آخر 10 مشاركات
فوضى فى حواسي (الكاتـب : Kingi - )           »          و حانت العــــــــودة "مميزة و مكتملة" (الكاتـب : nobian - )           »          أهدتنى قلباً *مميزة و مكتملة * (الكاتـب : سامراء النيل - )           »          92 - حنين -روايات أحلام قديمة (كاملة) (الكاتـب : بلا عنوان - )           »          عمل غير منتهي (85) للكاتبة : Amy J. Fetzer .. كاملة مع الرابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          على فكرة (مميزة) (الكاتـب : Kingi - )           »          [تحميل] كنا فمتى نعود ؟للكاتبة/ الكريستال " مميزة " (جميع الصيغ) (الكاتـب : فيتامين سي - )           »          زوجة اليوناني المشتراه (7) للكاتبة: Helen Bianchin..*كاملة+روابط* (الكاتـب : raan - )           »          سيكولوجية المرأة (الكاتـب : Habiba Banani - )           »          العروس المنسية (16) للكاتبة: Michelle Reid *كاملة+روابط* (الكاتـب : * فوفو * - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

Like Tree35Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 04-08-21, 02:04 AM   #21

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي






الفصل السادس

غربت الشمس قبل قليل دون أن يرجع محمود إلى الحي.
تمددت نسرين على الأريكة بعد الصلاة وقد بلغت من التوتر أشده، ترمق ساعة الحائط كل بضع ثوان وتطلب من ياقوتة أن تطل من الشرفة علها تبصره بالشارع وقد عاد أخيرا من مطاردته تلك.
وضعت كفها على صدرها تحاول كتم تلك المشاعر المرعبة التي تنتابها وهي تردد بهمس بين شفتيها: يا رب... يا رب...
دخلت ياقوتة أخيرا من الشرفة فتعلقت بها عيونها وقبل أن تنطق أجابتها: لقد عاد...
استرخت نسرين على الأريكة حامدة الله فيما حركت الأخرى ملامحها مستفزة لها: جاء على حصانه الأبيض...
لم ترد عليها نسرين ما جعلها تجلس قبالتها وهي تصغي باهتمام: ها.. أخبريني كيف صارحك بحبه؟
حدقت بها للحظات قبل أن تجيب: لم يصارحني بعد..
تصنعت عدم تصديقها وهي تقول: عندما كدت أهشم الباب طرقا ورنا على الجرس خرج أحد الصبيان من الجيران وقال لي: "نسرين بالمشفى، استدعى خطيبها الاسعاف ونقلوها صباحا" وعندما سألته من خطيبها هذا؟ قال لي "السيد محمود..." متى خطبتما؟... هل هذه هي نهاية العشرة بيننا تُخطبين ولا تخبريني !
علت الدهشة وجه نسرين وهي ترد باندفاع: ليس خطيبي... كل ما في الأمر أنه... أنه...
وغابت عنها الكلمات لتتابع بتيه: لا أدري... هو لم يحسم قراره بعد... لم يخبرني أي شيء وأرفض تأويل الأمور على منحى خاطئ...
صمتت ياقوتة لبعض الوقت ثم تكلمت: يبدو لي شابا مناسبا لك...
رفعت رأسها إليها: لماذا تقولين هذا؟
ردت: لا أدري... ارتحت له...

********

عندما ولج إلى داخل العمارة التقى بجاره وائل وهو ينزل الدرج، تبادلا إلقاء التحية فيما توقف وائل لبعض الوقت: طمني كيف سارت معك الأمور في مركز الشرطة؟
رد محمود بتعب: شكرا وائل. صديقك قام باللازم وأرسل دورية لتمشيط المنطقة التي ذكرتُها في المحضر... قال أنه سيتصل بك إن طرأ أي جديد.
رد وائل مطمئنا له: سأكون بالمكتب صباحا وسأتتبع القضية بنفسي... اطمئن، الآنسة نسرين جارتنا وسلامتها تهمنا...
رد محمود: أتمنى أن تقبضوا عليه سريعا... لن أطمئن عليها وهو حر يصول ويجول براحته...
شقت الابتسامة شفاه وائل وهو يفكر في أن قلق محمود له مسوغ ثاني غير الجيرة التي تجمعه بنسرين، لكن علاقته به كانت عملية ولا تسمح له بالتدخل في خصوصياته لهذا لم يتجرأ على التعليق على الموضوع واكتفى بطمأنته من جديد: هل تشك في خبرتي !.. سبق لي وحققت في عدة قضايا من هذا النوع وسأعمل جاهدا للقبض على الجاني كن متأكدا من هذا...
شكر محمود جاره ثم افترقا فغادر وائل خارج العمارة بينما صعد هو الدرج. اطمأن قلبه للحظة فوائل محقق على قدر كبير من الحرص والمسؤولية وهو يؤدي واجبه بكل تفان، وصادف أنه جار لهم بنفس العمارة...
لم يكن احتكاكه به كبيرا في ما سبق لكن بعد الحادثة التي أُصيبت فيها نسرين أصبح هناك تواصل بينهما حتى أن محمود أخذ رقم هاتفه للاتصال به من أجل معرفة تطورات القضية بما أن نسرين مصابة ولم تظهر اهتماما بمعرفة الجاني. تفهم وائل حرص محمود ووعده أن يستدعيه للتعرف على المشتبه به إن تم القبض عليه لكن محمود ظل مصرا على أن يُقحم نفسه في كل التفاصيل...
وصل حتى باب شقته والتفت إلى باب شقتها. كانت نفسه في صراع هل يلقي عليها نظرة قبل أن يخلد للراحة؟
فكر في أنها قد تكون نائمة ولم يشأ أن يكون الجار المتطفل المزعج... فتح باب شقته ودخل وفور ولوجه بدأ بفك أزرار قميصه، يحتاج لحمام ساخن والخلود للنوم بعدها.
عندما سمعت هي طقطقة القفل عرفت أنه قد دخل شقته. شحبت ملامحها فجأة وأصابها شيء من الخيبة... كانت تتوقع أن أول ما سيقوم به هو رؤيتها قبل أن يفكر في النوم أو الراحة... نظرت إلى ياقوتة ولم تتجرأ على النطق بكلمة ففهمت الأخرى ما كان يجول بذهنها وقاطعت أفكارها: لقد أعددت طعاما لذيذا للعشاء ، ما رأيك في دعوة محمود.
ردت عليها دون تفكير: هو لم يكلف نفسه عناء طرق الباب والاطمئنان علي، وأنت تفكرين في دعوته للعشاء... ثم إن هذا لا يجوز، ماذا سيقول الجيران؟
وقفت ياقوتة: ومن قال أن الجيران سيعرفون بهذا.. ثم أنا هنا. كوني شاكرة لجميله على الأقل.
رتبت هندامها وتوجهت نحو الباب: لحظة وأعود... لربما هو جائع ولا يوجد ببراده شيء...
كانت نسرين ستعترض لكنها تعرف أن ياقوتة لن تستمع إليها، فكما يبدو هي مصرة على التقريب بينهما أكثر.
بعد رن طويل على الجرس خرج محمود وقد انتهى من ارتداء ثيابه فيما بقي يجفف شعره بالمنشفة.
ابتسمت ياقوتة في وجهه وبلباقة دعته للعشاء. لم يفهم هو بادئ الأمر إن كانت دعوة منها أو من نسرين لكنه لم يرفض وأخبرها أنه سيلحق بها بعد قليل.

عندما دخل الشقة عرفت بوصوله من رائحة عطره قبل ولوجه... شعرت بدقات قلبها تتسارع لتجعل منها مراهقة في الثلاثين... ما أغبى هذا الشعور... هذا ما كانت تفكر فيه قبل أن يقف غير بعيد عنها بطوله وقامته المميزة وهي تتأمل شعره المبلول والذي أصبح داكنا الآن...
غرقت عيونها في بحار العسل بعيونه ولم تستطع أن ترمش حتى لا تضيع لحظة من تأمله... تخونها غطرستها وتتنكر لها صلابتها عندما يتعلق الأمر به... ليست تفهم كيف تصبح متسامحة وغفورة لهذا الحد فتنسى كل استيائها منه بمجرد أن تلمح طيفه، حتى مروى نست وجودها بحياته !
تقدم بخطواته نحوها وهو يتأملها بود، كيف سمح لنفسه أن ينام قبل أن يراها أمامه ويستمع لصوتها الذي ينسيه تعبه وهمومه... ربما غضبه منها هو من جعله يعرض عن ملاقاتها... هو يموت رعبا عليها ويخاف أن يصيبها أي مكروه يغيبها عنه وقد أصبحت كل شيء في حياته، بينما هي لا تبدي أي نية في الافصاح عن هوية المعتدي عليها وكأنها تتعمد حمايته ! هذا ما أثار جنونه خلال مطاردته تلك.
بعد أن استطاع الشاب التواري عن الأنظار في أحد الأزقة لحي شعبي عتيق قريب... اتصل بوائل الذي طلب منه أن يتجه رأسا إلى مركز الشرطة ويقدم بلاغاً، وطمأنه أن الشرطة ستقوم باللازم.

وهو يتأملها بتيه كان يفكر بينه وبين نفسه، ما الذي تخفيه تلك الملامح الرقيقة؟
اقترب أكثر وتمنى أن تمنحه احدى ابتساماتها التي تلامس في انحناءتها شغاف قلبه. لكنها اكتفت بإلقاء التحية وقد تمكنت أخيرا من انتشال نفسها من بحاره قبل أن تغرق فيه أكثر: مرحبا... تفضل بالجلوس.
لم تنطق حتى اسمه الذي يحبه أكثر عندما يخرج من حنجرتها وبصوتها الذي يجده عذبا ينساب في مسامعه. ومن زمة شفتيها عرف سبب عبوسها رغم أنها حاولت أن تكون متكتمة أكثر فيما يخص مشاعرها المتفجرة تجاهه...
جلس على الأريكة القريبة وهي تحاول تجاهله بنظراتها حتى لا تفضح نفسها أكثر فيما كان هو مستمتعا بتأملها في صمته وهو يراقب كل خلجاتها... تمنى أن يقترب منها أكثر فأكثر وأن يبثها في ضمة واحدة تلك المشاعر العميقة التي تجتاحه. يعشقها حد الهوس ولا يتخيل أن يستمر في حياته وحيدا بعد أن وضعت بصمتها الخاصة في وجوده...
تنحت ياقوتة من هناك بعد أن شاهدت ما يكفي من تلك الشرارات المنبعثة من كليهما وقررت تجهيز العشاء على أقل من مهلها حتى تسمح لهما بالتواصل أكثر.

ساد الصمت الرهيب فترة طويلة وكل واحد منهما غارق في تأمل الآخر على حياء انتظرت منه أن يبدأ الحوار وأبى هو إلا أن يكون كمن قال:
لا تَحسَبي أن الكلامَ حبيبتي
لغةٌ تُدارُ بعالَمِ العُشاقْ
فالصمتُ مِن لغةِ الهوى
وبها يَبوحُ العاشقُ المشتاقْ

نطق أخيرا بعد أن فقد الأمل في أن تُسمعه صوتها: هل أنت متعبة؟
ردت: لا... ولكنك متعب ! هل قبضت على ذلك الشاب؟
حدجها بنظراته ولم يبد لها امتعاضه منها واكتفى برد مختصر: لا، لكن الشرطة تبحث عنه...
هزت رأسها بنعم ولم يُغفل لمحة الألم التي اكتسحت تفاصيلها الرقيقة. والتي أذابت كل سخطه وأثارت عواطفه تجاهها فاقترب منها أكثر حتى أصبح قبالتها ثم همس لها: نسرين... يمكنك الوثوق بي...
رفعت رأسها إليه ولم تجبه فأردف هو: لماذا لا تفعلين؟
ارتجفت شفاهها وهي تبحث عن جواب لم تجده... لماذا تثق به؟ لم يسبق لها أن وثقت بأحد في كل حياتها !.. حتى ياقوتة نفسها لم تمنحها ثقتها المطلقة أبدا...
سحبت الهواء لرئتيها وكأنها تبحث عن موجة انتعاش تطرد بها تلك الحرارة التي ألهبت أحشاءها، وردت عليه وعيونها تتجاهله من جديد: هل حقا يمكنني الوثوق بك محمود؟
أمسك بذقنها وجعلها تتأمله من جديد: يا عيون محمود أنت...
شعرت بالحرارة تصل وجنتيها بينما لاحظ هو احمرارهما الظاهر وابتسم بمرح: لكم أعشق خجلك...
شعرت وكأنها عالقة في شباكه تتخبط دون خلاص، ولكم كرهت أن تقع في شراكه بهذه البساطة... لا يزال عقلها غير مقتنع بصدقه لكن قلبها يعشق كل كلمة تنسكب من شفاهه ويذوب في كل حركة تصدر عنه...
رحم خجلها فحرر ذقنها من بين أصابعه وفورا ابتعدت عنه. وبقي هو يراقبها بحب... ثم تابع دون أن يحيد بعيدا بنظراته: نسرين... لست أدري كيف تجدينني، لكنني...
وصمت قليلا قبل أن يتابع: أنا أحبك...
التفتت إليه كمن لسعته أفعى وحدقت فيه بعيون متوسعة... لم تكن متفاجئة من مشاعره وإنما من تصريحه بما يختلجه دون تردد، وبصراحة مطلقة... لو انتظر منها ردا ربما قضى عمره كله يستجدي منها كلمة "أحبك" دون أن ترحمه، فتلك كلمة بكر خلقت لتُنطق مرة واحدة...
شهقت دون وعي بعد أن شعرت بنفاذ الهواء من رئتيها، وكانت شهقتها تلك مشبعة بشذا عطره فشعرت به يتغلغل إلى أعماقها، وخافت أن يصبح بالداخل ويكتشف ضياعها فيه وجنونها به... أن يتحسس في داخلها ظمأها، وحشتها وحرمانها... وكل هواجسها من دنيا الهوى، تلك الأرض المحرمة التي لم تطأها قدمها في يوم من الأيام...

همس لها أخيرا: تتزوجينني؟
أطبقت على جفنيها بشدة وكأنها لا تقوى على كل هذه المشاعر دفعة واحدة... يجب أن تُسقى الأرض البور في قلبها قطرة بقطرة من ماء المطر، ولم يشأ هو إلا أن يغدقها بسيل منهمر...
لم تجبه بكلمة وظلت على سكونها ذاك كمن غُيِّب عنه عقله. فرددها على مسامعها كرة أخرى: نسرين تتزوجينني؟
رباه ! هل يصر على إغراقها أم ماذا؟... يكفيه ما عصف به من مشاعرها حتى الآن. وقفت فجأة وكأنها تريد أن تتخلص من سطوته عليها وهيمنته على كل ذرة فيها. وقف هو الآخر ولم يفهم سبب انتفاضتها تلك. بقي يتأملها بريبة بينما ضمت هي ذراعيها من حولها ثم رفعت رأسها إليه وبجد حدثته: هل تتزوج امرأة لا تعرف عن ماضيها شيئاً؟
رطب شفاهه ثم دنى منها واضعا كفيه على ذراعيها: نسرين، لا أريد أن أعرف أي شيء... سُمِّيَ الماضي ماضيًا لأنه رحل ولن يعود فهل تراني أهتم بتقليب صفحاته؟... أنا لا أضيع وقتي عبثا... لا أريد أن أعرف تفاصيله ولا يهمني أصلاً... أنا أعرف نسرين التي هي أمامي الآن...
وهزها بلطف فرفعت طرفها إليه ليستقبل عيونها الكحيلة بابتسامة شغوف ذهبت بما بقي من عقلها وهو يهمس لها: أنا أريدك أنت... نسرين التي عرفتها طيلة الأشهر الماضية...
قرب وجهه منها أكثر كان سيطبع شفاهه عليها كختم يثبت فيه امتلاكها... كان يريد أن يحصل على ذلك الشعور حتى لا تبقى تلك الهواجس في مطاردته، هو حتى الآن غير متأكد من حبها الخالص له... وكأنها صورة ضبابية أمامه يحتاج لأن يهتدي إليها عن طريق أحاسيسه...
وضعت كفها على صدره حتى توقف اكتساحه لها وقد تلامس أنفاهما. بلعت تلك الغصة بحلقها ولم تخفى عليه أنفاسها المضطربة. لم ترفع بصرها إليه وكأنها لا تريد له أن يُخضعها لسطوته بتلك العيون التي لا تبقي فيها ولا تذر...
نطقت وهي تشعر أنها أصبحت بكماء. فلشدة ما هي فيه ما كانت الكلمات تتماسك وتنطلق من حنجرتها: أنا لست ما تفكر فيه... لا علاقة لي بعالم ياقوتة...
صمت للحظات ثم رد عليها: صدقيني كنت أشعر بهذا منذ البداية...
شعرت بالرضا من تلك الكلمات.. لكم يسرها أن تعرف أنه رجل فطن استطاع أن يميز عفتها وطهارتها دون أن يحتاج لدليل... أن تجد شخصا يثق بك دون أن تؤتيه المواثيق بأغلظ الأيمان...
هو رجل يقدم لها الحب كما خُلق... حب بلا مقابل لا تقيده الشروط... ولا يحتاج لتنقيب وتمحيص... هما قلبان اجتمعا وألف الله بينهما. وليسا يحتاجان إلا أن يجعلا لما يجمعهما اسمًا أكثر تميزا... الزواج. لربما استعجل في ملامستها من فرط شوقه، كان عليه التريث أكثر حتى تصبح له شرعا وقانونا فليس هناك ما يفسد عفة الحب إلا دخول الشيطان من أصغر أبوابه...
يقولون: "إن كنت تحب أحدا فلا تعص الله فيه، ولا تنس أن قلب من أحببت بيد من عصيت".
فيما سبق كانت تعتقد أن الحب عيب وحرام... لم تتجرأ يوما أن تلفظ هذه الكلمة على مسامع أبيها وإخوتها ، ولا حتى والدتها وأختها...
الحب في شريعتهم مرادف لكلمة انحراف، وهي كغيرها في تلك البلدة النائية كانت تتعوذ بالله من شيء اسمه الحب...
وما زاد الطين بلة هم أخلاء ياقوتة وعشاقها الذين كانوا يطلقون اسم الحب على عالم الضياع الذي يعيشونه... حب قرفت منه بكل الأحوال وكرهته، وكرهت عالم الرجال فكلهم كما كانت تعتقد أصحاب شهوة تبدأ أحاسيسهم من شيء اسمه الجسد وتنتهي إليه، بينما كانت هي أرفع من أن تختبر شعورا مماثل، لهذا صرفت فكرة الزواج من مشاريع حياتها وظلت عزباء حتى اليوم...
ما الذي تغير؟
محمود، رغم أنها تأنف من أن تصدقه إلا أنها تعيش الحب الذي لطالما اعتقدت أنه حكر على الروايات والأفلام في ظله... تلك اللهفة والحرقة، الرغبة والرهبة، صدق من قال أن الحب لذة بعذاب...
أنت النعيم لقلبي و العذاب له
فما أمرَك في قلبي و أحلاك
الشريف الرضي

