أنها ستجعل مني امرأة تشبهها في كل شيء...
لم تدرك نسرين فداحة الخطأ الذي ارتكبته حتى ذلك الحين... فهي قد هربت من مصيبة لتقع بأسوأ منها... هربت من أهلها الطغاة لتقع بين براثين أنثى لعوب تعرف أصنافا من الرجال...
كيف ستكون نهايتها يا ترى؟ وهل ستجد درع الحماية الذي تبحث عنه؟ هذا ما لم تجد له جوابا في تلك اللحظة فبقيت حبيسة هواجسها وتساؤلاتها.





noor elhuda likes this.


التعديل الأخير تم بواسطة rontii ; 24-08-21 الساعة 01:53 AM
بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 02-08-21, 01:00 AM   #17

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
Lightbulb






الفصل الرابع
نامت على خيوط من وهج القمر واستفاقت على أخرى من شعاع الشمس. بدت منهكة كئيبة، لم تهنأ في نومها لحظة واحدة فقد باتت تصارع أشباحها الليل بطوله.
من كابوس لكابوس أصر الجميع أن يعذبوها، وحتى محمود لم يتخلف عن الركب وكان له من ذلك نصيب... شاهدته يسير في أرض فلاة قاحلة حافيًا وقد أحرقت الرمضاء قدميه وهو في كل مرة يبتعد عنها أكثر... كانت تسمع ضحكات امرأة متشفية دون أن ترى وجهها وهي تنعتها بالفاشلة وتكررها على مسامعها مررا...
في طريقها إلى المطبخ، دفعت باب غرفتها بشدة حتى ارتطمت والحائط وهي تتمتم بفرط غيظ وأنفها شامخ في السماء: فليرحل... وكأنني بحاجة إليه....
وعبست بوجهها تحاذر في سيرها ويدها على جرحها: من هو أصلاً!..
سمعت فجأة صوت باب شقته ينفتح وعرفت أنه قد خرج، حاولت أن تتجاهل خفقات قلبها المتسارعة ووخزة الألم التي ضربت أحشاءها فجأة... عميقة هي ردة فعلها، فقط لمجرد إحساسها بوجوده رغم أن بينهما أسوارًا تحجبها عنه وعن نظراته...
يا إلهي، نظراته...
غطت وجهها بكفيها وهي تشعر بالهلاك... هذا هلاكها أي والله!.. من كان يعتقد أنها ستُسحر برجل لا تعرف عنه غير صورة و إسم!... تعبت من مُمَاراة شعورها والتظاهر باللامبالاة... ستكون حمقاء إن استمرت في خداع نفسها، لوجوده في حياتها معنى... وهي لن تنكر أنها ترغب حقا في التلصص عليه من خلف شق الباب علها تسترق منه نظرات على عجل...
فتحت البراد وأخرجت بعض العصير... ستبرد قلبها المستعر قبل أن تفكر في تناول الفطور... أخذت كأسها الممتلئ وسارت به حتى النافذة... وقفت تتأمل الشارع خلف الستائر الشفافة وأبطأ هو في الخروج حتى كادت تصرخ به "أين أنت!"
سار مبتعدا باتجاه الموقف وأخرج حمالة مفاتيحه يرن على سيارته فانحنت شفاهها لترسم ابتسامة دون مقدمات... أسر قلبها وعيونها وهامت فيه للحظات. تعلم أنه لم يترك لها من قلبها شيئا وتخاف من هذا الشعور... ماذا لو ضاع منها وأضاع معه قلبها...

*******

وصلت سهام متأخرة كالعادة على أمها ووقفت عند ناصية الشارع معها تتحدثان. بدت سهام مرتبكة وهي تسألها: أحضرت النقود؟
أجابتها باستياء: رفض خالك أن يديّنني المزيد.
صرت على أسنانها: تبا... كيف سندفع ثمن باقي الترياق الآن؟
هدأتها أمها وهي تربت على كتفها: لا تقلقي يا ابنتي... سنتحدث إلى الشيخ... يبدو صالحا وقد يقبل أن يديننا إياه.
بدت سهام متوجسة: لا أعتقد أمي...
سحبتها أمها خلفها وهي تقول: لنحاول لا ضير من المحاولة.
البارحة عندما زارتها والدتها أحضرت لها قارورة دواء نتن الرائحة وطلبت منها أن تحتفظ به بعيدا عن الأعين فخبأته في درجها السفلي وأقفلت عليه بالمفتاح. قالت أن الشيخ طلب منها أن تدفع المزيد مقابل القارورة الثانية، وأكد لها أن أخذ الدواءين معا يعطي نتيجة فعالة بعشر أضعاف... بالطبع الأم الرؤوم لن تفوت فرصة كهذه، وأخذت على عاتقها مهمة اقناع ابنتها... سهام لم يبق في حوزتها فلس واحد ولم تستطع قبول العرض لكن سامية أقنعتها أنها ستتدبر المبلغ، وعلى ما يبدو هذا لم يحدث...
دخلت الاثنتان على الشيخ وهما تفكران كيف تقنعانه بأن يدينهما الدواء. ظلتا صامتتين حتى خرج من روحانياته وأولاهما اهتمامه. فبدأت سامية تشرح له وهي تستعطفه و تترجاه. استمع إليهما حتى صمتتا معا ولم يتبق لهما ما يقولانه سوى انتظار حكمه...
حدق بسهام طويلا وعيناه الجريئة تمسح على جسدها. ثم طلب من أمها أن تنصرف.
لم تجد سامية بدا من الخروج دون حتى أن تبحث عن السبب، فهذا الشيخ المحترم لا يقول شيئا إلا لحكمة ما... هذه هي الكلمات التي همست بها في أذن ابنتها قبل أن تتركها وحيدة معه في ريبتها.
خرجت إلى الشارع لتتخلص من ضوضاء النساء وحواراتهن الشيقة ووقفت قرب الجدار لتتحدث إلى زوجها على الهاتف. لقد اتصل مرتين ولم تتمكن من الرد عليه، أخبرته أنها عند الطبيبة وقد تتأخر... كانت في كل مرة تتحجج بحجج واهية لتترك المنزل دون أن يعرف بما تفعله وابنتها... لكنه هذه المرة تتبعها وكان خلف كشك السجائر ينظر إليها وهي تطلق أكاذيبها. تمنى في تلك اللحظة أن يخرج إليها ويجرها من شعرها في الشارع انتقاما منها. لكنه فضل أن يتركها ترجع للمنزل أولا فأقفل الهاتف وسبقها إلى هناك.
بعد لحظات من انصرافه وقبل أن تعود للداخل خرجت ابنتها غاضبة وقد طفح بها الكيل. بدت مندهشة وهي ترى ثورة غضبها: ما بك يا ابنتي؟
هدرت فيها بانفعال: إلى المنزل يا أمي... لا أريد رؤية هذا الدجال مجددا...
شهقت سامية: ليس دجالا يا بنتي... إنه شيخ مبارك...
ردت بانفعال أكبر: أعلم يا أمي هو شيخ محترم لا يقول شيئا إلا لحكمة ما!
قاطعتها : ما الذي حصل؟
صمتت سهام وهي تحدق بأمها للحظات ثم أجابتها: اقتضت حكمته بتعرية جسدي...
ضربت بكفها على صدرها وشهقت شهقة واحدة. بينما تابعت سهام بغضب: ذلك الشيخ الأجرب لم يستحي وهو يقول لي اخلعي ثيابك يا بنتي واجلسي وسط الدار حتى أطوف عليك وأطرد عنك لعنة السحر ... قد يكون هذا بديلا لقارورة الدواء الذي لم تتمكني من دفع ثمنه...
استجمعت طاقتها وتابعت: بالبداية قال أن فادي هو من يعاني من السحر، والآن يقول أنه سيفك عني لعنة السحر... أرأيت أمي كم هو كاذب!!!
تمتمت سامية ببعض الكلمات المبهمة فالدهشة عقدت لسانها... بينما تابعت سهام: شيخك المبارك يا أمي ليس سوى نصاب، دجال... إنه يأكل أموال المغفلين أمثالنا... أمي هذا الرجل ليس سوى مشعوذ لعين...
ردت أمها بانكسار: ولكنك قلت أن ما أعطاك إياه قد أفادك وهدأت الأمور بينك وبين زوجك... لقد تحسنت علاقتكما أليس كذلك؟
ردت سهام باستياء: وما أدراني أنه لم يكن سحرا... ربما جعلني أسحر زوجي ليحبني وأوهمني أنه يتعافى من سحر قد يكون غير موجود في الأصل يا أمي...
طأطأت رأسها بانكسار وهي تتمتم: ذهب كل ما فعلناه أدراج الرياح...
أمسكت بها ابنتها وسحبتها خلفها حتى ترجعا إلى المنزل وكلاهما في انكسار شديد... لقد خسرتا كل ما تملكانه من مال ومدخرات من أجل لا شيء... تلاعب بهما ذلك الشيخ العجوز واستغل سذاجتهما ليسلبهما كل شيء. هذه هي نهاية المغفلين الذين يصدقون كل ما يسمعونه دون تشغيل عقولهم. فلو فكرت أي منهما ولو قليلا لأدركت أن الله هو الرازق وهو الذي يكشف الضر ويقلب الحال من النقيض إلى النقيض... كانت تكفيها دعوة لحوحة من قلب صادق في ظلمة الليل ودمعة قهر تبثها لمن بيده ملكوت كل شيء...
أقمنا نصف دنيانا
على حكمٍ وأمثال
وشيدنا مزاراتٍ ..
لألف .. وألف دجال ..
وكالببغاء .. رددنا
مواعظ ألف محتال ..
قصدنا شيخ حارتنا
ليرزقنا بأطفال
فأدخلنا لحجرته
وقام بنزع جبته
وباركنا
وضاجعنا
وعند الباب ، طالبنا
بدفع ثلاث ليراتٍ
لصنع حجابه البالي ..
وعدنا مثلما جئنا
بلا ولد .. ولا مال
نزار قباني

