آخر 10 مشاركات
482 - خفقات مجنونة - ميشيل ريد ( عدد جديد ) (الكاتـب : Breathless - )           »          406 - ضياع - سارة كريفن (الكاتـب : monaaa - )           »          على أوتار الماضي عُزف لحن شتاتي (الكاتـب : نبض اسوود - )           »          سجل هنا حضورك اليومي (الكاتـب : فراس الاصيل - )           »          أسيرتي في قفص من ذهب (2) * مميزة ومكتملة* .. سلسلة حكايات النشامى (الكاتـب : lolla sweety - )           »          رهينة حمّيته (الكاتـب : فاطمة بنت الوليد - )           »          الخلاص - سارة كريفن - ع.ق ( دار الكنوز ) (الكاتـب : امراة بلا مخالب - )           »          كوابيس قلـب وإرهاب حـب *مميزة و ومكتملة* (الكاتـب : دنيازادة - )           »          136 - وجه في الذاكرة - ساره كريفن (الكاتـب : pink moon - )           »          السرقة العجيبة - ارسين لوبين (الكاتـب : فرح - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

Like Tree35Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 10-08-21, 12:21 AM   #31

أم عمر ورقية

? العضوٌ??? » 425830
?  التسِجيلٌ » Jun 2018
? مشَارَ?اتْي » 55
?  نُقآطِيْ » أم عمر ورقية is on a distinguished road
افتراضي


......في الإنتظار....

أم عمر ورقية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 11-08-21, 01:39 AM   #32

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

[left]


الفصل العاشر

دخل فادي المنزل غاضبا وفي يده ابنه ثم أقفل الباب بعقبه فجاءت أمه مسرعة ، وعندما لم تشاهد زوجته معه شحب لونها وقالت: هل رفضت الرجوع إلى المنزل؟
أجابها وهو يضع أنس بين ذراعيها: قالت أنها لن ترجع إلي...
ضمت الطفل إليها بحب: وكيف سمحت لك بأن تأخذ منها الطفل؟
أجابها بعد أن ألقى نظرة في الأرجاء ليتأكد من غياب أبيه عن المنزل: فرت من الجميع إلى غرفتها فحملت ابني وغادرت...
شهقت والدته: أخذته دون أن تعرف !
رد بصرامة: أنا والده فليكن هذا واضحا بالنسبة لها... ثم أنا لم أخطفه، لم يعترض أحد عندما خرجت وهو في ذراعي...
هزت رأسها بريبة ورددت بهمس: سهام لن تسكت... لن تترك ابنها هنا أنا أعرفها.
رد بتحذير: إن جاءت إياك أن تفتحي لها الباب... هي لن تأخذ الطفل مهما حصل...
ردت عليه بضيق: وإن أحضرت معها الشرطة !
تذمر ثم قال: أمي لن ترافقها الشرطة فالطفل معي أنا وأنا أكون والده... ليس أمامها إلا أن تطلب الطلاق ثم تطالب بالحضانة... وإن فعلت فسأرفع عليها قضية وأتهمها بالإهمال ومعي كل الإثباتات فالطفل نجا من الموت قبل أيام، وسأشكك في صحتها النفسية وأدحض كل اتهاماتها... ليس أمامها إلا الرجوع مكرهة أو لن ترى الطفل في حياتها...
أشارت له بالسكوت عندما خرج سليم من الغرفة وهو يسير على مهل دون أن يتمكن من سماعهما.
نظر إليهما وإلى الطفل ثم قال: و... أين أمه...
أجابته هناء قبل أن يقول فادي أي شيء: مريضة... هي مريضة فقرر فادي إحضاره حتى لا يتعبها...
هز سليم رأسه ثم تابع طريقه وهو يقول: يا بني يا فادي زوجتك امرأة طيبة فلا تضيعها من بين يديك لسبب تافه...

************

دخلا معا مطعمًا راقيا وسحب لها كرسيا لتجلس قرب الشرفة المطلة على المدينة المتلألئة بالأنوار في ظلمة الليل. ابتسم ثم قال لها: ما رأيك في المكان حبيبتي؟
أجابته وعيونها ما تزال متعلقة بتلك الأضواء البعيدة: إنه مكان رائع محمود...
جلس هو الآخر، وعلى عكسها كانت عيونه متعلقة بها هي... يتأمل تفاصيل وجهها الرقيقة مع تلك الدهشة الواضحة في معالمها. يبدو أنها ممتنة له على تدليله لها بهذه الطريقة رغم أنه لم يكلف نفسه الكثير من أجلها، مروى ما كانت لترضى عنه لو لم يهدها بيتا فخما أو طاقما فريدا من نوعه من المجوهرات تباهي به صديقاتها وكأن ذلك هو الدليل الدامغ على حبه لها وتميزها بالنسبة إليه...
مؤخرا فقط اكتشف أن الحب لا يحتاج لأن يكون معقدا ومكلفا بتلك الطريقة... هو فقط دقات قلب ملتاعة تطير شوقا وحنينا للمحبوب حتى وإن كان قرب عيونه...
هذا هو بالضبط شعوره تجاهها وهي تجلس قبالته تبحر في المدى البعيد وكأن بريق الأضواء قد أبهرها... تراها كيف ستكون دهشتها لو أنه أهداها واحدة من تلك المجوهرات البراقة التي كان يغرق بها مروى !..
لا، لا يريدها أن تكون عاشقة تميز مثلها... هو أحبها بسيطة كما هي ولا يريد لها أن تصاب بعدوى الماديات التي تغرق بها أسرته ككل...
نظرت إليه وهو ساهم فيها فوضعت كفها على أصابعه وشدت عليها ثم نطقت: محمود، سأصاب بالغرور... هل يترك أحدهم منظرا كهذا ويسهم فيا أنا؟
شاهدت ابتسامته تتوسع وهو على نفس الهيئة لم يحد بنظراته عنها، ثم قال: نسرين... أنا لا أرى سواك هنا...
شعرت بالسعادة تغمرها وهي تستمع لكلماته الرقيقة وتمنت لو أنه لا يسكت أبدا، لكن جانبها الحذر كان يخبرها أنه متملق يسعد برؤية السذاجة تكسو معالمها. أرادت حقا أن تتغلب على هذا الشعور المنغص لكن دون جدوى فقد تعودت دائما ألا تنال السعادة دون أن تدفع الثمن... فهل يا ترى ستتقبل ببساطة هذا الكم الهائل من المشاعر التي صبها عليها محمود دفعة واحدة !..
يبدو أنها لعنة الأيام الماضية لازالت تطاردها وشعورها الدائم بأنها منبوذة هو من يجعلها محاصرة في أوهامها لا تستطيع المضي قدما دون قيود... وربما عشرتها الطويلة مع ياقوتة وما كانت تقوله عن الرجال هو ما يجعلها لا تستطيع تصديق محمود مغمضة العينين فهي دائمة الاحتراز... وكأنها تعطيه ثلاثة أرباع قلبها وتحتفظ بالربع الباقي لها، فإن ضاعت الأرباع الثلاثة في يوم من الأيام بقي لها على الأقل ربع واحد تواصل به حياتها... تماما مثل أغنية نجوى كرم...
قال لها بعد صمت: أعتقد أننا سنسافر قريبا...
ارتفع حاجباها بدهشة: شهر عسل آخر !
ضحك وهو يجيبها: كل حياتي معك ستكون عسلا... لكنني أعتقد أننا سنعيش بمكان ما غير هذا الوطن...
بدى عليها البؤس: نغترب !
رد بقلة حيلة: قريبا سيجهز جواز سفرك... يجب أن نترك البلد في القريب العاجل...
حاولت أن تفهم سبب استعجاله بالموضوع وخمنت أنه بسبب تهديدات أسرتها لها، وقبل أن تقول أي شيء جاء النادل وهو يحمل قائمة الطعام ورحب بهما معا ثم انصرف.
وبعد انصرافه قال لها محمود: أعدك أنك لن تكوني بحاجة لأحد وأنت معي... صدقيني سأكون لك كل أهلك هناك... وستتعودين على المكان بمرور الوقت...
أومأت بنعم وهي غير مقتنعة تمامًا بالفكرة، ثم ساد الصمت التام بينهما، كان خلاله محمود يقرأ قائمة الطعام. حاولت أن تسأله عن أهله وعن حياته السابقة لكنها لم تستطع ذلك خشية أن يفهم فضولها على أنه استجواب، وأن تفسد عليهما هذه الجلسة خصوصا وهو قد تزوجها دون أن يبحث في ماضيها عن شيء...
قالت له بصوت رقيق يبدو عليه الاضطراب: هل أنت سعيد معي حقا محمود؟
هنا رفع رأسه إليها فبدأت دقات قلبها تتسارع ثم وضع قائمة الطعام جانبا وأخذ بيديها وقال بابتسامة واسعة: لم أكن أسعد قبل أن عرفتك...
وصمت قليلا ثم تابع: ثقي بي نسرين مهما حصل...
لم تفهم أنه يحضرها للأيام القادمة، ولم تكن تشك أبدا أن حياته معقدة بشكل كبير كل ما كانت تحسه في تلك اللحظة هو ألوف من طيور الحب ترفرف حولها وتهديها بتلات الورود...

***********

لاحت شمس الصباح في الأفق مبددة الظلام ترسل أشعتها الذهبية في احتشام من خلف الغيوم. يبدو أنه سيكون يوما ماطرا بكل تأكيد.
تقلبت نسرين في فراشها ثم استفاقت وهي تشعر بخواء السرير بقربها. يبدو أن محمود قد سبقها... نظرت للساعة بقربها إنها السابعة والنصف... ليس من عادته أن يصحو قبل الثامنة !
تركت سريرها وتوجهت إلى الحمام أين اغتسلت، ثم خرجت من الغرفة وعيونها تبحث عن الهارب هذا الصباح. وقفت عند باب المطبخ مرسلة بناظريها في الأرجاء دون أن تجد له أثر. من الغريب ألا تجده بقربها فقد تعودت على دفئه يغمرها كل صباح...
تراه خرج لشراء الفطور ! ابتسمت بحب واقتربت من النافذة عساها تبصره وقد رجع، لكنها لم تشاهد غير بعض الطلبة يعبرون الشارع باتجاه موقف النقل الجامعي...
دخلت الغرفة من جديد وأخذت هاتفها طالبة رقمه لكنه كان على غير العادة مقفلا. بدأت المخاوف تزحف على قلبها وهي تحاول انتشال نفسها من بقعتها السوداوية مؤكدة لنفسها أنه سيعود بعد قليل.
فتحت الشبابيك وبدأت بترتيب المكان فأبصرت ورقة مطوية على النضد القريب. فتحتها بسرعة فوجدته قد كتب لها: "لن أتأخر في العودة... أحبك."
توسعت ابتسامتها وقد اطمأن قلبها بعد أن أكد لها رجوعه القريب للمنزل، وقررت أن تنهي بعض الأعمال قبل عودته...
بعد بضع لحظات سمعت صوت صراخ مع طرق عنيف على الباب يبدو أن مصدره الطابق السفلي. بقيت تنصت بانتباه علها تفهم ما يجري لكنها لم تستطع استيعاب الكلمات التي كانت تطلقها امرأة مقهورة امتزجت عباراتها بصوت نحيب... كل ما استطاعت التقاطه هو كلمة ابني، ابني...
لبست بسرعة ثيابها وغطت رأسها ثم فتحت باب الشقة تسترق النظر بحذر، جاءها صوت ضجيج بالأسفل فاقتربت من السلالم والقت بنظراتها هناك، كانت سهام تطرق على باب بيت حمويها بعنف وهي تقول: أعيدوا إليّ ابني... افتحي يا مجرمة... أعيدوا إليّ ولدي....
لم تفهم أبدا سبب صراخ سهام على هذا النحو، فمن المفترض أنها بالداخل في بيت زوجها فلماذا هي تطرق بعنف على الباب دون أن يجيب أحد!...
كان الطابق يعج بالجيران الذين هالهم المنظر ولم يفهموا حقيقة ما يحصل وسبب الحالة الهستيرية التي هي فيها سهام.
قالت لها إحدى الجارات: لابد وأنه لا أحد بالبيت وإلا كانوا قد فتحوا لك...
أجابتها بانفعال: أعلم أنها هنا... إنها بالداخل ولا تريد أن تفتح...
وعادت لتطرق بعنف وهي تردد بغضب: افتحي... افتحي يا هناء... لا تسببي لي الجنون، أعطني ابني....
مضى وقت منذ أن بدأت هذه المسرحية دون أن يجيب أحد والجيران يتوافدون إلى هناك حتى امتلأ الدرج بالمتطفلين... أكد الجميع لها أنه لا أحد في المنزل إلا أنها بقيت تصرخ بجنون وهي تؤكد لهم أن هناء هناك ولا تريد أن تفتح لها...
بلغت من الغضب أقصاه وثارت ثائرتها ضد هذه الاسرة المتآمرة عليها التي لم تكتفي بخطبتها لابن منحرف بل وكذبوا حقيقة ما هو عليه ثم اتهموها بالجنون... والآن يحرمونها من ابنها عنوة.
قررت وأمام هذا الحشد أن تنتقم منهم جميعا وأن تفجر القنبلة وتتفرج على الوجوه المذهولة وتجعل من اسم فادي مجرد ذكرى لأنه وقريبا سيتحول لمخلوق منبوذ لا يطيقه أحد.
فتحت فمها تقول للملأ أن فادي مجرد نكرة وأنه منحرف وشاذ... قالت بوضوح أنه مثلي جنسيا وأنه يقيم علاقات محرمة مع الرجال في الأماكن الحقيرة التي توفر الحماية لمثل هؤلاء الجرذان الذين يستحقون الموت تحت الأقدام كما وصفتهم...
كان الجميع فاغرين أفواههم في ذهول وهم بين تصديق وتكذيب. إذ يبدو أنه لا أحد منهم كان يعتقد أن فادي يمكن له أن يكون بهذا السوء... بدأ الهمس والاستنكار بين الجموع المحتشدة هناك فيما أحست سهام أنها قد انتقمت لنفسها ولو قليلا من زوجها الذي لم يكتفي بتدمير سنوات حياتها السابقة إنما سلبها حتى ابنها ليدمر كل حياتها المقبلة.
في هذه الأثناء وصلت هناء تصعد الدرج على مهل من شدة التعب وفي يدها كيسًا به بعض المقتنيات. نظرت للحشد هناك بريبة وهي تحاول أن تفهم سبب تجمعهم قرب باب شقتها. وقبل أن تسأل عما يحصل شاهدت سهام واقفة بملامح يبدو عليها السخط والنقمة. من الواضح أنها تسببت بفضيحة...
ما إن أبصرتها سهام كانت أول كلماتها هي: أين ابني؟.. أعيدي إلي ابني...
ابتسمت هناء بحنو وقالت: اهدئي يا بنتي. أنس بخير وعلى أحسن ما يرام...
تلك الابتسامة المراوغة أشعرت سهام بالحنق فرددت بغيظ: وفري ألاعيبك لغيري وهاتي ابني...
أجابتها بصوت هادئ: ابنك بمنزل والديك الآن...
صمتت للحظات تستقرئ نظرات حماتها فمن المؤكد أنها تخبئ خدعة ما وراءها...
قالت هناء: أوصلته للتو وقدمته لأمك، قالت أنك نائمة... لابد وأنها لا تعرف بخروجك...
اعتصرت سهام قبضتها بقهر فهذه العجوز تحاول أن ترسم لنفسها صورة مثالية في عيون الجميع تخفي وراءها قبح حقيقتها... ما الخدعة التي تحيكها هي وابنها الآن؟ لابد وأن هناك سرا ما وراء إرجاعها لأنس لها بهذه السهولة...
تركت المكان ونزلت بخطوات متسارعة، يجب أن تتأكد من عودة ابنها لأحضانها الآن... وبعدها لكل حادث حديث.
فور تواريها عن مرمى بصرهم توجهت الأنظار لهناء وكأن الجميع يطالبها بتفسير منطقي لأمر ما... لم تدهشها تلك الملامح الساخطة طويلا فقد نطق أحد الجيران: صحيح ما قالته كنتك حول فادي يا سيدة هناء؟
بدت متفاجئة وهي تقول: وماذا قالت؟
نطق آخر: أنه منحرف...
تعجبت ورددت بذهول: منحرف ! معقول...
أطلقت تنهيدة وهي تستغفر الله ثم حملقت فيهم بيأس: الحقيقة يا جيران أن كنتي تعاني من حالة نفسية صعبة تجعلها تتخيل وتنتابها بعض الهلوسات... مؤخرا أصبح الأمر لا يطاق... هي الآن في منزل أهلها ونحن نحاول إقناعها بالخضوع للعلاج النفسي لكنها تصر على أنها لا تعاني من شيء... رغم كل الاتهامات المسيئة التي وجهتها إليه لم يتخل ابني عنها وذهب مساء الأمس لإحضارها إلى هنا من أجل إخضاعها للعلاج قبل أن تتدهور حالها أكثر، رغم كل شيء تظل تلك أم ابنه... رفضت العودة معه واتهمته بالانحراف أيضا أمام كل أهلها... الحمد لله أنهم أناس عقلاء ويتمتعون بالرزانة... لم يصدقوا كلامها وكانوا قد بحثوا في حقيقة الموضوع وتبين لهم أنه كلام لا أساس له من الصحة... الحقيقة أن فادي أصبح يخاف على تواجد ابنه معها... يمكن أن تتسبب في أذيته دون قصد، أحضره البارحة بموافقة أهلها لكنني أعدته اليوم إليها إذ لا يحق لأحد حرمان الأم من ابنها مهما كان الحال، لكن إن تدهورت حالها أكثر فلا أعتقد أن ابني سيسمح لها بالاهتمام به، خصوصا بعد الحادثة تلك، لقد كدنا نخسره...
صمتت أخيرا تنظر إلى وقع كلماتها في وجوه المستمعين إليها بحرص. ثم مدت يدها لحقيبتها وأخرجت مفتاح شقتها، وقامت بفتح الباب وسط الهمسات من حولها بين مؤيد ومعارض...

