آخر 10 مشاركات
في أروقة القلب، إلى أين تسيرين؟ (الكاتـب : أغاني الشتاء.. - )           »          وشمتِ اسمكِ بين أنفاسي (1) سلسلة قلوب موشومة (الكاتـب : فاطمة الزهراء أوقيتي - )           »          في قلب الشاعر (5) *مميزة و مكتملة* .. سلسلة للعشق فصول !! (الكاتـب : blue me - )           »          روايتي الاولى.. اهرب منك اليك ! " مميزة " و " مكتملة " (الكاتـب : قيثارة عشتار - )           »          نيران الجوى (2) .. * متميزه ومكتملة * سلسلة قلوب شائكه (الكاتـب : hadeer mansour - )           »          جدران دافئة (2) .. سلسلة مشاعر صادقة (الكاتـب : كلبهار - )           »          96 - لحظات الجمر - مارجري هيلتون - ع.ق ( مكتبة زهران ) (الكاتـب : عنووود - )           »          ثرثرة أرواح متوجعه / للمتألقه ضمني بين الأهداب ، مكتملة (الكاتـب : فيتامين سي - )           »          كبرياء ورغبة - باربرا كارتلاند الدوائر الثلاث (كتابة /كاملة ) (الكاتـب : Just Faith - )           »          خلاص اليوناني (154) للكاتبة: Kate Hewitt *كاملة+روابط* (الكاتـب : Gege86 - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

Like Tree35Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 23-08-21, 10:13 PM   #41

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي


الفصل الخامس عشر

مضت بضعة أسابيع سريعة.. متشابهة وان اختلفت في بعض تفاصيلها، لكن الفاجعة فيها كانت من نصيب سهام وحدها...
لقد قامت برفع قضية خلع ضد زوجها فادي ورفض أهلها أن تأتي في الملف على ذكر شذوذه لأنه أمر يصعب إثباته، أو بالأحرى هم لم يصدقوا هذا يوما. وربما أيضا لأنهم لا يريدون أن يغضب هذا الأخير ويقطع المصروف عن ابنه في حال تم الطلاق... كل ما يصبون إليه هو أن يتم الطلاق بينهما بالتراضي وبلا مشاكل... كما أن مصطفى تحدث في هذا إلى سليم واتفق الاثنان على أن ينصحا ابنيهما بالتعقل وفك العلاقة بأقل الخسائر الممكنة...
ما لم يكن في الحسبان هو القضية التي رفعها فادي ضد زوجته مطالبا بحقه في حضانة ابنه متهما لها باللامسؤولية والاضطراب النفسي مستدلا على أقواله بما تعرض له الصغير من تسمم وكذلك ضياع وهو في حضنها مؤكدا على القاضي بأنه الأصلح لرعايته.
وعادة لا يتساهل القاضي في كل ما يخص الأطفال والقصر. ووجب عليه أن يحفظ الطفل لحين النطق بالحكم الأخير في القضية. وهكذا إلى حين التأكد من مقدرة أمه على رعايته قرر بأن يبقى في حضن والده. ولم يشفع لها في رده إليها لا كلام سليم ولا توسلاتها...
وهنا انفرطت حبات الصبر التي كانت سهام ترصفها في خيط الخيبة الذي لا ينتهي... أن يأخذوا منها ابنها هو أمر تعجز عن تقبله وترفض تصديقه. وبعد ان اتهموها بالجنون قولا. جسدته فعلا، فأصيبت بالهستيريا من جديد وهاجمت كل من وقف من أهلها في وجهها في ذلك اليوم الذي حضر فيه عديم الأخلاق لأخذ ابنه بأمر من القاضي ومندوب من المحكمة لتفعيل القرار. وبالكاد استطاعوا ابعادها عنه، فقد كانت تنوي قتله والتخلص من قرفه للأبد.
لكن في النهاية انتزع منها ابنها قسرا وخرج به من هناك مبتعدا في خطوات واثقة وكأنه يدوس على كرامتها مع كل وقعة قدم...
مضى أسبوعان حتى الآن ومازالت في كل يوم تأتي إلى هذه الحديقة وتجلس تحت نفس الشجرة وعيونها متعلقة بنوافذ الشقة التي كانت تسكنها رفقة حمويها من قبل...
كانت ترتعد من شدة البرد بشفاه زرقاء وشعر مبلل من كثرة المطر... لقد غسلتها الأمطار منذ وقوفها هناك، لكنها أبدا لم تغسل عنها حزنها وهوانها...
انفجرت في البكاء بصوت مسموع وبعض المارة من جيرانها ينظرون إليها بإشفاق... حاولت احدى السيدات أن تأخذ بيدها لتدخلها بيتها لكنها دفعتها وهاجمتها وصاحت فيها بقهر: ابتعدي عني لست مجنونة... أعرف نظراتك... تتهمينني بالجنون...
ابتعدت المرأة عنها بوجل ونظرت لمن حولها بقلة حيلة ثم انصرفت تاركة إياها لدموعها.
لقد حاولت المرة الماضية أن تقتحم شقة حمويها لتأخذ ابنها منهما بالقوة. كانت هناء وحدها بالداخل وخافت على نفسها مما قد تفعله سهام لها خصوصا وهي تتوعدها خارجا... اتصلت بابنها الذي سرعان ما طلب الشرطة. والتي اقتادت سهام لمركز الأمن أين حضر والدها وإخوتها، ثم جعلها الضابط تمضي على تعهد بعدم التعرض لأسرة زوجها قبل أن تخرج من هناك...
اليوم ليس لها إلا أن تتأمل شرفة غرفتها السابقة وهي تأمل أن يطل منها حبيبها أنس فتراه ولو من بعيد. أو أن يخرجه جده في نزهة فتحتضنه وتقبله بشوق كبير، لأنه ما عاد في وسعها انتظار نهاية الاسبوع حتى يسمح لها فادي برؤيته...
♡♡♡♡♡
انتهت نسرين من وضع الشال فوق رأسها ثم ارتدت معطفها الرمادي الذي ينزل أسفل ركبتيها بقليل. وألحقت به حذاءها الأسود الذي يصل إلى منتصف ساقيها يغطي جزءا من سروال الجينز الذي ترتديه.
اتصلت بمحمود لتخبره بخروجها. فرن الهاتف عدة مرات دون أن يجيب. وقبل أن تترك الشقة أعاد الاتصال بها فرفعت الهاتف لأذنها مع ابتسامة فرح: كيف حالك حبيبي؟
- مشتاق... كيف أنت؟
ضحكت برقة: أنا بخير... اتصلت بك لأخبرك أنني سأزور ياقوتة... اتصلت بي كثيرا الأيام الماضية وطلبت مني أن أزورها...
لم يكن يريد لها أن تدخل بيت ياقوتة ولا عالمها لأنه يكره تواجدها في بيئة مماثلة، لكنه لم يكن ليأمرها بأن تفعل ولا تفعل فهو يقدر رأيها ويحترم ما تريده، قال أخيرا: ما رأيك في أن ندعوها على الغداء...
كانت هذه خطته ليصرف نسرين عن زيارتها، لكنها أجابته: فكرة جيدة... لكنها سبق وأن دعتني لأنها اشترت بيتا جديدا وتريدني أن أراه...
صمت للحظات بقلة حيلة ثم قال: سيوصلك ربيع... إنه أسفل البناية... سأتصل به حالا...
أجابته بسرعة: لا، لا.. أرجوك... لا أريد لا ربيعك ولا خريفك. سأذهب في سيارة أجرة.
جاءها صوته صارما: نسرين! بالبداية أهلك والآن بشير... ولست أدري ما قد ينتظرنا بالطريق!... خذي ربيع ولا تشغلي بالي عليك...
أجابته بخفوت: لابأس... سأنزل حالا... أُطلب منه أن ينتظرني بالأسفل.

عندما خرجت من البناية حدقت بالمكان من حولها، ليست تدري لماذا تشعر بالرجفة والفزع... تشعر وكأن عيونا ما تراقبها من زاوية ما، وربما مسدس يقتنصها ويراقب تحركاتها.. ليس من السهل عليها أن تنسى الرعب الذي مرت به.
شاهدت سهام جالسة على الأرجوحة في مظهر مزري... ثيابها مبللة كليا وشعرها الأحمر يقطر ماء وهي ترتجف بشدة. لم تكن من النوع الذي يقحم نفسه في مشاكل الآخرين لكن منظر سهام كان أسوأ من أن تتجاهله.
حاولت أن تقترب منها لتقدم لها يد المساعدة لكن قبل أن تبارح مكانها شاهدت شابا يقف قبالتها وهو يهدر فيها بحنق: سهام، بحق الله أهذا تصرف امرأة عاقلة!... لما جلوسك هاهنا منذ الصباح!... ما الذي قد تجنينه من تأمل تلك الشقة بالله عليك!
غمغمت بكلمات غير مفهومة وهي تعتصر أصابعها التي أصبحت بيضاء كالثلج لادم فيها. فأخذها ذلك الشاب بين ذراعيه بقوة وتعالى صوت نشيجها: أخي... أخي... أرجوك أعده إلي...
وتلا رجاءها ذاك بضع شهقات يائسة وآدم يشدد من احتضانها إليه وفي عيونه نظرة ألم. إنه أكثر من يحس بوجعها من بين كل إخوتها... هو الوحيد الذي مازال يشد على يدها ويقول لها أنه سيبحث رفقتها عن الحقيقة من أجل إعادة أنس إلى حضنها من جديد...
كانت تتأمل عناقهما وفي قلبها مغصة ألم... كيف تراه عناق الإخوة يا ترى؟ أله مذاق مختلف؟... وجدت نفسها لا شعوريا تحضن جسدها بكلتا ذراعيها بقوة علها تشعر بشيء من الحنان الأسري الذي حُرِمت منه زمنًا طويلا...
أفاقت من تيهانها على صوت السيارة وهي تركن بالقرب منها، فتظاهرت أنها تشعر بالبرد وركبت بالمقعد الخلفي حالما فتح لها السائق الباب.
♡♡♡♡
أوقفت سيارتها قرب النافورة بالحديقة، ثم نزلت وهي تحمل حقيبة يدها والريح المحملة بزخات المطر تلاعب شعرها الأشقر.
أسرعت الخطوات باتجاه باب الفيلا الكبيرة. كان قصرًا مشابها في فخامته لقصر عائلة زوجها. لكن هذا قصر والدها...
تأملت سكون المكان وهي تخلع معطفها مستمتعة بالدفء الذي يغمر الأرجاء. سارت باتجاه المكتب علها تجد والدها هناك فمن عادته أن يشتغل بالمنزل... لكنها وجدته مقفلا فعلمت أنه غير موجود.
عادت أدراجها إلى القاعة الرئيسية لتسأل الخدم عن أمها فلم تجد غير لؤي رئيس الحرس الخاص بوالدها. كان شابا فارع الطول هادئ الملامح. عندما تقف بقربه يتجلى المعنى الحقيقي للالتقاء الأضداد.
عبست في وجهه، ليس لأنها تكره شكله ولكن لأنها تمقت غطرسته. لا شيء يتحرك من دون علمه!.. ووالدها لا يثق إلا به. فهو المشرف على أمن العائلة ككل والملم بخرجات والدها ومغامراته... والأكثر تكتما على كل ما يخصه... لكم تكره أجوبته البيضاء: "لا أعلم"، "لا أدري" حتى عندما تسأله أمها فإنه لا يبوح بشيء يخص سيده...
سمعت ذات مرة أنه كان ضابطا بالجيش قبل أن يتم تسريحه من الخدمة بسبب تورطه في بيع المخدرات... مالا تفهمه، هو كيف لوالدها أن يثق برجل مثله!
عادت لرشدها عندما سمعته يقول لها بصوته الهادئ الذي يعاكس تماما حجمه وشكله: مرحبا آنستي...
هزت رأسها دون كلام ثم قالت: أين أجد والدي؟
أجابها باقتضاب وهو يرفع معصمه ليشاهد ساعته: سيعود بعد نصف ساعة.
قطبت بعبوس وتجاوزته، الحق عليها.. هل كانت تنتظر أن يخبرها أنه في الحديقة، في العمل، عند عشيقة ما مثلا!... لا، أبدا لن تحظى بإجابة كتلك في حياتها...
قبل أن تصعد الدرج سمعته وهو يقول لها: السيدة ريماس تزور صديقتها زوجة وزير الداخلية. ولم تقل متى ترجع...
نظرت إليه للحظة ثم تابعت صعود الدرج دون أن تصدر صوتا.
ولجت إلى غرفتها وألقت بحقيبة يدها ومعطفها على السرير ثم تأملت المكان من حولها. كل شيء مرتب كما تركته... لكم تشتاق إلى كتبها المصفوفة فوق المكتب. إلى أقلامها التي تقضي وقتا طويلا وهي ترسم بها أبطالا خارقين من صنع مخيلتها... مضى وقت طويل منذ أن رسمت آخر رسوماتها... تشعر أنها كبرت عشرين سنة أخرى فوق عمرها... رحلت عنها كل مظاهر الطفولة والبراءة ولم تعد تهتم إلا بمآسيها ووجع قلبها.
جلست على المكتب وهي تفتش عن بعض تلك الرسومات التي تخفيها بين صفحات الكتب علها تضحك ولو قليلا على سذاجتها.
وقع يدها على مغلف بني اللون. حملته وتأملته محاولة أن تتذكر ماذا وضعت به.
فتحته وأخرجت منه صورة لشباب ونساء من الأفارقة السود وهم يشحذون بالشوارع.
ارتفع حاجباها بدهشة! لم تشاهد صورة مماثلة أبدا. من أين جاءت يا ترى؟
وضعتها جانبا وأخرجت من نفس المغلف شريحة هاتف نقال. تأملتها جيدا بين أصابعها وهي تتساءل عن مصدرها ومن وضع هذا المغلف بين كتبها.
أخرجت هاتفها بسرعة وثبتت عليه تلك الشريحة في المدخل الثاني ثم شغلته لتعرف ما تحتويه.
بعد برهة وصلتها رسالة ما وكأنها كانت عالقة إلى حين تشغيل الشريحة.
فتحتها بفضول وكانت من خط محمول: "ان كنت تريدين الوصول للحقيقة... فأنا سأدلك على الحقيقة"
ماهي هذه الحقيقة التي تكررت مرتين معه! بدأت تشك أن أحدهم وضع المغلف عمدا بين كتبها لأنه يريد منها شيئا معينا!.. لكن ما هو؟.. وعن أي حقيقة يتحدث؟ تراه يقصد محمود؟
ردت على تلك الرسالة: "أي حقيقة!"
انتظرت وقتا طويلا وهي تتململ في كرسيها الدوار وتتحرك به ذات اليمين وذات اليسار دون أن يأتيها الرد.
لابد وأن أحدهم يهزأ بها أو يمازحها... لكن من تراه يكون؟.. أيعقل أنهم من شلتها! قد يكون فاروق أو رؤوف... ربما ليليا أو نادية...
زفرت بإحباط، لا ينقصها إلا مقالبهم السمجة... عادت لتتأمل الصورة أمامها... ما علاقة الصورة بالشريحة!.. لا تفهم ما يريد إيصاله لها هذا المجهول، لكن أيّا كان فلعبته مملة ولديها من المشاكل ما يكفيها..
همت بفصل الشريحة عن الهاتف. وقبل أن تمد يدها وصلها الجواب الذي كانت في انتظاره ، فتحت الرسالة فإذا برابط أزرق اللون جاهز للفتح.
ضغطت عليه فولجت صفحة ما بها فيديو. شغلته وإذا بها تشاهد مجموعة من الأسرى السود في زنزانات قذرة وهم يتوسلون سجانيهم بلهجاتهم المختلفة... فهمت منهم كلمة: "ماء" لابد وأنهم ظمأى... كانوا يمدون بأيديهم من خلف القضبان لمن كان يصورهم وهم يرددونها بإلحاح... عيونهم اللامعة بدت مترقبة وخائفة تحت الضوء المنبعث من آلة التصوير التي خمنت أنها هاتف بدقة عالية.
أصواتهم الهامسة، صرخاتهم العالية، صرير السلاسل الحديدية عندما تحتك ببعضها، أذرعهم الضامرة الممدودة في الفراغ... كل شيء في ذلك المكان بدى حقيقيا لدرجة كبيرة حتى انقبض قلبها وأحست بالأسى عليهم وعقلها يخمن معاناتهم المريرة.
من أي فيلم تراجيدي أُخِذ هذا المقطع يا ترى؟
انتقل الفيديو فجأة لثلاثة من الرجال بمآزر بيضاء وهم يجرون أحدهم بالقوة نحو مكان ما وسط رواق نظيف ذو إضاءة قوية. كانت يداه تتشبث بكل شيء تمسكه وقد حاوطه الثلاثة بشكل كامل، ثم حقنوه على ذراعه فبدأت قواه تخار شيئا فشيئا وهو يتهادى على ركب. لم تتمكن من رؤية وجوههم بشكل جيد فالكاميرا كانت منكسة والزاوية التي اختارها للتصوير سيئة. ومن السهل أن تستنتج أنها صور مسروقة تُلتقَط خفية عن الأعين.
بعدها قفز الفيديو لتصوير غرفة عمليات مجهزة. يرقد بها نفس الرجل ببطن مبقورة عن آخرها تشدها المثبتات على الجانبين لإبقاء الفوهة مفتوحة ومنظر الدماء يبعث على الرعب والقرف.
أشاحت بوجهها مقطبة وقد اقشعر بدنها بالكامل. استرقت بضع نظرات خاطفة لتشاهد القلب والكليتين في حاويات الحفظ. لم تتمالك نفسها وغادرت كل تلك المشاهد وهي تلعن صاحب هذا الفيديو... أيسعى لإرعابها... لم تحب يوما مشاهدة أفلام الرعب...
أرسلت له: "مزحة سخيفة... سأرمي بالشريحة"
رد عليها في الحال: "ما شاهدته حقيقة وليس مزحة"
لم تصدقه لكنها لم تستطع منع جسدها من الارتجاف... شعرت بدقات قلبها تتسارع وكأنها كانت في سباق عنيف.
وضعت الهاتف جانبا ومسحت كفيها المتعرقان... لقد أصيبت بالجمود والذهول وهي تسترجع كل تلك البشاعة... ما الذي يفعلونه بأولئك المساجين؟
سؤال ظل يلح عليها فأرسلته له. وسرعان ما جاءها جوابه: يبيعون أعضاءهم بمبالغ باهظة في السوق السوداء.
ثم أرسل إليها رابطا آخر لا تستطيع ولوجه بمتصفحها الحالي لأنه يحتاج إلى محرك بحث يستطيع الولوج إلى الانترنت العميقة المعروفة ب"Deep net" إنها عالم في حد ذاته، كمية المعلومات التي تحويها أوسع بكثير مما نتصفحه يوميا في الانترنت العادية. يمثل الخبراء الانترنت بجبل جليدي. والمعروف عن جبال الجليد أنها تختفي تحت المياه كليا ولا يظهر منها إلا جزء يسير نشاهده في الأفق. فيقول المختصون أن ما نتداوله يوميا من معلومات هو ما يطفو على السطح بينما كل المعلومات تختفي عميقا في الانترنت العميقة.
أهم ما يميز هذا العالم المظلم أن مواقعه صعبة التتبع و لا تخضع لأي سلطة قانونية لذا فإنك ستجد هناك كل أصناف الممنوعات. كما أنها مهد السوق السوداء...
بها مواقع لبيع الممنوعات بكافة أشكالها، مخدرات، أسلحة، المتاجرة في الرقيق... هناك أيضا مواقع تعرض صور تعذيب و اغتصاب وبطش حقيقية دون أن يتمكن أحد من الوصول لمرتكبيها وإخضاعهم للعقاب... لأن أصحابها يجلسون في الظل يراقبون في صمت بعيدا عن أي تهديد.
بها أيضا مواقع لبيع الأخبار وتسريبات من مختلف أجهزة الاستخبارات وعادة ما يدخل الصحفيون تحت اسماء مزيفة للحصول على المعلومات المنشودة غالبا بعد دفع ثمنها... و... و... و...
وغيرها الكثير الكثير. باختصار هو عالم مظلم وسخ يخفي قبح بني البشر وما قد يصلون إليه من فظاعة.
أخذت كمبيوترها من فوق المكتب مقربة إياه منها وشغلته.
تأكدت من توصيل الانترنت وقامت بتحميل متصفح "تور" كانت جاهلة تماما عما قد تجده هناك... صحيح أنها سمعت عن الانترنت العميقة لكنها لم تفكر يوما في القاء نظرة عليها.
وفي نفس الوقت أرادت أن تحمل الفيديو لتحتفظ به في هاتفها كدليل. عندما ضغطت على الرابط من جديد تعذر عليها الوصول للصفحة لأنه قد تم حذف بياناتها نهائيا. ضربت بقبضتها على فخذها: تبا
يبدو أنه لا يريد أن يترك في يدها أي دليل... عندما انتهت من تثبيت المتصفح وأصبح بإمكانها استخدامه نقلت العنوان المقدم لها فولجت لصفحة مبيعات... إنها أعضاء بشرية بأسعار محددة... كانت متفاجئة وقلبها يدق بخوف... هل ستخبر والدها بما وصلت إليه!...
في نفس اللحظة وصلتها رسالة على هاتفها: "إن كنت تريدين الوصول للحقيقة فأبقي فمك مقفلا... لكن إن أخبرت أحدا بالأمر فأنت لن تعرفي أبدا مرتكب هذه الجرائم"
وكأن كلماته تشير إلى أنه شخص تعرفه... وإلا ما الذي قد يدعوه لإطلاعها على الموضوع!
وصلت رسالة أخرى: "لا تحاولي تبليغ الشرطة أو ارتكاب الحماقات لأنني غير قابل للتتبع."
صدقته ببساطة، رجل مثله يصور تلك البشاعة ويغوص في عمق القذارة يجب أن يكون محترزا ويعمل بحرفية تامة... لم تستطع أن تتمالك أعصابها... كانت تشعر بالحرارة تفور منها ورأسها يكاد ينفجر من هول ما شاهدته وعرفته... كل هذا وهي لا تعرف الوسخ الذي يرتكب هذه الفظاعة في أبناء جنسه...
وضعت الهاتف جانبا وأقفلت الكمبيوتر وعقدت ساعديها فوق المكتب واضعة خدها عليهما... هل كان ينقصها هذا الرعب لتكتمل المشاكل!
سمعت رنين هاتفها منذرا بوصول رسالة ففتحته وقلبها يدق بعنف... لم تستطع حتى موازنة شهيقها وزفيرها!
كانت رسالة أخرى: "إن خرج هذا الخبر من بين شفاهك سيتم تصفيتك أنت وكل من قد يعرف بهذا الأمر"
سقط منها الهاتف ليقع بحجرها، لماذا يرسل لها بهذه البشاعة ثم يهددها؟.. تراها مزحة مقيتة! لماذا عقلها يرفض تصديق أنها محض مزحة!
رن مرة أخرى: "امسحي كل الرسائل وأبقي البريد بيننا فارغا. واخرجي من الموقع الذي أرسلته لك وامسحي المتصفح فلست بحاجة إليه"
فعلت كل ما أمرها به وأصابعها ترتجف بخوف... لطالما كانت جبانة تهاب الصرصور الصغير فكيف لها أن تقوى على تحمل كل ما رأته بأم عينها!
««««««»»»»»»»
نزلت نسرين من السيارة وعيونها شاخصة في الفيلا الجميلة المقابلة لها. هل هذا حقا منزل ياقوتة الجديد!.. لم تكن تتوقع أن عملها يدر عليها كل هذا المال!
رنت على الجرس ولوحت لها بالكاميرا فسمعتها تقول لها عبر المخرج الصوتي: مرحبا نسرين... تفضلي بالدخول.
انفتحت أمامها الباب أوتوماتيكيا فولجت للداخل وعيونها تتفحص الحديقة الصغيرة المزينة بالورود. مشت على طريق مرصوف بالحجارة حتى انتهت عند باب الفيلا.
فتحت لها ياقوتة بابتسامة واسعة وعانقتها بترحاب وهي تدعوها للدخول.
أول ما سمعته هو قرع حذائها على البلاط اللماع أسفل قدميها. كانت القاعة فسيحة بأثاث راقي ومميز وستائر فاخرة تشبه تلك التي تشاهدها في المسلسلات التلفزيونية.... سقط فكها من الدهشة! لم تتوقع أن ياقوتة تمتلك من المال ما يمكنها من شراء بيت كهذا!
سارت خلفها وهي تقول لها: ما رأيك بالبيت يا نسرين؟
التفتت إليها ببلاهة والدهشة واضحة على محياها: رائع... إنه رائع...
ضحكت بصوت مرتفع وأمسكتها من يدها لتستعرض عليها غرفه وملحقاته. وتتبعتها الأخرى دون اعتراض.
وبعد قليل جلستا على الأرائك بغرفة الاستقبال حول مائدة رخامية وهما تتبادلان الكلام.
قالت ياقوتة بعتاب: لم تسألي عني يا نسرين منذ فترة...
حملقت فيها الأخرى بأسف: أنت تعلمين أنني كنت أعاني...
أجابتها: وانتهت المشكلة على خير.... لكنني أعرفك قاسية وصعبة الارضاء! كيف استطاع اقناعك بالرجوع إليه وزوجته الأخرى ما تزال على ذمته؟
لم تكن تريد أن تخبرها بالحقيقة أولا لأن محمود استأمنها على سره، وثانيا لأنها مازالت تشك أن بشير الذي تعرفه والذي حدثها عنه محمود هو نفس الشخص.
قالت بابتسامة: يبدو أن الحب أعمى...
ضحكت بقوة وهي ترد عليها: لم أتوقع منك هذا يا نسرين... لقد استطاع محمود تقييدك وكسر غطرستك...
دخلت احدى الفتيات الرشيقات إلى الغرفة وبين يديها صينية بها أكواب عصير وقدمته باردا للاثنتان. حدقت نسرين جيدا بثيابها الضيقة وتنورتها القصيرة ولم تغفل عن أزرار بلوزتها المفتوحة من الأعلى بشكل يسمح لأي كان بالتفرج على مفاتنها. حولت نظراتها إلى وجهها سريعا فاستطاعت أن ترى آثار جراح غائرة على خدها شفيت ولم تبقى سوى آثارها الظاهرة.
انصرفت دون كلام ولا حتى ترحيب. فنظرت ياقوتة إلى جليستها واستطاعت أن تقرأ أفكارها من ملامح وجهها التي ترقبها بجمود.
قالت نسرين وعيونها تتبع الفتاة التي ابتعدت عن مكان جلوسهم: ما به وجهها؟
فركت أصابعها باضطراب وأجابت هامسة وكأنها لا تريد الخوض في الموضوع، ربما لأنها تعرف حساسية نسرين من عالمها المظلم: لقد تعرضت لاعتداء جسدي...
قاطعتها مقطبة بعبوس: اغتصاب!
رفعت يدها بقلة حيلة: كان رجلا ساديا...
وصمتت دون أن تقول المزيد، ولم يكن من الصعب على الأخرى أن تتخيل فظاعة ما حصل. فكما هو معروف، السادي هو من يميل للعنف في علاقاته الجنسية... من يعذب ضحاياه ويخضعهم، بل ويتلذذ برؤيتهم يتألمون ويتوجعون... إن كان أحد زبائنها كذلك فلابد وأنه اغتصب هذه المسكينة بوحشية لا نظير لها... ومن المؤكد أنه ضربها نظير نفورها منه ورفضها له!
هزت رأسها بإيماء وقد قرفت من جلستها تلك... الوضع لا يطاق. لم تستطع حتى ارتشاف القليل من كوبها... القذارة تملأ المكان رغم بريقه وبهائه... وما شاهدته حتى الآن يسرح بأفكارها بعيدا ويجعلها تفكر بأمور مقززة يقشعر لها بدنها...
قبل أن تقول أي كلمة دخلت فتاة أخرى وقالت بدلع أنثوي متأصل فيها: سيدة ياقوتة لديك زائر.
وقفت من فورها وحدقت بنسرين: سأعود فورا...
وقفت الأخرى أيضا ترتب هندامها، لابد وأن زبائنها وصلوا مبكرا اليوم! قالت وهي ترفع حقيبة يدها من فوق الأريكة: سأنصرف... قد أزورك في وقت لاحق.
لم تعترض ياقوتة أبدا: شكرا لمجيئك يا نسرين.
ابتسمت بود والتفتت من حولها تبحث عن أي مرآة أو شيء يعكس صورتها لتتأكد من أن شالها يغطي شعرها: أين يمكنني أن أعيد تثبيت شالي؟
قبل أن تغادر تحدثت إلى الفتاة الواقفة هناك. بسمة خذيها إلى المغسل.
وانصرفت على عجل وكأن هذا الزائر قد أربكها.
استضافت ضيفها في قاعة استقبال صغيرة تقع قرب مدخل الفيلا. أشارت له بالجلوس وهي تقول: مرحبا بشير، كيف حالك؟
فتح أحد أزرار بدلته الرمادية وجلس على الأريكة الفاخرة واضعا ساقه على فخذه وتأملها بابتسامة متكبرة: ربما أفضل حالا منك... هل تحسنت؟
قالها عن قصد فشاهد امتقاع وجهها العابس الذي أخفته بابتسامة مصطنعة وهي تجلس مقابلة له: أنا بأحسن أحوالي.
غمزها: ربما تكذبين!
شاهد الغضب يعلو وجهها وهي تنأى به بعيدا عنه فاستلقى بأريحية أكبر وهو يقهقه ضاحكا. وكانت نسرين تقترب من الباب لتخرج فانتبهت لضحكاته وأنصتت رغما عنها لتسمع رفيقتها تقول: كفاك ضحكا يا بشير... من يضحك أخيرا يضحك كثيرا...
رنت كلمة بشير في أذنيها فنبهت كل حواسها وتملكها الفضول لتعرفه. اقتربت ببطء لتسمعه وهو يقول: لا تغضبي فقد عوضتك عن ليلتك تلك بهذا العز الذي أنت فيه... ألا يعجبك هذا المنزل! تريدين واحدا أفضل؟
كشرت بوجهه غاضبة وقد طفح كيلها منه، لكن قبل أن تقول أي كلمة انتبهت لوجود نسرين قرب الباب فصمتت تحدق إليها بصدمة.
تداركت الأخرى أمرها فقالت: سأغادر يا ياقوتة اعتني بنفسك...
هزت الأخرى رأسها: مع السلامة.
بينما وقف بشير وحملق فيها متفحصا ثم ابتسم بوجهها بوقاحة وعاد ليحدق بياقوتة: لم تعرّفيني بصديقتك؟
دق قلب نسرين بسرعة وازدردت ريقها بخوف. فرغم أنها حاولت أن تبدو متماسكة إلا أن تقاسيم وجهه الصارمة وعيونه الخضراء المحدقة فيها بجرأة أربكتها.
قالت ياقوتة: إنها صديقتي.. نسرين.
حملق فيها مضيقا عيونه وكأنه يحاول تذكرها ثم قال بضحكة عابثة: أين التقينا من قبل يا نسرين؟
شعرت بالخوف وهي تفكر أنه ربما رآها في مكان ما ويعرفها بطريقة أو بأخرى. قالت باقتضاب: لا أعتقد أنني أعرفك.
وكررت وداعها لهما معا ثم أسرعت الخطى باتجاه السيارة التي كانت تنتظرها خارجا.
♡♡♡♡♡

فور دخولها الشقة، أقفلت نسرين الباب خلفها وألقت بحقيبتها على الأريكة القريبة وهي تطلب رقم محمود على الهاتف. أجابها بعد برهة، وكالعادة كان مسرورا لتفقدها له بين الفينة والأخرى، قال بحب: كيف أنت حبيبتي؟
بدى صوتها متزعزعا: بخير حبيبي...
وازدردت ريقها لتكمل: كيف أنت؟
لمس القلق في كلماتها فقال بسرعة: هل من سوء؟..
حاولت أن تبعد عنه الهواجس لكن قلبها كان يدق في جوفها بخوف لم تعرف له مثيل فجلست على الأريكة بتعب: لقد عدت لتوي من منزل ياقوتة...
رد عليها بقلق: ماذا حصل هناك... صوتك لا يعجبني!
أغمضت عيونها بقوة ثم فتحتهما وقالت دفعة واحدة: التقيت ببشير...
صمت للحظات مدهوشا: عند ياقوتة؟
هزت رأسها وكأنه يراها وهي تجيبه: تربطهما علاقة قديمة... كانا يحبان بعضهما في ما مضى... ولست أدري كيف تسير أمورهما الآن لكنني استطعت أن أعرف أنه هو من اشترى لها المنزل الجديد... في الحقيقة ليس مجرد منزل إنها فيلا فخمة...
صمتت أخيرا بينما كان محمود يقلب كلامها في رأسه دون أن يرد فقالت من جديد: محمود أنت معي؟
قال: هل رآك؟
أجابته بخوف: أجل تقابلنا...
قال على الفور: ماذا قال؟
أجابته بنفس النبرة المتزعزعة: سألني إن كنا قد التقينا مسبقا...
ساد الصمت للحظات ثم أردفت: لماذا سألني هذا السؤال؟.. أنا لم أره في حياتي!..
أجابها بصوت قلق: ذلك الخبيث لا يلقي بكلامه جزافا... من الواضح أنه كان يمرر إليك رسالة مفادها أنه يعرفك...
امتقع وجهها وشعرت بالوجل: أهذا معناه أنه يعرف بأمرنا...
لم يجب عن سؤالها لكنه قال بصرامة: جهزي أغراضك... سآتي لاصطحابك معي بعد لحظات...
اندهشت من قراره المفاجئ وقبل أن تسأله إلى أين سيأخذها كان قد أقفل الخط بوجهها على عجل.
عندما التفت خلفه وجد والده واقفا وهو يحاول اشعال سيجارته. وبعد أن سحب منها نفسا قال له: إلى أين ستأخذها؟
حاول تجاوزه دون تقديم جواب لكنه عاد وتوقف بقربه: أيهمك أمري!... أتكترث لما أعانيه حقا! أم أنك فقط تتسلى برؤيتي أعاني بين المطرقة والسندان...
أجابه بلا مبالاة: لمعلوماتك... بشير سيجدها أينما خبأتها...
قال له بتحد: سآتي بها إلى هنا...
نظر إليه بعبوس ورد بصرامة: هذا منزلي ولن أستقبلها فيه.. جد لها مأوى غيره...
بدى مصرا: أنت من سيوفر لها الحماية يا أبي وهنا بين جدران منزلك لأنني لن أحتمل أن يصيبها أي مكروه...
انتفض بعصبية: ولماذا قد أفعل هذا يا ترى؟
رد عليه بصوت هادئ: لأنها تحمل في أحشائها حفيدك...
صمت محسن للحظات يحدق بابنه وكأنه يتأكد من صحة الخبر، وكانت عيون الآخر متحدية لم تشي بكذبته. وبعد هنيهة قال: لا أريد حفيدا من امرأة لا أصل لها ولا فصل..
أجابه عن قناعة: قد لا تحظى بحفيد غيره... وواجبك أن تحميه.
صمت محسن دون أن يقول كلمة، بينما غادر محمود على عجل وهو يقول: اجعلهم يجهزون لها غرفة تليق بها...
وصله صوت والده قبل أن يخطو خارجا: بل جد كذبة مقنعة لمروى تبرر لها وجود الأخرى هنا..