************

مرت بضعة أيام سريعة وقد جهزا كل الأوراق اللازمة لإتمام عقد القران، وعن طريق معارفه استطاع محمود أن يتم كل الإجراءات في وقت قصير، ليتم عقد القران بحضور ولي لها بدل والدها ولهذا فإن إجراءات الزواج هذه ستتم في المحكمة بدلا من دار البلدية.
خرج صباحا مع نسرين من العمارة باتجاه سيارته وهما يتبادلان الحديث. أراد أن يتشبث بكفها لكنها شعرت بالخجل من العيون المتطفلة التي كانت تطل من كل مكان، أو ربما مخيلتها التي لازالت ترى في الأمر "عيبًا" هي من صورت لها ذلك.
بدت متألقة في فستان كريمي أنيق ألحقت به غطاء رأس من نفس اللون مخرم عند الأطراف. وكانت زينة وجهها بسيطة كما هي العادة دون تكلف.
تلقفتها عيونه المشتاقة لكل شيء فيها فور خروجها من شقتها. وفيما كانت هي تحمر من الخجل وتصارع ذاتها من أجل أن تكون على طبيعتها كانت عيونه تؤلف عنها ملحمة شعرية...
غريب هو الحب... لم تكن نسرين قبل بضعة أشهر غير جارة عادية وواحدة من آلاف النساء... وكذلك كان هو بالنسبة لها... رجل شاهدت غيره الكثير من الرجال دون أن يطرب قلبها لواحد منهم.. لكن الفرق البسيط في الموضوع أنه عندما يتعلق القلب بإنسان ما فإنه يصبح أجمل الناس شكلا، أعذبهم صوتا وأزكاهم عطرا ولو لم يتعطر... فقط رائحته العادية تلك ترسل بإشارات للدماغ يترجمها في انفعالات عميقة وأحاسيس غريبة وضربات قلب متسارعة...

ركبا السيارة وانطلقا ففتحت حقيبتها تتأكد من وجود هويتها: محمود، لم تنس هويتك صحيح؟
رد عليها بمكر: وكيف أنساها يا عيون محمود وأنا أنتظر هذا اليوم بفارغ الصبر.
ضحكت ثم التقطتها من بين أصابعه وسمحت لنفسها أن تقرأ معلوماته الشخصية.
بعد لحظات رفعت رأسها إليه فالتفت إليها عندها سألته: "محمود ناصر السعدي" هل يقرب لك "محسن ناصر السعدي"؟
قبل أن يجيبها أنه والده صرخت به: انتبه أمامك !!!!
وبسرعة انعطف بسيارته قبل أن تصطدم به السيارة التي كانت متجهة إليهما بعد تجاوز سريع قامت به على الطريق المجاور... لم يتردد محمود في شتم السائق وهو يستمر في القيادة إلى وجهته دون أن تتسبب الحادثة في أي أضرار للطرفين بينما كانت نسرين تموت رعبا وهي تضع كفها على صدرها من الهلع: كان ذلك وشيكا !!!
رد عليها: كدنا أن نموت قبل أن نتزوج...
نظرت إليه دون كلام ثم انفجرا ضاحكين وهي تحذره: أنظر أمامك أنا أرجوك، يكفيني جرح واحد ببطني...
بعد وقت قصير وصلا إلى المحكمة أين تم عقد قرانهما بحضور القاضي الذي ناب عن والدها وشاهدين من الجيران تواعد محمود معهما على الالتقاء هناك...
بعد انتهاء المعاملات تركا المبنى وسارا معا باتجاه موقف السيارات أين ركن محمود سيارته فور وصولهما قبل قليل. تأملها بحب ولم تغفل هي عن تلك النظرات الشغوفة التي أرسلت قشعريرة في سائر جسدها، مازالت تشعر بالحياء منه وليست تدري كيف ستتخلص من هذه العقدة حقا... صحيح أنها تحبه لكنها ليست تدري كيف لها أن تصبح ملكه...
قبل أن يفتح لها الباب أمسك بيدها بحب وضغط على أصابعها وكأنه يؤكد لها تمسكه بها. تأملته بحب وهي تشعر بقربه المثير منها. فهمس لها: هل اعتقدت حقا أنني سأتزوج امرأة مثلك دون احتفال !
لم تفهم قصده فيما تابع هو: أردتها مفاجأة لك... تركت ياقوتة تهتم بالتفاصيل... المزينة، ثوب الزفاف والطعام... أنا فقط اخترت القاعة وحرصت على أن يكون هذا أجمل أيام حياتك...
تمتمت بدهشة: هل سنقيم حفل زفاف؟
هز رأسه بنعم ثم تابع: طلبت من ياقوتة أن تدعو معارفك لكنها قالت أنه لا داعي لذلك...
زفرت بخيبة: تلك حكاية طويلة...
داعب وجنتها بأصابعه ليصرف عنها ذلك التجهم الذي كسا ملامحها فجأة: لدي العمر كله معك لأعرفها... دعينا اليوم نكون أنانيين ولا نفكر إلا في أنفسنا.
استطاعت أنامله أن تعيد إليها بسمتها وتنسيها صقيع الأيام الماضية التي غزتها فجأة... كم هو مؤلم أن يحتفل المرء بأجمل أيام حياته دون أن يشاركه فرحته أحد... ماذا لو تخلفت ياقوتة عن الموعد، هل ستبقى هناك في تلك القاعة وحيدة؟
ضربتها الفكرة كخنجر مسموم قطع أوصالها، وراحت تتخيل محمود بين أهله فرحا بالتفافهم من حوله بينما تقف هي وحيدة بلا سند، تخيلت ضحكات فرحهم ومشاعر غبطتهم لرؤيتهم ابنهم عريسا، ثم وفجأة انتكست وهي تخمن رأيهم بها... سيسألونه لماذا اختار عروسا تصغره بعام واحد وقد تخلى عن الشقراء الفاتنة التي كانت خطيبته... ليست تدري لماذا دوت بأذنيها كلمات أمها وجارتهم وهما تدردشان قبل سنوات حين كانتا تغتابان ابنة جارتهم التي جاء نصيبها في الزواج وهي بالثالثة والثلاثين من عمرها وقد عُرف عنهم هناك أنهم يزوجون بناتهم صغارا قبل العشرين... قالت جارتهم يومها: "الحمد لله أن من الله عليها بعريس ينتشلها من العنوسة... على الأقل لن تظل كالغراب وحيدة في سواد..."
ما أقساها تلك الكلمات عندما تخرج من أفواه لا تراعي مشاعر الآخرين!
يومها لم تهتم نسرين بمعنى هذا الكلام، لكنها اليوم شعرت به يمزق أحاسيسها ويستهدف كيانها... صحيح أن اللسان يكون أحيانا أحد من السيف وأوجع من الوجع...
أعادها إليه وإلى حاضرها وهو يشد مجددا على أصابعها الرقيقة بكفه الدافئة، وهو يقول: خُلق القمر وحيدا بالسماء ومع ذلك يظل أجمل من كل النجوم... كونك وحيدة لا يعيبك إنما يُميزك...
دائما تأتي كلماته كالبلسم الشافي على جراحها... حتى مجرد النظر إليه يمنحها شعورا بالسكينة لم تعرفها يوما في حياتها. شكرت الله في سرها أن منحها رجلا مثله ينسيها سنين القحط التي عرفتها من قبل...
تماسكت من جديد وسألته: سيحضر أهلك؟
ابتسم بغموض: لا أريد أن ينغصوا علي أجمل أيامي... سنكون أنا وأنت وكل جيراننا بالحي... أريده عُرسا لا يُنسى...
كان ليكمل بقية الحديث لو أنها تعرف حكايته ويخبرها أنه لو مازال يتمتع بالثروة السابقة لصنع لها مراسم زفاف خرافية تليق بمقامها، لكنه أحجم عن ذلك حتى لا يطول هذا الحديث أكثر. وركبا السيارة فورا حتى يوصلها إلى ياقوتة التي تنتظرهما عند المزينة.

*******

بعد الظهر وبعد أن ارتدت فستان زفافها، أصبحت نسرين مستعدة للاحتفال كعروس حسناء في أبهى حلتها. تأملت نفسها في مرآتها الخاصة بغرفتها، كانت متألقة في ثوب الزفاف الأبيض المخرم والمرصع بأحجار متلألئة جعلتها كالحلم...
دخلت ياقوتة وفور مشاهدتها لها تحمست ونطت بفرح: أنت رائعة حبيبتي... تبدين كالأميرات...
ردت نسرين مع ابتسامة واسعة: الفستان أجمل حتى مما قد أتخيله... شكرا لك ياقوتة، أنت بالفعل صديقتي الوحيدة، وكل أهلي...
ردت عليها: لا تجعليني أبكي الآن... لكن اشكري محمود فهو من طلب مني أن أختار لك أجمل فستان بالمحل، وحرص على أن يكون كما تحبين ومثلما تحلمين...
همست نسرين بين شفتيها: محمود !
وشردت فيه تتذكره، تقسم أنها قد اشتاقت إليه وقد غاب عنها لساعات قليلة لا غير، تشعر أنه رجل يستحق أن تمنحه كل السعادة التي بالوجود، لأنه بالفعل يستحق ذلك...
صاحت بها: دعينا نلتقط لنا صورة...
وأخرجت هاتفها النقال وراحت تلتقط لهما الصور... وهي تمازح نسرين بكلماتها المستفزة عن كيف سيكون شعور محمود وما الذي سيفعله، طبعا عن خبرة مسبقة لها في المجال. نسرين لم تكن أبدا من ذلك النوع الذي يجاهر بمثل هذه الأمور ما جعلها تحمر وتحمر دون أن ترحمها ياقوتة وتقفل فمها...
بعد الانتهاء من التقاط الصور قربتا رأسيهما وأخذتا تشاهدانها على شاشة الهاتف فيما بدت نسرين جادة في تحذيرها: ياقوتة إن رأيتها على مواقع التواصل الاجتماعي سأقتلك...
ردت ياقوتة: لا تقلقي حبيبتي، إنها للذكرى فقط...
ثم انتبهت لأمر ما فحدقت بها: لم تخبريني ما هو عمل زوجك؟
حملقت نسرين في صديقتها ببلاهة وردت: لا أعلم !
ياقوتة: لقد صرف الكثير حتى الآن، إما أن يكون رجلا ميسور الحال أم أنه عاشق أعماه الحب فصرف كل هذه الأموال من أجلك...
وضحكت بصوت مرتفع بينما بقيت نسرين تفكر بالموضوع... هي حقا لا تعرف الكثير عن محمود، ربما لأنه اكتفى بها دون ماضٍ لم تتجرأ هي أن تكون لحوحة وتسأله عن أموره الخاصة... قد يكون هذا تصرفا أحمقا من كليهما في نظر أي عاقل، لكن يظل "الحب أعمى والجنون يقوده"...
رن الجرس فانتبهتا معا: لابد وأنه السائق الذي قال محمود أنه سيرسله...
حملت ياقوتة البُرنس الذي تستر به العروس رأسها وذراعيها من الغرباء وثبتته فوق شعرها المصفف بعناية حتى لا تفسده وهي تثرثر: هكذا حتى تذهبين لزوجك كحلوى شهية مغلفة لم تقع عليها ذبابة، حتى يتذوقها بنفسه...
وأطلقت ضحكتها الرنانة التي غالبا ما تثير حفيظة نسرين والتي لم تفهم إن كانت ياقوتة تمدح صنيعها أم تسخر منه، غير أنها تدرك أنها ستُجن من تلميحاتها قبل أن ينقضي هذا اليوم على خير...

وصلتا إلى قاعة الزفاف. كانت الأجواء عائلية ولو أنها تخلو من وجود أسرتي العريسين. كل الجيران حضروا الاحتفال، وشاركوا محمود ونسرين بهجة تتويجهما أميرين اليوم... انتظرها عند الباب ودخلا القاعة معا وهي متعلقة بذراعه وكأنها تخاف أن تضيع وسط الزحام بينما أخذها هو بتملك شديد وسارا معا حتى المنصة وسط الزغاريد وأنغام الموسيقى التقليدية التي كانت تنبعث في الأرجاء...
شعرت نسرين أن محمود قد نجح في صنع أحلى مفاجأة لها.... لطالما تعودت أن ترضى بالقليل في حياتها ولم تكن يوما متطلبة... ولم تناقش محمود أبدا في أمور الاحتفال بمناسبة زواجهما وإنما قبلت بأن يكون زواجا بسيطا يقتصر على حفل عشاء مع الأقربين...
شاهدت هناك كل الوجوه التي تعودت أن تلقاها بالعمارة وحتى بالشارع، الجميع أبو إلا أن يشاركوها فرحتها ومحمود وأن يضيفوا لتلك الساعات القليلة التي مرت لمسة بهجة وصفاء فرقصوا وغنوا وزغردت النسوة احتفاءً بهما، لم تشعر ولو للحظة أنها وحيدة بلا سند... كان الجميع سندها اليوم... كل الجيران كانوا أهلها وفرحوا لفرحها... شعرت في أعماقها أن الحياة حرمتها أسرتها لتمنحها أسرة أكبر... لقد عاشت معهم لأعوام عديدة في غربة رغم أنهم كانوا جميعا لطفاء معها، واليوم فقط أحست أنها تنتمي إليهم وأنهم ينتمون إليها... كم هو رائع الشعور بالانتماء !

********

انتهت الحفلة في وقت متأخر وانفض الجميع من القاعة، بينما سعد محمود أخيرا بأن يجلس إلى عروسه دون تطفل أو إزعاج. ركبا السيارة وقادها هو بنفسه باتجاه شقته التي ستحتضن حبهما... أثناء الطريق كان مهتما بالقيادة حتى لا يتكرر خطأ هذا الصباح فيما استغلت نسرين الوقت في التفكير بكل شيء... بدءًا بزواجها في ظل غياب أهلها الذين وإن لم تشأ الاعتراف بذلك تمنت لو كانوا هنا يشاركونها فرحتها مع الجميع، ثم بياقوتة التي أثبتت لها من جديد أنها رفيقة يُعتمد عليها، وانتهاءً بمحمود الجالس بقربها والذي سيكون شريكا لها تقاسمه كل حياتها...