بدأوا ينفضون من المكان أخيرا وقد وجدوا موضوعا شيقا سيشتغلون به للعشرين يومًا القادمة... كانت ياقوتة تصعد الدرج وهي تشاهد الجموع هناك، وعندما أبصرت نسرين واقفة في الأعلى أسرعت إليها فتبادلتا التحية ودخلتا الشقة. سألتها ياقوتة بفضول: هناك جنازة؟
ردت نسرين والدهشة لا تفارق وجهها: بل أسوأ !
رسمت ياقوتة على وجهها علامات استفهام فردت الأخرى باقتضاب: إما أن زوجها منحرف، أو أنها مجنونة !... دعينا من مشاكل الناس، أخبريني كيف حالك؟
ردت بملل: بخير... كالعادة..
ثم غمزتها: وما أخبارك؟ كيف هو محمود... عاشق ولهان أليس كذلك !
تبسمت دون أن تجيب وطلبت منها الجلوس: تفضلي، هو لن يتأخر في العودة وسنتناول الافطار معًا...
تجهمت ملامح ياقوتة فجأة ثم قالت: لقد اتصل بي قبل قليل وطلب مني أن أبقى معك...
جمدت نسرين وقد وهنت ركبتاها: لا تقولي أنه ليس بخير ! أرجوك...
ردت بسرعة نافية الفكرة: لا، لا... إنه بخير اطمئني، قال فقط أنه قد يتأخر في العودة وطلب أن أبقى معك وقال لي أنه سيرسل من يتدبر كل شؤوننا...
انعقد لسان نسرين وهي تفكر كم من الوقت سيغيب هذا الذي سيرسل لهم من يتدبر شؤونهم، من المؤكد أنه لن يعود في أجل قريب.
قالت بقلق: لماذا لم يتصل بي؟... لماذا لم يخبرني عن سبب رحيله المفاجئ؟ !
صمتت مفكرة قبل أن تجيبها: لا أعرف... أنا نفذت طلبه وحسب... لم يجب عن استفساراتي ومن المؤكد أنه لم يتصل بك حتى لا تسأليه أي شيء...
صمتت قليلا فيما كانت نسرين تحاول طلبه على الهاتف دون جدوى. ثم أردفت: طلب مني أن أوصل لك رسالة...
رفعت نسرين عيونها إليها بفضول فتابعت الأخرى: طلب مني أن أخبرك أنه... يحبك...
وكأن هذه الكلمة قد امتصت شيئا من الغضب والخوف الذي سكن أحشاءها فور سماعها الخبر. ثم تابعت ياقوتة: قال أيضا أنه يريد منك أن تثقي به مهما حصل...
تعلقت عيون نسرين بعيون محدثتها للحظات ثم قالت بقهر: إنها كلمات تمهيدية لسوء يحدق بنا...
تأففت ياقوتة: لماذا تقولين هذا؟ لا تكوني شديدة السلبية !..
وضعت الأخرى كفها على وجهها ومسحته نزولا وبقيت تغطي فمها كي تمنع نشيجها: منذ استيقظت ولم أجده بجواري انتابني احساس غريب... أعلم أن الحكاية أكبر مما تبدو عليه.
دارت ياقوتة بضع خطوات في المكان وهي تفكر ثم نطقت: اتصلي بأهله... تحدثي إلى معارفه... لا بد وأنه يدون بعض الأرقام في دليل الهاتف...
هزت رأسها نفيا وهي تجيبها: لا أرقام... وأهله لم يحدثني عنهم أبدا...
أجابتها على الفور: أعطني اسمه الكامل سأتصل ببعض معارفي علني أجمع لك بعض المعلومات عنه.
قالت بخفوت وكأنها لا تريد البوح لياقوتة بالأمر: محمود ناصر السعدي...
رفعت رأسها إليها بذهول ثم قالت: أهو ابنه !!!
رفعت الأخرى كتفيها في الهواء على أنها لا تعرف ثم ردت: سألته مرة وتبدل موضوع الحديث قبل أن يجيبني.. ثم لم أشأ أن أكون لحوحة في طرح كثير من الأسئلة لأنه أبدا لم يحاول البحث في خصوصياتي... فكرت أنه سيفهم بذلك أنني لا أثق به وأحببت أن يبادرني هو في التصريح بمكنوناته... في الحقيقة لم أفكر أبدا أنه يخفي عني أي شيء...
قالت ياقوتة: أنا لم أقل أنه يخفي أي شيء... على كل حال لا أعتقد أن هناك صلة بين الاثنين، أين هذا وأين ذاك !
نسرين: معك حق، لو كان ابنه فعلا ما كان هنا بيننا وما سمح لي حتى بأن أنفض حذاءه فكيف سيتزوج بي ويمنحني شرف حمل اسمه !
سارت ياقوتة باتجاه المطبخ وهي تقول، سأحضر كعكة شوكولاتة حتى نشرب القهوة.
ثم ضحكت وتابعت: صحيح لم أكن يوما ربة بيت ناجحة لكنني على الأقل أعرف كيف أدلل معدتي...
وغابت خلف الجدار فيما بقيت نسرين تحدق بالفراغ أمامها... لم تفكر يوما في أن تسأل ياقوتة عن سبب عزوفها عن الزواج. تعلم أنه تقدم لها عدد لابأس به من الرجال قبل سنوات.. لكن ياقوتة لم تعطي موافقتها على أي منهم، لماذا يا ترى ؟
دخلت ياقوتة المطبخ وربطت المئزر حول خصرها ثم فتحت صنبور المياه حتى تنظف يديها.
سهمت للحظات وهي تفكر: "لطالما قلت لنفسي أن معالمه مألوفة لدي... هو ابنه بكل تأكيد، نفس الوقفة.. نفس النظرة..."
وشهقت بصعوبة ساحبة هواءً ينعش دماغها الذي أحست به راكدا، فكيف أغفلت هذا الشبه بين الاثنين. نسرين يستحيل لها أن تميز هذا فهي لا تعرف السيد "محسن ناصر السعدي" إلا بالاسم بينما هي تعرفه منذ شبابه. ومحمود نسخة عنه...
كيف أصبح على ما هو عليه ووالده يمتلك ثروة لا تلتهمها النيران؟.. هل حدث خصام بينهما أدى بالوالد إلى طرد ابنه من حياته؟ !
هذا متوقع... إذا كان الابن بهذه العقلية فمن المنطقي أنه لن ينسجم مع تفكير والده البراغماتي بالدرجة الأولى... لكن ما يحيرها هو كيف حدث هذا الصدع بينهما وكيف ألقى به الموج عند أعتاب صديقتها لا غير...
بعد أن أعدت قالب الكعك وضعته بالفرن وجلست تنتظر نضجه وهي تفكر بكل شيء وتسترجع بعض التفاصيل، ثم دخلت نسرين بعد أن اتمت ترتيب البيت ووقفت عند الباب للحظات دون كلام، فبادرتها ياقوتة: المنزل الذي جهزه لك محمود رائع جدا...
حركت رأسها بالإيجاب ولم تستطع أن تخفي مغصة الألم التي سكنت أحشاءها: وما الفائدة في ذلك إن كان لا يسكنه...
ردت عليها بضيق: كفي عن ترديد هذا وكأنها نهاية العالم... لابد وأنه سيعود بعد أيام ويشرح لك كل شيء...
حدقت بها نسرين للحظات ثم قالت: هل أحببت يوما في حياتك؟
لم تستطع الاجابة عن هذا السؤال واحمر وجهها من الانفعال وكأن هذا السؤال يثير شجنا عميقا في داخلها. كانت نسرين ترجح أن الاجابة هي لا، لكن عندما شاهدت ما حل بصديقتها انتابتها الشكوك حول حقيقة الأمر.
نطقت ياقوتة أخيرا وقد لملمت شتات نفسها: حدث ذلك قبل أعوام.... لم يعد للأمر أهمية...
انتاب نسرين الفضول لتعرف الحكاية خصوصا وأن ياقوتة لم تكن تقص عليها من أخبارها شيء. أرادت أن تشغل نفسها بمشاكل غيرها حتى تنسى ما هي فيه.
قالت لها بإلحاح: هيا قولي يا ياقوتة... لا أستطيع مقاومة فضولي أكثر... حدثيني عن حبك ذاك...
ابتسمت ياقوتة بمرارة ثم قالت: أنت تعرفين أنني تزوجت وأنا في السادسة عشر من عمري... كنت صغيرة يومها ولم أتقبل الفكرة برمتها وسرعان ما بدأت المشاكل بيني وبين زوجي وأسرته، وكانوا يشتكون لأهلي مني، وزوج أمي حذرني من أن أتطلق لأنه لن يستقبلني في بيته وأمي لم يكن لها حول ولا قوة فأبي توفي بعد ولادتي وزوجها كان له أفضال عليها ولها منه أولاد ولا تريد أن تخسره. كما تعرفين أنا عنيدة ولا أفعل إلا ما يحلو لي ولم أبالي بشيء، وكبرت الهوة بيني وبين زوجي فطلقني بعد عام من زواجنا ورماني خارج أسوار منزله... عدت لمنزل أمي وزوجها وكما توقعت كان هو عند وعيده وأخبرني أنني مفتعلة مشاكل ولا أسمع لكلام أحد وأنه لا مكان لي بين أولاده لأنني سأعلمهم سوء التربية... فقررت السفر عند خالتي بالعاصمة. ومكثت عندها لسنوات...
ثم صمتت للحظات وهي تستعد لسرد الجزء الأهم من القصة، وبعد تنهيدة رقيقة تابعت: أثناء مكوثي هناك تعرفت على بشير كان يعمل لدى زوج خالتي في المخبزة وكنت كلما ذهبت لإحضار بعض الخبز للغداء أجده هناك فيبادلني الأحاديث العابرة وربما بعض المزاح... بدأ الأمر عفويا وتحول سريعا لإعجاب منه... طلب يدي وأصر على الزواج مني....
ثم تخافتت نبرة صوتها وقالت: و... لم يكن بيننا نصيب...
بدى التعجب على وجه نسرين وهي تسألها: ولكن لماذا؟ هل خشيت من مصارحته بحقيقة طلاقك؟
أجابت الأخرى نافية الفكرة، كان يعرف كل شيء عني... وكان أعزبا لكنني لم أستطع الزواج به لأسباب ثانية... لربما لأن طموحاتي كانت أكبر منه...
لم تفهم نسرين شيئًا وبقيت ترمقها بنفس النظرات الحائرة دون أن تنطق بكلمة فتأففت الأخرى وأوضحت لها: كنت على علاقة برجل ثري... وتوقعت منه أن يتخذني زوجة له وأن أحظى بحياة أفضل... رغم أنه كان متزوجا إلا أنني لم أيأس. لقد طمحت أن أكون له وأن أنال تلك المرتبة مهما حصل، لكن وكما يقولون تهب الرياح بما لا تشتهي السفن. علمت زوجته بالأمر وجاءت إلي حتى المحل الذي كنت أبيع فيه بعض الثياب المستعملة، أثارت يومها فضيحة وطردني صاحب المحل ولم أسمع بعدها أي شيء عن ذلك الرجل... حاولت أن أتصل به وأن أخبره بما حصل لكنه بدا لي غير مهتم بمعرفة أي شيء إذ أنه أغلق كل السبل بيننا بكل بساطة... وكأنه انتظر فرصة كهذه ليتخلص مني، تخلص مني بعد أن أخذ كل ما أراد... والخطأ في هذا كان خطئي أنا، كنت صغيرة ولحقت مشاعري... ولم أدرك أنه كان لي أن آخذ بتمنعي ما لم آخذه بسخائي... الرجل لن يرغب في المرأة بعد أن ينالها لأنه يفقد الشغف الذي كان يجبره على اللحاق بها...
لمم أتعلم هذا إلا بعد أن أخذ مني ذلك المخبول كل شيء... وأفقدني حتى احترامي لنفسي...
أعادها صوت نسرين لواقعها وهي تسألها: بعد أن تخلى عنك ذلك الثري ألم تحاولي العودة لبشير ذاك؟
قالت بأسى: بلى.. بمجرد أن علمت أنني أصبحت ماضيا وذكرى بالنسبة لذلك الرجل رجعت لبشير... سألته إن كان يحبني فقال أجل... وكنت سعيدة جدا بهذا... الحقيقة الوحيدة التي كنت أعرفها أنني أحببت بشير منذ لقائنا الأول فقد كان رجلا بسيطا له حديث لا أملّ من سماعه. لطالما عاملني باحترام وحب... كنت سعيدة جدا وأنا أستعد لزواجي منه وقد غمرني بحبه وحنانه وعطفه... كان أفضل رجل عرفته حتى اليوم... وفوجئت به مرة يسألني أن أرافقه لبيته... وفعلت. كان منزلا بسيطا وفقيرا لكنني تغاضيت عن الأمر إذ أنه سيكون عشنا الصغير الذي سنملأه حبا ولا يهمني غير هذا... قال لي يومها يؤسفني أنني لن أستطيع أن أقدم لك ملاذا أفضل ووعدني ببيت أجمل إذا نجح في عمله الجديد فقد كان يجهز لانتقالة نوعية في شراكة مع أحدهم...
بعد حب وعسل عدت لأكرر نفس خطئي وسمحت لبشير أن يكون أكثر من خطيب، كنت غبية لا تفهم ولا تتعظ... وبعد أن انتهت سكرات الحب أخذ مكانا منزويا قرب الشرفة وراح يدخن سيجارته بصمت وقد بدى محبطًا... لسذاجتي التي لا تنتهي فكرت أنه ندم على الذي حصل بيننا قبل أيام من زواجنا فجلست بقربه وأمسكت بذراعه وقلت له: بشير نحن سنتزوج بعد أيام على كل حال...
حانت منه التفاتة إلي لن أنسى فيها عيونه المظلمة المتهمة ما حييت وقال لي بصوت يملأه الكره: صحيح إذن ما بلغني عنك يا ياقوتة...
تلعثمت حينها ولم أفهم ما الذي قيل له... طارت كلماتي ولم أعد أفهم أي شيء... وتابع هو بكلام جارح: أنت إذن رهن الإشارة... لست تدافعين عن شرفك ولو بكلمة، تنامين مع من هب ودب ولا تمانعين أبدا...
صدمتني تلك الكلمات وشعرت لأول مرة أنني رخيصة... وبالمقابل تابع هو بكلمات أدمت قلبي: أتعتقدين أنني لن أعرف مطلقا بحكاية العشيقة التي كنتها مع السيد محسن !
شهقت نسرين وكررتها: محسن ناصر السعدي !
علمت حينها ياقوتة أنها وقعت في الخطأ فمنذ البداية حرصت ألا تذكر اسم عشيقها ذاك لكنها الآن لن تستطيع التراجع.... زفرت بضيق ثم تابعت: أجل محسن...
وهزت كتفيها دلالة عن العجز أو اللامبالاة، ثم تابعت: لقد أخبره الناس على أية حال... وانكشف المستور رغم افتراقنا منذ شهور حتى كدت أنسى وجوده السابق بحياتي فبشير ملأ كل الفراغ واستحوذ على كل شيء فيا... قال وقال وقال وأنا أبكي وأشهق وأتوسل... ثم صفق الباب حتى اهتزت أركان البيت الرث وخشيت أن يقع فوقي وغادر... ورحلت من بعده ولم نلتق بعدها، ثم علمت أنه تزوج من إحدى بنات أسرته وتحسنت أحواله المادية شيئا فشيئا وصار اليوم من أكابر وجهاء البلد... لست أدري حقيقة العمل الذي أدر عليه كل هذا المال ولكنه نجح في أن يصل القمة ومعه رماس التي أرغب في خنقها كلما رأيتهما معا...
صمتت نسرين مفكرة ثم قالت: إذن فمعرفتك بمحسن تعود لسنوات ولم تكن وليدة الصدفة....
هزت رأسها: التقينا صدفة في مطعم مرموق عملت به نادلة وكان هو دائم الزيارة إليه رفقة بعض عملائه... صنعت الطريق نحوه وتقربت منه ولكنني لم أفلح إلا في أن أكون منشفة لحذائه...
تأسفت نسرين لحال صديقتها ثم قالت: ولكن كيف عدتما لتجتمعا بعد الفراق الأول؟
ردت بابتسامة باهتة: صدفة... لكن لا يجمعنا غير الأعمال هذه المرة... هو وبشير أسوأ رجلين التقيت بهما في كل حياتي... كليهما يعتبرانني فتاة وصولية تعشق النقود وكليهما يعتبراني بلا مبادئ. وكليهما حطما كل شيء جميل بداخلي وجعلاني أكره شيئا اسمه الحب...
وصمتت للحظات تحت نظرات نسرين المتأسية ثم تابعت: لقد أحببت بشير ولم أستطع نسيانه... ولم أعرف قيمته إلا بعد أن فقدته... لن تفهميني ولكنني بعد أن تزوج وابتعد صرت أكرر كل ليلة بمخيلتي تلك البراءة التي جمعتنا تلك العفوية والتواصل العذب... أندم كثيرا أنني شوهت بنظره تلك الفتاة الرقيقة التي رسمها في مخيلته. لكم كرهت ما حصل في بيته... لو رجع بي الزمن إلى الوراء لمسحت حياتي الوسخة منذ طلاقي حتى اليوم إلا منه ومن لحظات حبنا قبل الندم... تلك اللحظات التي أعلم أنني لن أعيش مثلها ما حييت... بعده يا نسرين أظلمت الدنيا بعيوني وصرت أنتقم من نفسي بأن أسيء لها وانتهى بي الوضع من سيء لأسوأ حتى انتهيت في سُفلى دركات الجحيم...
وصمتت تصارع العبرات التي كانت تخنقها فالحقيقة الأشد شجنا هي تلك التي لم تنطق بها على لسانها فبعد أن تخلت عن مبادئها وسلمت نفسها لذلك الثري الذي أعماها بريق نقوده تسربت الأخبار عن خرجاتها السرية معه وبدأ الهمز واللمز حولها ووصل الخبر إلى زوج خالتها الذي ثار ضدها وقرر رميها بالشارع وكانت حينها قد فقدت بشير والتغى مشروع زواجهما من أساسه.
لكن بعد دموع خالتها وترجيها المتواصل له عزف عن الأمر وقرر لها السماح بالبقاء وكانت خالتها ممتنة له تكاد تقبل قدميه على هذا المعروف، ولم تكن تعلم هذه الساذجة أن السبب الحقيقي وراء هذا السكوت هو الخدمات السرية التي كانت تقدمها له ابنة شقيقتها، فقد استيقظت فيه غريزته الحيوانية لتجعله يستفيد من مكاسب في هذه القضية ومقابل أن تبقى الفتاة في منزله وتحت رعايته كان عليها أن تمنحه بعضا من المتعة التي أغدقت بها على الثري صاحب البذلة السوداء والذي كان يعرفه جيدا...
لن تنسى أبدا دموع خالتها بعد أن ضبطتهما بالجرم المشهود داخل منزلها وفي فراشها... لقد دعت عليها ألا ترى النور في حياتها وأن تموت شر ميتة، والشق الأول من دعائها قد تحقق فمنذ أن تركت منزل خالتها وهي من سيئ لأسوأ حتى انتهى بها المطاف في نفس البلدة التي كانت تسكنها نسرين وأسرتها. وبطبيعة الحال كانت تكسب قوت يومها عن طريق معاشرة الرجال الأثرياء لتنال أكبر قدر من المكاسب...
بعد رحيلها بأسابيع اقتصت أخبار خالتها فعلمت أنها لم تترك منزل زوجها وأنهما استمرا في حياتهما معا بعد أن أقنعها أنها هي من أغوته وأوقعت به في الرذيلة وأن زوج والدتها كان محقا في طردها من منزله لأنها فتاة فاسدة، ولم تجد خالتها حرجا في تصديقه لأن ياقوتة ومنذ البداية كانت تبدو فتاة متحررة ترتدي ثيابا مكشوفة لم تلق رضاها يوما لكنها كانت تفعل ما في رأسها ولا تستمع لما تقوله لها أبدا...
أحيانا أن يكون المرء مغفلا وسعيدا أحسن من أن يكون ذكيا تعيسا، فالغباء كان نعمة بالنسبة لخالتها لأنها لو فكرت قليلا لكانت قد طلقت زوجها وشردت أبناءها وسارت في طريق مجهول... والأهم من كل هذا أن زوجها قد أصبح أكثر مراعاة لها حذرا في تصرفاته معها ويدللها أيما دلال !!
تعلم جيدا أن الخطيئة تسكنها وأنها بدأت بخطأ واحد لتنتهي في بحر من الخطايا والذنوب... وعندما ينطلق الانسان بلا رادع فإنه حتما سيضل الطريق ولن يهتدي لدرب العودة. وبعدها لن يجد حرجا من أن في المعصية أكثر ليتوه بلا رجوع... وهذا هو حقا ما حصل مع ياقوتة...







noor elhuda likes this.


التعديل الأخير تم بواسطة rontii ; 24-08-21 الساعة 02:01 AM
بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 11-08-21, 05:28 AM   #33

أم عمر ورقية

? العضوٌ??? » 425830
?  التسِجيلٌ » Jun 2018
? مشَارَ?اتْي » 55
?  نُقآطِيْ » أم عمر ورقية is on a distinguished road
افتراضي

سلمت يداك .....🥰🥰🥰

أم عمر ورقية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 12-08-21, 01:46 AM   #34

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أم عمر ورقية مشاهدة المشاركة
سلمت يداك .....🥰🥰🥰
يسلمك حبيبتي
شكرا لوجودك


بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 12-08-21, 01:48 AM   #35

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الحادي عشر

مضى أسبوع كامل بعد الفضيحة التي أثارتها سهام في العمارة، ويبدو أن الأخبار سرت بين الجيران سريعا ووصلت فادي ما جعله يتصل بها مرتين ليتهمها بالجنون و يهددها ، وكان مطلبه واضحا إما أن ترجع للمنزل أو يأخذ منها الطفل إن هي استمرت في هجرانه. تعلم أنه وغد يلعب على وترها الحساس، لأنه يعرف حق المعرفة أنها لا يمكن أن تتخلى عن ابنها تحت أي وطأة ظروف...
أثناء حديثها إليه حاولت جاهدة أن تجره في الكلام لعله يفقد أعصابه ويصرح لها بأي كلمة تصدق ما روته عنه وما شاهدته تلك الليلة المشؤومة، ولكنه أبدا لم يعترف بحقيقة ما تتهمه به. أمن المعقول أن كل ما عاشته يومها هو محض هلوسات !!!
أصبحت الآن تشكك في حقيقة الأمر بعد أن انسدت كل السبل في وجهها وبات الجميع يتهمها، وبدل أن تكون ضحية أصبحت هي الجاني !
لكن رغم هذه الشكوك التي تساورها ما عادت تطيق العودة لفادي مهما حصل... فحتى لو تبين أن الحقيقة عكس ما تظنها، ما كانت لترجع له، لأنها وببساطة اكتفت من الذل والمهانة التي كانت تعيشها في كنفه...
عليها أن تسعى جاهدة للحفاظ على ابنها بقربها وهذا كل ما يهمها...
ابنها !
أين هو؟
التفتت مذعورة تبحث عنه من حولها وهي تصارع الزحام في السوق: أنس ! أنس !
تضاربت دقات قلبها بعنف وهي تدور بالمكان منادية دون أن تجد له أثرا: أنس أين أنت !
صرخت بها مرعوبة فبدأ الناس ينتبهون إلى علامات الذعر على وجهها واقترب منها أحدهم: مابك سيدتي؟
صرخت بجزع: فقدت ابني... لقد كان متعلقا بيدي قبل قليل... أظنه تاه مني بين الزحام...
بدأ القريبون منها بالثرثرة وهم ينشرون خبر ضياع طفل من أمه في ما هدأها الرجل وقال: لا تقلقي سيدتي، سنجده بكل تأكيد...
ارتجفت خوفا وهي تحاول البحث عنه في المكان هاتفة باسمه، في حين علت الضوضاء من حولها بين متضامن وبين متهم لها بالاهمال...
مضت ساعات وهي تذرف دموعها وقد فتشت الطريق الذي سارت به قبل أن تفقد أنس عدة مرات وسألت عنه في كل متجر دخلته دون أن تجد له أثرا أو حتى تسمع عنه خبرا. بلغ بها الأسى حد الجنون ففي غمرة مشاكلها نسيت حتى أنها قد أحضرت معها ابنها الصغير، وهاهي كالبلهاء تضيعه في مكان مزدحم بالناس أين يمكن لأي كان أن يأخذه دون حرج ولن تراه في حياتها أبدا...
أشار لها بعض من أهمه الأمر وساعدها أثناء بحثها أن تذهب لمركز الشرطة فلا بد وأنه وقع بأيد أناس اصطحبوه إلى هناك مثلما جرت العادة في مثل هذه المواقف.
سارت باتجاه المخرج وقد أصبحت الرؤية أمامها ضبابية وبدأت تصاب بالدوار.
عندما تركت زحام السوق خلفها وقفت عند احدى الشجيرات على الرصيف وأخذت تحاول الاتصال بوالدتها علها تسرع في الحضور لمواساتها لأنها ماعادت تقوى على الوقوف.
ما إن رفعت سامية الهاتف لأذنها وكانت قد علمت من الرقم أنها ابنتها حتى صاحت فيها معنفة: أين أنت حتى هذا الوقت يا سهام؟ والدك لم يكف عن تأنيبي لأنني تركتك تخرجين وحدك وأنت في هذه الحالة ! إنها الثالثة عصرا يا فتاة !
انفجرت الأخرى بالبكاء وهي تخبرها أنها فقدت أنس وهي لا تدري ما تفعل، وأنها ليست بخير وما عادت تقوى على الوقوف.
دب الرعب في قلب سامية وراحت تنادي على مصطفى تارة وتارة أخرى تطلب من ابنتها أن تخبرها أين هي بالضبط...
وبعد طريق أمضاه مصطفي في اللوم والعتاب وتأنيب سامية والسخط من الوضع الذي هم فيه برمته، وصلا إلى المكان الذي أخبرتهما عنه سهام، وهناك وجدا سيارة إسعاف والممرضون يرفعون السرير لداخلها وهي ممددة عليه دون وعي. أقبلا نحوها على عجل، وبالكاد استطاعا اجتياز الجمع هناك. ثم ركبت رفقتها والدتها وهي تنتحب بعويل فيما كاد مصطفى يقذف بها خارجا وهو يطلب منها الهدوء والصبر ليفهم ما حصل من فريق الاسعاف، وبعد أخذ ورد تبين أنه محض إغماء وحمد الله أنها لم تتعرض لحادث سيارة أو نوبة قلبية...
ترك سامية ترافق ابنتهما فيما نزل هو للبحث عن أنس وتبليغ مركز الشرطة لتعميم الخبر.

**********

كانت نسرين جالسة في غرفة الاستقبال في شقة زوجها محمود وهي تذرف دموعها بصمت، لقد مضى أسبوع منذ اختفائه المفاجئ دون أن تسمع عنه أي خبر... قلبها ملتاع عليه وليس بيدها حيلة بل وأكثر ما يقهرها أنه لم يكلف نفسه عناء تكليمها وشرح وضعه لها !
وصل قبل أيام أحد موظفيه وأخبرها أنه سيكون في خدمتها إن احتاجت أي شيء، وأنه سيبقى في سيارته أسفل العمارة وكل ما عليها فعله إن احتاجته هو أن تتصل به. عبثا حاولت أن تفهم منه أين محمود، إذ أنه لم يصرح لها بأي معلومة وكان كالآلة يتحدث باختصار.
عندما غادر أطلت من الشرفة واستطاعت أن تشاهد السيارة التي ركبها، ورغم أنها ليست بارعة في تقدير أثمان المركبات إلا أنه من الواضح أن قيمتها تساوي أضعاف تلك التي كان يقودها زوجها !
إذا كان هذا موظفه فمن يكون هو؟ باتت تشك أنه يقرب "محسن ناصر السعدي" بطريقة أو بأخرى.
كانت تلوم نفسها آلاف المرات أنها لم تسأله يوما من هم أهله ومن أي عالم أتى، انتابتها أسوأ الوساوس ووصل بها الأمر لتشك في أن محمود مجرد مغامر اتخذها نزوة عابرة وقد نفض يده منها بعد أن مل سريعا، ألم يفعلها محسن من قبل مع ياقوتة ! بالنسبة لهؤلاء فالمال والنفوذ يجعل من الجميع عبيدا عند أقدامهم...
رن الجرس فهبت واقفة وهي ترجو الله في قرارتها أن يكون هو وأن ترتمي في حضنه بعد طول غياب ثم تقاتله بعد ذلك إن كانت نفسه تسول له التخلي عنها، ولكنها عادت تجر ذيول الخيبة رفقة ياقوتة التي زفرت بأسى وهي تعاتبها: نسرين ! أنظري إلى حالك ! لقد أصبت بالهزال... محمود لن يعجبه الأمر إن عاد ووجدك بهذا الشكل !
ردت الأخرى بضيق واختناق: هذا إن عاد !
بدت ياقوتة مستاءة وهي تجيبها: هل بدأت الشكوك تغزوا مخيلتك ! نسرين، لا تبدئي بتأليف القصص فأنا أعرفك، ستتهمينه بألف مصيبة والمسكين قد يكون في ورطة لا حل لها !
لم تعلق نسرين بكلمة فتابعت ياقوتة: طلب منك أن تثقي به مهما حصل... عليك أن تفعلي.
كانت فكرة برأس نسرين تلح عليها فقاطعت ياقوتة: ياقوتة هل لي أن أطلب منك شيئًا؟
بدت الدهشت على وجهها وهي تومئ لها بنعم: قولي..
فركت كفيها ومشت قليلا ثم نظرت إليها بإمعان: أريد منك أن تتأكدي أن محمود يقرب محسن ناصر السعدي، وأن تأتيني بالخبراليقين...
شحب وجه ياقوتة وبدى الاشمئزاز على تفاصيله ثم قالت: أنا لم ألتقه منذ مدة... يمكنك أن تقولي منذ اليوم الذي سألته أن يوظفك في إحدى شركاته... سيصعب علي طلب مقابلته من جديد...
ثم زفرت بضيق وتابعت: تحت أي حجة سأطلبه، ذلك الطاووس المباهي لا يعيرني أية أهمية...
ألحت عليها بتوسل: أرجوك ياقوتة، أنا أتوسل إليك... علي أن أعرف الحقيقة بطريقة أو بأخرى...
فكرت ياقوتة للحظات كيف تخلص نفسها من هذا المأزق ثم قالت بجد: رأيي هو أن تصبري بضعة أيام أخرى... لن يضرك الانتظار. أن يشرح لك هو سبب غيابه أفضل بكثير من أن يكتشف أنك لم تثقي به ورحت تتحرين حوله... ألم تقولي فيما سبق أنه رجل ليس له مثيل! لا تجعلي أمرا تافها كهذا يفسد العلاقة بينكما وتذكري أن أسوأ ما قد يزعزع العلاقة بين أي زوجين هو الشك... تحلي بالصبر وكوني قوية لتواجهي أول المشكلات في حياتكما بالحكمة كما عهدتك ولا تسمحي لأفكارك الغبية أن تهدم كل شيء فوق رأسك... الحياة ليست كلها بطعم العسل الذي عشته في أيامك السابقة!
أوقعت عليها الحجة بهذه الكلمات فلم تجد ما تقوله ونفسها تحدثها بأنه إن لم يحمل لها عذرا مقنعا عند عودته فستهشم رأسه بكل تأكيد...

**********

بدى كل شيء من حولها ضبابيا وهي تحاول فتح عيونها من جديد. مدت يدها من حولها فأوقعت بعض الأغراض التي كانت على المنضدة بقربها وسمعت صوت الممرضة وهي تطلب منها الاسترخاء.
تمكنت أخيرا من رؤيتها وهي تعاود تثبيت المصل بذراعها وتطلب منها ألا تتحرك. كيف لا تتحرك ومازالت الحرقة تأكل قلبها على ابنها المفقود.
قالت بصوت مخنوق: أريد أن أبحث عنه... يجب أن أخرج...
ردت عليها بهدوء: قال الدكتور أنه عليك ألا تتحركي من مكانك حتى تفرغ قارورة المصل فأنت تعانين من سوء التغذية.
بعد هذه الكلمات أبصرت أمها تدخل هناك مهرولة وهبت إليها بفزع: سهام حبيبتي أنت بخير؟
ردت عليها بتعب: أمي أريد أن أجد أنس... علي الذهاب لمركز الشرطة...
وتساقطت الدموع من عيونها وهي تكمل بجزع: سأموت إن فقدته... سأموت يا أمي...
ضمتها إليها مهدئة وهي تحاول جعلها تسترخي من جديد على السرير: قال والدك أنه سيبحث عنه... اطمئني سيكون كل شيء بخير، سنجده ان شاء الله فلا تقلقي...
تشبثت بثيابها وهي تبكي بحرقة وقد أعياها كل ما تعيشه، متى ستنتهي هذه المعانات يا ترى !
احتضنتها والدتها بحب وهي تردد عليها: ثقي بالله، سيعود إليك ابنك بكل تأكيد...
وبجهد استطاعت أن تجعلها تستلقي من جديد. وراحت تداعب خصل شعرها الأحمر بحنو وهي تطمئنها أن كل شيء سيكون على ما يرام.

في هذا الوقت خرج مصطفى من مركز الشرطة ومعه فادي وفي يده ابنه أنس وبقربهما الرجل الذي عثر عليه تائها وحمله إلى الأمن.
شكراه مطولا قبل أن يتركهما ويغادر. في ما داعب فادي شعر ابنه الذي مازالت تظهر على وجهه علامات البكاء وهو يخبره أنه سيشتري له ما يريد من الحلوى.
قال مصطفى بارتياح: الحمد لله أن الأمر انتهى عند هذا الحد...
نظر إليه فادي بجمود ثم قال: لا أفهم كيف تركتموها تخرج مع الطفل وحيدة وأنتم تعرفون ما هي فيه! ماذا لو لم يقع الطفل بين يدي هذا الرجل ووجده غيره، كثيرون هم الأطفال المختطفون هذه الأيام !
بدى مصطفى في غاية الاحراج وهو يحاول تبرير ما حصل: الحق معك... أنا لم أكن بالمنزل عندما خرجا وقالت والدتها أنها أخبرتها أنها لن تتأخر في العودة... من عادتها أن تشتري أشياءها بنفسها وقالت والدتها أنها بحاجة لتغير من مزاجها ونفسيتها...
رد عليه بلهجة واثقة: أخبرتكم أنها لم تعد بخير... يبدو أنه قد آن لكم أن تصدقوني...
أومأ بخيبة وقال: يجب أن تخضع للعلاج في القريب العاجل... ان استمرت على ما هي عليه ستؤذي نفسها بكل تأكيد...
قال فادي: ان استمرت على ماهي عليه سأضطر لأخذ ابني منها...
شخص مصطفى بعيونه فيه وهو يتخيل وقع هذا الخبر على ابنته التي كادت أن تُجن الأسبوع الماضي عندما عرفت أن زوجها أخذ منها ابنها ورحل... تنهد وقال: بالهداوة تحل الأمور...
أجابه: تحدث إذن إليها وأقنعها بالعودة للمنزل وأنا سأخضعها للعلاج عند أحسن الأطباء...
أخرج مصطفى هاتفه من جيبه ليطمئن ابنته عن عودة ابنها بالسلامة إلى حضنها وهو يرد على كلام فادي: الآن سنأخذ لها الطفل... وعندما تهدأ سأفتح معها الموضوع وأعدك أنني لن أتركها قبل أن أصل معها لقرار نهائي...