*******

أعتمت السماء في ليلة اختفى فيها القمر خلف الغيوم. وتساقطت بعض الثلوج منذرة بشتاء بارد. وقفت مروى عند النافذة آخر الرواق تتأمل المشهد وهي تحيط جسدها بذراعيها مع أن الجو كان دافئا بالداخل... ربما ما يثير رجفتها هو تلك الرسائل الغريبة التي وصلتها تباعًا من رجل مجهول نجح في إثارة فضولها بشكل كبير...
ما شاهدته جريمة ضد الانسانية. ومرتكبها يستحق الشنق لقاء ما اقترشفت يداه... كانت تسأل نفسها كيف للإنسان أن يتصرف بمثل هذه الوحشية لقاء مكاسب مادية!
لماذا تراه اتصل بها وأطلعها على الأمر!... كان الأحرى به أن يأخذ الدليل الذي في حوزته إلى الشرطة ويبلغ عن هذه الجريمة!
هذا الذي وضع المغلف مع الصورة بين أغراضها، لابد وأنه يعرفها حق المعرفة!.. كيف تجاهل أنها رغم سنها مازالت تتصرف كطفلة مدللة لا طائل منها! فكيف يتوقع منها أن تتصرف باحترافية مع قضية كتلك!.. تريد فقط أن تعرف من يفعل بها هذا...
قبل قليل جمعت الخادمات وقامت بسؤالهن واحدة واحدة عن الظرف وجميعهن أنكرن تواجده في الساعة التي قمن فيها بتنظيف الغرفة... هي تعلم يقينا أن من وضعته ستكون كتومة لأنه على الأغلب قد تم شراء سكوتها...
وجدت نفسها تتخبط بعشوائية في أفكارها دون أن ترسو على فكرة واضحة... إن كان يريد الصمت فهي ستلتزم الصمت التام بانتظار المزيد... إن كان حقا هذا المجهول سيكشف لها عن حقيقة لا تراها عيونها ففضولها سيدفع بها لانتظار القادم بصبر.
سمعت وقع خطوات تقترب من بعيد فالتفتت على إثرها، لترى لؤي وهو يقبل من بعيد يمشي على مهل بخطواته التي تجدها مليئة بالكبر، وهذا شيء يتنافى مع كونه أحد خدام القصر، ففي دستورها لا يتكبر إلا أصحابه... أكثر ما يثير حنقها تجاهه هو قربه الشديد من والدها وتعامله الدائم معه فهو ملم بكل أسراره... دائما كانت تجده حجر العثرة في طريقها كلما حاولت التواصل معه. كان يخبرها بجفاف: "معذرة... السيد مشغول"... "آسف لا يمكنك الدخول، طلب ألا يزعجه أحد".. كانت تصيح في وجهه بغضب: "حتى أنا !!!!" فيرد ببرود يغيظها: "لم يستثن أحد..."
دائما يبعث في نفسها شعورا بأنها شيء ثانوي بعد أن كانت كل شيء في حياته ومدللته الوحيدة... شعرت بأنه نفض بها الحصيرة ليتربع هو مكانها. لطالما عبرت عن سخطها منه لوالدها وطلبت منه بصريح العبارة أن يصرفه، إلا أنه كان يرد أنه رجل كفوء وهو يثق به، ويطلب منها ألا تغضب منه لأنه فقط يؤدي عمله...
حملقت فيه بصمت وحاجبيها معقودان أمامها، كانت تلك النظرة التي تخصه بها دون غيره، فهي لا تواري ضيقها منه ومن تواجده ولو مجاملة...
قال لها باحترام: السيد يسأل عنك إنهم حول طاولة العشاء.
مرت من أمامه كالريح وصوت حذائها يغتال صمت المكان حتى تجاوزته دون أن تقول كلمة. في ما كان هو يفتح باب غرفته دون أن ينتظر منها أي رد وكأنه يعلم مسبقا بردة فعلها تجاهه.
عندما وصلت إلى قاعة الطعام رحب بها بشير بذراعين مفتوحتين ودعاها لحضنه مثلما يفعل كلما التقى بها، تحت أعين أمها الساخطة... ليس حسدا لابنتها على تلك المكانة التي تحظى بها في قلب والدها ولكن قهرا مما وصل إليه حالهما... فاليوم هي تتمنى أن يحبها ربع ما يحب ابنته، ربما كانت ستعيش سعيدة بهذا القدر من الاهتمام...
قال لها وهو يبعدها عنه قليلا ويتأملها: كيف أنت يا صغيرتي... أخبريني هل يعتنون بك هناك؟
ابتسمت برقة وهي تجيبه: أجل أبي... أنا بخير...
لم يبد له أنها كما تقول فهو أكثر من يعرفها من نظرات عيونها، قال بريبة: لا تبدين كذلك!..
لم تكن تريد لأحد أن يعرف بما تعانيه، فمنذ أن تزوجت محمود وعدت نفسها أن تتحول لامرأة ناضجة وأن تحل مشاكلهما معا دون تدخل أحد، خصوصا وهي تعرف أن والدها سيقلب الدنيا فوق رؤوسهم وستسوء علاقته معهم أكثر إن علم بإهمال زوجها لها... وقد يطلقها منه ولن يتسنى لها فرصة إصلاح ما بينهما...
قالت بتعب: أنا مريضة...
أجابها وهو يفكر بينه وبين نفسه أنه ربما تكون حاملا: رأيت طبيبا؟
هزت رأسها نفيا وهي تجيبه: ليس من داع... أيام وسأكون على أحسن ما يرام.
رجحت لديه فكرة أنها قد تكون حاملا وشقت شفتيه ابتسامة انتصار، فقريبا سيرزق بالحفيد الذي يتمناه قلبه والذي سيستلم زمام امبراطورية عظيمة صنع أمجادها جديه معا...
سحب لها كرسيا وجعلها تجلس مكانها وهو يربت عليها كطفلة صغيرة... عادت بها الذكريات لأيام الصبى فمنذ أن وعت على الحياة وجدت أبا محبا منحها أجمل ما في الوجود لم يكن ينقصها شيء فدائما حظيت بالأفضل لكن الأيام غدرت بها وها هي تذوق مرارة أن تحب من لا قلب له.

*****

كانت تنام على سريرها في سكون ووالدتها سامية بقربها تلاعب خصل شعرها وهي تذرف دموعها في صمت وتهمس بين شفاهها بالتياع: يا بنتي يا قطعة من روحي... ماذا أفعل كي أراك سعيدة يا غاليتي!
تحركت سهام في فراشها بتعب فغطتها بعناية وتحسست جبينها وهي تسترسل في ذرف دموعها على ابنتها التي أضحت خيال أنثى ليس لها وجود...
إنها تعاني ويستنزف الألم منها كل رغبة في الحياة. فبعد فقدانها لابنها أصبحت أشبه بالمجانين... تحدث نفسها، تصرخ، تتصرف بعدوانية، وتخرج من المنزل لترتكب الحماقات مثل جلوسها منذ الصباح تحت المطر في الحديقة حتى أصيبت بالمرض...

********

وصلا إلى حديقة القصر فأوقف السيارة ونظر إلى عيونها التي كانت مرتعبة تحمل بريقا آسرا، ثم وضع كفه على خدها وهو يقول: نسرين... حبيبتي. لن أرتاح حتى تكوني بقربي وأضمن أنك في مأمن من كل سوء...
قالت بصوت يشارف على البكاء: في منزلك!.. مع زوجتك!..
تنفس بعمق وهو يخلل أصابعه في شعره بقلق: اطمئني هي لن تعرف...
تساقطت الدموع من عينيها: ولكنني أعرف...
واختنقت بعدها بالبكاء، فضمها إليه بحب مواسيًا لها بصوته المتعب: ليس أمامي أي حل آخر يا نسرين... هنا على الأقل ستكونين بأمان فأبي لن يسمح لبشير بأن يلمس شعرة منك. وهو الأقدر على مجابهته...
حدقت فيه باستفهام، فأردف بقلة حيلة: أخبرته أنك حامل...
شهقت وناظرته بضيق: أنت تعلم أن هذا غير صحيح!
قاطعها بإلحاح: علينا كسب دعمه، وبغير طريقة ما كنا لنجعله يقف معنا بأي شكل من الأشكال...
صمتا طويلا وهما يراقبان البرق في السماء ثم نطقت وعيونها تتيهان بعيدا: إذن فهو يريد حفيدا له..
أجابها: أعرف أبي.. لا شيء سيسعده أكثر من حفيد يملأ عليه البيت صخبا...
امتلأت مآقيها بالدموع رغم أنها تكافح لتكون قوية: أنا أيضا أريد هذا لكن... لم يحصل...
قبل جبينها ببطء ومسح دموعها بإصبعيه: مازالت الأيام أمامنا...
ثم أردف بحب وهو يشد على يدها الباردة: لا تخافي يا عمري... لن يؤذيك في منزلي أحد، فأنا سأكون إلى جوارك دائما...
حركت رأسها تومئ بالإيجاب فوضع شفاهه على يدها مقبلا لها ببطء، ثم عاد ليتأملها مع ابتسامة مطمئنة: هيا حبيبتي... لابد وأن أبي ينتظرنا.
نزل من السيارة وفتح لها الباب. فوضعت قدمها خارجا ليمد يده إليها ويساعدها على النهوض، سارت بجانبه تتأمل تلألؤ الحديقة تحت الأضواء فشعرت بذراعه تحتويها دون أن يقول كلمة. لم تكن تريد اقتحام عالمه ولا الخوض فيه... شعرت بخوف شديد ورهبة عارمة وهي تجهل ما ينتظرها هناك.

******

نظرت مروى إلى الساعة الكبيرة التي تزين القاعة الفسيحة ، إنها الحادية عشرة وهم في جلسة أنس رفقة عدد من أصدقاء العائلة المقربين.
عادت وحطت بنظراتها على الجلوس هناك، أمها منشغلة بالنميمة مع السيدتان اللتان تقاربانها سنا تقص عليهما أخبار زوجة وزير الداخلية التي كانت عندها عصر اليوم. ووالدها يتباهى بذكائه وحسن تدبيره أمام صديقيه ومدير أعماله، وعلى الشرفة يقف شاب وفتاة يبدو أنهما يجدان انجذابا كبيرا بينهما وسيتم مباركة تقاربهما تماما مثلما حصل معها ومحمود قبل سنوات، لأن العائلات الثرية تدعم زواج المصلحة من أجل الحفاظ على الثروات... ارتسمت على محياها نصف ابتسامة ساخرة... فقبلاً كانت تتخيل حياتها ومحمود مثل حكايات الأساطير، حب وغرام وسعادة لا تنتهي... من كان يعتقد أنها ستصبح بهذه التعاسة وهي إلى جواره!
قامت من جلوسها ذاك فلفتت الأنظار إليها. عندها ابتسمت برقة وقالت: أشعر بالتعب.. سأعود إلى المنزل...
قالت أمها بإصرار: ابقي للمبيت الليلة... بكل الأحوال تأخر الوقت...
هزت رأسها نفيا وهي تسحب نفسها باتجاه غرفتها لتأخذ حقيبة يدها وبعض أغراضها: في المرة القادمة أمي...
كانت تمسك بالهاتف في يدها لم تتركه للحظة واحدة وهي تتوقع أن تصلها رسالة نصية جديدة أو أي إشارة تثبت لها أن الرجل المجهول مستمر في لعب لعبته... لكنه أوقف كل شيء فجأة وكأنه تراجع عن خطته أو أنه ينتظر ما سيبدر منها ليرسي خطوته المقبلة... على كل حال يجب أن تكون حذرة في تصرفاتها وتنتظر بصبر...
عندما رجعت بأغراضها وجدت والدها يقوم بتوديع ضيوفه رفقة زوجته المحبة ريماس ويديهما مشتبكان معا يرسمان صورة مزيفة لأسرة متماسكة ومتعاضدة... والله وحده يعلم ما يخفيانه عن العيون...
اقترب منها الشاب والفتاة وكانا صديقيها منذ أيام الطفولة . مازحاها طويلا محاولين السؤال عن سبب عبوسها لكنها كانت كتومة وعزت شحوبها إلى المرض...
غادروا جميعا فاقتربت من والديها واحتضنتهما إليها معا وهي تقول بحشرجة: هكذا أريدكما دوما معا... وليس فقط رياءً أمام الغرباء...
تأثرت ريماس لشجن ابنتها وداعبت شعرها ثم قبلتها وهي تقول: نحن بخير حبيبتي... مجرد مشاجرات أزواج فلا تكترثي لمشاكلنا... كوني سعيدة وحسب.
هزت رأسها مومئة بينما ربت والدها على كتفها بيده الخشنة وهو يقول: أخبري محمود أن يعتني بك... لأنه لو لم يفعل سأعاقبه بأسوأ طريقة.
ضحكت ظنا منها أن والدها يطلق دعابة ما ولم تكن تعلم أنه صادق في وعيده وهو يترصد الأخطاء لهذا الرجل واضعا إياه تحت المجهر...
يعلم جيدا بشأن نسرين، لكن هذه المرأة لن تشكل بالنسبة له فرقا فمحمود سوف يمل منها ويلقي بها سريعا مثلما فعل هو وكذلك محسن مع عشرات النساء من قبل...
كما قالها هو من قبل "لكل رجل أسرار..." ونسرين سر من أسرار محمود سوف ينتهي في يوم من الأيام ولن يضره وجودها مادام يعتني بابنته ويسعدها... فقط سوف يبقيهما تحت ناظريه ليتجنب المفاجآت...



noor elhuda likes this.

بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 23-08-21, 10:15 PM   #42

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي


الفصل السادس عشر

دخل محمود الفيلا الكبيرة من بابها الرئيسي ومن ورائه كانت تسير نسرين بحذر متأملة فخامة المكان وهي ترجو في قرارتها ألا تلتقي بمروى حتى لا تتجرأ على مغازلة محمود أمامها لأنها بكل تأكيد ستفقد أعصابها وتصاب بنوبة ما.
تعمدت التخلف عنه حتى يخبر والده بقدومها، وتماطلت عند المدخل حتى شاهدته يرجع أدراجه إليها فأمسك بكفها وهو يقول: حبيبتي، ما يبقيك هنا!
لاحظ وجومها الطويل نحو الواقف خلفه فالتفت ليجد والده واقفا عند مدخل قاعة الاستقبال الثانية ينظر إليهما بعيون حادة جعلتها تشعر بالخوف مما هو قادم.
قال لها محمود: أعرفك هذا أبي...
ردت بصوت خفيض: تشرفت بمعرفتك.
أومأ الآخر برأسه دون أن ينطق بكلمة، فأحست أنه غير مرحب بها هنا في هذا المنزل، وتمنت لو أنها لم تترك شقتها أبدا. بينما وقف محمود بالقرب منها حتى أصبحا في مواجهة والده معا وطوق خصرها بذراعه وهو يقول: هذه نسرين المرأة التي تزوجتها عن حب وقناعة... أتيت بها إلى هنا لتكون في مأمن من بشير وما قد يلحقه بها...
وصمت مترقبا ما سيقوله والده الذي كان يضحك منه في قرارة نفسه، فكما يبدو ابنه الصغير مازال يؤمن بخرافة الحب... إنه كولد يصدق بوجود الغول الذي يلتهم الصغار الذين لا يسمعون كلام والديهم...
كم سيمر من الوقت يا ترى حتى يعرف أنها امرأة كغيرها من النساء... ويستبدلها بأخرى أصغر منها سنا وأبهى منظرا تمتعه بشكل مختلف!
لم يعلق على كلام ابنه وإنما بقي ينظر إليهما بطريقة فيها شيء من السخرية ما جعل محمود يستعجل الانصراف، فنظر إلى عيون زوجته المذعورة وقال بصوته الذي يبعث الأمان في أوصالها: هيا لترتاحي...
هنا نطق والده: ليس الآن.. هناك ما أريد التحدث به..
وانصرف ليلحقا به. في ما شعرت نسرين بمغصة حادة في أمعائها وتسارعت دقات قلبها خوفا مما يريد هذا الرجل التصريح به.
جلس ثلاثتهم على أرائك متقابلة في ركن تزينه ستائر ذهبية تغطي الجدار بتموجات متناغمة حولها أثاث يلمع ببريق يأسر الأنفاس.. كل شيئ هناك يتسم بالرقي والفخامة لكن لا شيء يريح قلبها المذعور منذ أول خطوة أرستها في هذا المنزل...
قال محسن بتكبر وهو يوجه نظراته إليها: لابد وأنك تعرفين بشأن مروى... من المرجح أن محمود أخبرك كل التفاصيل...
هزت رأسها موافقة ولم تستطع أن تصدر أي صوت في ما تابع محسن كلامه: يجب أن يكون لتواجدك هنا مسوغ مقبول... ودون إثارة ريبة أحد... لذلك قررت أن تكوني مدبرة المنزل الجديدة... وغرفتك ستكون بآخر الرواق مع باقي غرف الخدم.
قاطعه محمود بامتعاض: أنا لم آت بها إلى هنا لتخدم أحدا... وأرفض رفضا قاطعا أن تجعلها تقيم مع الخدم...
نظر إليه من زاوية عينه ثم قال: كانت أمك في ما سبق هي من تدير شؤون الخدم وتهتم بتفاصيل المنزل، وبعد رحيلها وظفت من يشرف على الخدم حتى تسير الأمور هنا بطريقة سليمة... ولأنني أعلم أن مروى لا طائل منها في مثل هذه الأمور لم أفتح معها هذا الموضوع... يجب أن تشكرني أنني أوليت زوجتك زمام بيتي....
بارع دائما في تلميع أفكاره، لطالما كان دبلوماسيا في طرحه للقضايا! قالت نسرين بصوت متزعزع: أنا أقبل بهذا...
صمت محمود لقبولها ثم عاد واحتج مرة أخرى: زوجتي لن تتشارك رواقا واحدا مع باقي الخدم. ستكون غرفتها الخاصة بأول الرواق الثاني وسآمر بتجهيزها حالا...
استاءت من تقليله من شأن الخدم وأحست أنه متكبر كوالده فأرادت أن تضع حدا للأمر: وما بهم الخدم! إنهم أناس مثلنا يسعون لكسب رزقهم!!!
رفع محسن حاجبه وقال بما يشبه الضحك: يبدو أنك لا تفهمين أنه يريد لك غرفة بعيدة عن الأعين ليدخلها وقتما يشاء دون رقيب... أنا أعرف ابني أكثر منك.
تخضبت وجنتيها باللون الأحمر وشعرت بحرارة تسري في جسدها من فرط الخجل، فما يقوله محسن يجعلها تشعر أنها عشيقة لمحمود يواعدها مسارقة لا زوجة شرعية له...
في ذات الوقت حملق محمود في والده بقلة حيلة فهو يعرف مسبقا أنه لا يجد حرجا في فتح أي موضوع يريد النقاش فيه حتى وإن كان الأمر يعد وقاحة منه.
وقف أخيرا ومد يده إليها فتعلقت بها ولحقت به وهو يغادر المكان هامسا لوالده بأدب: عن إذنك...
كان ينظر إلى كليهما باستخفاف فهو لا يؤمن بعمق الأحاسيس التي تجمع بينهما، لأنه وببساطة رجل سطحي عاش حياة مملة خالية من أي نوع من العاطفة الحقيقية... لطالما كانت تخبره زوجته أن يسأل الله أن يمن عليه بقلب لأنه لا قلب له...
دخلت نسرين الغرفة مع محمود فأقفل الباب ووضع الحقيبة أرضا ثم اقترب منها واضعا كفيه على ذراعيها وهو يتأمل عيونها التي باتت زجاجية من تجمع الدموع فيها: حبيبتي.. لا تبالي بوالدي... ستتعودين على طباعه صدقيني...
انفجرت باكية وهي تردد بحشرجة: أخرجني من هنا أنا أرجوك...
ضمها إليه بأسى وهو يقول: نسرين تحملي لأجلي... لن أستطيع حمايتك وأنت بعيدة عني...كيف سأطمئن عليك وأنت مهددة بالخطر في كل لحظة...
هدأت قليلا فأبعدها عنه ونظر إلى دموعها المنسابة على خدين بلون الورد وقال من جديد: نسرين، علينا أن ندعم بعضنا للخروج من الأزمة منتصرين... لقد جمعت بعض الملفات وسأعرضها قريبا على الرجل الذي حدثتك عنه من فرقة مكافحة الفساد وأرى رأيه بالموضوع..
قالت بارتياب: هل استطعت الوصول لدليل ملموس عن متاجرتهم بالأعضاء البشرية؟
قال ساخطا: مستحيل. فتلك مصادفة لن تتكرر... بشير يخفي تلك الجرائم بطريقة احترافية... إنها مجرد تجاوزات قانونية أعرف أنها لن تسبب له الكثير من المتاعب... لكنني أريد زعزعة استقراره عله يرتكب الأخطاء التي تمكننا من فضح جرائمه...
مسح على ظهرها بحنو وهو يقول: سأطلب من إحدى الخادمات توضيب الغرفة من أجلك... ارتاحي وحسب...
قبل أن يغادر أمسكت بقبضته فرجع إليها متسائلا... عندها حملقت فيه بقهر وقالت: هل زوجتك بالمنزل؟
قبل جبينها متجاهلا ما ترمي إليه: أنت هي زوجتي...
رفعت عيونها تنظر إليه وحمى الغيرة تجتاحها: أقصد مروى...
هز رأسه دلالة على عدم معرفته ثم قال: لا أعتقد أنها رجعت من زيارة أهلها بعد!
صمت للحظات ثم همس لها: تعلمين أنني أحبك أنت لا داعي لأن تغاري...
وخرج من هناك متوجها إلى والده الذي كان يرحب بقدوم مروى وسمعه يسألها عن أخبار صديقه المجرم الآخر فتراجع عن مناقشته في شأن نسرين واكتفى بالصمت التام وهو يسير ناحيتهما.
ابتسم محسن وهو يحدث مروى: محمود كان في انتظارك... لقد قلق لتأخرك في العودة..
نظرت إليه بتوجس: لكنه لم يتصل ليسأل عني!
أكمل محسن بتعابير أغاظت محمود أكثر: أنا من طلب منه ألا يزعجك...
شعر أن والده يصب الزيت على النار، فبما أنه يمتلك وقت فراغ كبير سيقضيه في إشعال نيران الفتنة بينه وبين نسرين، التي ستنهشها الغيرة نهشا عندما ترى تحفز مروى تجاهه بسبب ما يخترعه محسن من أكاذيب.
بقيت مروى تحدق بمحمود بتيه وكأنها تستقرئ تعابير وجهه لكن محسن عاد وقال: يجب أن أخبرك مروى أننا حصلنا على مدبرة منزل جديدة...
ردت بلا مبالاة: جيد...
ثم استأذنت دون كلام وتوجهت إلى غرفتها وعقلها مشغول بكل ما مر بها نهار اليوم. عندما ولجت الغرفة ألقت بحقيبة يدها على الأريكة وأخذت الهاتف لتتأكد من وصول رسالة جديدة لكن لا شيء. وكأن ذلك المجهول يتعمد الضغط على أعصابها.
بعد قليل دخل محمود فتأملته بصمت بينما كان يشيح بنظراته عنها لأنه يكره شعوره بالضآلة عندما تنعكس صورة أكاذيبه في مرآة عيونها... أصبح يقرف من الوضع الذي هو فيه... لطالما كره تلاعبات والده مع أمه المتوفاة ولم يعتقد أنه في يوم من الأيام سيخلفه في جوره. فها هي مروى تدفع ثمن خطايا والدها دون سبب... كلما شاهد دموعها المقهورة تذكر عذاب أمه وانهيارها منذ وعى على الحياة حتى اليوم الذي فارقتها فيه...
وضعت الهاتف جانبا وبقيت تنظر إليه بابتسامة ودودة يعرفها جيدا. وضب أغراضه بسرعة وتوجه إلى الحمام دون أن ينطق بكلمة. وعندما اختفى من أمام ناظريها شعرت بوهن ركبتيها... لا بد وأنه يتجنبها حتى ينام هذه الليلة أيضا موليا إياها ظهره متجنبا فتح أي موضوع معها ويتحجج كعادته بالتعب والارهاق وربما يشاجرها لسبب تافه حتى ينهي يومهما دون أي مشاعر ولا أي تواصل... لاحظت جيدا أنه قد أصبح أكثر بعدا عنها من أيامهما الأولى معا وليست تعرف السبب... أصبحت مؤخرا تشك في أن انطواءه المرضي هو ما يسبب عزوفه عنها... إنها بغريزتها الأنثوية تستشعر وجود أخرى بحياته لكنها غير متأكدة من ذلك ويظل الأمر محض وساوس تنتابها كلما استشاطت غضبا من بروده الغير مبرر...
زفرت بغم وحملقت بالغرفة من حولها ثم اقتربت من الخزانة وارتدت ثياب نومها... عندما تأملت نفسها في المرآة لم تجد مسوغا واحدا يجعله ينفر منها. إنها تعرف جيدا أن الرجل يختلف تماما عن المرأة من ناحية المشاعر، فالمرأة لا تقبل إلا على رجل تحبه وتكون راغبة به. بينما يقبل الرجل على كل امرأة فاتنة تغري غريزته ولا حاجة لأن يحبها بعد ذلك، وقد ينتهي دورها في حياته حالما يكتفي منها...
إنها تتساءل، إن كان محمود قد توقف عن حبها فما الذي يجعله غير راغب فيها رغم أنها متاحة أمامه وهي على هذا القدر من الجمال؟... أمامها فرضيتان اثنتان: إما أن مرضه ليس فقط نفسيا وهو يعاني من ضعف جسدي يجعله مدبرا عنها على الدوام، وإما أنه يخلص لامرأة ما يعشقها بحق...
أحرقت الفكرة الثانية قلبها وضج صدرها بمشاعر الغيرة ولم تستطع أن تتخيل أنها حقيقة...
بعد بعض الوقت دخل الغرفة وقد انهى استحمامه وجفف شعره مرتديا بيجامة نومه. كانت ممددة على السرير بطريقة مغرية لكنه لم ينظر إليها وأسرع بالجلوس على الطرف الآخر وأطفأ المصباح قبل أن يستلقي مكانه لتعرف أنه يريد أن ينام... ليس في وسعه أن يخدع نسرين وقد أتى بها مجبرة غير مخيرة... كيف له أن ينظر بوجهها صباحا وهو يعلم أنه قد تلاعب بمشاعرها ليلا. وكيف قد يمنح للأخرى أملا لا جدوى منه... على الأقل بتحكمه في مشاعره وتوظيفها على منحى صحيح سيخرج في النهاية بأقل الخسائر... لن يخسر نسرين ولن يكسر قلب مروى مرتين.. ربما ستتعود هذا العزوف منه وقد تريحه من تلك الورطة التي هو فيها وتقرر الانفصال عنه بلا مشاكل ودون أن تؤلب والدها ضدهم ليعجل بيومهم الأسود...
زفر بتعب حتى تفهم أنه مرهق دون أن يتجادلا. ولكنه تفاجأ بكفها تتحسس ذراعه التي فوق الغطاء بقلق. فتح عيونه بحذر وكانت الغرفة مظلمة إلا من ضوء المصباح الخافت على النضد بقربها.
قالت بصوتها العذب: محمود... ما يتعبك...
ليته يستطيع الصراخ ليقول: أنت وهي.... ووالدك قبل الجميع!
رد عليها باقتضاب وهو يغمض عينيه: صداع رهيب في رأسي...
شعر بها تتحرك من خلفه تأهبا وهي تقول: أحضر لك دواءً؟
أجابها على الفور: أخذت أقراصا مسكنة... نامي وارتاحي...
تحسست جبينه بكفها وهي تهمس له عن قرب: الحمد لله لست مصابا بالحمى...
لم يجبها حتى لا يستمرا في تبادل الكلام وحاول أن ينام حتى يرتاح من كل ما هو فيه... شعر بها تندس في فراشها بعد برهة واحتضنته بذراعها في نومه حتى أشفق على قلبها من سهام خداعه... قد يكون مجبرا لكنه يعرف جيدا أنه في مرحلة ما سيحطم قلبها الهش ويمشي فوق حطامه ليبني غدا أفضل مع امرأة غيرها يهبها كل أحاسيسه... يفكر أحيانا في مصارحتها ليحرر نفسه من إذنابه في حقها لكنه ينكص على عقبيه كلما تذكر سطوة والدها وإرهابه...
لم يعرف في تلك الليلة كيف استطاع أن ينام بتلك السرعة.. ربما معاناته من تثقل عليه كاهله وتشعره بالتعب...

استفاق صباحا على صوت منبه هاتفه. فقفز من سريره وجهز نفسه للخروج ثم ترك الغرفة بعد أن شاهد مروى تستفيق أيضا وسبقها إلى غرفة الطعام وعيونه تبحثان عن نسرين والتي من المؤكد أنها بدأت تعمل في وظيفتها الجديدة.
ألقى التحية على والده الذي كان يقرأ الجريدة فرد عليه دون أن يرفع نظره عن تلك الأسطر.. ثم جلس إلى جواره وسرعان ما دخلت إحدى الخادمات تدفع بعجلات طاولة متحركة رصفتها قرب الطاولة الكبيرة وراحت تضع الأطباق وترتبها بعناية. ثم ولجت نسرين في ملابس محتشمة ساترة شعر رأسها وألقت التحية ولم تتمالك نفسها فابتسمت في وجهه تلك الابتسامة التي تنسيه همه فدبت السعادة في قلبه حتى كاد يثب عليها ويعانقها وهو الذي ظن أنها عاتبة عليه وستخاصمه من شدة غيرتها وقد أمضى الليل مع امرأة غيرها وتحت سقف واحد معها...
وقفت تراقب ما تضعه الخادمة فهي التي يجب أن تشرف من اليوم فصاعدا على طعام العائلة وهمست لها بأن تضع صحنا بالقرب من محمود وتفاجأ أن وجد به الكعك الذي يحبه والذي تعودت أن تصنعه له طوال أيام زواجهما. ابتسم بفرح ونظر إليها بلهفة ثم تمالك نفسه وقال: شكرا لك...
كانت هي سعيدة لوجهه البشوش الذي افتقدته بعد أن نالت منه الأيام، وعزّت نفسها فيه بابتسامة صادقة ارتسمت على شفاهه فحتى لو كان بعيدا المهم أن يكون سعيدا...
التفتوا جميعا إلى الباب على صوت كعب عالي يطأ الأرض بخطوات متناغمة، ودخلت مروى في أبهى حلتها بثوب قصير يكشف ركبها وشعرها الناعم مصفف كذيل حصان وهي تسير بخيلاء. مشية تعلمت فنونها منذ الصغر، تزاوج بين الأناقة والسلطة... بين دلع أنوثتها وسطوة نفوذها....
قبلت محمود بحب وهي تهمس له: كيف أصبحت حبيبي؟
أغمضت نسرين عيونها قبل أن تلتقطها عيونه التي مالت باتجاهها سريعا ثم ازدرد ريقه وقال بهمس: بخير...
جلست على كرسيها وهي تعاتبه: ما بك يا محمودي... لم تسحب لي الكرسي كعادتك!
ثم نظرت إلى محسن الذي وجد ما يسليه منذ الصباح الباكر... فعلى ما يبدو قبوله بقدوم نسرين كان أعظم خطوة قام بها لطرد الملل...
استوت في جلستها وقالت له: كيف أنت يا عمي نمت جيدا؟
قال بمكر وهو يغمزها: يبدو أنك من نام جيدا... هذا واضح من وجهك المشرق... الحب يشع أينما حل...
ضحكت برقة لما يرمي إليه هذا الأشيب كثير الوقاحة، ولم تشأ أن تعقب على كلماته تلك، فحياتها الخاصة لن تقحم فيها أحدا مهما كان.
شعر محمود بمناوشات والده، وعرف أنه يتعمد إشعال فتيل الحرب بينه وبين نسرين التي كانت في تلك اللحظة تشعر بحرارة شديدة وتخضب وجهها بالأحمر حتى أصبحت كبركان على وشك الانفجار.
أخذت مروى قضمة من الكعك الذي في صحن محمود وبعد أن مضغتها صاحت باستياء... ما هذا! ثم حدقت في الخادمة التي كانت تضع الأطباق بحدة وقالت: تحتوي كثيرا من السكر وكذلك الشكولاتة!... جميعكم تعلمون أنني آكل طعاما صحيا قليل السعرات الحرارية... هل تريدون جعلي بحجم الفيل!!!
تأسفت الخادمة بتلكؤ والتزمت الصمت بينما قالت نسرين وهي تعقد ساعديها: أنا من أعددت الكعك...
حدقت فيها بعدم اكتراث ثم قالت لمحسن: أحضرت خادمة جديدة؟
رد وابتسامته المتسلية تتسع: إنها مدبرة المنزل الجديدة... اسمها نسرين.
قالت وهي تقرب صحنها منها: عليها أن تعرف الخطوط التي تسير عليها هاته العائلة قبل أن تبدأ بإظهار مهاراتها...
ثم التفتت إليها وتابعت: آمل أن كلامي لم يضايقك... لكن عليك أن تعرفي كيف تسير الأمور هنا قبل كل شيء... في المرة القادمة دعي الطاهية تقوم بعملها فهي تعرف ما يجب عليها إعداده لكل فرد من أفراد العائلة...
ثم حملت الصحن ووضعته قرب الخادمة وأمرتها: احمليه إلى المطبخ... لا أعتقد أن هذا الأكل صحي لأي منا...
ذعرت عندما زمجر محمود بغضب: أعيدي الصحن إلى مكانه...
حملقت فيه بعدم فهم فرأت شرارات من اللهب الأصفر تتقافز في تلكما الحدقتين الذهبيتين... ورددها كرة أخرى بصرامة: قلت ضعي الصحن مكانه.
تمتمت دون أن تفهم سبب تقلبه ذاك: محمود!!!
ثم أخذ الصحن بعنف وحطه مكانه. وفي تلك اللحظات غادرت نسرين مع الخادمة قبل أن تسبقها دموعها... وبقي الثلاثة وحدهم، فصرت مروى على أسنانها وقالت بحنق: لماذا حدثتني بتلك الطريقة أمام الخدم!
رد عليها ولم تهدأ ثورته: لا تتدخلي مجددا في ما أريده وما لا أريده.
ثم وقف دافعا الكرسي بعنف وأخذ من الصحن كعكة وغادر.
التفتت إلى محسن باستفهام عله يفسر لها أكثر فرفع حاجبيه بلامبالاة وقال: هو زوجك وأنت أدرى به...

خرج من الباب الرئيسية ثم دخل المطبخ من الباب الخلفي عبر الحديقة... وجد الطاهية ومعها الخادمة تتهامسان حول ما حدث للتو، ويبدو أنهما لم تتوقعا قدومه فبهت لونهما وذعرتا فور رؤيته.. سألهما عن نسرين فقالتا أنها في المغسل عندها انصرف باتجاه المغسل وهناك وقف يطرق على الباب. وبعد لحظات فتحت له وعيونها حمراء من ذرف الدموع. تفاجأت حقا عندما شاهدته هناك وشهقت خوفا من المشاكل التي قد تلحقها بسبب تصرفه اللامبالي. قالت بسرعة: محمود! ما الذي تفعله هنا؟.
وضع كفه على خدها واقترب منها هامسا: لا تحزني يا نسرين... لأجلي..
باغتتها الدموع لقوله هذا وحاولت أن تتماسك وهي تجيبه: أنا بخير حبيبي... لا تقلق.
نظر إليها بقلة حيلة ثم قال: لا تبالي بمروى ولا تشاجريها لأنه وقتها ستترصد خطواتك ولن ترحمك... تجاهليها وهي لن تؤذيك...
هزت رأسها بنعم ثم نظرت من حولها بريبة: ماذا لو شاهدنا أحدهم ووشى بنا إليها!
التفت خلفه ليتأكد من خلو الممر ثم قبل جبينها هامسا: سأتأخر في العمل اليوم... كوني قوية واتصلي بي لو ساءت الأمور أو أزعجك أحدهم...
أومأت موافقة فغادر على عجل قبل أن تدركه العيون. بينما دخلت هي المغسل من جديد وأرخت ظهرها على الباب الموصدة وهي تشعر بقهر ووهن كبير... هي التي تركت منزل أهلها لتعيش سيدة نفسها تصبح اليوم في يد غريمتها لتهينها بين الفينة والأخرى وتسمعها كلاما جارحا يوجعها! لابد وأن الله قد استجاب لدعاء أهلها عليها حتى تقع في مأزق مماثل!