*******

دخل محمود مطعما فخما وعيونه تبحث بين طاولاته حتى شاهد وديع، جلس إليه بعد تحية وسلام ثم انتظر ما سيقول.
فرك وديع أصابعه: كيف حالك سيد محمود؟
رد عليه بلهجة صارمة: لا تسألني عن حالي فسؤالك يستفزني... أخبرني ألم تطلب إلي أنت والسيد محسن قبلا أن أختبئ في مسكني الجديد! لماذا تريد مقابلتي على الملأ إذن؟
رد وديع بامتعاض: هذا لأنه استطاع تحديد مكانك...
حدق فيه بعيونه الحادة: تقصد بشير؟
هز رأسه بأسف أن نعم ثم قال: يوم جئت لرؤية والدك تمكن من معرفة الخبر واقتفى أثرك... وأرسل هذا إلى السيد محسن.
وألقى إليه بمغلف فتحه محمود على عجل فشاهد صورا التقطت له فور وصوله للبناية مساء الأمس. صر على أسنانه وهو يقول: مالذي يريده؟
أجابه: مبلغ كبير مقابل الملفات التي في حوزته... وليس في مقدور الشركات تأمين طلبه...
صمت قليلا ثم تابع: لم يشأ والدك أن تعرف، لكننا على شفير الافلاس...
بهت محمود وحدق في صاحبه بتيه فتابع الآخر: ورط بشير والدك في شغله الوسخ ثم جعله يخسر كل شيء والأسوأ منه احتفظ بما يدينك وها هو يستغلك للضغط على أبيك أكثر... مع أنه لم يعد في وسعه دفع المزيد...
شعر محمود بوخزة ألم وهو يتذكر شجاره الأخير مع والده قبل يومين، لقد لامه على تورطه مع بشير وحمله مسؤولية ما هو فيه... قال أنه لن يسامحه على جعله طرفا في هذه المعادلة القذرة، ولم يستطع محسن الدفاع عن نفسه ولو بكلمة... أمضى أربعة أيام في منزله وفي اليوم الذي كان سيغادر فيه طلب منه والده أن يرجع لخطيبته السابقة "مروى" فشعر محمود أن فيما يقوله إهانة لكرامته. رد عليه بانفعال: هل تريدني أن أحني له رأسي بعد كل ما فعل!!!
قال والده وقد رفع من صوته: مروى لا علاقة لها بكل هذا، إنها بعيدة كل البعد عما يقوم به والدها وهي تحبك حقا... أرى أنه من غير العادل أن تعاقبها نيابة عنه... عد إليها بني، إنها في حاجة إليك... لم تكف عن السؤال عنك منذ أن تركت المنزل...
كان محمود يعلم الغرض الحقيقي من وراء كلام والده، فمحسن قضى كل حياته في تحقيق طموحاته دون الاهتمام بمشاعر أحد حتى زوجته التي هي أم محمود توفيت وفي قلبها شجن وحزن من سوء معاملته لها، من غير المعقول أن يُظهر اليوم تعاطفا مع مروى وهي ابنة عدوه... يبدوا أنه يفكر في أنها الطريقة الوحيدة لجعل بشير يكف عن ألاعيبه... ابنته تشكل ورقة رابحة في يد محسن ويبدو أنه قرر استخدامها لإنقاذ ابنه من هذا المأزق بأقل الخسائر الممكنة. هو يعلم جيدا أن لمروى تأثير كبير في حياة بشير فهي مدللته الوحيدة منذ نعومة أظافرها... إن قررت الزواج من محمود فحتى والدها لن يتمكن من الحيلولة دون حدوث الأمر وبالتالي سيضطر للحفاظ على صورته في سوق المال والأعمال ولن يفكر أبدا في الإساءة لمحمود وأسرته لأن هذا سيكون إهانة شخصية له... تبدو فكرة لامعة من هذا الرجل الأشيب الذي قضى عمره في توسيع ممتلكات العائلة و يبدو أنه سيرحل قبل أن يحقق أمانيه...
محمود كان يعرف طريقة تفكير والده جيدا فعشرته الطويلة معه علمته كيف يكون ذئبا بين الذئاب... لكنه لم يكن قادرا أن ينسى تماديه أو مماراة شعوره في أنه قربان سيذبح عند أعتاب إمبراطورية بشير التي على عكسهم عرفت توسعا كبير النطاق في الفترة الأخيرة...
أقفل محمود الموضوع برمته وهو يجيبه: لا ينقصك إلا أن تتدخل في حياتي الخاصة... ألا يكفيك أنك أتيت على نصفها بجرائمك!... هل تريد استكمال ما تبقى منها بمواعظك؟
قال هذا هو يلتقط علاقة مفاتيحه من فوق الطاولة قبل أن يترك المنزل الفخم.

زفر بقرف ثم التفت إلى وديع: مالحل برأيك؟
أجابه وديع: سأجهز أوراق تسفيرك إلى الخارج... لن نسمح له بسجنك...
هز محمود رأسه بخذلان: هل علي أن أهرب منه؟
رد وديع: ليس منه... من العدالة...
صمت محمود وهو شارد الذهن، ثم وقف من جلوسه ورمق صاحبه بنظرة قبل أن يغادر: أبلغني متى...
أجابه: مؤكد... حالما تجهز كل الأوراق سأتصل بك.

******

وصلت سامية إلى المنزل، وما إن دلفت للداخل وجدت زوجها مصطفى في انتظارها عاقدا ساعديه أمامه ووجهه لا يبشر بخير: أين كنت؟
كانت كلمات حازمة منه ألقى بها في وجهها فاشتمت رائحة المشاكل...
ردت بارتباك: أخبرتك... عند الطبيب أذني تؤلمني بشكل لا يطاق...
تأمل يديها الخاويتان وهو يقول: ألم يصف لك دواءً؟.. تراه نفث فيها لتشفى ببركة أنفاسه !
صدمت من قوله هذا فأصدرت تأتأة دون أن تتجرأ على قول كلمة، ما جعله ينهرها بغضب أكبر: أجيبيني أين الدواء؟ أو أعطني الوصفة على الأقل...
ردت عليه أخيرا وهي تسعى جاهدة حتى لا يُفتضح أمرها: لقد انتظرت طويلا ولم يحن دوري لذلك آثرت المجيء والعودة في يوم آخر.
صفعها على وجهها بكفه حتى كادت تسقط أرضا مسببا لها طنينا في أذنيها وراح يعنفها بسخط لا مثيل له: تعتقدينني أبلها لأصدق أكاذيبك أيتها الملعونة... أنا أعرف جيدا أنك وابنتك الغبية تلك تقصدان مشعوذا دجالا...
تمسكت بالأريكة بجوارها حتى تمنع نفسها من السقوط بسبب الوهن الذي أصاب ساقيها. شعرت بخيبة كبرى وهي تتذكر كيف خدعها ذلك الدجال وابنتها ليأخذ كل ما تملكانه من مال، ويجعلهما غارقتان في الديون، بل لم يكتف بالمال وحده بل هم بتدنيس عرضهم وشرفهم... والأدهى من هذا وذاك هو ما سيحل بها الآن بعد أن اكتشف مصطفى كذبها وخداعها وعرف بحقيقة الأمر.. هو لن يرحمها مؤكد فهو معروف باستقامته ونبذه لكل تلك الأمور التي خاضت فيها، وأولاده الذكور سيكونون في صفه، وستكون هي في ورطة لا تحسد عليها بعد أن تعرف كنتيها وجيرانها بالأمر... سينعتونها بالمشعوذة للبقية الباقية من حياتها وسيتهمونها بالتسبب في تدمير حياتهم بأعمال السحر، فأحيانا بعض الناس ينتظرون أخطاءً كتلك ليبرروا خيباتهم وانتكاسات حياتهم... يجعلونها شماعة يعلقون عليها كل تردٍّ وصلت إليه حياتهم...
******
دخلت سهام المنزل وهي تحمل كيس الخضار بيدها، كان الجو هادئا فدخلت المطبخ أين وجدت هناء تعد طعام الغداء: مرحبا أمي...
ردت هناء: مرحبا ...
وضعت كيس الخضار على الطاولة وخلعت معطفها: لا أسمع أنس. هل هو نائم؟
أجابتها: تركته نائما بالغرفة...
أخذت معطفها على ذراعها وتوجهت إلى الغرفة فسمعت صوت أنس وعرفت أنه استفاق. دخلت إليه مرددة: حبيبي... بني... جاءت ماما...
التفت إليها وهو يسعل وفمه مطلي بشيء من السواد. استغربت الأمر وأسرعت إليه جاثية على ركبتيها أمامه، سألته: ما هذا بني؟.. ولم تتأخر في معرفة الاجابة فرائحته النتنة عرفتها ما يكون... إنها قنينة الدواء الذي صنعه لها ذلك الشيخ الملعون... ضربت على فخذيها وهي تندب حظها...
بدت عيون الصغير حمراء وهو لا يكاد يقوى على التنفس... أخذته بين ذراعيها وهرولت به إلى جدته بالمطبخ وهي تصيح بوجل: أمي... أمي... أنس يموت...
وضعت هناء كل ما في يدها وأسرعت إليهما مرعوبة: ما الذي حصل!!!
وما إن شاهدت الطفل حتى ضربت على صدرها وشهقت بهلع: أنس... حبيبي... ما به؟
صاحت سهام من جديد: يجب أن نأخذه إلى المستشفى حالا... حالا يا أمي...
أخذت هناء غطاءً لرأسها بسرعة وخرجت الاثنتان مهرولتان برعب حتى كادتا ترتطمان في الدرج مع محمود الذي هاله منظرهما وعرض عليهما المساعدة.
بعد دقائق وصلوا إلى المشفى وتم نقل الصغير إلى الطوارئ على جناح السرعة. انهارت سهام في القاعة وهي تندب بنواح: لقد قتلته... لقد قتلته... أنا من قتله...
لم تفهم هناء سبب ما تقول فراحت تهدئها: سيكون بخير... لا تقلقي سيكون بخير إن شاء الله...
خرج محمود إلى متجر قريب ثم عاد وفي يده قارورة ماء معدني قدمها لسهام التي كانت في حال يرثى لها وهو يقول: اطمئني سيدتي... سيشفى بإذن الله...
أخذت منه القارورة شاكرة وشهقاتها تتردد في جوف صدرها. وعلى إثرها دخل فادي راكضا بفزع مع والده وما إن وصل حتى بادرهم بالسؤال: كيف هو الآن؟
أجابته أمه وهي تمسح دموعها، إنه في الطوارئ منذ بعض الوقت...
التفت بغضب إلى سهام: أنت أم مهملة... ألا يمكنك الجلوس في البيت ورعاية ابنك!!! ألا تنتهي خرجاتك وأمك مطلقا!
انكمشت في مكانها وراحت في البكاء دون أن ترد عليه بكلمة بينما قام سليم بإبعاده عنها وهو يقول: دع زوجتك وشأنها... ليس وقتك الآن!
ابتعد محمود عنهم جميعا وتركهم يناقشون مشاكلهم العائلية بمفردهم، وانفرد بنفسه في زاوية من زوايا المشفى وعلى وجهه يظهر التعب. رن هاتفه أكثر من مرة فأقفله نهائيا دون أن يرد وتركه في جيبه وهو يهمس بملل: لن تمل هذه الفتاة...