************

وقفت بالشرفة قبل المغيب تراقب الشارع الخالي من المارة وترصد زخات المطر وهي تغسل وجه الحي الشاحب. لاحت منها نظرة إلى الملعب أين كان من عادة محمود أن يلعب الكرة مع الصغار وشقت شفتاها ابتسامة رقيقة وهي تتذكر جريه ولهاثه وتعلق الأطفال به...
لم تعرف قبله رجلا زلزل كيانها وعصف بوجدانها بمثل هذه الشدة، تقاوم شوقها الجارف إليه بروح أضناها الحنين... بداخلها صقيع تعصف رياحه بكل ذرة فيها، شوق والتياع يعتصر قلبها ويذيقها مرارة الأشياء في غيابه... ألا ليته يعود الآن وتبصره ولو من بعيد لعل أنين افتقاده يخف، لقد أعياها الانتظار...

سَلُوا وَجْدًا بِخَفَّــاقِي تَنَامَـى
أَيَبْقَى الدَّهْرَ يَسْقِينِـي الْحِمَامَا؟
وَيَرْمِينِــي فَيُرْدِيَنِــي قَتِيلاً
وَمِنْهُ الطَّرْفُ لَمْ يَرْمِ السِّــهَامَا
عَلاَمَ يُذِيبُــنِي شَوْقًا وَيُدْمِـي
حَنِينًا قَلْبِيَ الْمُضْنَى عَلامَــا؟
فَدَمْعُ الشَّوْقِ يُغْرِقُنِي؟ وَنَوْحِـي
يَفُوقُ مِنَ الْجَوَى نَوْحَ الأَيَامَـى

مصطفى قاسم عباس

هبت نسمات باردة حملت معها بعض زخات المطر فاحتمت بذراعيها وعادت لتفكر في نفسها بعد أن أنساها محمود ذاتها وبأنانية جعل كل حياتها تتمحور حوله وحسب.
غدا عليها أن تداوم في عملها في الصباح الباكر، لقد انتهت أيام إجازتها المرضية ولم تشأ تمديدها لأنها في حاجة لأن تخرج من تلك الشقة علها تنسى بعضًا من ألم فقدانها لمحمود... هي لم تحدثه بشأن عملها وهو لم يتطرق لهذا الموضوع، كامرأة متحفظة تجد حرجا في أن تخرج من منزلها للعمل دون علمه، لكن ليس باليد حيلة فإن قرر محمود في يوم من الأيام هجرانها فعليها على الأقل أن تضمن مصدر رزقها...
دخلت موصدة الباب خلفها، بحثت عن ياقوتة بنظرات عشوائية فلم تجدها وجاءها صوتها من الرواق وهي تتحدث إلى أحدهم، وما فتئت أن جاءت إليها وراحت تبحث عن حقيبة يدها على الأريكة وهي تقول: يجب أن أذهب...
ردت بضيق: ألن تنامي الليلة هنا؟
باختصار قالت: حدثت مشكلة مع إحدى الفتيات... أعتقد أنها تعرضت للضرب المبرح من طرف أحد الزبائن...
أخذت أشياءها وغادرت موصية صديقتها بإقفال الباب جيدا وألا تفتح لأحد في حين بقيت نسرين مكانها متيبسة كالصنم. هذه أول مرة تشعر بالاستياء من ياقوتة! هل أصبحت الآن تزدريها عيونها مثلما يفعل الجميع!
لقد عاشت في بيتها فترة لابأس بها من حياتها دون أن تسيء إليها بشيء رغم فضاعة العمل الذي هي فيه، وفي اليوم الذي قررت فيه الرحيل عنها رحبت ياقوتة بالفكرة وقالت لها أنه عليها أن تشق حياتها بقناعاتها وأن ترسم لنفسها مستقبلا يليق بها. لاتزال إلى اليوم ممتنة لها لكل الذي فعلته من أجلها فقد حمتها تحت جناحها لسنين طوال وقد كانت قادرة أن تحولها لواحدة من هؤلاء البنات اللواتي تحركهن تحت أصابعها من رجل لآخر...
تشعر بالقرف من هذه الفكرة. وتتمنى في صميمها لو أن صديقتها كانت أفضل من هذا... ولكن شاءت الظروف أن تربطها بها وأن تجعلها كل أهلها...
منذ أن صرحت لها ياقوتة بالسفالة التي عاشتها مع محسن وبشير وكيف كانت مستهترة بدأت الأفكار المقززة تناوش عقلها وقد أصبح الأمر مزعجا لها...
صحيح أنها فيما سبق كانت تخرج مع هذا وذاك وتجيء من هنا وهناك، لكنها لم تجاهر يوما بطبيعة عملها ما جعل نسرين تقبل بالواقع مادام لكل انسان خصوصيات... أصلا في ذلك الوقت ماذا كان بإمكانها أن تفعل من أجلها !!!
أما اليوم وقد جاهرت بحقيقتها فقد تغيرت نظرة نسرين تجاهها وهذا محزن جدا بالنسبة لها، إذ أنها تعتبر الأمر خيانة لصداقة طويلة جمعتها مع ياقوتة. تريد أن تبعدها عن كل ذلك العالم، أن تجعلها تتوقف عن السوء الذي تعيشه لكن كيف السبيل لذلك. تعرف جيدا أنها إن فتحت فمها بالموضوع فستخسر صديقتها للأبد وربما هذا ما جعلها تقفل على الأمر برمته وتتناسى أمره... لكن إلى متى؟

******
كان فادي يشاهد التلفاز بغرفة الاستقبال فدخلت أمه وتأملت ما يُعرض على الشاشة للحظات. كانت برامج إعلانية لمواد التجميل النسائية، تعلم جيدا أنه لا يفعل ذلك من أجل العارضات الواتي تفضن أنوثة كما قد يفعل كل الرجال، وإنما من أجل المواد في حد ذاتها...
لم تكن سهام مخطئة عندما أشارت بأصابع الاتهام إليها وهي تخبرها أنها تعرف كل شيء... أجل هو ابنها لسنوات وتعلم باختلاله... لكن ما باليد حيلة... عندما قررت تزويجه ، كانت تهدف لصرفه عن هذا الشذوذ الذي هو فيه لكنها لم تفلح في هذا وإنما دمرت حياة فتاة شابة وجعلتها على شفير الجنون.
أقفلت التلفاز في وجهه فنظر إليها ولم تتجرأ هي على القول أنها تتقزز مما يفعله..
سألته: كيف حال سهام؟
رد بملل: لا تبالي بها... ستكون بخير.
قالت: وأنس.. هل حقا هو بخير؟
أجابها وهو يقوم من مكانه: لقد خاف قليلا لكنه لا يعاني من سوء.
همست بين شفاهها: الحمد لله.
ثم تجهمت حتى شارفت على البكاء. ورفعت رأسها إليه من جديد: أشعر أننا السبب فيما يحصل...
رفع حاجبيه بحيرة: نحن من أخذها إلى السوق وجعلها تفقد ابنها !
ردت باستياء واندفاع: أنت تعلم ما أقصد !
هز كتفيه بلا مبالاة وخرج دون أن يُحمِّل نفسه عناء مباحثة الموضوع معها، بينما ألقت هي بنفسها على الأريكة وعقلها يستحضر ما حصل تلك الليلة المشؤومة...
لن تنسى أبدا كيف اتهمتها سهام بتدمير حياتها لأنها اختارتها له زوجة دون النساء... لحظتها أحست هناء بأنها أم فاشلة وامرأة غير مسؤولة إذ لم تفلح في تربية ولد واحد وجعله يسلك النهج السليم !
كل همها كان في أن تطمس معالم جريمتها، وتخفي آثار خزيها بأن تحافظ على صورة ابنها في عيون الجميع... كل ما كان يدور برأسها تلك الليلة أن لا تخرج الحقيقة التي عرفتها سهام للعلن... كما أنها خافت من تأثير الصدمة على سليم، وعلى علاقته بابنه...
خطر لها أن تنهي كل تلك الفوضى التي أحدثتها سهام بطريقتها الخاصة، وأن تحتوي الموضوع في مهده قبل أن يكبر ويصبح فضيحة....
دخلت عليها سهام وكانت بالمطبخ تذرف الدموع وجلست تحدثها عن وجوب معالجة فادي في القريب العاجل... اكتفت بسكب فنجان شاي لها وضعت به كمية من دواء حساسية الجلد خاصتها والذي كان من تأثيراته الجانبية التنويم والتسبب بالنعاس المفرط، لذلك كان ممنوعا عن السائقين. وبالتأكيد فور انتهائها من فنجانها وبعد دخولها لغرفتها غطت سهام في النوم مباشرة.
بعد قليل وصل فادي وتجادلا طويلا ثم أخبرته بخطتها حتى يسترا الموضوع واتفقا على كل كلمة سيقولانها لمواجهة اتهاماتها. دخلا الغرفة و نقلا سهام لفراشها دون أن تشعر، ثم أعادا توضيب الحقائب في الخزانة وحاولا جاهدا طمس كل آثارتلك الليلة وجعل الأمور تسير على المنحى المتفق عليه.
ليس هذا وحسب بل أتقنت تمثيل دورها في صباح اليوم التالي رفقة ابنها الذي عاش كل حياته وهو يلعب دور الرجل المثالي في عيون المجتمع... وانتهى الأمر بسهام وهي تطرق أبواب الجنون بعد أن انسدت كل الدروب بوجهها، ووجدت أنه لا أحد يصدق ما تقول !
ويوم أحضر فادي ابنه إلى المنزل كانت فكرة سليمة منها أن تعيده إلى والدته وتتصرف بمنتهى الطيبة حتى تكسب تعاطف الجميع من حولها، وتقلب الطاولة بوجه سهام التي أصبحت في نظر الجميع مجرد زوجة حاقدة على أسرة زوجها كل همها أذيتهم وتشويه صورتهم في عيون جيرانهم...
وأكثر ما جعل كل خططها ناجحة هو تلك السمعة الطيبة التي تتحلى بها العائلة والهدوء والرزانة المعروفتان عنها هي بالذات عند الجميع، ما يجعل ما ترويه سهام عنها شيئا أبعد من أن تتقبله عقولهم. وعلى عكسها كانت هذه الأخيرة عصبية وانفعالية وتتصرف بهستيرية... و كان هذا كفيلا بجعل أصابع الاتهام تتوجه إليها دون الجميع.
صحيح من قال أن أخطر أنواع البشر هم أولئك الهادئون الذين يراقبون من هم حولهم في صمت... غالبا هذا النوع من البشر أذكى من غيرهم، ونظرتهم التأملية تجعلهم أكثر إلمامًا وشمولا... وهم الأخطر على الاطلاق فتكًا وتخطيطًا. وطوال عمرها تميزت هناء بكونها امرأة باسمة قليلة الكلام و صفة الطيبة لديها أعطتها ورقة رابحة لتُصنف ضمن أفضل النساء طوال سنين حياتها...

******

جاء صباح اليوم الموالي، وعلى غير العادة استفاقت نسرين مبكرا، اليوم ستعود لعملها وعليها أن تصل قبل المعاد بقليل لتقابل بديلتها نرجس حتى تفهم منها آخر التطورات...
إنها سكرتيرة السيدة منال التي تتولى إدارة معمل لصناعة المجوهرات عرف مؤخرا عدة عثرات لكنه ما زال قيد التشغيل. وهو فرع من مجموعة مصانع وشركات تابعة لممتلكات "محسن ناصر السعدي"، وقد تم توظيفها هناك بعد وساطة ياقوتة لها.
علمت بعد توظيفها من زملائها أن والد السيد "محسن ناصر السعدي" بدأ كصائغ يبيع المجوهرات، ثم تحول إلى مجال تصنيع قطعه بنفسه، وكان حرفيا متميزا ارتقى بورشته المتواضعة لتصبح مصنعا يوظف به عددا من العمال، وقد طور من وسائل انتاجه واستطاع أن يدخل في عدة شراكات. ما فتح أمامه الأبواب على مصراعيها ليحتل الصدارة دون منازع، استلم بعده محسن أمور المعمل وكان بارعا كوالده فضاعف من ثروته وأصبح لديه مجموعة متميزة من المعامل والشركات التي كانت تدر عليه كثيرا من الأموال... لكن الوضع مؤخرا لا يبدو بخير فقد طرأت تعقيدات كثيرة وبدأت مشاكل في السيولة النقدية تثير ريبتها حول حقيقة هذه الثروة التي تتربع على عرشها أسرة ناصر السعدي...
دخلت مكتبها بخطى سريعة وواثقة تفصح عن صرامتها الدائمة في عملها. عندما ولجت مكتبها شاهدت فتاة يافعة بشعر أسود طويل يصل حد خصرها منسدل بنعومة على ظهرها وهي ترتب بعض الأوراق على الطاولة أمامها.
وقفت قبالتها وألقت التحية ثم قالت: لابد وأنك الآنسة نرجس...
رفعت رأسها إليها متفرسة وجهها وأومأت بنعم ثم أردفت: لا بد وأنك السكرتيرة نسرين !
باختصار ردت عليها: أجل...
قامت الأخرى من مكانها وصافحتها ثم رحبت بعودتها وبدأت تشرح لها بعض التفاصيل الدقيقة حتى تستطيع الإلمام بكل شيء، فطبيعة عملها تحتم عليها اليقظة واحتواء كل تلك التفاصيل الكثيرة والمعقدة وتذكير مديرتها بكل شاردة وواردة، خصوصا وأن منال كثيرة النسيان وتلقي بكل أعبائها على عاتقها فهي تثق بذكائها ودقتها.
أحيانا تشعر أنها يجب أن تكون أمها لتلك المرأة التي تبدو في آخر الأربعينات والتي تضحك كثيرا على عكسها هي فقد تعودت على الابتسام وحسب... تعترف أنها شحيحة في مشاعرها فهي لا تسرف في إغداق الآخرين بالعواطف ولا حتى مجاملةً... جل ما تخشاه أنها كسرت هذه القاعدة مع محمود ومنحته قلبها دون حتى أن تدري...
محمود من جديد ! إنه لا يفارق مخيلتها ولو للحظة، يجب أن تلقي به بعيدا وتنتبه لعملها خصوصا بعد كل هذا الغياب.
انتهت نرجس من ثرثرتها الطويلة فودعت نسرين وتركت المكتب، في ما ألقت هذه بجثتها التي أصبحت تحسها خاوية دون روح عليه، وراحت تحفظ المواعيد المدونة على الكمبيوتر في ذاكرتها حتى لا تبدأ يومها بالأخطاء.
سمعت صوت كعب عالي في الرواق فرفعت رأسها ومباشرة دخلت السيدة منال في كامل هيبتها، كانت امرأة وقورة بشعر قصير كستنائي اللون وعيون حادة بنية تضع عليها نظارة طبية. وتلبس معطفا باهض الثمن تظهر منه تنورتها القصيرة السوداء.
ابتسمت فور مشاهدتها لسكرتيرتها الغائبة منذ مدة وألقت التحية: صباح الخير.
كانت نسرين قد وقفت متأهبة، وردت التحية على مديرتها ثم لحقت بها إلى المكتب وبقيت واقفة تشاهدها وهي تعلق معطفها وتضع أشياءها في أماكنها،ثم تأملتها وهي تقول: كيف كانت عطلتك يا نسرين؟
ردت مع ابتسامة: الحمد لله...
ليس من عادتها أن تحكي للمديرة تفاصيل حياتها لذلك فهي لن تخبرها أنها قد تزوجت. تعلم جيدا أنها محظوظة بمديرة كهذه بشوشة وسلسة المعاملة، ليست من ذلك النوع المتصنع والمتكلف، ولكن حتى هذا لم يكن لينفع في جعلها تخرج من قوقعتها التي صنعتها لنفسها وتحول معرفتها بمنال منذ سنوات إلى صداقة. وبالمقابل تعودت منال على طبيعة سكرتيرتها الكتومة ولم تكن تطلب منها كثيرا من التوضيحات، وإنما كانت تستفيد من كونها ماهرة في عملها وحتى أنها كانت تأخذ بمشورتها في بعض الأمور المتعلقة بالشغل والتصاميم لكونها امرأة بذوق مميز...
بعد أخذ ورد طلبت قهوتها المعتادة. فعادت بها نسرين بعد دقائق ووضعتها أمامها في صمت ثم استقامت واقفة وقالت: تأمرين بشيء قبل أن أغادر.
بقيت منال تحدق بشاشة الحاسوب مدققة في بعض التفاصيل للحظات ثم قالت بعد انتهائها منها: أخبرتك نرجس بشأن الاجتماع؟
ردت: أجل... إنه مدون عندي، أليس اجتماع مع رؤساء المعمل؟
تنهدت ونظرت إليها مباشرة ثم قالت بجدية: نعم... أتمنى أن يمر على خير..
بدت نسرين متفاجئة: السيد وديع رجل متفهم، لن يلومك على تسرب التصميمات الجديدة...
رمقتها بنظرات اندهاش وعذرت سذاجتها وهي تقول: السيد وديع توفي الأسبوع المنصرم...
شهقت بدهشة وجحظت عيونها دون أن تقول كلمة فتابعت منال: على أي كوكب كنت حينها !... لقد ملأ الخبر الصحف !..
لا بد وأنها كانت تغرق بالعسل مع محمود أو تحترق بنار هجرانه الأمر يعتمد على التوقيت الذي توفي فيه من الأسبوع المنصرم...
تابعت منال: سيحضر أحد ممثلي العائلة... أشعر بتوتر شديد... أخشى بأن يفتعل مشكلة...
قالت نسرين وهي تحدق بساعتها: على كل حال سيصل بعد نصف ساعة.
هبط قلب منال بين ضلوعها وهي تجمع تلك الأوراق أمامها ثم أومأت لها بالانصراف. فيما غادرت نسرين لتتأكد من إعداد غرفة الاجتماعات واتصلت ببعض مسيري المصنع المطالبين بحضور الاجتماع لتتأكد من وصول الجميع وترفع تقريرها للمديرة.
بدأ الاجتماع فور وصول مالكي المصنع ولم تهتم نسرين بالحضور ففي عقلها ما يكفي من مشاكل ولا ينقصها أن تضيف إليها بؤس منال بسبب استهتارها المُسبق، فقد أضاعت تصاميم قطع من المجوهرات قبل أشهر لتعود وتجدها فيما بعد. لكن بعد أن غزت تلك النماذج الأسواق، والتي كان من المفترض أن تكون حصرية للمعمل. ولم يكن أمامها فعل أي شيء لأنها وببساطة لم تحترز من هذا الجانب... وهكذا ضاع جهد أشهر بل سنوات في يوم وليلة !!!
تعلم أن خزيها سيكون اليوم كبيرا ومهما بلغ تعقل المالك فهو لن يرحمها مطلقا... عليها فقط أن تنتظر لترى اكفهرار وجهها عند عودتها...
دام الاجتماع طويلا حتى اعتقدت أن هذا المالك يحاسبها حتى على عدد الدقائق التي أضاعتها وهي تدخل دورة المياه وتخرج منها !
وجاء الفرج أخيرا بعد ساعات عندما وقفت منال عند الباب مصفرة ثم حدقت فيها بتعب وقالت: أرجوك اصنعي له قهوة لا أريد أن يصنعها غيرك... لا أريد أن أفسد الأمور أكثر.
بدت علامات استفهام على وجه نسرين فقالت منال: هيا ماذا تنتظرين ! قال أنه يريد قهوة من دون سكر...
رددت بهمس بين شفاهها دون أن تسمعها: كأيامي هنا !
وقامت لتعد لهذا الغول القهوة ونفسها تحدثها أنه كان يجدر بها أن تفتح كفتيريا عند أسفل العمارة ربما كانت لتجني من صنع القهوة أكثر مما تجنيه هنا عند هذه المديرة غريبة الأطوار...

دخلت غرفة الاجتماعات بعد أن طرقت على الباب ولم يكن غيره هناك وهو يعمل على حاسوبه المتنقل. وأصابع كفه على جبهته وقد حجب عنها بعض تفاصيل وجهه وهو غارق في تدقيقاته، لكن قلبها قفز من بين ضلوعها عندما شعرت أن هذا الجسد ليس عنها بغريب.
أصدرت صوتا لتلفت انتباهه: مرحبا سيدي.
رفع رأسه إليها مذعورا فسقطت من يدها صينية القهوة وانسكبت ملطخة بياض البلاط الناصع وقد انتشرت الشظايا في الأرجاء.
وبصوت فقد رنته ووجه شاحب همست باختناق: محمود !
لم يقل أي كلمة وهو يشاهدها تقف أمامه بل لم يستطع أن يحرك شفاهه فقد بقي فاغرا فاه يحدق بها وكأنه يتأكد من هويتها مرة بعد أخرى...
عندما ولجت تلك الغرفة كان الفضول يساورها حول هيئة المالك من عائلة ناصر السعدي ورغم أنها شكت مسبقا في كون محمود أحد أبناء محسن ناصر السعدي إلا أنها لم تعتقد أبدا أن سبب ابتعاده عنها دون خبر هو لكي يجلس على هذا الكرسي بكل وقار ويستلم زمام الشركات !!!
هل حقا محمود الرجل النبيل الذي عشقت فيه معنى الرجولة تخلى عنها وتركها دون أن يقدم أي عذر من أجل أن يمارس سلطته !!!
عليه أن يقدم لها تفسيرا والآن... هذه فرصته الأخيرة... يجب أن يشرح لها الأمر قبل أن تفقد أعصابها... عقلها يرفض تصديق فكرة أنها لم تعن له شيئا في يوم من الأيام...
ارتجفت وارتعدت أوصالها وتعرقت كالمحمومة... قاومت جاهدة ارتعاش شفاهها وهي تحاول أن تمسك قلبها الذي أحست به سيهوي من مكانه فوضعت يدها على صدرها وكأنها بذلك ستحفظه.
أرادت أن تلفظ اسمه مجددا فقط لتتأكد من تجاوبه معه، ربما ليس هو... قد يكون توأمه... عبثًا حاولت أن تنطقه لكنها لم تستطع فقد تجمد كل شيء فيها حتى الكلمات.
محمود الأولى كانت من بين شفاهها لكن محمود الثانية لم تكن كذلك... التفتت خلفها لتشاهد الفتاة الشقراء المعروفة بمروى وهي تدخل القاعة في ثوب أزرق قصير ومعطفها على ذراعها بينما يدها الأخرى تحمل حقيبة جلدية أصلية فاخرة.
تجاوزتها بخفة فاستطاعت أن تشتم رائحة عطرها المميز وغامت عيونها عندما شاهدتها تميل بجذعها إليه وتقبل وجنته.
شعرت أن الأرض قد اهتزت تحت قدميها وكادت أن تهوي أرضا لكنها وكعادتها مقاتلة شرسة حتى في أحلك حالاتها. رغم أنها لم تكن قادرة على رفسهما معا إلا أنها على الأقل وحدت قواها لتبقى منتصبة هناك بشموخ... لن تسقط أرضا بهذه السهولة...
كان شعورها بالخواء آن ذاك يشعرها أنها ريشة ستطير مع هبوب الريح... يقولون أن الانسان قبل الحب شيء، وعند الحب كل شيء، وبعد الحب لا شيء...
تذوقت معنى اللّاشيء لحظتها كما لم تعرف معناها يومًا حتى وهي مضطهدة بين إخوتها تحت مباركة والدها...
كانت مروى تتحدث إلى محمود بميوعة وعيونه ما تزال متعلقة بنسرين دون أن يصدر أي ردة فعل... وكأنه متهم لا أمل في تبريئه...
نظرت مروى إلى الفوضى على الأرض ولم تعلق عليها ثم تأملت وجه محمود وداعبت خده بأصابعها: ألم تقل أننا سنتغدى معا حبيبي؟
وتأملت ساعتها الفاخرة: أعتقد أنه عليك ترك العمل الآن...
هل اصبح يواعد هذه القطة المدللة !!! لا بد وأنها تحلم... أحدهم يخبئ كاميرا خفية في زاوية ما... ستظهر على شاشة المقالب الزوجية رمضان المقبل بكل تأكيد !!!
تابعت مروى وهي تقفل الحاسوب ومحمود كالمغيب عن الوعي: هيا حبيبي من دون أعذار... نحن في شهر العسل لا تنس هذا !
كل ما شاهدته شيء... وما تقوله هذه الصفراء شيء آخر ! شهر عسل !!!
هل يكون شهر عسل من دون زواج؟ !
أرادت أن تسأل الناس بالشارع علهم يقولون أجل !.. كانت على شفير الجنون وهي تستوعب أن محمود لم يعد لها وأن كل ما جمعهما كان كذبة !
كل أحضانه كانت كذبة، كل قبلاته كانت كذبة، كل همساته العاشقة كانت كذبة... أو ربما كانت رغبة... رغبة عابرة وانتهى...
شعرت بالخيبة تكسر كل جدار من الكبرياء داخلها... جدران بنتها بعيدا عن اضطهاد أسرتها لتعيش عزيزة نفسها وهاهو الآن من جعلته كل حياتها، يهدم كل حياتها !!!
ليته مات ولم يهوي على قلبها بخنجر الغدر هذا !!! ليته يوم أتاها بحبه أقفلت بابها في وجهه ورمته بالحجارة...

لو كنت أدري..
أنه نوع من الإدمان .. ما أدمنته
لو كنت أدري أنه..
باب كثير الريح ، ما فتحته
لو كنت أدري أنه..
عود من الكبريت ، ما أشعلته
هذا الهوى . أعنف حب عشته
فليتني حين أتاني فاتحا..
يديه لي .. رددته
وليتني من قبل أن يقتلني..
قتلته..
نزار قباني

مالذي قد يعيده إليها الندم الآن... غير أن يفتح في قلبها جروحا لن تندمل !

انتهى الفصل

noor elhuda likes this.

بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 12-08-21, 07:18 AM   #36

أم عمر ورقية

? العضوٌ??? » 425830
?  التسِجيلٌ » Jun 2018
? مشَارَ?اتْي » 55
?  نُقآطِيْ » أم عمر ورقية is on a distinguished road
افتراضي

😐😐😐😐 لماذا يا محمود ..ياليت عندك تفسير مقنع

أم عمر ورقية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 14-08-21, 01:57 AM   #37

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الثاني عشر

فتحت بابي شقتها بأياد مرتعشة وأغلقتهما معا وكأنها توصد على وحوش تنهش قلبها خلفهما، وكأنها توصد على كل ما شاهدته قبل قليل خلف البابين وخارج حياتها.
حمدت الله أنها مازالت تحتفظ بمفاتيح شقتها في حقيبتها وليس من داع لأن تدخل شقة محمود وتفتش عنها هناك وتزيد من مرارتها مرارة وتموت قتيلة فوق كل تلك الذكريات التي تضج بها جدران الشقة التي احتوت حبهما في يوم من الأيام.
ضربت بالمزهرية الجدار تصرخ بعذاب: كاذب !...
وتهاوت أرضا وهي تغمض عينيها وتسد أذنيها أمام تلك الصور والهمسات التي اجتاحتها لتسقيها فوق العذاب عذابًا... حبه لها أصبح مصدر ألم وذل ومهانة...
كيف استطاع خيانتها بأبرد طريقة !!! مازالت كلمات الصفراء تلك ترن كالناقوس المدوي فتهتز معها أضلعها ويصرخ قلبها كمدًا "الرحمة !"... رحماك ربي، هذا عذاب لا قبل لها به !!!
سقطت أولى الدموع من عيونها بعد كل المعمعة... مسحتها بيدها المرتجفة وتأملت بريقها وهي تشعر بالذل والاستصغار، لقد نجح ذلك الرجل في كسر كل جميل بداخلها... خانها بأبشع طريقة وضحك منها في ذلك الوقت الذي كانت هي تذرف دموع الشوق الجارف... تهاوت بعدها دمعة أخرى لتسيل عيونها بأمطار شتاء بارد فيه مَحرقة قلبها... تشهق بألم وتتردد الشهقات بصدرها دون أن تمنح لنفسها لحظة سلام واحدة...
افترشت الأرض تحتها تسقيها من مآقيها و ترثي ذكرى حبيب ومنزل... ليس من السهل أن تتقبل ما رأته وسمعته، تتمنى لو أنها في كابوس ستستفيق منه بعد هنيهة...
سمعت طرقا على الباب وصوته وهو ينادي باسمها، إنه هو من قهر قلبها وألقى بها قتيلة بين براثين القدر. صرخت به بجنون تطالبه بالرحيل وقد ازداد هو إصرارًا يترجاها أن تسمعه، قال لها: لا تلقي بحكمك علي دون أن تسمعي مني، أنا أرجوك...
أجابته بصوت خنقه البكاء: ارحل ولا تعد... لا أريد أن أستمع لأكاذيبك التي لا تنتهي... هل ستخبرني أنك لم تتزوج بها؟
زفر بإحباط وهو يتحسس اللوعة بقلبها في كل كلمة تقولها، ثم حاول معها من جديد: افتحي الباب أنا أرجوك... افتحي حبيبتي...
جن جنونها وهي تتخيله يستغبي عواطفها بكلماته، صرخت به: لا تقل حبيبتي... ارحل من هنا... لا أريد سماع حتى صوتك... أيها الخائن... الكاذب...
وشهقت بعذاب حتى وصل صوت نشيجها إليه فأغمض عيونه بألم وهو يشعر بحرقة قلبها، كيف لها أن تنسى ما شاهدته وما سمتعه ! هي لن تسامحه هذا مؤكد وهو لن يغفر لنفسه أنه سبب لها كل هذا العذاب.
وضع جبينه على الباب الحديدي البارد وبقي يستمع لعذاب قلبها وهو يشتم نفسه آلاف المرات، هل كان عليه أن يقحمها في جحيمه !.. كان لديها ما يكفيها من مشاكل فلماذا حملها وزر خطاياه !

*********

في غرفة الاستقبال بمنزل أهل سهام كانت هناء جالسة ترتشف الشاي وهي تتبادل الحديث مع سامية وطبعا تتشاوران حول الوضع الذي أصبحت عليه سهام وكيف كادت تؤذي ابنها للمرة الثانية.
قالت هناء: أتمنى فقط لو أنها توافق على رؤية الدكتور... بلغني أنه ماهر في عمله...
ردت عليها سامية: إقناعها أمر صعب. لقد تحدث إليها والدها ليلة الأمس وكاد يشاجرها لكن ردها واحد... تقول أنها ليست مجنونة...
تجرعتها هناء على مضض وأخذت رشفة من فنجانها وهي تفكر في خطوتها التالية... وفجأة أبصرت سهام وهي تقف عند المدخل وعيونها ترمقها بنظرات غريبة حتى كادت تختنق بقطرات الشاي.
دخلت وجلست رفقتهما ملقية بالتحية، صمتها مريب كهدوء ما قبل العاصفة. استوت في جلستها وحدقت بهناء بثقة: كيف حالك حماتي؟
فغرت سامية فاها بريبة ما هذا التعقل والاتزان ! قبل أيام كانت تهدد بقتلها لأنها من تجعل منها مجنونة...
أجابتها هناء بتوجس: بخير...
تأملت سهام أناملها وعبثت بأظافرها قبل أن تقول: و... ماذا يقولون أيضا عن هذا الطبيب النفساني؟
حدقت هناء بسامية للحظات ثم قالت: إنه طبيب بارع في عمله...
قاطعتها سهام: متى يمكننا زيارته؟
سعلت أمها وقد تحشرجت قطرات الشاي بحلقها واحمرت عيناها حتى كادت تختنق فقدمت لها ابنتها الماء وضربت ظهرها بخفة حتى تتماسك.
قالت وهي تلتقط أنفاسها: أنا بخير... بخير...
التفتت اليها هناء من جديد وعلى وجهها علامات الدهشة: في أي وقت. طلب فقط أن نحجز عنده موعدا قبل ذهابنا... هذا كل شيء.
منحتها ابتسامة غامضة وهي تقول: اتصلي به إذن... سنذهب أنا وأنت اليوم.
بدت غير واثقة مما تقوله كنتها فحملقت بسامية متسائلة لكن هذه الأخيرة كانت محتارة مثلها ولا تفهم سر الانقلاب في موقف ابنتها بهذا الشكل بين ليلة وضحاها...
*********
كانت ما تزال تبكي في حضن ياقوتة وهي تعيد عليها للمرة العاشرة كل ما شاهدته وما سمعته. ومع كل مشهد جارح كانت تنزف دموعها ويتزلزل كيانها بقهر لا مثيل له.
لم تجد الأخرى ما تقوله سوى هدهدتها بحنو وهي تطلب منها أن تكف عن البكاء. كان عقلها في متاهة لا نهاية لها وهي تحاول أن تفهم حقيقة ما يدور بين الاثنين.
اتصل بها محمود قبل ساعات وأخبرها أن نسرين في حال سيئة وأنه عليها أن تحضر لمواساتها في الحال. حاولت أن تفهم منه ما يحصل لكنه اكتفى بالقول أنه يحبها ولم يقصد أذيتها..
شوشت هذه الكلمات عقلها وهرولت بالمجيء إلى هنا وأول من شاهدته عند وصولها هو وقفته الحزينة والمنكسرة قرب باب شقتها، بدى لها مصفرا كئيبا حتى أنه كان هزيلا ويبدو عليه الهم والغم.
قالت بقلق: ما بها نسرين؟
رد بعد شهقة عميقة: تقفل الباب ولا تريد أن ترى وجهي...
رفعت من صوتها بدهشة: ما الذي حصل بينكما ! ومتى عدت؟
حرك رأسه بحسرة وهو لا يريد أن يجيب على أي سؤال وقال باختصار: لن تعذريني لا أنت ولا هي... أعلم أنني قد ارتكبت حماقة. لكن صدقيني لم يكن أمامي حل آخر...
قالت بشحوب: طلقتها !!!
هز رأسه مستبعدا أن يحصل هذا: لم أتزوج بها لأطلقها تحت أي ظرف...
وجهت إليه أصابع الاتهام: اتخذت إذن عشيقة...
خلل أصابعه في شعره وقال بضيق: أدخلي إليها واجعليها تتوقف عن البكاء... سأجن من سماع نحيبها وأنا بعيد عنها...
استمعت لما يقول وهي تشاهد قلة حيلته وآلامه تطل من نظرات عيونه. ثم طرقت على الباب وهي تقول: نسرين... حبيبتي افتحي الباب هذه أنا...
وانتظرت الرد فلم تسمع أي كلمة ولا حتى صوت نشيجها.. ثم جاءها صوتها وهي تقول: لن أفتح له... أعلم أنه جاء بك ليتمكن من الدخول.
نظرت إليه ياقوتة فأشاح بنظره عنها ثم قالت له: ابتعد، يجب أن أدخل إليها ولا أريدك أن تتواجد هنا عندما تفتح لي الباب.
قال بتعب: يجب أن أكلمها... ربما لن تصدقني لكنني يجب أن أراها وأخبرها حقيقة ما حصل... أنا لم أخنها ولم أتخلى عنها... زواجي من مروى كان كارثة لابد من وقوعها...
ذعرت وهي تتأمله ثم قالت: تزوجت ! معقول !
وبغضب دفعته بعيدا عن باب الشقة وهي تقول: كيف لا وأنت ابنه... نسخة منه !
ثم رفعت إصبعها في وجهه متوعدة: إن لم ترحل الآن وتنسى نسرين وكل شيء يخصها سأقتلع عيونك...
وناظرته بازدراء: أعرف أمثالك... رجال لا يشبعون... يريدون كل النساء دفعة واحدة... لابد وأنك لم تتزوجها إلا لأنك علمت أنك لن تنالها بغير طريقة...
ثم تابعت بكره: لو سمحت غادر من هنا حالا أريد رؤية صديقتي...
عادت لواقعها على صوت شهقات صديقتها فراحت تمسح على رأسها بحنو ثم قالت: أعتقد أنه عليك أن تسمعي منه...
صمتت نسرين مصدومة ثم نظرت إليها ساخطة: أنا لا أريد سماع أكاذيبه... الأمر واضح ولا يحتاج لتفسير...
أجابتها ياقوتة بتعقل: لو كنت لا تعنين له شيئا ما ظل عند باب شقتك يترجاك أن تفتحي له اليوم بطوله... صحيح أنني كرهته عندما أقر بزواجه من تلك المسماة مروى، لكن عندما فكرت بمنطقية بعيدا عن العواطف، أجد أن تصرفاته تجاهك نابعة عن حب لا عن رغبة عابرة...
همت بالاحتجاج فقاطعتها وتابعت: أنا أكثر معرفة منك بهكذا أمور... من الصعب أن تجدي رجلا صادقا في مشاعره، وإن حدث ووجدته فلا يجب أن تضيعيه... أرى أن تسمعي منه ولن يضرك الأمر...
بلغت من الحنق أقصاه فلم تعلق على كلام ياقوتة وإنما اكتفت بالتحديق فيها بصرامة: أريد أن أبقى لوحدي قليلا لو سمحت...
فهمت الأخرى أنها تريد منها ترك الشقة فوقفت وهي تعدل هندامها: أعلم أنك ناقمة مني لما قلته لكنني أرجو منك أن تتعقلي وتتخذي القرار الصائب. على كل حال اتصلي بي إن احتجت أي شيء، وكفي عن البكاء لأنه لن يأتي بنتيجة...

********
أبطأ المريض الذي كان بالغرفة في الخروج وبدى الضجر على وجه هناء التي كانت تفكر مرة بعد أخرى في سبب هذه الطواعية التي أظهرتها كنتها. ليست غبية لتصدق أنها رضخت أخيرا للأمر الواقع، إنها تعرف عنادها و تعلم جيدا أنها لن تلين بهذه البساطة، لكن يا ترى ما هو السبب الحقيقي وراء كل ما تفعله !
أرسلت نظراتها باتجاهها وتفرست ملامحها، كانت منكبة على هاتفها تتصفح الانترنت أو تشغل لعبة ما... بدت مسترخية وهادئة وكأنها تستمتع بالشحوب الذي كسى ملامح حماتها منذ رأتها...
رغم أنها فطنة وسريعة الملاحظة إلا أنها عجزت عن كشف ما تخفيه لها كنتها، خصوصا بعد أن رفضت مرافقة والدتها لهما... كانت ستموت لتعرف السر وراء كل هذا التغيير... تراها تحاول كسب الوقت لصالحها؟
خرج المريض بعد طول انتظار وحان دور سهام فوقفت مستعدة للدخول وهي تضع هاتفها في حقيبة يدها، وبنظرات متكبرة قالت لهناء: ألن ترافقيني لتتأكدي إن كنت مجنونة؟
تأتأت هناء ثم قالت: لن يسمح الطبيب بتواجدنا معا بالداخل...
دخلت سهام للحظات إلى الغرفة فتنهدت هناء باضطراب، ثم ما لبثت أن عادت إليها وهي تقول: لم يمانع الطبيب في دخولك...
شخصت ببصرها إليها ثم قامت بتثاقل وهي تريد معرفة السبب وراء كل هذا.
جلستا معا في الكرسيين المقابلين للطبيب على نفس المكتب وبدى هو بشوشا وسلس المعاملة، مازحهما لتتصرفا بعفوية وتكونا على سجيتهما: مرحبا بالجميلتان... هذا يوم حظي والله.
ردت عليه سهام: ربما كان أفضل لو قلت مرحبا بالمجنونتان...
قال بابتسام: ليس كل من يستشير طبيبا نفسيا يكون بالضرورة مجنونا... كل منا يحتاج في مرحلة معينة من حياته لأن يفضي ببعض ما يثقله لشخص ما يكون محل ثقته، ولهذا وُجد الطبيب النفسي ليكون مخزن أسرار العديد من الناس وليساعدهم على رؤية الأمور بشكل أوضح، هذا كل شيء...
انتهزت هناء الفرصة وقالت: أليس من الأفضل لو أن الطبيب جالس مريضه على انفراد؟
رد عليها: ليس إن كان المريض نفسه يصر على تواجد شخص معين معه...
بدأ حديثه مع سهام بابتسامة وهو يوجه نظراته إليها: ها... كيف حالك سيدة سهام؟
أجابته بارتياح: الحمد لله على كل حال...
وارتأت أن تأخذ هي زمام المبادرة حتى لا يُسائلها: هل تريد أن أقص عليك حكايتي يا دكتور؟
طلب منها أن تسترخي على الأريكة المقابلة وأن تغمض عيونها وتتذكر كل ما حصل وأن تحاول استخراج كل الذكريات المؤلمة داخلها حتى تلك التي ترفض أن تسترجعها... نفذت هي دون مماطلة وبدأت تخبره بتفاصيل حياتها منذ صباها مرورا بمراهقتها وأحلامها الموءودة ثم زواجها من فادي وكيف كانت حياتهما مملة منذ البداية لتتحول إلى جحيم بالنهاية، وصولا إلى تلك الليلة المشؤومة التي أزاحت فيها القناع عن وجهه وعرت حقيقته....
كل هذا وهناء تنصت بانتباه وهي تشعر بانقباض في قلبها، حاولت الهروب أكثر من مرة مخترعة حججا واهية لكن سهام كانت تمنعها مصرة على أن تبقى هناك لتسمع كل كلمة تقولها، ربما أرادت تعذيبها ورؤية وجهها يعلوه الشحوب مع كل دقيقة تمر...
انتهت حكايتها فزفرت أخيرا وهي تقول: وهكذا أخيرا أصبحت هنا يا دكتور...
هز رأسه موافقا وهو يدون آخر ملاحظاته ثم قال: هذا أفضل ما فعلته... ليس بالضرورة أن تكوني مصابة بهلوسات وجنون لتزوري طبيبا نفسيا... يمكنك رؤيته كلما ضاقت نفسك وأحسست أنك في حاجة للكلام... الثرثرة وحسب...
فتحت عيونها عائدة من رحلة جابت فيها الماضي البعيد والقريب ثم قالت: لا يفهم الجميع هذا يا دكتور...
وضع قلمه على المكتب وهو يقول: علينا أن نجري بعض الاختبارات البسيطة، مجرد أسئلة وأجوبة وحسب... وأحب أن نكون هذه المرة على انفراد حتى تجدي كل الراحة في قول ما تريدين...
استوت جالسة على الأريكة ونظرت باتجاه حماتها التي بدت يابسة كورقة الخريف لا لون فيها ولا حياة، ثم قالت: أعتقد أن حماتي لديها ما تخبرك به...
فزعت هناء وقالت باستنكار: أنا هنا تحت إصرارك، ليس لدي شيء لأقوله...
فهم الطبيب مقصد سهام وبارك الفكرة: أجد هذا منطقيا. سيدة هناء يمكنك الاسترخاء مكان كنتك وإخباري أي شيء تريدينه... أي حديث مهما كان تافها...
حملت حقيبتها ووقفت للمغادرة: لا أعتقد أن تفاصيل حياتي مهمة بالنسبة إليك...
رد بذكاء: افعلي ما يريحك سيدة هناء، لكن سيكون مفيدا لك لو أنك تقولين أي شيء يريح أعصابك، دعينا لا نتحدث في موضوع ابنك وكل ما تقوله كنتك... سنطلب منها الخروج حالا وأخبريني أنت عن حياتها معكم وكيف بدأ اضطرابها...
وجدت هناء أنها فكرة صائبة لو أنها تحشو رأس الطبيب وترسخ فيه جنون كنتها... ستروي اهمالها لابنها بطريقتها وتجعله يشكك في نفسيتها بعد أن أظهرت له تجاوبا وتعاملا يشير إلى أنها امرأة بكل مؤهلاتها...
وافقت أخيرا فخرجت سهام منتصرة لأنها تعرف جيدا أن حجة الدكتور كانت مجرد طعم لجعلها تبوح بمكنوناتها... هي تعرف أن ملفات المرضى هنا سرية وأنها لن تستفيد من تعاطف الدكتور معها، ولو أن هناء أخبرته بكل الحقيقة فهو لن يعطيها أي معلومة من كل ما سيدور بينهما في هذه الجلسة، لكنها تريد حقا لو أن هناء تراجع ذاتها ويساعدها الطبيب في الفهم على أنها تسير على منحى خاطئ، وتراجع نفسها قبل فوات الأوان... رغم كل شيء كانت هناء سيدة رائعة لم تلق منها سهام أي سوء طوال سنواتهما تحت سقف واحد.
وحتى وإن كانت تتستر على ابنها فهي أبدا لا ترضى بشذوذه. لم تكن نية سهام في أن تأخذ الحقيقة من لسان حماتها... كل ما أرادته لها هو أن تتحدث لترتاح... فلابد وأن حملها ثقيل. وهي الأحوج لطبيب نفسي يساعدها على فهم مصيبتها لترجع إلى جادة الطريق وتستطيع مواجهة ابنها.

*********
مضت ثلاث أيام دون أن تغادر نسرين شقتها ولا حتى من أجل العمل، هاتفها لم يكف عن الرنين فمنال يقتلها الفضول لتعرف ما حصل بين محمود ونسرين في قاعة الاجتماعات وسبب فرارها من المعمل بتلك الطريقة الغريبة !
على الأغلب أن ذلك المتسلط أساء إليها بطريقة أو بأخرى، لكن نسرين ليست من الموظفات اللواتي ترتكبن الأخطاء وسنين عملها هناك علمتها الكثير...
لقد حاول محمود أن يحدثها مرارا لكنها أبدا لم تسمح له بأن يتواصل معها بأي طريقة، حتى ياقوتة لم تشفع له لديها لتمنحه فرصة واحدة ليقول ما يريد.
ظل طوال الأيام الثلاثة الماضية يتردد عليها بين الفينة والأخرى وهو يجرب أن يجعل قلبها يرق عليه وتفتح له لكن دون جدوى ففي كل مرة ترفضه وتسمعه كلمات دامية فيرجع على عقبيه كسير الخاطر...
ترى ما الذي حمله على أن يفعل ما فعل؟ !... هل حقا هو مجبر وليس بيده حيلة؟
لم تفكر نسرين أبدا في أن تمنحه فرصة الإجابة لأن كبرياءها المجروح يرفض أن يقع ضحية لمن اغتال قلبها مرة أخرى...
أو ربما بتعبير أصح تخاف أن تحن إليه وتصدق أكاذيبه وتمنحه الغفران على حساب آلامها ودموع خذلانها...
كانت ممددة على الأريكة في سكون تستمع لصوت التلفاز. لكن عقلها أبدا لم يكن يركز في ذلك الكلام. بل كان يسرح بعيدا ويسترجع كل تلك الذكريات التي تركت بقلبها ندوبا لا تندمل، يقولون على قدر المحبة التي تجمعنا يكون كبر الجرح عندما نفترق، أو ربما على قدر الثقة التي نمنحها يكون غور الجرح عندما يُغدر بنا...

الوحشة، الألم، الخذلان... مشاعر عاشتها وعرفتها كما لم تعرفها في يوم من الأيام... كان من الأفضل له لو أنه قتلها وغرز خنجره بصدرها على أن يطعنها في حين غفلة منها بظهرها... ويتركها تموت ألف ميتة بعد كل سهم ذكرى يصيبها في الصميم ويترك دماءها تقطر قطرة قطرة ويستنزف منها كل قوة وكل رغبة في الحياة...
بات ثقيلا عليها أن تتنفس... ولم تعد ترغب في التفكير بالمستقبل، بالنسبة لها تتوقف الحياة في تلك اللحظة...
رن هاتفها مرة أخرى دون أن تجيب أو تكلف نفسها عناء معرفة المتصل. توقف رنينه ثم انطفأ. لقد نفذ شحنه، وأخيرا ارتاحت منه...
سمعت طرقا على الباب ولم تجب بكلمة، لن تقوم ولن تفتح لأحد... وحتى ياقوتة لن تهتم لتركها خارجا، فبعد أن أظهرت تعاطفا معه باتت تخشى أن تخدعها وتُمكنه من الدخول رفقتها ليجعلها تسمعه عُنوة...
توقف الطرق أيضا دون أن تقول كلمة وكأنها ليست موجودة. وظلت ساهمة في السقف وقلبها يجتر الألم.
نامت هناك ليلتها من دون طعام أو شراب. وكأن روحها في إضراب عن الحياة، واستفاقت في وقت مبكر. سارت باتجاه المغسل فتوضأت وصلت، ثم دخلت المطبخ ووضعت بعض الطعام أمامها وراحت تجبر نفسها على تناوله. كانت ملامحها حزينة يائسة لكن نظراتها تحمل شرارة الانتقام. يبدو أنها لن تستسلم للشجن حتى تموت كمدًا... تريد أن تعيد لنفسها من عزها ما قد سُلِب ولن يهنأ لها بال حتى تشاهده يشرب من نفس الكأس الذي سقاها منه...
لبست ثيابها واستعدت للخروج، ثم اتصلت بالمعمل لتطلب سيارتها التي تعودت أن تقلها كل يوم. واستغلت الوقت المتبقي لها في ترتيب أشيائها بحقيبتها. تعلم جيدا أن منال ستكون ساخطة جدا ولن ترحمها، كما أنها لن تتركها دون أن تعرف حقيقة ما حصل... لم تكن ترغب أن يعرف أحد الخطأ الذي ارتكبته بحق نفسها بزواجها من محمود. وراحت تخترع ألف حجة يصدقها العقل، لتنتقي أكثرها مواربة للحقيقة وتحشو بها رأس منال حتى تكف عن طرح الأسئلة... ليتها كانت سيدة عملية ولا تثرثر فيما لا يخصها !!!
**********
اصطحبت سهام اليوم ابنها للملعب القريب وجلست على الكرسي هناك تراقبه وهو يجري مع الصغار ويتزحلق ويركب الأرجوحة، بدى سعيدا وهو يترك أخيرا روتين المنزل وفعل ما جُبل عليه كل من هم في سنه...
يؤلمها أن يكون ابنها رقما في معادلة لا حل لها تدور أطرافها بينها وبين والده... زفرت بأسى وهي تحاول أن تدفع بكل همومها بعيدا وأن تركز على ابنها حتى لا يضيع كرة أخرى، لقد تحدت الجميع اليوم وخرجت رغم عدم رضاهم عليها... أصبحت تكره أن تستصغرها أعينهم ويعاملوها كقاصر... حتى زوجتا أخويها لمّحْن لها البارحة أنها مجنونة ولا يصح لها أن تربي ابنها بطريقة غير مباشرة !!! باتت تكره هذه المعاملة من الجميع... تريد أن تثبت ذاتها... لكن وأخيرا اكتشفت أنها بهستيريتها وفورانها لن تجني غير المتاعب. عليها أن تكتسب بعضا من ثقل حماتها ورزانتها لتتصرف بعقلانية بالغة وتكون مثلها بارعة في التخطيط...
وهذا ما حصل فقد جنت سريعا ثمار ذكائها، ففي ذلك اليوم الذي زارت فيها الأخصائي النفساني مع هناء، نجحت في جعله يمنحها جلسة علاجية دامت طويلا وخرجت منها حماتها بعيون حمراء.
هي لن تبكي لأجل كنتها حتى تحمر عيونها مؤكد... لابد وأنه نجح في جعلها تتكلم وتفضي إليه بكل مكنوناتها...
حتى هي وجدت الراحة بعد أن تحدثت وفتحت قلبها متخلصة من كم كبير من الشجن...
في جلستها الثانية معه نصحها بأن تخرج، أن تجالس الآخرين، أن تتحدث عن مشاكلها مع المرآة فمن الصعب أن يجد المرء هذه الأيام من يأتمن عليه سره...
نصحها أيضا أن تهتم بنفسها، في الطعام والشراب والملبس وكل شيء... فهذه أول خطوة للتصالح مع الذات. وأن تعقد بعض الصداقات هنا وهناك وتحتك بالآخرين فكما سبق وأخبرته طوال سنين زواجها لم يكن لديها أي تواصل مع العالم الخارجي، وحتى صديقاتها انفصلت عنهن، وبسبب النكد كادت أن تدخل في قوقعة وتنعزل عن العالم كله...
قدم لها كثيرا من النصائح واقترح عليها عديدا من الأشغال لتختار لنفسها الأنسب. وأكثر فكرة راقت لها هي ارتياد ناد رياضي، فكما لاحظت على نفسها لقد ازداد وزنها بشكل ملحوظ بعد ولادتها لطفلها وحتى اليوم لم تستطع التخلص من تلك الدهون المتراكمة ببطنها والتي تفسد قوامها المتناسق في أجزاء جسدها الأخرى...
بعد زيارتها للطبيب تغيرت نظرتها لنفسها وأصبحت ترغب في أن تكون أفضل... لا ينقصها سوى الإرادة كما أخبرها لتكون كما تتمنى... وجدت أنه كان يتوجب عليها زيارة هذا الدكتور منذ سنوات... ليست فكرة سيئة في أن يطلب الانسان مساعدة مختص إذا أحس في حياته بالفشل على أي صعيد...
تأملت السماء الغائمة وشعرت أنها ستمطر قريبا... لذلك أسرعت في الوقوف وسارت بضعة خطوات باتجاه ابنها ليرجعا معا إلى المنزل. لمحت من بعيد طيف رجل مألوف... لم تهتم بالبداية لكن تذكرها له جعلها تتوقف وتحملق فيه لتتأكد من هويته... إنه نفس الرجل ! أجل السائق الذي أقلها تلك الليلة من منزلها إلى ملهى السوء ذاك، وأعادها لنفس المكان الذي أخذها منه في وقت متأخر عندما كانت منهارة ولا تقوى على الوقوف...
حاولت اللحاق به لكنه كان قد ابتعد، توقفت وهي تتأمل صغيرها يركض بعيدا... ليس عليها أن تكرر نفس الخطأ. أسرعت إليه وحملته ثم عادت لتلحق بالسائق... لكنها لم تجده، وكأن الأرض انشقت وابتلعته... شعرت بالخيبة وهي تفتش المكان كله دون أمل... لقد فرحت لرؤيته وتوقعت أنها وجدت حجتها الدامغة لتثبت للجميع أنها تقول الصدق وأنهم كانوا حمقى متواطئين عندما كذبوها. لكنها عادت وانتكست من جديد إذ يبدو أنه برق واختفى... وكأن الحياة تلاعبها وتراوغها !