***********

بعد تناولهم افطار الصباح، جلس محسن ومروى في غرفة الاستقبال، هو يشاهد التلفاز وهي تعبث بهاتفها ولا يتبادلان إلا بعض العبارات الجانبية دون أن يدخلا في نقاش معين.
بعد زمن قامت من جلوسها وقد كرهت اختفاء ذلك المجهول الذي علقها بين الوهم والحقيقة دون أن يرسيها على بر. فهل كانت تلك مزحة أم هي حقيقة!.. ظهر فجأة كما الأفلام ليخبرها حقيقة ما ثم اختفى دون تبرير!
سارت باتجاه المطبخ حتى تتفقد الخدم. ورغم أنها لم تكن تشرف على أي شيء إلا أنها تحب أن تظهر بصورة الكنة وسيدة المنزل.
دخلت بهدوء فشاهدت نسرين تحمل هاتفها بيدها وهي تسير على عجل باتجاه الممر الجانبي. أرادت أن تعتذر لها عن فضاضتها هذا الصباح فلحقت بها، لكن الأخرى كانت قد دخلت المغسل وأقفلت الباب. أرادت أن تعود أدراجها لكنها سمعت همسا بالداخل وخطر ببالها أنها تحدث أحدا كان يجلس في انتظارها هناك وشكت بالسائق إذ أنه شاب وسيم أعزب قد يسبي عقل أي فتاة.
مشت على أصابع أقدامها حتى لا يصدر كعب حذائها قرعا على الأرضية واقتربت تتنصت بانتباه فسمعتها تقول: أخبرتك أنني بخير لا تقلق حبيبي...
وبعد صمت أردفت: صدقني لم تزعجني مجددا... حتى أنني لم ألتق بها...
وتابعت : سأفعل كل شيء لأجلك... سأتحملها إكراما لك وأستمر في التضحية لنبقى مع بعض...
لم تفهم شيئا مما تقول لكنها توقعت أنها تقصدها بكلامها عندما قالت لم تزعجني مجددا... ولم تسمع أي صوت آخر فعلمت أن من تحدثه يكلمها عبر الهاتف... لكنها لم تستطع أن تخمن سر وعودها تلك...
شعرت بأنها متطفلة واستصغرت نفسها، ففرت من هناك كما جاءت دون ضجة وبقيت في المطبخ بانتظارها.
بعد قليل دخلت نسرين وكفيها تحتضنان هاتفها وعيونها تفضحان سعادتها لكن كل شيء فيها بهت عندما رأت غريمتها واقفة هناك تنظر إليها بفضول.
ألقت التحية بأدب فردت عليها مروى بالمثل ثم دارت في المكان تتأمله وبعدها التفتت إليها: أنت إذن مدبرة المنزل الجديدة!
لم تصدر نسرين أي صوت فتابعت الأخرى وهي تحملق فيها بفضول: هل أنت متزوجة؟
ترددت في الإجابة ثم هزت رأسها بالإيجاب ولم تنطق، توقعت الأخرى أنها كانت تطلع زوجها على كل التطورات التي تحصل معها.
بعد صمت قالت بجد: أعتذر إليك إن كنت قد أزعجتك بتعليقاتي... لكنني متعودة على الصراحة.
رغم أنها لم تكن تريد مجاراتها في الحديث إلا أنها أرادت أن تغطي على نفسها وتلعب دورها ببراعة. قالت بأدب: ليست مشكلة... الحق معك كان علي أن أسأل قبل تحضير أي طعام للعائلة...
تأملتها بفضول ثم أرادت أن تطرح عديدا من الأسئلة لتعرف عنها المزيد وكأنها بحدسها تشعر أن هذه المرأة تخفي وراءها سرا ما. وقبل أن تبدأ استجوابها رن هاتفها منذرا بوصول رسالة، فارتبكت فجأة وسحبته من جيبها تتحقق من المرسل ثم غادرت من فورها باتجاه غرفتها على عجل حتى كادت تصطدم بمحسن في الدرج.
أقفلت الباب خلفها وفتحت الرسالة لتجدها بضع كلمات: "هل أنت وحدك؟"
ردت على الفور ب"نعم"
أرسل لها: "لقد أبقيت فمك مقفلا لأربع وعشرين ساعة... هذا انجاز"
ربما أراد إبلاغها أنه يعرف كل خطواتها. أرسلت له: "من أنت؟"
رد على الفور: "شاهد على كل تلك الجرائم"
شهقت بهلع وردت عليه: "لماذا تتصل بي؟"
انتظرت بضع لحظات أحست أنها مرت دهرا حتى وصلها جوابه: "مصيرك مرتبط بما تريه"
أحست بزلزلة الأرض تحت أقدامها وارتعشت أصابعها وهي تكتب له: "أنا التالية! ستفرغونني من أعضائي!"
جاءها رده سريعا: " لا، لكن مصيرك مرتبط بمرتكب هذا الفعل الشنيع"
أحست بقلبها يقرع طبوله... ما الذي يقصده هذا المجهول يا ترى! هل ما فكرت فيه صحيح!... أيمكن أن يكون مرتكب هذه الجرائم واحدا من معارفها!
كتبت له: "فسر ما تقول"
وبقيت تنتظر جوابه بأعصاب محترقة لكنه لم يشف غليلها. إذ اكتفى بإرسال: "إن أردت الحقيقة فستصلين إليها بنفسك... كوني كتومة وراقبي من حولك وأنا سأتصل بك عندما يحين الوقت".
بقيت تعاود قراءة تلك الكلمات وصدرها يعلو ويهبط من تنفسها السريع الذي لم يمنع عنها وهن ركبتيها فخرت جالسة على السرير والهاتف يهتز أمامها من شدة ارتجاف أصابعها.
لحظات ووصلت رسالة جديدة: "أبقي البريد فارغا. ان اطلع أي مخلوق على ما يدور بيننا فلن تصلي للحقيقة أبدا. لا تطرحي الأسئلة وانتظري تعليماتي. ستعرفين كل شيء في أوانه"
ما الذي يقصده هذا المجهول بكلماته! تراه يلمح لجريمة بشعة ترتبط بها من قريب أو من بعيد... تراه يتهم الأقربين منها! محمود أو والدها!
لم تستطع أن تصدق ما يرمي إليه هذا الانسان وشعرت بالاختناق من كل تلك المخاوف التي زرعها في قلبها فلم تعد تعرف ما تصدقه...

******

جلست ياقوتة في حديقة منزلها تحت أشعة الشمس. كانت تهيم في ذكرياتها البعيدة والقريبة... تصارع مخاوفها وهواجسها.
بشير يحكم قبضته حول عنقها . يعرف عنها الكثير وكل مستقبلها في يده، حتى حريتها... إنه يمارس لعبته بإتقان وقد أكسبته ثروته سطوة ليس لها نظير.
عادت بها ذكرياتها لذلك اليوم الذي التقت فيه بوديع صدفة في احد المطاعم الراقية. تعرفت عليه لأنه خدم محسن منذ سنوات طوال وتذكرها هو لأنه سبق وشاهدها بضع مرات... تحدثا يومها عن أمور كثيرة ودعاها لمنزله. لقد كان يعرف من تكون ويعلم أنه سيحظى معها بوقت ممتع.
سهرا معا وتسامرا طويلا على كؤوس من الشراب الفاخر. تحدثا حول أشياء كثيرة وكانت ليلة مميزة لوديع لولا أنه أفرط في الشرب وباح لها بالمحظور... أخبرها كل شيء عن بشير وأعماله القذرة وعن شراكته مع محسن وغرقهما في دماء الأبرياء وأشياء كثيرة كانت تجهلها...
في الصباح عندما استفاق كان قد نسي كل شيء، ولغبائها سألته لتعرف المزيد، فعرف أنه قد تجاوز خطوطه الحمراء في لحظة غُيِّب فيها عقله... أصابه الذعر مما قد يفعله بشير لو عرف أنه قد نشر سره، وخاف أن تستغل ياقوتة ما عرفته لمصلحتها وتفكر في ابتزاز ذلك الغول الذي لا يحمل أيا من المشاعر الانسانية... يومها سيقتله وينكل بجثته انتقاما من لسانه الطويل...
دخلت هي لتستحم بينما بقي هو يقلب أفكاره برأسه... أراد التخلص منها لكن كان ينقصه من يساعده في التخلص من الجثة. تأكد من دخولها الحمام ثم اتصل بمحمود وطلب منه الاسراع من أجل شيء مهم وأنه يحمل إليه خبرا ما...
في نفس الوقت فكرت هي مليا وتأكدت من أنه لن يسكت بعد كل ما عرفته. لبست ثيابها وتسللت لتهرب في صمت لكنها فوجئت به يتكلم على الهاتف وخشيت أن يشاهد خروجها. لم تعرف مع من كان يتحدث لكنها أيقنت بهلاكها...
دخل بعدها إلى مكتبه فهرولت باتجاه الباب وحاولت فتحه لكن دون جدوى... يبدو أنه فكر في احتجازها هناك لينتهي منها. ذعرت وأصيبت بالجنون عندما فكرت أن نهايتها وشيكة...
هربت باتجاه الحمام من جديد وأقفلت الباب عليها بإحكام ثم أخذت هاتفها وهمت بالاتصال بمحسن لكنها تعلم جيدا أنه لن يوليها أية أهمية ... الوحيد الذي تعرف أنه سيستجيب إليها كان بشير. رغم كل شيء لم يتردد يوما في مد يد العون إليها وكأنه يتلذذ بإثبات سلطته وهيمنته على كل شيء في هذا البلد، وعلى الأغلب هذا راجع لعقدة النقص التي رسختها فيه عندما استبدلت مشاعره الصادقة نحوها برزمة من النقود...
اتصلت به وكانت حذرة في حديثها إليه. أعطته عنوانها وطلبت إليه أن يرسل من عنده من يقلها لأنها مريضة ولا تستطيع الاعتماد على نفسها... طبعا حاول أن يفهم ما تفعله هناك فأقنعته أنها تزور صديقة لها ولا تريد إزعاجها أو إثارة قلقها. وفي الأخير أعطته رقم الشقة وطلبت منه أن يصعد السائق إليها عند وصوله ويحمل عنها أغراضها... كل هذا لتضمن خروجها سالمة من المنزل برفقته لأن وديع لن يرتكب حماقة ما في وجود شهود...
أرخت نفسها على الجدار وقلبها يضرب بعنف في جوف صدرها، شعرت بعرق بارد يتصبب عليها وهي تفكر أنها قد لا تترك المنزل حية...
بعد لحظات أحست بوديع يتجول في الغرفة وفتحت أذنيها تستمع لوقع أقدامه. حاول فتح الباب فارتجفت أوصالها ثم سمعته يقول: أنهيت استحمامك يا جميلتي؟ هيا الفطور جاهز...
قالت بصوت متزعزع: سأخرج بعد قليل...
أجابها على الفور وقد ساوره الشك تجاهها: أنا لا أسمع صوت المياه... هيا أخرجي لنفطر معا لدي أعمال ويجب أن أغادر باكرا...
ضبطت رنة صوتها على نحو مغري وهي تقول: لن أتأخر حبيبي... لحظة فقط.
وأنصتت لقرع أقدامه مبتعدا وهو يقول: لا تتأخري...
ثم سمعت صوت الباب يُفتح وبعدها ساد الصمت. انتظرت للحظات تستمع بإنصات لكن لا أحد خارجا. أرادت أن تقفل باب الغرفة وتضع خلفه شيئا ثقيلا حتى لا يفتحه ريثما يصل مبعوث بشير لأن باب الحمام كانت هشة وسهلة الكسر إذا ما نوى اقتحام المكان عليها وإخراجها عنوة.
فتحت الباب وأطلت بحذر.. بدى المكان هادئا فأسرعت الخطى باتجاه الباب المفتوح لكن قبل أن تصل كان قد أمسك بها وطرحها أرضا... صرخت مستنجدة فسدد نحوها مسدسه الملحق به كاتم للصوت وقال بغل: تعتقدين نفسك أذكى مني! ها قد أخرجتك من جحرك دون تعب...
صرخت بخوف: لا تقتلني... لا لا أرجوك.
هددها بوعيد: كلمة بعد وسأفجر رأسك.
ثم ابتعد عنها وأمرها بأن تجثو على ركبتيها. فعلت ذلك وهي تتوسله أن يخلي سبيلها وأنها لن تبوح بكلمة لأحد، في ما بدى هو مصمما على التخلص منها حتى لا يعيش كل حياته تحت رحمتها.
جثت أخيرا على ركبتيها وهي تفكر في نهايتها الوشيكة... ستموت هنا على تلك الحال دون أن تستعد للرحيل... وسيلقي بها كأي حيوان نافق في أي مزبلة لتنهش الكلاب لحمها دون شفقة... ستنتهي حكاية الفاتنة مغوية الرجال كما تستحق، وقد استجاب الله لدعاء خالتها عليها... وها هي ذي ستموت أبشع ميتة.
رن الجرس فجأة فأجفل وديع ونظر باتجاه الرواق عندها قفزت عليه وحاولت أخذ المسدس منه.. إن كانت ميتة بكل الأحوال فمن العجز أن تموت جبانة...
تصارعا عليه طويلا واستطاعت بإصرارها أن تجابه قوته ... بعد عراك طويل تخلله قرع متواصل للجرس سمعا صوت طلقة نارية مكتومة...
لوهلة اعتقدت أنه قد انتهى أمرها لكن قلبها تنفس الصعداء عندما شاهدت وديع يهوي بقامته أرضا مفترشا دماءه...
أسقطت المسدس من يدها وهربت كالمجنونة باتجاه الباب. صرخت بالسائق الذي كان واقفا هناك بأن يسرع معها وغادرا على الفور...
كانت ترتجف كفتاة الكبريت في عز الشتاء... ولم تفكر أبدا في أن تطمس معالم جريمتها... كل همها حينها أن تترك المكان وتختفي إلى الأبد...
عندما وصلت شقتها اندست في فراشها وهي تشعر بالبرد. كانت تنتظر وصول الشرطة بين الفينة والأخرى لكن من وصل كان بشير.
استقبلته على ضعفها وحاولت ألا تثير ريبته لكنه كان قد اكتشف موت وديع وربما جاء ليعرف السبب.
أخبرها أنه يعرف ما أقدمت عليه وطمأنها بأنه طمس معالم جريمتها ولن تستطيع الشرطة الوصول إليها فقد مسح كل آثرها حتى من خلال شراشف السرير ومناشف الحمام التي قد تستخرج منها الشرطة العلمية أي دليل يثبت تواجدها بالمكان... لقد كان رجاله بارعون في دثر معالم جرائمهم فأخذوا حتى شريط المراقبة قبل أن تكتشف الشرطة الجريمة ولسوء حظ محمود كانت صورته قد ترسخت عليه...
لم يعطها كثيرا من التفاصيل ولم يخبرها بأن هناك رجل آخر محل اتهام... كل ما أراده وقتها أن يكون المتفضل عليها بالحرية التي تعيش فيها وبكل حياتها المقبلة...

تنهدت بعمق وقد كرهت كل ما هي فيه فبشير الذي تعرفه لم يعد هو نفسه بشير الذي أحبته. وقد تأكدت من هذا عندما زارها قبل أسابيع.
دخل كعادته في خيلائه، واستقبلته هي بابتسامة تحاول من خلالها بثه امتنانها له. جلس على الأريكة وعيونه تلتهمان كل قطعة من جسدها فشعرت حينها أنه يبيت لها نية خبيثة...
قال أنه جاء يتخير بضاعته لليلة اليوم فأسرعت بالوقوف لتطلب فتياتها لكنها فوجئت به يسحبها إليه بقوة ويخبرها أنه لن يستلذ بغيرها اليوم.
بالكاد خلصت نفسها منه وهي تؤكد له أنها توقفت عن مزاولة هذا العمل وهي تقسم على ذلك. لكنه ثار غاضبا وهو يسألها عما كانت تفعله في شقة وديع صباح ذلك اليوم. واتهمها بالكذب لأنها لا تريده هو أن يقربها لسبب ما يجهله.
ربما لم تكذب عليه فهي قد وعدت نفسها بأن تتوقف عن هذا العمل القذر في تلك اللحظة التي كان يفصلها عن الموت شعرة واحدة...
لم يقبل ردها عليه ووقف متأهبا بكل حواسه ودنى منها حتى حشرها بينه وبين الجدار فيما أغمضت هي عيونها خوفا وسدت مجاريها التنفسية رهبة من رائحته التي تشعرها بالذعر.
قال بصوته الخشن الذي خرج من جوفه حادا لدرجة أن ذبح كل أحاسيسها: أنت عاهرة... والعاهرة لا يحق لها أن تتخير زبائنها... إنها تكون ملكا لمن يدفع أكثر... وسأثبت لك أنني رجل سخي لا تهمه النقود...
سحبها من فورها أمامه ولمح لها في طريقهما أنه لشرف لها أن يقلها هو بنفسه إلى شقته التي يستقبل فيها عشيقاته...
كانت تموت فيها كرامتها مع كل خطوة تخطوها برفقته إلى مذبح الحب، أين سيقتل بداخلها كل ذكرى جميلة عاشتها برفقته... ما أقسى أن تختفي تلك المشاعر الدافئة من عيون رجل كان هو الحب لتخلفها نظرات جامدة مشبعة برغبات حيوانية لا أكثر... هو رجل قفز من النقيض إلى النقيض...
ما أخافها فيه أنه رجل سادي اشتكت لها منه كل فتياتها... وما تلك التي تلقت ضربا مبرحا إلا خليلة احتجت على تصرفاته قبل أيام وكانت تلك آخر من أخذ من فتياتها...
تعرف أنها ستقاتل وحشا بصبرها... لأنها ان احتجت سيتخذ منها ذريعة ليفرغ فيها حنق السنين الماضية... إنها امرأة بلا حول لها ولا قوة ستتذوق مرارة المذلة في الطريق الذي سارت فيه قبل سنوات لتتأكد للمرة الألف أن ما تعيشه هو أكبر إهانة لأنوثتها المقدسة ولا علاقة له بالتحرر. بل أن ما كان في مفهومها تحررا في اللباس والتصرفات هو ما جعلها تهوي إلى أدنى دركات الجحيم...
لم تعش في حياتها أسوأ من تلك الليلة. ولم تعامل يوما بتلك الهمجية المتعمدة... هو رجل ناقم، ولم يكن أمامها إلا أن تذعن لتنجو من بربرية سخطه العظمى...
نام بعدها قرير العين كمحارب أسقط آخر الحصون في سلسلة غزواته... ربما هذا ما كان يحلم به قبل سنوات أن يذل الأنف الشامخ الذي لا يخضع إلا لسطوة من هو قادر على إذلاله... وكان سعيدا أن يتأكد له من جديد أنه صاحب سلطة.
ذرفت ليلتها دموعا غزيرة كما المطر. وفكرت أن تهرب بما عليها من ثياب دون وجهة ولا عنوان... أن تهيم في الأرض علها تنسى الذل الذي أنزله بها.
إنه الوحش الكسير... رغم كل غطرسته لا يزال بداخله قلب مكسور وخيال رجل مغدور...
استطاعت ليلتها أن تفر من جواره. واستقلت أول سيارة أجرى وجدتها بالطريق لترجع إلى شقتها.
كانت عيون الفتيات شامتة، فها هي ذي تلقى نفس مصيرهن... صحيح أنها لم تأت بوجه دامي وكدمات منتفخة لكنها كانت تجر بقايا كرامة حطمها تحطيما...

زارها بعد أيام والتقت به مجبرة غير مخيرة... كانت ابتسامة انتصاره تزين ثغره... وشعورها بالضآلة بات خانقا لها... ليست تذكر أنها كرهته قبل ذلك اليوم مثل تلك اللحظة التي استنزفت كل ذرة عزيمة ادخرتها لمواجهته.
أخبرها قبل أن تقول أي شيء أنه جاء ليسدد ما عليه. ومنحها سندات ملكية هاته الفيلا التي تتربع فيها الآن. قال أن كل فتاة تأخذ بقدر ما تمنحه من سرور وأنها منحته سعادة وراحة نفسية لم يكن يحلم بها. مؤكد أنه يعلن لها أن إهدار كرامتها هو كل ما كان يصبو إليه.
قبلت تلك الهدية لأن تضحيتها تستحق العناء. وها هي ذي تعيش حياة القصور على حساب كرامتها... لم تكن تعي معنى أن يعيش الانسان ذليلا رغم سنوات وقاحتها، لكن بشير بين ليلة وضحاها حطها أمام الأمر الواقع. وأوضح لها الحقيقة التي تغاضت عنها طوال حياتها... هي ليست سوى سلعة رخيصة لأي رجل...


noor elhuda likes this.

بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 23-08-21, 10:18 PM   #43

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل السابع عشر
استيقظت سهام مبكرا وجالت بنظراتها في أرجاء الغرفة قبل أن ترمي بالغطاء بعيدا عنها وتستوي جالسة وهي تحاول أن تتنفس بانتظام. لقد أصيبت بالمرض بعد فقدانها لابنها ورغم خضوعها للعلاج لم تتحسن صحتها أبدا... مازالت تخضع إلى التصوير الاشعاعي وتحاليل الدم دون أن يشخص مرضها... ربما ما تعانيه ليس عضويا وإنما ألم نفسي لا شفاء منه فبعد رحيل ابنها أصبحت الحياة أمامها صفحة سوداء لا نور فيها...
في ذلك اليوم الذي أحضره إليها أخوها لتراه في موعد الزيارة أقامت الدنيا وما أقعدتها بنواحها. لم يستطع أحد أن يأخذه منها وهي تبكي بحرقة وتقبله بشوق حتى أخافته فبدأ هو الآخر في الصراخ وصار البيت مأدبة عويل... وبالكاد استطاعوا اخراجه من هناك لإعادته لوالده. بعدها خرت من فورها أرضا وبدأها المرض الذي لم يجدو له شفاءً... ومنع عنها والدها زيارات ابنها تجنبا لانتكاسة أخرى قد تصيبها.
مضى حتى الآن شهر وهي على نفس الحال ولا تأكل إلا قليلا من الطعام حتى فقدت الكثير من وزنها وأصيبت بالهزال. ربما كانت هذه أنجع حمية لها منذ ازداد وزنها وراحت تخطط لاستعادة رشاقتها.
وقفت أمام المرآة وهي تشعر بالدوار... وجه شاحب وعيون يحاوطها السواد بدت كميت يتحرك بين الأحياء... تنفست بعمق حتى لا تسقط أرضا و خرجت من غرفتها تسير على مهل.
دلفت إلى المطبخ وكانت أمها وإخوتها في جدال حاد. لكنهم جميعا التزموا الصمت عندما شاهدوها هناك وعلت وجوههم الدهشة ... أسرع إليها أصغرهم وساعدها على الجلوس مكانه، وهو يقول: كيف حالك يا سهام... ما الذي أخرجك من غرفتك وأنت على هذه الحال؟
هزت رأسها وهي تجيبه: أنا بخير... اطمئن...
اقتربت منها أمها وتلمست جبينها بحب وهي تسألها بحنو: أمازلت محمومة حبيبتي؟
أجابتها بتعب: لا أمي...
بقي أخويها الآخران يتأملانها بصمت وربما منتظرين أن تخلي وفاضها وتقول ما جاءت من أجله. فيما صمتت هي للحظات ثم نطقت : أريد رؤية أنس... اشتقت إليه...
امتعضت أمها من هذه الفكرة متذكرة ما حدث آخر مرة لكنها لم تتجرأ على المعارضة لأنها أم وتشعر بحرقة قلبها. في حين اعترض أخوها الأكبر: سهام... أنت أضعف من أن تواجهي انتكاسة أخرى... أعدك أنك حالما تشفين سأحضره ليبقى معك يومين أو ثلاث.
نظرت إليه نظرة حادة وقالت بوهن: لا تقدم وعدا لا تستطيع تحقيقه. هو لن يمنحك إياه أكثر من سويعات قلائل...
صمت بإحراج ولم يشأ أن يجادلها حول الموضوع. فتأملتهم جميعا قبل أن تقول: أعلم أنه يضغط علي من أجل أن أسحب القضية التي رفعتها ضده بالمحكمة...
نظروا إليها بإمعان فتابعت تقول بإصرار: لكنني لن أفعل... سأكشف حقيقته وسأتطلق منه وأرجع ابني إلى حضني ولو كان هذا آخر شيء سأفعله في حياتي... ذلك النذل لن يكسرني مرة أخرى صدقوني.
بدو جميعا متفاجئين، صحيح أنها تتكلم بإصرار لكن شكلها لا يوحي بأنها ستصمد لهبة ريح، فكيف ستصمد في مواجهة قاسية مجهولة وقد تستمر طويلا دون نتيجة...
أمسكت أمها بيدها مطمئنة وهي تقول: كوني قوية وتماثلي للشفاء... وكلنا معك سندعمك مهما كان قرارك...
********
مضى شهر كامل على تواجد نسرين في منزل محسن وقد بدأت تتعود على تواجدها هناك رغم أنها وجدت صعوبة كبيرة في التأقلم مع الوضع. فمجرد رؤيتها لمروى أمامها طوال الوقت يتسبب لها بتسمم في جسدها.
رغم أن محمود حاوطها بالعناية التامة ولم يهملها لحظة واحدة إلا أنها لا تتقبل رؤيته مع امرأة غيرها. أصبحت مؤخرا تشعر بتعب في قلبها وتخشى أنها حملت نفسها فوق طاقتها يوم قبلت العيش هنا...
خرجت إلى الحديقة مرتدية معطفا شتويا يقيها البرد ووقفت هناك تتأمل الثلوج البيضاء التي كانت تسقط على الأرض بتناغم كبير ... تتهادى ببطء وكأنها تتراقص على أنغام سيمفونية ما...
في هذه السنة تماسكت الثلوج بفضل الانخفاض الشديد لدرجات الحرارة. ولم يحدث أن حصل هذا إلا نادرا بسبب اعتدال مناخ المنطقة المطلة على حوض البحر الأبيض المتوسط.
لقد تعودت اللعب بالثلوج في طفولتها. لطالما أحبت مشاهدة البلدة التي نشأت فيها تزف عروسا كل سنة في حلة ناصعة البياض... رغم أنها كانت تعاني من البرد القارس ومشقة الأعمال المنزلية في مثل هذا الجو القاسي جدا إلا أنها كانت تستمتع بتكديس الثلوج وصنع كرات وأشكال مختلفة تتسلى بها...
مدت ذراعيها للسماء وبسطت راحتي يديها تلتقط تلك الكتلات القطنية بعناية شديدة لتستمتع بمشاهدتها قبل أن تضمحل وتتحول لماء... كانت سعيدة باسمة ترغب في أن ترفرف في المكان وتركل تلك الثلوج لتسترجع أعواما ظلت لسنوات حبيسة في أرشيف الذكريات تتجنبها لألا يصيبها الحنين لأيام خلت ودفنتها في مقبرة النسيان.
ظلت أمنياتها أحلاما لم تستطع تجسيدها على أرض الواقع فما الذي سيعتقده أصحاب هذا القصر إن هي لعبت بتلك الثلوج كطفلة صغيرة تشاهدها لأول مرة...
استنشقت هواءً باردا أنعش صدرها وبقيت تراقب الأشجار المكسوة بالبياض وعلى شفتيها ابتسامة رقيقة... وظلت تحلم بمعانقة تلك الثلوج من بعد أعوام من الفراق...
كان هو يقف قرب الشرفة رافعا الستار بأصابعه. إنه محمود يتأملها باسما وهو يشعر بما يختلج في صدرها... يعلم أنها تعشق الطبيعة... هي امرأة تحب البحر تراقب المغيب، ومن المؤكد أنها مأخوذة الآن بتساقط الثلوج. لكم تمنى أن ينزل إليها ويقذفها بكرات الثلج لترد له الضربة مرتين فهي امرأة لا تقبل بتعدي أحد عليها...
ضحك حينما تذكر نظرتها الحادة وتقطيبة حاجبيها عندما تشعر بأنها مستهدفة... المسكينة أصبحت الآن مجرد امرأة مغلوب على أمرها ويشعر بأنها تتحمل الكثير لأجل أن تسنده... لقد فعل كل ما بوسعه ولم يستطع أن يحصل على الكثير من الأدلة لاتهام بشير... وحتى تلك التجاوزات التي قدمها لرئيس فريق مكافحة الفساد لم تكن جرائم من شأنها زجه في السجن وكانت مجرد أخطاء قد تكلفه غرامة مالية وربما بعض الرشاوي ليخرج من القضية كالشعرة من العجين. فما يقف في وجههم ليس بشير لوحده ولكن كل سلطته وجاهه ومعارفه من كبراء رجال الدولة... لذلك إذا أراد أن يحاسبه على جرائمه فعليه أن يجد الدليل القاطع ليثبت عليه المتاجرة بالأعضاء البشرية، وإلا فإن أي ضربة قد يلقنه إياها فلن تكون غير تنبيه ليرفع من احترازاته الأمنية وربما يفوت عليهم أي فرصة للوصول إلى سره المحظور.
كانت نسرين غارقة في تأملها عندما ضربت كرة ثلجية بخدها الأيسر جعلتها تجفل فجأة وتتأهب كل حواسها. التفتت إلى مصدر الضربة بعبوس لتجد مروى في الحديقة تجمع الثلوج لتصنع كرة ثانية... تفاجأت ولم تستطع تعنيفها لأنها تلتزم الحذر التام في التعامل معها.
هربت لتختبئ خلف التمثال الحجري الكبير قبل أن تصيبها بالكرة الثانية بينما كانت ضحكات مروى تتعالى. أصيبت نسرين بالحنق وجمعت الثلوج لتصنع كرة ثلجية جعلتها أكبر وضغطتها أكثر لتوجع غريمتها في فكرة انتقامية شيطانية داهمتها فجأة.
أطلت من خلف التمثال بحذر فرمتها مروى بالكرة الثانية ولم تصبها فصاحت ساخطة. بينما تبسمت نسرين بمكر وقذفتها بكرتها الثقيلة لتصيبها أعلى كتفها ما جعلها تصرخ بألم. ضحكت شامتة بينما حدقت الأخرى فيها بفزع: تريدين خلع كتفي من مكانه....
وراحت تجمع الثلوج من جديد بهمة وهي تتوعدها بضربة أشد. فيما اقتضت الضرورة على الأخرى أن تجهز خطة دفاعية ما جعلها تصنع كرات كثيرة أخف وزنا.
خرجت هاربة من وراء التمثال فقذفتها مروى بما في يدها من كرات وسط ضحكاتها الصاخبة بينما ردت عليها الأخرى بالذخيرة التي كانت في حوزتها لتولي هاربة من قذائفها فتزحلقت على الجليد ووقعت أرضا ما جعل نسرين تنفجر ضاحكة. وبالكاد استطاعت الأخرى أن تقوم من مكانها فراحت لتساعدها وعندما مدت يدها إليها سحبتها بقوة لتتزحلق وتقع هي الأخرى وأصبحتا معا فوق الثلوج الباردة.
تألمت نسرين ووضعت يدها على ظهرها فنظرت إليها مروى وبقيتا تحدقان ببعضهما البعض للحظات ثم انفجرتا ضاحكتين.
لم تكن تعتقد يوما أنها ستتجاوز الحدود التي رسمتها لنفسها في التعامل مع مروى وأن تخلع الحيطة والحذر. بل لم تكن لتعتقد أن مروى ستفكر في ممازحتها او رفع الكلفة معها. لطالما فكرت أنها امرأة سطحية متغطرسة...
قامتا معا ونفضتا عنهما الثلوج التي تعلقت بمعطفيهما ثم تأملت مروى الحديقة البيضاء وقالت: في رأس كل سنة كنا نسافر إلى الجبال لممارسة التزحلق على الجليد وكنت لا أنفصل عن محمود لأنني أخاف الانهيارات الثلجية فلا أسوأ من أن تدفنك الثلوج وتموتي اختناقا...
كانت تتحدث بتأثر بالغ فخمنت نسرين أنها فقدت أحدهم بتلك الطريقة المأساوية... قالت بتردد: يبدو أن لك تجربة مريرة مع موقف مماثل...
التفتت إليها: توفيت صديقتي السنة الماضية بتلك الطريقة القاسية... لم أكن معهم لأنني سافرت حينها مع أسرتي للاحتفال في باريس... كانت تلك فكرتي لأقرب بين أبي وأمي...
ثم زفرت بقلة حيلة: لا أمل منهما...
بقيت نسرين متعجبة من المسار الذي أخذه هذا الحديث، وكأن مروى كانت تنتظر أن ينصت إليها أحدهم لترمي أحمالا تثقل كاهلها... في بعض الأحيان لا يحتاج المرء لأكثر من الكلام ليداوي كبته..
نظرت إليها مروى باسمة وهي تقول: لا أدري لماذا أخبرك كل هذه الأمور... أقرأ التعجب في نظراتك!...
ثم ضحكت وتابعت: لست مجنونة بدلي تلك النظرة...
قالت نسرين بتحفظ: لا... أبدا... لا أتهمك بالجنون...
خرج إليهما محسن وهو يتأمل ساعته ونظر إلى مروى وقال: أليس من المفترض أن تكوني في بيت والدك الآن!
ردت عليه: بلى.. سأغادر حالا... لا تتأخر أنت في المجيء هذا المساء...
هز رأسه موافقا، فهمّت بالمغادرة ثم عادت أدراجها: حاول إقناع محمود بالمجيء.. لا أريد أن يتصدع رأسي من أسئلة والدي لي عن عدم حضوره...
رفع حاجبه وهو يهمس لها: تلك أمور تناقشانها معا... لا تقحميني فيها...
تجاوزته وهي ترد: لو كان يسمع مني ما لجأت إليك...
دخلت المنزل فحدق محسن بنسرين للحظات ثم قال: مؤكد أنك تستمتعين برؤيتهما في صراع...
صمتت دون رد واستأذنت منه، ثم دخلت المنزل وهي تشعر بالحنق... إنه أسوأ مما وصفته ياقوتة بكثير...
عندما أظلم الليل تلألأت أنوار قصر بشير احتفاءً بالعام الجديد. لقد كان يقيم احتفالات لمختلف المناسبات حتى يجمع من حوله أكابر وجهاء البلد ويفاخر بما هو عليه اليوم..
لطالما كان رجلا مباهيا يحب الظهور وقد تعودت أسرته اكتظاظ المنزل وكثرة المدعوين.
وصلت مروى في وقت أبكر وحاولت مساعدة أمها في الاشراف على الاستعدادات لاحتفاء الأمسية، لكنها كانت فاشلة كعادتها فهي لم تخلق لتعمل بل لتستمتع وتتأمل، هذا ما كان يخبرها به والدها عندما كانت تحاول القيام بأي شيء مفيد وربما هو من جعل منها غير مجدية...
غصت القاعة بالمدعوين من أصحاب الطبقة الرفيعة. كان الجميع هناك في جماعات متفرقة يتبادلون عبارات الاطراء والمجاملة ويبرعون في تزييف مشاعرهم... الجميع متكلفون ولا يتحدثون إلا في أمور الأعمال أو السياسة... لطالما برعت مروى في مجاراتهم، فقد حرص والدها أن يجعل منها امرأة أرستقراطية بامتياز. لكنها في الآونة الأخيرة أصبحت تمل كل هذه الأمور... لم تعد تبالي بزاوية انفراج شفتيها في التبسم ولا بأبجديات الإتكيت الذي تعلمته كما تعلمت النطق بالحروف... ملت كل شيء بعد أن أصبحت حياتها فارغة وبلا معنى.. فقدانها للعناية والحب الذي كان محمود يحيطها به جعلها تفتح عيونها على تفاهة أمور كثيرة كانت تملأ حياتها بدون داع... يبدو أنه سيجرها معه لعالم اكتئابه!
هذا ما كانت تفكر فيه وهي تسير بالحديقة وحيدة مرتدية معطفها الدافئ وتستمع لأنغام عذبة تنبعث من هاتفها.
وصلتها رسالة فارتعدت أوصالها وسحبت الهاتف من جيبها بعجل. لم تخب توقعاتها فقد كان نفس الرقم المجهول وقد كتب لها: "عليك دخول مكتب والدك الليلة."
ردت عليه: "أبي لا يسمح لأحد بدخوله وهو مقفل أغلب الوقت"
جاءها رده: "هنالك مفتاحان، أحدهما عنده، والثاني عند خادمه المطيع... اختاري أيهما تستطيعين أخذه وستجدينني بالداخل."
تعجبت وبدى الذهول على وجهها وكتبت له: "أنت بالحفلة!. دعني أتعرف عليك."
رد عليها: "بعد أن تفتحي المكتب."
دخلت القصر على عجل فأخذت عنها الخادمة معطفها بينما بقيت هي واقفة عند الباب تتأمل الجميع وكأنها تبحث عنه بينهم... إلى أن أحست بيد محسن تحط عليها: أين كنت يا بنتي؟... بحثت عنك ولم أجدك...
تأملت يده الأخرى التي كانت تحمل الهاتف وقالت: بمن اتصلت؟
وضعه بجيبه وهو يقول: ليس بأمر مهم...
ثم دفعها بهدوء لتدلف إلى الداخل قائلا: هناك من يريد مقابلتك... العديد من الحضور سألوني عنك وعن محمود. أخبرتهم أنه مسافر لأجل عمل مهم وعليك أن تقولي المثل.
رفعت طرفها إليه: رفض المجيء...
همس لها بقلة حيلة: أنت تعرفينه... عنيد ولا يسمع من أحد...
اعتذرت منه بسرعة وغادرت على عجل، لقد كان فضولها يفترسها افتراسا... كل همها أن تصل إلى ذلك المجهول ليقدم لها تفسيرا عن كل ما يحصل، لكن يبدو أنه اختار المكان الأكثر أمنا ليلتقي بها... إنه مكتب والدها... هناك أين يمكن له أن يحدثها دون احتراز.
وجدت والدها واقفا قرب صديقين له وهو منشغل بالحديث إليهما. انتظرت على أعصاب أحر من الجمر حتى فرغ من محادثتهما فهرعت إليه وعانقته بحب وهي تقول: عاما سعيدا يا أبي... أريد أن أكون أول من يهنئك... وحتى قبل دخول العام الجديد...
ربت على ظهرها بحنو وهو يقول: ولك أيضا صغيرتي...
وضعت رأسها على صدره باسمة الثغر: أريدك أن تعتني بأمي أكثر... إنها تحبك...
رد عليها: وأنا أيضا أحبها... كل ما في الأمر أنها تحب الدراما كلمسة ضرورية في حياتها...
قطبت حاجبيها وهي تبتعد عنه: هي تحتاج إلى الاهتمام... هذا كل شيء...
أشار لها بالسكوت وهو يقول: ليس وقته بتاتا... دعينا نهتم بالحضور...
ابتعد عنها بعد أن طبع قبلته على خدها بينما كانت هي تشعر بالخيبة فقد تلمست كل جيوبه أثناء احتضانه لها ولم تجد أثرا لأي مفاتيح... لا بد وأنه يحتفظ بها في مكان أكثر أمنا لانشغاله بالحفلة...
ابتعدت تسير على مهل وهي تفكر أين يمكن له أن يخبئها فتراءى لها من بعيد لؤي وهو يعطي تعليماته لبعض الحرس ممن يعملون تحت اشرافه. وابتعد عنهم وهو يضع يديه في حزامه فاستطاعت أن ترى حزمة من المفاتيح المعلقة به.
لابد وأنه الخادم المطيع الذي ذكره المجهول. تنفست بعمق تُهدّئ من اضطرابها وسارت ناحيته مفكرة بالطريقة المناسبة لتتقرب منه كل هذا القرب وتأخذ مفاتيحه دون أن يشعر. المشكلة الكبرى تكمن في أنها لم تتعود يوما أن تتحدث إليه إلا لحاجة أو طارئ، وأي حديث ستفتحه معه الآن قد يثير ريبته... هي لن تنكر أبدا ذكاءه وسرعة ملاحظته.
عندما دنت منه شعرت به يتأملها بريبة وقد لاحظ نظراتها الثاقبة باتجاهه طوال طريقها فأشاحت ببصرها عنه بعبوس كعادتها، ما دفع به للنظر في الاتجاه الآخر فهي دائما تتعمد إبداء احتقارها له وهو لا يتوانى عن إظهار لا مبلاته...
تجاوزته وقد تخيرت لنفسها زاوية تسمح لها بمراقبته دون أن يشعر. وقفت تلاحقه بنظراتها لمدة طويلة حتى كرهت الانتظار. وعندما سئمت الوقوف راحت تفكر في الصعود لغرفة والدها وتفتيشها علها تجد المفاتيح ولو كانت إمكانية عثورها عليها ضئيلة جدا فهو غالبا لا يحتفظ بأشيائه المهمة هناك.
تحرك أخيرا باتجاه الرواق وشاهدته يدخل إلى المطبخ مشت خلفه بحذر وتظاهرت بالتعب وكأنها تشعر بالدوار. كانت تقف خلفه تماما عندما صرخت احدى الخادمات فالتفت هو على عجل وتلقفها قبل أن تقع أرضا...
مثلت دور المغمية عليها وكانت تشعر بالجميع يركضون باتجاهها ويحاولون جعلها تستفيق. ولم تشعر بالارتياح إلا عندما سمعت أحدهم يطلب من لؤي أخذها لغرفتها حتى ترتاح وأنهم سيطلبون الطبيب، بينما تحدثت أخرى قائلة أنها ستبلغ السيد والسيدة بما حصل. كانت تعرف كل من نطق من نبرات أصواتهم فقد عاشت رفقتهم سنين طوال.
رفعها لؤي بين ذراعيه كطفلة صغيرة وسار بها مبتعدا باتجاه الدرج الخلفي حتى لا يلفت أنظار المدعوين. وقد حمدت الله في قرارتها أن هذا الأحمق كان سريعا بما يكفي ليدركها قبل أن ترتطم بالأرض وتتعرض للأذى. وسعدت عندما انطلت خطتها على الجميع. لكن سعادتها كانت أكبر عندما أخذت منه المفاتيح دون أن يشعر، ولفت قبضتها حولها حتى لاتصدر رنينا وينتبه إليها.
دفع باب غرفتها بقدمه واقترب من السرير لينزلها ببطء ويمددها عليه. في أثناء ذلك دست هي المفاتيح تحت فخذها. شعرت به يبتعد عنها للحظات ففتحت عيونها بحذر لتجده على مقربة منها وهو يغطيها بلحافها.
التقت عيونهما في نظرة واحدة فشعرت بالخدر في أطرافها وتوقعت أنه سيكتشف لعبتها... انتظرت منه أن يتفقد حزامه ويسألها عن مفاتيحه لأنها تعلم أنه يتميز بسرعة البديهة، لكنه لم يحد بنظراته عنها وهي على مقربة منه. لطالما أخبرتها صديقاتها أن عيناه جميلتان لكنها أبدا لم تفكر في التأكد من ذلك بنفسها... لقد كانت تسخر من اعجابهن بموظف والدها وتخبرهن أنهن فاشلات تتعلقن بأي رجل وسيم تقع عليه أعينهن وأن أكثر ما يجعلهن متعلقات به هو كبره وادباره عنهن... لأنها تعرف حق المعرفة أنهن يهوين المغامرة ويعشقن الإيقاع بالرجال اللذين لا يخضعون بسهولة...
ازدردت ريقها بخوف وقد امتقع وجهها وشحبت ملامحها.
قال وهو يتابع تغطيتها باللحاف: انت بخير؟
انتبهت أنه يسألها فأشاحت بوجهها عنه كعادتها وهي تتمتم: أنا بخير... ما الذي حصل؟
قال وهو يبتعد عنها: أغمي عليك...
دخلت والدتها وخلفها بشير واقتربا من ابنتهما بلهفة يسألانها عن حالها وشعورها وكانت هي تطمئنهما عنها بينما أراد لؤي الانصراف فاستوقفه بشير: كيف حصل هذا؟
أجابه: لابد وأنها الهرمونات... سيصل الطبيب بعد قليل.
فهم بشير أن لؤي يلمح إلى أنها قد تكون حاملا فتهللت أساريره وتأكد له ما كان يشك به قبل أيام، في حين أن مروى شعرت بالحنق وتمنت ضربه بحذائها ذا الكعب العالي المرمي أسفل سريرها.
اقتربت منها أمها وهمست لها بحب: أنت حامل يا ابنتي؟
رمشت بعينيها عدة مرات وحاجبيها معقودان أمامها لكنها لم تفتح فمها بكلمة خشية أن تفسد خطتها... لمصلحتها أن يعتقدوا هذا حتى تستطيع منعهم من استدعاء الطبيب.
خرج لؤي وبعده بقليل خرج بشير ليعود إلى ضيوفه. بينما بقيت ريماس مع ابنتها وقد تمكنت من اقناعها من أنها بخير ولا حاجة لها بالطبيب. ثم تظاهرت بالنوم فتركتها ريماس وغادرت.
بعد أن تأكدت من رحيل الجميع قامت من السرير وأخذت المفاتيح بيدها تتفقدها ثم خبأتها بين ثيابها وتسللت حافية القدمين حاملة حذاءها بأطراف أصابعها ونزلت بحذر حتى المكتب ولحسن حظها لم تصادف أحدا في طريقها.
استخدمت المفاتيح واحدا تلو الآخر حتى سمعت الباب يفتح. دخلت بسرعة وأقفلته خلفها ثم حملت هاتفها وأرسلت للمجهول: "أصبحت بالداخل. أنا باتنتظارك..."
♡♡♡♡♡
كانت أمسية باردة من ليالي الشتاء الطويلة. جلست نسرين في غرفتها الدافئة بقصر عائلة محمود وراحت تطوي ثيابها وتضعها داخل الخزانة. لم تكن تحب أن يقوم الخدم بلمس أشيائها لذلك ومنذ دخولها إلى هناك كانت هي من تقوم على شؤونها.
سمعت طرقا على الباب جعلها تجفل فجأة: من؟
شاهدته يدخل بعدها باسما فوقفت لترحب به . لقد كان محمود يزورها بين الحين والآخر ليطمئن على شؤونها وقد تعودت منه كثرة الاهتمام، ولولا وجوده قربها لما استطاعت احتمال العيش في مكان مماثل.
اقترب منها فهرعت إليه وعانقته فرحا، لكم تشتاق إليه وهو قربها على الدوام.
همس لها بحب: أحبك...
وضعت رأسها على صدره وأغمضت عيونها: وأنا أيضا أحبك...
أبعدها عنه ليشاهد نظرة الشوق في عيونها ويستشعر شغفها به والتياعها من بعده عل روحه المتأرجحة بين نارين تسكن للحظات. لقد بات يخشى خسرانها... أن تمل الانتظار وتقرر فجأة الرحيل وتركه مع كثبان الهموم التي حاوطته فأضحى هائما على وجهه يقتفي السراب...
استنشق هواءً عليلا مشبعا بعطرها فتغلغل حتى أعماقه وراح يقرب رأسه منها وهو يهمس من جديد: تعشيت؟
حركت رأسها بالإيجاب وعيناها السوداوان البراقتان تخطفان أنفاسه وهما تتعانقان بشدة مع عيونه العسلة في نظرة واحدة ألهبت أحاسيسهما معا...
تحشرجت كلماته من اضطراب أنفاسه بسبب تلك الأفكار التي تعبث بعقله الآن وهي على مقربة منه: لم أرك على العشاء... مع أنني تعشيت وحيدا...
ردت عليه: خشيت أن تقول شيئا تلتقطه أذن الواشين من الخدم... أنت لم تعد تحتاط من أحد... علينا أن نلتزم الحذر...
أغمض عيونه بتعب: لم أعد أبالي بأي شيء.. تعبت... أفكر في الفرار إلى الخارج. أنا وأنت لن نستطيع العيش بسلام هنا... كفانا خداعا لأنفسنا... بشير ليس رجلا سهلا. ونحن لا يجب أن نلعب دور الأبطال الخارقين...
ناظرته بحيرة... ما يقوله واقع. لكنها لا تريد أن تقضي عمرها في خوف.
وضعت كفها على خده وهمست له: قد يكون بشير طاغية لا قبل لنا بمواجهته... لكن لكل طاغية نهاية... ونهايته سوف تكون أبشع مما قد نتخيله... ربك يمهل ولا يهمل يا محمود...
هز رأسه بالإيجاب وقد حملت كلماتها الطمأنينة إلى قلبه. ثم أمسك بكفها وقبلها وهو يتأملها بنظرات أرسلت رعشة في قلبها. وهمس لها بقلب مستعر: اشتقت إليك... ولا أريد أن أبقى بعيدا عنك أكثر...