في الوقت عينه كانت نسرين تستمع لطرق متواصل على باب شقة جارها منذ فترة لابأس بها، وهي تتساءل من يكون زائره عديم الذوق هذا. هي تعلم جيدا أن محمود لم يعد بعد فقد شغلت حواسها جيدا منذ الصباح وتعرف أن باب شقته لم يُفتح... كانت لتسمع رنين مفاتحه لو فعل ذلك وكذلك صوت إقفاله للباب.
لم تتمالك نفسها وخرجت تطل من ثقب الباب، كانت مفاجأتها كبيرة وهي ترى فتاة شابة بشعر أشقر ناعم تجاوز كتفيها بقليل تلبس سروال جينز ضيق ومعطفا خفيفا أسود فوق كنزة لم تميز لونها... فغرت فاها منبهرة من طلتها وقد بدأت الغيرة تزحف على قلبها.
تمتمت بين شفاهها: إنها أخته...
لم تتمالك نفسها أكثر ففتحت الباب وأطلت عليها، التفتت إليها الفتاة فورا وكان وجهها جميلا كما توقعته. بلعت ريقها وهي تقول من بين أسنانها: السيد محمود ليس بشقته...
ردت عليها بلطف: هل تعرفين متى يعود؟
أجابتها: لا... قد يعود في أي وقت...
هزت رأسها موافقة وغادرت باتجاه الدرج شاكرة لها فاستوقفتها: أنت من أفراد أسرته؟
ابتسمت الفتاة وردت: لا...
لم تفسر لها من تكون، واكتفت بنزول الدرج مبتعدة بخطوات متناسقة ومدروسة وكأنها تدربت عليها طويلا! بينما شعرت نسرين بخدر في ساقيها ولم تعد تقوى على الوقوف فأسرعت بدخول شقتها وقلبها يدق بفزع: ليست أخته!
شعرت برغبة في البكاء وهي تردد هذه الكلمة: ليست أخته!
ما الذي قد يجيء بفتاة كتلك حتى باب شقته؟... ومن تكون؟ لا تستطيع أن تمنع سيلا من مشاعر الغيرة التي افترست قلبها في تلك اللحظة، شيء ما بداخلها يصر على القول أنهما أكثر من مناسبين لبعضهما البعض... رجل في مثل بهائه لا تليق به إلا أميرة كتلك...

******

بدت سهام منهكة على شفير الجنون وهي تحتمي في صدر أمها التي لم تكن أحسن منها حالا فسيل دموعها لم يتوقف منذ سماعها بالخبر.
مصطفى الذي كان يقف بالقرب من النافذة كان يرسل إليهما بنظرات سخط وكأنه يحملهما مسؤولية ما وصل إليه الولد، كل هذا وهو لا يعرف ماهية الxxxx الذي شربه الصغير.
لم ينس أن يخبر سامية وهما في طريقهما إلى هنا فور سماعهما للخبر أنهما تجنيان ثمار ما زرعتاه... لم تكف سامية عن تبريئ ذمتها وهي تقول أنهما لم تقترفا أي سوء ولم تؤذيا أحدا فقط كانتا تبحثان عن حل للمشاكل التي تتخبط فيها سهام، لكنه أصر على أن هذا انتقام من الله عز وجل بسبب دخولهما عالم الشرك والعياذ بالله... لقد هددها بالطلاق أكثر من مرة إن لم تتب عن أعمالها هي وابنتها ولا تعودا لمثلها أبدا... لم يصدق بل لم يستمع لتبريراتها مطلقا ولم يهتم لمعرفة التفاصيل كل ما كانت تبصره هو نيران اتقدت في عيونه وليست تدري كيف تطفئها فمن غير المرجح بعد اليوم أن يصدق مصطفى أي كلمة تقولها... هل تراها خسرته؟ خسرت مصطفى الذي كان لها نعم الزوج ونعم السند لأكثر من ثلاثين عاما؟...
ليس لها الآن غير الندم تتخبط فيه دون خلاص وسكاكين من القهر تمزق قلبها أشلاءً وأشلاء...
خرج الدكتور من قاعة العلاج فأسرع إليه الجميع وعيونهم تتفرس تعابير وجهه علها تشي ببعض ما يخبئ في جوفه.
تنحنح وهو يضع يديه في جيوبه ثم نظر إليهم جميعا: أين أمه؟
هوى قلب سهام من بين ضلوعها واقتربت أكثر وهي تشعر بدوخة وكأنها تستعد للوقوع مغشيا عليها فور سماع الخبر...
تعلقت عيونها بالطبيب ودموعها تجري ساخنة على خديها، حتى أن ملامح وجهه لم تكن تنم عن أي تعبير ما جعلها تنتظر كلماته وهي تعلم أنها لن تعيش من دون ابنها... إن مات أنس فعليها أن تلحق به سريعا لأنها لن تقوى على العيش من دونه... صحيح أنها قد ترضخ لقضاء الله وقدره لكنها أبدا لن تسامح نفسها وهي تعلم أنها السبب... هي التي قتلته...
نظر إليها الدكتور وهو يقول: كانت تلك أعراض تسمم... قمنا بما يجب فعله... و...
صمت قليلا فغامت عيونها وشعرت بالدنيا تدور من حولها واستندت على زوجها فادي الذي شدها حتى لا تقع بينما تابع الطبيب: حالته مستقرة الآن... لننتظر الساعات القليلة القادمة...
لم تستوعب كلامه، هل فعلا أنس نجى من الموت وسيعيش!... أم أن هذا الطبيب يماطل فقط في نقل أسوأ الأخبار!...
انفجرت فيه بهستيريا: هل سيعيش؟.. أخبرني هل سيعيش؟.. هل تخفي عني أنه سيموت؟...
كلمات متناثرة خرجت من جوفها الذي كان يتلظى من قهره، أمسك بها فادي حتى تهدأ فيما أجابها الطبيب بعملية: قلت أن حالته مستقرة... لا خوف عليه من التسمم... فلحسن الحظ تمكنتم من التعجيل في نقله إلى هنا...
ردت بلهفة: يمكنني رؤيته؟
هز الطبيب رأسه نفيا: ارتأيت نقله للعناية المشددة وهناك لن تتمكني من الدخول إليه. إن استقرت حالته سيتم نقله إلى غرفة عادية وهناك يمكنك ملازمته..
فاضت دموعها وهي تتخيل ابنها، فلذة كبدها في الإنعاش يصارع من أجل البقاء... وخنجر ينخر قلبها يخبرها أنها السبب... تعلم جيدا إنها إن فقدته سينتهي بها الأمر إلى الجنون... ستجن لا محال...

**********

بعد أن اطمأن على أن الصغير لازال على قيد الحياة ولديه أمل في أن يعيش ترك محمود سالم وأسرته هناك في غرفة الانتظار لم يبرحوا أماكنهم. وتوجه إلى موقف السيارات التابع للمشفى حتى يرجع إلى شقته. كانت الساعة تشير إلى تمام التاسعة ليلا، رن على سيارته ثم توجه إليها وهو ينظر من حوله... وسرعان ما تذكر ذلك الشاب الذي أطلق النار على نسرين. للأسف لم يتمكن من تمييز شكله بشكل دقيق ولم يستطع أن يقدم له وصفا شاملا في محضر الشرطة...
زفر بسخط وهو يتذكر كيف تعاملت نسرين مع الموضوع، وكيف تعمدت الإلقاء به بعيدا عن كل حياتها، فقط لأنه حاول رفع الستار عن الحادثة... هناك ما تخبئه عنه ويكاد يقسم أنها تعرف الجاني وتتستر عليه، ربما خوفا ورهبة مما يستطيع إلحاقه بها من أذى، فقد لمح الرعب في عيونها ذلك اليوم.
ضرب على المقود بشدة وهو يبحث في درجه عن علبة السجائر التي تركها هناك ولم يجدها، لكن السبب لم يكن أبدا تلك السجائر وهو يعلم ذلك... إنها تجعله عصبيا كلما فكر في ذلك الغموض الذي يلفها دون أن يستطيع فهم حقيقة ما تخبئه عن الجميع...
شغل محرك السيارة وانطلق باتجاه الحي الذي يعيش فيه. طوال الطريق كان يفكر فيها وفي كل ما يخصها وما استطاع معرفته عنها حتى الآن... جالت بذهنه فكرة ساذجة... أن يتوجه لياقوتة ويدفع لها حتى تخبره كل الحقيقة، فكما يبدو هي من النوع الذي يتعامل بمبدأ ادفع لتنال ما تريد... نفض عنه هذه الفكرة البلهاء سريعا فنسرين ستستقبله عند مدخل العمارة بأكبر مقلاة في خزانتها عندما تسمع الخبر...
رغم تغطرسها معه، إلا أنه لم يستطع أن يبتعد عنها كما وعد نفسه... لم يستطع الابتعاد عنها، أو على الأقل لم يستطع إبعاد هيمنتها عن كل أفكاره... كل الطرق تؤدي إليها، هكذا كان شعوره... فأي شيء يشغل باله به سرعان ما يتدرج ليصبح نسرين ومشاكلها...
نسرين تلك الفتاة العادية في كل شيء، ليس يدري حقا ما الذي يجذبه إليها بهذه الطريقة! فمؤكد أنه عرف أجمل منها من النساء...
نسرين ليست كغيرها. يتذكر أنه عندما شاهدها في أول يوم له بمسكنه الجديد لمح شيئا من الكبر المفرط يسكنها... أو ربما لم يكن كبرا، ربما كان عنفوانا وعزة نفس... لديها روح قتالية وصرامة عالية... كانت تبخل عليه حتى بالنظرة الواحدة وتواري عيونها الكحيلة عنه وهي عاجزة عن منعه من التحديق بها، وكأنها عندما تتجاهله سيحجم هو عن تأمل ملامحها!.. في الحقيقة كانت تمنحه الأريحية في أن يحفظ كل تفصيل فيها على مهل، فكان يستحضرها قبل نومه متذكرا ما جمعهما من مواقف، حتى وإن كان مرورا عابرا لها بقربه... لم يكن يعلم حينها أنه يتعاطى نوعا من الxxxx... xxxx إدمان لا قبل له به... إنه الحب...
اليوم وبعد كل تلك الليالي عرف أنه قد أدمنها واستبد به الشوق إليها، يريد رؤيتها ولو من بعيد... وكلما تذكر الحد الفاصل الذي وضعته بينهما كلما استعرت نيران الشوق في فؤاده...
زفر بسخط ولهيب يضج من أنفاسه. وقرر أن يوقف سيارته بالقرب من أحد الأكشاك ليشتري بعض السجائر التي من المعلوم أنها لن تفيده في ما يعانيه قلبه.
أخذ السجائر ودفع للبائع، وفي طريق عودته انتبه أن هذه هي المنطقة التي أخبروه سابقا أن ياقوتة تنشط فيها رفقة جماعاتها... كان سيركب سيارته لكن شيء ما جعله يرجع أدراجه، وكأنه يريد استكشاف عالم جديد من عوالم نسرين التي أصبحت مصدر هوس له.
سار بالقرب من بعض الشجيرات ودخل الحي السكني. كانت عيونه تراقب المارة والسيارات... لاحظ بعض الفتيات اللواتي كن يرتدين ملابس تبرز مفاتنهن بطريقة ملفتة على الرصيف وهن في انتظار بعض السيارات... عرف سريعا أنهن بعض المومسات، فكما عرف من قبل فالمنطقة مشهورة بهذا النوع من التجارة... تجارة الجسد. وليست ياقوتة هي الوحيدة التي تدير أعمالها هنا...
خلل أصابعه في شعره وهو يشد عليه بغضب... ما علاقة نسرين بامرأة وضيعة كتلك؟... لا يمكنه أن يتخيل أنها فيما سبق كانت واحدة من أولئك الفتيات.
التفت إليهن مجددا وهو يشاهد تلك الأفخاذ والصدور العارية. أصابه الدوار وهو يتخيل نسرين هناك بينهن على نفس الهيئة...
طبعا لا... هي ليست كذلك... لا يمكن أن تكون نسرين التي يعرفها واحدة منهن... ما يعرفه عنها أنها عزيزة نفس، ومن المستحيل لمتعجرفة ذات عنفوان مثلها أن تعرض نفسها لمهانة كتلك.
شقت شفتيه شبه ابتسامة وهو يضع يديه بجيوبه من البرد عائدا إلى سيارته... عليه أن يرجع فالتعب أثقل جفنيه، يريد أن ينام لبعض الوقت فهو في حاجة للراحة هذا اليوم...
ما كاد يبتعد حتى لمح فتاة ذات شعر أسود قصير بالحديقة القريبة. رابه ما التقطته عيناه و أيقن من شكلها أنها نسرين فقد حفظها عن ظهر قلب... لكن ما الذي تفعله هنا دون حجابها وبملابس كتلك. اقترب أكثر واستطاع أن يلمح رجلا يقبل باتجاهها، وسرعان ما أحاط خصرها بذراعيه واسترقا معا بضع قبلات في جنح الظلام بعيدا عن الأعين.
قفز من فوق السياج ببراعة وركض باتجاههما، لم يكد ذلك الرجل ينتبه لوجوده حتى هوت عليه قبضته بلكمة كادت تفقده وعيه. ترنح للخلف وسقط أرضا فيما شد هو تلك الفتاة من ذراعها وسحبها إليه بقوة كاد معها يفتت عظامها وهو يزمجر فيها بغضب مع أنفاسه الملتهبة، وصدره يعلو ويهبط من شدة القهر بداخله: نسرين!
أجفلت الفتاة وردت عليه بصراخ متوسل: أرجوك... أتركني ولن تراني هنا من جديد أقسم لك !
لم يكن هذا صوت نسرين... ولا حتى ملامحها... يبدوا أنه أصبح على شفير الجنون وبدأ الآن يتخيلها في كل مكان!
أفلت الفتاة أخيرا من قبضته فحملت حقيبة يدها وهربت تلحق بالرجل الذي كان معها والذي يبدو أنه قد نفذ بجلده تاركا إياها تواجه محمود وحيدة!
لا يفهم لماذا رآها هنا... هل أسقط ملامحها كلها على فتاة غريبة فقط لأن شعرها قصير أسود اللون... لا يمكنه أن ينسى نعومته عندما أبصره، تمنى ساعتها لو كان أطول فيلف خصلاته حول أصابعه.
شهق بأسى وهو يحاول أن ينفي هذا الجنون الذي بدأ ينتابه. جنون اسمه نسرين لا يدري من أين ابتلي به...
ركل سيارته قبل أن يصعد إليها ثم شغل المحرك متوجها إلى منزله.