وصلا أخيرا وجهتهما وقد اتفقا على العيش في شقة محمود التي لم تطأها قدمها من قبل ، دخلا أخيرا و يبدو أنه قد جهزها بعناية لتستقبل حبهما الجميل. لقد حرص على أن تكون كالحلم تماما، فاستعان بمهندس ديكور أعطاها لمسة سحرية وقام بإضفاء تلك التفاصيل الدقيقة التي تجعل منها أكثر من مميزة.
وقفت في غرفة الاستقبال تتأمل جمال الأثاث والزينة، حتى الجدران كانت رائعة بلون هادئ، وكأنه استقرأ ما تحب وعرف ما تريد دون حتى أن تتكلم.
وبقي هو يتأمل جمالها ورقتها كأميرة فرت من كتب الأساطير القديمة في برنسها الذي اختبأت خلفه اليوم بطوله احتماءً من كل العيون، إلا من عيونه هو وقد آن له أن يتفرج على شعرها الكحيل الناعم دون رادع.
عرف من ملامحها أنها قد أُعجبت بما فعله بالشقة... فوضع يده على ظهرها وقد وقف بالقرب منها واستمر يتأمل الشقة أيضا: راقت لك؟
شعرت بالارتجاف من ملامسته لها، لكنها أجابته: إنها رائعة...
لاحظ اضطرابها وقد توقع منها ذلك وكان طوال اليوم يفكر في أن يحسن التحكم بمشاعره المتأججة نحوها، لأنه يعرف جيدا أنها امرأة تكره أن تكون مُحاصرة...
أمسك بقلنسوة برنسها وأبعدها بلطف عن رأسها فاكتملت الصورة أمامه وكانت أجمل بكثير من التي رسمها في مخيلته. طبع قبلته على جبينها وأصابعه تتغلغل في خصل شعرها ثم استجمع أنفاسه وهمس لها: مرحبا بك في منزلك...
شعرت بدقات قلبها تتسارع واحمرت وجنتاها دون أن تقول كلمة، كل ما خطر ببالها آن ذاك هو "الحلوى المغلفة" فأرادت ركل ياقوتة.
أمسك بيدها وسار معها: تعالي لتشاهدي المطبخ...
دخلا المطبخ وقد كان الطعام على طاولة مضاءة بالشموع.
التفتت إليه: من جهزها؟
رد عليها وهو يحاوطها بذراعه: أكيد ليس أنا، لكنني كلفت من يفعل ذلك...
وضعت رأسها على كتفه بدورها وهي تتأمل الطاولة وبصدق كلمته: أشكر لك ما فعلته يا محمود... لا تعرف كم يعني لي أن تقوم بكل هذا من أجل إسعادي...
تحولت ذراعه لتضمها إليه بقوة حتى شهقت، فارتسمت الابتسامة على شفاهه وهو يتأمل عيونها المتوسعة، نطق بصوت هامس وهو يشعر باضطراب أنفاسها القريبة، والتي تثير مشاعره تجاهها بشدة: ليس عليك أن تشكريني... كوني سعيدة وحسب.
بقيت تحدق فيه متحدية حياءها من جرأة عيونه التي كانت تفصح عن مكنونات قلبه بشكل يعجز فيه عن مواراتها. لقد شغفته حبا لدرجة ستُفقده فيها صوابه... فكيف سيجاري براءة الأطفال في عينيها ويستمر في كبح جماح شوقه !
بدت مأخوذة به وهي تستشعره بكل حواسها، في آخر مرة كان فيها على هذا القرب استطاعت أن تضع حدا لغزوه لها وأن تُبقي رايتها مرفوعة فوق أرضها التي لم يطأها قبله بشر... لكنها اليوم تعلم أنها معه في حرب خاسرة، فقلبها قد أعلن الاستسلام قبل حتى أن تفكر...
قبلها برقة وكأنه يخاف عليها من شغفه وجنونه... وبادلته هي في قبلته تلك فيضا من الأحاسيس العميقة. امرأة مثلها لا تعرف التمثيل، وإن أحبت رجلا فإنها ستعشقه لآخر ذرة فيها...
هام فيها حبا وهو يستشعر أحاسيسها المكبوتة تجاهه. لم يكن على يقين قبل اليوم من أنها تعشقه. لم تخبره أبدا أنها تحبه، لكنه الآن يجزم أنها في لوعة مثل لوعته...
رن جرس الشقة فجأة ! بدا الأمر غريبا فمحمود لا يزوره أحد فكيف اليوم بالذات؟ انقبض قلب نسرين فهل ستفسد الشقراء عليهما ليلة العمر !
تردد قبل أن يتركها ويتحرك باتجاه باب الشقة: من تراه يكون؟
ردت عليه من غيظها: أتمنى ألا تكون خطيبتك...
أزعجه جدا تعليقها، لكنه أجابها: ليس لي خطيبة، لدي زوجة هي معي الآن...
استمر في تقدمه من الباب دون أن يرن الجرس مرة أخرى، على الرغم من استيائه عذرها فإن كانت خطيبته السابقة على الباب فهذا معناه انهيار ليلته الرومانسية من أولها !
فتح الباب أخيرا ولم يكن هناك أحد، وجاءت هي تسير على مهل رافعة أطراف فستانها حتى لا تتعثر فيه: من؟
رد عليها وهو يبحث بعيونه في المكان: لا أحد...
ثم اقترب من السلالم وأطل إلى الأسفل عله يبصر الطارق. وكان سيهم بالنزول بضع درجات عندما انقبض قلبها فجأة ونادت عليه بصرخة واحدة: محمود !!!
التفت إليها بتساؤل فهرعت إليه وأمسكت بقبضة يده محاولة جعله يدخل المنزل: محمود ماذا لو كانت حيلة ليطلقوا عليك النار؟
رد عليها: ليس في المكان أحد !
أبت أن تتركه وبعيون متوسلة تطايرت منها الدموع ترجته: لا أريد أن أخسرك محمود.
أمام هذا التصريح الغير مباشر بكمِّ الحب الهائل الذي تُكنه له في أعماقها ما كان منه إلا أن يرضخ لرغبتها ويجنبهما ليلة قد تنتهي بمأساة. سحبته من كفه إليها فدنى منها وقد اتقدت مشاعره إليها أكثر... وقبل أن يدخلا لاحت منها نظرة باتجاه باب شقتها فشاهدت علبة تزينها شرائط ملونة هناك عند العتبة.
بقيت تحملق فيها بريبة فانتبه محمود للأمر واقترب ليعرف ما تحمله تلك العلبة وقبل أن تمنعه كان قد التقطها من الأرض ورجها في الهواء، صاحت به: انتبه قد تكون مادة متفجرة !!!
رد بدهشة: إنها فارغة... خفيفة ولا يتحرك بداخلها شيء...
نظرت من حولها علها تبصر صاحب العلبة الذي يبدو أنه قد اختفى عن الأنظار ثم حذرت محمود بانفعال: لا تفتحها... ألق بها بعيدا وحسب؟
رد متهكما: تعتقدين أنها تحمل غبار الجمرة الخبيثة !!!
قطبت حاجبيها بغضب ورددت بحنق: ألقها وحسب...
وضع محمود العلبة في الركن حتى تلقي بها المنظفة غدا في القمامة وعاد أدراجه إلى نسرين التي كانت ترمقه بنظرات ساخطة. وعندما اقترب منها وقبل أن يهمس لها بأي عبارة حب تنسيها استياءها همست له هي بصوت مختنق: ترى ماهي هدية زفافي منهم يا ترى؟
التفت إلى حيث كانت عيونها متعلقة بالعلبة ثم إليها: من تقصدين؟
لم ترد عليه لكن في أعماقها كانت تعرف أنها هدية لها من أهلها فهم وحدهم من يقتفون أثرها ويرصدون حركتها، وعلى الأغلب عرفوا أنه يوم زفافها لهذا رن حامل الهدية على شقة محمود وتركها عند باب شقتها إنها رسالة لها مفادها أن تلك هديتها لا غير. بجرأة اقتربت من العلبة وحملتها مزيلة شرائط الزينة من حولها. فيما بقي محمود يراقبها وبذهنه صدى لألف سؤال..






التعديل الأخير تم بواسطة rontii ; 24-08-21 الساعة 01:59 AM
بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 04-08-21, 07:43 AM   #22

أم عمر ورقية

? العضوٌ??? » 425830
?  التسِجيلٌ » Jun 2018
? مشَارَ?اتْي » 55
?  نُقآطِيْ » أم عمر ورقية is on a distinguished road
افتراضي

كتير حلو أسلوبك ..في انتظار بقية الفصول 🥰

أم عمر ورقية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 05-08-21, 01:30 AM   #23

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أم عمر ورقية مشاهدة المشاركة
كتير حلو أسلوبك ..في انتظار بقية الفصول 🥰
أسعد الله قلبك . أتمنى أن تعجبك بقية الفصول حبيبتي.


بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 05-08-21, 01:32 AM   #24

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي أنثى بحروف شرقية / الفصل السابع





الفصل السابع

وضع محمود العلبة في الركن حتى تلقي بها المنظفة غدا في القمامة وعاد أدراجه إلى نسرين التي كانت ترمقه بنظرات ساخطة. وعندما اقترب منها وقبل أن يهمس لها بأي عبارة حب تنسيها استياءها همست له هي بصوت مختنق: ترى ماهي هدية زفافي منهم يا ترى؟
التفت إلى حيث كانت عيونها متعلقة بالعلبة ثم إليها: من تقصدين؟
لم ترد عليه، لكن في أعماقها كانت تعرف أنها هدية لها من أهلها فهم وحدهم من يقتفون أثرها ويرصدون حركتها، وعلى الأغلب عرفوا أنه يوم زفافها لهذا رن حامل الهدية على شقة محمود وتركها عند باب شقتها. إنها رسالة لها مفادها أن تلك هديتها لا غير.
بجرأة اقتربت من العلبة وحملتها مزيلة شرائط الزينة من حولها. فيما بقي محمود يراقبها وبذهنه صدى لألف سؤال...
صعقت فجأة وتجمدت مكانها فأسرع إليها عندما سمع ارتطام العلبة بالأرض بعد أن هوت من يدها.
لفها إليه بقلق: ما بك؟
لم تجبه بكلمة، وظلت كما هي في حالة صدمة، فحمل قطعة قماش أبيض يبدو أنها سقطت من داخل العلبة وتأملها ثم سألها بريبة: ما هذا؟
أجابته بصوت مختنق فقد رنته العذبة: ألا تعرف ما هذا !
وأخذتها من يده ملوحة بها في وجهه: إنها قطعة من كفن يا محمود...
فور سماعه لكلامها أخذ القطعة منها وألقى بكل شيء بعيدا ثم سحبها من ذراعها إلى الشقة. بدى شاحب الملامح وهو يراقب المكان متوجسا قبل أن يقفل الباب خلفه بإحكام. فيما كانت هي تجاهد نفسها حتى لا تسقط دموعها في يوم يجب أن تفرح فيه.
بدى مضطربا وهو يقترب منها ثم أمسك بذراعيها بكلتا كفيه وبلهجة صارمة ردد على مسامعها: ستخبرينني من هو الخسيس الذي يسعى للتخلص منك... والآن !
تأملته بذعر، لم تعهد منه هذه المعاملة فحررت ذراعيها منه بالقوة وهي تصيح في وجهه: إنهم أهلي... أنا لم أكذب عليك في شيء أنت من أصر على ألا يسمع أي شيء عن الماضي...
عرف سريعا أنها فسرت قلقه عليها بأنه تسلط وحب سيطرة. زفر بقلة حيلة وهو يدور في المكان دون أن يحدثها خشية أن تتأزم الأمور بينهما أكثر، فحتى هو بالكاد يسيطر على أعصابه عندما يغضب...
توقف أخيرا بعيدا عنها وبقي يتأملها بعيون متفحصة، يراقب كل خلجاتها في محاولات يائسة لكبت آلامها ومدارات جراحها بعيدا عن عيونه، توقع أنها ستنهار باكية لكنه تفاجأ أن حصونها أقوى من أن يدكها أحد... أي كبرياء هذا !
أشفق عليها أخيرا وهو يعرف أنها تتحمل الكثير من أجل ألا تنهار... من أجل ألا تبكي أسرة أهدتها الموت في أجمل أيام حياتها... وهددتها بإلباسها الأبيضين في يوم واحد...
لم يكن يفهم السبب وراء ذلك، لكنه أقسى من أن تتحمله وحيدة، وهو أكبر من أن يتركها تواجه آلامها منفردة.
اقترب منها وفتح لها ذراعيه. تأملته وهو يقدم لها وطنا... يقدم لها ملجأ دافئًا يحتضن آلامها... ارتمت في حضنه لحظتها وسمحت لسيول قهرها أن تفيض... بكت على صدره بحرقة وربت هو على ظهرها بحنو بالغ... يؤلمه، بل يقتله أن يشاهدها تذرف دموع الأسى قبل أن يهديها أشواقه وحنينه... أن تكون أول لحظة في حياتهما دمعة ووجع...
شعرت أنها استنزفت كل طاقتها وأنها ذرفت من الدمع أكثر مما بكته في كل أيامها الماضية. ربما وجوده في حياتها هو ما جعلها تكون أنثى ضعيفة من جديد دون الحاجة لأن تلبس دروعها وتقاوم حتى آخر لحظة.
أخذها تحت ذراعه وجلسا على الأريكة وما إن استرخى عليها حتى زفر باستغفار.. إنها أمسية لم يتوقع أحداثها، فرغم أن الطارق لم يكن خطيبته السابقة إلا أنه نجح في بتر فرحتهما بامتياز.
بدى صوتها مختنقا وهي تقول: آسفة...
شدد من احتضانها وهو يطبع قبلته على جبينها: ليست غلطتك حبيبتي...
كانت تشعر ساعتها أن أبواب ماضيها قد شرعت على مصراعيها فانطلقت أشباحه من عمق جحيمه تعذبها وتطاردها... تعلم جيدا أنها لن تتخلص من معاناتها ما لم تتم المواجهة بينهما، هي والماضي بكل أطيافه... لطالما عرفت أنها ستقف في مواجهة أهلها في يوم من الأيام، لكنها لم تعرف يوما متى ستتم هذه المواجهة. تراها حانت الآن؟
ربت عليها ليلفت انتباهها فرفعت رأسها إليه، عندها قال: أنا لم أصلي لا المغرب ولا العشاء...
ردت عليه: ولا أنا...
ابتسم بود أنساها آلامها وقال: هيا إذن...

بعد أن صليا معا جلسا في المطبخ يتناولان الطعام، كان من الواضح أنهما لا يستمتعان به رغم أنه لا يعيبه شيء. ولولا مخافة أن تفسد الأمسية كانت نسرين لتمتنع عن الجلوس على المائدة فقد انسدت مسالكها الهضمية بعد مشاهدتها لهدية زفافها.
ساد الأجواء صمت طويل رغم محاولة كليهما إيجاد مواضيع عابرة للحديث فيها. وانتهى العشاء بجلوسهما في قاعة الاستقبال يشربان الشاي. كانت نسرين قد تخلصت من ثوب الزفاف الكبير الذي يضايقها وارتدت ثوب نوم ناعم وفوقه كساء ذهبي اللون بأكمام قصيرة يصل أسفل الركبة بقليل وقد عقدت حزامه بعشوائية في جانبها الأيمن.
رغم أنها حاولت أن تكون مرحة إلا أن مزاجها كان نكدا وعيونها تفضحها، ما جعل محمود يقرر أن لا يتجاهل آلامها وأن يضع يده على كل أغوارها ليستطيع الوقوف بجانبها ومواساتها.
قال لها: أخبريني الحكاية، أعلم أنك بحاجة للحديث...
ردت عليه: دعك من الموضوع لا أريد أن أفسد عليك السهرة أكثر...
كان ليقول أنها قد فسدت وانتهى الأمر، لكنه انتقى كلماته بدقة فرد: حبيبتي... لا تقلقي بهذا الشأن. أيامنا السعيدة قادمة بكل تأكيد... أنا أريد أن أعرف كل شيء حتى أستطيع الوقوف إلى جانبك... هل تعتقدين أنني سأكون سعيدا وأستمر في تجاهل أن أحدهم حاول قتلك قبل أسابيع ومازال يحاول !!! سأجن يا نسرين إن أصابك أي مكروه...
أشعرتها كلماته بالدفء، بالحماية، بالأمان، فابتسمت بعفوية واقتربت منه أكثر حتى تبدأ سرد قصة معاناتها المريرة مع أسرة سلبتها كل شيء حتى أحلامها الجميلة...
راحت تقص عليه معاناتها منذ الطفولة، لم تخجل في أن تبثه تلك التفاصيل الدقيقة من حياة الحرمان التي عاشتها... ربما لأنها رأت فيه أكثر من رجل... كان الموطن والملاذ... كان الأسرة والقبيلة... كان العالم بأسره في عيونها... رجل اجتمعت فيه كل صفات الرجولة وامتلأ قلبها بعشقه... هذا كان شعورها وهي تتواصل معه بصوتها وأحاسيسها التي كانت تخنقها بين الفينة والأخرى، وتفر من عينها دمعة تمسحها على عجل لأنها تكره أن تكون ضعيفة...
لكن بعقلها يتردد ذلك الصوت المشؤوم الذي يخبرها ألا تثق به، هو كغيره من الرجال فلماذا توهم نفسها أنه من غير طينتهم !.. سوف تدرك كم هي غبية فقط يوم تزاح غشاوة الحب من أمام عيونها...
لم تكن تريد أن تستسلم لتلك الوساوس... محمود هو من تريد من كل هذه الحياة، ولن تسمح لأفكارها السوداوية أن تدمر زهرة عشقهما الجميل.
كان هو يواسيها بحب وتفهم كبيرين... لم يعلق على كلامها رغم أن أسرتها تلك قد استفزته في أعماقه... آثر الصمت والاستماع في حرص، وهي تفجر براكين قهرها وتسمح لنفسها ببعثرة دفاتر قديمة كانت قد ختمت عليها وأقفلتها ورمتها في غياهب النسيان... ذلك النسيان الذي لم تجد له يوما سبيلا...
انتهى بها الأمر قتيلة تذرف دموع الأسى في حضنه وكان عزاؤها الوحيد كلماته المواسية التي أشعرتها بالسكينة.
آخر ما قاله: أنا هنا ، لن تبكي بعد اليوم...
أومأت برأسها وأغمضت عيونها فهدهدها على صدره مثل طفلة صغيرة ، كانت متعبة واستسلمت للنعاس الذي داعب جفنيها حتى غفت، ولم ينتبه هو لنومها حتى شعر بانتظام أنفاسها. تأملها بعيون تفيض حبا وهو يلاعب خصل شعرها القصير بين أصابعه... وعز عليه أن تستفيق إذا ما حاول حملها حتى السرير. وضع بحذر الوسادة من خلفه حتى لا يوجعه المسند الجانبي للأريكة وأغمض عيونه هو الآخر عله يغفو للحظات ولو كان لا يجد راحة على حالته تلك...