*********
جلست مروى على الكرسي وقلبها يدق بعنف في جوف صدرها. كانت تنتظر وصول المجهول الذي يرسل لها بتلك المعلومات الغريبة... سيصل بين الفينة والأخرى وهي على استعداد تام لمقابلته عله يوضح لها كثيرا من النقاط المبهمة...
رن هاتفها منذرا بوصول رسالة فأسرعت بتفقدها. كانت بضع كلمات: "خلف صورة والدك توجد خزنته. افتحيها وستجدين ضالتك"
ردت عليه: "ألن تأتي؟"
وانتظرت بضع دقائق دون أن يصلها جوابه. فحملت نفسها بخيبة واقتربت من صورة والدها وراحت تنتزعها لتضعها أرضا. عندما فرغت تأملت الخزنة بحيرة، كيف ستفتحها؟
خمنت بضع أرقام لتواريخ معروفة بدءا بتاريخ ميلاده إلى تاريخ ميلاد أمها إلى يوم زواجهما ولم يتبقى غير تاريخ ميلادها لكن أيا من هذه التواريخ لم يفتح الخزنة...
أرسلت إلى المجهول: "لا أحفظ أرقام الخزنة"
فرد عليها: "يجب أن تخمني... أنت أكثر من يعرف والدك والأقدر على تخمين الأرقام الصحيحة"
زفرت بضيق وهي تشعر بانسداد الدروب في وجهها أصبحت تخشى نفاذ الوقت منها قبل أن تتمكن من فتح تلك الخزنة، لكن بما أن هذا المجهول راهن عليها فعليها أن تكون بحجم المسؤولية الموكلة إليها... كل ما عليها هو تشغيل عقلها وتذكر كل التفاصيل التي تعرفها عن والدها وأهم الأحداث في حياته وربما حينها ستستطيع فتح الخزنة.
كانت تعمل بسرعة وتحاول مع كل تاريخ يخطر على بالها إلى أن داهمتها فجأة ذكريات قديمة، عندما عثرت على صورة عتيقة في كتاب كان يخص والدها. كانت صورة ممزقة إلى نصفين، والنصف الوحيد الموجود هو لوالدها واقفا بملابس متواضعة أيام كان فقيرا . أما النصف الآخر فلا أثر له ولا فكرة لها عمن كان معه في نفس الصورة.
سألت والدها عنها فمزقها وقال أنها صورة قديمة ولا حاجة له بها وأنه لا يذكر حتى من كان برفقته. لكن الأهم من هذا وذاك هو التاريخ المدون على الصورة والذي ترسخ بذهنها لأنها كانت فضولية وحاولت معرفة ما يعنيه لوالدها، لكنها لم تجد اجابات واضحة عند أمها.
كادت تصرخ فرحا وتهلل عندما سمعت طقطقة انفتاح الخزنة وبابها تتبع أصابعها. أصبح لها عشر من العيون تتفقد كل ما تحويه هذه اللعنة التي أتعبتها، لكنها لم تجد غير مبالغ مالية ضخمة وشيكات وعلبة مجوهرات تخص والدتها. فتشت الأوراق الموضوعة هناك ولم تكن على ذلك القدر من الأهمية إذ لا تعدو أن تكون مجرد معاملات تجارية وحسابات لا علاقة لها بها وليست تدري إن كانت هذه هي ضالتها.
كتبت له: "هل تقصد الأوراق الموجودة بداخل الخزنة؟"
رد عليها: "لسنا بالعصر الحجري... ابحثي عن أقراص مضغوطة أو بطاقة لتخزين المعلومات"
زفرت ساخطة من سخريته وراحت تقلب رفي الخزنة بحثا عما قاله لكنها لم تجد أي شيء.
بلغت من التوتر أشده وراحت تهز قدمها في اضطراب، مضى ما يقارب الساعة حتى الآن ومن المرجح أن ذلك الجدار يبحث عن مفاتيحه... مقارنة بها هو بحجم الجدار أي والله!
وضعت علبة مجوهرات والدتها على المكتب وأفرغتها من كل محتوياتها وراحت تبحث بينها عن أي شيء، لكن انتهى بها الأمر إلى لا شيء...
حملت العلبة لتعيدها إلى مكانها فوجدت علبة أخرى كانت تحتها ولم تنتبه لها. فتحتها وكانت لساعة ثمينة تخص والدها. تأملتها بإعجاب فقلما شاهدته يرتديها هو لا يضعها إلا عندما يسافر أو يلتقي بشركائه ليباهي بها.
همت أن تعيدها لمكانها لكنها فوجئت بأنها لا تقفل مثل أي ساعة يد عادية. تلمست إحدى القطع البارزة وسحبتها فاستطاعت أن تستخرج شريحة لتخزين المعلومات بحجم صغير وبلون فضي يماثل لون الساعة. أخذتها على عجل وتوجهت إلى المكتب حيث قامت بفتحه وإدراج البطاقة به.... انتظرت بضع دقائق ليصبح كل شيء جاهزا لكنها فوجئت بأنها ملزمة بكتابة كلمة السر حتى تستطيع الولوج للمعلومات المدونة عليها.
أرادت لحظتها أن ترفع الكمبيوتر وتقذفه على الجدار من شدة جنونها... كتبت له بغضب: "لا أستطيع الوصول إلى المعلومات على البطاقة، وإن قلت أنني الأدرى سأركلك..."
وصلتها رسالة منه هي مجرد أرقام وشيفرات قامت بإدخالها ككلمة سر وانفتحت أمامها نافذة للبطاقة، فراحت تقلب محتوياتها بنهم شديد وكانت تدقق على كل كلمة تقرأها واستغرقت وقتا طويلا قبل أن تستوعب كل تلك الأرقام والمبالغ الضخمة التي كان يقبضها والدها مقابل أعضاء بشرية يتم تسويقها لمختلف بلدان العالم ولأشخاص أو منظمات رمز إليها بحروف مختصرة من باب الحيطة والحذر.
شعرت بالدوار قبل أن تكمل قراءة كل الملفات. لكن ما كان واضحا أنها معاملات تخص المتاجرة بالأعضاء البشرية مع عديد من الأشخاص. ويبدو أن والدها هو المُصَدِّر لهذه البضاعة! أرادت البكاء بنحيب عندما نسفت أمامها في لحظات وبالدليل القاطع الصورة الجميلة التي كانت تحتفظ بها لوالدها في مخيلتها. لم تستطع المتابعة... فقد كانت الأعضاء البشرية المتاجر بها لرجال ونساء من مختلف الأعمار حتى لأطفال صغار تحت سن العاشرة.. وأغلبها لمهاجرين غير شرعيين أفارقة من بلدان مجاورة فروا من ويلات الحروب ببلدانهم ليقعوا فريسة سهلة في أيادي خاطفي الأرواح...
فهمت الآن كل شيء... كل ما أراده منها ذلك المجهول أن تعرف حقيقة والدها وبالدليل القاطع... كان بإمكانه أن يخبرها كل شيء لكنه ربما عرف أنها لن تصدقه... لقد فعل كل ما فعله لكي لا يساورها أدنى شك حول حقيقة الموضوع.
امتنعت عن المتابعة. لقد عرفت كل ما كان يجب أن تعرفه... ولا حاجة لها لأن تعذب نفسها أكثر بالخوض في فظاعة تلك الجرائم. أعادت كل شيء إلى مكانه وأقفلت الخزنة ثم غادرت متسللة كما دخلت متسللة غير أن دموعها هذه المرة تنساب على خديها دون توقف. شعرت باختناق شديد ولم تستطع أن تتحمل فكرة أن والدها ليس سوى مجرم حقير.
أفلتت المفاتيح في زاوية المطبخ قرب كيس القمامة وولت خارجة. أصابها دوار شديد عند المخرج لكنها حاولت جاهدة ألا تفقد توازنها. في الرواق مر بقربها لؤي وكان في حالة استنفار، استطاعت أن تسمعه وهو يوجه تعليماته الصارمة للخدم بالبحث جيدا فعرفت أنه اكتشف فقدانه لمفاتيحه. تابعت المشي حتى وصلت إلى الباب الزجاجي المؤدي إلى الحديقة ولم يكن هنالك غير الخدم باعتباره بابا خلفيا يستخدمه العاملون.
دفعته بوهن واندفعت نحو الخارج تشهق هواءً باردا علها تطفئ نيران القهر التي اندلعت بين جوانبها...
مشت حافية فوق الثلوج والآن فقط تذكرت أنها نسيت حذاءها وهاتفها بالمكتب. ضربت جبينها بحسرة وشعرت أن أمرها قد كُشف... والدها سيعرف بشأن المجهول من خلال الرسائل وسيكتشف كل شيء. ليس في وسعها الآن إلا أن تستعد لمواجهته بالأمر الواقع.
وهنت ركبتاها فخرت راكعة ودموعها تسيل أنهارا... كانت كمجنونة تعاني الهلوسات... وربما ما كانت تلك الهلوسات سوى معلومات إجرامية لم تنمحي من أمام عيونها وتأبى مفارقة مخيلتها وربما ستعذبها لليال طوال.
راحت في موجة بكاء هستيرية أثارت فضول كل الخدم، لكن لم يجازف أين منهم بالاقتراب منها... وتم استدعاء لؤي باعتباره المسؤول هناك.
ركض باتجاهها سريعا وألقى عليها معطفه. ثم مال بجذعه إليها وأحاطها بذراعيه مساعدا إياها على الوقوف. كانت الثلوج عالقة بخصلات شعرها وشفاهها زرقاء وكل جسدها ينتفض من شدة البرد.
بدى مضطربا وهو يقول: أنت بخير!
كانت تصارع دموعها وتحاول كبتها. تتردد الشهقات في صدرها وتأبى أن تنكسر من جديد أمام ذلك الحشد الذي اجتمع هناك. لكنها كانت أضعف من أن تحتمل تلك الفاجعة وحدها فانفجرت بالبكاء من جديد وهي تحني رأسها أرضا حتى لا تكون فرجة لعيونه التي تتأملها بعبوس يخفي مرارة الشعور الذي ينتابه.
حجب عنها الجميع وهدر بالحراس خلفه ليفرقوا الحشد ثم وضع كفيه على ذراعيها وهمس لها: تستطيعين السير؟
كان مراعيا لها بما يكفي لكي لا يجرح كبرياءها. يعلم جيدا أنها تمقته ولا يريد أن يحملها وهي واعية لأنها لن تتقبل قربها منه بتلك الطريقة...
هزت رأسها بنعم كما توقع ومدت خطوتين إلى الأمام قبل أن تفقد توازنها.
أحست به يرفعها بين ذراعيه بعدها ويسير بها نحو الدرج... هل كتب له أن يحملها مرتين في يوم واحد! في المرة الأولى شغلتها رغبتها في أخذ المفاتيح من التفكير بأي شيء لكنها الآن تفكر بكل شيء دفعة واحدة...
أرخت رأسها المثقل بالهموم على صدره وشعرت برغبة ملحة في النوم... وكأنها وجدت السلام الذي كانت تبحث عنه. لم تتوقع أن هذا سيكون شعورها في حضن رجل غير محمود... تراه أنزل بها عوزا عاطفيا شديدا لدرجة أن تبحث عن الحنان في حضن أي كان! لكن لؤي لم يكن أي كان، فهو كان ولا يزال رجلا تمقته بلا سبب واضح...
عندما وضعها على سريرها هذه المرة انكمشت حول نفسها كما الجنين فغطّاها مثل المرة السابقة وعيونه عليها. لكنها دفنت رأسها بين ساعديها ولم يستطع أن يرى سوى انتفاض جسدها من شدة بكائها. كان صوت نشيجها يصل إليه رغم أنها كانت تكتم أنفاسها حتى لا تفضح نفسها.
بقي واقفا للحظات وهو يتأملها وواضح من عيونه أنه يتألم لعذابها... كان يتساءل أين ضحكتها الرنانة وطيشها الدائم... منذ تزوجت وهي في كرب... لم تعد تلك الفتاة الصاخبة التي تعشق الحياة... ما الذي فعله بها ذلك الرجل ليحولها إلى خيال أنثى محطمة!
حاول أن يمرر يده على خصلات شعرها مواسيا لكنه لم يتجرأ فانتهى به الحال أن وضع يده فوق الوسادة قربها وجلس القرفصاء محاولا أن يبحث عن وجهها الذي كانت تخفيه بلحافها وساعديها معا.
لم يجد كلمة يوقف بها نشيجها فقال بجفاف: لا تبك...
حتى صوته لم يكن حنونا ولم يستطع أن يحمل حقيقة مشاعره. وما كانت هي لتستجيب لكلماته... فظلت على حالها وهو بقربها يتأملها والنار بقلبه تستعر استعارا...
دخل والدها على عجل وسار نحوها بفزع، فقام لؤي مبتعدا ووقف قرب الجدار. جلس بشير بقربها وأراد لفها إليه وهو يهدر باضطراب: ما بك يا ابنتي؟!..
صرخت به يائسة: دعني وشأني...
وخلصت ذراعها من يده بقوة وعادت لتبكي من جديد. لم يفهم سبب فعلتها تلك. لطالما تعودت البكاء في حضنه وبثه همومها.
نظر إلى لؤي باستفهام فقال قبل أن يسأله: استدعاني الخدم فوجدتها بالحديقة الخلفية تصرخ باكية وفي حالة مزرية فحملتها إلى هنا..
نظر إلى ابنته من جديد باستياء: ما بك يا ابنتي؟!.. أخبريني ما يتعبك؟!...
صرخت به: دعني وشأني... اخرجا من غرفتي... ارحلا عني...
كاد يجن وهو يشاهدها على تلك الحال المزرية. ليس يفهم ما يحصل معها ومن الواضح أنها تعاني مشاكل لا حل لها وربما زوجها هو السبب.
قال بغضب: مالذي فعله بك ذلك النذل زوجك... من المؤكد أنه يتصرف معك بسوء وأنت لا تتحدثين...
لمعت عيون لؤي وأنصت بانتباه في ما تابع بشير: أقسم أنني سألقنه درسا لن ينساه في حياته.
رفعت رأسها بغضب ونظرت إليه بعيون دامية وهي تقول باستماتة: محمود لا علاقة له بما أعانيه. أنت سبب كل المشاكل... أنت هو سبب عاري...
تأملها لؤي بذهول. لأول مرة يسمعها تحدث والدها بقلة أدب مماثلة. يبدو أنها جنت حقيقة لا مجازا... في تلك اللحظات كان بشير كمن سحبت منه روحه. وجهه شاحب شحوب الموتى وهو يحدق فيها بعدم تصديق، أول ما جال بذهنه في تلك اللحظة أنها اكتشفت حقيقته، فعيونها المحبة تحمل غلا لم ير مثله في حياته.
استفاق على صوتها الصارم وهي تقول: لا تقترب من محمود ولا تحاول اقحام أنفك في ما يدور بيننا... زوجي خط أحمر أمامك.
حملق فيها لؤي بضيق وانسحب بوجه عابس دون أن يصدر صوتا، بينما بقيت هي تحدق في والدها بحزم ثم أردفت: دعني أرتاح لو سمحت...
جمد مكانه دون حراك. ثم قام بتشنج وهو يرمقها بنظرات حائرة محاولا تكذيب هواجسه. فالويل ثم الويل له من أيام سوداء معتمة تختفي منها إشراقة ابتسامة ابنته لو أنها حقا عرفت بفظاعته...
خرج من غرفتها مترنحا وسار بالرواق على مهل يقلب أفكاره برأسه... من المستحيل أن تتبدل مروى بين ليلة وضحاها. ومن غير المعقول أن تواجهه بتلك الشراسة إلا لخطب جلل! وليس في حياته أمور كثيرة يتشرف بها... لابد وأنها عرفت بواحدة من جرائمه... هل هو محمود من فتح فمه بلا داع! ولماذا فعل ذلك اليوم وبهاته الطريقة!... لو أراد ذلك لحشا رأسها بما يعرفه في المنزل قبل أن تحضر إلى هنا... لابد وأن واحدا من ضيوفه سرب لها الأخبار!
مسح عن وجهه عرقا باردا تصبب من جبينه. ومشى باتجاه مكتبه... عليه أولا أن يتأكد من أنه لا أحد عبث بأشيائه.
********
كانا مستلقيان معا على سرير واحد، محمود لم يشأ المغادرة وهي تعبت من محاولة اقناعه. يعتقد أن مروى لن تعود الليلة وإن رجعت فلن يكون ذلك قبل الواحدة، لذلك قرر استراق ليلة من ليالي العمر ليقضيها رفقة من يحب.
لقد ثرثرا طويلا حتى الآن وضحكا أكثر متناسيان همومهما وكل ما هما عالقان فيه من متاعب. داعب بأصابعه خصل شعرها وهو يهمس لها: ليته كان أطول...
ابتسمت برقة وتجنبت الخوض في حكايتها القديمة ولماذا تصر على أن تجعله قصيرا... لا تريد أن تدمي قلبها باستحضار آلامها الآن.
سألته بهمس أيضا: ماذا لو أطلت علينا مروى الآن وشاهدتنا معا!
بدى مستاءً وهو يقول: ما الذي سيأتي بها الآن! لا تفسدي مزاجي أنا أرجوك.
ردت بانزعاج: لا تغضب...
تنهد ثم قال: لست غاضبا لكنك ذكرتها حتى الآن عشر مرات... لماذا كل هذا الخوف! في أسوأ الأحوال ستعرف أنني تزوجتك قبلها... ولأكون صادقا لم يعد يشكل هذا فرقا بالنسبة إلي...
صمتت للحظات ثم قالت: تبدو لي فتاة طيبة...
لم يجبها فأردفت: لقد صورتها لي على أنها متبجحة ومتغطرسة... وتخيلت أنها مثل والدها... لكنها لا تعدو أن تكون مجرد فتاة مدللة تتقن فن الدلع ولا شيء غير هذا... لا أعتقد أنها تفكر بخبث أو لديها نيات مبطنة...
أجابها مفكرا: في الحقيقة هي ليست امرأة سيئة لكنها كانت تستفزني أحيانا بطباعها الصبيانية وعشقها للمظاهر...
قاطعته: لا تبدو لي كذلك...
فرقع بإصبعيه وقال: هنا يكمن مصدر حيرتي!!!.. مروى أصبحت فتاة ناضجة، وغيرت من أسلوب حياتها...
هزت كتفيها: هذا أمر جيد...
رد عليها: بل سيء.
نظرت إليه بتساؤل فتابع: لأن مروى التي أعرفها ما كانت لتتمسك بي وأنا أعاملها بهذا الجفاف... أما هذه فهي تصارع أشواكي بأزهارها ودون أن تبالي!!!
صمتت للحظات ثم قالت بألم: ربما تحبك بصدق...
*******
استفاقت مروى بعد غفوة... كانت متعبة ومتألمة... قلبها نزف وبشدة، ولا تعتقد أنه سيشفى من جراحه قريبا.
استقامت بجذعها وتأملت الساعة بقربها. إنها الحادية عشرة ليلا... يبدو أنها لم تغف طويلا... همت بالبحث عن أشيائها لتترك المنزل فمؤكد أن والدها سيرسل بأمها لتأخذ منها ما عجز عنه... أن تعرف سبب ما تعانيه وما هي فيه...
لبست حذاءها وهمت بالوقوف ثم انتبهت وتأملت النضد بقربها فوجدت هاتفها أيضا... ذعرت للحظات وبقيت واجمة تفكر... من أحضر لها أشياءها من المكتب!!!.. لقد تركت هاتفها وحذاءها هناك وخرجت تحمل أثقالا من الحسرة والخذلان!
أخذت الهاتف بسرعة وفتشت عن الرسائل متسائلة عن وصول رسالة جديدة من المجهول. وكانت مفاجأتها كبيرة عندما وجدت أن الرسائل كلها قد مسحت وأن الوارد فارغ تماما...
بقيت تفكر بتيه... هل هو والدها من أحضر أشياءها؟... تراه سيلعب دور المغفل ويسايرها. أو أن الرجل المجهول قام بتنظيف مخلفاتها! ليست تفهم ما يحدث!.. ويجب أن تصل إلى جواب.
حملت نفسها بتثاقل ولبست معطفها الجلدي ثم جمعت كل أغراضها وخرجت. كانت تود مواجهة والدها بالحقيقة وليضرب رأسه عرض الحائط. بالنسبة إليها الآن أن تتعايش مع برود محمود خير لها من أن تجلس في بيت واحد رفقته
ارتطمت في طريقها مع احدى الخادمات وهي تنظف الممر وأوقعت أشياءها ما جعل الخادمة تعتذر باضطراب وهي تجمع لها ما أسقطته.
أرادت أن تأخذ منها بعض المعلومات فسألتها: منذ متى وأنت هنا؟
أجابتها بتلعثم: قرابة الساعة آنستي... عفوا سيدتي... كنت أنظف هذا الطابق فقد أثارت الحفلة فوضى كبيرة بالمنزل والسيد يحب أن يكون المكان مرتبا كما تعلمين...
قالت مقاطعة لتخرس ثرثرتها: من دخل غرفتي وأنا نائمة؟
فكرت للحظات ثم أجابتها: السيد محسن... أراد أن يطمئن عليك بعدما أبلغوه بما حصل معك...
عبست متسائلة: محسن!!!
أكدت عليها: أجل. السيد محسن... دخل للحظات ثم خرج.
أرادت أن تتأكد أكثر: وحده... ألم يدخل أحد معه، من قبله، أو من بعده؟
هزت رأسها نفيا وهي تؤكد لها: قطعا لا...
صمتت مفكرة وقد قلب تصريح الخادمة كل أفكارها... إن كان محسن من حمل لها أشياءها فمعناه أنه دخل المكتب... ماذا لو كان هو المجهول الذي يراسلها!.. إنه يعرف شيفرة شريحة التخزين لأنه شريك والدها... لطالما فكرت بينها وبين نفسها أن من يستطيع الحصول على كل تلك الصور والمعلومات هو رجل متورط في قلب القضية... تراه تاب عن ماضيه ويريد الانقلاب على شريكه وذلك بفضحه أولا أمام ابنته... لابد وأنه يريدها في صفه. لكن ما الذي يصبو إليه ؟ ولماذا يفعل كل هذا؟
تابعت سيرها تاركة المنزل ولم تشأ الالتقاء بأي من والديها لأنها لا تريد تصادما آخر مع أبيها. عندما وصلت إلى الرواق السفلي أدركتها أمها قبل أن تخرج من الباب الخلفي واستوقفتها لاهثة: إلى أين يا ابنتي؟
ردت عليها: إلى منزلي...
اقتربت منها لتحضنها وهي تقول: ما بك يا ابنتي... أخبريني ما يتعبك. أنا أمك...
أرادت أن تستعجل في الخروج فطبعت قبلتها على خد والدتها وقالت مودعة: أنا بخير أمي... اعتني بنفسك.
وحثت الخطى مبتعدة فلحقت بها منادية: لا تذهبي لوحدك... لن أسمح لك بقيادة السيارة.. انتظري سأرسل لك السائق.
لم تبطئ من خطواتها: لا داعي أمي...
نهرتها بخوف: لا تشغلي بالي عليك أكثر أنا أرجوك... سأرسله في الحال لن يتأخر.
رضخت مروى لأمر أمها وانتظرت وصول السائق الذي أقلها إلى قصر السيد محسن في ظرف دقائق معدودة.
عندما وصلت كانت منهكة حد الوجع. لقد نزف قلبها بشدة ولم يعد في استطاعتها الاحتمال أكثر.
دخلت الفيلا وسارت تقطع صمت المكان بخطواتها المتسارعة فحضرت إحدى الخادمات وسألتها إن كانت تريد أي شيء، حركت رأسها نفيا وتابعت طريقها لتصعد الدرج ثم توقفت والتفتت إليها: عاد السيد محسن؟
أجابتها: ليس بعد...
صمتت قليلا ثم قالت: و... محمود...
مالت عين الخادمة باتجاه الرواق الذي به غرفة نسرين ثم نظرت إلى مروى وهي تقول: لم أره سيدتي...
هزت رأسها ثم انصرفت متابعة طريقها. أمامها ليلة طويلة تصارع فيها أحزانها وحيدة لا يؤنسها غير دموعها...
********
استيقظت صباحا منهكة نال منها الألم... بالكاد استطاعت أن تنام لساعتين أو ثلاث. كل ما كانت تحتاجه هو وجود محمود إلى جانبها. كان ليكفيها أن يحتضنها لتجد في صدره السكينة والأمان الذي تصبو إليه.
تأملت مكانه الشاغر بقربها وقلبها يقطر دما... ليست تدري أين هو وطال انتظارها له دون أن يعود... أين قضى ليلته يا ترى؟
حملت هاتفها واتصلت به. رن هاتفه بضع مرات لكنه لم يجب فأقفلت الخط لأنها تعرفه... هو لا يحب أن ترصد خطواته ومن المؤكد لن يكلمها.
وقفت على الأرض بقدمين حافيتين وتقدمت من الخزانة لتنتقي ملابسها. الأفضل لها أن تخرج وتجلس إلى محسن عله يبوح لها بالحقيقة... ستجن قبل أن تعرف كل شيء.
نزلت إلى القاعة الفسيحة في الأسفل ووقفت هناك تتأمل الساعة الكبيرة بالحائط. إنها السابعة ولابد أن محسن لم يستفق بعد.
كان عليها أن تنام لتحظى براحة أكبر لكن النعاس جافى جفونها وهي تشعر أنها ستفقد صوابها من شدة التفكير.
أخذت هاتفها من جيبها واتصلت مرة أخرى بمحمود. وراحت تسير باتجاه الحديقة. وعندما مرت بالرواق سمعت رنته المميزة في احدى الغرف.
توقفت فجأة واقتربت لتتأكد. تراه هجر غرفة نومه وجاء ليختلي بنفسه هنا! هل بلغ اكتئابه الآن مستوًا أعلى!...
عندما دنت كان الصوت قد توقف والهاتف في يدها مازال يرسل اتصالا... أمامها فرضيتان. إما أنه ليس هاتفه.. وإما أنه كتم صوته...
وضعت أذنها على الباب لتتأكد فسمعت صوته وهو يقول: إنها مروى مرة أخرى... يجب أن أغادر بسرعة...
نزلت بها الصاعقة عندما سمعت صوتا أنثويا يقول له: اعتني بنفسك حبيبي...
جحظت عيونها ووهنت ركبها... نزلت عليها تلك الكلمات كصاعقة قصفت كل مشاعرها في لحظة واحدة مخلفة رمادا بلون الخديعة..

noor elhuda likes this.

بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 23-08-21, 10:22 PM   #44

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الثامن عشر

نزلت إلى القاعة الفسيحة في الأسفل ووقفت هناك تتأمل الساعة الكبيرة بالحائط. إنها السابعة ولابد أن محسن لم يستفق بعد.
كان عليها أن تنام لتحظى براحة أكبر لكن النعاس جافى جفونها وهي تشعر أنها ستفقد صوابها من شدة التفكير.
أخذت هاتفها من جيبها واتصلت مرة أخرى بمحمود وراحت تسير باتجاه الحديقة. وعندما مرت بالرواق سمعت رنته المميزة في احدى الغرف.
توقفت فجأة واقتربت لتتأكد. تراه هجر غرفة نومه وجاء ليختلي بنفسه هنا! هل بلغ اكتئابه الآن مستوّا أعلى!...
عندما دنت كان الصوت قد توقف والهاتف في يدها مازال يرسل اتصالا... أمامها فرضيتان. إما أنه ليس هاتفه.. وإما أنه كتم صوته...
وضعت أذنها على الباب لتتأكد فسمعت صوته وهو يقول: إنها مروى مرة أخرى... يجب أن أغادر بسرعة...
نزلت بها الصاعقة عندما سمعت صوتا أنثويا يقول له: اعتني بنفسك حبيبي...
جحظت عيونها ووهنت ركبها... نزلت عليها تلك الكلمات كصاعقة قصفت كل مشاعرها في لحظة واحدة مخلفة رمادا بلون الخديعة..
فتح محمود الباب فكاد يرتطم بها. تراجع إلى الوراء وعلى وجهه الدهشة... لم ينطق بحرف واحد بل بقي يحدق في تلك العيون الذابحة التي كانت ترمقه بنظرات حقد لم ير مثلها في حياته.
دفعته إلى الداخل بقوة وولجت هي الأخرى لتحدق أخيرا بنسرين التي كانت تحاول أن تتوارى من نظراتها الحارقة التي تشعرها بالاحتقار...
بفستان نوم من الدانتيل الأسود لم يكن ينقصها أمارة أخرى لتتأكد مروى من أنها عشيقة زوجها.
أرسلت نظرات تقييمية للفوضى بالمكان ولبعض الثياب على الأرض. ثم لياقة محمود المفتوحة إذ يبدو أنه استفاق على اتصالها الأول ولبس ثيابه سريعا للهروب لكن القدر لعب لعبته لتقتنصه في خروجه بالجرم المشهود.
حملقت فيهما معا باشمئزاز والعبرات تخنقها خنقًا. قالت بصوت حاد وعيونها على محمود: جئت بعشيقتك إلى منزلي يا محمود؟
ثم تأملت نسرين التي تمنت في تلك اللحظة أن تنشق الأرض لتبتلعها. وباحتقار قالت لها: أيتها الساقطة كيف تتجرئين على دخول منزلي والعبث مع زوجي واستغفالي بهذه الطريقة!
وهجمت عليها لتصفعها وهي تهدر في وجهها بغضب: امرأة حقيرة...
وقبل أن تصل إليها أمسك بها محمود وسحبها إلى الوراء وهو يعنفها: لا تتصرفي بهذه الطريقة يا مروى!
نالت صفعتها من وجهه وهي تصيح بقرف: أيها الخائن...
وبخذلان نظرت إلى كليهما وهي تشعر بانكسار شديد ثم غادرت ركضا حتى لا تفيض دموعها أمامهما.
في اللحظة التي تركت فيها مروى الغرفة. خرّت نسرين جالسة على السرير وهي تشهق بقهر... إذلال مروى لها بتلك الكلمات الجارحة لن تتقبله مطلقا ومن المؤكد أنها لن ترضى بمزيد من الذل تحت سقف هذا المنزل...
لم يدر محمود أيلحق بمروى أم يواسي نسرين... كانت لعنة يوم تزوج بالاثنتان... في الأخير خرج على عجل خلف مروى خشية أن ترتكب حماقة ما... نسرين عاقلة ولديه كل الوقت لمواساتها.
دفع الباب بعنف ودخل خلفها فيما كانت هي ترمي بأشيائها من داخل الخزانة إلى الحقيبة. ودموعها على خديها.
قال لها: أنت لا تفهمين شيئا يا مروى...
هدرت فيه بعنف وغضب وغيظ وكل ما كانت تختزنه في قلبها: ما الذي لا أفهمه يا سيد محمود! أنك قضيت ليلتك مع المسماة نسرين تلك... المرأة التي جئت بها مدبرة للمنزل حتى توفر عن نفسك مشقة التنقل إليها... كم ليلة استغفلتني أيها الحقير أنت وعشيقتك الساقطة... كم ضحكتما على غبائي... أخبرني... ها...
كررها محاولا التحكم بغضبه: أنت لا تفهمين الحكاية... نسرين ليست عشيقتي... نسرين زوجتي.
خبتت كل انفعالاتها فجأة وحملقت فيه ببرود وكأنها لا تصدقه. أو ربما كانت تحاول استيعاب كلماته الصادمة التي أصابتها في مقتل... زوجته ! ويقولها بكل جرأة...
تابع قبل أن تنطق: أنا لم أكذب عليك يا مروى.. أخبرتك أنني أحب امرأة أخرى يوم زرتني بشقتي.. أتذكرين؟
عادت بها الذكريات سريعا في كبسولة للزمن لتقف عند تلك اللحظة التي ودعته فيها عند الباب بقبلة رقيقة.. تتذكر جيدا أنها شاهدت فتاة تشبه نسرين عند باب الشقة المجاورة... إنها هي!... كيف غفلت عن هذا!
تحشرجت كلماتها وهي تقول: هل هذا معناه أن سبب ادبارك عني هو وجودها في حياتك؟
تردد طويلا لكنه لم يجد بدا من اخبارها بكل الحقيقة... خدعها مرة ولا يريد أن يستمر في العبث بمشاعرها.
قال بصوت يائس يخالجه الندم: آسف يا مروى... لم يكن يجب أن أتزوجك...
فهمت الآن وبأسوأ طريقة أنه لا يريدها.... ليس هنالك أمرُّ من أن تكون مجرد هامش بسيط في حياة من ملأت به كل صفحات حياتك! بئسا ليوم أحبته فيه ووهبته قلبها... وسحقا للحب كيف يذل البشر...
لم تتمالك نفسها أكثر فخرت جالسة على سريرها قبالته وهي تحدق فيه بوجه شاحب لا دماء فيه. كانت تناظره بحيرة وكأنها تسأل عيونها... هل هذا هو محمود؟
اقترب منها وجلس بقربها حتى لا تحرقه بتلك العيون أكثر... حاول أن لا يجرحها ولم يعلم أن دماءها كانت تنزف قطرة قطرة منذ اليوم الذي ربطها فيه بمصير واحد معه...
قالت بخيبة: ... و... لا أعتقد أنك مريض حقا... لست تعاني الاكتئاب. أليس كذلك؟
تفاجأ من كلامها: اكتئاب؟... ربما عانيت من الاكتئاب بسبب ما أوقعت نفسي فيه بزواجي منكما معا... صدقيني لم يكن في نيتي التسبب في إيذائك.
قال هذا وهو يشد بقبضته على أصابعها فأفلتت يدها منه: توقعت هذا... لقد كذب علي أبوك... فعل ذلك ليعلقني بك.
ارتسمت على وجهه علامات استفهام في حين لم يستطع الاستفسار منها وهي تشهق وتخبئ وجهها خلف كفيها. ضمها إليه مواسيا فدفعته عنها بعيدا وهي تزجره غاضبة: لا أريد شفقتك...
وقفت على قدميها من جديد وحملقت فيه باشمئزاز، ثم أشرت له بإصبعها نحو الباب: اخرج... لا أريد سماع المزيد.
وقف وحاول الاقتراب منها أكثر... إنه بحاجة ليبرر موقفه لا يحتمل أن يحس أنه نذل لا خير فيه... مروى لا تستحق المعاناة التي هي فيها... كل ذنبها أنها أحبته وصبرت عليه، لكن كما يبدو لم يأت صبرها بنتيجة...
قالت بصوت مهزوم فطر قلبه: ان كنت لا تحبني فلماذا تزوجتني؟
صمت للحظات ثم قال: كنت مجبرا... وتلك حكاية طويلة من المستحسن أن تسمعيها عندما تهدئين... اتركي أغراضك وخذي حماما ساخنا يريحك وسنتحدث فيما بعد...
حملقت فيه بكره: لا تملي علي ما يجب فعله...
*********
خرجت سهام مبكرا نهار اليوم مخلفة وراءها كل أسقامها ودموعها في غرفتها الحزينة. مشت بالشوارع طويلا وهي تتخبط في متاهات عقلها، ارتطمت بالكثيرين في طريقها وداست على آخرين دون أن تشعر بذلك... أخذها عقلها الباطن إلى نفس العمارة التي كانت تسكن فيها قبل أشهر معدودة... لقد تبدلت كل حياتها في ليلة واحدة. وها هي الآن تكافح من أجل القليل الباقي من كرامتها وكذا حقها في الاحتفاظ بابنها. لقد فكرت طويلا في قتل فادي والتخلص منه حتى تنتهي من وجوده المقرف بكل حياتها... باتت تتمنى أمرا واحدا في قرارتها، لو أن الزمن رجع بها إلى الوراء ما كانت لتربط مصيرها مع رجل مثله ولو قدم مهرا لها جبالا من الذهب.
وقفت قرب جذع شجرة يابسة مبللة تتخلل أغصانها الجرداء بعض الثلوج العالقة منذ يوم أمس، وتأملت بعيونها المنهكة شرفة منزل حمويها ثم أجهشت بالبكاء... في كل يوم تموت ألف ميتة وليس هناك من قد يرحم قلبها الملتاع ويعيد إليها ابنها... لا والدها ولا إخوتها ولا حتى حمويها اللذان يبدوان راضيين تماما بما يقوم به ابنهما...
أرادت حقا أن تركض إلى هناك وتضم ابنها إليها بشدة وتشم عطره وتقبله لكنها تماسكت ومسحت دموعها . ثم حملت نفسها بعيدا وقفلت راجعة... تعلم جيدا أنها إن طرقت باب ذلك المنزل الملعون وحضنت ابنها من جديد قد لا تعود... ربما ستنكسر وترضخ لقلبها المكلوم وتقرر أن تبقى رفقته على حساب كرامتها... تعلم جيدا أنها لن تقوى على تركه يبتعد عن ذراعيها من جديد.... لازال في أذنيها طنين لصدى توسلاته لها بأن تبقى معه...

*********
نزل محمود ذلك الدرج بسرعة كبيرة متوجها لغرفة نسرين. كان عليه أن يطيب خاطرها بعد كل ما حصل... دفع الباب ودخل وكانت هي تقفل حقيبتها وقد ارتدت ثيابها للخروج. نظر إليها بدهشة ثم قال: إلى أين؟
بدت يائسة وساخطة مما هي فيه: سأترك المنزل لا يمكنني أن أبقى هنا بعد الآن...
لم يصدق ما التقطته أذناه للتو هل تعتزم نسرين حقا أن تفرط فيه بسبب كل ما حصل.
الغى المسافة بينهما في خطوتين وأخذ منها الحقيبة بعنف ثم قال مزمجرا وهو يحاول ضبط أعصابه بكل ما أوتي من قوة: نسرين! ما الذي تفكرين فيه بحق الله!... أتنوين هجراني لأن مروى عرفت الحقيقة!.
تساقطت من عينيها دموع ألم ترثي كرامتها وقالت بصوت متزعزع: ما قالته مروى يشبه الحقيقة بشكل أو بآخر... محمود مجيئي إلى هنا كان خطأ منذ البداية... لقد قمنا بخيانتها وتحت سقف بيتها!
فغر فاه محدقا فيها بفزع... ما الذي تفكر فيه هذه الفتاة! نهرها بامتعاض: لماذا تتحدثين عن الخيانة! هل كل رجل متزوج بامرأتين في رأيك يخون واحدة مع الأخرى... أي تخريف هذا! ما أعرفه أنه يحق لي أن أعيش معكما معا ودون أن تتحامل أي منكما على الأخرى...
ثارت في وجهه ساخطة: من المؤكد أنك لا تعرف طعم الخيانة! هي لم تكن تعرف بوجودي حتى شاهدتني في سريرك!.. أليست هذه خيانة! أنا أشعر بكرامتي تهدر... أصبحت أخجل من النظر إلى نفسي في المرآة لأنني متآمرة معك على تدمير حياة الفتاة بلا سبب...
بقي يحملق فيها بتيه دون أن ينبس بكلمة... أصبحت تصنفه الآن في خانة المنافقين على ما يبدو!.. يا إلهي هل كان على الأمور أن تسير بهذا النحو لتنتهي على هذا الحال!
أخذت منه حقيبتها وغادرت في عجالة ودموعها تنساب على خديها. ولم يتجرأ هو على التحرك لمنعها فقد تجمد مكانه وهو يفكر في هول ما حل به!...
***********

ركنت مروى سيارتها قرب النافورة في الحديقة وانتظرت بضع دقائق بالداخل قبل أن تقرر النزول. كانت تريد لنفسها أن تهدأ حتى لا تصبح مصدر شفقة للجميع. تنفست بعمق عدة مرات ثم فتحت الباب وترجلت من السيارة وخطاها تتسارع باتجاه باب الفيلا.
عندما دخلت كان المكان هادئا والصمت يخيم على الأرجاء كالعادة. اتجهت صوب المطبخ وقبل أن تقف عند بابه سمعت صوت لؤي وهو يضحك وإحدى الخادمات تقص عليه خبرا ما... مشت حتى وقفت عند الباب فصمتت الخادمة حالما رأتها، في ما تابع لؤي ضحكه وهو يلتفت صوب الباب ليعرف من قدم وربما توقع أنها السيدة ريماس إذ لا غيرها يقصد المكان.
كانت الابتسامة تزين وجهه عندما علقت عيونه على أهدابها المبللة بالدموع فسكن للحظة يتأملها.
تجلى الاضطراب واضحا في حركاتها عندما سألت بصوت فيه شيء من الألم والتعب: أين أجد والداي؟
أجابت الخادمة باحترام: السيدة لا تزال نائمة بغرفتها آنستي... أقصد سيدة مروى.
وكأن اسم السيدة لا يناسبها لذا لم يتعود عليه أحد حتى هو، ستظل دائما في نظره الآنسة مروى المدللة ولو تزوجت وأنجبت عشرة من الأولاد...
انتبه الى الاثنتان تحدقان به، ربما تنتظران منه إجابة واضحة عن مكان بشير. جلى صوته وقال باقتضاب وهو يتجاهل النظر باتجاه مروى: سيعود بعد قرابة الساعة...
أشعرتها عبارته التقليدية بالاختناق فها هو لا يزال محافظا على عادته السيئة في الاجابة عن أسئلتها.
قالت بحنق: أعتقد أنك تعرف مكانه يا سيد أنت وليس من خطر على حياته إن أخبرتني أنا ابنته أين يكون...
نظر إليها للحظات متأملا الغل في عيونها والذي كان يقطر من كل كلمة تقولها، ثم أشاح بوجهه عنها وأجابها بعدم اكتراث كما هي عادته: لست مخولا بتقديم التفاصيل لأحد. يمكنك سؤاله عندما يرجع...
ثم قام من جلوسه ذاك وخطى نحو الخارج بخطوات واثقة حتى مر بقربها ورائحة التكبر تفوح منه. لم تشعر بنفسها إلا وهي تلحق به حتى خرجت إلى الحديقة الخلفية أين كان واقفا يحمل هاتفه، فهدرت فيه بشدة: ما مشكلتك معي أنت!!!
التفت إليها ولم يمنع نفسه من الاندهاش بسبب خرجتها تلك فهي لم تحتك وإياه في أي نقاش، ولا شرارات بينهما طوال أيام عمله هناك رغم أنها لا تتوانى عن التعامل معه بسطحية شديدة.
نطقها بفضول: عفوا!
اقتربت منه و أحاسيسها تلتهب من شدة الغضب وأنفاسها تتسارع... هي لم تقل كل ما تريده لمحمود وربما هذا الرجل سيفي بالغرض... لا بد وأنه وقف بالخطأ تحت سدها المتصدع و ها هو قريبا سينجرف تحت سيلها المنهمر!
أشرت له بإصبعها: من تعتقد نفسك! سئمت من تكبرك وغطرستك... هل تراني هنا أحد الحراس الذين يأتمرون بإشارتك!
واقتربت منه حتى أصبحت في وجهه وقالتها له باحتقار كما لو أنها تقولها لمحمود: تعلم احترامي يا هذا...
كانت عيونها الحادة مواجهة لعيونه القريبة في نظرة تحدي وكأنها مستعدة للهجوم وهي تنتظر غلطة منه لتنسفه... ولم يخب إذ بقيت تحملق فيه علها ترى استخفافه بها من جديد، فيما كان هو يخمن كم ذرفت من الدموع ليجتاح بياض عينيها احمرارا لم يشهد له في أيامها السالفة مثيل. كم تاقت نفسه في تلك اللحظة لاحتضانها. وكم تمنى لو أنه يستطيع أن يجنبها طعم الشجن. لكن كما يبدو ليس له من الأمر من شيء...
همس بتيه وعيونه على شفاهها المرتعشة من شدة الانفعال: هل أنا من يغضبك؟
وبقي ينتظر ردة فعلها التي جاءت متأخرة وهي تستوعب أخيرا عمق تلك النظرات التي كان يرمقها بها وكأنها أخيرا أحست بشيء غريب في طريقة تأمله لها. زمت شفتيها بعبوس وحاولت الابتعاد عنه ببطء حتى لا تبدو كمن يفر من أمامه، ثم أشاحت بوجهها عنه وهي تقول: لا تستفزني مجددا...
سمعته يهمس لها: أعدك...
كان صوته خافتا وكأنه لا يريد قولها أو أنه مجبر على ذلك. أرسلت نظراتها إليه من جديد فشاهدت طيف ابتسامة حنون تلوح على شفاهه وكأنه يشفق عليها ويحاول أن يمتص شحنات غضبها على حسابه... تصرفه هذا أربكها وجعلها تشعر أنها تتصرف بصبيانية وأنه يعاملها من هذا المنطلق. ابتعدت عنه أخيرا وهي تشعر بالضعف والعجز... كلما حاولت أن تكون شجاعة وتواجه الواقع تكتشف في عيون من حولها أنها ليست سوى طفلة مدللة تبحث عن الاهتمام...
♡♡♡♡♡
وصلت سهام منهكة إلى المنزل قبل أذان المغرب بدقائق وعند الباب وجدت أمها ووالدها ينتظرانها في فزع شديد. ألقت التحية وهي تخلل أصابعها بين ثنايا المعطف لتفك أزراره.
كانا ينظران إليها بوجوم، ورغم الحنق الظاهر على وجهه لم يشأ والدها البدء بتعنيفها لغيابها عن المنزل اليوم بطوله وهي في حال مزرية. لقد كان يلتزم الحذر في التعامل معها مؤخرا.
قالت وهي تضع معطفها على الكرسي القريب: أعلم أنكما قلقتما كثيرا لغيابي نهار اليوم... لكنني بخير والحمد لله.
نطقت أمها تشرح لها: لسنا نمانع خروجك يا ابنتي لكننا نقلق عليك بسبب مرضك...
قاطعتها وهي تهز رأسها موافقة: أعلم أمي... أعلم... لقد كنت في حاجة لأجلس مع نفسي حتى نصل إلى قرار.
قالت هذا وابتعدت قليلا فهمس مصطفى لسامية مزمجرا: ألم تجلس مع نفسها في تلك الغرفة لأزيد من شهر!
التفتت اليه وكأنها سمعته فوجدت والدتها تشير إليه بكفيها حتى يهدأ. ثم التزما الصمت وحدقا بها للحظات فقالت مختصرة كل الشروحات إذ أنه من الواضح أن من رجليه في الماء ليس كمن رجليه في النار: زرت مكتب التوظيف... لقد حصلت على وظيفة وسأبدأ العمل في الأيام القليلة المقبلة.
سقط فكيهما معا من الدهشة دون أن يعلقا على هذا الكلام فتابعت بعزم: سأعمل في خدمة أحد المنازل الراقية لرجل قيل لي أنه معروف وذائع الصيت غير أنني لم أسمع به من قبل... إنه محسن ناصر السعدي... أتعرفانه!
تأتأت أمها في دهشة ليس لأنها تعرفه ولكن لأنها لا تصدق ما تسمعه حتى الآن. كيف يعقل لابنة مصطفى أن تخدم في بيوت الناس يا لهذا العار لو انتشر الخبر بين الناس!..
خرج مصطفى عن صمته وزجرها بوعيد: أنت لن تعملي في بيت أحد ولو وضعت قدمك خارج هذا البيت فلن ترجعي إليه ولن تكوني ابنتي ولا أنا والدك... أهذا واضح!..
وهب خارجا بعدها يكاد ينفجر من غضبه يركل كل ما هو أمامه ثم صفق الباب خلفه بشدة واختفى. حدقت سهام في والدتها بصمت فاقتربت منها وأمسكت بكفها في حنو وقالت برجاء: يا ابنتي والدك لا يريد لك إلا كل خير... أنت لن ينقصك هنا بيننا أي شيء فما الداعي لهذا العمل!... هل تريدين اذلالنا بين الناس!... ماذا سيقول الجيران عندما يعرفون بأنك تخدمين في البيوت؟.. لا تكسري ظهر والدك مرتين يا ابنتي...
حملقت في والدتها بدهشة وهي لا تكاد تصدق ما تسمعه. ونطقت بصوت متزعزع وكأنها تكاد تذرف الدموع: أمي... لماذا تقولين هذا؟ ومتى كسرت أنا ظهر أبي!... هل تقصدين أن طلاقي المحتوم سيكسر ظهره.. وأن خروجي للعمل سيكسره مرة أخرى!... لا أكاد أصدق!..
حاولت التحكم في أعصابها لكنها لم تستطع فقالت بقهر: الناس... الجيران... سمعتكم هي ما تهمكم... وأنا من يهتم بي!... من يشعر بالنيران التي تحرقني! أخبرتكم أن زوجي رجل شاذ فلم تصدقوني بل اتهمتموني بالجنون وأخضعتموني للعلاج، وما ذهب بعقلي إلا تحاملكم علي دون أن تسعوا للبحث عن الحقيقة... تصدقون أن فادي رجل صالح فقط لأنه أظهر لكم بعض مكارم الأخلاق وتغمضون عيونكم متعمدين عن الواقع المر فقط لأنكم لا تريدون أن تُصدموا، وترفضون مواجهة الموقف المخزي... في أعماقكم جميعا تعلمون أنني صادقة... لكنكم لا تريدون اثبات ذلك خوفا من الحقيقة... أنتم جزء من مجتمع معاق... يعتبر المرأة عورة ومصدر عار مهما فعلت. ويحتفظ الرجل فيه بامتياز ارتكاب الأخطاء مهما تعاظمت... أصبح طلاقي وخروجي لكسب رزقي عارا عليكم... أليس العار بأن تقبلوا بصهر مماثل؟ أليس العار أن تحاصروني جميعا لأرجع إلى زوجي في حين أن أفواهكم تتشدق بعبارات الترحيب بي هنا بينكم مجاملة ليس إلا؟.. أصبحت أنا من يكسر ظهركم يا أمي وليس غيري من انكسر كل شيء فيه حتى الأمل!... أخذوا مني ابني ولم يتبق لي شيء لأكافح من أجله وبدل أن تقفوا إلى جانبي لأستعيده منعتموني من رؤيته متحججين بمرضي وأنا أعلم يقينا أنكم تفعلون ذلك لأجل أن أنساه... لكن أسألك بالله يا أمي هل نسي يعقوب ابنه بعد أن ابيضت عيناه!!! لن يحس بقلبي إلا من اكتوى بحرقة مماثلة... وقلوبكم القاسية ستبقى عبيدة العادات والأعراف والتقاليد مهما كانت بالية...
همت سامية بالكلام فمنعتها سهام مسترسلة في كلامها: ولا تعلقوها في رقبة الدين فقد حاوطتموه برذائلكم وسفاهتكم والله بريء من تخاذلكم وتقاعسكم... لا يرضى الله بالظلم. وقد ساوى بين الرجال والنساء في العقاب فلماذا تحاسبون المرأة على كل كبيرة وصغيرة بينما تتركون للرجل حرية ارتكاب المعاصي مادام يخفيها عن أعين الناس جيدا...
صمتت تصارع شعورا مريرا بالظلم. ثم تابعت بثقة: أنا سأترك المنزل... سأكسب رزقي وسأتطلق من فادي وأعيد ابني إلى حضني... وإن كان هذا سيجعلني عاقة في نظركم فليس لدي أي خيار... لأنكم وفي الحقيقة لم تقدموا لي أي اختيار...
********

كانت مروى مستلقية على سريرها في سكون وهي تحاول أن تتنفس بانتظام. إن كانت ستبكي على محمود فلا داعي للبكاء. هي لم تخسر شيئا... لأنها في الحقيقة لم تمتلك شيئا لتخسره...
حبه لها قد ولى في وقت مبكر... أسقطها من ملفات حياته لينتهي بها المطاف في أرشيف الذكريات، إلا أنها ظلت تعيش على فُتات الماضي محاولة أن تعيد المشاعر التي ماتت بينهما إلى الحياة.
كل ما يوجعها الآن هو طعنة الغدر وجرح الخيانة... كم هو مؤلم أن ينتهي بك المطاف كنقطة مهملة في أسطر الحياة. جل ما يحز في نفسها هو السؤال المتكرر في ذهنها... في ماذا كانت نسرين أفضل مني لتنسيه أمري وتتربع هي على عرش قلبه بلا منازع!.. شعور بالغيرة كان يحرقها ويعذبها... ليست متعودة أن يأخذ منها أحد شيئا امتلكته... فكيف ستقبل بأن تجردها امرأة كتلك من الرجل الذي أحبته منذ صغرها!..
احترقت بنيران أفكارها زمنا طويلا. وذرفت دموعا حارة. ليس ما يوجعها حقيقة فراقها لمحمود لأنه فارقها قبل الآن... ما يقتلها هو ضياع أيامها من أجل لا شيء، واندثار تضحياتها في مهب الريح...
سمعت طرقا على الباب فاستوت جالسة وأذنت للطارق بالدخول. فدلفت أمها للداخل وعلى وجهها تساؤلات كثيرة. ثم اقتربت من ابنتها وجلست على طرف السرير وحدقت بها للحظات تحاول تخمين ما يحدث. لم تنطق أي منهما بكلمة واكتفت ريماس بفتح ذراعيها لابنتها التي ارتمت من فورها في حضنها باكية.
ربما لم تكن في حاجة لتخبرها بوجعها وتقص عليها حكاية خذلانها فريماس أكثر من عرفت معنى أن تتألم وحيدا وتعيش مهملا... أن تكسب كل شيء وأنت في الحقيقة لا تملك شيئا... فالابتسامات مغصوبة والضحكات مسروقة أما السعادة.... السعادة تلك، كذبة كبيرة...
هدأت أخيرا فأبعدتها أمها عنها قليلا وقالت وهي تمسح بأصابعها دموع ابنتها: حبيبتي... لا شيء في هذه الدنيا يستحق دموعك...
هزت الأخرى رأسها موافقة فمسحت على خدها بحنو وأردفت: أرسلني والدك لأراك... أنت لم تغادري الغرفة منذ وصولك... وهو لا يفهم سبب تصرفك ليلة البارحة... حتى أنه لم ينم مطلقا... لقد ذرع الغرفة ذهابا وإيابا حتى الصباح... حبيبتي حتى أنا لا أفهم ما يحدث معك... أخبريني كل شيء. وأعدك أن يبقى الأمر سرا بيننا.
للحظة فكرت أن تخبر والدتها بكل ما عرفته لكنها تراجعت في آخر لحظة متذكرة وعدها للمجهول. وتخشى لو أنها فتحت فمها سينفذ تهديده.
قالت بتلكؤ: لا شيء مهم... أنا مضطربة وحسب... لقد تذكرت معاملته الباردة لك وخياناته السابقة... كل دموعك ... كل آلامك...
وأمسكت بكف أمها وتابعت ودمعة تقطر من عينها: لم يكن يشعر بمعاناتك أحد... لكنني اليوم أحس بنيرانك يا أمي...
شدت على كف ابنتها وهي تتأملها بعيون حزينة: منذ دخلت الغرفة وقلبي ينبئني أن محمود قد تصرف معك بنذالة...
وهزت رأسها نفيا: خاب ظني في وجود رجل شريف ... كنت أعتقد أن محمود مختلف...
صمتت للحظات ثم تأملت والدتها وقالت: ألم تفكري في تطليق أبي؟
تعجبت ريماس من هذا السؤال وتبسمت: أطلقه!...
سكنت للحظات واجمة وابتسامتها تتحول لنظرة احتقار وازدراء وهي تستشعر معاناة السنين الماضية ثم قالت: في البداية حاولت تغييره وكسبه... وكنت أنت صغيرة ولم أشأ أن تتعرضي لصدمة الانفصال... وفكرت أنه سيتغير مع مرور الأيام... لكن مضت السنوات وتغير العالم كله ولم يتغير هو...
قالت مروى بحيرة: لكنني كبرت.. ما الذي يبقيك تحت سطوته!
ضحكت لغرابة ما تقوله ابنتها ثم قالت: هل تعتقدين أنني غبية لأفرط في بيتي ومالي ومركزي لامرأة أخرى تختال هنا وهناك بين أرجاء القصر... فوق معاناتي بنى هذا البيت حجرا حجر وتحت قهري كدس أمواله... لن أعود للفقر من جديد وأبدأ معاناة بطعم آخر. فأقل ما أستحقه بعد صبري المرير أن أتنعم في العز الذي نحن فيه...
قاطعهما صوت رنين الهاتف فنظرت مروى إلى المتصل ولم تجب فاعتقدت أمها أنها لا تريد أن تتحدث في حضورها. لذا وقفت واستأذنت منها: ارتاحي قليلا يا ابنتي... سأتأكد من تجهيز العشاء وأرجع إليك.
وبمجرد خروجها من الغرفة عاد الهاتف للرنين وكان الرقم غريبا لا تعرفه. فتحت الخط ووضعت الهاتف على أذنها فجاءها صوت أنثوي مألوف: مرحبا...
سكتت لبرهة تفكر في من تكون قبل أن ترد: مرحبا... من معي؟
بدى الاضطراب واضحا في كلام الأخرى وهي تقول: أنا نسرين... أرجوك لا تقفلي الخط...
كانت ستقفل الخط بوجهها لكنها تراجعت لتسمعها بعض الكلمات اللاذعة علها تشفي غليلها منها.
بكل غيظ هدرت فيها: ألست تخجلين من نفسك... تتصلين بي وبكل وقاحة!.. يا لك من امرأة بلا...
قاطعتها قبل أن تكمل بحدة: لم أتصل بك لتسمعيني إهاناتك.. ما دفع بي لطلبك أمر أهم بكثير من كرامتي التي دست عليها قبل أن أطلب رقمك.
صمتت الأخرى تخمن هذا السبب فاسحة المجال لنسرين حتى تخلي وفاضها. والتي أكملت بجد: والدك قد يتسبب في إيذاء محمود إن عرف حقيقة ما حصل... وقد يصل به الأمر حد قتله...
عبست باشمئزاز فمن هاته لتقول عن والدها بطريقة أو بأخرى أنه قادر على القتل: هل تريدين القول أن أبي سيقتل محمود بسبب ما حصل! أي تخريف هذا!...
أكملت الأخرى: لا تصدقيني إن أحببت، ولا أستطيع تفصيل الموضوع. لكنني ما اتصلت بك إلا لأنني أعلم أن أمر محمود يعنيك مثلما يعنيني، وكلي يقين من أنك لن تعرضي حياته لخطر مماثل.
بحنق ردت عليها: لا تكوني متأكدة...
تابعت الأخرى: آمل أن تصدقيني... ما كنت لأتصل بك لو لم يكن الموضوع في غاية الأهمية...
أقفلت مروى الخط لأنها لم ترد الاستمرار في هذا الحديث. وتركت الأخرى تتفرج على هاتفها وهي ساخطة من هذا الوضع برمته.
لقد استفاقت قبل قليل على كابوس مرعب شاهدت فيه موت محمود على يد رجال بشير رميا بالرصاص ومنذ تلك اللحظة وهي تخشى أن ينتقم منه بشير على فعلته... رجل يقتلع أعضاءً بشرية من أناس أحياء قادر على القتل وبدم بارد فهو أقرب للشياطين منه للبشر...
ألقت بالهاتف على الأريكة القريبة ومشت بضع خطوات تفكر بمحمود وما تراه يفعله الآن. لقد كانت قاسية معه، لكنها أيضا ما كانت لتقبل بأن ينتهي بها المطاف عشيقة من وراء أعين الناس...
لم يتصل بها ولم يحاول أن يتحدث إليها منذ أن تركت المنزل وربما هو غاضب من تسرعها في اتخاذ القرار.
رن الجرس فجأة فذعرت ودق قلبها بخوف. من تراه قد جاء لزيارتها. جل ما تخشاه أن بشير قد أرسل من يعاقبها على دموع ابنته...
اقتربت من الباب وأطلت من الثقب فلمحت محمود يقف خارجا. دبت السعادة في قلبها وأسرعت بفتح الباب. كان يقف في سكون وحدق فيها بعتاب دون أن يتحرك عندها ابتسمت في وجهه وشدت على كفه ساحبة إياه للداخل.
أقفلت الباب والتفتت إليه وفي عيونه نفس النظرة لم تتغير. ثم قال لها: لو وجدتك في شقتك ما كنت لأسامحك أبدا...
لم تعلق على كلامه لمعرفتها المسبقة أنه أصبح يتذمر من صرامتها المبالغ فيها . وقالت: أين مفاتيحك؟
أجابها وهو يسير باتجاه الأريكة: نسيتها... لم تتركا لي عقلا أفكر به أنت والأخرى...
جلس على الأريكة الكبيرة فتقدمت وجلست على الصغيرة بقربه. نظر إليها بجد وقال: علينا أن نسافر... بشير لن يسكت... لقد كان ينتظر غلطة كهاذه منذ سنوات...
قالت وهي تتوقع ردة فعله: تحدثت إلى مروى... طلبت منها أن لا تخبر بشير بما حصل. حتى لا تثير نقمته ضدك...
حملق فيها بسخط فتابعت مدافعة عن فكرتها: لا توبخني فأنا لم أجد طريقة غيرها لأحميك من ذلك الوغد... شئنا أم أبينا مروى هي القادرة على الحيلولة دون هلاكك... لقد فكرت طويلا قبل أن أتخذ خطوة كتلك... وخلصت أن بشير لم يؤذك طوال تلك السنوات ليس لأنك ابن شريكه وإنما لأنك محبوب ابنته. وهو لم يشأ أن يكون سببا في تعاستها... حتى زواجكما. الغرض من ورائه لم يكن ادارة شؤون الأسرتين من بعده ووالدك، ولكن كان ارضاءً لرغبة ابنته... أراد أن يشتري لها السعادة. أن يسوقها إليها ولو بإرغامك على الزواج منها وابتزازك...
صمت مفكرا ففي قولها وجهة نظر سديدة... يمكن أن تكون مروى هي نقطة ضعف بشير كما تشير إليه نسرين. انتبه متأخرا فحملق فيها بعبوس وقال: لا تقولي أنك أخبرتها بشأن تجارته!
قاطعته مشيرة بالنفي: كل ما قلته لها أن حياتك ستكون في خطر لو أن والدها عرف بما حصل...
هدأ ثم أردف: لا أتوقع أنها قد تهتم لأمري بعد الآن... ومعها كل الحق في ذلك.
قالت بصوت هامس يحمل بين طياته مرارة الاعتراف: ستفعل... في النهاية هي ضحت بالكثير من أجلك. وقلب المرأة إذا أحب لا يعرف الكره.
صمتت بعدها محدقة بعيدا وعلى وجهها شحوب وغيرة. فاقترب ووضع كفه على يدها ثم شد عليها: وأنت... هل هدأت؟
التفتت إليه وفي عيونها كومة عتاب لكنها تجاوزت كل ذلك وقالت: لو لم تأت ما كنت لأسامحك...
ابتسم رغم الاحباط الذي هو فيه وسحبها لتجلس إلى جانبه وهو يقول بتعب: لقد اشتقت إليك... تعالي إلى هنا...