عندما وصل إلى العمارة صعد الدرج بسرعة حتى وصل إلى باب شقته. قبل أن يفتحه التفت إلى باب الشقة المجاورة... كان يرغب حقا في رؤيتها، خصوصا بعد النيران التي شبت بقلبه بعد ما رآه في الحديقة فلم تبقي ولم تذر.
لم يتقبل حتى الآن فكرة أن يلمسها أحد، ومازال يشعر بنيران الغيرة تتآكله... لا شيء سيطفئ ما هو فيه إلا أن يضع كفيه على خديها ويأخذها في قبلة عميقة تثبت له امتلاكها... أنها له ولن يأخذها منه أحد.
يعلم أنها ستكسر أصابعه وتهشم أسنانه إن تجرأ على تنفيذ فكرته الخارقة الذكاء التي تخطر بباله الآن. ابتسم رغما عنه وهو يتخيل شكلها عندما تغضب. يعشق تقطيبة حاجبيها التي تعطيها منظر الطفلة الغاضبة!
بادرته فكرة أخرى لا تقل جنونا عن سابقتها. ماذا لو رن على الجرس واختبأ ! فقط ليراها تطل من خلف الباب ويتأملها للحظات وهي تبحث عن زائرها.
كانت هي تصعد الدرج وتتأمله ساهما في باب شقتها وهو يبتسم. استغربت الأمر وتنحنحت فأجفل والتفت إليها.
بقي يتأملها مشدوها إليها وكأنه يراها لأول مرة، فيما لم تغفل هي عن نظراته التي اخترقتها وأذابتها.
شعرت أن نظراته تلك أكثر من أن تتحملها دفعة واحدة. فقلبها ضاعف من خفقانه بعد أن كان قد بدأ بقرع طبوله في الوهلة الأولى التي حطت فيها عيناها عليه... على شيء اسمه محمود...
تمتمت بصوت بالكاد يكون مسموعا: مرحبا.
لم يرد عليها، فرفعت من صوتها: مرحبا.
أعادته مرحبا الثانية من عالمه السحري فحرك رأسه بالإيجاب: كيف حالك؟
ردت: بخير...
تأملها أخيرا وقد قفزت الأفكار إلى رأسه: أين كنت في هذا الوقت؟
رفعت الكيس أمامه: احتجت لضمادات وخرجت إلى الصيدلية...
صمت قليلا ثم اقترب منها: هل أنت تنزفين؟
كانت ستكذب وتقول لا، لكنها وجدت رأسها يهز بنعم إليه وكأن روحها تأبى إلا أن تلجأ إليه...
اقترب أكثر وقد بدى القلق على وجهه: جرحك ينزف وأنت تذهبين إلى الصيدلية في هذا الوقت وتنزلين كل هذا الدرج ! لماذا لم تخبرني بهذا من قبل؟ كنت أحضرت لك ما تحتاجين...
ردت وعيناها متعلقتان بلون العسل في عيونه: أنت لم ترجع اليوم بطوله...
أسكته جوابها، فهو لم يدخل شقته منذ الصباح... لكن مهلا هل بحثت عنه ولم تجده؟ شقت ابتسامة باهتة شفاهه فعرفت سريعا ما يفكر فيه، ولم يكن كبرياؤها ليسمح لها بأن يعرف أنها تهتم لتفاصيل حياته فلم تجد منفذا غير الشقراء: جاءت فتاة شقراء للبحث عنك اليوم... طرقت طويلا دون أن تخرج فعرفت أنك لست هنا...
أومأ برأسه وقد عرف سريعا من تلك الشقراء التي تتحدث عنها فعاد الشحوب ليكسو وجهه.
أعاده صوتها من متاهاته: يجب أن أرتاح... تصبح على خير.
تأملها بود وأنفاسه تتسارع. صوتها العذب الخافت يبعث في نفسه قشعريرة غريبة. قرب رأسه منها وكأنه سيسر لها بشيء من الحمل الذي أثقل كاهله... كان سينطقها وينتهي من كل آلامه شعر برغبة عارمة في أن يبوح لها بما يختلج في صدره وينتهي من هذا الجنون الذي بدأ يعتريه إن لم يكن بقبول واضح منها فربما سيفيق منه على صفعة مدوية تطبع فيها أناملها الناعمة على وجنته.
لا يهم... المهم أنه سينام الليلة خالي الوفاض هانئ البال.




noor elhuda likes this.


التعديل الأخير تم بواسطة rontii ; 24-08-21 الساعة 01:52 AM
بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 03-08-21, 02:32 AM   #18