**********
خرجت من المعمل بعد يوم شاق ومُتعب. كان حظها وافرا إذ صدقت منال قصة أن السيد لم ترق له القهوة فقلب الصينية بوجهها ففرّت هي من هناك لأنه ازدراها وحطم كبرياءها فقط لأن القهوة لم ترق له ! بدت منال متوجسة وهي تسمع هذا الكلام، لكنها لم تجد بدا من تصديقه خصوصا وهي تعرف أن نسرين عزيزة نفس ولن تقبل بمهانة كتلك حتى لو فقدت عملها وباتت تتضور جوعا... في الأخير وجهت لها بعض الكلمات متضامنة معها ثم حذرتها من الاختفاء بتلك الطريقة دون خبر وتركتها تخرج من مكتبها لمتابعة عملها.
توقفت السيارة بقربها فأبت الركوب وصرفت السائق وهي تخبره أنه أمامها عمل تنهيه قبل أن تعود إلى المنزل. خرجت إلى الطريق واستقلت سيارة أجرة حتى وصلت الشارع المدون في الورقة أمامها. لقد بحثت قبل قليل عن اسم محام بارع في قضايا الطلاق ووجدت اسمًا يحتل الصدارة. عليها أن تتخلص من الخزي الذي هي فيه، ولن تتمكن من هذا إلا عندما ترمي باسم محمود بعيدا عنها... تريد أن ترد لنفسها الاعتبار وبأي طريقة...
دخلت إلى المحامي وتحدثت معه في الموضوع، ثم غادرت مكتبه بعد أن أكد لها أنه سيتولى رفع قضية خلع ضد زوجها وسيتكفل بالموضوع برمته.
غادرت مرتاحة البال وهي تخبر نفسها أنها ستتحرر من محمود قريبا وستمحو كل ذكرى له ولن تضطر للتفكير به من جديد. لأنها ستضعه في مكانه الذي يستحقه... في سلة المهملات.
وصلت شقتها خائرة القوى، وقبل أن تدخل ألقت بنظرة إلى باب شقة محمود الموصدة، لا تريد له أن يفاجئها بالخروج الآن لأنها أبدا لن تسمح له بالتحدث إليها.
فتحت الباب الأول وراحت تبدل المفتاح لتفتح الثاني. لكنها تفاجأت بظل كبير يرتسم على الباب قبالتها وبغيمة تحجب الضوء عنها فالتفتت بفزع لتجد محمود نفسه بطوله الفارع خلفها تماما، يبدو أنه انتهى من صعود الدرج للتو! ارتجفت وهي تحاول أن تسرع في الهرب منه لكن الرعشة سرت في أناملها فضيعت المفتاح وأوقعته أرضا، وحتى لا تحمله داس عليه وهو يقترب منها أكثر حتى أصبحت محشورة بينه وبين الباب الخشبي.
دفعته بكفها بعيدا وهي تحدق فيه ونيران جهنم تستعر في تلكما الحدقتين المظلمتين كظلام سنواتها قبل أن تعرفه وبعد أن عرفته...
على عكسها كانت عيونه العسلية متعبة وكأنه قد حرم النوم لشهور لا أيام... نظراته باردة تحمل الشجن... أو الندم، لا أحد يعرف حقيقة ما يخفيه... كانت ملامحه حزينة وعلامات التعب واضحة عليه.
في نظرة واحدة تصادمت فيها النيران بالجليد... في عناق واحد رقص النقيضين ! رقصا طويلا وتبادلا الألم والعذاب...
لم تمنحه أي فرصة، وقبل أن يقول أي شيء زمجرت فيه بغل: إياك وأن تقول أي كلمة.. أعطني المفتاح واغرب عن وجهي...
حدق فيها بتيه وصمت طويلا، ثم نطق بعد انتظار: طلبت منك أن تثقي بي... مهما حصل..
بدى وكأنه يهزأ بها! فارت الدماء في عروقها ثم دفعته كرة أخرى وهي تقول: أنا لن أثق برجل ميت القلب مثلك...
رد عليها بنفس النبرة والتعب: نسرين، لست ميت قلب ولكني رجل بلا حيلة...
بشراسة قالت: وأنا لا أحتاج رجلا بلا حيلة.
وصمت هجومها الناري أمام لفحات البرود التي كانت تنطق بها تفاصيله الهادئة ثم قال بأسى شديد: ربما معك حق...
رفع قدمه من فوق المفتاح فأخذته وراحت تفتح بابها بأياد ترتعش وقبل أن تدخل سمعته وهو يقول لها: أنا آسف يا حبيبتي لأنني أقحمتك حياتي.
كانت كلماته تحمل كثيرا من الشجن حتى أنها لوهلة تعاطفت معه وصدقت ما يقول، لكنها عادت وانتكست فدخلت، وأقفلت الباب خلفها وهي تمنع نفسها من الانهيار. بات من المخزي لها أمام نفسها أن تسقط صريعة بعد كل معركة معه أو مع أطياف ذكرياتهما معا.

♡♡♡♡♡


كعادتها كانت تعمل في مكتبها. ورغم كل الهموم التي تناوش قلبها إلا أنها تبذل قصار جهدها حتى تتفانى في أداء واجبها.
نسرين ورغم كل الألم تفصل بحزم بين العمل وأمورها الشخصية. إنه يوم جديد من أيام الأسبوع كباقي أيامها. سودوي مظلم وكما هي شمس اليوم محجوبة خلف الغيوم، لم يطل عليها أي بصيص أمل.
مرت أيام منذ لقائها الأول والأخير بمحمود بعد الحادثة وقد توقف عن إزعاجها. لم تفهم إن كانت تلك كلمات وداعه لها أم أنه يريد كسب بعض الوقت. على كل حال لقد عزمت على الخلاص منه ولن يردعها شيء.
دخل أحد الموظفين المكتب وطلب رؤية المديرة. استأذنت له ثم طلبت منه الجلوس والانتظار. فيما بقيت هي تعمل على الكمبيوتر.
بعد لحظات سمعت صوت همسات بالرواق ورأت بعض الموظفين يسرعون الخطى نحو مكاتبهم. وقفت بفضول واقتربت من الباب وأطلت نحو الرواق فشاهدت موظف الاستقبال يتحرك على غير عادته وهو يرحب بحفاوة بزائر ما.
ضرب قبها مدويا وهي تخمن هوية الزائر الذي قد يحظى بكل هذه الحفاوة. وقبل أن تغالب نفسها نفيا كانت قامته قد ارتسمت من بعيد وأحد الموظفين يجاري خطواته السريعة والتي استطاعت أن تقيس فيها حجم غضبه. كان المسكين يسبقه هرولة وهو يشير بيده مرحبا بينما كان الآخر مقبل كإعصار مدمر وخلفه حارسه الشخصي أو ربما موظف آخر لديه... كان مقبلا باتجاه مكتبهما، إنه يريد رأس منال أو رأسها هي وفي كلتا الحالتين سيدخل المكتب.
أسرعت بالدخول وقبل أن تصل إلى مقعدها كان قد وصل إلى المكان فالتفتت بذعر وانتظرت رؤيته يدخل، ولم يُخَيِّب ظنها إذ ما لبث أن حل قبالتها وهو ينزل يده وبها نظاراته السوداء فتسنى لها أن تشاهد عاصفة الجليد وقد ثارت في عيونه الهادئة وسرت رعشة في جسدها فارتجفت أوصالها من موجة البرد التي أحست بها تجتاح عظامها.
تجاهلته بنظراتها، وأشاحت بوجهها بعيدا عنه، تمردها عليه لم يزد من عواصفه إلا هيجانا فلم تشعر إلا وقبضته تحط على ذراعها بقوة وقد سحبها إليه غصبا عنها وأحست بأنفاسه متلاحقة وكأنه جاء يسابق الريح إليها. أرادت أن تبعده عنها لكن نظراته الشرسة جعلتها تقفل فمها فلم تستطع أن تقول كلماتها الجارحة التي كانت تنوي أن تسددها لقلبه باقتناص.
سار باتجاه مكتب المديرة وهو يسحبها معه بالقوة تحت أنظار الموظفين هناك ثم دفع الباب وهو يقول بفضاضة: هل تسمحين لنا ببضع دقائق.
وأشار لمنال بالخروج فوقفت بذهول وعيونها تتنقل بينهما، بدى منظرها مضحكا لو أن أي منهم هناك يستطيع أن يضحك. خرجت بسرعة قبل أن تلحقها لعنة غضبه وهي تخمن ما فعلته نسرين المسكينة لتجلب لنفسها مصائب كتلك.
فور خروجها أقفل الباب عليهما ثم ترك ذراعها وعيونه تحدق فيها بسخط: ما الذي تعتقدين أنك فاعلة ! هاه... أجيبيني...
ردت بضيق والعبرة تخنقها بسبب الفضيحة التي تسبب لها بها في مكان عملها: ما الذي تقصده؟
وضع الورقة التي أرسلتها المحكمة بشأن قضية الخلع التي رفعتها ضده نصب عينيها وهو يهدر فيها بعنف: ما هذه المهزلة؟
تأملتها ثم ردت بشماتة: الأمر واضح، أنا أريد الطلاق...
خلل أصابعه في شعره وهو يعتصر غضبه حتى لا يفجره فيها، لم تره بهذه العصبية من قبل ، يبدو مثل السباع الضارية ولا علاقة له بالبدلة الأنيقة والمركز المرموق الذي يحتله !
أشار لها بإبهامه قد بلغ من الانفعال مبلغه: إن لم توقفي هذا الجنون حالا فلن أكون مسؤولا عن تصرفاتي صدقيني...
خانها، وعبث بزواجهما ثم يقف أمامها كالبركان الثائر ويجبرها أن تبقى له طواعية، أي رجل مغرور هذا !
عقدت ذراعيها أمامه وردت بتحدي: أنا سأتطلق منك ولو كلفني ذلك كل شيء أملكه... وتحت اسمك لن أبقى يوما واحدا.
اقترب منها خطوتين فأصبح أمامها، وحاولت الهرب منه فسحبها من معصمها إليه حتى ارتطمت بصدره الصلب، ثم رفع وجهها بكفه فأحست بأنفاسه المضطربة: أنت لن تتطلقي يا نسرين. أنا لن أمنحك الطلاق مهما حصل وستظلين زوجتي حتى موتي... أتفهمين !
رغم الوجه القاسي الذي أفزعها، ورغم ثورته واعتزاله للسكون الذي اعتقدت فيما سبق أنه صفة متأصلة فيه إلا أنها كادت تذرف الدمع لسماعها كلمة الموت منه...
ردت وعيونها تتحداه: أنا لم أعد شيئا يخصك يا محمود...
أخمد ثورة غضبه في قبلة واحدة عميقة استرقها منها على حين غفلة ولم تنجح مقاوماتها له في جعله يفلتها من بين ذراعيه.
شعرت بدفئه، بحبه، بشوقه... وعادت ذكرياتها معه تغزوها وتضعفها حتى تمنت أن كل ما حصل هو مجرد كابوس تستفيق فيه الحسناء النائمة بالغابة على قبلة من فارسها...
شعرت بنفسها تضعف وتضعف أمامه، وعرفت أنه يمارس عليها سطوته، وتيقنت من أنها ستخسر نفسها إن هي استسلمت لمشاعرها وتركتها تقود الدفة في بحر عواطفه...
استفاقت من هيامها به وصفعت وجنته بقوة، ربما كانت هي نفسها بحاجة لصفعة كتلك حتى تفيق من هيامها به...
ارتسمت أصابعها على وجنته فتأملتها بذعر، ثم نظرت في عيونه تتوقع ردة فعله وقلبها يضرب في صدرها بجنون. ربما من خوفها أو من حبها... بدى هادئا وهو يحدق فيها بنظرات غامضة لم تفهم مغزاها. ثم شعرت به يطبق بكفيه على ذراعيها ويسحبها إليه مرة أخرى. اعتقدت أنه إما سيواصل تقبيلها انتقاما منها ليثبت لها أنه مازال يملكها، أو أنه سيرد لها الصفعة لتتعلم الأدب. هذا يعتمد على الوجه الخفي الذي لم تره منه بعد.
لكنها فوجئت بصوته يستعيد هدوءه وهو يجتاح مسامعها: طلبت منك فرصة واحدة أشرح لك فيها كل شيء... طلبت منك أن تسمعي لحجتي قبل أن تحكمي علي... طلبت منك أن تثقي بي مهما حصل...
لم تجبه ولم تكن لتستطيع النظر في عيونه مباشرة وهو يلومها، ثم تابع هو بألم: نبذتني وحكمت علي دون أن أدافع عن نفسي ودون حتى أن تسمعي مني جملة واحدة...
واشتد صوته وبرزت عروقه وهو يكمل: نسرين أخبرتك أنني لا أحب مروى... أخبرتك أنني أحبك أنت... أكدت عليك أن تثقي بي لكنك لم تفعلي... لم تثقي بي نسرين !!!
صرخت به بألم: كيف أثق بك وأنا أسمعها تخبرك أنكما في شهر العسل... لقد تزوجتها يا محمود. رحلت وتركتني لتتزوجها، أليس كذلك؟
أغمض عيونه وهو يسحب الهواء لرئتيه ثم قال: صحيح تزوجتها، لكنني لم أرحل من أجل ذلك... صدقيني لم أرحل من أجل ذلك يا نسرين. أنا في مأزق كبير وأفكر بك ليل نهار... هل تعتقدين حقا أن ما كان بيننا مجرد كذبة !!!
حدقت بوجهه القريب منها وبمقلتيه التي اشتاقت لنظرات الحب من بين أهدابها ولم تجرؤ على تكذيبه رغم أنها قبل أيام وربما دقائق كانت تقسم أنه كاذب ملعون.
لم تجبه فمرر أصابعه الدافئة على خدها الناعم بكل حب وهو يشتاق لكل شيء فيها حتى أنفاسها التي بدت له مضطربة وكأن الهواء لا يصل رئتيها...
ضمها إليه بشوق وهو يقول: أعلم أنك لا تصدقينني... أعلم أنه سيمر زمن طويل قبل أن أكسب ثقتك لكنني أعدك أنني لن أكسر بخاطرك من جديد...
تساقطت دموعها ساخنة من خديها وهمست له بقهر: ستفعل...
قاطعها: لا... لا أريد إيذاءك... صدقيني...
انهمرت دموعها وشهقت بالبكاء وهو يشدد من احتضانه لها، يعلم جيدا أن دموعها لا تعني الغفران. ولكنه لا يريد منها إلا أن تسمعه. أن يخبرها ليرتاح قلبه. لا يريد خسارتها مهما كلفه الأمر.
رفع رأسها إليه ومسح دموعها بأصابع يمناه فيما بقيت يسراه تحتضنها إليه: لا تبكي يا نسرين... أنت لم تخسري محمود الذي أحببته يوما... أقسم لك...
هزت رأسها نفيا والعذاب لا يراوحها. إنها صعبة الاقناع، وحتى وإن جاءها بالحجة الدامغة فهي لن تقبل بوجود مروى بحياته حتى وإن كان مرورها عابرا فهذا يجرح أنوثتها عميقا... يعرف أنها لن تقبل بمشاركته مع أي امرأة وهذا من حقها... من حقها أن تغار عليه.
قبل جبينها بحب ولم تمانع هي هذه المرة قبلته. نظر إليها وقال وكفه على خدها وإبهامه يمسح بقايا دموعها: سآتي هذا المساء إلى منزلك. سنتحدث وستفهمين كل شيء...
حولت نظراتها عنه بعيدا فتابع هو: إن شعرت للحظة أنني كاذب فأنا لن أجبرك على غصب نفسك على العيش معي... لكن إن قررت البقاء معي، فتأكدي أن مروى ليست هي العقبة في وجهنا... ما يقف أمامنا أعتى وأصعب...

انتهى الفصل الثاني عشر

noor elhuda likes this.

بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 14-08-21, 01:58 AM   #38

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أم عمر ورقية مشاهدة المشاركة
😐😐😐😐 لماذا يا محمود ..ياليت عندك تفسير مقنع
في انتظار تفسير محمود بالفصل الجاي نشالله


بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 18-08-21, 01:58 AM   #39

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
Rewitysmile9

الفصل الثالث عشر:

رن الجرس فانتبهت من شرودها العميق، وبقيت تحدق في الباب وقلبها يخفق بضربات عنيفة حتى ظنته سيكسر أضلعها... رن للمرة الثانية فحركت أقدامها المثقلة وفتحت الباب الأول ثم أطلت من ثقب الباب الحديدي، وكما توقعت كان محمود وقد جاء في موعده.
شعرت بالانقباض و دب فجأة صراع محتدم بينها وبين نفسها، تريد أن تفتح له وتسمعه، لكنها في نفس الوقت ترفض أن تصدقه وتسامحه...
فتحت الباب أخيرا وحملقت فيه بعيون تحمل كثيرا من العتاب. قدم لها باقة الورد الأحمر التي كانت بيده مع ابتسامة متعبة. رق قلبها عليه وهي تشاهد ما هو فيه من ارهاق، وتنحت جانبا فدخل ووضع علبة الشكولاتة على الطاولة، ثم التفت إليها وسحب الهواء لرئتيه ببطء وهو يتأملها باشتياق. لقد حن لكل شيء فيها ولن يصبر على فراقها أكثر، جل ما يخشا ألا تسامحه وأن تقرر هجرانه للأبد...
اقترب منها على مهل وهو يقول: نسرين... كيف حالك؟
شعرت بالتوتر من تواجده معها من جديد بين جدران بيت واحد... ودق قلبها فزعا من فكرة أن يرجعا لبعضهما البعض خشية الانكسار من جديد.
أجابته باقتضاب: بخير
مد يده وأمسك بأصابعه خصلات شعرها ثم همس بحنو: اشتقت إليك.
نظرت من حولها فانفلتت الخصل من بين أصابعه ثم دعته للجلوس: تفضل...
تقدم من تلك الأريكة واستوى جالسا عليها وهو يزفر بتعب، ثم جلست قبالته وهي تراقب أصابعه المضمومة أمامه وتسترق بعض النظرات لعيونه المتأملة للأرض تحته وتفاصيل وجهه الحزين وقد تعودت قربه المهلك منها...
انتفضت فجأة تمنع نفسها من الغوص في كل تلك الذكريات العذبة التي تربطها به، وقلبها يعتصر ألم خيبة بحجم العالم بأسره.
على إثر انتفاضتها تلك نظر إليها وحدق فيها للحظات ثم قال: آسف لأنني جعلتك تنتظرين أسبوعا دون أن تسمعي مني أي خبر...
هزت رأسها وفي عيونها كومة عتاب: كنت انتظرت أكثر لو أن الصدفة لم تلعب لعبتها...
قال والارهاق باد على صوته: كنت في دوامة لا نهاية لها ولم أستطع أن ألقاك فلم يكن لدي ما أقوله لك خصوصا بعد الحماقة التي ارتكبتها والتي لم يكن منها مفر...
عرفت أنه يقصد زواجه بمروى فاعتصرت أصابعها أمامها وهي تقول: أريد أن أعرف ما حصل.
أشاح بوجهه بعيدا يسترجع ذكرياته الأليمة ويستحضر كل ما مر به ابتداءً بيوم اختفائه: استيقظتُ يومها على صوت رنين هاتفي، كان وديع على الخط بدى لي مضطربا وطلب أن يلقاني في أقرب فرصة... خشيت أن يكون متفقا مع أبي على مقلب ما، لكنني لم أجد بدا من الخروج لرؤيته... لبست ثيابي على عجل و... رأيتك نائمة كطفلة صغيرة فلم أشأ إيقاظك، فتركت لك ورقة حتى لا تقلقي علي... لم أتوقع أنني سأغيب كل ذلك الوقت ظننتها مجرد سويعات وأكون بالبيت من جديد...
تنهد وتابع: وصلت لمنزل وديع استعملت المصعد ووقفت عند باب شقته: رننت على الجرس فلم يفتح وحاولت أن أتصل به لكنه لم يجب على اتصالاتي... قرعت على الباب أخيرا بيدي فوجدته مفتوحا !...
حملقت فيه بذعر وهي تتذكر ما أخبرتها به منال عن وديع وأنه مات قتيلا... لم تقاطعه فتابع: دخلت حتى غرفة الاستقبال وأنا أهتف باسمه... لم يكن له أي أثر واستغربت أنا أن يترك الباب مفتوحا... ألح علي فضولي أن أفتش غرف المنزل، وبغرفة نومه وجدته ملقى على الأرض غارقا في دمائه... فزعت وحاولت التأكد إن كان على قيد الحياة لكنني اكتشفت أنه ميت... يبدو أنها جريمة قتل، وتواجدي بالمكان فكرة خاطئة من الأساس... أسرعت بالخروج وركبت سيارتي وأنا أشعر بالأسف على ما حل بالمسكين... لقد عمل مع أبي لسنوات ولم أعرف قبل ذلك اليوم أن له أعداء!
صمت وحدق بها ليرى تجاوبها معه فقالت بخفوت: علمت بموت السيد وديع قبل بضعة أيام... أخبرتني منال..
هز رأسه بنعم ثم تابع: كان علي أن أخبر والدي... توجهت رأسًا إليه وكان بالمنزل كعادته... تحدثنا وأخبرته بكل ما حصل... سألني مليون سؤال وألح علي أن يعرف ما كان وديع ينوي إخباري به !! لم يكن لدي جواب، لم أتمكن من معرفة سره ولم أعرف ما كان يخفيه في اضطرابه ذاك... خلص والدي أن القاتل ربما كان ينوي منعه من قول شيء ما !!! وأنه قتله حتى لا يعرف به أحد... كنت مشوشا وقلقا... فكرت أن أتصل بك لأخبرك أنني سأتأخر في العودة لكن أبي لم يترك لي أي مجال فقد حاصرني باستجوابه... و... لم أكن لأستطيع شرح الأمر لك على الهاتف فاتصلت بياقوتة لتبقى معك مباشرة بعد أن وصلنا ظرف من مجهول...
حملقت فيه بفضول فتابع وقد بدى عليه الاستياء: كان قرصا مضغوطًا شغلناه على جهاز الكمبيوتر وهو يصور لحظة وصولي إلى الشقة وخروجي منها كالبرق من عدة زوايا عبر مختلف الكاميرات المثبتة بالبناية !
ذعرت لسماعها ما يقول: هل نصبوا لك فخا؟
هز رأسه بقلة حيلة: على الأرجح...
بنفس الذعر قالت: لديك أعداء؟
صمت للحظات ثم قال: أنا في الأساس تركت والدي وعمله بسبب شريكه وهو ناقم علي... استعمل معي التهديد طوال سنوات فراري لكنه لم يؤذني مع مقدرته في ذلك، لست أدري إن كان لا يفعل ذلك من أجل ارتباطه بوالدي منذ سنوات أم لأنني لم أتسبب له بالمشاكل ولم أفضح فساده... أم ربما... لأنه لا يريد أن يفسد علاقته بابنته...
تساءلت بنظرات مرتابة فتابع: أقصد مروى...
أشاحت بوجهها عنه وقد تحولت معالمها لإعصار سينسفه في أي لحظة. فتابع ليشرح لها أكثر ويصرفها عن موضوع مروى: انتظرنا ساعات قبل أن نعرف مصدر القرص. كعادته كان أبي ذكيا ورغم أن من تركه لم ينزل بسيارته قرب بوابتنا إلا أن أبي استخدم كاميرات المراقبة الخاصة بجيراننا ليأخذ رقم السيارة، وبعد عدة تحريات استخدم فيها معارفه تبين أنها تنتمي لشركات بشير...
دق اسم بشير برأسها فجأة وكأنها سمعت عنه من قبل لكنها لم تكن لتجزم أنه نفس الشخص فتركت الأمر وركزت مع ما يقوله محمود، والذي تابع سرده للأحداث: أكد لي أبي أن بشير هو المتسبب في مقتل وديع وأنه يحاول تهديدي وقد يلقي بي إلى السجن هذه المرة... وبعد لحظات وصلت الشرطة وأخذوني للتحقيق...
زفر بتعب في حين أن عيونها كانت تغرق بالدموع رحمة بمعاناته ،ثم تابع هو: لم يكن لديهم دليل واضح ضدي وكل ما أشار إلي هو أنني آخر من كلمه، وظل شريط المراقبة مفقودا ولا يُظهر هوية القاتل... وبما أنه وصل يد بشير فمن المحتمل أنه سيتلاعب به ويطمس هوية القاتل الحقيقي ومن ثم يبقي على صور دخولي وخروجي من الشقة... وبما أن وديع كلمني واستغرقت نصف ساعة للوصول إليه فإن القاتل ارتكب جريمته خلال ذلك الوقت والطب الشرعي سيعطي وقتا تقريبيا للوفاة وسأكون محط اتهام... باختصار كنت على شفير الهاوية...
ثم حدق فيها بعيون متلألئة: فكرت فيك... في ما ستفكرين به عني، وفي ما إن كنت ستصدقين حقا أنني قاتل... أبي لم يرض عن زواجي منك وفكرت في أنه سيتعمد إبعادك من حياتي بأي طريقة... فكرت أيضا في أسرتك وكل التهديدات التي كانت ترسل بها إليك... إن تخليت عنك فمن سيحميك ! قد يقتلونك بالطريق وأنا هناك أبحث عن براءتي... لم أكن أريد غير بعض الوقت لألم شتاتي...
سحب هواءً عميقا لرئتيه وبقي يحدق بها للحظات، ورغم أن ما قاله أثار عاصفة هوجاء بعواطفها وزلزل أحاسيسها إلا أنها لم تستطع النظر بعيونه وبقيت تنتظر أن يكمل حكايته. كان يتمنى أن يرى تعاطفا منها لكنها كعادتها كتومة ولا تظهر مشاعرها لأحد حتى هو...
قال بخيبة: استطاع والدي أن يخرجني لنقصان الأدلة واصطحبني إلى المنزل، وطوال الطريق ظل يتحدث ويتحدث حتى أحسست برأسي سينفجر، قال أن بشير هو من أخذ الشريط وأنه على الأرجح متورط في قضية القتل... أخبرني أنه تحدث معه طويلا وأنهما خلصا إلى اتفاق... أن لا يقدم الفيديو الذي بحوزته للعدالة شرط أن أعود لعملي وأن نستمر في شراكتنا معه...
قالت باستفسار: ألم تقل انه متورط في قضايا فساد؟
هز رأسه بنعم وتابع: لم يقبل بأن أسحب نفسي من شغلهم القذر متأكد أنه أراد أن يمحق كبريائي وينهي اعتزازي بنفسي بأن يجعلني قذرا مثلهم...
قالت بتوجس: في ماذا هم متورطون؟
بلع ريقه وأجاب بمرارة: أمور كثيرة... أسوأها المتاجرة بالأعضاء البشرية...
شهقت ووضعت يدها على شفاهها وعيونها متوسعة عن آخرها. بينما تابع هو: كم سمعنا بأطفال اختطفوا ووجدوا مفرغين من أغلب أعضاهم! أتخيل كم بكوا وترجوا سفاحيهم وهم يفتحون بطونهم... أتخيل أمهاتهم يبكونهم، وآباءهم يفتشون عليهم في كل مزبلة... ليجدو أخيرا جثة مشوهة اغتيلت بسمة البراءة فيها...
نزلت دمعة من عيون نسرين وهي تنظر إليه وتحرك رأسها نفيا: لم ترجع إليهم... صحيح!
رد بقرف: سأكون بلا قلب إن قبلت بمساعدتهم في نهب أرواح الأبرياء!!!
وبقلق قالت: وماذا فعلت؟
أجابها: اتصلت بوائل...
فكرت للحظات قبل أن تقول: المحقق !.. جارنا بالبناية؟
هز رأسه بنعم وتابع: عرّفني على صديق له يعمل في فريق لمكافحة الفساد، التقيت به سرا وتحدثنا... أخبرته كل شيء... وقال أن كلامي بلا قيمة دون دليل... طلب إلي أن أحصل على كل الملفات والأدلة التي تؤكد تورط بشير بالقضية وقال أنه سيتكفل بالباقي...
ارتعبت ورددت بفزع: ماذا إن اكتشف أنك تخدعه... سيقتلك يا محمود!
ابتسم بحنو وهو يشاهد الذعر في عيونها ورغم محاولته التركيز في ما هو فيه إلا أنها أشعلت فتيل الشوق لديه فلم يشعر إلا وهو يسحبها إليه ويضمها لصدره بقوة وهي تغمض عيونها وتغرق في سحره اللامتناهي.
قال وهو يمسح على ظهرها: إن كنت تحبينني، لا تتخلي عني...
حاصرها بقوله هذا فلم تستطع قول نعم أو لا، كل ما كانت تريده هي أن تغفو في حضنه الدافئ وأن تستيقظ في غدها التالي لتجد أن كل ما عاشته مجرد كابوس وأنه بقربها لم يتركها للحظة واحدة...
ابتعدت عنه قليلا ونظرت في عيونه ثم قالت بعتاب: ولماذا تزوجتها؟
أعادها لحضنه حتى لا يفقدها مرة أخرى وهو يهمس بألم: إنه أبي... بعد قراري الظاهري في العودة للعمل معهم قال أن بشير يحتاج مني لدليل يثبت رغبتي في العودة من جديد... قرر أن أتزوج بمروى وعندما رفضت قال أن هذه رغبة بشير وأنه يجهز ملفا يحمل تجاوزات قانونية كثيرة تحمل توقيعي وقد كان يهددني بها سابقا إضافة إلى البلاء الذي حل علي بعد مقتل وديع...
نظر إليها بثقة وقال: أتعرفين لماذا قبلت كل هذا؟
ظلت صامتة فأجاب عن نفسه: لم أعد أطيق الهروب... مرت سنوات وأنا سجين مخاوفي... منع عني بشير كل تلك الحياة المرفهة التي عشتها في الماضي، وبالرغم من أنني لست نادما على رحيلها فقد عوضني الله حياة أفضل... ووضعك بطريقي فكنت أجمل شيء مر بي بعد سنوات الجفاف... إلا أنني أكره أن يبتزني ويسيرني حسب رغبته... تتنامى كل يوم عندي الرغبة في إنهاء إمبراطوريته ووضع حد لاجتياحه...
هز رأسه باستخفاف وقال: أنت لا تعرفينه... بدأ فقيرا لا يملك غير بيت رث بلا قيمة وبضع دراهم، ليصبح اليوم وبعد سنوات سيدًا يتربع على ثروة من الذهب... لقد وظفه والدي وكان على حسب ظني ينهي كل أعماله الوسخة... ولم تمضي إلا سنوات حتى أصبح يضاهيه ثروة ودخل في شراكة معه، أما اليوم حدث ولا حرج... يكاد والدي يتسول اللقمة من عنده، فقد أخبرني وديع قبل أسابيع أننا نكاد نفلس...
تعجبت مما يقول لكنها لم تعلق على الموضوع. فتابع وهو يشدد من احتضانها إليه يبثها بعضا من العذاب الذي سيلحق به لو أنها قررت التخلي عنه.
قال بعد صمت: آسف لأنني ورطتك معي... لكنني أحببتك... أخذت بكامل عقلي وقلبي ولم أرد أكثر من أن أمضي باقي حياتي معك... أعترف أنني كنت أنانيا لأنني أقحمتك في معضلتي هذه، لكنني توقعت أن وديع سيجهز لنا الأوراق اللازمة سريعا وكنا سنترك البلد قريبا ونعيش بعيدا عن بشير وتهديداته...
التزمت الصمت وقتا طويلا ثم همست بمرارة: تهب الرياح بما لا تشتهي السفن...
تأملها وهي تبتعد عنه وتكمل: وما هو الحل برأيك؟
فكر بقهر ثم قال: لو كنت أملك حلا لكنت استخدمته دون أن أؤذيك... سأترك الحل بيدك... الآن وبعد أن عرفت كل شيء يمكنك أن تتخذي قرارك... إن كنت تريدين البقاء معي ومنحي السلام النفسي لأقوى على مجابهة ما هو قادم فأنا سأكون أسعد رجل بهذه الدنيا... وإن قررت الانتهاء من كل هذا عند هذا الحد فأنا سأتفهمك... وحتى وإن قررت الانفصال عني فأنا لن أرتاح حتى أتحقق من أن أسرتك لن تتسبب في أذيتك... وسأكون إلى جانبك متى ما احتجت إلي وستظلين أجمل ذكرى مرت بحياتي... حياتي الفارغة أصلا...
وقام من أمامها وهو يقفل أزرار بدلته وعلى وجهه تعابير يائسة حاول إخفاءها بابتسامة حنون: سأتركك الآن لتفكري في الموضوع برمته، تحتاجين لخلوة مع نفسك تصفي فيها ذهنك... سأنتظر اتصالك...
أهداها قبلة دافئة على خدها وسار مبتعدا عنها... وقف عند الباب يفتحه فلحقت به وبقيت واقفة تقاوم الغيرة التي دبت في قلبها فمن المؤكد أنه سيذهب إلى مروى، سينام إلى جانبها وتختبئ في حضنه الدافئ... بينما تبقى هي لصقيع الأيام وبرد الليالي تعانق وحشة المكان من بعده... ألم تكن تكفيها أشباح ماضيها التي تأبى الرقود في قبورها ليأتي هو ويصبح شبحا آخر يفسد عليها طعم النعاس في لياليها الطوال !..
مع إقفاله للباب أحست بانقباض شديد في قلبها ورغبت في منعه من تركها من جديد، في الهروب معه هذه الليلة إلى أي مكان لن يجدهما فيه أي أحد...
أطلت خلفه وشاهدت وقع خطواته السريعة على الدرج... رحل ومعه حمل روحها المتعلقة به في عناق شوق لا ينتهي... فشعرت فعليا بمعنى ما قاله الشاعر:
أنت ماضي وفي يدك فؤادي ..... رد قلبي وحيث ما شئت فأمضي