**********

على الطاولة الفخمة في غرفة الطعام الراقية بمنزل بشير جلس الجميع يتناولون الطعام في صمت إلا من بعض الكلمات العابرة.
بدت مروى محبطة ولم تغفل عن عيون والدها التي كانت تسترق النظرات إليها مستقرئة ومحللة لحركاتها حتى كادت تصاب بالتشنج.
قال بمزاح: كيف حال ابنتي الحبوبة... هل زال عنك غضب يوم أمس؟
همست لنفسها "لو أنك فقط تعرف بغضب اليوم!" هي تعلم جيدا أن أمها لن تخبره عن شكوكها بشأن شجارها ومحمود لذلك من الأفضل ألا تفتح هذا الموضوع معه.
قالت بابتسامة باهتة: أنا بخير أبي... أدين لك باعتذار. تصرفت بصبيانية ليلة الأمس...
ضحك وهو يتأملها: لا عليك يا صغيرتي.. المهم ألا يتكرر الموضوع.
أومأت بالموافقة وعيونها على لؤي الذي شاهدته يدخل وفي يده هاتف خلوي ثم وضع يده على كرسي بشير ومال بجذعه هامسا ببضع كلمات أنصت لها الآخر باهتمام ثم اعتذر من زوجته وابنته وقام مغادرا بعد أن أخذ الهاتف من يد لؤي.
ابتسمت بسخرية وهي تتذكر كلمات الرجل المجهول عندما وصفه بالخادم المطيع..
حطت بنظراتها بعدها على صحنها وهي تفكر في محادثة ذلك المجهول من جديد. لقد انقطع عن مراسلتها ولم تحاول هي التحدث إليه بعد كل ما حصل. والأهم من هذا وذاك هو هوية من أحضر حذاءها وهاتفها من المكتب ثم قام بمحو كل الرسائل... أيعقل أنه محسن!... تتذكر جيدا أنها وجدته يحمل هاتفه في يده بعد دخولها من الحديقة وفي نفس الوقت الذي كانت تتحدث فيه إلى الرجل المجهول... تراه هو من كان يرسل إليها بتلك الرسائل... حتى عندما سألته بمن كان يتصل ارتبك وأخبرها أنه أمر غير مهم. كل الدلائل تشير إليه فحتى الخادمة اعترفت بمشاهدته يدخل غرفتها أثناء نومها...
ضف إلى كل هذا وذاك اتصال نسرين الذي يبدو أنه يخفي بين طياته كثيرا من التفاصيل التي يجب عليها معرفتها. إنها متأكدة أنها ما كانت لتتصل بها لو أن القضية ليست على هذا القدر من الأهمية.
وسبيلها الوحيد لمعرفة التفاصيل هو بمحادثة محمود شخصيا... حتى علاقته المضطربة مع والدها ليست مجرد سوء تفاهم أو حتى مشاكل عملية... إنها أعمق بكثير وربما كان يعرف هو أيضا بجرائم والدها... أو أسوأ منه. أن يكون شريكا ثالثا لوالدها ومحسن!
عليها أن تكون ذكية وحريصة في سحب المعلومات منه لأنه إن عرف بما تعرفه قد تفسد كل شيء.
وضعها الحالي لا يسمح لها بالجلوس وإياه والتحدث بروية لأنها ما تزال ناقمة عليه. ربما عليها أن تنتظر بعض الوقت لتفتح معه هذا الموضوع، على الأقل حتى تجهز حبكة ما تمكنها من الوصول للحقيقة دون الاعتراف بما تعرفه.
في انتظار ذلك ستتحدث إلى المجهول وعليها أن تستخدم ذكاءها لتعرف منه سبب كشف حقيقة والدها أمامها وهدفه من وراء كل هذا... وعليها أن تجره للاعتراف بهويته بطريقة أو بأخرى لأنها لن ترتاح إن لم تعرف من يكون.


noor elhuda likes this.

بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 23-08-21, 10:24 PM   #45

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل التاسع عشر

انتهت من ارتداء بيجامة نومها القطنية ووقفت قرب المرآة تسرح شعرها الأشقر كما تفعل كل ليلة قبل أن تنام. ما تزال مروى الحزينة والناقمة و لن تسامح محمود لأنها لن تنسى ما سببه لها من جراح.
أطفأت النور واندست في فراشها تاركة المصباح المتلألئ بقربها كحبات الماس يرسل شعاع نور خافت بالغرفة. أخذت هاتفها وكل همها أن تستطيع الحصول على المعلومات التي تريدها من ذلك المجهول.
أرسلت له: "مرحبا"
وانتظرت قرابة الربع ساعة ليأتيها رده: "أهلا"
وأرادت أن تدخل في صلب الموضوع مباشرة فكتبت له: "أعطني موعدا لمقابلتك"
كان رده واضحا: "مستحيل"
استشاطت غضبا وهي تقرأها ثم أرسلت له: "كلمني مباشرة إذن دون رسائل"
وكان رده: "هذا غير وارد"
هنا شكت أنه يخشى أن تتعرف إليه من خلال صوته وأيقنت من أنه شخص تعرفه. أرسلت إليه: " لقد عرفت حقيقة والدي... ماذا بعد؟"
تأخر قليلا ثم أرسل لها: "قوليها لنفسك... ماذا بعد؟"
بدى وكأنه يهزأ بها أو يتعمد الضغط عليها، ردت عليه: "هل تنتظر مني أن أتخذ قرارًا ضده!؟"
أجابها: "الأفضل أن تراقبي وحسب"
كلماته تلك دلت على أن هنالك ما هو قادم. وربما هو يخطط للإطاحة بوالدها قريبا... أرسلت إليه لتستفزه: "لابد وأنك شريكه في جرائمه... أنت قاتل مثله..."
رد عليها: "وجب علي تصحيح الخطأ"
هنا أيقنت تماما أنه سيبلغ عن والدها قريبا وفي حوزته كل الأدلة الدامغة على فعلته.
شعرت بانقباض شديد في قلبها وهي تفكر أن والدها سينتهي مجرما خلف القضبان. رغم كل مساوئه هي لن ترضى له بالذل والمهانة... وحتى وإن كان على خطأ فواجبها يقتضي بأن تحاول ردعه وهدايته.
ردت عليه: "أمهلني الوقت الكافي لأتحدث إليه، سأقنعه بالعدول عن جرائمه... أنا قادرة على ذلك"
أبطأ في الرد عليها فأرسلت له: "لما لا ترد؟"
أجابها: "كنت أضحك"
امتلأت منه غيظا فأرسلت له: "تبا لك، وليوم حملتك فيه الريح إلي..."
أرسل لها: "منك أقبلها ولا أحتج..."
سكنت للحظة تعيد حساباتها، وتخيلت محسن وهو يقولها... لا ليس من عادته جبر خواطر الناس.. بل ما هو واضح أنها مغازلة.
كتبت له: "هل غازلتني للتو؟"
رد عليها: "دعينا في المفيد. هل قلت أن والدك سيسمع منك!.. لقد أشفقت عليك لوهلة... أنت لا تعرفين وجهه الثاني مطلقا"
أرسلت له: "ومع ذلك سأتحدث إليه"
رد عليها: "لا تفعلي... ليس قبل أن نحرر الأسرى الذين في حوزته... سيقتلهم ويخفيهم عن الأعين تجنبا للخطر إن أنت فتحت فمك"
شعرت بالقهر وهي تتذكر الفيديو الذي أرسله لها قبل أسابيع.. من الواضح أن هؤلاء الأسرى ليسوا إلا الأفارقة اللاجئين.
تنهدت وكتبت له: "كم هو عددهم؟"
رد عليها: "أكثر من خمسون أو أقل بقليل... لا أعرف العدد. لكنهم من مختلف الأعمار.. أطفال شبان وشيوخ."
أغمضت عيونها وهي تشعر بالمقت... أحسّت بالمرارة وهي تفكر أنه في حين ينعم والدها وكل أسرته في عز لا يفنى هناك من أقصى درجات حلمه أن يتوسد حجرا ويرى شمس الغد.
تركت الهاتف جانبا وتكومت تحت غطائها تصارع شعورا بالكره والاحتقار لكل ما يصنعه والدها. رن الهاتف مرة واثنتان دون أن ينتابها الفضول لفتح الرسائل.
غفت لحظتها بضع دقائق واستفاقت على كابوس غريب كله دماء. استوت جالسة وهي تتعوذ من الشيطان الرجيم. وأرادت أن تشرب الماء فلم تجد في غرفتها أي ابريق.
حملت هاتفها وقرأت الرسالة الأولى: "يجب أن يتحرر السجناء قبل أن تتصرفي بحماقة"
وفي الثانية كتب لها: "لماذا لا تردين؟"
تركت الغرفة ونزلت إلى القاعة على رؤوس أقدامها وهي تكتب له: "أخبرني بخطتك علني أساعدك"
ودخلت المطبخ لتشرب فقد كانت في أمس الحاجة لتروي ظمأها.
سكبت لنفسها ماءا باردا وارتشفته دفعة واحدة، ثم حدقت بشاشة هاتفها لتجد أنه قد تعذر إرسال رسالتها. ضغطت على زر الارسال من جديد فسمعت صوت أقدام في الرواق. التفتت بفزع منتظرة من سيدخل وقد خبأت الهاتف في جيب بيجامتها البنفسجية فإذا بلؤي يتوقف عند الباب فور رؤيته لها وكأنه تفاجأ وذعر. كانت نظراته إليها غريبة بعض الشيء لم تستطع تفسيرها، ثم قال بصوت خافت: المعذرة...
وهم بالمغادرة، لكنها انتبهت لوميض في جيب سرواله كشفته ظلمة المكان تزامن واهتزاز الهاتف في جيبها منذرا بوصول رسالتها.
بقيت تحدق فيه بغرابة حتى اختفى ثم أطلت من ورائه وبقيت تشيعه بعيونها حتى دخل غرفته. هل كان هاتفه الذي أرسل وميضا من جيبه! أيعقل أنه تلقى اشعارا ما في نفس الوقت الذي وصلت فيه رسالتها! أو بعبارة أخرى... وصلته رسالتها!
تجمد الدم في عروقها وهي تفكر أنه يمكن أن يكون هو نفسه الرجل المجهول الذي يرسل إليها بأخبار والدها... هذا احتمال وارد فهو ذراعه الأيمن وأمين أسراره... ضربت جبينها بحسرة، كيف لم تشك به من قبل!.. لابد وأنه الوحيد القادر على الوصول للأسرى وتصويرهم... يبدو أنه يراقبها ويراقب تحركاتها وهي كالبلهاء تعتقد أنها تلعب في الخفاء... لا والأدهى سرقت منه مفاتيحه لتفتح المكتب!
شعرت بوهن في ركبتيها من شدة الصدمة... إنه لؤي مؤكد ولن ترتاح حتى تقطع الشك باليقين...

♡♡♡♡♡♡♡

كان صباحا مشرقا رغم برودته. تأملت سهام شمسه من وراء زجاج نافذة غرفتها ثم اقتربت من سريرها لتحمل حقيبتها المليئة بأشيائها الضرورية.
أطفأت النور وتركت الغرفة متوجهة إلى المطبخ أين كانت أمها تقوم بتنظيف الموقد. التفتت إليها وما إن شاهدت الحقيبة بيدها حتى فزعت وضربت بكفها على صدرها مرددة: ستفعلينها يا سهام!
حدقت فيها سهام بألم وقالت: ليس أمامي حل آخر يا أمي...
وهنت ركبتاها فجلست على الكرسي القريب وهي تقول بنفس متقطع: ما الذي سيفعله والدك عندما يعود ولا يجدك!.. ماذا سأقول له!..
أجابتها: أخبريه ألا يبحث عني لأنني لن أعود...
بدأت سامية بالنحيب وهي تقول: هذه نهايتك يا سهام! هذه هي تربيتي لك!... هذا هو جزاءنا يا ابنتي!
هزت رأسها بقلة حيلة فلا يبدو أن أمها ستفهمها في يوم من الأيام. ثم قالت: قد أكون ابنة سيئة لا تطيع والديها... وربما سيعاقبني الله على عقوقي في يوم من الأيام لكنني ما عدت أستطيع الاحتمال... انقطع بي النفس يا أمي... ادعي لي بكل خير. واتركيني أكون أنا... أو أموت وأنا أحاول...
قالت هذا وتركت أمها لنحيبها موصدة وراءها على كل آلامها وانتكاساتها... على كل دموعها وجراحها... لقد أقفلت على سهام المهزومة هناك بين جدران بيتهم وتركتها لتموت بسلام. أما هي فأمامها غد جديد وأيام مشرقة لأنها لن تركن إلى الدموع بعد اليوم..

♡♡♡♡♡

كانت نسرين تنظف الأطباق ومحمود جالس على الكرسي يتأملها باسما حتى ألقت بما في يدها جانبا والتفتت إليه: ألن تكف عن التحديق إلي! لم أعد أعرف كيف أقوم بعملي!
رفع حاجبيه بعناد: تلك مشكلتك...
حاولت أن تمتنع عن التبسم لكنها فشلت في ذلك فأردف محمود: أريد أن أشبع من النظر إليك قبل أن يأخذني بشير...
قالت بتوجس: إلى أين؟
أشار بإصبعه إلى فوق دون كلام فثارت وغضبت وهي تنهره بصوت متزعزع: محمود لماذا تصر على إثارة مخاوفي... أنا لا أريد أن تتحدث بتلك الطريقة... أرجوك.
تبسم ضاحكا وهو يحاول جبر خاطرها: أمامنا أيام حلوة خارج هذا البلد... سنكون في أمان وننسى بشير إلى الأبد...
جلست على الكرسي المقابل له وهي تجفف كفيها من الماء ثم حملقت فيه للحظات وقالت بحزن: هل سفرنا يعني عدم عودتنا إلى هنا من جديد؟
أجابها بتوجس: لا أحد يعلم ما تخفيه لنا الأيام القادمة...
صمتا معا بشرود ثم قالت بعد تفكير: إن كان مستقبلنا هناك مبنيا للمجهول فعلينا أن ننهي كل مسائلنا العالقة هنا قبل أن نبدأ حياة أخرى... لن نفتح صفحة جديدة قبل أن نطوي القديمة...
لم يستوعب حقيقة ما كانت ترمي إليه من بين السطور لذا قرر الصمت حتى تلقي بكل ما لديها. وتابعت هي بشجن: قبل أن نرحل أريد زيارة عائلتي...
تأهب في جلسته والدهشة مرسومة على معالم وجهه وقال بحيرة: ماذا تقولين!
استطردت هي والارتباك يتملكها: الحقيقة التي لم أفصح لك عنها أنني أعيش وعقدة الذنب تخنقني...
وتساقطت من عينيها دموع حارة عندما تذكرت هواجسها: أشعر أنني أنزلت بأسرتي عارا لا ينتسى. أعلم أن أبوَيّ غاضبان مني وربما يلعنانني سرا وعلانية... أشعر أنني أفتقر إلى السكينة، وتقض مضجعي كوابيس لا تنتهي تخبرني بأنني ملعونة...
وضعت كفها على شفاهها وراحت تشهق وتبكي فاقترب منها وضمها إليه مواسيا وهو يقول: لا أعتقد أنك فعلت إلا الصواب... أنا أستغرب كيف صبرت على أسرة كتلك كل هذا الصبر... إن لم تهربي كنت ستنتحرين لا محالة...
هزت رأسها نفيا وتراجعت حتى تستطيع تأمله ولتستمد من تواجده بقربها دفئا لذاتها. قالت بارتجاف: هذا لا ينفي أنني أسخطت والداي. وإرضاء الوالدين عند الله من أعظم الطاعات... ومهما فعلت في حياتي أشعر بالتقصير...
تابعت بحرقة: مهما قالت ياقوتة ومهما بررت لي أنا لم أقتنع... أعلم بداخلي أنني أخطأت في الفرار من المنزل... الفرار لم يكن حلا لكنه كان أهون السبل آن ذاك... وأحتاج اليوم أكثر من أي وقت مضى أن أغسل خطاياي... لعلهما يعفوان عني وأنال من بعد ذلك سكينة القلب التي أفتقدها...

♤♤♤♤♤♤

استفاقت في وقت مبكر جدا ونزلت إلى القاعة في ثيابها الرياضية. فاستقبلتها الخادمة: أجهز لك الفطور آنسة مروى؟
هزت رأسها نفيا وعيونها تجول في الأرجاء: لا شكرا.
تجاوزتها بعدها متجهة إلى قاعة الرياضة. ودخلتها في ترقب تستمع لصوت آلة رفع الأثقال وهي تصدر صوتا منتظما.
كانت قاعة فسيحة مجهزة بأحدث المعدات. غير أن ريماس تفضل النوادي للثرثرة مع صديقاتها أكثر منه للمحافظة على لياقتها. أما بشير فلا يهمه إن ظهر له كرش مادام يعبئه من مال الحرام. وبالنسبة لمروى كانت الحمية أهم طريقة لاكتساب الرشاقة فلم تكن تهتم بهذه القاعة ولا غيرها. إلا من زيارات متباعدة إلى النادي رفقة صديقاتها أيضا. وظلت القاعة مقفلة إلى أن سمح بشير أخيرا للحرس الخاص به باستعمالها.
اقتربت على مهل حتى لا تصدر صوتا وتماما مثلما توقعت كان لؤي مستلقيا على ظهره على الآلة يرفع الأثقال. بقيت واقفة تراقبه وذراعاه يعلوان ويهبطان مع اشتداد عضلاته وتمددها في كل مرة. هذا هو من عبث بأعصابها طوال الفترة الماضية... لا ريب في أنه المجهول صاحب الرسائل الواشية... ترى هل كان مستمتعا باستغبائها طوال الوقت؟ يقف من بعيد متفرجا عليها دون أن تراه تماما مثلما تقف هي الآن وهو منهمك في أداء تمارينه.
ما الذي ستفعله به الآن! هل ستواجهه لتعرف الحقيقة أم أنها ستلتزم الصمت وتراقبه في الظل تماما مثلما كان يفعل معها.
أوقف تمارينه واستوى جالسا وجبينه ينضح عرقا كما هي أذرعه وسائر جسده. ما إن حطت أعينه عليها حتى تجلت الدهشة واضحة على وجهه. في الوقت عينه أحست بانقباض في معدتها فلا هي حضرت لما ستقوله ولا حسمت أمرها بشأن مصارحته!..
قال بصوته ذي النغمة الهادئة: صباح الخير.
ردت عليه التحية بعبوس كما هي عادتها. ولم يطل النظر إليها إذ حمل القارورة الصغيرة بقربه وارتوى من مائها. ثم علق منشفته على كتفه وقام من جلوسه.
ومر بقربها كنسمة ريح بلا هفهفة هامسا: بالإذن...
وجدت نفسها تقف كالبلهاء بلا حراك فيما هو يتبع نهجه القديم في التنحي من أمام وجهها وكأنه على يقين من أنها لا تحبذ تواجده. لا هي تحدثت إليه ولا صارحته ولا حتى قالت كلمة مما اعتزمت مناقشته فيه...
التفتت إليه وقالت بصوت مرتفع: أنت...
توقف والتفت إليها فاقتربت منه خطوتين حتى لا يسمعهما أحد وحملقت فيه للحظات وعقلها يعرض عليها ملايين الاحتمالات حتى كادت تتلف أعصابها.
لم تستطع النطق بكلمة وهي تشارف على اتخاذ موقف قد يغير الكثير في حياتها. لم يستطع أن يكبح جماح فضوله واعتقد أنها ستختلق ذريعة ما لمشاجرته فاستحثها على الكلام: بماذا تأمرين؟
تمقت طريقته المستفزة في تكليمها فلسانه ينطق باحترام فيما أعينه ترسل إليها نظرات استخفاف وازدراء. يعلم جيدا أن طريقته تلك تكسبه تفوقا وتجعله ينال منها ومن تعنتها.
ترددت طويلا ثم أشارت إلى نفس الآلة التي كان يتدرب عليها: هل ستساعدني.
رد عليها بريبة وكأنه متأكد من أنها كانت تريد أمرا آخر: بكل تأكيد.
وسار رفقتها حتى وصلا فخفف من الأثقال الموصولة بعمود الرفع وطلب منها أن تمدد ظهرها على الكرسي المائل. ثم علمها الطريقة الصحيحة للامساك بالعمود. وفعلت هي مثلما شرح لها لاعنة إياه في صميمها فهي لم تجد ورطة توقع نفسها بها أخف من هذه بعد أن تراجعت عن مواجهته في آخر لحظة.
رفعت العمود للأعلى أول مرة بمساعدته واستمرت تتبع تعليماته في طريقة مد ذراعيها وشدهما ولسان حالها يقول "تحاذق يا فهيم! لولا غبائي ما كنت تثرثر فوق رأسي!"
طوال وقت تمرنها كانت تفكر بما حصل ليلة أمس... فبعد صعودها لغرفتها عائدة من المطبخ جلست وقتا طويلا تصارع دهشتها. من غير المعقول أن يكون لؤي ضد والدها فهو دائما كان خادمه المطيع... دخل المنزل قبل سنوات وكسب ثقة الجميع بسهولة. دائما يقوم بعمله في صمت ولا يحاول الظهور... لماذا انقلب على والدها فجأة!
رن هاتفها منذرا بوصول رسالة. وكان جوابه عن سؤالها له بشأن خطته لإنقاذ الأسرى حتى تتمكن من مساعدته. كتب لها: "كل شيء في أوانه"
لم تتمالك نفسها ولم تستطع احتمال هواجسها فكتبت له: "هل أنت جاسوس؟"
رد عليها: "لا"
كتبت له مرة أخرى: "شريك نادم... ندمت"
فرد: "جدا"
تركت الهاتف جانبا واحتضنت ساقيها واضعة خدها على ركبتيها. من الواضح أن لؤي مل من تلك الجرائم ويريد تصويب خطئه كما أشار لهذا من قبل... لكن ما الذي جعله يعلق في دوامة الاجرام مع والدها إن كان رجلا حي الضمير؟
لابد وأن وراءه حكاية أخرى وقصة ضياع من قصص هذه الحياة. لكن هو على الأقل أدرك خطأه ولو متأخرا.. أما والدها فيبدو أنه لا يبالي وفي غيه مستمر.
عادت لواقعها على صوت لؤي وهو يطلب منها أن تترك العمود.
قال لها: يكفي حتى الآن... يمكنك التمرن بطريقة أخرى.
استوت في جلستها والتفتت إليه: متعِب...
ابتسم ورد عليها: أجل إنه متعب... هل تحتاجين شيئا آخر قبل أن أغادر؟
هزت رأسها نفيا فابتعد قليلا ثم توقف والتفت إليها: لا تحملي أثقالا تفوق قدرتك ستتأذين.
تاهت للحظات وأجابته وهي تسرح بخيالها: لقد حملتها وانتهى الأمر...
كلماتها جعلته يقف مكانه لبرهة ثم رجع إليها ليقف بقربها من جديد. همس لها قائلا: أحيانا نعتقد أننا لا نقوى على حمل همومنا... لكن الأيام تثبت لنا عكس ذلك... ومهما أخطأنا فعلينا تحمل نتائج اختياراتنا.
بدى وكأنه يلمح لها عن زواجها من محمود اعتقادا منه أن هذا ما يثقل عليها. حملقت فيه للحظات ثم أردفت بتعب: لماذا نرتكب الأخطاء...
أجابها: لأننا بشر... ولأن ظروفنا تقودنا نحو الخطأ أحيانا...
لم تحد بنظراتها بعيدا وهي تقول: كيف للظروف أن تقودنا نحو الخطأ؟
جلس على كرسي الآلة القريبة وكأنه يستعد لبدأ حوار قد يطول ثم حملق فيها من جديد وقال: بالجيش كان معي رجل مخلص حد الغباء يؤمن بأنه حامي الوطن ويتفانى في أداء عمله... كان ماهرا ومتفوقا وحصل على ترقيات وحضي بحب قادته... لكن أحد الضباط لم يكن يروق له الأمر فقد أراد لابنه أن يكون هو الفرد المميز الوحيد ليحظى بنصيب الأسد. ولم يكن ليقبل برجل من العامة يعيبه فقره وبساطة عيشه بأن يتربع على أعلى المناصب... حاك له في الخفاء وورطه في تهمة لا يد له فيها... اتهمه ببيع المخدرات واستهلاكها. ودسها له بين أغراضه ودفع لمن يعترف بأنهم يشترونها منه داخل أسوار الثكنة...
صمت قليلا يصارع غله ثم تابع: حوسب وعوقب وانتهى به المطاف مسرحا من خدمته. منبوذا يلاحقه العار...
كانت تراقبه بحزن... وتعلم أنه يخبرها عن قصته لأنها عرفت بالصدفة قبل سنتين أنه ملازم سابق بالجيش تم تسريحه من الخدمة بسبب متاجرته في المخدرات.
تابع وهو يحرص على إخفاء حسرته منهيا للقصة: تمنى أن يكون مصدر فخر لوالديه وزوجته... لكنه في الحقيقة... لم يكن سوى مصدر عار.
دهشت وحملقت في كفه فشاهدت خاتما بإصبعه... لم تكن تعرف قبل اليوم أنه متزوج لأنه ومنذ بدأ عمله لم يترك منزلهم إلا نادرا.
لاحظ تحديقها بالخاتم فتلمسه، عندها انتبهت ولم تجد بدا من أن تسأله، لكن دون أن تحسسه أنها فهمت ما وراء كلامه: لديك خطيبة؟
أجابها وهو يتأمل دهشتها: كانت لدي زوجة... لكنها ماتت قبل سنوات.
أشارت إلى الخاتم: ولازلت تضعه بإصبعك.
ابتسم وتمعن النظر فيه: أحب تذكرها... إنها امرأة ليس لها مثيل...
ليست تدري لماذا أصبحت تغار من قصص الحب الذي لا يموت... ربما لأن الحب نفسه ركلها بعيدا لتتفرج على العشاق في صمت.
قالت له بصوت مهزوم: تمنيت أن أجد رجلا يحبني بعد أن أموت...
ثم اصطنعت نصف ابتسامة وهي تقوم من جلوسها: كيف انتهى به الحال صديقك ذاك؟
وقف هو أيضا استعدادا ثم قال: وضع فكرة الانتقام برأسه... وأراد أن يجمع ثروة ليواجه كل من ظلمه... وسار على درب الانتقام يشحذ همته... لكنه في منتصف الطريق توقف فجأة والتفت خلفه... وأدرك متأخرا أنه أصبح يشبههم... يشبه كل أولئك الخونة الفاسدين... أصبح واحدا منهم دون أن يشعر...
وصمت دون أن يقول المزيد فهمست له: وما الذي فعله؟
حملق فيها بنظرته المستفزة المعتادة ثم قال: لم ألتق به منذ ذلك الحين...
وهمّ بالمغادرة فأصرت على معرفة المزيد: وكيف تتوقع نهايته؟
رد عليها دون أن يلتفت وهو يسير باتجاه المخرج: قتيلا...
شهقت فالتفت إليها متسائلا ثم قال باستخفاف: رجل فاشل.. يستحق الموت.
رحل بعدها تاركا إياها في دوامة لا نهاية لها. يبدو أنه رسم خططه ونظمها ويعرف أن والدها لن يتركه حيا بالنهاية... حملت نفسها لتغادر هي الأخرى فلا جدوى من بقائها هناك.
كم هو سهل أن نحكم على الناس بالفساد أو الصلاح... لا ترهقنا المشقة ونحن نصنف البشر على حسب المظاهر... لكننا لو تعمقنا قليلا في الأسباب لأدركنا أننا خلقنا والخطيئة بين أرجلنا تسير معنا حيث ما توجهنا... الحكمة ليست في أن نكون معصومين من ارتكاب المعاصي... ولكن الحكمة في أن نتوب منها ونتذكر أن لنا ربا يرانا ويحاسبنا على كل كبيرة وصغيرة... فنستغفره ونلجأ إليه فارين من ذنوبنا ليتغمدنا برحماته وينير لنا درب النور بحلاله.

نزلت سهام من سيارة الأجرة ودفعت للسائق. ثم حملت حقيبتها ونظرت أمامها لفيلا ضخمة منبسطة على نطاق واسع يفوح منها الترف.
سارت تجر حقيبتها من خلفها، وعندما أصبحت قبالة الباب رنت على الجرس فتحدث إليها المسؤول الأمني وسمح لها بالدخول بعد أن فتح أمامها الباب أوتوماتيكيا.
كانت مرتبكة تخطو بخوف. فهذه أول مرة تزور فيها مكانا فخما كهذا. ضف إلى ذلك أنها غير متعودة على التواجد وحدها وسط أناس لا تعرفهم ولا يعرفونها...
لاقاها أحد الموظفين في منتصف الحديقة وتأكد من هويتها وحقيقة إرسال مكتب التوظيف لها ثم دعاها لترافقه أين أوصلها للمطبخ حيث كانت اثنتان من الخدم تثرثران وواحدة منهما تقول للأخرى: مسكينة السيدة مروى... إنها لا تستحق ما حصل معها...
صمتتا فور أن أحستا بوجود دخلاء فتقدم الرجل وقال: ليلى... هذه السيدة سهام إنها الخادمة الجديدة التي أرسلها مكتب التوظيف.
تقدمت ليلى منها ورحبت بها داعية إياها للجلوس حتى تشرح لها ما يجب معرفته. في ما غادر الرجل لعمله.
بقيت الثانية التي يظهر من شكلها أنها حامل وعلى وشك الولادة تحملق فيهما بصمت إلى أن انتهت ليلى من الثرثرة ثم اقتربت هي الأخرى مرحبة بها وقالت موضحة: أنت ستخلفينني في عملي... كما ترين أنا على وشك الولادة وقال زوجي أنني يجب أن أتفرغ لتربية طفلي...
هزت رأسها مومئة وهمست لها: يسر الله ولادتك.
بقيت تتحدث رفقتهما لوقت قصير حيث حاولتا أن تشرحا لها طبيعة عملها هناك وتعرفاها بمالكي المنزل حتى تضعاها بالصورة ثم قامت ليلى بتوصيلها إلى غرفتها لأجل أن ترتاح وترتب أشياءها وتشرع في تأدية وظيفتها مباشرة.
جلست سهام على طرف السرير بعد أن انتهت من طي ثيابها ووضعها في الخزانة. وراحت تتأمل الغرفة المرتبة بعناية وبجوفها غصة تخنقها... ليست تدري لماذا هي غير مرتاحة في هذا المنزل وكأنها تشعر أنها أخطأت بالتمرد على قرار والدها وتركها لدفء أسرتها من أجل أن تراهن على مستقبل مجهول!

■■■■■■■■

كانت نسرين وحيدة في الشقة بعد أن غادر محمود للعمل.
لقد اعترض وامتعض واحتج وانفعل لكنه لم يستطع ثنيها عن القرار الذي اتخذته... ستواجه أسرتها ولو كان ذلك يعني النهاية... بقلبها أوجاع لن تشفى مالم تعالجها بالشكل الصحيح... وأحيانا نحتاج لفتح الجرح أكثر وتطهيره من الداخل قبل أن نخيطه ونلفه... وهذا بالضبط ما ستفعله مهما اعترض محمود. فتلك أسرتها والقرار يرجع لها وحدها... تتفهم خوفه وقلقه عليها لكنها لن تغير من قرارها مهما حدث.
وقفت في المطبخ قرب الرزنامة المعلقة تعد الأيام ثم تفاجأت باندهاش لتتحول دهشتها لابتسامة مشرقة وهي تتأمل خيرا. فدورتها تأخرت هذه المرة وربما كانت حاملا... ولن تتأكد من الموضوع إلا بعد أن تجري اختبار حمل منزلي.

■■■■■■■

أصبحت الساعة تشير إلى تمام الثامنة مساءا وهو موعد طعام العشاء في منزل السيد محسن. والذي جلس وحيدا على تلك الطاولة الكبيرة فمحمود غادر رفقة نسرين وكل الذي عرفه منه أن مروى عرفت الحقيقة وتركته أيضا... اتصل قبل قليل ببشير للتحدث بشأن أعمالهما المشتركة وكان هدفه من وراء ذلك جس النبض ليس إلا. لكن هذا الأخير رفض التحدث إليه وأبلغه أحد موظفيه أنه مشغول... ذلك الشاب الفقير الذي بدأ حياته معدوما أصبح اليوم رجلا مرموقا يعامله بغطرسة وتكبر!... صر على أسنانه متذكرا الماضي. لاعنا إياه آلاف المرات.
من بعيد أقبلت سهام وهي تحمل ابريق الماء بين يديها في لباس عمل رسمي يصل منتصف ساقيها وشعرها الأحمر مسرح على شكل ذيل حصان.
طافت عيونه الوقحة تمسح كل قطعة من جسدها وترصد كل حركة تقوم بها حتى انتهت من وضع الابريق على الطاولة وقالت بارتباك: تأمر بشيء آخر سيدي.
ارتسمت ابتسامة ماكرة تخفي إعجابه الواضح بهذه الدخيلة وقال لها بتكبر مستعرضا لسطوته: هل أنت هي الخادمة الجديدة؟
هزت رأسها بنعم ونظرت إلى الأرض أسفل قدميها محاولة تمالك نفسها فقد شعرت بتوتر شديد من وقوفها أمامه.
قال وهو يقرب كأسه: لماذا أنت خائفة؟ هنا لا نأكل البشر!
لا فقط تبيعونهم أشلاءً!.. رفعت طرفها إليه بخدود متوردة نال منها الانفعال. ولحظتها وقعت في قلبه وأراد أن يمتلكها مثلما امتلك كل شيء في حياته... بالنسبة إليه هي لن تكون أكثر من خليلة يغدق عليها بنقوده مقابل أن تغدق عليه أنوثتها...
ابتسم في وجهها بطريقة جعلتها ترتجف وتستشعر بحدسها الخطر المحدق بها. ثم قال لها بطريقة ودودة: أنت مرحب بك هنا يا...
أجابته وهي تستعجل الرحيل في قرارتها: سهام.
تابع يقول: مرحبا بك يا سهام...
استأذنت من فورها وهربت من مرمى بصره تحث خطاها باتجاه المطبخ أين وقفت مستندة على الطاولة تلتقط أنفاسها.
التفتت إليها ليلى وقالت: قابلت السيد؟
هزت رأسها وأطرافها ترتعش. ثم قالت بتوتر: كيف هو السيد هنا؟
رمقتها بنظرة من زاوية عينها وقالت مختصرة كل الكلام: زير نساء...
ذعرت سهام وأرادت لحظتها الهرب لكن إلى أين! لقد وقعت بين فكي مفترس لا طاقة لها به وانتهى...