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي




الفصل الخامس

تأملها بود وأنفاسه تتسارع. صوتها العذب الخافت يبعث في نفسه قشعريرة غريبة. قرب رأسه منها وكأنه سيسر لها بشيء من الحمل الذي أثقل كاهله... كان سينطقها وينتهي من كل آلامه شعر برغبة عارمة في أن يبوح لها بما يختلج في صدره وينتهي من هذا الجنون الذي بدأ يعتريه إن لم يكن بقبول واضح منها فربما سيفيق منه على صفعة مدوية تطبع فيها أناملها الناعمة على وجنته.
لا يهم... المهم أنه سينام الليلة خالي الوفاض هانئ البال.
كانت هي تراقب بريق عيونه وهو يقترب منها على مهل حتى أصبح قبالتها. شهقت شهقة واحدة وشحبت بعدها وهي ترى وجهه يملأ الفراغ أمامها، ازدردت ريقها وهي ترقبه بذهول. حتى نطق أخيرا وعيونه متعلقة بها: تصبحين على خير...
تراجعت بخطوة إلى الوراء ولم يعد يخفى عليه الارتباك الذي تسبب به لها فقد ارتجفت كل أطرافها رغم محاولاتها اليائسة في كبح التوتر الذي أصابها.
هل " تصبحين على خير" خاصته تحتاج لكل تلك الحميمية؟ لم تفهم حقيقة ما يجري لكنها وكالعادة أسرعت الخطوات باتجاه باب شقتها وهي ترد عليه بنبرة جهدت لتجعلها متماسكة وعملية: وأنت من أهله سيد محمود.
بعد أن توارت عن أنظاره وأغلقت البابين معا شد هو على شعره ثم مسح على رأسه بخيبة... لم يستطع أن ينطقها.. خاف من ردة فعلها، ستحطمه إن قابلت مشاعره تلك بالرفض... ستحطم كل آماله وهو في غنى عن مصائب جديدة، لذلك قرر التريث وأخذ الأمور بروية لن يستعجلها في مبادلته نفس المشاعر سيأخذها على مهل ولن يصارحها بشيء حتى يتأكد من أنها لن ترفضه.
عندما انتهت من إقفال الباب الداخلية سمحت لنفسها بأن تتهاوى على أقرب أريكة وأرخت رأسها عليها مغمضة العيون وهي تسحب الهواء لرئتيها بتأنٍ كبير....
زفرت أخيرا وهي تشعر بالوهن. ما باله محمود قبل قليل؟ ما الذي كان يعتزم القيام به قبل أن يغير من رأيه في آخر لحظة؟ تتذكر لفحات أنفاسه القريبة... تنتابها القشعريرة كلما فكرت أنه كان على مقربة شديدة منها لأول مرة في حياته. فهو حتى يوم إصابتها لم يقترب منها بذلك الشكل المريب.
رطبت شفاهها التي تيبست من فرط الصدمة وأنفاسها لا تزال مضطربة. هل تجاهل مقابلتهما الأخيرة في بيتها وتحذيراتها له بالتدخل في شؤون حياتها؟... كانت تتوقعه مستاءً منها وسيرفض حتى التحدث إليها...
مدت يدها لوجهها تتلمس وجنتيها الملتهبتين، ليست الحمى هذا مؤكد! ضمت ذراعيها من حولها ورفعت قدميها على الأريكة محتضنة نفسها مع ابتسامة بالكاد شقت شفتيها...
ما أروعه محمود، رجل لم تتوقع أن تقع في شراكه بهذه السهول!.. تعلم جيدا أنه يعني لها الكثير مهما ادعت غير ذلك... لكن أكثر ما يخيفها فيه هو جهلها التام به... من أين جاء؟ وكيف عاش حياته؟ من هم أهله؟ وهل هو رجل صالح مثلما يتمناه قلبها؟
هزت كتفيها في لا مبالاة... محمود رجل أكثر من رائع وجميع أهل العمارة يشهدون له بهذا... يحترم كبارهم، يلاعب صغارهم، ويساعد محتاجهم... ما الذي قد يعيب رجلا مثله؟
تذكرت اهتمامه بها وعطفه عليها... إنه درع الأمان الذي طالما بحثت عنه في دنيا الذئاب... درع الأمان الذي عبثا بحثت عنه... لتجده اليوم هنا بقربها على كبر...
همست لنفسها وعيونها ساهمة ترسم نظرة حسرة: ما الذي سيقدمه لك الآن وأنت في الخامسة والثلاثين؟... كنتِ أحوج إليه وأنت أصغر، لكنك لم تجدي يوما رجلا يشبهه... غريبة هي الحياة !...
عادت بها ذكرياتها لذلك الصباح المشمس، يوم دخلت منزل بعض أقارب ياقوتة. بعد رحلة شاقة من البلدة إلى العاصمة على متن القطار.
كان خاويا يملأه الغبار. يومها باشرت السعال فور أن بدأت ياقوتة بنزع الملاءات عن آثاثه وترتيب المكان.
تساعدتا معا في تنظيفه وتلميعه ثم قصدتا السوق لشراء بعض اللوازم والطعام، وبعدها جلستا للغداء في أحد المطاعم البسيطة بالمنطقة.
كانت نسرين تتفحص بعيونها المكان وتتبع حركة المرور الكثيفة والأبنية الشاهقة والمحلات... بدت لها حياة غريبة لم تعرفها من قبل بعيدا عن سكون بلدتهم وهدوئها المعتاد.
يومها نظرت إليها جليستها بحنو وقالت: اليوم سنبدأ معا حياة جديدة...
أجل، كانت حياة جديدة تلك التي بدأتها نسرين بعيدا عن كل أسرتها القامعة. أول شيء قامتا به معا هو البحث عن عمل. تمكنت نسرين من إيجاد وظيفة في أحد المطاعم القريبة من الحي أين كانت تتوجه كل صباح لتنظيف الأطباق ولا تعود إلا في المساء منهكة حد الوجع، لكنها كانت سعيدة بكسب رزقها والاعتماد على نفسها... رغم أنها كانت مجرد وظيفة عابرة بلا تعاقد ودون أية شروط بحيث يمكن لصاحب المحل طردها في أي لحظة وبدون تعويض... كانت يومها قاصر والقانون لا يسمح بتشغيل الأطفال القصر، لكنها في أمس الحاجة للمال والواقع يفرض عليها هذه التنازلات...
على عكسها كانت ياقوتة تجني الكثير... لم تكن تعرف حقيقة عملها لكنها لاحظت غيابها المتواصل عن المنزل خصوصا بالليل، حيث كانت توصيها بإيصاد الأبواب والنوافذ وألا تفتح لأحد مهما كان، تركت لها رقم هاتف لتتصل بها إذا حصل أي مشكل وكانت تكتفي بتوديعها بحب وتنصرف.
لم تتجرأ نسرين يوما عن سؤالها إلى أين تذهب... لم تكن في حاجة لتسأل فقد كانت تشاهد شكل ثيابها المبالغ فيها بطريقة مبتذلة، كما أنها استرقت النظر إليها بعد مغادرتها المنزل من شقوق النافذة بضع مرات واستطاعت أن تشاهد السيارات الفارهة التي كانت تقف بعيدا عن المنزل كي تقلها... أي دليل تحتاجه بعد لتفهم ما يدور حولها!.. تأكدت حينها من صحة الشائعات التي كانت تدور حول سمعتها وأخلاقها بالبلدة وعرفت أنها لم تأت من العدم...
ما كان يبعث الطمأنينة حقا في أعماقها هو عدم تعاطي ياقوتة في هذه المواضيع معها... لم تصرح لها يوما بحقيقة عملها ولم تقص عليها من أخباره شيئا... وكأنها كانت تستر عنها الأمر رغم علمها المسبق بذكاء نسرين وفطنتها. بل أكثر من ذلك، ياقوتة حرصت على إيجاد مدرسة إعدادية تزاول فيها نسرين دراستها رغم سنها المتقدمة عن باقي زملائها وكانت تشجعها على رسم خط واضح لها في الحياة، دائما ما كانت تقول لها: أنت في مواجهة مبكرة مع الحياة فإما أن تكوني أو لا تكوني... أنت في مواجهة بلا سلاح... وإن كنت تريدين الصمود فتسلحي بالعلم حتى تبقي في الطليعة...
وكثيرا ما كان صوتها يختنق بغصة عند ترديدها لهذه الكلمات... وكأنها نصيحة لنفسها في وقت متأخر جدا...