تغلغل في أعماقها وتجذر هواه في خلاياها بشكل لا تجد حتى الكلمات لوصفه، تعلم فعليا ومنذ الآن أنه لا طاقة لها بالتخلي عنه لأنها بذلك ستكون قد قتلت نفسها قبل أن تقتله... لن تستطيع أن تهنأ في العيش بعيدا عنه وهي تعلم أنه في ورطة لا حل لها، أن تزيد لعذابه عذابا ولجراحه ندوبًا، هي التي يجب أن تكون له بلسما ولسقمه شفاءً...

وحرام عليك أن تهدمي ما شاده الحسن في الفؤاد العميد
وحرام عليك أن تسحقي آمال نفس تصبو لعيش رغيد
منك ترجو سعادة لم تجدها في حياة الورى وسحر الوجود
أبو القاسم الشابي

أقفلت الباب وعادت أدراجها وهي تفكر إن كانت فعليا قوية لتقبل مناصفته مع امرأة أخرى... امرأة أصغر سنا أجمل شكلا وربما أكثر سلطة !!! رغم علمها المسبق أن تلك المرأة كانت في متناول يده قبل سنوات وأنه تخلى عنها بإرادته، وأنه لجأ إليها هي لأنه أحبها دون غيرها إلا أنها لم تستطع كبح جنون غيرتها...
وقفت عند النافذة تراقب الشارع حتى شاهدته يسير باتجاه الموقف وفي يديه مفاتيح سيارته. أرادت لحظتها أن تصرخ به أنها تحبه... تطالبه بالعودة لتمنحه الغفران... شيء ما جعلها ترفض تماما فكرة أن يرحل عنها من جديد، خوف رهيب تملكها من أن يرحل ولا يعود... أن يؤذيه بشير أو يقتله ! مجرد التفكير في أن تفقده للأبد يجعلها تسقط في دوامة لا نهاية لها...
أسرعت إلى هاتفها واتصلت به بأصابع ترتعش، كانت كل أوصالها ترتجف وقلبها يدق بجوفها بجنون، ولم تستطع أن تهدأ إلا عندما سمعت صوته المرتاب وهو يقول: ماذا حدث حبيبتي؟
قالت بصوت خنقته العبرات: ارجع...
لم تستطع بعدها أن تنطق بكلمة أخرى لأن صلابتها كانت قد خذلتها فتدفقت مشاعرها المكبوتة في سيل من العواطف صاغتها على شكل دموع وشهقات.
عندما سمع هو صوت نشيجها البعيد بعد أن أوقعت الهاتف أسرع بصف سيارته بمكانها من جديد ونزل منها يسرع الخطى باتجاه شقتها وقد تمكن منه الفزع، دق على الباب ورن الجرس معا وماهي إلا لحظات وكانت ترتمي في حضنه باكية وهي تضمه إليها بقوة وتتشبث بثيابه. كانت تريد امتلاكه من جديد، أن يكون لها وحدها دون أن تشعر أن عليها أن تنازع عليه أحدا وأن تشتعل نيران الغيرة بين جوانبها في كل لحظة وحين...
أخذها هو في حضنه وقتا طويلا وهو يخبرها لأكثر من مرة أنه يحبها وأنه لن يتخلى عنها من جديد مهما كلفه الأمر من ثمن حتى لو على حساب حياته، وعود بقدر ما أثارت ارتياحها حركت مخاوفها، ماذا وإن تسببت هي بتواجدها في حياته بإثارة نقمة بشير ضده !
رفعت رأسها والدموع تغرق وجنتيها وقالت ببكاء: لا أريد أن تتأذى بسببي... لا أريد أن أخسرك...
مسح دموعها بأنامله: أنت لست سببا في أذيتي... أنت فقط مصدر فرحي...
وبقي ينظر إليها والابتسامة لا تفارق شفتيه... لقد أشرقت العتمة بداخله، لم يرد أكثر من أن تصفح عنه وتسامحه وقد خرج من شقتها دون أن تقول ما من شأنه أن يريحه... جاء بعذاب وراح بأضعافه، لم يشعر بخطواته التي كانت تبعده أكثر عنها... كان فقط يستمع لأنين قلبه وهو يخبره أنها النهاية... نسرين ليست امرأة تسامح بسهولة... وإن كانت في هذه اللحظة قد صرحت بتعلقها به فعليه أن يحافظ عليها فهي ليست أي امرأة...

أنتِ .. ما أنتِ ؟ رسمٌ جَميلٌ عبقريٌّ من فنّ هذا الوجود
فيك ما فيه من غموضٍ وعمقٍ وجمالٍ مقدّسٍ معبود
أنتِ ما أنتِ؟ أنت فجرٌ من السحر تَجلّى لقلبِي المعمود
أنت تحيين في فؤادي ما قد مات في أمسي السعيد الفقيد
وتشيدين في خرائب روحي ما تلاشى في عهدي الْمجدود
أبو القاسم الشابي

أمسك بيدها وأخذها معه وهو يخرج مفتاحه من جيبه ليفتح باب شقته، ثم دخل وهي خلفه لا تزال متعلقة بيده، التفت إليها وقال: هذا هو بيتك ولا أريد أن أراك إلا فيه... اشتريته، وبعد أيام سيصبح باسمك... كنت أنوي منحك إياه حتى لو قررت مفارقتي...
قالت بألم: أموري جيدة ولست أحتاج أي شيء إلا أن تكون أنت بخير... ودائما بجانبي...
عصفت كلماتها بمشاعره وثارت عواطفه التي لا تهدأ كلما كان على مقربة منها. تأملها بحب وهو يقترب منها أكثر: هذا كل ما أريده، أن أكون معك على الدوام... أرجو من الله أن تنقشع هذه الغمامة على خير وحسب... بعدها أعدك أنني لن أتحرك من جوارك أبدا... سنعيش معا إلى الأبد... كما في الأساطير.
نزلت من عينها دمعة ووجهها ترتسم عليه ابتسامة تشع من أعماقها. وضعت كفها على خده وبحب قربت وجهها منه وقبلته. وكأنها تختم وعده بطابعها... آن الأوان لتمحو أيام الحنين المضني، وليالي الشوق المستعر... هو أمامها وقبالتها يهبها قلبه، حبه وأحاسيسه لم تعرف قبله رجلا استطاع أن يحيط بها ويحتويها مثله... أن يقتحم ذاتها ويأسر قلبها ، أن ينصب نفسه سلطانا ويسبي أحاسيسها.. ان يكون الآمر والناهي دون الأخذ بمشورتها... لو يعلم في اجتياحه كم من العناد كسر وكم من الوعيد دثر !

***********
دخلت سهام المنزل متعبة فهرع إليها ابنها وهو يصيح ببهجة: ماما... ماما..
استقبلته بعناق حار وراحت تطبع قبلات على وجهه ووجنتيه وتنعته بصفاته المحببة إليها...
ما إن انتهت من مداعبته حتى انتبهت للقامة الطويلة المنتصبة بالقرب منها، كان والدها عاقدا ساعديه أمامه وهو ينظر إليها بضيق. تفهم أنها وصلت مع غروب الشمس حتى أن المؤذن أذن لصلاة المغرب وهي تقطع آخر الخطوات باتجاه المنزل، لكن هذا لا يدعوه لكل هذا الانزعاج!
ألقت التحية بلطف ثم قالت: كيف أنت أبي؟
أجابها بسخط: لست بخير كما ترين... بفضلك أنا لست على خير ما يرام..
تجرعتها على مضض: آسفة أبي أعلم أنني تأخرت في العودة لكنني كنت مضطرة...
قاطعها قبل أن تضيف أي كلمة وهو يزمجر بحنق ظاهر: ألم أحذرك من الخروج لوحدك! ألم أطلب إليك ألا تتجاوزي عتبة الباب دون إذن مسبق مني! لماذا تتصرفين على هواك وكأنني غير موجود!
قالت بأسف: أرجوك أبي لا تغضب... كان يجب أن أخرج... ولم أعتقد أن الأمر سيزعجك، أؤكد لك لم أكن أعرف بأنني سأتأخر كل هذا الوقت...
صاح بغضب: أنت لست بخير، ماذا لو تعرضت لمكروه وأنت وحدك بالطريق، على الأقل كنت اصطحبت أمك معك!..
اقتربت منه واحتضنته بود علها تنجح في امتصاص شحنات غضبه وقالت بلين: أبي سامحني أنا آسفة أعدك أن الأمر لن يتكرر...
ابتعدت عنه وتابعت: أنا بخير أبي... ألا ترى كم تحسنت!
أجابها بصوت أقل حدة: أرى... لكنني لا أصدق أنه حدث بين ليلة وضحاها...
ابتسمت دون كلام فاستطرد يقول: أين كنت كل هذا الوقت؟
خفتت ابتسامتها وساورها القلق من ردة فعله حول الموضوع ثم سارت باتجاه غرفة الاستقبال وسار هو خلفها. التفتت إليه بعد أن رمت بحقيبة يدها على الأريكة وقالت: أبي... استشرت محاميا مختصا في القضايا الأسرية. ثم اتجهت لمكتب التوظيف وسجلت اسمي لأضمن وظيفة ما خلال الأشهر القادمة...
فغر فاه محدقا بها بتكذيب ثم قال باستياء: ما هذا الذي تقولينه! هل استشرت أحدا قبل أن ترسمي خططا لحياتك؟ تحدثت إلي أو إلى أحد إخوتك؟ لا أريد أن تقولي أنك أخبرت أمك لأنني لا أعتبرها تصلح لاتخاذ أي قرار...
أجابته بثقة: لا علاقة لأمي بالأمر، هي لا تعرف شيئا... هي في الأساس ترفض انفصالي عن ذلك الرجل الغير متزن... أبي الجميع في هذا المنزل يدير حياته بنفسه... أنت بنفسك تنصح إخوتي بأن يتخذوا قراراتهم ويتحملوا نتائجها ليشبوا رجالا بوزن وثقل... لا أفهم لماذا تكسر هذه القاعدة عندما يتعلق الأمر بي وبحياتي... هل تراني قاصرًا أو غير سوية ذهنيًا لأتخذ مثل تلك القرارات؟
أراد أن يتكلم لكنها قاطعته بالقول: آسفة أبي... آسفة إن كنت تزوجت الرجل الخطأ، لكنني لا أرغب في أن أستمر معه... لم يعد بيننا أي أمل في أن نعيش مع بعض من جديد... لا تقل أنني مخطئة في ما اعتقدته وأنها محض هلوسات... حتى وإن كان الأمر كذلك فأنا أقول لك وبكل ثقة اكتفيت من حياة الذل التي عشتها تحت ظله... تلك لم تكن حياة أبي... كانت عقابا ومهانا قبلت أنا به...
صمت للحظات يراقبها بصمت، لم يكن يريد أن يرغمها على شيء لا تريده... وحتى إن كان قرار انفصالها عن فادي أمر يثير استياءه، إلا أنه كان أبًا متفهما ويستحيل أن يجعل ابنته تعيش حياة الذل كما تصفها.
قال بعد تفكير وكأنه يحاول تبريء ذمته: لم أكن أعلم أنك عانيت في زواجك...
تجمعت بعض الدموع وبقيت حبيسة مآقيها وهي تتذكر الإهمال واللامبالاة، تتذكر توددها الفاشل إليه وسعيها الدائم وراءه وفي سبيل إرضائه حتى طرقت أبواب الشعوذة والدجل ... شعرت أنها أهانت نفسها وكرامتها... بل أهانت أنوثتها وهي تتذلل إليه كي لا تخسره فقط لتكون زوجة صالحة بارعة في إبقاء زوجها إلى جانبها... تتذكر كيف صبرت على كلام جاراتها اللواتي يصلهن صراخهما وشجارهما الدائم فينعتنها بالمرأة النكدة التي تجعل زوجها يفر منها إلى العراء... وبدل أن يشجبن سهراته الليلية الطويلة غطين عليها بفشل زوجته في إبقائه بفراشهما وانتقدن جهلها بفنون الدلع ودهاء النساء... لم يكن أحد يعرف بهول النيران المتأججة بصدرها... لا بل رحن يزدن وقودها حطبا...
قالت بصوت متزعزع: هذا لأنني لم أشتكي يوما يا أبي... وحدها أمي من كانت تراقب شحوبي وتستقرئ أسباب عذابي...
تمالكت نفسها أخيرا وراحت تراقب ابنها وهو يتشقلب فوق الأريكة محاولة ألا تخوض في ذكرياتها التعيسة أكثر. فدنى منها وقال: إن كنت تصرين على الطلاق فأنا لن أعترض، في الأخير تلك حياتك وأنت من تتحمل العواقب. أود فقط أن ألفت انتباهك أن بينكما ابن... وأن عليك أن تفكري به قبل كل شيء.
أجابته على يقين: أعلم أبي... أنس سيكون بخير بعيدا عنه... أريده أن ينشأ رجلا سويا وأن أصنع منه انسانا بمبادئ...
هز رأسه بالموافقة ثم قال: لكنني أعترض على خروجك للعمل... ولا حاجة لأن تشرحي لي وجهة نظرك. ابقي في المنزل وحسب ولن ينقصك أي شيء...
كانت مصرة بشأن العمل فلم تستطع ألا تعترض حول الموضوع: أرجوك أبي... أنا أريد أن أبني حياتي بنفسي... لا أريد أن أعتمد على أيٍّ كان... ليس المكسب المادي هو همي الوحيد، ما أريده حقا هو أن أشعر أنني امرأة ذات فائدة وقادرة على رفع التحدي... أريد أن أكون قوية وأن أنظر إلى المرآة وأحب نفسي...
كان ينظر إليها مشدوها، لقد أذهله حتى الآن كل ما كانت تقول، بدت له امرأة ناضجة وبعيدة كل البعد عن تلك المرأة الهستيرية التي ضاقت ذرعا من هذه الحياة. لقد أقنعته بشكل ملفت لكنه لا يريد لها أن تخرج وتواجه وحيدة الحياة التي لم تعرف عنها شيئا... ثم ما الذي ستعمله؟ ليست معها شهادة جامعية فقد فشلت عدة مرات في الحصول على شهادة البكلوريا وظل ولوج الجامعة بالنسبة إليها حلما بعيد المنال.
قال قاطعا أمامها كل السبل للاحتجاج بلهجته الصارمة: قلت أنك لن تخرجي للعمل وكلامي قطعي لا رجعة فيه...
زمت شفتيها بعبوس ولم تتجرأ على إعلان العصيان لكنها كانت في داخلها مصرة على الوصول لما تريد وأن تحقق استقلالها المادي والمعنوي... لربما خسرت هذه الجولة في إقناعه لكن لا يزال أمامها جولات وجولات، وقطرة الماء قد تنخر الصخر ولو بعد حين !