■■■■■■■

كان بشير جالسا بمكتبه يحدق بالفراغ أمامه، ولا يبدو عليه الجهل التام بما يدور من حوله إذ أن له عيونا في كل مكان ليرى ما يريد الآخرون إخفاءه.
طرقتان على الباب عرفتاه هوية القادم فرفع صوته قائلا: أدخل.
دلف إلى الداخل لؤي وفي يده مغلف، فأشار له بشير بالجلوس، عندها اقترب من المكتب ووضع المغلف بين يديه قبل أن يستوي جالسا على أحد الكرسيان المرصوفان قبالته.
فتح بشير المغلف وتصفح محتوياته بإمعان وشفتيه ترسمان نصف ابتسامة ساخرة ثم وضعه جانبا وقال: ألم يخبرك أمجد بشيء آخر؟
أجابه: قال أن كل شيء في المغلف.
أومأ برأسه ثم قال: أتعتقد أنها سترجع إليه؟
لم يجبه فاستطرد: الحقيقة أن لي ابنة يصعب علي التكهن بردّات فعلها! ربما أنت أدرى مني بسخافات ما يسمونه الحب... هل تعتقد أنها سترجع لمحمود إن حاول مصالحتها؟
رد بالقول: ابنة سيادتك فتاة عنيدة وذات كبرياء...
وصمت قليلا ثم استأنف: لكن إن كانت حقا تحبه... فأعتقد أنها سترجع إليه.
ضرب بكفه على المكتب وهدر غاضبا: على جثتي!.. لن أسمح له بالعبث بمشاعر ابنتي من جديد... لا أحد يهين ابنتي وأنا حي!
تمتم: بماذا تأمر؟..
ارتسمت على وجهه ابتسامة خبيثة ثم قال مزمجرا بغيظ: لقد استنزف كل ذرة من صبري ذلك الرجل... وقد آن أوان عقابه... دعني أفكر كيف أشفي غليلي منه أولا...
قام من جلوسه ثم استأذن ليترك المكتب فأشار له بالخروج وعاد ليتصفح محتويات المغلف. كان تقريرا من مخبره الذي كلفه بمراقبة نسرين فور أن تناهى إلى علمه أنها تركت منزل محسن، يخبره فيه أنها لم تترك شقتها إلا هذا المساء عندما قصدت الصيدلية لشراء اختبار حمل. ألقى بالصور المرفقة مع ورقة التقرير داخل المغلف من جديد وهو يهمس بسخرية : مبارك سلفا يا محمود...
الحقيقة أنه كان يعرف بعلاقة محمود ونسرين منذ بدايتها ولكنه لم يعرها الأهمية الكبرى معتقدا أن علاقتهما ستنتهي بالطلاق، فالرجل في رأيه يعرف نزوات كثيرة تنتهي إلى الاضمحلال والزوال. لكن ما لم يتوقعه أن تنتهي ابنته هو إلى المصير ذاته! فعندما قبل بعقد قرانها ومحمود كان يتأمل أن يرجعا إلى سالف عهدهما حبيبان لا يفرقهما شيء. وحتى ذلك الشحوب والضمور الذي أصاب مروى عزاه لعوارض حمل يبدو أنه غير متيقن من حدوثه حتى اللحظة... لقد التزم الصمت في موقع المراقب وقتا طويلا عل الأمور تستقيم معهما لكنها لم تزدد إلا سوءا لتنتهي إلى اكتشاف ابنته لتواجد نسرين في حياة زوجها بعد أن فاجأتهما في غرفة واحدة بعد ليلة طويلة كما أخبرته الخادمة التي يدفع لها لتنقل إليه أخبار ذلك المنزل بتفاصيلها. وتصادف أن حصل هذا، صباح تلك الليلة التي أمطرت فيها عليه شهبا أحرقته وزعزعت طمأنينته... ولا يزال حتى الآن متوجسا يحاول معرفة سبب انقلابها المفاجئ عليه وتقليل تهذيبها معه... هناك ما يثير ريبته في الموضوع ولن يرتاح حتى يعرف السبب.
لقد اتخذ قراره بشأن انهاء علاقة ابنته ومحمود. لكنه لم يشأ الافصاح عن قراره بعد خصوصا وأنها لم تخبر أحدا بما حدث بينهما... سينتظر قرارها بشأن الموضوع قبل أن يفرض عليها رأيه...
ألقى بالتقرير في الدرج ثم استرخى على الكرسي وابتسامته الماكرة ترتسم على شفاهه، ليهمس لنفسه في الأخير: لم أحصل من قبل على جنين محنط في زجاجة... سيكون من الممتع أن أزين رفوف خزانتي بابنك القادم يا سيد محمود... ولن أنسى إرسال قلبها لك هدية مني حتى لا تقول أنني ظالم!

كانت مروى في القاعة الكبيرة عندما شاهدت لؤي يترك مكتب والدها متوجها إلى الرواق الجانبي أين توجد غرفته. لا بد وأنه سيخلد للنوم الآن وتبقى هي فريسة الأرق، تتآكلها الهواجس.. زفرت بتعب، لماذا حمّضلها ثقلا كهذا! ليته لم يضعها في الصورة وتركها لجهلها. ربما كانت أسعد بقليل.
سارت في الممر عاقدة ساعديها أمامها حتى انتهت قرب النافذة المطلة على الحديقة وهناك وقفت تراقب ظلمة السماء المماثلة لظلمة حلت على تفكيرها ولن تنقشع...
أحست بوقع خطوات خلفها فالتفتت لتشاهده خارجا من المطبخ وفي يده قارورة ماء، ثم فتح باب غرفته ودخل دون أن يكلمها ولا حتى ينظر إليها... إن كانت تعتقد أنها بتواصلها معه هذا الصباح ستستطيع كسبه لصالحها فهي مخطئة... طريقته الباردة في التعامل معها لن تتبدل مطلقا...
أقفل الباب فعادت لتحدق بالسماء وما لبث أن اهتز هاتفها منذرا بوصول رسالة. حملته على عجل وكانت من الرقم المجهول الذي سجلته مؤخرا باسم "صاحبي الحزين" وكانت: "تصبحين على خير"
ابتسمت بعفوية وعادت لتحدق بباب غرفته المقفل. ثم كتبت له: "تصبح على خير" وتركت الهاتف بجيبها عائدة لشرودها في ظلمة السماء. ليست تفهم هذا الرجل! أحيانا تشعر بدفئه في التعامل معها وأحيانا أخرى يخرجها عن طوعها ببروده واستفزازاته! لكن السؤال المهم.... ما الذي يريده منها بحق الله!
برأسها آلاف السيناريوهات لكنها لم تختر ما تريد بعد... أهم ما عليها فعله هو التواصل مع محمود ومحاولة الوصول إلى الحقيقة. وربما أيضا مفاتحته في موضوع الطلاق فالأحفظ لكرامتها أن تبادره هي بهذه الخطوة...
أخذت الهاتف من جيبها مجددا وترددت طويلا في طلبه لأن كبرياءها كان أعند من منطقها... لكنها في الأخير غلبت مصلحتها واتصلت به لضرب موعد يحددان فيه مستقبل علاقتهما المنهارة.

■■■■■■■■

أعدت نسرين طاولة مميزة لعشاء اليوم ولبست أحلى فستان في خزانتها منتظرة وصول محمود الذي تأخر كثيرا... قال أنه سيصل بعد ربع ساعة ومضى حتى الآن ما يقرب الساعة دون أن يصل. وحتى هاتفه مقفل !
كانت تدور بالمكان كالمجنونة وهي تردد: يا رب استره... يا رب احفظه...
لم تتمالك نفسها وراحت في بكاء شديد... تعلم أنها امرأة تلاحقها المتاعب دون كلل أو ملل... لم تهنأ بلحظة فرح واحدة دون أن تتحول لدخان... ولابد وأن هذا اليوم الجميل من أيام حياتها الرمادية سيسود قريبا... لا يحق لها أن تسعد... هذا كل شيء باختصار...
سمعت صوت الباب يُفتح فوقفت متأهبة وتأملته وهو يدخل متعبا يحمل حقيبته بيد والأخرى تفك ربطة عنقه.
ارتمت سريعا في حضنه تكمل بكاءها... ولم يفهم هو ما يحصل. أصابه الذعر وهو يشاهد انهيارها بهذا الشكل. حاول ابعادها عنه ليفهم الموضوع لكنها ما ازدادت إلا تشبثا به حتى قال بوجل: نسرين! ما بك؟!
من بين شهقاتها فهم منها أنها كانت قلقة عليه وخافت أن يصيبه مكروه. ضمها إليه من جديد وهو يهمس لها مبتسما: وكأنك لا تعرفين زحمة الطرقات كل مساء! حتى هاتفي نفذ شحنه...
واستمر يمسح على ظهرها مواسيا حتى هدأت فأبعدها عنه ليشاهد ثوبها البنفسجي القصير هاتفا بحماس: تبدين رائعة.
وأخذ يمسح سيلا من السواد لطخ وجهها بعد ذوبان الكحل في عيونها وهو يحاول اخفاء ابتسامته المتسلية. ضربته على بطنه وهي تقول بانزعاج: أصبحت مثل المهرج أعرف هذا...
ضحك وهو يشد بطنه من الألم: رغم ذلك ستظلين أجمل نسرين زينت حياتي...
اندفعت نحو الحمام لتغسل وجهها في ما واصل هو فك ربطة عنقه وخلع سترته ملقيا إياها على الأريكة ثم ما لبث أن حملها من جديد ليعلقها على المشجب بعد أن تذكر تذمرها من فوضويته.
بعد قليل سمعها تناديه من المطبخ فغسل كفيه ودخل لتناول العشاء. كان عشاءا ملفتا للنظر. حملق للحظات في الطاولة المزينة بالورد والشموع ثم فيها مرة أخرى وقال مبتهجا: لابد وأنك تحتفلين بخلاصنا من مروى!
كانت ستقذفه بأول صحن تلتقطه أصابعها لكنها تمالكت أعصابها وقالت بهدوء يعاكس استنفارها: ومن جاء على ذكر سيرة زوجتك الثانية يا حبيبي...
دنى منها محاولا تقبيلها فأبعدت وجهها عنه بعبوس: لا تحاول تطييب خاطري بحركاتك تلك...
تظاهر بالانكسار: حطمت قلبي...
ابتسمت بارتياح واقتربت من كرسيها فسحبه لها لتجلس. استوت عليه بتكبر وقالت: هكذا أصبحنا متعادلين...
ضحك وهو يسحب لنفسيه كرسيا مقابلا لها حتى لا تحيد عن ناظريه وقال لها باستسلام: أعرف أنك شرسة لا تذكريني...
سكبت له ولنفسها وبدآ بتناول العشاء في أجواء رومانسية. وطوال الجلسة ظل يتودد إليها بكلامه المعسول بينما تتظاهر هي بأنها ما تزال منزعجة فقط لتنهل المزيد من نبع عواطفه... وكان هو كمن شرب من كأس العشق حتى الثمالة يتغزل بها وبكل شيء فيها وكأنه يودعها قصة حبه لآخر مرة!
انتهيا من تناول الطعام فقامت لتجمع الصحون. نظر إليها بعبوس وقال: تمزحين بكل تأكيد!... لن تقومي بغسلها الآن!
ابتسمت بمكر وهي تقترب من الحوض: لن تغسلها أنت هذا مؤكد... أم تراك تريد مساعدتي لننتهي منها سريعا!
لم تشعر به إلا وهو يحملها ويسير بها خارجا يتمتم بسخرية: جننت يا فتاة!... لن تموت صحونك الجميلة من الانتظار... أنا من سيموت بكل تأكيد.
ضربته على يديه وهي تأرجح ساقيها في الهواء ولم ينزلها إلا عندما أصبحا بغرفتهما. كانت تضحك بشدة من تصرفه وقد توردت خدودها خجلا بينما أخذ هو يرمقها بنظرات افتتان وهيام.
قاطعت أفكاره التي تؤجج مشاعره وهي تقول: هل تريد معرفة سبب الاحتفال الصغير؟
لحظتها لم يكن يفكر بشيء غيرها قال وعيناه تلتهمانها: وهل أحتاج سببا لأحتفل بك... وجودك في حياتي هو أكبر داع للاحتفال...
ابتسمت بود وهو يوشك على تقبيلها وقالت له عندما أصبح على مقربة منها: أنا حامل.
توسعت عيونه وسكن يحدق بها للحظات حتى يتأكد من صدق الخبر فلم تتمالك نفسها وغلبها الضحك.
قال بريبة: ليست احدى دعاباتك... صحيح!
هزت رأسها نفيا فتهللت أساريره وحملها عاليا مقهقها بسعادة. بينما كانت هي تصرخ بخوف: أنزلني! ستوقعني يا محمود!

■■■■■■■

انتهت سهام وليلى من تنظيف المطبخ وترتيبه وكانتا منهكتين تفكران في أخذ قسط من الراحة. لكن قبل خروجهما دخل أحدهم وهو يقول: لقد عدت.. كيف حالك يا ليلى؟
ضحكت ليلى وردت عليه: مرحبا بعودتك يا وليد... شكرا لله أنك رجعت...
التفتت سهام خلفها لتشاهد شابا في الثلاثينات من عمره أسود الشعر أبيض البشرة بعينين بنيتين. شعرت بقلبها يهبط من بين ضلوعها وهي تتذكره.
شهقت ورددت: هذا أنت!
انتبه إليها الشاب المسمى وليد وحدق بها للحظات وكأنه يتذكرها. ثم قال: أنا أعرفك..
وراح يفرقع بأصابعه محاولا تذكرها ثم قال: إنها أنت... المرأة التي لحقت بزوجها ليلا إلى الملهى الليلي.
هزت رأسها مؤكدة كلامه وهي لا تصدق أنها وجدت أخيرا سائق سيارة الأجرة الذي أقلها في تلك الليلة المشؤومة. إنه الدليل الدامغ على حقيقة ما عايشته حينها.
وضعت أصابعها على شفاهها تمنع شهقاتها ودموعها تنحدر على خديها. وأخير شع بصيص الأمل من خلف الغمام... يالله كم أنت لطيف بعبادك!
لم تفهم ليلى ما يحدث ولم يستطع أن يعرف وليد سبب دموعها تلك فقال بحيرة: لماذا تبكين؟
مسحت دموعها محاولة تمالك نفسها وردت عليه: انها حكاية طويلة...
ثم صمتت لبرهة وتابعت: هل تعمل هنا؟
أجابها: أجل.. كنت أعمل سائقا لدى شركة النقل ثم انتقلت للعمل هنا لأنهم يدفعون أكثر... أنا سائق السيد محسن. كنت في إجازة البارحة وقد عدت.

noor elhuda likes this.

بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 28-08-21, 01:22 AM   #46

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي


الفصل العشرون


إنه صباح ضبابي بارد. سماؤه غائمة وجوه لا يشجع على الخروج... دقت الساعة مشيرة إلى تمام الثامنة في القاعة الرئيسية لمنزل بشير بالتزامن مع نزول مروى على الدرج مرتدية معطفا جلديا قصيرا مع سروال من الجينز وشعرها مصفف على شكل ذيل حصان. بدت له كمراهقة صغيرة وهو يتأملها باسما من مكان قصي.

سارت على عجل باتجاه المستودع لتستقل سيارتها فمشى لؤي متوجها إلى سيارته المصفوفة قرب النافورة. إنه مكلف منذ الأمس بمراقبتها ونقل أخبارها لبشير أولا بأول... ليس يدري هل هذا من حسن حظه أم لسوئه!... ما الذي ستفعله به عندما تعرف بتجسسه عليها!

تتبعها بحذر على طول الطريق حتى ركنت سيارتها قرب أحد المطاعم الراقية بالمدينة وسلمت مفاتيحها للخادم هناك حتى يضعها بالموقف.

حاول الدخول من باب جانبي وجلس في الزاوية بحيث يتمكن من مراقبتها دون أن تراه.

كانت تجلس وحيدة. تحملق في ساعتها كل دقيقة وكأنها بانتظار أحدهم. ولم يلبث أن وصل محمود فألقى عليها التحية وجلس دون أن يبدي أي منهما عاطفة نحو الآخر.

لم يكن يستطيع سماعهما من مكانه البعيد، لذاك كان حريصًا على استقراء حركاتهما وتعابير جسديهما.

في تلك اللحظة كانت مروى مغتاظة من محمود حد الحنق... فهو لم يبرع في إبداء ندمه ولم يحاول تطييب خاطرها. لكن ليس من أجل هذا جاءت.

قالت لتستعجل الدخول في صلب الموضوع: أعلم أنك مشغول وأنا كذلك لذا لن نضيع مزيدا من الوقت.

رد عليها بتفهم: أجل معك حق... تفضلي أنا أسمعك...

عقدت ساعديها أمامها استعدادا وقالت وهي تراقب ردة فعله: أعتقد أنه علينا البدء بمعاملات الطلاق... ولا أريد أن أنتظر لأكثر من أسبوع.. أنت شخصية مرموقة وتستطيع استعجال هذه الإجراءات...

بدى محتارا: لم كل هذه العجلة!

وجهت إليه نظرات نارية وهي تقول: لأتخلص منك... لديك مانع!

هز رأسه نفيا وهو يقول: على الاطلاق... هذا من حقك.

صمتت للحظات ثم قالت: اتصلت بي نسرين... قالت أن والدي سيؤذيك إن عرف بإساءتك لي... ما الذي دفع بها لقول هذا الكلام؟

لم يجد ما يقوله لها فليس من مصلحته الخوض في أمور بشير. كل ما حاول فعله هو إظهار تفاجئه من الموضوع وهو يرد عليها: لابد وأن نسرين خافت من والدك لأنه رجل ذو نفوذ وتوقعت أن يؤذيني...

شعرت بتهربه فأصرت عليه: بدت لي واثقة من كل كلمة تقولها وشعرت أنها تخفي عني أمرا ما... كما أنك وأبي لستما أبدا على وفاق... أتذكر جيدا أنه في يوم زفافنا بالكاد تحدثتما... هلا أخبرتني حقيقة ما يدور بينكما؟

حاول إقفال الموضوع: أنت تعلمين أن سبب خلافاتنا هو الأعمال... والدك رجل يحب حشر أنفه في كل شيء ويقلل من أهميتي... لهذا رفضت التعامل معه وتركت أبي يهتم بشراكتهما بنفسه...

أرادت تصديقه لكن حدسها كان ينبئها بخلاف ذلك. وفي تلك اللحظة أرادت أن ترمي صنارتها علها تفلح في اصطياد كلمة او اثنتين منه: ما أعتقده أنك متورط في وساخة ما.

انعقدت حواجبه وبدى الاستياء على وجهه لكنه لم يسمح لها باستفزازه ولا حتى أن تنجح في أخذ أي كلمة منه. فقام من فوره وهو يقول: من بعد إذنك لدي أعمال... وأوراق الطلاق ستصلك خلال أيام...

وانصرف دون قول المزيد فبقيت تشيعه بعيونها الغاضبة وهي تتمنى خنقه لتصرفه ذاك.

بدى لؤي مسرورا من تلك الشرارات التي كانت تبرق بينهما منذرة بالحرب. فهم أن مشكلتهما أصعب من أن تُحل بسهولة لكنه لم يجزم أنهما سينفصلان. وكان عليه أن يترك المطعم قبل أن تنتبه لوجوده فقرر انتظار خروجها في سيارته ريثما تشرب قهوتها.

x

♡♡♡♡♡♡

x

كانت سهام تقوم بتنظيف الدرج وهي تتذكر لقاءها ليلة البارحة مع وليد... يبدو أن الحياة ابتسمت بوجهها أخيرا. كل ما عليها فعله اليوم هو التحدث إليه وإقناعه بمرافقتها إلى منزل والديها حتى تضعهما أمام الحقيقة. ولتثبت للجميع أنها ليست مجنونة وأن فادي رجل مختل بكل المقاييس.

كانت ترسل بنظراتها في الأرجاء كل لحظة علها تبصره. لتطلب منه موعدا من أجل أن يتحدثا بإطناب في كل ما حصل.

استقامت في وقفتها فأحست برجل خلفها، وقد وضع كفه على خصرها. صرخت بفزع وابتعدت عنه فإذا به السيد محسن وعلى وجهه ابتسامة مكر. قال لها بهدوء مريب: كدت تدعسين على قدمي...

وكأنه أراد أن يوحي لها أن ما حدث لا يعدو أن يكون مصادفة بسبب جهلها بقدومه. هي حقا لم تشعر بنزوله للدرج، وأرادت تصديق ذلك على أن تفكر في أنه تحرش بها وحاول لمسها.

وصل وليد في اللباس الرسمي للسائق ونظر نحو محسن: السيارة جاهزة سيدي.

أجابه بتكبر: سأخرج الآن.

وتقدم من الباب فلحق به وليد ولم تستطع هي أن تقول أي كلمة. ناهيك عن دقات قلبها المتسارعة بعد أن فاجأها محسن بتصرفه ذاك...

♡♡♡♡♡♡

x

لحق لؤي بمروى حتى المركز التجاري الكبير. شاهدها تترك سيارتها وتسير باتجاه المدخل. لكنها توقفت فجأة وبقيت تحدق بمجموعة من اللاجئين الأفارقة وهم يتعرضون للطرد بسبب تسولهم قرب أبواب المركز التجاري. تفاجأ وهو يشاهدها تقترب من رجال الأمن وتتحدث إليهم ثم فتحت حقيبة يدها وأخرجت محفظة نقودها ووزعت على اللاجئين كل ما تحمله من مال بداخلها.

ارتسمت الابتسامة على شفاهه وبقي مستندا بمرفقيه على أحد الحواجز يراقبها من خلف نظاراته السوداء إلى أن دخلت المركز.

لحق بها وتتبعها وهي تتنقل بين الطوابق وتشتري ما تحتاجه من أغراض مستخدمة بطاقتها الائتمانية. شاهدها تقف مطولا متفرجة على الدمى في أحد المتاجر لكنها لم تدخله. عرف أنها تشتاق لطفولة سعيدة كانت فيها الحياة مسالمة لا أنياب لها ولا أظافر.

تجولت هناك قرابة الساعة واشترت كل ما أعجبها. ربما كانت تلك طريقتها لتنسى همومها.

كادت تصطدم به في طريقها للنزول، توسعت عيونها وهي تتأمله ثم قالت بريبة: ما الذي تفعله هنا؟

رفع أمامها كيسا ورقيا به بعض أغراضه وقال: أتسوق.

ثم مد يديه ليحمل عنها أكياسها فقدمتها له وسارت بقربه يتأملان الواجهات.

قال لها: هل انهيت تسوقك؟

أجابته: أجل كنت في طريقي إلى السيارة...

سار معها في صمت تام حتى وصلا إلى السيارة فوضع أغراضها بالمقعد الخلفي والتفت إليها. كان يجب أن تكون مهذبة معه فلا شيء يحتم عليه مساعدتها إلا من باب اللباقة. قالت له: شكرا لك.

رد عليها: العفو.

وابتعد يبحث عن سيارته فبقيت تحدق به للحظات قبل أن تدخل سيارتها.

هما هكذا لا شيء يجمعهما... إنه هادئ يركن دائما للصمت. لا تنالها إلا نظراته التي تشعر أنها تحمل الكثير من العتاب. فأحيانا تستفزها وأحيانا أخرى تشعرها بازدرائه لها... لو أنها فقط تفهمه وتحدد ما يريده.

x

♡♡♡♡♡

x

كانت نسرين تعد طعام الغداء عندما سمعت صوت الجرس. لابد وأنها ياقوتة، فقد اتصلت بها قبل قليل وأخبرتها أنها ستزورها.

فتحت لها الباب بعد أن أطلت عبر الثقب لتتأكد من هويتها. ثم عادت معها وهما تتبادلان عبارات الترحيب وكل منهما تسأل عن أحوال الأخرى.

جلستا معا بغرفة الاستقبال وعيون نسرين تحدق بياقوتة التي لم تكن على طبيعتها. بدى وجهها شاحبا دون مكياج وثيابها كانت أكثر تحفظا عن السابق. بدأ الشك يساورها فقالت لها: ياقوتة هل ستتزوجين أخيرا؟

ابتسمت على مضض وقالت بألم خفي: ومن سيقبل ببقايا أنثى أتلفتها السنون!

توسعت عيونها بذهول، فهذه أول مرة تعترف فيها ياقوتة بطريقة غير مباشرة أنها امرأة سيئة. حاولت أن تستفهم منها أكثر وهي تفكر في طريقة لفتح الحوار معها دون أن تجرحها. لكن الأخرى اختصرت أمامها كل الطريق وقالت: لقد اعتزلت...

توقفت الكلمات في لسانها المعقود ولم تنطق. فابتسمت ياقوتة من ذهولها وتابعت: لابد وأنك لم تصدقي الأمر كون الموضوع قد فاجأك... أجل صحيح أنني ومنذ زمن كنت امرأة سيئة السمعة... وقد وظفت فتيات وفتحت لهن أبواب هذه المهنة وعلمتهن كيف يثرن الرجال ويسطين على ما في جيوبهم، وكن فتيات بارعات جنين الكثير... لكن...

وتنهدت بحسرة ثم تابعت: رميت كل هذا وراء ظهري. استيقظت ذات صباح. وقمت بتسريح كل الفتيات اللواتي كن تحت يدي... تفاجأن ورفضن... لكنني كنت واضحة. لا أريد المضي قدما، هذا كل شيء...

xقالت وهي لا تزال تحت تأثير الخبر: هكذا فجأة!!!

أجابتها بابتسامة: لقد فكرت طويلا... لا أريد أن أموت هكذا... تصدقين! أحيانا يرسل الله إليك إشارات. ويمهلك.. إشارات تكون واضحة لمن فتح عيونه وتمعن فيها. ولا تكون غير حدث عابر في حياة من عميت بصيرته ولم يرد أن يرى غير ما يهواه.

هزت رأسها موافقة: صدقت... أنا... أنا...

وتجلى الانفعال في صوتها: أنا سعيدة من أجلك...

وعانقتها بفرح شديد. لابد وأن دعاءها لها بالهداية قد جاء بنتيجة... الحقيقة أنها كانت يائسة تماما من تبدل ياقوتة..x كانت تدعو لها من باب الصداقة التي جمعتهما وبداعي الامتنان ليس إلا. وكأنها كانت تبرئ ذمتها منها بطريقة أو بأخرى، ولم تكن تفكر أبدا في أن ياقوتة التي كانت تنتقل في حياتها من سيئ لأسوأ قد تفيق ذات يوم من سكرتها وتدرك أنها تتهاوى نزولا في دركات الجحيم. من تلك اليد التي أنقذتها وشدتها نحو القمة من جديد؟... لابد وأنها المشيئة الالهية...

تناولتا الغداء معا ونظفتا المطبخ سويا وهما تثرثران في مواضيع مختلفة إلى أن توقفت نسرين فجأة واستندت على الطاولة وقالت: ياقوتة... لقد قررت أن أسافر إلى البلدة...

تفاجأت ياقوتة كثيرا من هذا الخبر وبقيت تنظر إليها بدهشة ثم قالت بامتعاض: تستعجلين موتك!

ردت عليها مقاطعة: لا ترددي علي ما قاله محمود... فأنا قد قررت وانتهى الأمر...

هزت رأسها بملل وهي تتابع غسل الصحون: كعادتك!... لا تستمعين لأحد.

صمتت قليلا ثم ردت عليها: أنتما لا تفهمانني. أريد أن أضع حدا لتلك الحكاية ليس من العدل أن يتهمني الجميع ويصورونني في أبشع صورة. أنا مثل كل البشر يمكن أن أصيب ويمكن أن أخطئ... أعلم أن هروبي من المنزل كان خطأ لكنني لم أكن حينها سوى طفلة مراهقة انسدت في وجهها كل السبل.

فكرت لبرهة ثم أجابتها: لا أتوقع أن والدك أبو لحية ذاك سيفهم ما تقولين ولا إخوتك المبرؤون من الخطايا سيعذرون تصرفك... هناك لن تجدي سوى جلادين على استعداد تام لبتر رأسك عن جسدك... في نظرهم أنت وأنا لا نختلف عن بعض...

أرادت أن تتكلم فأشارت إليها مقاطعة وتابعت: أنا أعلم أنك لم تسلكي أي طريق خاطئ لكنهم لا يعقلون هذا... في اعتقادهم أنك بهروبك معي تحولت إلى امرأة من نوع آخر وبمقاييس جديدة... عقولهم المتحجرة لن تفهم معاناتك ولا سعيك لتحقيق ذاتك. أفواه الناس هناك تتهمك بالفاحشة وتعدك بجهنم... أنت لست سوى وصمة عار على المنطقة كلها... هكذا يفكر أولئك المتخلفون هناك. بذهابك لن تواجهي فقط أسرتك وإنما البلدة كلها... لا أحد سيتعاطف معك مثقال ذرة، فهل أنت مستعدة لمواجهة كل هذا؟

قالت بتحدي: سأفعل.

x ردت عليها بملل: إذن استعدي لخيبات أكبر... صدقيني أنت أفضل بكثير على ما أنت عليه.

التزمتا الصمت لفترة حتى نطقت ياقوتة من جديد: ومتى تعتزمين السفر؟

أجابتها: لا أدري ... لم نحدد موعدا بعد.

ناظرتها بقلة حيلة: إذن أنت مصممة!

هزت رأسها مومئة واكتفت الأخرى بالصمت فلم تطرح مزيدا من الأسئلة ثم ختمت كل ذلك بتنهيدة وهي تقول: على الأقل سيكون معك محمود ليحميك.

♡♡♡♡♡♡♡♡

x

دخلت مروى غرفتها ومن ورائها دخلت الخادمة تحمل أكياس مقتنياتها. أشارت لها بأن تضعها على السرير واقتربت من المرآة تتأمل هيأتها وهي تفتح سحاب معطفها بترو وعقلها يفكر في المصادفة الغريبة التي جمعتها بلؤي في المركز التجاري. هل حقا كان يتسوق هناك أم أنه كان يراقبها.

هزت رأسها بملل وهي تلقي بالمعطف على الأريكة الصغيرة. لقد أصبحت تشك في كل شيء الآن، يبدو أن الهواجس تسيطر على حياتها! اقتربت من أكياسها تتفرج على ما أحضرته معها فقط لتشغل بالها عن التفكير بما تعانيه. فتحت الكيس الأول ثم الثاني وفي الثالث وجدت دبدوبا فوق مقتنياتها.

حملته بتعجب وتأملت شكله اللطيف. لا تذكر أنها اشترت شيئا كهذا! أهي هدية قدمها لها أحد المتاجر بعد دفعها لثمن مقتنياتها؟... لا ، لا تذكر هذا!.. من أين جاء هذا الدبدوب يا ترى؟!

تذكرت أن لؤي هو من حمل أكياسها ووضعها في مؤخرة سيارتها ثم ذهب بأغراضه. تراه هو من وضع الدبدوب في كيسها!.. فكرت للحظات دون أن تجد جوابا. لماذا قد يضع شيئا كهذا مع أغراضها!.. راحت تسترجع ما علق بذاكرتها منذ زيارتها للمركز التجاري. لقد مرت بمحطات عديدة منها تفرجها على الدمى بمحل الألعاب. أيعقل أنه كان يتأملهاx من حيث لا تدري!..

أمسكت بالدبدوب مجددا وتأملته مع ابتسامة متعبة. أجل لقد أعياها هذا الرجل. تشعر أنه يحيط بها ويرسم مستقبلها بيده كيفما يشاء... إنه موجود في كل مكان ويعرف كل شيء... ويخطط في الخفاء... وليست تفهم حتى الآن ما يريده منها.

x

♡♡♡♡♡

x

انتهت سهام من تنظيف المنزل وكانت ستتوجه إلى غرفتها لتبدل ثيابها من أجل أن تكون جاهزة لتقديم الغداء للسيد عندما يصل. كان قلبها يدق بشدة وهي تشعر بالخوف. نظراته تشعرها بالقشعريرة فكما يبدو هو رجل لعوب يهوى اصطياد النساء. وهي امرأة مكسورة بلا سند!

بدلت ثيابها الرسمية بأخرى نظيفة وخرجت إلى القاعة الرئيسية. وهناك وقفت عند الطاولة لتعيد الآنية الخزفية الكبيرة إلى مكانها. وفجأة أحست بوقع خطى خلفها فارتعبت وارتعشت أطرافها لتنزلق الآنية من بين أصابعها وتتحطم أرضا.

التفتت خلفها على عجل قبل أن يتمكن القذر هذه المرة من ملامستها من جديد وكانت مفاجأتها كبيرة عندما شاهدت محمود وهو يتوجه إلى الدرج.

اقترب منها متسائلا: أنت بخير؟

رمشت بعيونها وهي تتنفس بصعوبة من شدة الخوف واكتفت بهز رأسها بنعم.

تأملها للحظات ثم أشار لها بإبهامه وقال: ألست السيدة سهام أم أنس؟ أنت كنة سليم أليس كذلك؟

أجابته بنعم وهي تتذكره. إنه جار حمويها بالعمارة. قالت له بعد أن هدأت: أتعمل هنا؟

ابتسم وهو يرد عليها: لا... أنا ابن هذا المنزل.

حملقت فيه بدهشة وهو يخمن كل الأفكار التي تدور برأسها ثم قال لها: كيف هو ابنك؟

شعرت بالألم والاحباط عندما تذكرته، وبعيون امتلأت بالدموع ردت عليه: لم أره منذ شهر... أنا ووالده سنتطلق وقد أخذه مني بأمر من القاضي بعد أن اتهمني بالجنون والإهمال...

شعر بالأسى وهو يشاهد انكسارها ثم قال لها: ان احتجت أي شيء لا تترددي في طلبه... نقود، محامي... أي شيء.

هزت رأسها شاكرة ولكنها لم تكن من النوع الذي يتحين الفرص. فرغم كل شيء يظل محمود رجل غريب لن تأمنه. فإن كان والده العجوز يتصرف مثل المراهقين فما الذي سيطلبه هذا لقاء معروفه!

قال وهو يشير إلى شظايا الآنية: الأفضل أن تجمعيها وتلقي بها بعيدا. والدي سيغضب من أجلها كثيرا.

انعقد لسانها وشهقت بذعر، هذا ما كان ينقصها... أن تثير غضب السيد!

انصرف بعدها متوجها إلى غرفته في حين أسرعت هي بإحضار كيس من المطبخ لتطمس آثار جريمتها، وعقلها يفكر في محمود الذي اتضح أنه ابن محسن، من كان يعتقد هذا! الحقيقة أنه من بعد ما أفجعتها في زوجها ومن ثم في ابنها... لم تعد الدنيا تشعرها بالذهول...

x

انتهت ياقوتة من اعداد طعام العشاء وجلست وحيدة في تلك الفيلا الفاخرة تفكر بمستقبلها. توقفها عن عملها يعني توقف مداخيلها ولن تمضي كثير من الأيام حتى تشعر بالحاجة إلى المال. عليها أن تتدبر لها عملا ما لتكسب رزقها وتكفي نفسها شر الناس. لم يصدق أحد أنها توقفت عن إدارة مجموعتها وفككت شبكتها بيدها. ومازال الكثير من زبائنها يتصلون للتأكد من صحة الخبر الذي أثار ضجة في الأوساط المشبوهة.

رن الجرس فنظرت إلى الساعة التي قاربت الثامنة وتساءلت بينها وبين نفسها عن هوية زائرها. ثم حملت نفسها تجر الخطى باتجاه الباب وعادت بعد برهة رفقة بشير والامتعاض واضح على وجهها. جلسا بغرفة الاستقبال وعيونه تزدري مظهرها وكانت متضايقة من تعابير وجهه الساخرة حد القرف. استرخى على الأريكة واضعا ساقا فوق الأخرى وأشار لها بالجلوس وكأنه في بيته وما هي إلا ضيفة عنده.

جلست قبالته وهي تلعنه في داخلها آلاف المرات حتى قاطع سلسلة شتائمها تلك بصوته الذي كسر صمت المكان: هل صحيح ما سمعته؟

أجابته بصرامة: ان كنت تقصد اعتزالي. أجل..

ابتسم بخبث وأراد أن يضايقها أكثر فقال: هل أصبحت عجوزا غير قادرة على إسعاد الرجال. أم أنه لم يعد هناك من يرغب في ترهلات جسدك!

ابتسمت ببرود يعاكس نيران الغضب التي كانت تلتهمها وقالت بلا مبالات: قد كنت ترغب فيها قبل أسابيع... أم تراك مغامر يحب الاستكشاف وحسب!