*******
جاء الصباح، استيقظت مبكرا اليوم وجلست في المطبخ تشرب قهوتها وهي تتفرج على أشعة الشمس التي تخللت ستائر النافذة بقربها. كانت متفائلة جدا... فكرت مطولا ليلة أمس وقررت إعطاء الضوء الأخضر لمحمود... ستطرق عليه الباب قبل أن يغادر. ستعتذر إليه عن تصرفها الأحمق بلباقة وتصالحه... ربما سيكون لتصرفها هذا ردة فعل واضحة من قبله... إن كان يرغب بها حقا عليه أن يكون واضحا ويلتزم بالقوانين والخطوط المتعارف عليها في مثل هذه الأمور وإلا فستضطر لشطبه من كل حياتها لأنه وببساطة لا ينقصها رجل متلاعب يقلب عليها حياتها رأسا على عقب...
ارتشفت آخر القطرات من كوبها ونظرت إلى ساعة الحائط... مضت عشرون دقيقة حتى الآن منذ أن سمعت صوت جلبة في شقته... وإن كان ذلك موعد استيقاظه فمؤكد سيخرج بعد دقائق...
فتحت باب شقتها وقبل أن تضع قدمها خارجا تحرك مقبض الباب القريبة فأحست بقلبها يهبط بين ضلوعها ، لقد سبقها ولم يمنحها حتى فرصة لالتقاط أنفاسها والعد حتى الثلاثة قبل أن ترن عليه الجرس... ستلتقيه الآن على هذا القرب وسيتغلغل عطره المميز إلى داخلها رغما عنها، ستشعر بلفحة الهواء التي تثير كل حواسها عندما يمر بخطواته المتسارعة، ولن يكون في وسعها فعل شيء لتلك المشاعر الغبية التي تنتابها وتشعر بالضيق منها، إذ أنها اكتشفت أنها خارجة عن سيطرتها تماما... هي التي ضبطت حياتها بشكل متسلسل ومدروس جعلها تقاوم وتحافظ على الصدارة خلال كل تلك السنوات.
بعد برهة خرجت نفس الفتاة الشقراء التي شاهدتها عند باب شقته من قبل وهي تحدثه بهمس لم يصل مسامعها، إلا أنه أثار الريبة داخلها. ثم ختمت تلك الكلمات بابتسامة دلال جعلتها تشعر بانقباض في معدتها، وقبل أن تغادر اقتربت منه وقبلته... لم تكن تعرف أين حطت بشفاهها، على خده أم على شفاهه فقد كان متواريا داخل الرواق بحيث لا هو رآها ولا هي ميزته... لكنها شعرت بماء بارد ينسكب عليها حتى أنها ارتجفت وهي على وقفتها تلك، لم تصدق عينيها وحاولت أن تعلل ما شاهدته على أن المرأة تحدث مجهولا وقد لا يكون محمود هو الواقف إليها.
بعد ابتعادها بخطوات في ملابسها الغالية وقبل أن تمر بجوارها لم تنس أن تمنحها ابتسامة مودة لم ترد عليها نسرين بسبب تجمد كل عضلاتها من هول ما شاهدته.
أطل محمود خلفها وكأنه أبى إلا أن يشيعها بعينيه وهي تختفي نزولا على تلك الدرجات، ونسرين تحدق فيه بتيه... وكأنه تعمد أن يكسر كل تلك الأكاذيب التي اخترعتها لتخدع عقلها وتوهم نفسها...أطل عليها ببساطة كصفعة مدوية تحطها أمام الأمر الواقع...
محمود لديه حبيبة !!!
نظر إليها بدهشة عندما لاحظ وجودها على الباب. خرجت بتوقيت خاطئ وستفسر الأمور بطريقة سيئة... إنه متهم، عرف هذا من لمعة عيونها... ونظرة العتاب ما بين أهدابها.
ازدرد ريقه بتيه... الموضوع متشعب وسيطول شرحه... من أين يبدأ يا ترى؟ "عليك اللعنة يا مروى !" هذا ما استطاع ترديده من بين أسنانه وهو يحاول إيجاد كلمة واحدة يخمد بها تلك النيران التي أطلت من عيون نسرين... فقط لو كانت تعرف بماضيه وتفاصيله المعقدة، لكان ما شاهدته الآن أمرا هينا يسهل شرحه... لكن الآن الله وحده يعلم أي أفكار تتلاعب بعقلها...
استجمع قواه وابتسم في وجهها كعادته حتى لا يفضحه اضطرابه أكثر: كيف أصبحت؟
ابتسامته الخائنة أربكتها، فتجمعت الدموع بعينيها في لحظة عجز لم تعرف مثلها في حياتها... لم ترد عليه بكلمة وأسرعت في دخول الشقة وإقفال الباب خلفها...
أسندت ظهرها عليه وهي تضع كفها على شفاهها لتكتم شهقات كانت تحس بها لظى على فوهة بركان...
في أي مأزق وقعت يا االله !... كانت في عمى تام عن حجم تلك الأحاسيس التي يراكمها قلبها في صمت... لم تستطع أن تتماسك وتهاوت أرضا وعقلها يرسم لها خيالات لحبيبين عاشقين أمضيا وقتا لا بأس به في الداخل، في الوقت الذي كانت هي تبذل فيه جهدها لإعطاء الضوء الأخضر له حتى يحدد ما يريده منها بالضبط...
لم تفهم لماذا كانت تشعر أنه مهتم بها... هي كأنثى فطنة وحادة الذكاء لم تخف عنها تلك الرغبة التي كانت تطل من نظراته مع كل خطوة يقترب فيها منها... هل كانت غبية؟ أم أن ما عاشته في سنواتها القاحلة جعلها تخطئ تفسير الأمور؟.. هل سيترك فتاة بتلك الجاذبية الساحرة والإغراء ويهيم حبا بها هي التي لم يكن لها وجود في حياته قبل شهور؟
شعرت بنيران تلتهب داخلها… إنها الغيرة تتآكلها وتدق عظامها في وقت أبكر بكثير مما كانت تتوقعه... سمعت طرقاته على الباب وهو يقول: نسرين... نسرين أنت بخير؟
ترديده لاسمها بصوته القلق في اهتمام صادق جعلها تكره نفسها أكثر، لربما كان اهتمامه بالآخرين صفة مميزة له لا يخص بها شخصا معينا وهي التي قادتها أفكارها للسير على هذا المنحى المخالف ! حاولت استجماع قواها ولملمت بقايا كرامتها وهي تأبى أن تكون فاشلة من الطراز الأول. حاولت أن تستحضر صلابتها المعهودة وهمست له من خلف الباب: أنا بخير... أشعر بدوار وأريد أن أنام.
لم يغفل تلك الرجفة في صوتها والتي خانتها في كلمتها الأخيرة، فرد عليها بقلق: افتحي الباب... من فضلك..
بالنسبة إليها الموت متكومة هناك عند الباب أهون عليها من أن تفتح له ليشاهد انكسارها... أهون بكثير من أن يحس بلوعة قلبها عليه...
مسحت دموعها بأكمام ثوبها بعنف وحاولت الوقوف وهي تضع يدها على موضع جرحها... لم تنتبه لنزيفه ولم تشعر أن الدماء غطت أصابعها... مسحت وجنتيها وفتحت النافذة الصغيرة بالباب الحديدي وبفرط كبر نظرت إليه وكأنها ليست الكسيرة التي كانت عليها قبل قليل: سيد محمود... أنا بخير، يمكنك الانصراف...
بقي مشدوها إليها للحظات يعاين ملامحها فيما تفاجأت هي من تحديقته تلك. ليسألها بريبة: ما به وجهك؟
لم تفهم قصده، فنظرت إلى مقبض الباب اللماع لتظهر لها آثار دماء على وجهها... تأملت أصابعها المرتعشة من فرط ارتباكها وكانت مطلية بالدماء. قال لها بقلق: أنت تنزفين مجددا يا نسرين؟
أصبح اهتمامه بها أمرا يفقدها أعصابها... أصبحت الآن تشعر بأنه مخادع لعوب، فصاحت به بفرط غيظ والعبرة تخنقها: ما يصيبني يخصني وحدي... حذرتك ألا تقتحم حياتي... غادر وحسب...
وأغلقت تلك النافذة الوحيدة بينهما بشدة فأقفلت معها في وجهه كل المنافذ للتواصل معها. طرق على الباب بقوة أكثر من مرة وهو يطلب منها أن تفتح له، لكنها سارت مبتعدة تذرف دموع قهرها واختبأت بغرفتها أين استلقت على سريرها ووضعت وسادة على رأسها تسد بها أذنيها حتى لا تسمع صوته الذي لم يكف عن مناداتها باسمها وهو يلح عليها في أن تفتح الباب وقد ازداد قلقه عليها بعد أن شاهد تلك الدماء تغطي ملامح وجهها...
أغمضت جفنيها بتعب، وكأنها تريد الدخول في غيبوبة لتنساه... كانت تشعر برغبة ملحة في النوم... تريد أن تدخل عالما آخر تنسى فيه واقعها المر للحظات...