نامي بصدري أنتِ أروعُ طِفلةٍ
نامي بصدري وارصُدِي أحلامي
في كلِّ حُلمٍ تَسكُنينَ حبيبتي
في كلِّ حرفٍ أنتِ في أيامي
في كلِّ نبضٍ في فؤادي فاسكُني
في نِنِّ عيني ، في نُخاعِ عِظامي
هَيَّا ارقُبيني حينَ أكتُبُ مُنيَتي
حتى تَرَيْ ما سِرُّ إلهامي ؟
لو أنني أفنَى ، ولا يَبقى أثَرْ
سيفوحُ طِيبُكِ مِن حُطامِ حُطامي

شاعر

***********
بعد استقرار حالة الصغير أنس قرر الطبيب أنه سيترك المشفى. فرحت أمه بالخبر خصوصا بعد ملازمتها له هناك لفترة لابأس بها. لقد اشتاقت للمنزل كثيرا وللجلوس رفقة حماتها للدردشة وتبادل الأخبار كالعادة. كل ما كان يقلقها هو فادي وصمته المريب.
بعد وصولها للمنزل لم تفتح الموضوع معه من جديد واستمر هو على حاله يتجاهلها وكأنه وجد ذريعة ليوليها ظهره. ما أراحها أنه لم يوجه لها اللوم والعتاب كما كانت تتوقع. عادة لا يفعل هذا إلا من يقوم بفعل أشنع!..
وقف فادي في أبهى حلته بعد أن حلق ذقنه وتعطر قرب المرآة يخلل أصابعه في شعره ليكتمل منظره بتسريحته المعتادة. دخلت وشعرها ملفوف في الفوطة وهي ترتدي كساء الحمام ونظرت إليه كأنها تريد قول شيء ما، ربما كانت تريد استمالته ببعض الكلمات الودودة ! لكنها تفاجأت من منظره وعلقت باندهاش: ستخرج للسهر اليوم أيضا !
رمقها بنظرة انزعاج من زاوية عينه واستمر دون أن يعيرها اهتمام: تستكثرين علي يوما أتمتع فيه وأنسى هم الشغل !
حركت رأسها نفيا وهي تحاول أن تشرح له بود دون أن تبدي اغتياظها منه: لقد تركت وأنس المشفى البارحة فقط. أنا مهزومة نفسيا وأحتاج لدعمك... أنس أيضا في حاجة إليك ألا تلاحظ أنه يفتقدك؟
ألقى إليه بنظرة ثم كلمها: إنه نائم ولا أعتقد أنه سيفيق قبل الصباح، إليك نصيحتي، نامي أنت الأخرى حتى تنالي قسطا من الراحة أعلم أنك تعبت من بقائك بالمستشفى طيلة الأيام السابقة.
وربت على كتفها مواسيًا بطريقة استفزتها وأثارت حنقها فرددت بألم: فادي، لا أفهم كيف ستخرج دون أن تبالي بنا... هو ابنك وأنا زوجتك، تعلم جيدا أنني بحاجة إليك... إن لم تكن أنت دعمي وسندي فمن سيكونه !
صر على أسنانه وكأنه لا يحتمل محاضراتها وقال بحدة: لا تبدئي الآن...
تحدته بنظراتها وقد طفح كيلها من تصرفاته: فادي أنت رجل غير مبال... رجل أناني ... أنت لا تبالي بنا وكأننا لسنا أسرتك...
شد على ذراعها وأبعدها عن طريقه ليمر لكنها دفعته بكلتا يديها وصاحت بقهر: لا تهرب مثل كل مرة، لا تتجاهلني وكأنه لاحق لي في محاسبتك، لا تعاملني كنكرة أنا زوجتك أتفهم !
هوى على وجهها بصفعة ألجمتها وصاح فيها ونيران الغضب تشتعل في عينيه: إياك ودفعي بهذه الطريقة... إياك وإعلاء صوتك علي... إياك ومحاسبتي...
وكان يؤشر لها بإبهامه قريبا من وجهها وكأنه سيعاود صفعها مجددا، بينما وضعت هي كفها على خدها وقد امتلأت عيونها بالدموع. كانت تشعر برغبة في تحطيم وجهه، لقد بلغت من اليأس مبلغه، علاقتها به تسير من سيء لأسوأ دون حتى أن تفهم السبب.
خرج من الغرفة صافقا الباب خلفه، بينما ارخت هي نفسها أخيرا على السرير جالسة ووجهها خلف كفيها وكعادتها كانت تغرق في الدموع وشهقاتها تتعالى في المكان علها تطفئ نيران القهر التي شبت بين جوانبها.
بعد لحظات من الألم المرير قامت وغيرت ثيابها ولبست بيجامة قطنية بقميص أحمر وسروال أسود. اضطجعت في فراشها والحيرة تقتلها... لماذا فادي يعاملها بهذا الاشمئزاز؟ ما الخطأ الذي ارتكبته في حقه وهو لا يكف عن معاقبتها عليه؟
سمعت صوته بالرواق وهو يحدث أمه التي سألته عن سبب رجوعه فقال أنه نسي مفاتيح سيارته.
دفع الباب بغضب وولج إلى الداخل دون كلام، وبسرعة التقط مفاتيحه وخرج. كانت تراقبه بعيون محمرة تحمل شيئا من العتاب وكثيرا من الألم. في تلك اللحظات تاقت نفسها لمعانقة الحقيقة مهما كانت مرارتها... قفزت من مكانها وارتدت معطفها بسرعة وفتحت باب الخزانة تبحث عن حقيبة يدها.
لقد ألهمتها السيدتان اللتان كانتا تتحدثان بالمستشفى... ستفعل تماما مثل المرأة التي كانتا تغتابانها... ستلاحقه وتعرف الحقيقة تماما كما فعلت تلك مع زوجها الذي فاجأها بزواجه من أخرى...
خرجت من الغرفة فوجدت حماتها بالرواق وما إن رأتها متهيئة للخروج حتى تفاجأت وسألتها: إلى أين في هذا الوقت؟
ردت عليها: سأعرف الحقيقة... طفح كيلي منه، يجب أن أعرف ما يخفيه عني...
دهشت هناء وقالت بسرعة: يا ابنتي إنه الليل والشوارع لا تكون آمنة عادة... استغفري الله وعودي لتنامي...
لم تبالي سهام وأمسكت بمقبض الباب وهي تقول: اعتني بأنس أنا أرجوك...
وحثت الخطى خلفه حتى تنجح في توقيف سيارة أجرة قبل أن يخرج بسيارته من الموقف.
عندما انعطف باتجاه موقف السيارات ركضت باتجاه سيارة أجرة نزل منها شابان وهم سائقها بالمغادرة. ألقت بنفسها على مقدمتها وهي تضع كلتا يديها عليها: توقف أرجوك... أرجوك...
صاح بها السائق وكان شابا في الثلاثينات من عمره: تبا لك يا غبية... تريدين أن تموتي !
فتحت الباب وركبت خلفه وهي تردد: أنا آسفة، آسفة...
عندما جلست وضعت حقيبتها بقربها وأخذت ترجع شعر رأسها المبلول للخلف وعيونها تراقب مخارج الموقف، لاحت منها نظرة خاطفة للسائق فوجدته يحملق فيها عبر المرآة الأمامية للسيارة فصاحت في وجهه بضيق: إلى ما تنظر؟
أجابها: ألن تقولي إلى أين تودين الذهاب؟
كانت سيارة فادي تخرج إلى الطريق العام فأشرت عليها بإصبعها وهي تقول بلهفة: الحق بتلك السيارة هيا...
لم يتحرك السائق والتفت إليها هذه المرة مباشرة: أتمزحين معي؟
صاحت فيه بغضب: هيا قبل أن يبتعد...
ردد السائق بانزعاج: حسنا لا بأس...
وتحرك بالسيارة مقتفيا أثر فادي فيما كان قلبها يدق بترقب.
ابتعدا كثيرا وولجا إلى عمق العاصمة حيث الحياة تختلف عن تلك التي تعيشها هي بالضواحي. فالمباني أكثر فخامة والحركة في شوارعها لا تنقطع.
توقف فادي أخيرا بأحد الأزقة الجانبية الخالية وركب معه امرأة ورجلان. فيما توقف سائق سيارة الأجرة عند ناصية الشارع حتى لا يتنبه إليه. وعيناه تراقبان الثلاثة الذين ركبوا السيارة.
الإنارة بذلك الزقاق كانت رديئة وهو خال من الناس، وكان من المستحيل أن ينتبه فادي لملاحقتهما له، تحرك بالسيارة من جديد ولف بها للخروج من الزقاق من نفس نقطة دخوله. خفضت سهام رأسها ولم تستطع رؤية وجوه الثلاثة الذين هم معه. وبعد خروجه للطريق العام لحق به سائقها.
كانت تضغط على قبضتها في قلق وهي لا تكف عن التحرك في مكانها في توتر. سألها السائق: أهو زوجك؟
أجابته: نعم.
أومأ برأسه في دهشة وتمتم بصوت مسموع: الحمد لله أنني أعزب..
لم تجبه وإنما بقيت تحدق بالسيارة التي قد ابتعدت كثيرا عن مرمى بصرها وقالت بقلق: إياك أن تُضيعه...
أجابها: لا تقلقي، أنا أمهر من يقود سيارة....
وضاعف من سرعته متجاوزا من قبله حتى أصبح قريبا منه.
كانت سهام تحاول أن تتأكد من هوية المرأة الراكبة معهم، لم تهتم للرجلين بقدر ما رابها منظر تلك الفتاة الشقراء.
سألت السائق: هل تستطيع أن تقود بقربه؟.. أقصد أن تتجاوزه، أريد رؤية الفتاة الراكبة هناك عن قرب...
أجابها بتهكم: تقصدين الجدار... إنها أضخم من أن توصف بفتاة...
لم تعر كلامه أية أهمية، ولم تعلق عليه فأردف هو: لا أستطيع تجاوزه، أمامنا منعطف ولست متأكدا إن كان سيستمر على الطريق السريع أم أنه سيتركه على الطريق الجانبي.
همست: حسنًا...
وعادت للصمت والترقب. حتى خرجت السيارة من الطريق العام وسائقها يؤشر لها بالمرآة: ألم أقل لك !
لم تجبه أيضا فعيونها شاخصة أمامها تتأكد بنفسها ألا تضيع منها السيارة فهذا السائق الأخرق ليس منصبا على القيادة بقدر انصبابه على الثرثرة...
توقفت السيارة أخيرا في موقف قريب من أحد الأبنية وغادر راكبوها متجهين إليه ودخلوه فور وصولهم.
نظرت سهام للسائق: أركن السيارة بنفس الموقف وانتظرني... لن أتأخر في العودة.
حملق فيها بتعجب: ستلحقين بهم !
أجابته وهي تخرج النقود من حقيبتها: هذا لك.
مد يده ليأخذ المال فعادت وسحبت يدها متفطنة لأمر غاب عنها: إن أعطيتك المال فسترحل وتتركني عالقة هنا ! أنت لن تأخذ أي فلس قبل أن أرجع للحي الذي أخذتني منه...
زفر بسخط ورد: وهل علي أن أنتظرك الليل كله هنا !
نزلت من السيارة وأقفلت الباب خلفها ثم اقتربت من زجاج نافذته فأنزله ليسمعها وهو يقول: هل تعرفين على الأقل ماذا يوجد بالداخل؟
أجابته: سأعرف حالما أدخل.
قال وهو يتأملها: ذلك ملهى ليلي سيء السمعة أغلقته الدولة أكثر من مرة لكن صاحبه يجد في كل مرة طريقة قانونية ليشتغل من جديد.
وأردف بعد أن اكتفت هي بالصمت: لا أنصحك بالدخول إلى هناك... هيا اركبي سأعيدك للمنزل.
حركت رأسها نفيا وهي تشعر بالبرد, فرأسها المبلول سيتجمد من الهواء البارد الذي يهب عليهما. وقالت: فاض كأسي...
تركته دون أن تضيف أي شيء وسارت تحث الخطى باتجاه مدخل ذلك المبنى وعيونها تمتلئ بالدموع لكنها تأبى أن تكون على هذا الضعف.
وجدت رجلا ضخما عند المدخل نظر إليها من رأسها حتى أخمص قدميها: لديك بطاقة انتمائك لهذا المكان؟
أجابته بتوجس: لم أحضرها... نسيتها.
رد عليها وهو يرفع أحد حواجبه: لم أرك من قبل !
قالت وهي تعتصر أصابعها من التوتر: التحقت هنا مؤخرا...
أجابها من فوره بعملية: عذرا سيدتي لا يمكنك الدخول...
تحركت في مكانها رافعة عنقها تحاول كسر فضولها في استراق نظرات من القاعة الداخلية فوضع يده في طريقها: غادري سيدتي.
زفرت بسخط وشتمته في سرها ثم تحركت مبتعدة لكنها لم تستسلم إذ استغلت فرصة حديثه إلى الزبائن الذين وصلوا توا وأسرعت الخطى إلى السور الجانبي الممتد على نطاق واسع وهناك كانت تبحث عن منفذ يُمكنها من الولوج دون أن يلاحظها أحد. تأملت النافذة بالطابق العلوي وكانت مفتوحة، هذه فرصتها...
وضعت قدمها على السياج الخارجي للنافذة السفلية وراحت تحاول الصعود. تشبثت وتشبثت لكن وزنها لم يساعدها بتاتا فسقطت أرضا.
أبعدت خصل شعرها عن وجهها وتأملت الحذاء الرياضي بقربها. فانتفض جسدها واستوت جالسة.
قال لها: منذ أن رأيتك حدثني حدسي أنها ليلة المشاكل.
رفعت رأسها إليه وكان سائقها. تعجبت من لحاقه بها وسألته: ما الذي تفعله هنا؟
مد إليها يده فوقفت دون أن تتمسك به وراحت تنفض الغبار عنا. لحظتها سحب يده إلى جيبه وبقي واقفا يراقبها: هل جننتِ يا امرأة ! يبدو أنك تشاهدين أفلام الأكشن بشكل مفرط...
صرت على أسنانها وأرادت تحذيره من الاستهزاء بها فأردف هو قبل أن تنطق: أي غباء هذا يجعلك تقتحمين مكانا كهذا بهذه الطريقة... ألا تفكرين فيما ينتظرك هناك... إنهم أناس سكارى مدمنون متدنيي الأخلاق... صدقيني أعمل سائقا وأرى بالطرقات ليلا أكثر من كل الذي رأيته بكل حياتك...
وأشار إليها: هيا معي...
وضعت كفيها على وجهها بتعب وخيبة وهي تردد: لن أعود... لن أعود... ليس بعد أن وصلت إلى هنا؟
صاح فيها باستياء: أنت مجنونة ! ألا تفهمين؟
ردت عليه بحنق: أجل أنا مجنونة... مجنونة... هو من جعلني كذلك... أريد أن أعرف من تلك المرأة... من هن هؤلاء النسوة اللاتي ذهبن بعقله...أريد أن أراهن بأم عيني لأعرف لما يفضلهن علي أنا أم ابنه... أريد أن أعرف لماذا يحتقرني... لماذا يعاملني كنكرة... أريد أن أعرف... أن أعرف...
وتخافتت نبرة صوتها متحشرجة من اختناقها بالدموع، ثم لم تجد حرجا من أن تبكي أمامه وعلى مرأى منه بدت في وضع لا تُحسد عليه وهي تشهق بحرقة وأنفاسها تتردد في جوفها.
زفر بقلة حيلة واقترب منها: لا تبكي...
نظرت إليه والدموع تغرق خديها، فتابع كلامه: أعرف طريقة للدخول...
تحمست فجأة ومسحت دموعها بأكمامها بينما سبقها هو فراحت تلحقه وهي تردد بفضول: ماذا سنفعل؟ كيف سندخل!
فور وصوله إلى الحارس الذي منعها من الدخول وضع بيده أوراقا نقدية وكأنه يصافحه. تلمسها الحارس بريبة فقال: سأدخل أنا والآنسة...
لم يجبه الحارس بكلمة فوضع السائق يده على ظهرها وجعلها تتقدم بلطف حتى صارا بالداخل.
سألته بغرابة: ما الشيء الذي وضعته بيده؟
أجابها وعيناه تطوف على الأرجاء: المال يفتح الأبواب المغلقة...
أومأت برأسها ولم تعقب على كلامه، ثم راحت تبحث عن زوجها بين الجموع هناك. سألها: هل ترينه؟
حركت رأسها نفيا فتوغلا في المكان أكثر وعيونهما على كل ركن وزاوية. بدى مكانا مريبا لم تر مثله في حياتها عدا الأفلام طبعا. قوارير الخمر بكل أصنافها منتشرة هنا وهناك وعلى الطاولات. رجال مترنحون وآخرون منتشين ونساء يرتدين ثيابا تكشف أكثر مما تستر. تبدلت الموسيقى فجأة من هادئة إلى صاخبة وبدأ الجميع بالرقص. سحبها فجأة من يدها واختلطا بتلك الجموع الراقصة. نفضت يدها منه بغضب وهي تصيح فيه حتى يطغى صوتها على صوت الموسيقى: ماذا أصابك؟
قرب رأسه من أذنها وقال: بعض الحراس يراقبوننا أعتقد أنهم لاحظوا جولتنا التفقدية حول المكان ويعتقدوننا من الشرطة...
جحظت عيونها بريبة فتابع: أغلبهم من رجال العصابات والمافيا... الله وحده يعلم كيف سيتصرفون معنا.
قربت هذه المرة رأسها من أذنه وقالت: لا أريد أن نقع في المشاكل... لدي ابن وهو يحتاجني... كما أنني لا أريد أن تتأذى بسببي.
تحركا باتجاه الباب للخروج لكنهما تاها وسط الزحام حتى انتهيا عند باب كبير موصد وقد خرج منه أحدهم. هزت السائق من ذراعه فجأة وعيونها شاخصة بذلك المدخل فقرب أذنه منها: ماذا هناك؟
أجابته: أعتقدني لمحت صاحبة الشعر الأشقر هناك...
فهم أنها تقصد الفتاة التي كانت مع زوجها ورفاقه، وقبل أن يقول أية كلمة نطت من مكانها وحاولت الدخول. وقبل أن تتجاوز الباب أمسك بها أحد الحراس وأعادها للخلف: إنها منطقة خاصة.. ممنوع الدخول.
فتحت حقيبة يدها وهي تقول: كم تريد مقابل أن أمر.
أجابها بوجوم: قلت الدخول ممنوع...
بدت مصرة: سأدفع بسخاء.
لم يُبدي الحارس أي تجاوب معها فسحبها السائق معه وابتعدا وهي تتقد غضبا: أرأيت يا ذكي!... لا يبدو أنه يفتح كل الأبواب...
ثم التفتت إليه وعلى وجهها علامات استفهام: منطقة خاصة ! ما معنى ذلك؟
فكر للحظة وهز كتفيه دلالة أنه لا يعرف فيما كان الشك يساوره إزاء الأمر.
تنبهت أخيرا ثم سكنت للحظة فاغرة فاها: أعتقد أنه ممر باتجاه الغرف التي توفر المتعة لأولئك الأوغاد.
لم يبد انبهاره بما وصلت إليه، واكتفى بسحبها من ذراعها حتى يتركا المكان. أفلتت ذراعها منه بالقوة وقالت في تحدي: لن أتراجع... ليس بعد أن لم يبق بيني وبينه غير هذا الباب...
ركضت مسرعة وتجاوزت الحارس الذي لحق بها على الفور. انطلقت كالسهم في ذلك الرواق حتى توارت عن ناظريه واختبأت في الركن خلف بعض الستائر فيما استمر هو في الجري على طول الرواق دافعا ببعض الأبواب المفتوحة حتى يعرف إن اختبأت في تلك الغرف.
عندما ابتعد خرجت من مخبئها وعادت أدراجها لتلك النقطة أين شاهدت الفتاة الشقراء. وقفت تنظر ذات اليمين وذات الشمال. هناك بابان في أي منهما دخلت يا ترى؟ ليس أمامها كثير من الوقت وعليها أن تستغل كل ثانية.
طرقت على أحد البابين وبعد مماطلة فتحت الفتاة نفسها. وصعقت سهام فور مشاهدتها... لم تكن فتاة ناعمة وجميلة كما تخيلتها! بل كانت فارعة الطول ضخمة الجثة، بل أسوأ كانت رجلا في ثياب امرأة! ليس بالمعنى المجازي ولكن بالمعنى الحرفي للكلمة.
حملقت فيها أو فيه ببلاهة وذهول، ذهب بعقلها وانعقد لسانها دون أن تنطق بكلمة... لم تصدق عيناها واعتقدت أنها بدأت تفقد رشدها...
سألتها بحركات أنثوية لكن بصوت ذكوري بحث رغم محاولاتها في جعله أنثويا: ماذا تريدين؟
دفعت سهام الباب بكل ما أوتيت من قوة واستطاعت أن تبصر الرجل بالسرير وهو يتذمر منها. حمدت الله في سرها أنه لم يكن زوجها وبالكاد استطاعت أن تتراجع إلى الوراء دون أن تسقط. طرقت على الباب الثانية وفتح بسرعة زوجها وهو ملفوف في فوطة استحمام.
تراجع للخلف خطوة واحدة بعيون توسعت عن آخرها وهمست شفاهه: أنت ! وصل لحظتها الحارس وحاول الإمساك بها لكنها دفعت زوجها ودخلت الغرفة. كان يجب لها أن تعرف مع من يخونها... أن تشاهد تلك الساقطة التي سرقته منها وحرمتها منه طوال سنوات زواجهما.
لم تجد غير رجل ثاني بالغرفة تجاوزته وهي تبحث وتقول: أين هي؟ أين هي؟
لم تكن لتصدق ما تراه... أيعقل أن يكون فادي بهذا الانحراف. وأن عشيقته الحقيقية ماهي إلا ذلك الرجل الواقف أمامها !!!
أمسك بها الحارس وسحبها خارجا وهي تتألم من ذراعها فيما كان هو يعتذر عن هذا الازعاج لفادي وشريكه. عندما وصلت إلى فادي وقبل أن تترك الغرفة بصقت في وجهه وانهمرت دموعها وهي تردد مغيبة عن الواقع: أعوذ بالله ، أعوذ بالله...
ألقى بها الحارس خارجا وهو يحذرها من الدخول إلى المكان مجددا كما نبه الحراس لهذا الأمر. وكان السائق في انتظارها فساعدها على الوقوف وعيونها تذرف دموعا غزيرة لم تستطع إيقافها.
حاول أن يسألها لكنها تجاوزته وانحنت في الزاوية تتقيأ. ما شاهدته أثار غثيانها... قرف لم تتوقعه من شريك حياتها. عقلها لا يصدق ما شاهدته عيناها... تملكتها رغبة شديدة في ضربه ولكمه وحتى قتله. أرادت أن تسترجع كرامتها المسلوبة منه فهو في عيونها أصغر من أن تمنحه شرف إخضاعها...
جثت على ركبتيها باكية فيما وقف السائق خلفها مباشرة: أنت بخير؟
صرخت بأعلى صوتها وهي تشد على شعرها: لست بخير... ألا ترى؟ !
أمسك بذراعيها وساعدها على الوقوف ثم جعلها تلتف إليه: أعلم أن الخيانة شعور صعب، وفعل لا يُغتفر... لكنني متأكد من أنك ستتجاوزين الأمر في النهاية.
كانت تمسح دموعها عندما أطلقت ضحكة هستيرية مجنونة وهي تقول: لم أستطع حتى أن أشدها من شعرها ولا حتى أن أغرس أظافري في وجهها... لم تكن امرأة حتى !!!
بدى الذهول واضحا على وجهه فيما تابعت هي بنفس هستيريتها وكأنها شارفت على الجنون: كنت دائما أتخيل شكلها وبهاءها... لطالما اعتقدت أنها جميلة بدرجة لا توصف.
وضحكت قبل أن تردف: لكنها ليست سوى رجل... رجل يا هذا...
همس باشمئزاز: السافل...
توقفت بقربه ونظرت إليه: تشمئز؟ ولكنه لا يشمئز...
أصبح قبالتها ثم قال: لا أعتقد أن رجلا مثله يستحق أن تتألمي من أجله... هذا إن استطعنا أن نصفه برجل...
سهمت بعيونها بعيدا ورددت بقهر وشفاهها ترتجف: ضيع حياتي وحياة ابنه... لا تتصور كم عانيت من إهماله... لم أفكر يوما في أنه بهذه الوقاحة!