***********

تركها نائمة على سريرهما وتسلل إلى الشرفة أين وقف يدخن سيجارته وهو يتأمل تلألؤ الأضواء في الشارع الخالي من الناس. كانت الساعة تشير إلى منتصف الليل والبرد شديد ولا أحد يبقى خارجا في مثل هذا الوقت.
تغزوه الأفكار وتتلاطم برأسه كتلاطم الأمواج... وليس يجد حلا يريحه أو يريحها... وحتى فرحه برجوعها إليه لن يكتمل قبل أن يضمن سلامتهما مما هو آت...
سمع صوت باب الشرفة يُفتح فالتفت وراءه ليجدها واقفة هناك تتأمله بذعر ما جعله يسألها: ما بك حبيبتي؟
قالت وهي تضم ذراعيها إليها من البرد: استيقظت ولم أجدك !
فهم دون أن تكمل أنها فكرت في أنه تركها وحيدة مرة أخرى. أطفأ السيجارة وألقى بها إلى الأسفل وهو يقول: لقد نمتِ أنت وجافاني النوم... ففكرت في أن أدخن سيجارة...
ناظرته بعبوس: لم تكن تدخن ليلاً عندما تزوجنا... لابد وأنه هو من سبب لك هذا الضمور الذي أنت فيه...
رد بقلة حيلة: ربما...
مدت يدها إليه فتشبث بأصابعها ثم سحبته معها إلى الداخل وأغلقت باب الشرفة وهي تعاتبه: البرد شديد، هل تريد أن تمرض؟.. أهذا ما ينقصك لتكتمل المصائب فوق رأسك !
أراد أن يضحك لكن نفسه المشبعة بالهزائم منعته فاكتفى بابتسامة باهتة ارتسمت على وجهه الشاحب، اقتربت منه وقالت بحب: محمود... لا أريد أن يصيبك أي مكروه... لماذا لا تدع عنك كل الأفكار السوداوية وتنام لبرهة... أنظر إلى نفسك !... لم أكد أعرفك عندما رأيتك...
قال وهو يجعل وجهها بين كفيه: يا نسرين... ليس أسهل من الكلام... لكم يرعبني أنني جعلت منك طريدة سهلة لبشير...
حملقت فيه بصمت فتابع: إن عرف ذلك الـ... بوجودك في حياتي وبما تعنيه لي... لن يُفلتك من قبضته، وسيستعملك للضغط علي...
شد على رأسه وهو يخلل أصابعه بين خصلات شعره ومشى قليلا بانفعال ثم التفت إليها: أعلم أنه يعرف بوجودك، لا يفوته شيء، هو يلتزم الصمت فقط ويبقيك ورقة رابحة... لست أدري متى سيستعملها !
دنت منه ووقفت قبالته ثم قالت برقة: محمود هذا ليس خطأك... حتى وإن انفصلنا كان ليبحث عني ويستعملني، لأنه على الأغلب يعرف أنك تحبني...
هز رأسه موافقا: يجب أن أجد لك مكانا آمنًا...
قاطعته وهي تضع اصبعها على شفاهه: ألم تقل أنك لا تريد الهرب؟ سنواجهه معًا...
قال باستماتة: لا تخلطي الأمور، ولا تحاولي أن تقفي بوجه المدفع... أنا أعرف ما هو قادر عليه ذلك المسخ !
سحبها معه وأجلسها قبالته على الأريكة: نسرين... يجب أن نكون حذرين... لا أريد أن يصيبك أي مكروه... علينا أن نجد حلا يمنعه من أذيتك...
فكرت للحظات ثم نطقت بتيه: لا أعتقد أنه يوجد ما نفعله حيال الأمر...
مسد جبينه باضطراب: لقد فكرت طوال غيابي في أن أرسل لك ورقة الطلاق وأن أنهي كل الذي بيننا حتى تبقي في مأمن، لكنني عجزت عن فعل ذلك !... لم أستطع أن أضحي من أجلك، سامحيني...
كانت نظراته كلها قهر وألم، وضعت كفها على خده وعيناها تلمعان مثل الزجاج من تجمع الدموع فيهما، قالت بهمس: ما كانت لتكون تضحية... كنت ستذبحني حينها من الوريد إلى الوريد...
قبل جبينها بألم وهو لا يدري أيفرح أم يحزن مما تقول... كل عزائه أنها اليوم بقربه تتجاوب مع أحاسيسه وتستلذ طعم وجوده في حياتها من جديد...
سألته بفضول: كيف عرفت بشأن المتاجرة بالأعضاء البشرية؟
سهم للحظات ثم اعتدل في جلوسه ونظر إليها قبل أن يقول: اطلعت مرة على بعض الحسابات، كانت المبالغ كبيرة وتكاد تكون خيالية، وعلى حد علمي لم تكن شركاتنا على هذا القدر من المكاسب... ساورني الشك من وجود مصادر دخل غير قانونية، لكنني لم أعرف أبدا حقيقتها... ذات يوم خرجت أنا ومروى للعشاء، وكنا مخطوبين، تحدثنا طويلا وكانت تشتكي من الشجارات المتكررة بين والدها بشير وأمها ريماس... بعد أن أثقلت دماغي في السرد والاطناب وتفصيل الاتهامات المتبادلة بينهما قلت بعفوية لأسكتها: "لماذا لا تحاولين الاصلاح بينهما..." يبدو أنها فكرت بكلامي مليا واعتزمت المبادرة بلعب دور الوسيط للم الشمل وكان يومها والدها غائبا عن المنزل لأسبوع بعد المشاجرة مع والدتها... اتصلَتْ به وأخبرها أنه ما يزال في مكتبه بالشركة.... استغربت أنا فقد كانت الساعة تشير إلى العاشرة ليلا ولا أعتقد أن رجلا مثله بعد أن حصل على كل هذا المال مازال يدفن نفسه بين المستندات في مكتبه، على كل حال لم أفكر بالموضوع طويلا، وقبلت بأن أوصلها إليه شرط أن أنتظرها بالسيارة في الأسفل، فحتى قبل المشاكل التي حصلت بيننا لم أكن أرتاح له ولا لوجوده... بعد نزولها طلبت إلي أن أنصرف لأنها لن ترجع إلى المنزل إلا ووالدها معها، على أيّة حال لم أكن أشك في أنها قادرة على ذلك، فرغم خشونته وصرامته إلا أنها الوحيدة التي تستطيع التأثير فيه والقادرة على تنفيذ ما تريد... غادرت أنا وابتعدت عن مدخل الشركة وكنت طوال الطريق أسير بمحاذات سورها الممتد على مساحة شاسعة، فخلف مبنى الإدارة والمكاتب التابعة له أرض ممتدة على نطاق واسع بعضها فارغة وبعضها مشيد عليه بعض المستودعات الخالية وربما بعض الخراب والآلات المعطلة... ركنت على الجانب بوابة كبيرة ونزلت لشراء السجائر في أحد المحلات على الجهة الأخرى من الطريق. وفور عودتي كانت البوابة مفتوحة وقد دخلت إحدى الشاحنات الكبيرة التي تنقل الحاويات، وتمكنت من مشاهدة شاحنة أخرى متوقفة بالداخل ورجلان ينقلان إليها بعض الأكياس التي بدت لي ثقيلة... ساورني الشك وأردت أن أعرف نوع البضاعة التي يعبئونها في مثل هذا الوقت وتحت جنح الظلام، كانت الساعة حينها تقارب منتصف الليل... خمنت أنها مخدرات وكانت الفكرة راجحة لدي بنسبة كبيرة، أردت أن أتيقن لا أكثر، ابتعدت بسيارتي عن البوابة حتى لا أكون تحت نظر الحراس ثم ركنت بمحاذات السور ولم يكن محميا بأسلاك شائكة، ربما لم يشأ بشير إثارة الاهتمام بأن هناك شيئا ما ذا قيمة بالداخل خصوصا وأن المكان خالٍ ليس به غير بضع مستودعات كبيرة تحوي آلات خربة وبعض النفايات. صعدت فوق السيارة وقفزت إلى الداخل. اقتربت منهم متسللا ولم يكن غير رجلان ينقلان الأكياس ولا أحد في مقعد السائق. انتظرت دخولهما وصعدت إلى الشاحنة ثم فتشت الأكياس.
أصابه الغثيان فتوقف عن الحديث ونظر لنسرين بضيق فمسحت على ظهره بحب: فهمت...
تابع هو متجاوزًا الأمر: كانت جثث مشوهة في مراحلها الأولى من التحلل... لست أدري إلى أين كانوا ينوون أخذها للتخلص منها، أو ربما حتى حرقها ... ما أعتقده أنهم ما كانوا ليخرجوا بها خارج تلك الأسوار لن يُخاطروا بتوقيفهم في نقطة تفتيش ما... ربما كانوا سينقلونها لمستودع ثاني من أجل فرمها أو حرقها أو دفنها... لست أدري كيف يتخلصون منها !!!
بدت مذعورة وهي تستمع لما يقوله... كانت نظراتها إليه ثاقبة وهي تعتصر أصابعه التي في كفها من شدة انفعالها دون حتى أن تعي ذلك.
قال وهو يكمل ما بقي من حكايته: كنت غبيا عندما قررت لعب دور المحقق، لم يكن هنالك اثنان فقط كما اعتقدت، كان المكان مُراقبا بالكاميرات والحراس... قبضوا علي قبل حتى أن أترك الشاحنة ضربوني، قيدوني، عصبوا عيناي واقتادوني يجرونني كالذبيحة نحو مكان ما... ألقوا بي في غرفة قذرة وتركوني هناك دون أن يفكوا وثاقي، كان المكان رطبا مع رائحة عفنة تسبب لي الاختناق، مضى دهر قبل أن يزورني بشير بنفسه... ولم يفكوا عن عيناي العصابة إلا حينما وقف أمامي كالنصب، وقال لي بضحكة ماكرة مثله أثارت حنقي حينها: "أهلا بك يا ابن محسن.." بدى مستغربا من جرأتي ولم يُخف غضبه بسبب ما فعلت، تحدث طويلا ثم قال بالأخير أن هذا العمل يديره هو بالشراكة مع أبي، وبما أنني ابنه فسأخلفه، وسأكون شريكه، وبما أنني سأصبح صهره فسأكون من يدير حصته، طبعا دون علم ابنته وزوجته... قال أنني سأمتلك امبراطورية عظيمة في يوم من الأيام، امبراطورية يقدمها لي القدر في صحن من ذهب، فقط لأنه في قانون الحياة لا تمتد الأعمار طويلا ليخلد هو وأبي فوق كنوزهما... قرفت منه ومن كلامه وحتى من أبي لحظتها... كرهت كل شيء، المال السلطة، الجاه وحتى العز الذي نشأت فيه... أطلق صراحي بعدها وعند عودتي وجدت أبي في استقبالي، سألني عما أخبرني به بشير ثم كذّب كل كلامه وقال أنه لا علاقة له بالموضوع ، واستنكر الجرم الذي يقترفه في حق الأبرياء... تشاجرنا ولم أصدقه، ومنذ ذلك الحين فقد أبي احترامه في نظري... صرت أراه مجرد مجرم وسفاح... بعدها قررت التخلي عن إدارة الشركة التي كنت أعمل بها وسافرت في رحلة سياحية لأنسى كل ما عرفته، عدت بعد أشهر وألح علي والدي في أن أهتم بشؤون شركاته بصفتي الوريث الوحيد لأملاكه، رفضت مرة أخرى وقررت أن أبدأ حياتي بعيدا عن هنا... عند هذا الحد تدخل بشير وأرسل إلي بنسخة عن ملفات تحمل تواقيعي فيها تلاعبات واختلاسات بمبالغ هائلة... هددني بعرضها أمام العدالة وخيرني بين المضي معهم في وساختهم وبين السجن...
كانت تحدق فيه بجمود وقلبها يدق ترقبا وكأنها تعيش تلك اللحظات العصيبة إلى جانبه ثم قالت بعد صمته: وماذا قررت؟
أجابها: هربت... تركت كل شيء وهربت... كنت أتصل فقط بوديع رحمه الله ... وكان يؤمن لي المال ويبقيني على اطلاع بكل الأخبار... رغم معرفتي أنه لا يخفي شاردة ولا واردة عن أبي إلا أنني وثقت به، لم يكن أمامي أي خيار... عشتُ مطاردا، خائفًا و هاربًا... كل شيء كان سيئا بالبداية، لكنني اعتدت الأمر وأصبحت أجد راحتي في حياتي البسيطة... ليست هناك وسادة أنعم من الضمير المرتاح...
تعلقت بعنقه وضمته إليها بحب، كانت على يقين منذ البداية أنه الرجل الذي تمنت أن تعيش في كنفه وتحت جناحه... قد يكون مستهترا ولديه كثير من الأخطاء لكنه ذو مبادئ...
بادلها عناقها له وهو يقول: خشيت أن تكرهيني بسبب ما يفعله والدي...
قالت وهي تتأمله من جديد: أنت من يصنع نفسه... ولو لم ترد أن تكون ما أنت عليه ما خاطرت بحياتك وبكل شيء فقط لتريح ضميرك... أنا أحترمك وأكبر فيك جرأتك...
ثم شدت على يده: أعدك أن أقف إلى جانبك... أن أساعدك.... ومهما سيُكلفني من ثمن سأكون معك....
شعر بها تسنده وتعطيه عزما ليقاوم.... أحس بها تعطيه دفعة قوية ليحقق ما يصبو إليه. إنها هي كل ما يريد من هذه الحياة.
غمرها بحبه، بشوقه، وبشيء من الجنون لا يعرفه إلا عندما تلامسه.. ليس يدري كم من الوقت ستمنحهما الحياة ليكونا فيه معًا... كل ما يملكه أنها الآن بقربه، ومعه تبادله عشقه وهوسه... ليدع ما في الغيب للغيب حتى يحين أوانه... كل ما عليه الآن أن يعيش اللحظة ويترك قلقه... وألا يفسد الحاضر في ترقبه للمجهول الذي لم يولد أصلا وليس له أي وجود !!!


انتهى الفصل الثالث عشر

noor elhuda likes this.

بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 23-08-21, 10:09 PM   #40

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الرابع عشر

خرجت نسرين من الحمام ملتفة في الفوطة، ثم أخذت تجفف شعرها بالمجفف وهي تتأمل نفسها في المرآة، بدت متعبة فهي لم تنم إلا سويعات قليلة لتستيقظ مع صوت المؤذن لصلاة الفجر... وضعت المجفف جانبا واستخدمت أدوات زينتها لتحسن من طلتها، هذا الصباح مختلف تماما عن الأيام التعيسة التي سبقته... هو يوم أشرق فيه الحب وأزهر فوق كل شبر منها. اقتربت من الخزانة وأخذت منها بعض الثياب الرسمية لأنها حتما ستتوجه لعملها بعد قليل، انتهت من ارتداء ثوب طويل بأكمام بني اللون مع حزام من الجلد الأسود عند الخصر وخرجت بعدها إلى المطبخ باحثة عن محمود الذي عاد لتوه وهو يحمل بعض المقتنيات من أجل أن يفطرا معا. وضع كل شيء فوق الطاولة وهو ينظر إليها بتمعن: هل ستتوجهين للعمل؟
اقتربت منه تساعده : أجل...
صمت لبرهة ثم قال: لست في حاجة لأن تشقي بعد الآن، أنا سأوفر لك كل ما تحتاجينه وأكثر... أنت فقط ارتاحي بالمنزل هذا كل شيء.
ابتسمت وهي منهمكة في ترتيب الطعام ووضعه على الطاولة: أنا أعمل لأن العمل يشغلني عن التفكير في أمور كثيرة... الفراغ ينمي الهواجس بداخلي... ثم أنا اعتدت عليه طوال كل هذه السنوات..
نظر إليها بقلة حيلة: إذن استعدي لسماع الكثير من الشائعات حولنا هناك... خصوصا بعد لقائنا الأخير في مكتب منال.
هزت رأسها بعبوس: محمود، كان ذلك تصرفا أخرقًا منك... لقد أثرت فضيحة على الملأ... ألم تفكر بي ولو للحظة..
كان يقف خلفها فطوقها بذراعيه وعلى وجهه ابتسامة ماكرة: وهل كان عليك ابتزازي بتلك الطريقة، عندما تلقيت تلك الورقة من المحكمة أصابني الجنون. تركت كل ما كان بيدي وجئت إليك...
ثم همس بقرب أذنها بأسى: هل كنت حقا تفكرين بالطلاق مني؟
قالت وهي تلتفت إليه: لقاؤنا المفاجئ بتلك الطريقة جعلني أشعر بأن كرامتي تُهدر... وأنت تعرف أنني لا أقبل بالعيش في المهانة... هل كان عليك تركي دون اتصال واحد تخبرني فيه ما تعانيه!؟
تجلّت على وجهه علامات الندم وهو يهمس لها: فكرت في أن أتصل بك... لكنني أحجمت عن ذلك عندما قام والدي بتجهيز أوراق زواجي ومروى في يومين، حتى الشهادات الطبية أخذها من الأطباء دون تحاليل مسبقة... لست أدري حتى الآن كيف أقنعني بالزواج منها... ولا حتى كيف رضت هي بأن يقتصر الزواج على جلسة عائلية لتوقيع العقد وهي التي عودها والدها على البذخ! أقنعني والدي أنها الفرصة الوحيدة لنجاتي ففعلت ذلك... وندمت بعدها أشدّ الندم... وطوال الوقت فكرت فيك... لم أكن أستطيع مكالمتك والكذب عليك لأن ذلك سيزيدني احتقارا لنفسي... ولا أن أصارحك فأدمي مقلتيك وأنا بعيد عنك... حرصت أن تعرفي أنني بخير وشغلت نفسي بالعمل منتظرا الفرصة لأجد حلا ينهي ما تورطت فيه!
قالت بعد صمت مطبق: وهل ظننت حقا أنك ستجد الحل؟ ماذا لو أنك جلست إليّ وشرحت لي موقفك! أكنت تشك في أنني سأقف إلى جوارك؟
أومأ نافيا: يؤلمني كسرك وأنا الذي وعدتك السعادة دون شروط...
تنهدت محاولة إقفال الموضوع: حدث ما حدث...
ابتسم بمرارة وهز رأسه موافقا: أتساءل فقط إلى متى ستستمرين في تحمل ما هو قادم !
وضعت كفها برفق على كتفه وهي تصطنع ابتسامة لا مبالية: أعدك أنني سأفعل ما بوسعي لنخرج من هذا المأزق معًا بسلام وبأقل الخسائر...
شعرت لوهلة أنها أزالت مخاوفه وشاهدت عيونه تشع أملا... الحقيقة الوحيدة التي جهلتها حينها هو ما ينتظرهما معا في أيامهما القادمة، إن كانت فيما مضى تفزع من أشباح من الماضي البعيد فإنها في غدها القريب ستلج الجحيم بقدميها الاثنتين لتقابل إبليس بنفسها... إبليس من الإنس اسمه "بشير قالون".

أفطرا معا وهما يتبادلان الحديث بين ضحك ومزاح... أخبرها عن ما يخططه لهما للأيام القادمة وقال أنه سيزورها دائما لأنه لا غنى له عنها. نبهها أن تكون حذرة ويقظة على الدوام وتراقب كل شيء من حولها وقال أن نفس الموظف الذي أرسله ليتدبر شؤونها سيكون موجودا على الدوام ليحرص على سلامتها في كل وقت. بدت ممتنة له وهي تشعر بحرصه الشديد على سلامتها. وعدته أن تنتبه لنفسها أكثر وطلبت منه أن يركز في مهمته من أجل الحصول على كل الأدلة التي من شأنها أن توقع بشير في داهية بلا رجعة...

أوصلها إلى المعمل في سيارته الفخمة المختلفة تماما عن تلك التي كان يمتلكها سابقا، ظلا طوال الطريق يتحدثان عن أمور كثيرة حتى وصلا. قررت أن تنزل بعيدا حتى لا تلتقطهما بعض العيون الفضولية معا وتبدأ الأقاويل والشائعات حولهما.
ودعها بحب متمنيا لها يومًا سعيدا ثم انصرف باتجاه الشركة الأم التي يشغل حاليا منصب المدير العام لها ويشرف من هناك على سير العمل بكل الشركات الفرعية التابعة لها.

************

كانت الساعة تشير إلى تمام التاسعة عندما دخلت هناء غرفة ابنها وراحت ترتبها فبعد رحيل زوجته أصبحت هي من تهتم بشؤونه وكل شيء يخصه.
تأملت أغراضه المبعثرة في كل مكان وراحت تحاول جمعها وتوضيبها، فمن ملابس تحتاج إلى الغسيل إلى بعض ملفات العمل الملقاة بعشوائية، إلى بعض العلب والأكياس الفارغة هنا وهناك...
فوضوي منذ صغره، تتذكر جيدًا كيف كان قبل أعوام عديدة، طفلا بريئا يقفز في أرجاء البيت ويملأه صخبا وبهجة... مرت الأيام سريعا وأصبح رجلا، لكن ليس ككل الرجال... ليس كما تمنته هي وحلم به والده... آه لو يعرف والده بالحقيقة ! الله وحده يعلم كيف سيتصرف معه...
أرخت نفسها على طرف السرير وهي تتذكر كل الأشياء الحلوة والمرة دفعة واحدة... لقد حول هذا الولد كل مباهج حياتها إلى مأساة... ولد أنجبته في ريعان شبابها وكان زهرة البيت الوحيدة، حاولت أن تحمل من بعده لكنها تعرضت للإجهاض ثم لتدخل طبي لم يكن في المستوى المطلوب فأصابها نزيف قوي استلزم معه استئصال الرحم...
كان ابنها فادي هو الخيط الرفيع الذي شدها من شبح العقم إلى زينة الحياة الدنيا... والسبب الكافي ليجعل سليم رجلا سعيدًا و أبا بمسؤوليات...
تهاوت من عينها دمعة حارقة مسحتها بيأس، وسرعان ما تلتها قطرات خرى لتصبح دموعها سيلا منهمر...
تشعر بالإحباط وبالسخط من شيء اسمه القدر حطها في موقف لا تُحسد عليه... تمنت في سرها مرارًا لو أنها ظلت عقيما على أن تنجب ابنا بهذا التفسخ الأخلاقي... لا تفهم سبب وصوله إلى هذا الدرك من الانحطاط ! لم تقصر في تربيته يوما ولم تتركه للشارع ولا لرفاق السوء حتى يعلموه سوء التربية... درسته بأحسن المدارس وكانت له نعم الأم ونعم السند... صحيح أن والده آن ذاك كان شبه غائب عن المنزل فقد كان يعمل سائق شاحنة لنقل البضائع ما يضطره للسفر غالبا لمختلف مدن وولايات البلاد. لكنها لم تقصر في تربيته أبدا، لقد ضغطت على نفسها كثيرًا وكانت هي الأب والأم في الوقت عينه... وحتى عندما كبر ودخل الثانوية كانت حريصة على ألا يصاحب إلا ابن جيرانهم المهذب والمتفوق في دراسته...
ظل بالها مطمئنا لمخالطته لهذا الشاب حسن التربية ولم تشك يومًا في أن ابنها من أفضل الأولاد على الاطلاق فقد كان متفوقا في دراسته ويشيد أساتذته بهدوئه وتركيزه الدائم وعدم ميله للعنف ولا يتسبب بأي مشاكل...
عاشت في وهمها طويلا حتى جاء ذلك اليوم المشؤوم عندما وقفت عند باب غرفته وهو يراجع دروسه مع ابن الجيران ذاك... كانت امتحانات شهادة البكلوريا على الأبواب وقد حرصت على أن توفر له كل سبل الراحة والتركيز والمذاكرة الجيدة لينجح في دخول أكبر الجامعات وأحسن التخصصات.
في ذلك اليوم وبعد أن فتحت الباب بهدوء حتى تضع أمامهما بعض العصير والكعك دون أن تتسبب في إزعاجهما كادت تسقط صريعة من هول ما شاهدته !!! كانت صدمتها كبيرة لدرجت أن قامت بقلب الصينية على الأرض وهجمت عليهما تضربهما بكل ما وصلت إليه يداها وهي ترتعش وتنتفض بجنون...
يومها فقط أطلت بعينها على الفعل الشاذ المخل بالحياء الذي كان يمارسه ابنها في ظل غفلة منها ومن والده... دارت الدنيا بها وأصيبت بانهيار معنوي شديد لعدم تقبلها فكرة ما حصل... لكنها عزت نفسها بأنه مجرد خطأ سيعمد ابنها إلى تصحيحه ولن يتكرر مطلقا كما وعدها هو بنفسه...
تكتمت على الموضوع وسترت الأمر دون أن تبلغ أهل رفيق ابنها كما حرصت على أن يقطع فادي علاقته به نهائيا...
مضى وقت طويل وهي تراقبه دون أن تخفى عليها شاردة أو واردة حتى اطمأن قلبها وصدقت بأن ما حدث خطأ لن يتكرر مطلقًا... لكن بمجرد دخوله للجامعة وتخلصه من قيود أمه وعيونها حتى وجد العالم الكبير في انتظاره... لقد أصبح ما هو عليه الآن ولم يكن بيدها حيلة لثنيه عما يقوم به، صفعته، هددته، خاصمته... لكن دون جدوى. ثم ارتأت أن تستعمل معه اللين وتحاول هدايته، ذكرته بأن ما يفعله جريمة في حق دينه وإنسانيته... لكنه دوما كان له رد يكاد يكون مقنعا بالنسبة لها، يقول أنه طبيعة بشرية و أنه متعلق بجينات وراثية في الحمض النووي للبشر تم اكتشافها حديثا، فكيف يخلق الله الانسان ويضع به العلة ثم يعاقبه عليها !!!
لم تكن تفهم مما يقول الكثير بسبب تواضع ثقافتها، فكانت تذكره بقوم لوط وكيف عاقبهم الله على فساد أخلاقهم وكيف خصهم بأبشع الصفات دون غيرهم... كانت تحاول ترهيبه وانقاذه من القاع السحيق الذي يهوي فيه يوما بعد يوم... كأم جُبلت على أن تحب فلذة كبدها لن يرضيها أبدا أن تراه يسير إلى التهلكة دون أن تردعه، دون أن تحاول انقاذه... لكنه كان أعمى لا يبصر وأصم لا يسمع، صحيح أنها لا تعمى الأبصار لكن تعمى القلوب التي في الصدور...
ما يحزنها ويعتصر قلبها أن كل سنين تعبها وتضحياتها ذهبت سدى... وكأنها كانت تنفخ في الرماد !
قد أسمعت لو ناديت حيا
ولكن لا حياة لمن تنادي
ولو نارًا نفخت بها أضاءت
ولكن أنت تنفخ في الرماد
عمرو بن معد يكرب

كثيرا ما تتصدر الصحف وبعض المواقع الالكترونية بعض العناوين من نوعية: اكتشاف جين الشذوذ أو دراسة تثبت الأصل الجيني للتوجه الجنسي. لكن يبدو أن أغلب هذه العناوين مشكوك في مصداقيتها ومدى صحتها. فعلى سبيل المثال وفي أحد الحوادث الملفتة، قام عالم الوراثة الأمريكي الشهير والمؤيد للوراثة الجنسية "دين هامر" بإجراء بحث يزعم فيه الربط بين علم الجينات والمثلية الجنسية. تلقت الصحف الأمريكية الخبر بسرعة كبيرة تحت عنوان صريح: (باحث يكتشف جين الشذوذ الجنسي) ورغم جاذبية هذا العنوان ودلالته الصريحة بالنسبة للقارئ العادي، إلا أن "دين هامر" نفسه نفى هذا الأمر، وصرح قائلا بعد انتشار الخبر: "لم نكتشف الجين المسؤول عن التوجه الجنسي، بل نعتقد أنه ليس موجودًا أصلا". فهامر نفسه ـ وهو المنافح بشدة عن جينية الشذوذ الجنسي ـ يعتقد بأن أي محاولة لإثبات وجود جين واحد يحكم المثلية الجنسية هي محاولة عبثية.

وحسب المختصين فإنه غالبا ما تمتد جذور مشكلة الشذوذ الجنسي إلى مرحلة الطفولة، فأغلب تلك الحالات تبدأ أعراضها في الظهور منذ السنوات الأولى لعمر الانسان. والبيئة المحاطة بالأطفال تلعب دورا في تحديد طبائعهم الجنسية. فالطفل الذكر الذي يتربى وسط جماعة من الإناث أو من تلعب والدته دور البطولة في حياته، ومع اختفاء القدوة الذكر وتهميش دور الأب أو اتسامه بالعنف والصلف في التعامل مع الطفل، أو عدم مخالطة الطفل للرجال، كلها عومل تؤثر عليه بشكل مباشر، وتصبح ميوله المفضلة متجهة إلى الأنوثة، حيث يرى فيها عالمه وقدوته الحسنة التي يرغب دائما في التشبه بها، وهو ما يعد البذرة الأولى في تشكيل طبيعته الجنسية، التي تميل فيما بعد إلى الرغبة في أن يصبح أنثى، كالنماذج المحيطة به ويبدأ في رفض طبيعته الذكورية التي لا تمثل له دورا فعالا وظاهرا.
كما أن تعرض الأطفال الصغار الذكور أو الاناث للاغتصاب من قبل أشخاص من نفس الجنس، يعد من أهم الأسباب التي تؤدي إلى تحولهم للشذوذ الجنسي فيما بعد، خاصة إذا تم هذا الأمر على مرات متكررة ولفترات زمنية طويلة.
وفي بعض الحالات قد لا يتجاوز الشذوذ الجنسي كونه سلوكا خاصا بالإنسان مرتبطا بطبيعته الشخصية وبصورة غير مبررة، وعلى الرغم من أن هاته الحالات لا تشكل النسبة الأكبر في عدد الشواذ جنسيا إلا أنها تعد نسبة لا يمكن إهمالها.