ليست تدري كم من الوقت غفت لكنها استفاقت على طرق عنيف على الباب مع رن متواصل على الجرس. هل هو محمود عاد لإزعاجها؟ كانت تعلم أنه لن يفلتها بهذه البساطة.
نظرت إلى سريرها المغطى بالدماء وهالها منظره... لم تكن تعلم أن نزيفها هذه المرة حاد لهذه الدرجة.
بالكاد استطاعت الوقوف على قدميها وسارت مترنحة بسبب الدوخة التي أصابتها فور وقوفها... أصبحت الرؤية أمامها ضبابية وكادت تتهاوى أرضا لكنها استجمعت قواها وخطت نحو الباب القريبة. أدارت مقبض الباب الأول وفتحته وكذلك فعلت مع الثاني وما إن انتهت من ذلك حتى تهاوت أرضا.

******
كانت سهام جالسة في ركن بالمشفى ودموعها على خديها. لا جديد عن حالة ابنها، الألم يمزق أحشاءها ويحرق قلبها وما باليد حيلة. ظلت طوال الوقت تدعو له بالنجاة... رجت الله أن يحفظه لها ووعدته بأن تتبع الطريق الأصح... كانت تشعر أن هذا عقاب مباشر لها ومن نفس جنس عملها... أتت بقارورة الدواء لتضع منها في طعام زوجها فشربها ابنها الصغير دفعة واحدة وها هو الآن يرقد هنا بلا حول ولا قوة، معلق إلى هذه الحياة بخيط رفيع مهددا بالرحيل في أي لحظة...
ذلك الشيخ دمر كل حياتها... كانت تتوقع الفرج على يديه فإذا به يقذف بها إلى التهلكة... إنه شيطان في حُلّة واعظ... لطالما انخدع الناس بزيف هذا الصنف من البشر... يجاهرون بالصلاح والحكمة... يباهون بالعفة والطاعة التامة لله، وبكرامة منه تعالى منّ بها عليهم أبا عن جد، وعلم غيبي يمكنهم من شفاء المريض، تزويج العانس، وإصلاح أحوال الناس... وفي حقيقة الأمر ما أولئك إلا سحرة ومشعوذين يستغلون سذاجة من هم في حاجة لمعجزة تنقذهم مما هم فيه... ويكون أغلبهم ممن تقطعت بهم السبل وأرهقتهم الهموم فزيف لهم الشيطان طريق الخلاص، فبدلا من اللجوء إلى الله سبحانه وتعالى يلجؤون إلى من هم دونه... إلى المشعوذين والدجالين الذين يأكلون أموالهم وما يزيدونهم غير تخسير...
أيقنت سهام وأمها بهذا في وقت متأخر جدا... اكتشفتا الآن غباءهما الذي أودى بهما إلى طريق مسدود... أرادتا الخلاص من الهم ففاجأهما الهم والغم من حيث لم تدريا ولم تحتسبا... وصار النكد في حياتهما أضعافا مضاعفة...
مسحت دموعها وقد تحول بياض عيونها إلى حمرة. التفتت إلى حيث كان يقف زوجها وهو منهك وفي حالة قلق شديد.
لم يكلمها منذ الأمس ولم يقف إلى جوارها مطلقا... وكأنه يلومها بطريقة أو بأخرى... الصغير ابنهما وهي المكلفة برعايته... وكما يبدو لم تكن على هذا القدر من المسؤولية... لن تلوم غضبه إن كانت هي نفسها لا تسامح ذاتها...
دخل محمود القاعة وتوجه إلى سليم الذي كان يجلس وحيدا مهمومًا ألقى التحية وجلس بجواره: كيف أنت عم سليم؟
تنهد سليم بأسى ورفع رأسه إلى محمود بامتنان: كما ترى يا محمود... الوضع كما تركته البارحة لم يتغير منه شيء... أشكر لك لطفك واهتمامك...
رد عليه محمود وهو يتابع بعينيه فادي الذي سار باتجاه الطبيب: لا تقل هذا... نحن جيران..
بعد أخذ ورد مع الطبيب عاد فادي أدراجه وعلامات الاطمئنان على وجهه. اقترب منهم وكانوا على أحر من الجمر لسماع الأخبار وقد تأهبوا جميعهم وقوفا. ما إن صار فادي على مقربة منهم حتى قال بفرحة: يقول الطبيب أن أنس بخير وسيتم نقله من الطوارئ ويمكننا رؤيته...
تهللت أسارير الجميع حمدا وشكرا لله تعالى بينما راحت سهام تعانق هناء بفرحة وهي تردد بذهول: الحمد لله... لقد استجاب الله لدعائي... الحمد لله...
في هذا الوقت بالذات وصلت أمها سامية مع والدها مصطفى وأسرعوا باتجاههم يتوقعون سماع أخبار سارة بعد أن شاهدوا تلك الفرحة في عيون الجميع.
سار محمود مبتعدا بعد أن اطمأن على حال الصغير وترك أهله يتشاركون فرحة سلامته. وراح باتجاه جناح الاستعجالات أين ترك الممرضين يقومون بنقل نسرين إلى الداخل فيما تم منعه من تجاوز البوابة.
عندما وصل سأل عنها وتبين أنهم قد انتهوا للتو من مداواة جرحها وتضميده وتم نقلها لغرفة قريبة أين زودوها بمصل مغذي.
توجه إلى الغرفة المنشودة وهو يفكر من أين يبدأ حديثه معها وكيف سينتهي ! فبعد أن أقفلت الباب في وجهه وتركته دون جواب لم يهنأ له بال وهي على تلك الحال، انتظر بعض الوقت وصول رفيقتها ياقوتة اعتقادا منه أنها ستطلب معونتها لنقلها إلى المشفى، لكن بعد قليل من الزمن تأكد أنها لا تهتم لما يصيبها، فما كان منه إلا أن طلب الاسعاف وتوجه مع الممرضين إلى باب شقتها أين طرقوا عليها الباب مطولا قبل أن تفتحه وتتهاوى أرضا من فورها في حالة اغماء.
جن جنونه وهو يشاهد ما هي فيه دون أدنى اكتراث منها... استاء منها ومن نفسه ومن كل ظروفهما... ما الذي عساه يقدمه لها وهي ترفضه بشدة... ترفضه أكثر من السابق غير أنه هذه المرة تأكد من أن رفضها له هو بسبب الجرح الذي سدده لقلبها باقتناص... يكاد يكون متأكدا أن ما أصابها ليس إلا صدمة وخيبة بسبب مروى وزيارتها الغير متوقعة... لا والأدهى فاجأته بقبلة وداع على مرأى من نسرين ! كيف لا يجن جنونها بحق الرحمان !!!
مسد جبهته زافرا وهو يتوقع عناد نسرين وشموخ أنفها... هي لن تتقبله بهذه السهولة. فحتى في حياته العادية لم تلن له بتلك البساطة، ماذا الآن وقد اكتشفت وجود أنثى أخرى في حياته !..
وقف عند باب غرفتها وتأملها وهي ممددة على سريرها في انهاك. انتظر خروج الممرضة التي كانت توصل المصل بذراعها ثم دخل.
اقترب منها على مهل وهو يتأملها بقلب يئن من الألم، حقا لا يحتمل كل ما يصيبها... فقط لو تمنحه الفرصة ليعتني بها كما يجب لما سمح لنسمة الهواء الباردة بأن تلسعها...
عندما أصبح على مقربة منها وضع كفه على الوسادة بقربها فأجفلت وفتحت عيونها... كانت تتعمد ابقاءهما مقفلتين حتى تتجنب التواصل معه بأي طريقة لكنه كان أكبر من أن تتجاهله...
سألها بصوت هامس: كيف تشعرين؟
من دون تفكير أجابته بغيض: بالسم... لديك مانع؟
ابتسم من ردة فعلها ورطب شفاهه ثم جلس على السرير بقربها وأمسك بكفها في حنو. فتحركت بتعب وحاولت سحب كفها منه بالقوة: ما الذي تعتقد أنك فاعله أيها الوقح السمج !...
يا إلهي ! لم تخيب ظنه فقد توقع أن يحظى منها بشتيمة أو اثنتان !، ما جعل ابتسامته تتوسع وهو يهز رأسه نفيا: كوني عاقلة... لا تقولي مثل هذه الأمور...
نفضت يدها منه: أتركها أو سأعضك...
كان سيستلقي على قفاه ضاحكا وهو يشاهد عيونها المتوسعة بحذر وتلك الوضعية الدفاعية التي اتخذتها، متأكد أنها ورغم مرضها قادرة على الالقاء به من نافذة المشفى إن استمر في التودد إليها بتلك الطريقة.
ترك يدها وهو يعود لرشده وبجدية همس لها: نسرين... أعلم أنني مدين لك بتفسير. أرجوك لا تأخذي الأمور بحساسية مفرطة... ستفهمين كل شيء.
ردت بسخط: أفهم ماذا يا زير النساء؟
ورفعت سبابتها في وجهه: أنا أحذرك... لست لقمة سائغة فلا تضيع وقتك معي... أهذا مفهوم؟
أشار لها بكفه حتى تتوقف ثم نطق: مروى خطيبتي السابقة وقد جاءت لزيارتي لأنها تريد أن نعود لبعضنا البعض...
شحب لونها وهي تراقبه بذهول، فيما أغمض هو عيونه مفكرا من أين يبدأ شرحه لها. ساد الصمت للحظات قبل أن يفتح فمه من جديد: نحن أصدقاء منذ الصبى وقد خطبنا لسنتين كاملتين قبل أن ننفصل... حصلت مشاكل عديدة وقررت تركها. لكنها لا تريد... حسب ما قالته صباح اليوم يمكننا المضي قدما...
بنفس ذهولها السابق أجابته: هنيئا لكما... فكما يبدو لي سارت الأمور بينكما بشكل جيد... لقد فهمت الموضوع، أيمكنك أن تقوم من سريري الآن وتتركني وشأني؟
هز رأسه نفيا وهو يتابع: أخبرتها أننا لن نتزوج وأنني لم أعد أحبها...
أجابته باشمئزاز: كلكم متشابهون ما إن تنتهون من امرأة ما حتى تلقونها سلعة كاسدة لا أمل منها !
رد عليها بطول بال: لا أعتقد أنني أحببتها في الأصل... مروى فتاة جميلة وأي رجل كان ليتمنى أن تكون زوجته، والدها من أثرياء البلد وهي واجهة اجتماعية ممتازة، لربما سابقت أقراني ونجحت في الفوز بها لكنني كنت أبلها لأنني لم أفكر فيما أريده أنا كل همي كان التباهي...
زفر بضيق ثم تابع: نسرين، أنا لم أكن يوما ما أنا عليه اليوم... لطالما كنت فتا غرا مباهي لا يفكر بتاتا... لكن الحياة هذبتني، الظروف الصعبة التي واجهتها بالسنوات الأخيرة علمتني الكثير...... واكتشفت أنني لم أكن أعيش حياتي أنا... لقد كنت أعيش على مزاجهم هم... أقصد أبي وحتى مدير أعماله فهما اللذان يمليان علي ما أفعله ويتخذان القرارات نيابة عني... لكن بعد أن حدث ما حدث وجربت العيش منعزلا وحيدا... بعد أن اضطررت لتغيير مسكني مرة بعد أخرى، وتجريب عديد من الأحياء السكنية من المتوسطة حتى الفقيرة، بعد أن احتككت بمختلف شرائح المجتمع تعلمت أن أكون إنسانا... اكتشفت من أنا وماذا أريد...
كانت حتى الآن ساهمة فيه تحاول استيعاب ما يقوله بصوته المتأثر بكل جملة ينطقها... وبعد صمته لم تجرؤ على التعليق بكلمة، فرفع رأسه إليها مبتسما وتابع: مروى بحثت عني طويلا وتمكنت من إيجادي أخيرا...
لا حظ امتعاضها عندما أتى على ذكر اسم خطيبته السابقة فتابع بهمس: أخبرتها أنني لا أحبها، وأننا لن نصلح للعيش مع بعض فكل قناعاتي قد تغيرت... كما أنني صارحتها أنني أحب فتاة غيرها...
تعلقت عيونها الكحيلة بعينيه العسليتين في ترقب وقلبها يدق بتسارع... حتى أنها استرقت شهقة لأنفاسها المتقطعة وبقيت تحملق فيه بذهول. فيما اقترب هو منها ولامس بكفه خدها الناعم ليداعب بإصبعه وجنتها التي أصبحت بلون الورد من شدة الخجل، حتى أن حماسها له أنساها أن تركله بعيدا مثلما قد تفعل وهي في كامل وعيها بعيدا عن سطوة سحره التي تفقدها رشدها...
اقترب أكثر ليهمس لها عن قرب فأغمضت عيونها وكأنها تجنب نفسها الغرق في بحاره وانتظرت كلماته بفارغ الصبر، فلم تطرق أذنها غير كلمات الطبيب وهو ينهرهما بعملية شديدة: سيدي... ليس هذا مكانا مناسبا للرومانسية، هلا تركت الآنسة ترتاح... من المفروض أنها ترقد ممددة على السرير حتى لا يعاودها النزيف مجددا... وأنت سيدتي. هلا التزمت بالتعليمات التي قُدمت لك حتى تحافظي على سلامتك.
هزت رأسها بنعم وقد أصبح وجهها بلون الفراولة، بينما رد عليه محمود بدعابة: لا تقلق دكتور، سأهتم من اليوم وصاعدا بها شخصيا ولن يصيبها أي مكروه.
خرج الطبيب من دون تعليق، فنظرت إليه نسرين بعتاب دون أن تقول أي كلمة، وماذا عساها تقول بعد أن عبث بمشاعرها وبعثر كل أفكارها تاركا إياها تتخبط في أحاسيس معقدة تستعذبها وتخاف منها في الوقت عينه. كان هو ينظر إليها بشغف، مضى زمن طويل منذ أن شعر بهذا الاحساس الحارق... إنه مزيج من العطف والرغبة والتملك...
رمق كيس المصل المعلق بنظراته المتذمرة وزفر ليبرد قلبه المتقد، ثم قال وهو يشيح بنظراته بعيدا عنها: متى سيفرغ هذا يا إلهي!