noor elhuda likes this.


التعديل الأخير تم بواسطة rontii ; 24-08-21 الساعة 01:58 AM
بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 06-08-21, 01:36 AM   #25

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي



الفصل الثامن

فتحت باب الشقة بأياد ترتعش وعيون حمراء يملأها الغضب، تتطاير منها دموع القهر كل لحظة.
مسحت وجهها بأكمامها ونظرت إلى حماتها الجالسة على الأريكة في هم وضيق. بقيت للحظات تراقبها وعيناها تتهمانها.
وقفت هناء واقتربت منها: الحمد لله على عودتك سالمة يا ابنتي...
لم ترد عليها سهام بكلمة وإنما بقيت تلقي إليها بتلك النظرات الشرسة وكأنها على وشك الانقضاض عليها.
راب هناء ذلك المنظر لكنها اقتربت منها بهدوء وربتت على كتفها، هيا لتنامي يا ابنتي... لقد قلقت عليك كثيرا...
أبعدت سهام يدها عنها وهي تصر على أسنانها: لا تلعبي دور الأم الحنون... فهذا الدور لم يعد يليق بك بعد اليوم...
تجمدت معالم هناء وبقيت تحدق فيها باستفهام، بينما تابعت سهام بغضب رغم محاولاتها اليائسة في كبح جماح جنونها: كنت تعلمين... كنت تعلمين منذ البداية...
تأتأت هناء وقد ارتسمت الدهشة على كل ملامحها فصاحت بها: لماذا اخترتني أنا من بين كل النساء لتلقي علي بلعنة ابنك المنحرف !
دفعت هناء بسهام لداخل غرفتها حتى لا يستيقظ سليم من نومه خصوصا وأنها لم تخبره بخروج كنته خلف ابنه وشجارهما...
عندما أصبحتا بالداخل أقفلت الباب وطلبت منها أن تخفض من صوتها: عمك نائم، هو لا يعرف بخروجك وإلا كان قد أقام الدنيا ولم يقعدها، لا تسببي لي المشاكل لأنني تسترت عليك...
حاولت سهام أن تهدأ وهي تمسح دموعها تارة وتنظر لصغيرها النائم في سكون تارة أخرى.
شهقت بألم ثم قالت: لماذا ابتليتني به؟ لماذا زوجتموه أصلا إذا كان لا يرغب إلا في الرجال !
جحظت عيون هناء بينما أشّرت لها سهام بإبهامها في اتهام: إياك أن تكذبي... كنت تعلمين منذ البداية...
ارتجفت كل أوصالها ولم تجرؤ على تفنيد هذا الكلام فتابعت سهام بثقة: هو ابنك الوحيد... أنت ربيته، أنت كنت المسؤولة عنه وعن كل ما يخصه طيلة كل هذه السنوات وأجزم أنك تعرفين بانحرافه... لا تكذبي.
حركت هناء رأسها نفيا ولم تقل أي كلمة فتابعت سهام: فادي الرجل الوسيم... له وقفة وطول يحسده عليه كل الرجال... عمل، أسرة... يتعامل مع الجميع بطريقة طبيعية... يا إلهي طوال طريق العودة وأنا أفكر في أي إشارة بدت منه وأغفلتها !!! لم أجد أي ثغرة في حياته سوى إهماله لي بطريقة لا مسوغ لها...
استجمعت قواها وتابعت: لم يخطر على بالي يوما أنه بهذا القرف... تبا له دمر كل حياتي...
صمتت للحظات وهي تحدق بحماتها ثم رمتها بهذه الكلمات: ابنك لا يصلح لأن يكون رجلا يا حماتي... بل لا يصلح حتى أن يكون إنسان فهو أقرب للحيوانات منه للبشر...
بدى الغضب في عيون هناء وردت عليها بغيظ: ابني رجل رغم أنفك يا هاته...
أجابتها بفحيح: اظهري على حقيقتك... اعترفي أنك زوجتني منه لتستري عيبه... ليكون رجلا عاديا بين كل الرجال بينما أنت...
ولكزتها بإبهامها مردفة: أنت تعلمين جيدا أنه شاذ حقير...
كانت ملامح هناء كلها غضب، نظرت إلى كنتها بطريقة مبهمة ثم تركت الغرفة إلى المطبخ وهناك بدأت بذرف الدموع.
وقفت سهام عند رأسها وهي تراقب انكسارها: ابكي... ابكي... تستحقين أكثر من البكاء. أنت من دمر حياتي وليس هو... أنت من خطبني له...
وصاحت بقهر: ما ذنبي أنا ! ما ذنب هذا الصغير !... لماذا دمرتنا؟

*****

جاء الصباح. كان محمود نائما على سريره ونسرين تحضر الافطار وعقلها يسترجع الأحداث الكثيرة التي مرت بها ليلة البارحة... أي نحس هذا يرافقها في كل خطوة تخطوها لتسعد في حياتها!.. سار كل شيء على ما يرام حتى طُرِق الباب!... إن كان أهلها يراقبونها ويرصدون أخبارها فلابد وأنهم قريبون منها...
توقفت فجأة وشرد عقلها وأصابعها تتلمس وجنتها بخجل... شهقت بقوة وهي تتذكر تلك اللحظة التي أفاقت فيها من نومها فوجدت نفسها ملقاة على صدره وذراعه تحاوطها... كانت تشعر بالخجل من نفسها، فقبل الليلة لم يقربها رجل بهذا القدر ولم يتغلغل لأعماقها دفؤه ليمنحها روعة الإحساس بالانتماء...
أرادت أن تبتعد عنه حتى لا ينام على تلك الهيئة ويعاني صباحا من آلام في جسده. وفور محاولتها لإنزال قدميها على السجادة لتقف سقطت بعد أن علق رجلها، فأفاق على إثر صوت ارتطامها بالأرض.
بدت محرجة وهو يساعدها على الوقوف ويسألها إن كانت بخير... في الواقع، غطى خجلها منه على ألمها فبقيت تردد على مسامعه: أنا بخير لا تقلق... أنا بخير...
توقف عن معاينة قدمها وقال بابتسامة: لماذا كنت ستهربين؟
حملقت في وجهه وتأملت عيونه الذهبية تحت ضوء المصباح القريب. ابتلعت ريقها وهي تصارع ضربات قلبها التي باتت مزعجة لها حتى خافت أن يسمع دقاتها... تأمل عن قرب تفاصيل وجهها الجميلة. لكم عشق تلك العيون المتكبرة... التي كانت تتجاهله على الدوام... تثيره تلك اللمعة في سوادها من شدة ترقبها وربما خوفها... وكيف لها ألا تخاف وهي على أعتاب رحلة في عالم العشق الذي عرفته محرما منذ أن وعت على الوجود!
قال وهو يحاول أن يريحها: هل ترغبين في أن تنامي؟
هزت رأسها بنعم من شدة اضطرابها... فأمال رأسه للجانب الآخر وهمس بغيظ: يا إلهي...
كل ما قصده هو إراحتها، ولم يتوقع قبولها. سمع ضحكتها الخافتة... والتي تحولت لمسموعة عندما تأملها مبتسما...
ثم أخفت وجهها عنه وهي تتابع الضحك فرفعها بين ذراعيه إلى غرفتهما وهو يقول: تختبرين صبري!.. يا لك من فتاة!
أفاقت من شرودها عندما أحست بيد محمود على كتفها: سنأكل البيض المحروق...
انتبهت للمقلاة وراحت تقلب العجة أمامها وهي محرجة: يا إلهي لم أنتبه !!
ضحك ثم قال لها: أتمنى أنني من يشغل بالك...
بادلته الضحكة وأجابته: هيا اجلس سيكون الافطار جاهزًا بعد لحظات...
سحب له كرسيا وجلس يتذوق من الأطباق على الطاولة وهو يحدثها: كان عليك أن تنامي حتى وقت متأخر وكنت سأطلب إفطارا جاهزًا...
فكرت داخلها أنها غير متعودة على الدلال فمنذ صباها كانت أمها توقظها باكرا لتساعدها في تجهيز الفطور معها لإخوتها قبل ذهابهم للعمل... لم تتعود الدلال في يوم من الأيام فهل يحاول هذا الرجل أن يجعل لمجرى حياتها مسارا مخالفا لذلك الذي تعودت عليه !
وضعت كل شيء على الطاولة وجلست مقابلة له: أتمنى أن يعجبك ما أعددته.
ابتسم بحب وعيناه تتأملانها: ما دمت تجلسين قبالتي فحتى الماء سيصبح له طعم مختلف...
توردت خدودها خجلا وأخذت تأكل من صحنها وهو يراقبها مع نفس الابتسامة. يحرجها أن يضعها تحت المجهر ويرفع من ارتباكها أن تحس أنها تحت المراقبة.
تمطى وهو يشعر بألم مبرح في عضلاته: أشعر أنني فقدت عظمة أو اثنتين في ظهري...
شهقت، فضحك. عندها قالت: آسفة يا محمود... لست أدري كيف غفوت! ربما كنت متعبة.
أبعد الكأس من طريقه ومد يده إليها ليداعب أناملها: لا تقولي هذا الكلام... ولا أريدك أن تفكري في مأساتك مع أهلك... أنا هنا بقربك. ولن يتمكن أحد من أذيتك...
بقيت تتأمله بحب وقلبها يهتف له عشقا، إنه أجمل ما حصل معها طوال كل سنواتها العجاف... نبهها وهو يشد على يدها: في ما تفكرين؟
أجابته: فيك...
قبل أن يجيبها رن هاتفه فحمله ونظر إلى الرقم على الشاشة ثم أجاب: نعم وديع... صباح الخير.
رد عليه وديع: صباح الخير يا عريس !
يبدو أن الأخبار تسري سريعا ! وقف وسار باتجاه غرفة الاستقبال، ثم تأكد أن نسرين لم تلحق به ليجيب: متى عرفت بهذا؟
أجابه: البارحة... لكنني لم أخبر والدك حتى اليوم حتى لا يفسد عليك الأمر...
- و... ماذا قال؟
- ما الذي سيقوله ! جن جنونه باختصار...
- زواجي أمر يخصني وحدي...
- لكن محمود، أنت تعلم أن أمورك معقدة بما يكفي... لماذا عقدتها أكثر؟
- لن أتناقش معك في الموضوع... أخبرني الآن ما الجديد عندك؟
- مروى... زارت والدك قبل أيام وقالت أنها تحدثت إليك...
- أجل فعلت... دعني منها الآن. أخبرني ماذا يعتزم والدي الآن بعد أن سمع بزواجي؟
- الله وحده يعلم. توقع أي شيء فأنت تعرفه جيدا...
كانت نسرين بالمطبخ تسأل نفسها عن سبب ابتعاد محمود للحديث على الهاتف ، لابد وأنها أمور لا يريد لها أن تعرفها... قد تكون مروى هي المتصلة !
اشتعلت فجأة نيران الغيرة بين جوانبها وشعرت بالاختناق، وضعت فنجان الشاي الذي كان بيدها على الطاولة بعنف فدخل محمود واشتم رائحة غضبها.
سحب كرسيه وجلس وهو يقول: إنه اتصال عمل...
هزت رأسها بنعم ونظراتها تتهمه، لكنه لم يشأ أن يدخل من بكرة الصباح معها في تفاصيل مصيبته لأنه ينوي أن يعيشا أيامهما الأولى في حب وسعادة: سنسافر ليومين أو ثلاثة في شهر عسل...
رفعت رأسها إليه بدهشة فتابع: شاليه على البحر.
أجابته: ألن يكون الجو باردا
غمزها وقال: هذا أفضل سيكون المكان خاليا...