**********

وضع محمود القلم على المكتب وهو يتأمل ساعته. انها الثانية عشرة وعليه أن يخرج لتناول طعام الغداء. وربما أخذ قسط من الراحة فهو لم ينم ليلته، وكيف ينام وعيونه لم تشبع من رؤية مهجة الروح إلى جانبه وقد عادت إليه بعد أن فقد كل أمل في استعادتها ! ابتسم بعفوية وهو يتذكر أجمل اللحظات التي مرت بهما وتسللت يده إلى الهاتف حتى يطمئن عليها ويعرف ما تفعله في هذه اللحظة بالذات. ما إن ألغى القفل على الشاشة حتى ظهرت أمامه كومة من المكالمات الفائتة والرسائل التي لم يكلف نفسه عناء فتحها فهو يعلم جيدا أن مروى تتصل به منذ ليلة البارحة دون أن يرد عليها... وكيف يرد عليها وهو لم يخترع بعد كذبة منجية تقيه سموم غضبها !
تجاوز كل تلك المعطيات أمامه واتصل بهاتف نسرين التي أجابته على الفور:
- مرحبا حبيبي.
- كيف أنت؟
- الحمد لله، وأنت؟
- اشتقت إليك...
سمع ضحكتها الرقيقة وتخيل تورد وجنتيها كلما يفاجئها بكلامه العذب...
قالت: لم نفترق إلا قبل سويعات !
- متى تنتهين من عملك؟
- الساعة الخامسة...
صمتت للحظات ثم أردفت: محمود، عليك أن تعود للمنزل وتتأكد من أن الأمور تسير بشكل جيد... لا يجب أن نفسد كل شيء من البداية...
هز رأسه موافقا وكأنها تراه ثم ضغط على عيونه المغمضة بإصبعيه يعتصرهما من التعب والارهاق اللذان نالا منه فعلا اليوم. وقال: سأتناول الغداء في المنزل مع أبي... وسأمر عليك عند خروجك من العمل... سأنتظرك في نفس المكان الذي تركتك به هذا الصباح.
أجابته برقة: حسنٌ حبيبي.. اهتم بنفسك.
أقفلت الهاتف وهي تشعر بغليان تبعه مغص في أمعائها... تكاد تصاب بجلطة كلما فكرت أن محمود سيذهب إلى زوجته الأخرى صاحبة الطلة البهية وربما ستسير الأمور بينهما بشكل تلقائي نحو مغامرة ما تكره حتى التفكير فيها !! لم تشعر بنفسها إلا وهي تقف متأهبة من على كرسيها وهي تضرب بقلمها على الطاولة.
التفتت من حولها إن كان قد رآها أحد ثم جلست من جديد وهي تحاول إخماد لهيبها، محمود يحبها ولن يفضل تلك الدمية عليها في يوم من الأيام...
أخذت قلمها وراحت تدون ملاحظاتها ثم توقفت فجأة وهي تفكر في أنه عليه أن يراضيها بسبب نومه خارج البيت ليلة البارحة، وأي كذبة لن تكون سارية المفعول إلا إذا استعمل معها بعض الذكاء وشيئا من المشاعر الزائفة لتغليف عقلها وجعلها منومة مغناطيسيا تحت سيطرته... ستسير الأمور نحو مغامرة ما بكل تأكيد !!! شعرت برغبة في البكاء وهي تتخيل ما يمكن أن يقع بينهما وهي في غفلة من أمرها...
مهلا، مهلا.. عليها أن تتخلص من كل تلك الهواجس... يجب أن تتحلى بالرزانة لتستطيع أن تكون سندا له لا علة ! ليس عليها أن تفكر على نحو سلبي كل الوقت... "محمود يحبني" رددتها داخلها عشر مرات ثم شهقت هواءً عليلا لرئتيها وحملت قلمها من جديد لتستمر في تدوين ملاحظاتها.

********

كانت تقف في شرفتها العالية بذلك القصر الضخم وهي تتأمل سيارته السوداء الفخمة تدخل من البوابة الكبيرة. استغرق الأمر وقتا حتى قطع كل تلك الحديقة وتوقف عند مدخل الفيلا فأسرع إليه أحد الخدم ليأخذ عنه المفاتيح ويودع السيارة في مرأبها.
دخلت إلى الغرفة وهي تفكر كيف ستفتح معه الموضوع دون أن تنفجر في وجهه فقد كانت البراكين بداخلها تغلي وتفور... وليس من المرجح أن تكون قطة وديعة في تعاملها معه وهو يتعمد إهمالها دون سبب... هي تعرف محمود عندما كان خطيبها... ومحمود هذا الذي تزوجته قبل أيام ليس سوى نسخة مطابقة الملامح غريبة المشاعر...
وقفت الخادمة عند الباب وقالت: سيدة مروى الغداء جاهز والسيد محسن يدعوك للنزول ومشاركته...
أومأت بنعم فغادرت الخادمة، واقتربت من المرآة تعاين منظرها من كل الزوايا. عليها أن تكون في أبهى طلتها علها تثير اهتمام البارد الذي تزوجته، والذي لا يبدو عليه أنه عريس في شهر العسل... لا، والأدهى من كل هذا أنه لم يمنحها من وقته سوى القليل حتى أنها لم تحظ بشهر عسل كما تتمنى أي عروس!
نزلت الدرج العريض الذي يتوسط قاعة فسيحة يتجلى الرقي في كل زاوية فيها فقد كانت مؤثثة بطريقة لا تليق إلا بعراقة عائلة ناصر السعدي.
انعطفت يسارا وهي تمشي بخيلاء حتى وصلت قاعة الطعام التي كانت مجهزة بطاولة كبيرة محفوفة بالكراسي وعلى رأسها يجلس السيد محسن ناصر السعدي بنفسه، تأمل طلتها البهية ثم ابتسم برضًا، وكأنه يؤكد لنفسه أنه لا تليق بابنه إلا فتاة مميزة كتلك.
قالت بصوت يبدو عليه الحنق: كيف أنت عمي؟
رد وهو يتأمل جلوسها على الكرسي: بخير يا بنتي... ولا أنوي السؤال عن حالك فالأمر واضح من صوتك...
نظرت من حولها وكأنها تريد التأكد من غياب محمود ثم قالت: سيصيبني ابنك بالجنون...
هز رأسه بلا مبالاة وهو يلتقط طعامه بالشوكة: عليك أن تكتمي غيظك وإلا خسرته !
جحظت عيونها وبدى السخط واضحا في ملامحها وقبل أن تتذمر كان هو قد أردف وعيونه عليها: أكثر ما كنت أكرهه في زوجتي المتوفاة رحمة الله عليها هو كثرة التحقيق والتدقيق... لهذا لم أتزوج من بعدها...
لم تجبه وبقيت تحدق بملامحه العابثة حتى قال: أفهم ما تشعرين به، لكن عليك أن تكوني صبورة، إن أردت محمود لك فعليك أن تسعي لكسب وده لا أن تشاجريه أغلب الوقت...
يبدو أن هذا العجوز قد سمع شجارهما صباح الأمس... وربما استطاع أن يفهم كل تلك الكلمات الطائشة والمتذمرة التي رمتها في وجهه قبل أن يصفق الباب خلفه تاركا إياها في موجة هستيريا انتهت بأن تفجرت فيها دموعها بغزارة...
ربما ما يقصده محسن أن غياب محمود يوم أمس وعدم رجوعه إلى البيت سببه كلماتها الجارحة التي وجهتها إليه في لحظة غضب. ورغم أنها اعتذرت منه في أكثر من رسالة إلا أنه لم يرد عليها وتجاهل اتصالاتها كلها...
قطعت حبل أفكارها عندما دخل محمود قاعة الطعام بعد أن غسل يديه وألقى التحية ثم جلس بمقعده المقابل لمروى والمجاور لوالده...
أحست بقلبها سيهبط من بين ضلوعها، وتأملته للحظات وهو يضع صحنه بقربه ويسكب لنفسه متجاهلا لها ببرود. تجمعت الدموع بعينيها وأرادت أن تترك القاعة، لكنها تعقلت وقررت أن تتصرف كامرأة أكثر نضجا فلم تسمح للأمر أن يؤثر عليها وراحت تحاول ابتلاع اللقمة التي وضعتها في فمها وهي تشعر بانسداد بلعومها من شدة قهرها.
تأملهما محسن معا، لا مبالاة محمود وانكسار مروى... قال لابنه: كيف أنت محمود؟.. لم أرك عندما عدت للمنزل ليلة الأمس !
ربما أراد من ابنه أن يقدم تفسيرا واضحا وبطريقة مؤدبة له بدلا من أن تسأله مروى وتثير جلبة ويرد هو عليها بغضب وزمجرة ثم ينتهي الأمر بأن يفترق الاثنان كل يوم أكثر...
قال محمود باقتضاب: كنت مشغولا وقررت أن أنام خارجا... هكذا على الأقل لن أزعج أحدا...
تألمت مروى في أعماقها بسبب كلماته الأخيرة، كيف يريد أن لا يزعجها بغيابه وكل همها أن تكون بقربه ! أصلا سبب شجارهما ذاك أنها ثارت من نفوره المستمر منها وكأنها شيء قد أُجبِر عليه ولا يرغب به...
دائما تسرح بها خيالاتها لذلك اليوم الذي زارته فيه ببيته في تلك البناية المتواضعة، حتى أن مصعدها معطل ! لا تفهم سبب انزوائه هناك !.. لطالما تجاهلها ولم يرد على اتصالاتها، لكنها كانت لحوحة لتفهم سبب عزوفه عنها بعد أن كان يسكر من شم عطرها... لم تتقبل أن يخبرها بعد رجوعه من سفر مفاجئ غاب فيه لشهور أنه لم يعد يرغب في الزواج لا منها ولا من غيرها... بدى لها كئيبا تعيسا وتمنت لو أنها تعرف سبب علته علها تنقذه مما هو فيه... بعدها بقليل اختفى ولم يعد له أثر ولم تستطع الوصول إليه من جديد... زارت والده وطالبته بتفسير منطقي لكل ما يحصل فأقنعها بكذبة مفادها أن محمود يعاني من مرض نادر يصعب علاجه وأنه انتكس بسبب وضعه الصحي وقرر أن يعتزل كل معارفه وأصدقائه... وأنه ما تخلى عنها إلا لأنه لا يريد مصارحتها بوضعه الحساس. أخذ عليها يومها عهدا بألا تبوح بشيء مما عرفته لابنه لأنه لن يرحمه حينها، ثم سيكرهها أكثر لأنها تعرف بمرضه الذي لا شفاء منه. يومها بكت كثيرا متأثرة بكلامه ونست كل حقدها على الرجل الذي تخلى عنها بدم بارد بلا سبب. كانت ممتنة لمحسن مرتين، الأولى مصارحته لها بالحقيقة وتشجيعها على محاولة التقرب من ابنه من جديد ومساعدته على ترك عزلته، والثانية أنه أعطاها عنوانه وطلب منها أن تتحدث إليه دون أن تحسسه أنها تعرف الحقيقة...
استقبلها بذهول كما توقعت وسمح لها بالدخول فجلست على الأريكة وهي تتأمل بساطة المكان، أيعقل أن يكون هذا منزله ! محمود غير متعود على بساطة الأشياء فكيف قبل بأن يعيش بين هذه الجدران التي لا تساوي ربع العز الذي ترعرع فيه ! تحدثت إليه يومها وحاولت إقناعه بمصارحتها بالحقيقة وإخبارها بكل ما يسبب تعاسته... تأملها يومها بتيه ثم قال أن ما بينهما قد انتهى وأن عليها أن تجد لها طريقا آخر لا يتقاطع وطريقه أبدا لأنه أحب امرأة أخرى ويعتزم الزواج منها لو أنها قبلت به... صفعتها هذه الكلمات حتى كادت توقعها أرضا وبقيت تنظر إليه مشدوهة للحظات ثم زفرت بارتياح وهي تفكر أن تلك ما هي إلا لعبة منه ليجعلها تتركه إلى الأبد، فمن هي تلك الفتاة القادرة على أن تأخذه منها !... لم تشأ أن تقول المزيد حتى لا يجرحها أكثر وانصرفت من عنده حتى تعطي له ولنفسها مجالا للتفكير بروية... ولم تنس في طريق خروجها أن تمنحه قبلة وداع شغوفة تحمل كل اشتياقها على مرأى من جارته المتطفلة والتي يبدو أنها تستمتع باستراق أخبار الآخرين...
رجعت لحاضرها على يد محسن وهو يضع يدها على يد محمود ويقول بحكمة: أنتما ولداي، وأريد أن أراكما سعيدين دائما... عليكما أن تكونا قويين لتتجاوزا كل الصعاب من أجل أن ترسما لكما حياة أفضل... في هذه الحياة كثير من الحجارة فلا تتعثرا بها ولكن اجمعاها لتبنيا بها سلما نحو القمة...
تأملت وجه محمود الذي قابلها بنظراته وانتظرت ما سيكون تعليقه لكنه سحب يده على مهل ورمق والده بنظرة خطيرة ثم تابع تناول طعامه وكأن شيئا لم يكن... الحق معه فأبو المواعظ هذا الذي يتشدق بالحكمة كان نفع بها نفسه، لا بد وأنه لم يعر دماء الأبرياء أهمية وهو يرصف حجارته تلك... أجاره الله من هبوب رياح المظلومين عليها... يومها ستدكهم جميعا تحت أنقاضها دكا...
تأثرت مروى بردة فعله فوضعت الملعقة جانبا ووقفت وهي تقول بصوت يكبت الألم: بالصحة والعافية...
غادرت من فورها هاربة من ذلها وهوانها بينما نظر محسن لابنه بأسف: مسكينة...
أجابه دون أن ينظر إليه: لا أعتقد أن هذا كان شعورك بالنسبة لأمي... لطالما خنتها ولم تأسف لدموعها يوما...
زفر بضيق: خنتها ! خنتها !.. لم تكف عن ترديد هذه الكلمة على مسامعي منذ أن رحلت !..
قاطعه وهو يصر على أسنانه محاولا الحفاظ على نبرة صوته المنخفضة حتى لا يعليها على والده: هذا لأنها رحلت منكسرة... توفيت ودموع القهر تفيض من عينيها...
تجاهل تلك النيران المشتعلة في حدقتيه الذهبيتين وقال بجد: قد يحتاج الرجل لأكثر من امرأة حتى يشبع رغباته... هنا تتجلى حكمة الشريعة الاسلامية في شرع تعدد الزوجات...
أفلت منه صوت ضحكة ساخرة وهو يحمل الملعقة إليه فتوقف قبل أن يضعها في فمه وبقي يحدق بوالده للحظات وهو يفكر كيف أنه كان دوما مسرفا لا يخضع لا لدين ولا لقانون، ماضيا في غيه دون رادع، ولم يربه هو ابنه الوحيد أي تربية روحية، عدا طبعا والدته التي كانت تذكره بقراءة أذكار الصباح والمساء وما قبل النوم... أيضا كانت تزرع فيه بذور الخير وتعلمه الإنسانية فنشأ مختلفا تمامًا في تفكيره عن هذا الأشيب أمامه... وحتى وإن انحرف في شبابه بعد رحيلها وأصبح رجلا يشرب الخمر ويصاحب الفتيات ولا يصلي غافلا عن ذكر الله ولا يردعه رادع، إلا أنه في النهاية عرف طريقه بعد أن هبت عليه نفحات ربانية جعلته يضبط إعداداته من جديد... المشكلة في والده أنه يعيش في جفاف، لن تمطر عليه ليغتسل من ذنوبه ولا رياح توبة قد تميل بشراعه ليسلك النهج السليم، لأن قلبه صدأ من كثرة الذنوب، ووضع الشيطان غشاوته على عينيه فأضحى بعيدا عن الحق والطريق المستقيم... وبعد كل انحرافاته يتحدث عن الشريعة والدين !
وضع الملعقة على الطاولة وقد انسدت نفسه تماما فما يوجعه أكثر هو رؤية أقرب الناس إليه يهوي دون أن يتمكن من إنقاذه... لطالما حاول أن ينصحه ليبدل من طباعه لكنه دائما يتباهى بأنه على صواب وأنه يفكر بطريقة عقلانية عكس ابنه الذي يسرح في السراب ويعيش في حالمية...
هم بالوقوف فاستوقفه والده بالقول: كيف سامحتك بهذه البساطة...
ثم غمزه وتابع: يبدو أنك ابن أبيك... لديك نفس السحر والتأثير...
بقي يحدق به للحظات حتى يفهم قصده لكنه جهل تماما ما كان يرمي إليه حتى أوضح له قائلا: أعلم أنك قضيت ليلتك عندها...
فهم الآن أنه يقصد نسرين... يبدو أنه يتابع أخباره عن قرب وهو يعرف بكل تحركاته، كان يتوقع هذا من بشير لكن يبدو أنه ليس وحده من يحشر أنفه الطويل في كل حياته...
استقام في وقفته وقال: يبدو أن ربيع هو من يطلعك على التفاصيل... وضعته ليحرسها فإذا بك تجعل منه عيونًا لك هناك... أنت لا يستهان بك أبدا...
أشار له بيده مؤكدًا: أنا أمهر منك في استراتيجية التخطيط... اِعترف بهذا...
هز رأسه بقلة حيلة وأقفل بدلته ثم قال: عن إذنك... سأستحم وأرتاح...
قال وعيونه عليه: يجب أن نتحدث بهذا الشأن...
يعرف جيدا أنه سيطالبه بوضع حد لعلاقته بنسرين والاهتمام بمروى وكان عليه أن ينسحب قبل أن تتأزم الأمور لأنهما أعند من بعضهما. قال بتعب: فيما بعد أبي... أريد أن أنام أنا متعب...
ضحك والده بصوت عالي وهو يقول: لم تنم ليلتك !!!
انصرف محمود وعيون والده تتبعه وقبل أن يترك قاعة الطعام سمعه يقول له: ابن والدك يا هذا...
ترك القاعة وصعد الدرج قاصدا غرفته ومروى، وطوال الطريق كان يسأل نفسه لماذا يفعل بها هذا... عندما فتح الباب وجدها جالسة على السرير ودموعها تنساب على خديها. شعر بوخزة ضمير وهو يرى نفسه يؤذيها من غير سبب، فقط لأن عواصف القدر رمت بها عند أقدامه ليتخذ منها قربانًا يذبحه عند أعتاب حياته الجديدة التي يخطط لها بعد أن يطيح بوالدها.
خلل أصابعه في شعره وهو يزفر بتعب... تعب نفسي يفوق تعبه الجسدي بأضعاف ! اقترب على مهل ثم جلس بالقرب منها على السرير. تمكنت منه إنسانيته وأشفق على حالها وهو يرى كم الدموع التي ذرفت.
بقي صامتا يحدق بالأرض من تحته وهي على حالها تحاول تجفيف دموعها دون أن تنطق بكلمة... مروى فتاة مدللة لم تعرف من هذه الحياة غير أن تأخذ دون أن تعطي، لم تعش يوما معاناة حقيقية وربما ما تمر به مع محمود هو أسوأ ما مرت به طيلة حياتها.
يستغرب حقًا كيف مازالت متمسكة به رغم كل ما يفعله، لابد وأنها تحبه بصدق! هذا هو السبب الوحيد الذي قد يبقيها تحت سطوته... إنه لبلاء ثاني إن كان هذا صحيحًا... التفت إليها وتأمل عينيها الحمراوين من البكاء وشاهد دمعة تتسلل بصمت ماسحة خدها اغتالت كبرياءه وكرامته... وجعلته في عينه حقيرًا... لماذا الأمور معقدة إلى هذا الحد!
قال لها بهمس: توقفي عن البكاء...
كانت دقات قلبها تتسارع في انتظار أن يغمرها بعطفه وحنانه، وأن ينسيها في قربه ما عانته طوال سنوات بعده، لكنه حمل نفسه وسار بعيدا حتى وقف قرب باب الشرفة الزجاجي ومن خلف ستارها الشفاف راح يتأمل زرقة السماء وهو يحاول أن يكون معها ألطف معاملة دون أن يحملها على الاعتقاد أنها امتلكته من جديد، كان عليه أن يوازن بين نفوره واقترابه، وأن يقيس الحرارة بين بروده ونيران شوقها، ويجعلها معتدلة دائما... لا يريد أن يمنيها بحياة لن تتحقق ولا يريد أيضا أن يذلها بتصرفاته...
كانت هي تشعر بمغص في أمعائها وغثيان. ليست تفهم حقا ما الذي يجعله باردا لهذه الدرجة، أهو حقا مرضه من زرع في نفسه كل هذا البؤس بحيث كره نفسه وكره كل شيء من حوله ! رغم أنها لم تكن يوما في حياتها من ذلك الصنف الصبور والذي يقدم تضحيات، إلا أنها كانت عازمة على الانتظار فلربما استطاعت بجهدها أن تجعل محمود انسانًا طبيعيا مثلما عرفته في سابق عهده.
لقد أعياها حقا هذا الرجل، فمنذ زواجهما وهو يتجنبها ولا يمضي معها إلا بعض الوقت. وحتى تلك اللقاءات القليلة بينهما تشعر فيها أنه مجبر عليها وليس يريدها بأي حال من الأحوال، شتان بين علاقته بها في سابق عهده، وبين ما حل به الآن... دائما ما تسأل نفسها ما هو هذا المرض الذي جعله يكره الحياة ولا يحاول أن يتمتع بها كما كان يفعل سابقًا !..
قال لها وهو يوليها ظهره: أنا آسف يا مروى... أرجو أن تسامحيني.
كان يعني كل كلمة قالها فهو يعتبرها بريئة من كل الجرائم التي ارتكبها والده ووالدها ثم أغرقاهما معا فيها... هي ليست سوى امرأة تكافح من أجل الرجل الذي تحب... وهو ليس سوى رجل يريد أن يعيش مع من يحب... وبين هذا وذاك خيوط اشتبكت في يد القدر...
أجابته وهي تحاول أن تنطق كل كلمة دون أن تجهش بالبكاء: لا بأس يا محمود...
أغمض عيونه وهو يشعر بالقهر، ليتها قامت إليه وشاجرته، ليتها انهالت عليه بأنواع من الاتهامات والكلمات الجارحة مثلما فعلت صباح الأمس، لكانت خففت عليه عبء الشعور بالذنب و جعلته مرتاحا أكثر في نفوره منها... المشكلة أنه كلما كان بقربها وكلما سارت الأمور على النحو الذي تريده هي شعر أنه يخون نسرين فيتراجع في آخر لحظة، وحتى في تلك الأحيان بعد أن تنجح علاقتهما يتسلل إلى قلبه شعور بالخزي من نفسه... ليست هينة الورطة التي هو فيها أبدا، إنها حرب نفسية تُمارسُ ضده بلا هوادة، فبين حبه لنسرين وإشفاقه على مروى تكاد خيوط عقله تنفجر... ليس يدري كيف يتعامل مع الاثنتين. صحيح أنهما زوجتاه، لكن الأولى اختارها بمحض إرادته والثانية فُرِضت عليه فرضا. والعقل الباطن لكل إنسان يكره دائما شيئا يقترن بالإكراه فيشن عليه حربا دون شعور من أجل تحقيق ذاته...
التفت إليها ثم اقترب منها بخطوات ثقيلة وأمسك بيديها حتى تقف. كانت أقصر منه بكثير فعلى خلاف نسرين التي تبدو رشيقة وطويلة تبدو هذه مجرد طفلة مراهقة، بعيون خضراء ذات نظرة حادة وشعر أشقر يصل إلى كتفيها وبشرة ناصعة البياض ناعمة الملمس. عمرها أربع وعشرون سنة عرفت فيها محمود في طفولتها بسبب العلاقة الوطيدة بين أبويهما ثم صاحبته وهي في التاسعة عشرة لتُعلن خطوبتهما بعد عام ثم يختفي محمود بعدها بأشهر... هذا هو ملخص الحكاية التي جمعت بينهما.
قال وهو يتمسك بيديها: مروى، أنا لا أقصد أذيتك... لكن كل هذا يحصل رغما عني صدقيني...
وضعت كفها على خده وابتسمت برقة وقالت: لا تقلق محمود، لا حظت أنك لست بخير، هل تعاني من مشكل ما؟
كان هذا هو الحبل الذي ألقته لتصطاد الحقيقة منه، ربما تخار قواه ويخبرها بشأن مرضه، مرض اخترعه محسن ليكسب تعاطفها مع ابنه ويعلقها به كظله...
قال وهو جاهل تمامًا لمنحى تفكيرها: لست بخير يا مروى... أنا مضطرب وأحتاج لخلوة طويلة مع نفسي أرتب فيها أموري...
حدقت به للحظات كالمعتوهة حتى فهمت ما يرمي إليه فقالت متفهمة: سأكون إلى جانبك متى احتجت إلي، فقط لا تجرحني كعادتك...
حاول أن يبتسم بوجهها وهو يشاهد ضعفها وقلة حيلتها، يرق قلبه عليها في كل مرة أكثر ويتعجب منها ومن مقدرتها على الصبر والمثابرة، لقد فكر في أنها سوف تكرهه منذ يومهما الأول وستعود لبيت والدها وتنسى أمره، لان مروى التي يعرفها لا تقبل بان يدوس عليها أحد، وهته التي أمامه تقاوم تجريحاته واستفزازاته بصبر... يبدو أنها مثله تتعلم من نكبتها مثلما تعلم هو من نكبته السابقة عندما ترك منزل أسرته...
قال بصوت يشبه الهمس: مروى... لا أريد رؤيتك تبكين من جديد...
هزت رأسها بنعم، فطبع قبلته على جبينها بعطف وفرك رأسها بأصابعه التي غاصت في خصل شعرها الناعمة مثلما كان يفعل في أيامهما الخوالي فقالت وهي تضحك: لقد أتلفت تسريحتي !
ابتسم طويلا وهو يراقبها ثم قال: أنا متعب... سوف أستحم وآخذ قسطا من الراحة...
قالت بلهفة: أجهز لك الحمام؟
نظر إليها بدهشة، منذ متى كانت مروى تخدم الآخرين ! حتى حمامها لا تجهزه لنفسها وإنما تجهزه لها الخادمات...
قال رافعا أحد حواجبه: أنت تفعلين هذا ! ما عاذ الله أخشى أن تسلقيني في مياه تغلي، او تنسي فوهة الحوض مفتوحة فتبتلعني...
دفعته وهي تقول: تبتلعك الفوهة يا قليل التهذيب ! هذا بدل أن تشكرني...
ضحك وهو يتوجه إلى الحمام فقالت: سأخرج مع رفيقتي لشراء بعض الأغراض ثم في المساء سأزور والداي، كلمت أمي وألحت علي أن أتعشى معهما... هل ترافقني؟
أجابها على الفور: مشغول...
تعلم جيدا أنه لا يحبذ الالتقاء بوالدها ولا التحدث معه لذلك لم تجادله، واكتفت بهز كتفيها بلا مبالاة وهي تقول: على كل حال أحببت تبليغك بالأمر قبل أن تغط في النوم...
أجابها وهو يدخل الحمام: استمتعي بوقتك يا مروى ولا تجعلي همومك فوق رأسك...
ابتسمت وقالت قبل أن يقفل الباب: اهتم بنفسك أنت أيضا لا أحب أن أراك مهمومًا وكئيبًا...
حملق فيها للحظات، لماذا تصر هذه الفتاة أن تجعله مجرد خائن في أعينه ! وكأنها بتلقائيتها وبراءة أحاسيسها تجعل منه منافقا يتلاعب بأحلامها المزهرة ويجعل من عواطفها شعلة في مهب عواصفه فتارة يزيد لهيبها وتارة يطفئها وتارة أخرى يتلاعب بها هنا وهناك ويدور بها دون أن تستقر على قرار...

انتهى الفصل الرابع عشر


noor elhuda likes this.

بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:53 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.