ساعدها على الجلوس بالمقعد الأمامي وهو يرجع مسند الظهر للخلف قليلا حتى لا يوجعها جرحها، ثم سار حول السيارة وجلس بمقعده مقفلا الباب خلفه. نظر إليها بود فتظاهرت بتثبيت غطاء رأسها حتى تجعل كفها يفصل بين عيونه وعيونها... لا تريد أن تصطدم معه في نظرة واحدة مخافة أن تفضح مشاعرها أمامه... يجب أن لا تترك كل أوراقها في مرمى بصره...
سألها بعد أن يئس من أن تجود عليه بنظرة واحدة: هل تشعرين بتحسن؟
هزت رأسها هامسة: أفضل...
شغل محرك السيارة وانطلق باتجاه الحي السكني وطوال الطريق ظلت صامتة لا تتفوه بأي كلمة، فيما فضل هو التركيز أمامه بدلا من فتح أي مواضيع معها تشتت انتباهه أكثر.
ليس لديها أي فرصة لرفض مشاعره لأنه وببساطة لن يسمح لها بهذا... لن يسمح لكبريائها وعنفوانها أن يقفا حائلا دونهما. يعلم جيدا أنها تبادله أحاسيسه لكنها تخاف البوح بها لسبب أو لآخر... وعاجلا أم آجلا ستصبح عاجزة عن مواراة شعورها ولن ترفض حبه لها.
عندما اقتربا من الحي سألها وهو لا يحيد بنظراته عن الطريق أمامه: إن قُدر لك العيش خارج البلاد فأي دولة ستختارين؟
تفاجأت من سؤاله الغريب وتمتمت: عفوًا؟
كان قد فكر طوال الطريق واعتزم أخيرا أن يأخذها معه ويرحل... إن قُدر له الرحيل هربا من العدالة والعيش في الغربة فإنه لن يكون وحيدا بعد اليوم... نسرين ستكون معه، وسينسى رفقتها ألم المنفى الذي سيعيش فيه...
ساعدها على النزول من السيارة وهي تحاول تجنب لمساته وعيونها المتوجسة تجول في الأرجاء مخافة أن يشاهدها الجيران وتصبح علكة الألسن للأيام القليلة المقبلة.. انتبه لنظراتها الشاردة من حولها فاستوعب مخاوفها، مالت شفاهه بابتسامة وهو يأخذ بذراعها: دعك مما يقوله الآخرون أرجوك...
نفضت ذراعها من بين يديه ورمقته بزاوية عينها: يمكنني السير...
أجابها: أكيد طبعا... ما رأيك أن نتسابق حتى الباب !
ناظرته بسخط لتهكماته، فيما حملق هو من حوله ليعرف من من الجيران سيسرع في نقل أخبارهما وإذا به يلمح نفس الفتى الذي أطلق عليها النار يسترق النظر إليهما من وراء صناديق الفاكهة بالمحل القريب والذي سرعان ما تظاهر بمساومة السلع.
أمسك فجأة بذراع نسرين وسحبها إليه وهو يردد بهلع: تعالي... ماذا لو حاول مرة أخرى؟
أدهشتها كلماته فبحثت عن جواب لها في المكان الذي تثبتت عليه عيونه لكنها لم تجد جوابا.
التفتت إليه مرة اخرى تطالب بتفسير: ماذا كنت تقول؟
دفعها لتكون خلفه وهو يهمس: إنه الشاب الذي أطلق عليك النار... أنا متأكد...
ضربت هذه الكلمات كخنجر مسموم بقلبها على حين غرة حتى كادت تتهاوى أرضا... هل ذلك الشاب هو أخوها الأصغر وليد الذي حاول قتلها قبل أيام؟... حتى أنها لم تتعرف عليه !
عندما لمحت جاهزيته لمهاجمته، شدت بأناملها على قميصه من وراء ظهره، وبالكاد استطاعت أن تقول له: محمود... دعك منه، قد يكون مسلحًا...
استدار إليها وجعلها تدخل السيارة من جديد وهو يشير لها بالسكوت، بينما ظلت هي تتعلق بثيابه وأكمامه محاولة منعه من التصادم معه.
استطاع تخليص نفسه من محاولاتها اليائسة في ثنيه عما سيقوم به، وأسرع الخطوات باتجاه محل الفواكه أين كان ذلك الشاب لا يزال واقفا، لكن قبل أن يصل إليه غادر على عجل، فصاح به: أنت، هلا انتظرت لحظة !
لم يلتفت إليه الشاب وهرول ركضا من فوره ما جعل محمود يركض خلفه بقوة محاولا اللحاق به.
كانت نسرين تتفرج عليهما وهي جالسة بداخل السيارة وسرعان ما خرجت صافقة الباب بشدة خلفها، وحاولت التعجيل في اللحاق بهما لكن جراحها منعتها من حث الخطى فبقيت تتلوى من الألم ويدها اليسرى على جرحها فيما تشد اليمنى على مقدمة السيارة.
في هذه اللحظة خرجت ياقوتة من داخل العمارة ومشت باتجاه سيارتها للمغادرة، وبالكاد استطاعت نسرين أن تلمحها قبل أن تترك الموقف فنادت عليها وتماسكت لتسير حتى تستطيع رؤيتها. لوحت لها بضع مرات فانتبهت ياقوتة إليها، وسرعان ما عاودت ركن سيارتها وأسرعت باتجاهها.
أمسكت بها وأسندتها إليها وهي تقول بصدمة: نسرين ! ما الذي تفعلين هنا وحدك على هذه الحال؟
ردت باقتضاب: أوصلني محمود... إنه يطارد وليد...
رفعت ياقوتة حواجبها وبقيت مدهوشة ثم نطقت بخوف: ماذا لو كان مسلحًا...
ازدادت مخاوف نسرين وقد أصبحت شاحبة شحوب الموتى: حذرته لكنه لم يسمعني...
نظرت ياقوتة من حولها في حيرة علها تبصر محمود عائدا صفر اليدين لكن لا أثر له: اطمئني نسرين... لا تخافي... على الأقل لم نسمع صوت إطلاق النار بعد.
شهقت وهي تضع يدها على صدرها، وهدرت فيها بغضب: أهذا ما تنتظرينه ! أن يرديه قتيلا !...
وتابعت وقد تجمعت الدموع بعينيها: لماذا هم هكذا؟ مازالوا يصرون على تحطيم سعادتي وكل أحلامي... أمضيت كل أعوامي السابقة كآنية عتيقة من التراث على أحد الرفوف المهجورة التي حاكت عليها العنكبوت خيوطها... واليوم عندما ظهر محمود بحياتي اشتموا رائحته وجاؤوا كالكلاب المسعورة لتدمير أي سعادة قد تنبت في قفاري...
فغرت ياقوتة فاها وهي تحملق في صديقتها بدهشة: أنت !.... نسرين !.. أنت تحبينه؟
بدى سؤال ياقوتة مستفزا لها وتلك الضحكة على شفاهها تجعلها تشعر بالحنق وكأنها تسخر منها ومن عهودها السابقة بأن لا يدخل حياتها أي رجل ينصب نفسه سيدا عليها... لكنها لم تبد غيظها وزفرت بتعب: أين هو الآن؟

*********

خرجت من غرفة صغيرها وهي تمسح دموعها الحارقة، رؤيته على تلك الحال أفقدتها صبرها ونهشت كل قوة بقيت لديها. إنه ضعيف يئن من الألم بوجه ملائكي هادئ. تمنت لو أنها الراقدة هناك لا هو... أرادت أن تدفع هي ثمن أفعالها لا ابنها، لكن الحياة اختارت أن تعاقبها بالطريقة الأسوأ...
خرج من بعدها فادي وهو يبصر بعينين ذابلتين إنهاك روحها ووجع قلبها. التفتت إليه برجاء، وارتمت في حضنه بحثا عن دفئ يغدقه عليها من بين ضلوعه. تشبثت بثيابه كما يتشبث الغريق بقشة عرض البحر وشهقت بحرقة وضياع...
بحثت عن الأمان... عن دفقة مشاعر تخمد لهيب قلبها. عن سند يخبرها أنها ليست وحيدة وأن كل شيء سيكون بخير...
ربت على ظهرها بكفه الباردة وقال بصوت هامس: لا تقلقي... قال الطبيب أنه سيتحسن...
وأبعدها عنه حتى يتسنى له رؤيتها ثم تابع: اغسلي وجهك وعودي للبقاء بقربه. سيحتاج إليك...
أومأت موافقة وانصرفت من أمامه قاصدة حمام النساء، انتقلت أفكارها من مصيبتها الأولى إلى مصيبتها الثانية... فادي.
ما باله يعاملها بكل هذا الجفاء؟
لا تفهم من أي حجر نحت قلبه ومشاعره ! توقعت أنه سيكون بمنتهى الانسانية ويمدها بشيء من الحب لتستطيع مجابهة الأزمة... لكنه مازال يراها مذنبة رغم أنه لا أحد عرف بماهية الشراب الذي كاد يودي بحياة الصغير. فقد حرصت أن تخبرهم أنه خلطة عشبية لتشقق القدمين ولم يبحث أي منهم في التفاصيل، ففكرة الشعوذة والدجل أبعد من أن تخطر على بالهم. كل همهم كان منصبا على الصغير وحالته، ولم يخطر لأحد أن يخوض في الموضوع، وكما هو حال سهام كانت حماتها تشعر بالمسؤولية، فقد كان الصبي في عهدتها، أما فادي فقد ظل كاظما لغيضه محافظا على هدوئه... خبر نجاة ابنه شفع لسهام و أمه. لذا قرر أن يلتزم الصمت ريثما تهدأ النفوس. ولا يعني هذا أن سهام سوف تنجو من تعنيفه وتذمره... إنها مسألة وقت ليس إلا...
فتحت صنبور المياه وراحت تغسل وجهها مرة بعد أخرى وهي تجعل شعرها الأحمر خلف عنقها. لم تمشطه منذ الأمس وليست تدري بأي مظهر كانت هناك بأروقة المشفى... هزت رأسها نفيا وهي تؤكد لنفسها أنه ليس لما يقوم به فادي أي علاقة مع مظهرها. فهو يتصرف بفضاضة حتى عندما تكون على أبهى صورة وفي أجمل حلة... مشكلته عميقة ورأسها سينفجر دون أن تعرف ما هي بالضبط...
ربما هذا الذي جعلها تصدق أنه سحر وأمور من الروحانيات، فغالبا عندما نعجز عن حل مشاكلنا والوصول لأغوارها نعلقها على الحظ والقدر والمكتوب والسحر وأشياء لا طاقة لنا بها فقط لنبرر عجزنا ولنُبْقِيَ على شموخنا في عيوننا...
وقفت خلفها مباشرة امرأتان دخلتا للتو وهما تكملان حديثا بدأتاه خارجا. كانت واحدة منهما تسرد على الثانية أخبارًا والأخرى تصدر أصوات متعجبة ومستنكرة وأحيانا متضامنة... كانت تقول: "...في ذلك اليوم تتبعته بسيارتها حتى مقر عمله. وبقيت هناك حتى خرج فلحقته مجددا دون أن يلحظها فتوقف قرب إحدى البنايات ونزل وفي يده علبة كبيرة ثم صعد الدرج... لحقته بخفة وتبين أنه يملك مفتاح احدى الشقق... بعد دخوله مباشرة بنصف ساعة رنت الجرس ففتحت لها الباب امرأة وتبين أنها زوجته الثانية منذ عامين دون معرفتها..."
ردت الثانية بعبارات مستنكرة وبقيتا تثرثران فيما كانت سهام جاحظة العينين تراقبهما عبر المرآة في ذهول...
هل كان على المرأة تلك أن تلعب دور المحقق لتتخلص من شكوكها وكل وجع الرأس... هل كان عليها أن تخطو خطوة كتلك للوصول إلى الحقيقة؟...
لو لم تبحث عن الحقيقة بنفسها لما كانت لتعثر عليها مطلقا!




noor elhuda likes this.


التعديل الأخير تم بواسطة rontii ; 24-08-21 الساعة 01:50 AM
بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 04-08-21, 01:25 AM   #19

ebti

مشرفة منتدى قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية ebti

? العضوٌ??? » 262524
?  التسِجيلٌ » Sep 2012
? مشَارَ?اتْي » 14,201
?  نُقآطِيْ » ebti has a reputation beyond reputeebti has a reputation beyond reputeebti has a reputation beyond reputeebti has a reputation beyond reputeebti has a reputation beyond reputeebti has a reputation beyond reputeebti has a reputation beyond reputeebti has a reputation beyond reputeebti has a reputation beyond reputeebti has a reputation beyond reputeebti has a reputation beyond repute
افتراضي

ليلتك سعيدة ... امس نزلت الفصل الخامس فهل هناك خطأ به او هو لخبطة منك اعادة تنزيله الليلة ؟...

بانتظار ردك حتى يتم حذفه وتنزيل فصل اليوم...


ebti غير متواجد حالياً  
التوقيع
إن كرماء الأصل كالغصن المثمر كلما حمل ثماراً تواضع وانحنى"
هكذا عرفتك عزيزتي um soso و هكذا تبقين في قلبي شكراً جزيلاً لك على الصورة الرمزية...

رد مع اقتباس
قديم 04-08-21, 02:00 AM   #20

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ebti مشاهدة المشاركة
ليلتك سعيدة ... امس نزلت الفصل الخامس فهل هناك خطأ به او هو لخبطة منك اعادة تنزيله الليلة ؟...

بانتظار ردك حتى يتم حذفه وتنزيل فصل اليوم...
هي لخبطة مني رجاءً احذفي الفصل المكرر


بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:36 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.