*****

استيقظت سهام... فتحت عيونها وألقت بنظرات متعبة لتلك الغرفة المعتمة إنها العاشرة، تأخرت اليوم في نومها... متى غفت؟ لا تذكر حتى أنها تمددت على السرير ! استوت بجذعها جالسة وألقت بنظرة خاطفة لأنس النائم في هدوء، فابتسمت بود وحمدت الله في قرارتها أنه أبقى لها على فلذة كبدها وحفظه لها. لاحت منها نظرة خاطفة للسرير فذهلت وتجمدت من الصدمة.
كان فادي ينام بجوارها ، ما الذي يفعله بحق الله هذا المنحرف ومتى عاد ولم تنتبه إليه ! وقفت بذعر وضربته بالوسادة: أنت أيها الشاذ المنحرف !
أفاق مجفلا وهو يقول: ما الذي أصابك؟
ردت بجنون: وتسألني ماذا أصابني؟... أيها المنحرف الحقير !
أفاق أنس على صراخهما وأخذ في البكاء بينما تابعت سهام صراخها في جنون وهي تلعنه وتصفه بأسوأ الصفات وعبثا حاول تهدئتها، أقبلت هناء وسليم من غرفة الاستقبال وطرقا على الباب وهما يستفسران عما يحصل بينهما، فتح فادي أخيرا وهو يقول: لست أدري ماذا أصابها ! أفاقت من نومها وبدأت مباشرة بمهاجمتي...
دفعته بقوة وهي تقول: أيها الحقير، كيف تتجرأ على النوم إلى جواري ! أيها المنحط بأي وجه تقابلني وتكلمني!...
رد عليها بدهشة: أعلم أنني ضربتك ليلة البارحة، أنا أعتذر كنت غاضبا ورفعت يدي بوجهك... حسن الآن لا داعي للصراخ !
ازداد حنقها وكادت تخنقه وهي تقول: أيها المنحط، لقد رأيتك بأم عيني... رأيتك هناك بذلك الملهى، رأيتك واكتشفت حقيقتك أنت شاذ يا عفن... أنت مثلي جنسيا...
والتفتت إلى والديه: لقد رأيته بأم عيني كان معه رجل بالغرفة وكان هو ملتف في فوطة الحمام...
بدت الدهشة في وجه أبويه بينما اقتربت منها هناء واضعة كفها على جبينها: أنت بخير يا ابنتي؟
أبعدت سهام كفها عنها ونهرتها: لا تدعي البراءة... لقد أخبرتك هذا البارحة؟
حملقت فيها هناء بدهشة: البارحة نمت قبل سليم... متى التقينا؟
والتفتت إلى سليم الذي بدى متوترا وهو لا يفهم ما يدور حوله، ثم قال: متى خرجت من المنزل ورأيته؟
أجابته بسرعة: البارحة بعد خروجه... تتبعته في سيارة أجرة...
رد سليم: لكنني لم أشاهدك تخرجين خلفه !
جن جنونها وصرخت بغضب: هذا لأنه رجع لأخذ مفاتيحه ولحقته في المرة الثانية...
قاطعها فادي: أنا لم أنس شيئا ومفاتيحي دائما في العلاقة بحزامي...
تأملها بصمت وأكمل: يبدو أنك لست على خير ما يرام... هل آخذك للدكتور؟
صرت على أسنانها وهدرت فيهم بجنون: لا تجعلوا مني مجنونة الآن !
حملت هناء أنس وهي تضمه إليها حتى يسكت بينما اقتربت سهام من سليم لأنها تعرف أنه رجل مستقيم وسينصفها إذا ما عرف الحقيقة: عمي لا تصدقهما... هذا المنحط يكذب وأمه تتستر عليه... سأخبرك الحكاية كاملة...
وراحت تقص عليه كل ما حصل معها دون أن تغفل التفاصيل والجميع فاغروا الأفواه حتى وصلت لتلك اللحظة التي دخلت فيها على هناء بالمطبخ وهي تبكي: أخبرتها أنها تستحق أكثر من البكاء لأنها هي من دمر حياتي عندما خطبتني له وهي تعلم بشذوذه، وبعدها رجعت لغرفتي، جمعت ثيابي وكل أغراضي ووضبتها بالحقائب كنت سأتصل من هاتفي بسيارة أجرة فلم أجد به رصيد لذا خرجت لأتصل من الثابت وجدت حماتي في المطبخ تشرب الشاي وتبكي... أحزنني منظرها وقدّرت أنني ربما قد آذيتها بكلامي كثيرا فجلست معها هناك وأخبرتها أن تبحث له عن معالج نفسي متخصص في مثل هذه الأمور فأنا كأم أقدر حرقتها، سألتني إن كنت سآخذ أنس معي فأجبتها بنعم... ثم التزمتِ الصمت واكتفت بسكب فنجان شاي لي.. وبعدها... بعدها عدت للغرفة وتابعت جمع أغراضي...
وصمتت تحاول تذكر ما حصل بعدها. فاستعجلها سليم: ثم ماذا؟
ردت عليه: لا أذكر...
هنا تدخلت هناء: يا ابنتي... ما أذكره أنا أنك تشاجرت وفادي في الغرفة، ثم رأيناه أنا وسليم يخرج غاضبا للسهر كعادته... دخلت أنا لغرفتي ونمت حتى الصباح... لم أسمع حتى صوت الباب عند عودة فادي للمنزل...
حملقت سهام فيها بدهشة فأردفت: أعلم أن ما أصاب ابنك قد أثر عليك كثيرا ضف إليه علاقتك المضطربة بفادي، كل هذا أثر سلبا عليك وجعلك تتخيلين أمورا لم تحصل أبدا...
بدت شاحبة وقالت بصوت مرتجف: تقصدين أنه كان كابوسا !
هزت هناء رأسها بنعم بينما أطلق فادي استغفارا وخرج ليغتسل متجاهلا ما يحصل. فازداد حنقها: تريدون دليلا ! ها هو الدليل...
وراحت تبحث عن حقائبها قرب الخزانة أين تركتها ليلة الأمس موضبة دليلا على استعدادها المسبق للرحيل فلم تجد شيئًا ! فتحت باب الخزانة بغضب فوجدت ثيابها مطوية ومرتبة كأن أحدا لم يلمسها !
دهشت وتراجعت للخلف بذعر فبادرها سالم بالسؤال: أين هو الدليل يا ابنتي؟
تأتأت دون أن تنطق بكلمة مفهومة. ثم التفتت إليه بدهشة وقد بدأ الشك يساورها بشأن صحة ما روته حتى الآن... أيعقل أنها كانت في كابوس تصارع هواجسها !
أخذت هناء أنس في يدها وغادرت باتجاه المطبخ حتى تطعمه وهي تقبله وتضمه وتخبره أنه تحسّن وقريبا سيخرج للعب على الأرجوحة.
وقف سليم مكانه للحظات ثم ربت على كتف سهام وهو يقول: أحمد الله أنه وهم من صنع مخيلتك وليس حقيقة لأن ما رويته كان سيشل رُكَبي...
خرج لاحقا بابنه وزوجته وحفيده بينما بقيت هي متيبسة كالصنم مكانها. وكأنها وتد في الأرض أو حجر، برأسها دوخة ودوار وصور ضبابية لليلة مرعبة ومفجعة... يقولون أنها مجرد كوابيس ! كيف للكوابيس أن تحاكي الحقيقة هكذا عميقا، حتى أنها مازالت تشعر بنفس الاشمئزاز، نفس الغثيان ونفس القرف لم يتغير منه شيء !!!....
رأسها كان سينفجر من الصداع، اقتربت من الباب لتذهب إلى الحمام وتغتسل. وعندما دفعته قليلا تراءت لها حماتها وهي تحدث سليم: يبدو أنها تعاني من الهواجس... علينا أن نجد لها طبيبا نفسانيا قبل أن تتدهور حالتها أكثر... مهما كان ما قالته تظل هذه كنتنا وأم حفيدنا... ربما الضغط الشديد الذي تعاني منه هو ما سبب لها هذه التخيلات... لن أنكر أن فادي رجل غير متفهم أبدا وهو يثير عصبيتها...
رغبت سهام في هذه اللحظة بالبكاء لماذا يصرون على جعلها مجنونة !!! هي تدرك في قرارتها أن ما حصل البارحة ليلا كان حقيقة... حقيقة ستثبتها للجميع مهما حاولوا وأدها.
دخلت الحمام بعد أن غادره زوجها الذي أشاحت بوجهها عنه ولم تستطع النظر إليه فقد أصبحت تقرف من ملامحه القذرة.
فتحت صنبور المياه واغتسلت. وفي كل مرة كانت ترقب وجهها المنتفخ وعيونها المحمرة. مؤكد هذا بسبب ما حصل ليلة الأمس... نظرت إلى راحتي يديها ورأت آثارًا لخدوش طفيفة... لابد وأنها بسبب سقوطها على الأرض عندما حاولت تسلق الجدار متعلقة بحاجز النافذة... تأملت بسرعة سروال بيجامتها بحثا عن غبار أو آثار لوقعتها تلك فلم تجد غير كدمة طفيفة على ركبتها... هي إشارات غير واضحة لكنها تؤكد لها حقيقة ما عاشته البارحة. يبدو أن زوجها وأمه يحاولان طمس الموضوع برمته، يريدان أن يجعلا منها واهمة ويتهمانها بالجنون، لكنها أبدا لن تسمح لهما بذلك... ستواجههما وستكشف الحقيقة... ولكن إلى ذلك الحين لن تمكث هنا دقيقة واحدة.
دخلت غرفتها على عجل ووضبت حقائبها بسرعة، ثم توجهت إلى المطبخ أين كان فادي مع ابنه وأبويه يتناولون الافطار في ضحك وأنس.
وقفت عند الباب وحقيبة يدها تحت مرفقها، ونظرت إلى الجميع بعيون اتهام وهي تقول: تعتقدونني مجنونة... لكنني سأثبت العكس...
ذهلوا جميعا ونظروا إليها بوجوم فتابعت: لن أبقى في هذا البيت لحظة بعد... سأكون في منزل أهلي وسأبدأ بمعاملات الطلاق... لن أبقى زوجة لقذر مثلك بعد اليوم...
ضرب بقبضة يده على الطاولة وصاح فيها بثورة غضب: راقبي كلامك جيدا.
مدت أمه يدها إليه لتهدئه وهي تقول: ليست على ما يرام بني.

هنا انفجرت براكين سهام فهدرت فيها بغيظ: لا تحاولي إفهام عم سليم أنني مجنونة من خلال حركاتك البائسة تلك...
وأشارت لها ولابنها: كليكما يعلم الحقيقة التي أعرفها أنا جيدا... وسأجعلكما تندمان على فعلتكما صدقاني...
أخذت ابنها منها بغضب وتابعت تقول: قد يكون هو مختلا أو مريضا فأجد له عذرا ذات يوم، أما أنت... أنت أسوأ منه، لأنك امرأة شريرة لا تبحثين إلا عن مصلحة ابنك على حساب الآخرين... أنت أسوأ من الشيطان نفسه...
أخذ فادي ابنه من بين ذراعيها وهو يقول: تعلمي كيف تكلمي والدتي يا عديمة الحياء... جنونك لا يعطيك الحق في إهانتنا يا هذه...
صاحت به: أعد إلي الطفل...
أجابها ببرود: إن أردت الرحيل فارحلي لكن ابني سيبقى معي... لن تتجاوزي به عتبة الباب أبدا...
جن جنونها وراحت تحاول أخذ ابنها منه بالقوة وهي تضربه تارة وتشتمه تارة أخرى دون أن يسمح لها بأخذه من بين يديه وارتعب الصغير من كل ما يحصل فراح في البكاء إلى أن ضرب سليم بيده على الطاولة فهدأ الجميع وساد السكون: أعطها ابنها...
كانت كلمات صارمة قذف بها في وجه ابنه، فلم يجد بدا من تنفيذها وماطل في إفلات ابنه من بين يديه.
أخذت سهام صغيرها بين ذراعيها وراحت تحاول إسكاته فقال سليم: زوري أهلك بضعة أيام... وحالما تحسين بالراحة ويزول عنك الاضطراب ارجعي إلى زوجك وأسرتك...
هزت رأسها بنعم وفي قرارتها كانت تقول: "إن أمسكت بي هنا ثانية فابتر ساقاي يا عم سليم !"
خرجت من المطبخ وعيون هناء تتبع الصغير لا تريد مفارقته همت باللحاق بها لكن سليم منعها، وفي الرواق أخذت حقيبتها وخرجت تاركة الشقة...





noor elhuda likes this.


التعديل الأخير تم بواسطة rontii ; 24-08-21 الساعة 01:57 AM
بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 06-08-21, 08:45 AM   #26

أم عمر ورقية

? العضوٌ??? » 425830
?  التسِجيلٌ » Jun 2018
? مشَارَ?اتْي » 55
?  نُقآطِيْ » أم عمر ورقية is on a distinguished road
افتراضي

سلمت يداك .....في انتظار جديدك

أم عمر ورقية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 07-08-21, 01:31 AM   #27

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أم عمر ورقية مشاهدة المشاركة
سلمت يداك .....في انتظار جديدك
يسلمك من كل شر.

أحلى فصل لعيونك.


بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 07-08-21, 01:36 AM   #28

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي






الفصل التاسع

أمواج البحر العنيفة تضرب الشاطئ بقسوة وترجع على مهل ساحبة معها الرمال الذهبية وبقايا رغوة بيضاء... تلك الرياح الباردة حملت معها أطراف بلوزتها البيضاء ترفرف من حولها... رفعت نسرين من تنورتها وضربت بقدميها الحافيتين المياه فأمطرته بزخات متلألئة عكست أشعة الشمس الذهبية في مغيبها...
ضحك محمود وهو يتأمل نظراتها الطفولية للمكان... وكأنها رجعت عشرين سنة للوراء. طفلة تبصر البحر لأول مرة وتلعب بمياهه كما تمنت في قلبها سرا أن تفعل ذات يوم.
اقترب منها واحتضن كتفيها إليه فابتسمت وبقيا يراقبان الغروب.
سألها بحب: أعجبك المكان؟
ردت بسعادة: رائع...
شدها من كفها وسارا معا على الشاطئ بأقدام حافية، وهما يستمعان لهدير أمواجه. كان المكان شبه خاليا من الناس عدا بعض الصيادين على أحد المرتفعات الصخرية البعيدة. سألها: تشعرين بالبرد؟
أجابته: كلا...
واستمرا يتمشيان في صمت فالتفتت إليه: هل سنرجع للشاليه؟
أجابها: ليس الآن... سنتعشى أولا...
جلست على الرمال وبقيت تراقب المغيب، فجلس بقربها وساد الصمت الأجواء حتى همس باسمها: نسرين...
نظرت إليه وانتظرت ما يريد قوله وبقيت تراقب عيونه التي تحدق فيها بحب لم تر له في حياتها مثيل، ثم قال: أنا لا أستطيع النوم... لم أتوقع أن تكون حياتك مهددة بالخطر من طرف أهلك...
بدى الامتعاض على وجهها لفتحه هذا الموضوع من جديد، لكنه لم يرد أن يقفل عليه دون أن يقول ما كان يجول بذهنه: لقد أمضيت أياما بلياليها وأنا أفكر في كل الغموض الذي يلفك... حتى أنني أردت أن أدفع مقابل أي معلومة بخصوصك، اليوم وبعد أن صارحتني بحكايتك أجد أنه من العجز أن أقف مكتوف اليدين في انتظار ضربتهم الثالثة.
لم تجد الكلمات المناسبة لتقفل على الموضوع فاكتفت بهز رأسها نفيا: دعنا من كل هذا الحديث...
لفها إليه واضعا كلتا يديه على ذراعيها: يجب أن أنهي هذا الموضوع بالطريقة المناسبة... لا أريد لأي كان أن يتسبب في إيذائك.... إن كانوا يرون أنه في هروبك من الزواج و تركك للمنزل إهانة لشرفهم، فعليهم أن يعرفوا أن الحكاية برمتها قد انتهت وأنك متزوجة الآن ولديك من يحميك وليس عليهم التدخل في حياتك مجددا، يكفي كل هذه السنوات التي قضيتها في الهروب والاختباء...
نظرت إليه بعيون تمكن منها الخوف فزفر وتابع: إلى متى الخوف يا نسرين... لقد تمكنوا من زرع الرعب في كل ذرة فيك !
ردت بألم: محمود... قد يؤذونك فلا تُقحم نفسك في هذا الموضوع...
لم يتمالك نفسه فخرج صوته غاضبا: أقحم نفسي !!! أترينني غريبا يا نسرين ! الآن وبعد أن تزوجنا تقولين لا تقحم نفسك !
ردت بضيق: لا ليس هذا ولكنني أخشى من أن يتسببوا في إيذائك...
لم يقتنع بكلامها فاستطرد قائلا: إن أرادواإيذاءك فسيبدؤون بي لأنني سأكون حجر العثرة في طريقهم.. لا تأخذي الأمور باستهتار فلولا ستر الله المرة الماضية لكنت في عداد الموتى... لا أعتقد أنهم يمزحون معك !!!
وقفت بضيق فوقف أيضا وانتظر ما ستقول، لكنها سارت بضع خطوات في صمت فلم يشأ اللحاق بها والضغط عليها أكثر، لأنه يعرف جيدا أنه سيتهور في الكلام إن تمسكت برأيها وأصرت على ألا يتدخل بالموضوع. فعاد لجلوسه وبقي يراقبها وهي تسير على مهل مبتعدة والبراكين تغلي بداخله.

********

وقفت سهام في الشرفة تنتظر وصول أخيها آدم الذي خرج يتحرى عن ذلك الملهى الذي أخبرته عنه وقد تأخر كثيرا في العودة فبدأ القلق يزحف إلى قلبها.
خرجت أمها من المطبخ وهي تنادي عليها: سهام يا بنتي... كم ملعقة دواء يشرب أنس من هذه القارورة؟
دخلت من الشرفة وهي تفرك أصابعها من الاضطراب وردت بعد أن ألقت بنظرة للقارورة بيد والدتها: نصف ملعقة يا أمي...
هزت سامية رأسها وانصرفت لتعطي الدواء لحفيدها، ففي الآونة الأخيرة أصبحت سهام شاردة ومضطربة وبالكاد تتذكر مواعيد دواء ابنها.
بعد قليل عادت من المطبخ وهي تحتضنه، ووضعته في حجرها جالسة على الأريكة وعيونها تراقب ابنتها في صمت. ثم قالت: الحمد لله أنه نجا من الموت يا ابنتي... اعتقدت يومها أننا فقدناه إلى الأبد... أتعلمين ! منذ أخبرتني أنه تسمم بذلك الدواء الذي صنعه الشيخ وضميري لا يكف عن تأنيبي... سامحيني يا ابنتي... أنا من فتح عليك هذا الباب وأنت في غنى عنه...
وتهاوت من عينها دمعة ساخنة سقطت على وجه الصغير فمسحها وبقي يحدق فيها ببراءة.
تمتمت سهام وقد عادت لتتذكر غباءها وجهلها: لا عليك أمي... الخطأ لم يكن خطأك وحدك...
مسحت أمها دموعها بأصابعها وهي تقول: نسأل الله الغفران... ونرجو أن يعفو عنا...
هزت رأسها بالإيجاب فسمعت صوت الباب يُفتح وشاهدت آدم يدخل الرواق. ثم ما لبث أن وقف عند باب الصالون وألقى التحية: السلام عليكم.
ردتا عليه بصوت واحد: وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته..
كانت عيون سهام تتفرس وجهه علها تعرف نوع الأخبار التي يحملها إليها وترجو الله في قرارتها ألا يحمل إليها خفي حنين.
لم يشأ أن يُبطئ وهو يشاهد الاثنتان تنظران إليه بترقب. فزفر باستغفار وجلس على الأريكة القريبة، ثم طلب من أخته كوب ماء.
عادت به سريعا وهي تخشى أن يكون قد سبقها بالكلام. وبعد أن شرب سألته: طمني يا آدم...
وضع الكأس على الطاولة وقال: لقد وصلت إلى ذلك المكان... ووجدته مقفلا...
ردت عليه: من المعلوم أنه لا يفتح أبوابه إلا بالليل...
تابع حديثه: سألت صاحب مخبزة قريبة. قال أنه مُقفل منذ البارحة... قال أيضا أنه يعمل بطريقة غير قانونية وفي كل مرة تأتي الشرطة لمداهمته... سألته إن فتح أبوابه تلك الليلة التي أخبرتنا عنها فرد أنه لا يعلم... وسألت غيره وجميعهم يقدمون معلومات شحيحة لا طائل منها... وكأنهم يرفضون الخوض في النجاسة !.. أردت العودة في الليل ربما وجدت أبوابه مفتوحة ولكني أعلم مسبقا أنني لن أجني أي شيء فإن كان فادي حقا ينتمي إلى هناك فلن يساعدنا أحد لأنه سيكون قد تدبر أمره معهم...
ردت عليه: من المؤكد أنهم لن يشوا به فهكذا سيقرون بجريمة تُرتكب داخل أسوار ذلك المكان العفن ويُعاقب عليها القانون...
صمت للحظات ثم قال: لو أننا فقط نستطيع الوصول للسائق.
ورفع بصره إليها فهزت رأسها بأسى: كم كنت غبية، كيف لم يخطر ببالي أن أحتفظ برقمه أو رقم سيارته !
تابع هو: أخشى أن تكون روايتهم هي الأصدق...
انفعلت وزمجرت بغضب: أنا لا أكذب !
قاطعها: لم أقل أنك كاذبة، قصدت أن روايتهم للأحداث أقرب للعقل ولا تشوبها التناقضات... فيما نحن ندور في حلقة مفرغة بلا أي دليل... ولا تنسي يا سهام أن تهمة كتلك تحتاج لدليل دامغ...
وهنت ركبتاها فتهاوت على الأريكة القريبة، ونظرت إلى أمها بحسرة وقد تجمعت الدموع في مقلتيها: ألن يصدقني أحد؟ !
طأطأت سامية رأسها دون جواب فهي منذ البداية لم تكن مقتنعة بالحكاية بينما قال آدم: سهام... لا بد للحقيقة أن تظهر عاجلا أم آجلا... لكن عليك أيضا أن تكوني على يقين من كل ما رويته حتى الآن... لا أقول أنك تكذبين ولكن ربما كانت تلك حالة نفسية متقدمة أوصلتك لنوع من الهلوسات... والخطأ هنا ليس خطأك، وإنما يكفي بضعة جلسات مع طبيب نفساني لتكوني بخير...
هوت عليها هذه الكلمات كمطرقة نثرت ما بقي لها من عقل، كانت تتأمل الكثير من آدم الذي لم يخذلها ورجت الله أن يأتيها بالخبر اليقين، وها هو الآن لم يعد بخفي حنين فقط وإنما صفعها بهما على وجهها بشدة !
تأججت مشاعر القهر والغضب بداخلها فشدت قبضتيها بقوة تعتصر ألمها حتى لا تنفجر بهستيريا في الجميع ثم غادرت إلى غرفتها ودموعها تنساب حارة على خديها...
فور اختفائها نظر آدم لأمه بحسرة وقال بتعب وخيبة: ماذا أفعل يا أمي... لقد جبت ذلك الحي سيرا على الأقدام وأنا أسأل دون نتيجة... لا أحد يريد الخوض في الموضوع وأنا لا ألومهم، فمن يريد أن يتسبب لنفسه بالمشاكل مع هذا الصنف من البشر، لا يقصد ذلك المكان إلا شرار الخلق ولا طاقة لأحد بقبح صنائعهم فمن سيعرض حياته وحياة أهله للخطر... لقد رفضوا حتى الاقرار بأن المكان كان قد فتح أبوابه تلك الليلة !
ردت عليه بعد أن تأكدت أن ابنتها قد دخلت غرفتها: بيني وبينك... أنا لا أصدق الحكاية برمتها... أختك ليست بخير... لقد تدهورت نفسيتها كثيرا بالآونة الأخيرة، وأعتقد أن ما أصاب أنس قد زاد الطين بلة...
نظر إلى الصغير وابتسم: كيف هو الآن؟.. تحسن أليس كذلك...
ومد يديه ليأخذه منها بينما ردت هي: الحمد لله على كل حال... إنه يتعافى تدريجيا...

********

انتهى الأسبوع سريعا وعاد محمود وزوجته لشقتهما. لم تتأزم بينهما الأمور بعد مناقشتهما لموضوع أسرتها تلك الأمسية فهو لم يتطرق لذلك الحديث مجددا حتى لا يُفسد عليها وعلى نفسه أجمل الأيام...
قضيا هناك أسبوعا ممتعا شهدت فيه من الحب مالم تشهده في حياتها كلها... لم تكن تعلم قبل اليوم أن للحياة وجها ناعما وبشوشا بهذا الشكل!
دخلا بعد أن تناولا طعام الغداء خارجا وفور ولوجهما بدأت نسرين بترتيب الشقة وشغلت الغسالة لتنظيف الثياب... تصرفت كربة بيت عادية لديها قائمة أشغال طويلة عليها الانتهاء منها عاجلا وليس آجلا تحت شعار لا تؤجل عمل اليوم إلى الغد، وأيضا حتى تتمكن من توفير حيز من وقتها للجلوس مع محمود، يهمها جدا أن تتعرف عليه فهي لازالت تجهل عنه الكثير حتى الآن...
وقف محمود عاقدا ذراعيه أمامه وهو يراقب تحركها كالنحلة من مكان لمكان وكتفه على الجدار وقد غلبته الدهشة.
لم يتوقع يوما وهو يتباهى في ثراءه ومنصبه أنه سيعيش بحي كهذا ويتزوج بامرأة من عامة الناس...
صدق من قال:
لا تأمن الدنيا وإن هي أقبلت
فـمازالت تخـــــون وتغـــدر

ابتسم بعفوية وهو يفكر أن حياته لم تكن يوما أسعد من هذه اللحظات التي يعيشها ونسرين وهو في خضم مشاكله التي لا تنتهي.
منذ هدده بشير بالسجن وهو يعتقد أن حياته الجميلة قد اندثرت ورحلت مع هبوب الريح. وفور خروجه من منزله واختبائه بين أحياء الفقراء اعتقد أنه سيموت دون أن يتوسد مخدته الناعمة من جديد...
مضت سنوات قبل أن يكتشف أنه ما عاد في حاجة لوسادته الناعمة تلك...
في بداية غربته عزل نفسه عن الجميع واختار أن يعيش وحيدا دون أن يحتك ببشر... مع احترامه للإنسان ليسوا هؤلاء أهلا ليكونوا من أصدقائه... كادت تقتله الوحدة وفكر أنه في يوم من الأيام سيموت فوق أريكته وهو يشاهد إحدى المباريات، وأنه سيتعفن ولن يعرف أحد بموته...
لم يستطع أن يندمج في الطبقة المتوسطة بسهولة، وكان يكره العيش متنقلا من بناية لأخرى ومن حي لحي...
ذات يوم وفي الصباح الباكر كان سيخرج للالتقاء بوديع بعيدا عن الأعين، حتى لا يعرف بشير بمكانه. وهو ينزل الدرج التقى بشاب يافع يحاول النزول وهو يتحسس الأرض بعصاه، فاجأه منظره واقترب منه على الفور: هل أنت أعمى؟
أجابه الشاب: أجل... أنا كذلك.
أخذ محمود بيده وقال أنه سيساعده، ونزلا الدرجات على مهل ومحمود يسأله: إلى أين في هذا الوقت؟ لم تشرق الشمس بعد !
أجابه: إلى المسجد...
رد عليه محمود باستهجان: يمكن أن تصدمك سيارة، يمكن أن تقع من الدرج، يمكن أن تلتهمك فوهات إحدى المجاري المائية وأنت في طريقك فلا أعتقد أن البلدية قد فكرت في أمثالك في حملة التنظيف تلك... أليس أفضل لو أنك صليت بمنزلك...
أجابه بابتسامة: يمكن أن أصلي ثم أنام وعلى مخدتي تُقبض روحي... للموت ساعة لن يسبقها ولن يتأخر عنها...
إنها الكلمات التي علمته المجازفة علمته ألا يخاف المجهول... كثيرا ما يتذكرها فيتردد صداها بداخله ويمتلئ قلبه رضا وسكينة...
لم تكن هذه هي المرة الأخيرة التي يلتقي فيها محمود بهذا الشاب الكفيف عبد النور، فقد أصبح يلتقيه في الجوار ولا يمنع نفسه من إلقاء التحية عليه ومبادلته الأحاديث العابرة.
شيئا فشيئا توطت العلاقة بينهما وأصبح يخصص لنفسه وقتا يقضيه برفقته، لطالما سأل نفسه كيف أجزع ولدي عيون أبصر بها النور بينما هو يتخبط منذ زمن في دياجيه وحيدا... تعلم منه القناعة والرضا، فليست نهاية العالم ما هو فيه غيره في حال أسوأ وهم يحمدون الله ليل نهار.
في إحدى المرات اصطحبه حتى باب المسجد وكان سيتركه فقال له عبد النور. محمود ألن تصلي؟
أفحمه هذا السؤال رغم أنه لم يفكر في تأدية فريضة الصلاة يوما...
تركه هناك متحججا بمشاغل كثيرة بينما اكتفى عبد النور بالصمت دون أن يلومه أو يخبره أنه قد كفر وسيدخل النار، لم يقل له أنه يكره هذا الصنف من العصاة، ولم يلعب دور التقي العفيف أو الواعظ الذي سيفضحه على الملأ.
افترقا عند المدخل يومها لكن ذلك السؤال ظل يرن في أذن محمود مرارا وتكرارا... "ألن تصلي؟" وكان يشعر أنه لابد له من إجابة واضحة.
أحب تدين عبد النور من سلاسة تعامله، من خلال البراءة التي يلمسها في أحاديثه... تعلم منه الكثير دون أن يقول له افعل أو لا تفعل... فقط كان يقص عليه حوادث تعلمه العبر... فتح له قلبه وأخبره عن أخطائه وعن الراحة النفسية التي وجدها بعد أن استقام لله تعالى... وكان محمود منصتا ومستمعا حريصا. تلك الأخطاء التي يعتبرها هذا الرجل الكفيف معاصي كانت نظام حياة محمود وربما أسوأ... ذاك يعتبرها أخطاء، أما هو فيعتبرها نظام حياة معاصرة وحرية شخصية !
ذات يوم صعد عبد النور إلى شقته محمود وأراد أن يسأل عنه، وكان هذا الأخير في ضياعه بعد أن اتصل به وديع وأخبره أن لا مفر له من بشير... يومها كان يشرب بإفراط واضعا قوارير الخمر في كل مكان... حمد الله في قرارته أن زائره لا يبصر، وإلا كان حياؤه اليوم منه شديدا... لكن صاحبه فقد بصره ولم يفقد بصيرته.
فور أن اشتم رائحة المشروب لم يقل له يا لك من سكير ملعون! فلتذهب إلى الجحيم... ولم يكسر عصاه على عنقه ! وإنما في حنو حط بيده عليه حتى جعلها على كتفه وقال: هل أنت حزين يا صاحبي؟
يومها أحس محمود أن هذا هو الصاحب الذي تمناه في حياته لكنه لم يلقه يوما، وظل زمنًا طويلا يعتقد أنه لا وجود له على أرض الواقع، فليس هناك من صاحب يعاملك بمثل هذا اللين إلا إذا ربطته الحياة بمصالح معك...
يومها أسر له بمكنوناته وأخبره بما يثقل كاهله. أنصت له هذه المرة عبد النور بانتباه وعندما أتم حكايته وجلس مهزوما يعد خيباته جاءته كلمات الفتى الضرير: "لا تحزن يا محمود... كما يتعاقب الليل والنهار تتعاقب الشدة والفرج... هو يومك الأسود وسوف يمضي مهما طال بقاءه... فقط انتظر يوما مشرقا في الغد القريب... وكن واثقا أن الله يوفي الصابرين أجرهم بغير حساب..."
مات عبد النور بعدها بيومين أو ثلاث وبكاه محمود بقهر وألم، فقد شعر أن الحياة منحته سندا ثم عجلت وانتزعته منه ليهوي من جديد تماما مثل السقطة الأولى... لكنه تفاجأ أنه كان هذه المرة أقوى... فقد بقيت كلمات عبد النور عن اشتياقه لجنان الرحمان تتردد في ذهنه وشعر أنه أخيرا سينال ما تمناه فهو رجل صالح... وكان هذا هو عزاءه الوحيد... عبد النور سيكون أحسن حالا بكل تأكيد...
عندما عزى أهله فيه وحينما وصل إلى أخيه الأكبر وأخبره أنه محمود جارهم بالعمارة منذ أشهر، ابتسم الرجل ابتسامة حانية ثم نظر إليه وقال: أنت محمود إذن !
من نظراته عرف محمود أن الرجل يعرفه بطريقة أو بأخرى لكنه ظل صامتا فتابع الآخر قائلا: لطالما سمعت أخي عبد النور يدعو لك في صلاته... قلت له ذات يوم ممازحا "أنا أخوك ادعو لي يا هذا، ودعك من محمود الذي لا تكف عن ذكر اسمه... فقال لي أنا أدعو لكم جميعا يا أخي، ولكن محمود رجل طيب القلب يرأف لضرير مثلي ويجالسني دون ضجر، ويسير معي بالشارع دون تذمر ثم يستمع لثرثرتي دون ملل... لست أدري كيف أشكر له صنيعه... "
تحشرجت كلماته واختنق بالبكاء بينما شعر محمود بغصة في أعماقه وباغته الحنين لصاحب لم يعرفه إلا شهورا قليلة وها هو يصبح كل شيء بالنسبة إليه. مؤكد أن الفراغ الذي سيخلفه رحيل عبد النور في حياته لن يعوضه فيه أحد...
تعود أن يشتري كل شيء بنقوده حتى الرفقاء، فما بالها اليوم لا تجدي نفعا في رد حبيب غيبه الثرى ! اليوم فقط علم أن النقود ليست كل شيء...
في صباح اليوم الموالي استفاق قبل الفجر بقليل... تأمل الشقة من حوله وعلم أنه عاد لنقطة الصفر من جديد فليس هناك من عبد النور يهدئ باله وينسيه قرف العيش...
استحم، ثم ولأول مرة في حياته فكر في أن يتوضأ... نزل الدرجات مقتفيا خطوات عبد النور حتى وصل إلى المسجد... تأمل جموع المصلين باحثا عنه بين الوقوف... وفاجأته دمعة انسكبت على حين غفلة منه... ما بال العواطف التي أضحت تجتاحه وتزلزل كيانه... حتى يوم الفاجعة التي حلت به لم يذرف الدموع !.. لم يذكر أنه بكى أحدا في كل حياته عدا رحيل أمه عندما كان مراهقا... هل أيقظ فيه عبد النور انسانيته المتحجرة؟
استقام في وقفته وأدى صلاته مثل الجميع ثم خرج وجلس أين كان يجلس عادة رفقة صاحبه وراح يتذكر كل كلماته...
عبد النور ترك بصمته في حياة محمود فلم يستطع أن يتابع حياته على النهج القديم... عرفه على الله كما لم يعرفه سابقا... ليس الله الذي يحاسب عباده على كل صغيرة و كبيرة وحسب، ولكن على الغفور الذي أوحى إلى رسوله صلى الله عليه وسلم في قوله: "يا ابن آدم لو بلغت ذنوبك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك ولا أبالي."
من هنا تحققت دعوة عبد النور... ومن هنا استقام حال محمود، واكتشف أنه قادر على أن يكبح جماح نفسه، وأن يوطِّنها على الطاعة فلم يعد ذلك المسرف الذي عرفه في الأيام الخالية... حتى هو تفاجأ من قدرته وعزيمته إذ أنه دائما اعتقد أنه كما أوهمه والده رجل لا طائل منه...
هكذا هي المحبة الصادقة... دعوة في جوف الليل تطرق أبواب السماوات فيها دعوة صادقة من رجل لأخيه بظهر الغيب، فيتقبلها المنان ويطلق رحماته لانتشال عبده فلان من دركات العصيان لدرجات الصلاح...
***********

بعيون منهكة جافاها النوم طوال الليالي الماضية جلست سهام على سريرها في غرفتها تتأمل السماء خارجا من زجاج الشرفة المقابلة... كانت مكفهرة بغيوم سوداء تنذر باقتراب موسم الأمطار...
مضى الخريف مودعا وكذلك قبله مضت جميع المواسم، وطوال سنوات زواجها مع فادي لم تعرف غير موسم واحد... موسم الدموع...
شقت دمعة حارقة ملتهبة خدها وانسابت على خدها الناعم ولحقتها أخريات ثم شهقت واضعة كفها على شفاهها مانعة نفسها من الدخول في نواح ونحيب...
مضى أسبوع كامل دون أن تجد دليلا واحدا يثبت للجميع صحة ما روته، وأصبحت الحكاية الوحيدة المدعومة هي ما روته حماتها هناء وابنها فادي والجميع يصدقها... وأضحت هي مريضة نفسية تعاني الهلوسات !
اختنقت من قهرها ولم تعد شهقاتها تجدي نفعا فانطرحت على سريرها وراحت في البكاء وكأنها تفرغ مخزون ألم لا ينضب...
ليس ما يوجعها إلى هذا الحد تكذيب الجميع لها حتى الأقربين. ما يوجعها ويحز في نفسها القرار الذي اتخذته عائلتها والذي يقضي برجوعها لأسرتها وزوجها !!!
كيف ستعود إليه الآن وقد أضحت كارهة له ولكل شيء يخصه... في السابق ورغم كل المشاكل بينهما كان قلبها قادرا على الغفران وتجاوز الصراعات، أما اليوم وبعد ما عرفته ليس في وسعها أن تتشارك معه شقة واحدة فكيف لها أن تحتمل العيش معه في غرفة واحدة وسرير واحد...
حاول آدم قبل أيام إقناعها بالرجوع ووعدها بأن يساعدها في التحري عنه من جديد وقال أنه لابد له وأن يخطأ وأنهما سيتعاونان معا لكشف حقيقته. رفضت الفكرة رفضا قاطعا لكن تحت إصراره لم تجد أي مفر من القبول فكما قال هي الآن في عيون الجميع امرأة على حافة الجنون وعليها أن تجد دليلا دامغا لإثبات انحراف زوجها... وليس من طريقة أفضل من التواجد هناك معه ورصد حركاته... لإثبات التهمة عليه هذه المرة.
دخلت أمها فاستوت جالسة وهي تمسح دموعها. نظرت إليها بعتاب ثم قالت: لِم البكاء يا بنتي؟...
ردت سهام وحرقة تسكن أحشاءها: لن تفهمي يا أمي مهما قلت... لا تعلمين ما معنى أن تكوني ضحية وتصبحين فجأة متهمة... كيف للمنحرف أن يكون صادقا وأكون أنا المجنونة !!!
رفضت سامية الخوض في هذا الحديث للمرة الألف فقالت بضيق واضح رغم محاولتها إبداء التضامن: زوجك هنا مع إخوتك في غرفة الاستقبال، أرسلني لأرى إن جهزت حتى تغادران معا...
هزت رأسها بحسرة وقالت: فهمت...
أكدت عليها سامية: لا تتأخري.
وعادت إلى غرفة الاستقبال أين كان يجلس فادي رفقة مصطفى وأبنائه وهو يشرح لهم تأزم حالة سهام بالفترة الأخيرة وتحولها من امرأة هادئة إلى مفتعلة مشاكل هستيرية... لم يجدوا حرجا من تصديقه فقد رأوا بأم أعينهم كيف أصبحت سهام عصبية بالفترة الأخيرة كما أنه بدى هادئا وواثقا من كلامه ولا يوحي شكله بأنه يخترع أي حديث. خصوصا أنهم يحترمونه لطبعه الحيادي والهادئ.
خرجت إليهم سهام وبقيت واقفة للحظات تحدق بهم جميعا وهم متجمعون هناك وخمنت من نظراتهم لها أنهم يتهمونها بالهلوسة والجنون.
حاولت أن تتماسك ولا تفقد أعصابها حتى لا تمنحهم حجة أخرى تؤكد تخميناتهم.
وضعت حقيبتها على الأرض فوقف فادي وهو يقفل أزرار بدلته بأصابع يمناه وعيونه شاخصة فيها تتأمل تفاصيلها. لو قبل اليوم ربما فكرت أنه قد اشتاق إليها وهو يتلهف لرؤيتها، لكنها اليوم تعلم جيدا أنه يحاول استقراء مشاعرها الخفية تجاهه. ولربما أحرقه لهب الغضب المستعر الذي شب في عيونها وهي تناظره ببرود معاكس...
اقترب منها وحمل الحقيبة فشعرت بالاشمئزاز منه وهي تتخيله على نفس الهيئة التي شاهدته بها هناك في ذلك المكان القذر. ترفض حتى تخيل أن يقترب منها مجددا... بكلمة أبسط عافته نفسها وكرهته... بل أكثر... احتقرته.
أغمضت عيونها بقرف ثم فتحتهما وكانت أمها مقابلة لها تومئ بعتاب. لحظتها سخطت من الحياة التي أوقعتها في هذا المأزق...
سار فادي مبتعدا بالحقيبة وعندما وصل إلى الباب حمل صغيره باليد الأخرى والتفت إليها حتى تلحقه.
بقيت واقفة تنظر إليهم جميعا وكأنها تستعرضهم بالعرض البطيء محاولة فهم ما يجول في مخيلة كل منهم على حدى. من الواضح أنه لا أحد يصدقها... هل ستنفذ رغبتهم وترحل مع زوجها إلى بيتها وتعود لنفس روتينها اليومي الذي أصبح أبغض إلى قلبها من السابق فقط لأنهم يرونه القرار الصائب؟
إن فعلت هذا فمعناه أنها تصدق رأيهم بها وتُكذب نفسها....
إن رحلت فمعناه أنها تشكك في حقيقة ما روته...
إن رحلت فمعناه أن فادي قد انتصر !!!
هي لن تسمح له بأن ينتصر... ليس بعد أن عرفت أي نوع من الرجال هو...
التفتت إليه بغيظ وكأنها قد استفاقت للتو من أحد أسوأ كوابيسها. وفي الوقت الذي انتظر فيه أن تلحق به تأملته بصمت... وكأنه شعر بوقوع ما سيسوءه فاستعجلها في الخروج: هيا حبيبتي...
الكلمة المقرفة التي نطق بها الآن جعلتها تنفجر فيه: لست حبيبتك... أنا أشمئز من أن أكون زوجة لرجل مثلك...
فغر الجميع أفواههم بين دهشة وحرج فيما وضعت أمها كفها على شفاهها مشيرة لها بالسكوت وكأنها تقول أقفلي فمك.
بينما تابعت هي بغضب: أنا لن أرجع إليك... فليكن هذا واضحا لك وللجميع...
وهرولت باتجاه غرفتها قبل أن تستيقظ أسرتها من لحظات الذهول تلك وتتحول ألسنتهم متحاملة عليها.

***********

فتحت ياقوتة الباب لزائرها الغير متوقع ورافقته إلى غرفة الاستقبال. كانت ترتدي بلوزة بيضاء ضيقة وتنورة رمادية اللون قصيرة أظهرت امتلاء ساقيها وبياضهما الناصع.
دخلت قبله فيما كان هو يسير خلفها على مهل متأملا انحناءاتها التي ما تزال مغرية حتى اليوم وبعد كل تلك السنين...
قالت بترحاب: تفضل بالجلوس... البيت بيتك.
فتح قفل بدلته وجلس بأريحية على الأريكة الحمراء الفاخرة... تحب أن تضفي نوعا من الإثارة في كل شيء هذه المرأة حتى الأثاث... فهي أبدا لم تختر اللون الأحمر عشوائيا...
كانت عيونه تتأمل زينة الغرفة بفضول لكن رجع وحط عليها بنظراته عندما قالت بضحكة رنانة: لو قلت أنك ستزورني اليوم كنت فرشت لك الطريق وردا...
رفع حاجبه بلؤم وقال: لم أعتقد يوما أنني أستحق كل هذا التقدير !
شحبت تعابير وجهها فجأة وهي تتذكر الماضي ثم قالت بصوت هادئ: أنت من أعز الأصدقاء يا بشير...
هز رأسه باستخفاف وبدون كلام بينما لم تجد هي ما تضيفه، فلأول مرة في حياتها تشعر أنها عاجزة عن النطق... عاجزة عن كبح رجفة المشاعر المزلزلة التي انتابتها في تلك اللحظة بالذات وهي تنظر إلى تفاصيل وجهه عن قرب... اليوم وبعد كل تلك السنوات...
بشير كان بالنسبة إليها أكثر من صديق... ورغم أنها خسرته منذ زمن إلا أنها مازالت حتى اليوم تشعر بمرارة فقدانه. غاصت عيونها المتلألئة في عدسات اصطناعية خضراء بعيونه السوداء وشعرت أن عقلها قد توقف نهائيا عن التفكير... ذكاؤها لم يعد يشتغل ولم تستطع أن تخلص نفسها من شراكه.
كان رجلا في نهاية الخمسينات من عمره قمحي البشرة بعينان سوداوان، باغته الشيب فزاده وقارا دون أن يفسد سواده.
مازال وسيما رغم تقدم سنه ومازالت كالبلهاء تصبح طفلة في سن المراهقة كلما تعانقت عيونهما في نظرة واحدة...
سألها بصوته الذي مازالت تحتفظ برنته في أذنها منذ عرفته: كيف حالك؟
ابتسمت بتصنع وأجابته: بخير... وأنت؟.. ما زلت تضاعف ثروتك صحيح !
أراها ابتسامته الماكرة وهو يستوي في جلسته واضعا ساقا فوق الأخرى... سيقتلها بتكبره، أصبح بشير بالسنوات الأخيرة رجلا يختلف تماما عن ذاك الذي عرفته في شبابها... رجل بدلت الثروة والمكانة كل شيء فيه حتى نظراته...
قالت بمرح: ما الذي ذكرك بي اليوم؟... أنت لم تفكر في زيارتي منذ سنوات...
أجابها: جئت في زيارة عمل... هل من شيء يجمعنا غير الأعمال؟
حدقت فيه بتساؤل محاولة التركيز في كلامه فاختصر أمامها الطريق: متعود أنا أن أقتني بضاعة من عندك... فما لغريب في الأمر؟
فهمت مباشرة قصده، فقد كان يرسل برجاله ليحملوا إليه بعضا من فتياتها إليه بين الفينة والأخرى وكان يدفع بسخاء وفي بعض الأحيان يكلمها هاتفيا ليشكرها ويشيد ببراعتهن، كانت تعلم جيدا أنه يمارس ضدها حربا نفسية... تعلم أنه كان في مقدوره الحصول على متعته من أي مكان يريد، لكنه يصر على أن يعاقبها على تنكرها لحبه قبل زمن... يريد أن يخبرها أنها ليست كل شيء في حياته كما كان يقول في الماضي... هو اليوم رجل جديد بأولويات جديدة يحتل فيها المال الصدارة ثم المتعة بمفهومها الواسع... كما أخبرها ذات مرة: "ما نفع المال إن لم يوفر لنا اللذة".
شعرت بهزيمة معنوية وهي تتذكر كل تلك الأمور، ثم سألته بلباقة: لست متعودا على القدوم إلى هنا بنفسك... متعود أنت أن ترسل رجالك !
أجابها وقد مالت شفته بابتسامة مستفزة: جئت لأختار بنفسي... هل تمانعين؟
ازدردت ريقها وقالت بجفاف: طبعا لا... لكن هل تشك في حسن اختياري؟
نظر إليها وهو يستمتع بالشحوب الذي اكتسح ملامحها وقال بدعابة: ربما كنت تخبئين عني واحدة أو اثنتين خشية أن يوقعن بي في شراكهن...
تضاحكت وهي ترد ببرود: لديك زوجة تكفيك... لست في حاجة لأن تقع في شراك أحد.
توسعت ابتسامته ليرد: طبعا لست في حاجة لزوجة أخرى... رماس تكفي وتوفي، وأنا بكل فخر أسير بها بين المعارف والأصدقاء... لكن وكما تعلمين...
ثم غمزها بعينه: لكل رجل أسرار...
وكيف لا تعرف هذا وهي التي عرفت أصنافا من هؤلاء... شردت فيه للحظات وكأنها تقول لنفسها "ليس هذا بشير يا يايقوتة !!! لا يعقل أن يكون هو!!!"
عادت من تيهانها على وقع صوته في أذنها: ماذا يا ياقوتة؟ أين أنت..
ارتسمت ابتسامة خيبة على شفاهها لم تستطع أن تمنعها عن عيونه الحذقة وقالت لتخفي خذلانها: ماذا تحب أن تشرب؟... أجزم أن قهوتك لم تعد كما أعرفها أنا...
رد وهو يراقبها بانتصار: لم آت لأشرب القهوة فزوجتي تبرع في إعدادها...
ثم نظر إلى ساعته وقال: أنا على عجل...
تجرعتها على مضض ووقفت قائلة: لا تقلق، لن آخذ الكثير من وقتك.
اختفت عن نظراته بضع دقائق ثم عادت ومعها أربع فتيات لا تشبه الواحدة فيهن الأخرى لا في لون الشعر ولا في القامة ولا حتى في قياس الخصر... كانت ذكية بما يكفي لتضمن التنوع لزبائنها...
وقفت الفتيات الأربعة على خط واحد في مقابلته وبقيت هي على جنب تستقرئ نظراته الجريئة التي كانت تطوف بينهن واحدة واحدة، أومأ لواحدة منهن بالالتفاف حول نفسها وسريعا نفذت الأمر. ثم قال لها: ما سمك؟
أجابته أنها شانيل، فابتسم بلؤم ونظر باتجاه ياقوتة: شانيل، لورين، ليديا... من يختار هذه الأسماء؟ !
ردت باقتضاب: لست في حاجة لمعرفة أسمائهن...
قاطعها: أعلم لست في حاجة للبحث في أسرارهن، أو كما قالت لي إحداهن علي أن أكتفي بما هو متاح أمامي...
أومأت برأسها: هو كذلك...
رد عليها مستفزا: أرى أنك قد أحسنت تدريسهن !.. لكنني لست بحارا يحب أمواج البحر، أنا غواص يبحث في الأعماق... في الأعماق توجد كنوز البحر...
ردت عليه بملل: والله لا كنوز لتبحث عنها، وحياة كل واحدة منهن أسوأ من الأخرى... لا أعتقد أنك تتعاطف معهن. فهل حكاياتهن تسليك بعد لياليك الطويلة وتجلب لك النعاس؟
أجابها باستعلاء: لا... تذكرني بمعاناة إحداهن...
شعرت برغبة في صفعه كونه يذكرها بما قاسته في ماضيها التعيس... صرت على أسنانها دون أن تقول كلمة ولاحظ هو امتعاضها فعجل في الاختيار: شانيل، يسرني استقبالك الليلة عندي...
منحته ابتسامة لعوب تفيض بالأنوثة وردت بصوت رقيق: في خدمتك سيدي...
أشارت لهن ياقوتة بالانصراف فغادرن على الفور ثم التفتت إليه: سترسل رجالك؟
رد عليها: مؤكد لن أعمل سواقا لهن...
كانت قد استحملت عجرفته طويلا هذا اليوم... قتلها بتصرفاته المتكبرة وتلميحاته المبطنة. نظرت إلى ساعتها الماسية المتلألئة في معصمها ثم إليه: سُعدت بزيارتك سيد بشير...
تأمل هو الآخر ساعتها ثم قال: أصلية؟
أجابته بتكبر: هل الأصلي من حق زوجتك فقط !
ثم تابعت: أجل هي هدية...
ومالت شفاهها بابتسامة متشفية وهي تشعر أنها لم تأخذ بثأرها منه فأردفت: إنه رجل يقدر المرأة، على الأقل يعتبرها إنسانًا وليست وسيلة متعة يقذف بها بعيدا في أي لحظة...
شعرت بالاكتفاء عندما أطل اللهب من عيونه وقال بهمس قاتل: عرفت من يكون...
أشاحت بوجهها عنه وردت بلا مبالات: أعرفك حذقًا...
هب واقفا فالتفتت إليه بذعر ثم أقفل بدلته وغادر دون وداع. سارت وراءه حتى الباب ثم نطقت مودعة إياه: لا تجعلها زيارتك الأخيرة...
التفت إليها وقال محدجا إياها بنظراته: طبعا لا...
وغادر من فوره فيما أقفلت هي الباب واتكأت عليها تلتقط أنفاسها فقد كاد يتسبب لها بالموت قهرا هذا الرجل.








التعديل الأخير تم بواسطة rontii ; 24-08-21 الساعة 01:56 AM
بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 07-08-21, 01:41 AM   #29

ebti

مشرفة منتدى قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية ebti

? العضوٌ??? » 262524
?  التسِجيلٌ » Sep 2012
? مشَارَ?اتْي » 14,201
?  نُقآطِيْ » ebti has a reputation beyond reputeebti has a reputation beyond reputeebti has a reputation beyond reputeebti has a reputation beyond reputeebti has a reputation beyond reputeebti has a reputation beyond reputeebti has a reputation beyond reputeebti has a reputation beyond reputeebti has a reputation beyond reputeebti has a reputation beyond reputeebti has a reputation beyond repute
افتراضي

ليلتك سعيدة ... لقد تمت مراسلتك صباحاً ارجو منك الاطلاع على الرسالة الخاصة ...

ebti غير متواجد حالياً  
التوقيع
إن كرماء الأصل كالغصن المثمر كلما حمل ثماراً تواضع وانحنى"
هكذا عرفتك عزيزتي um soso و هكذا تبقين في قلبي شكراً جزيلاً لك على الصورة الرمزية...

رد مع اقتباس
قديم 08-08-21, 07:59 AM   #30

أم عمر ورقية

? العضوٌ??? » 425830
?  التسِجيلٌ » Jun 2018
? مشَارَ?اتْي » 55
?  نُقآطِيْ » أم عمر ورقية is on a distinguished road
افتراضي

الايوجد فصل جديد ؟

أم عمر ورقية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 10:35 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.