ضحك بسخرية وهو يقول: لقد قلتها...

فكرت في أنها يجب أن تنسف غطرسته وتدمر اعتداده بنفسه ولم يخطر ببالها إلا ما ذكرته نسرين بشأن زواجها فابتسمت بدهاء وكذبت عليه قائلة: الحقيقة أنني سأتزوج قريبا... لهذا أحاول الابتعاد قدر المستطاع عن عالمي السابق...

استطاعت أن تبصر الصدمة في ملامحه والتي سرعان ما أخفاها بضحكة استخفاف وهو يسحب لنفسه سيجارة من جيب سترته الداخلي.

قال لها بلا مبالاة: مبارك عليك... من تراه يريد ركوب سيارة مهترئة مر عليها المئات قبله حتى لم يعد فيها ما يثير اهتمام أي رجل!

أجابته وهي تجاهد نفسها حتى لا تقلب الطاولة بوجهه وقالت بابتسامة مصطنعة: رجل أحب الجوهر... لا يهمه الشكل الذي تسخر منه. إذ أنه يجده أكثر إثارة إذا ما توافقت الأرواح وتواصلت الأحاسيس. قد يحصل على تجربة مميزة لا حرب ضروس يطوف فيها الغازي على مستعمرته فيعيث فيها فسادا ولا يخلف من بعده إلا رمادا...

بدى من الواضح أنها تشير لطريقته البربرية في التعامل معها آخر مرة اجتمعت به بين جدران غرفة مغلقة. وكان هو من النوع الذي لا يحتمل أن ينتقده أحد. هب واقفا وفي قبضته معصمها وسحبها ناحيته بقوة حتى كادت تسقط. حملق فيها بشراسة وهو يهمس بحنق ظاهر: ربما كنت من النوع الذي يهوى اللعب بخشونة. وتريدين جولة أخرى. كوني صريحة ولا تراوغي.

ختم كلامه بابتسامة ساخرة من وجهها الممتقع. فقد كانت تشعر بالوجل من تحديقة عيونه الثائرة وأحست أنه يبيت لها مالا تطيقه. حاولت تخليص يدها من قبضته لكنها لم تفلح في الخلاص منه. وقام هو بوضع سيجارته التي لم يشعلها بعد في جيبه. ثم شد معصم يدها الأخرى حتى يشل حركاتها وجعلها تجلس رغما عنها على الأريكة من جديد، قام بعدها برفع ذقنها إليه بقوة حتى يستطيع تأملها وقال بوعيد: لا تحاولي اللعب معي واستفزاز هدوئي فأنت لا تقدرين العواقب...

هدأت لحظتها ولم تقاومه فتابع يقول بغطرسة: تعلمين من أنا!

ردت عليه بهمس: أنت بشير الذي كان يعمل في مخبزة زوج خالتي. والذي لم يكن يجني ما يكفي لسد نفقات شهره...

ابتسم بتسلية وهو يكمل كلامها: والذي كد واجتهد ليبني نفسه من الصفر حتى تربع اليوم على ثروة لا تعد ولا تحصى، وأصبح الآمر والناهي والرجل الأكثر احتراما في هذا البلد...

صمت للحظة ثم أردف: السؤال الأهم... أتعرفين من أنت؟

لم تجبه فأمسك بوجهها وجعلها تنظر إليه من جديد ولم تصدر هي إلا آهة بسبب تألمها من قبضته. وكرر سؤاله عليها دون أن يحصل منها على إجابة لعلمها أنه قد بلغ أقصى درجات غضبه ولن تنتفع من إثارة سخطه.

قام بجرها بقوة خلفه حتى وقفا قرب مرآة كبيرة تغطي أحد الجدران ثم خلع عنها بعنف تلك السترة التي كانت تغطي جسدها وبقيت بقميص مكشوف الصدر والذراعين فدفعها لتنظر لنفسها بالمرآة وهو يهدر فيها: لا تختبئي في ثياب الزهاد.

وأجبرها على النظر إلى نفسها في المرآة وهي تشعر بالإذلال من تصرفه. ثم قام بسحب مبلغ من الأوراق النقدية من جيبه ونثره فوق رأسها وهو يقول بمقت: هذا ما أنت عليه... أنت مجرد مومس... مجرد جسد فقد قيمته فاختار أن يختبئ تحت مظلة الأخلاق... لا تحاولي الالتزام فأنت امرأة لا دين لها... كل خبرتها في هذه الحياة أحضان الرجال...

تهاوت الدموع من عينيها ساخنة تمسح خديها الباهتين وتنزلقان نزولا... ليس إذلاله لها هو ما يوجعها. لكن الحقيقة التي تختفي وراء كل كلمة قالها هي من جعلت كرامتها تحتضر..x ربما تصرف بمنتهى القسوة والدناءة لكنه لم يخطئ في كثير مما قال وهي تعرف هذا جيدا...

هذا هو جزاء من يتبع درب الشيطان... أن يضحك منه الشيطان نفسه بالنهاية! من يسير خلفه مستمتعا ببهرجات الحياة فلا يدرك إلى أي هوة تأخذه قدماه.... من يبتعد عن طريق الفضيلة يجد في حياته آلاف الدروب تقوده نحو الرذيلة... واليوم إما أن تتحمل نتيجة أخطائها وتواجه حقيقتها لتصحح ما هو آت، فالزمن لن يغير ما سلف... وإما أن تكمل في دربها نحو الهاوية لأنه لا طاقة لها للبدء من جديد.

x

x ♡♡♡♡♡♡♡♡

x

جلست ريماس في مقعدها على الطاولة الكبيرة وهي تتأمل مقعد بشير الشاغر وتقول لنفسها: "مع من سيتعشى اليوم يا ترى؟.."

لم يعد لسؤالها أهمية فخيانته لها أمر واقع، حتى أنها باتت تشعر بالقرف منه وتخشى أن يصيبها بمرض خطير لقاء تعدد علاقاته. إنه رجل مهووس قد يثيرهx رجل الطاولة إن ارتدى فستانا!

جلست بقربها ابنتها وهي تهمس لها: مساء الخير أمي...

نظرت إليها بحب وردت عليها التحية: مساء الخير حبيبتي... كيف حالك؟

أجابتها وهي تقرب صحنها: بخير... أين أبي؟

أصدرت ضحكة استخفاف وقالت: لك أن تتخيلي..

لم تجبها مروى خشية الخوض في خلافاتهما وإفساد هذا العشاء واكتفت بالقول: سأتطلق أنا ومحمود خلال أسبوع.

وضعت الملعقة جانبا وحملقت فيها بتبرم: ألن تناقشا خلافاتكما!.. كيف ستتخذان مثل هذه الخطوة دون المحاولة من جديد!

التفتت إليها بضيق: لقد ناقشت أنت وأبي خلافاتكما زمنا طويلا... هل تحققت المعجزة!

صمتت ريماس مفحمة ولم تجادل ابنتها في هذا الموضوع ثم اكتفت بالتماس عذر لها: لم أعلم أن خلافاتكما عميقة إلى هذه الدرجة.

همت بإخبارها عن زواجه السابق وحبه لنسرين لكنها تذكرت تحذيرات هذه الأخيرة ولم تكن أمها يوما محط أسرارها إذ أنها تبوح بكل شيء لوالدها في لحظة غضب واحدة هذا ما جعلها تلتزم الصمت.

قالت لها بعد تفكير: سيخيب أمل والدك كثيرا... لقد كان يعتقد أنكما سترزقان بمولود قريبا.

تمتمت باستخفاف: هذا ما كان ينقصني!

وتذكرت تلميحات لؤي بذلك يوم تظاهرت بالإغماء فأرادت أن تخنقه. ثم قالت لتفند الأمر بطريقة جذرية: لم أشأ أن أبدأ حياتي بإنجاب الأولاد. والحمد لله أنني احتطت لهذا الجانب.

وقف لؤي عند رأسيهما وهو يقول: مساء الخير.

حملقتا فيه معا بدهشة فأردف: قال السيد أنه سيتأخر في الوصول... لذلك يجب تأخير موعد العشاء.

ألقت ريماس بالمنشفة على الطاولة بانزعاج ونادت على الخادمة لتحمل الطعام. ثم نظرت لابنتها: يسيرنا على هواه... لابد وأنه ألغى مواعيده الغرامية في آخر لحظة... ثم وبكل أنانية يحتم علينا انتظاره! أصبحت أمقت غطرسته...

شعرت مروى بالخجل وهي تستمع لأمها تناقش أمورهم العائلية أمام لؤي لكنها خشيت أن تتدخل فتنفعل أمها أكثر وتأتي على ذكر كل ما خفي. تلك عادتها عندما تغضب فإنها تبدأ بإلقاء قنابلها ذات الشمال وذات اليمين.

وقفت بغضب ودفعت بكرسيها بعيدا فابتعد لؤي بحذر حتى لا يقع فوق أقدامه وانصرفت وهي تتذمر: كم مرة انتظرته دون أن يأتي! كم مرة جلست على تلك الطاولة وحيدة! إنه لا يكلف نفسه حتى عناء الاعتذار!... لماذا يسيرني الآن كما يشاء!

بدت تلك الصورة التي قامت فيها أمها بدفع الكرسي، ونطة لؤي الموازية، لقطة كوميدية لمروى التي تحولت لحظات الاحراج لديها إلى ضحك خفي حاولت ألا تبديه لأمها التي كانت لتقلب الطاولة عليها حتما.

التفت إليها لؤي وتبسم لضحكها فشعرت بالخجل واحمرت وجنتاها عندها قال لها: تبدو جائعة...

ردت عليه: بل موجوعة.

وصمتا ينظران لبعضهما البعض للحظات. هذه أول مرة يحدق فيها بجرأة دون أن يحيد بعيونه بعيدا عنها كما هي عادته. وكم كانت عيونه السوداء رقيقة النظرات حينها. تعترف اللحظة أن صديقاتها لم يكن على خطأ عندما كن يتغزلن به كلما يرينه. ربما هي من كانت عمياء لا ترى غير محمود أمامها...

انتبها معا على صوت تحطم إحدى قطع الزينة بعد أن ألقت بها ريماس بعيدا عن طريقها وهي تقول: نصب نفسه نمرودا علينا!! يتحكم فينا مثل الدمى في أصابعه!

قامت مروى من جلوسها وهي تهز رأسها بملل، وقالت تجنبا للإحراج: إذن تم تأجيل العشاء.

رد عليها بدعابة: إلى حين قدوم النمرود.

أفلتت منها شبه ضحكة وغادرت المكان على عجل لتلحق بوالدتها علها تنجح في تهدئتها قبل أن يصل والدها وتندلع حرب بالمنزل. إنها تعلم جيدا أن ما يغضبها ليس العشاء إنها تراكمات السنين... أن تسكت دهرا وتقبل الظلم فمعناه أن تتحمل ما لا تطيق حمله وينكسر ظهرك...

◇◇◇◇◇◇◇

انتهت سهام من وضع آخر طبق على الطاولة وهمست لمحسن بصوت يغلب عليه الوجل: تأمر بشيء آخر سيدي؟

استجاب لهمسها الرقيق بنظرات افتتان وهو يدقق في كل قطعة من جسدها ثم قال: أين نقلتم الآنية الفخارية التي كانت على الطاولة التي تتصدر القاعة الرئيسية؟

شعرت بخنجر حاد يخترق صدرها ولم تدر كيف تجيبه. غمغمت بكلمات غير مفهومة فأردف يقول: الجميع هنا يعلم أنني لا أحب أن يغير أحد مكانها.

نطقت وهي ترتعش مطأطئة رأسها: آسفة... سيدي... لقد... لقد... كسرتها هذا الصباح.

وسكتت لتسمع تذمره الصاخب وصراخه العالي لكنها تفاجأت بهدوئه التام. فرفعت طرفها إليه بفضول ولاقتها عيونه العسلية الحادة التي تشبه إلى حد بعيد عيون ابنه محمود ثم قال بجمود: توقعت هذا...

ردت عليه بلهفة: اخصمها من راتبي يا سيدي... أنا أعتذر... لقد كان حادثا...

ضحك بجفاف وقال: لو كنت تملكين ربع ثمنها ما اضطررت للخدمة في البيوت... إنها قطعة أثرية هي الوحيدة من نوعها، اشتريتها من مزاد علني ودفعت لصاحبها الملايين.

جف حلقها وشعرت بوهن ركبتيها وهي تحملق فيه بصدمة... كيف ستسدد هذا الدين يا ترى؟

أردف يقول: لقد حطمت ثروة...

شعرت بالذنب والعجز التام وتهاوت من عينها دمعة حارقة. وكأن مصائبها لا تكفي لتلحق بها آنيته اللعينة.

قال باستنكار وديع: لا، لا... لا تبكي... أنا لم أقل هذا لأراك تبكين.

أجابته على الفور: آسفة سيدي...

قال بنفس هدوئه المريب: المال يذهب ويرجع... هناك ما هو أهم منه بكثير...

شعرت بالارتياح من هاته الكلمات وغفلت تماما عن معناها. كانت نظرات عيونه إليها واضحة لكنها لم تكن في وضع يسمح لها بتشغيل دماغها.

♡♡♡♡♡♡♡

x

صراخ وشتائم واتهامات.... وكل الخدم في الانصات.

كان هذا هو المشهد الاحتفالي بمناسبة رجوع بشير للبيت بالسلامة... ريماس انفجرت كالقنبلة... كلمة وراء كلمة وراءها إهانة... هذا ما يفعله التراكم... لقد راكمت تصرفاته الشنيعة في صمت لتنسف كل شيء في لحظة.

وقفت مروى بالرواق تستمع لصوت انكسار الزجاج يرافقه صراخ أمها: لا يهمني إن كسرت كل شيء... دمر البيت كله لو أحببت لكن كف عن تدميري... تعبت، تعبت من معاملتك، من قسوتك، من لا مبالاتك... تعبت من خيانتك وقلة وفائك...

صاح فيها بغضب: اخرسي!.. قلت لا ترفعي صوتك بوجهي! أنت لا يحق لك التذمر... لقد فعلت الكثير من أجلك لكنك تحبين لعب دور الضحية...

ردت عليه: لا... أنت دمرت شبابي... حولتني لخيال أنثى...

صاح وكأنه يحدث الجدران: ها قد بدأت بمشاهدها الدرامية!

وبدى وكأنه رجها بقوة فصرخت، بينما تابع هو بحنق: لماذا تفعلين هذا؟ هل أزعجك انتظاري على العشاء؟

هنا انفجرت فيه وكأنها كانت تنتظر سؤاله: أزعجني أن أكون خيارك الثاني.. أن أكون من تسمع وتنفذ ولا تحتج... أزعجني أن تبيت خارجا مع عشيقاتك ولا تكلف نفسك حتى بتطييب خاطري ولو بكذبة واعتذار... وكأن إذعاني لك واقع محتوم.. أنا لست عبدة لسيادتك أتسمعني... أتسمعني أيها المختل!

شهقت مروى واضعة أصابعها على شفاهها وبالتزامن علت صرخة أمها مع صفعة مدوية. ثم سمعت والدها يقول: أجل تطيعينني ولا تتذمرين... وسنرى من فينا المختل يا لعينة!

شعرت برغبة في البكاء وهي هناك تستمع لشتائمهما المتبادلة... أرادت الدخول لتترجاهما أن يتوقفا عن إيذاء بعضهما البعض لكن الباب كان موصدًا.

جاءها صوت والدها وهو يعنف أمها وهي تصيح به: أترك شعري!.. أتركني يا مجنون!..

بدى وكأنه يجرها في الغرفة مهينا لها وكانت هي تحاول الخلاص منه. لم تستطع مروى تحمل المزيد فانفجرت بالبكاء وفرت من هناك مبتعدة حتى لا تسمع المزيد. عندما وصلت إلى الدرج كان كل الخدم في القاعة الرئيسية يستمعون لكل ما يقال... ليس هناك أسوأ من الفضيحة. لقد تعودت أن تكون ابنة لأسرة مرموقة ومحترمة... لكن شاءت الأقدار أن تكشف لها عن زيف معدنها وهشاشة أركانها.

نزلت ذلك الدرج على عجل وركضت باتجاه الحديقة. هربت مبتعدة وفي أذنيها صدى وطنين. لتخر على ركبتيها قرب الشجرة مختفية في الظلام. كانت تبكي بألم وحرقة لم تعرف لها مثيل... وصوت نشيجها يعلو في المكان. ولم تمض سوى لحظات حتى شعرت بأحدهم يضع كفه على ظهرها.

التفتت بوجل وفي عيونها أنهار متفجرة فأبصرته بجوارها جالسا القرفصاء وفي عيونه نظرة متألمة. بهتت ملامحها للحظات وهمست باسمه: لؤي!

رد عليها: لا تبكي...

وسكت صوته مع أن عيونه كانت تحمل كثيرا من الكلام. انتظرت منه أن يقول ما شعرت أنه على طرف لسانه لكنه بقي يحدق بها وعلى وجهه نفس النظرة المتألمة...

وقف أخيرا فوقفت أيضا وحاولت أن تزيل آثار انهيارها فراحت تمسح دموعها بأكمام قميصها الذي لم يكن يقيها برد ذلك المساء. وانتبه هو للأمر فقام بخلع معطفه الجلدي الأسود وحطه على كتفيها في مشهد كلاسيكي ربما شاهدته في أكثر من فيلم لكن الصورة كانت أجمل وهي تعيش اللحظة...

بقي واقفا بقربها حتى انتهت من تجفيف دموعها و شعر بهدوئها فقال متأملا لها في حين كانت هي تشيح بوجهها بعيدا عنه حتى لا يرى معالم انهزامها: تعالي معي...

التفتت إليه بتساؤل فتابع: هيا...

قالت بتعجب: إلى أين؟

رد عليها مطمئنا: ثقي بي.

كان لصوته المميز تأثير كبير عليها... فقد كان يشعرها بالسكينة، وليست تفهم كيف أنه يجعلها تصدقه دون أن تحتاج منه لدليل!

مشت خلفه بداعي الفضول ودخلا معا إلى المستودع ثم فتح لها الباب الأمامية لسيارته وطلب إليها الجلوس.

جلست في المقعد المجاور للسائق فأغلق الباب ثم ابتعد باتجاه غرفة العون المكلف بمراقبة الكاميرات وعاد وهو يلبس معطفا لم تميز لونه في الظلام.

فتح الباب وجلس إلى جوارها ومباشرة شغل محرك السيارة وهو يقول: كان علي أن أتدبر ما يقيني البرد.

لم ترد عليه فقد كانت تجلس في سكون ورأسها على زجاج النافذة وربما كان بالها مشغولا بالشجار القائم بين والديها.

تحرك بالسيارة مبتعدا وخرج من المنزل باتجاه الطريق العام وهي على نفس وضعيتها وكأنها مغيبة عن الوعي. في حين كان هو يرمقها بنظراته من حين لآخر حتى يطمئن عليها. ولولا عيونها المفتوحة رغم ذبولها وحركة جسدها المتناغمة مع تنفسها لاعتقد أنها فقدت الوعي أو فارقت الحياة!

بعد مسيرة ربع ساعة كانا قد وصلا إلى منتزه يمتد لمسافة طويلة على شاطئ البحر. وكان شبه خالي من الناس بسبب برودة الجو. فهو غالبا ما يكتظ عندما يكون الجو معتدلا وبالأخص في فصل الصيف.

ركن سيارته ونزل ثم فتح لها الباب وساعدها على النزول. تأملت المكان وهي تقفل المعطف حتى يقيها من لسعات البرد وسارت رفقته حتى وصلا إلى الحاجز وبقيا يستمعان لهدير الأمواج وهما يشاهدان انكسارها على الصخور تحت ضوء القمر. نظرت إليه وسألته: لماذا أحضرتني إلى هنا؟

أجابها وعيونه تتأملان شعرها الأشقر المتطاير مع هبوب الرياح: أنت في حاجة لأن تتمشي...

حدقت في المتنزه ثم فيه ولم تقل شيئا فأشار لها بالبدء: هيا سأكون خلفك. أنت فقط امشي لوحدك...

ترددت لبرهة ثم سبقته واضعة يديها في جيوب معطفه الذي كانت ترتديه وراحت تسير على طول المنتزه بالقرب من أعمدة الإنارة. في البداية بدت وكأنها تقوم بأمر لا جدوى منه لكنها في سكون ذلك الليل وصمت المكان استطاعت أن تتذكر كل آلامها.. كل أحزانها، وكل مآسيها وانتكاساتها... بدأت في البكاء ولم تستطع أن تكبح مشاعرها وأحاسيسها كما كانت تفعل عندما تكون بالمنزل... مشت وبكت طويلا وكأنها تسير هنالك لوحدها... وكان هو يسير بعيدا عنها بأمتار عديدة تفاديا للإحراج. كل ما أراده هو أن تكون على سجيتها وأن تنفس عن مكبوتاتها...

ليست تدري كم من الوقت مشت باكية ومتألمة وأحيانا صارخة دون أن يقترب منها أو يحاول تهدئتها... أجل لقد كانت في حاجة ماسة لتفريغ شحناتها قبل الانفجار... ربما كان يشعر بما تعانيه. وسارع لنجدتها قبل أن تذبل تماما وتموت! توقفت فجأة والتفتت إليه خلفها وهو يسير على مهل واضعا يديه بجيوبه، ثم راحت تمسح دموعها في انتظار أن يصل، وعندما اقترب منها سألها: هل تحسنت؟

هزت رأسها موافقة دون كلام. فقال من جديد: تريدين أن تتمشي بعد؟

نطقت بصوت متعب: لا... لنعد إلى المنزل...

رد عليها: هيا إذا...

ورجعت أدراجها وهو يتعمد التأخر عنها فقالت له: بإمكانك السير إلى جانبي...

بعد برهة شعرت به قربها فتأملته بصمت دون أن يجرؤ هو على مواجهة نظراتها تلك. قالت له وآلامها مفضوحة من نبرة صوتها: شكرا لك...

أجابها وهو على نفس وضعه: لا تشكريني...

استمرا يسيران في صمت وكل منهما يغرق في أفكاره حتى قالت من جديد: أمازالت السيارة بعيدة؟

هز رأسه موافقا: أجل... هل تعبت؟

قالت متفاجئة: لا، لكنني أستغرب أنني مشيت كل هذه المسافة...

صمتت للحظة ثم تابعت: آسفة... أعتقد أنني أتعبتك معي... أنت تعمل طوال اليوم ولم...

قاطع كلماتها هذه المرة ملتفا إليها بالكامل: لا تقولي هذا.

توقفت تنظر إليه بفضول... أيعقل أنه يحبها! ألهذا هو يتصرف معها بهذه المودة!..

تابع هو: أعلم أنك تعانين في صمت...

تهاوت دمعة من عينها وكأنه بكلامه ذاك قد أيقظ كل آلامها. شعرت به قريبا من أحزانها يفهمها ويدعمها. وكان سندا لها أتى من حيث لم تدر ولم تحتسب.

تعلقت مآقيه بتلك الدموع الرقراقة وكان سيقول شيئا لكنه كعادته يحجم في آخر لحظة. واكتفى بالنظر من حوله ثم قال: تريدين الاستراحة؟

هزت رأسها نفيا وسبقته في المسير فلحق بها وقطعا بقية الطريق في صمت.

x

داخل السيارة وفي طريق العودة. كانت أكثر تركيزا وأهدأ بالا... استطاعت أن تسترق إليه بعض النظرات وهي تسأل نفسها كيف قبلت بمرافقته رغم أنها لا تطيقه!.. في الواقع لم تكن تشعر حينها أنها لا تطيقه... لقد أصبح بالنسبة لها انسانا عاديا يخطئ ويصيب ... يظلم ويرجع عن ظلمه... رجل قوي في جسده رزين في عقله وإن كان يعاني من نواقص فهو مثله مثل كل البشر... رجل مخلص... لدرجة أن يحمل معه ذكرى امرأة انتهت من سنين. ويقول عنها كلاما جميلا رغم أنها لا تسمعه...

وجدت نفسها تحدق بالخاتم في إصبعه وهو يحرك عجلة القيادة ببطء... ثم تأملته وهو يركز على الطريق أمامه كانت تشعر أنه يستحق أفضل مما هو فيه... وأن الحياة لم تنصفه... لو أنه لم يتعرض للخديعة ربما كان اليوم ضابطا مرموقا بالجيش له وزنه ومركزه... لكن شاءت الأقدار أن يكون بجانبها ويقود السيارة وهي غارقة في تأمله.

التفت إليها فأجفلت وكأنه ضبطها متلبسة بالجرم المشهود. لكن لم يبد عليه الانبهار من تعلق عيونها به واكتفى بمنحها ابتسامة ودودة وهو يقول: أنت أفضل؟

هزت رأسها بإيماء: أنا بخير... أشكرك.

عاد ليحدق بالطريق أمامه وهو يرد عليها: سعيد أنك تحسنت.

x

x


noor elhuda likes this.

بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 28-08-21, 01:23 AM   #47

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الواحد والعشرون
مر أسبوع كامل من شتاء بارد قاسي، وأقسى منه جراح لا تندمل في قلوب هشة لا تقوى احتمال الألم... تمكنت مروى من توقيع أوراق الطلاق. وانتهى زواجها من محمود بعناوين عريضة على الصحف. خصوصا تلك التي تقتفي أخبار المشاهير ووجهاء البلد... فلا أحد عرف بموضوع زواجهما ما جعل المفاجأة كبيرة عندما انتشر خبر انفصالهما.

تفاجأ المعارف والأصدقاء وطرحوا عديدا من الأسئلة لكن كلاهما كان يبرع في التهرب منها وإخفاء الحقيقة... من يعرف قصة حبهما لن يصدق هذه السرعة التي انتهى بها زواجهما!.. وفي الوقت الذي يخلص هو فيه لزوجته الأخرى ويعلن لها حبه صباحا ومساءً كانت هي تجاهد لتحرق كل ذكرياتهما معا، وأن تطمس كل ما من شأنه أن يجعلها تجتر سنين خيبتها الطويلة وكذبة اسمها حب لا يموت.x

ليته كان هذا كل ما يؤلمها... فشجار والديها تلك الليلة انتهى كما تخمد العواصف... دمار ومعاناة.. ودموع تبكي القدر.. ريماس انهارت كما ينهار الجدار المتصدع المتلاشي بفعل هبة ريح... ما أتعبه أنx نحتمل الألم دهرا طويلا ثم نبكي لمجرد أن الشاي من دون سكر!

كانت لحظة واحدة اكتشفت فيها أنه لم يعد بوسعها احتمال المزيد...

ريماس تعلم جيدا أنها لن تغير بفعلتها ولو خصلة واحدة من طباع زوجها... يقول الصينيون: " تغيير مجرى النهر أسهل عليك بكثير من تغيير طباع البشر.".. ولكنها -على الأقل- نفست عن غضبها أخيرا وقالت ما يجب أن تقوله منذ زمن، حتى وإن انتهىx بها الأمر بكدمات وجراح...

أما بشير فقد ترك البيت بعد فعلته إلى مكان ما لم تعرفه حتى الآن، عنده من المال ما يكفي ليكون لديه بدل البيت الواحد عشرة... ولابد وأنه في مكان ما يغرق في ترفه غير مبال بانكسار زوجته لأن كل ما حدث مجرد مشاهد درامية كما يصفها... ما أقساه أن يبكي المرء دون أن يفهم أحد معاناته ولا غور جراحه!.. وبشير كما تعرفه، قد عزاه الناس في قلبه الفقيد منذ زمن.

كل هذا محزن ومؤلم... غير أن لجرائمه قصة أخرى من الوجع... هي لم تتصل بصاحبها الحزين منذ مدة ولم تعرف ما حل بالأسرى، وهو لم يكلمها مطلقا.. وإن كان حقا لؤي كما تعتقده فلابد وأنه لا يريد أن يزيد جراحها وجعا...

هي لم تره بعد تلك الليلة التي تمشيا فيها على شاطئ البحر طويلا، لأنه لحق بوالدها حتى يوفر له الحماية فهو المسؤول عن حرسه الشخصي والرجل المكلف بكل ما يخص أمنه وأمن أسرته...

ليست تدري لماذا تتذكره كثيرا! حتى أنها سألت الخادمة التي يدردش معها عادة لتعرف منها أين يكون، موارية لفضولها بأنها تريد معرفة أين يقيم والدها... لكن تلك الخادمة لم تكن تعرف شيئا أو أنها تحسن اقفال فمها كما يحب بشير.

خرجت من غرفتها متوجهة إلى القاعة بالأسفل. لكنهاx قبل أن تنزل أطلت على والدتها بغرفتها فوجدتها جالسة قرب المرآة تتزين. وهي تدندن لحنا ما. دهشت للحظة وخمنت إما أنها قوية لدرجة أنها تجاوزت كربها بهذه السرعة أو أنها بدأت تفقد رشدها...

تنحنحت ثم قالت: صباح الخير أمي...

التفتت إليها بابتسامة وفتحت لها ذراعيها بمرح: ألن تقبلي والدتك!

سارت إليها وعانقتها بحب، فقالت لها: أنظري إلى وجهي... هل غطيت كل الكدمات؟

هزت رأسها موافقة وهي تشعر بالأسى عليها... فكم تكابد لترسم الابتسامة على وجهها. لابد وأنها تعودت المعاناة والألم حتى بات كل ما مرت به شيئا تافها لا يستحق أن تقتل نفسها كمدا من أجله... أو ربما لا تريد أن تعاني مرتين من أجل رجل لا يستحق أن تذرف الدمع بسببه...

اقتربت واضعة كفها على خد ابنتها بحنو: كيف أنت يا ابنتي؟

كم هو عظيم قلب الأم... تفكر في فلذات كبدها حتى وهي في أسوأ أحوالها.

هوت من عينها دمعة مسحت خدها الأيمن لتقطر فوق صدرها: أنا بخير يا أمي... بخير.

ضمتها إليها بإشفاق: لا تبكي حبيبتي... كل شيء سيكون على ما يرام...

ابتعدت عنها ببطء وحملقت فيها للحظات ثم قالت: ألم يتصل بك أبي؟

هزت رأسها نفيا: لم يفعل... هو ليس من النوع الذي يقدم اعتذاراته لأحد...

تابعت تسألها: هل ستسامحينه على ما فعل؟

رفعت كتفيها دلالة لعدم اكتراثها: لا أدري...

قطبت حاجبيها مستنكرة: ألن تحاسبيه على كل ما ألحقه بك من أذى!

تجاوزتها لتحمل حقيبة يدها متجاهلة لسؤالها وألقت نظرة سريعة لساعتها: سأتأخر عن موعدي مع إلهام... أخبريني كيف أبدو؟

واستعرضت نفسها أمام ابنتها التي هزت رأسها بأسى: أنت جميلة دائما يا أمي...

قبلتها بسرعة على خدها وغادرت متمنية لها يوما سعيدا... ومن أين للسعادة أن تطرق بابها وكل تلك الآلام تجثم على صدرها حتى باتت ترهقها الشهقات!

تأملتها بقلة حيلة وهي تكسر صمت الممر بصوت كعبها العالي وخطواتها النشيطة المرحة لا روح فيها وكأنها تخطو فوق جراحها حتى أنها تنزف بصمت ولا أحد يبالي...

طأطأت رأسها بحسرة، لابد وأن أمها ستسامحه دون أن تأخذ بحقها منه... إنها أنثى عاجزة عن الدفاع عن كرامتها... لقد تمكن من كسر كبريائها حتى بات من المستحيل أن تجمع شظاياه وتلم شتاته...

x

********

كان لؤي في الحديقة الخلفية للفيلا التي يقيم بها بشير حاليا. إنه ومنذ أسبوع يشعر بالملل... يضايقه جدا أن يبقى هنا ليعمل سائقا لدى عشيقاته، يقلهن ويلبي احتياجاتهن... أصبح الوضع حقا لا يطاق!

زفر بحنق وسار على طول الطريق الحجري بين الأشجار العارية وهو يتذكر امرأة عشعشت في رأسه وتأبىx مفارقة أفكاره... إنها تلك الشقراء الشقية صاحبة النظرة المتكبرة... تلك التي تمنى يوما أن يضمها لصدره طويلا ويمنحها دفئا وسلاما يسكنه قلبها المشتت.

عندما أصبح في الحديقة الرئيسية توقف للحظة يتأمل البواب وهو يلج إلى الداخل رفقة شابة جميلة كانت تمشي وهي تحدق في المكان بذهول. فأوصلها إليه وقال: سيد لؤي. إنها الخادمة الجديدة.

هز رأسه مومئا فعاد البواب أدراجه بينما مالت عيونه باتجاه تلك الفتاة التي بدت له أصغر سنا من أن تعمل في خدمة البيوت. كانت بيضاء البشرة زرقاء العينين. و شعرها الكستنائي الناعم يلاعب وجهها البريء برقة مع كل نسمة ريح.

ابتسمت بعفوية وألقت التحية: صباح الخير سيدي.

رد عليها بصوته الهادئ: صباح الخير...

وبقي يتأملها في انتظار أن تعرف بنفسها فقالت: اسمي ريم، أرسلني مكتب التوظيف... أنتم في حاجة لمنظفة...

بقي ينظر إليها مفكرا وقد رابها صمته المهيب، فقالت بتوجس: أليس هذا منزل بشير قالون؟

تجاهل السؤال الذي طرحته ورد عليها بسؤال آخر: كم عمرك؟

قالت بصوت خافت: ثمانية عشر عاما...

عبس وجهه وصمت للحظة ثم قال: أخطأت العنوان...x ابحثي عن رزقك بعيدا عن هنا...

احتجت بإلحاح: ولكن سيدي... أنا بحاجة إلى هذا العمل...

تجاهلها تماما وأشار للبواب بيده حتى يفتح لها الباب. ثم قال لها دون أن ينظر إليها: رافقتك السلامة...

تجمعت الدموع في مقلتيها ولم تنطق بكلمة ثم غادرت من أمامه على عجل، في ما بقي هو واقفا هناك حتى تأكد من تركها للمنزل.

تابع سيره في الحديقة وهو يتمنى ألا ترجع تلك الفتاة إلى هنا من جديد... يفهم جيدا أن الحاجة هي من دفعت بها لطلب العمل. فقريناتها يترددن على مقاعد الدراسة... لكنها اختارت العنوان الخطأ... يشكر الله أن بشير لم يرها وإلا الله وحده يعلم ما كان سينتظر تلك المسكينة!

♡♡♡♡♡

x

جهزت سهام نفسها وبقيت قبالة المرآة بضع ثوان تتأمل شكلها قبل أن تسمع صوت وليد يهتف باسمها وهو يطرق على باب غرفتها.

خرجت إليه وابتسمت في وجهه فرد عليها الابتسامة وهو يقول: هل أنت جاهزة؟

فركت كفيها باضطراب ونظرت باتجاه المخرج: هيا بنا...

أشار لها بأن تسبقه ثم مشى بمحاذاتها وهو يقول: طلبت سيارة أجرة... إنها بالخارج.

عندما اقتربا من المخرج شاهدا محسن ينزل الدرج فتوقفا احتراما له من أجل إلقاء التحية.

حملق فيهما متفحصا فشعرت سهام بالارتباك من نظراته. أرجعت خصل شعرها الأحمر خلف أذنها وهمست بصوتها الرقيق: صباح الخير سيد محسن.

هز رأسه بإيماء وقد توسعت ابتسامته رغما عنه لتأثير صدى صوتها الرنان على قلبه. ثم ما فتئ أن عرف من شكلهما أنهما سيخرجان معا.

تجمدت تعابير وجهه بعبوس وهو يقول: إذن طلبتما إجازة لأنكما متواعدان على الخروج!

هز وليد رأسه بنعم وكان سيقول أجل مع ابتسامة ماكرة مصدقا للمنحى الذي أخذته أفكاره فيه. لكن سهام أسرعت بالقول مبررة: لدينا عمل يجب إنهاءه...

ضيق عيونه مفكرا ثم قال وهو يكمل طريقه: بالسلامة.

كانت لديه سبله لمعرفة ما يريد ولا حاجة له بسؤالهما... فقد يكذبان!

خرجا يقطعان الحديقة على عجل للوصول إلى السيارة المركونة خارجا فالتفت وليد إليها: لماذا بررت له خروجنا!

حملقت فيه باستفهام ثم رفعت كتفيها بلا مبالات: قلت الحقيقة وحسب...

تابعا طريقهما حتى وصلا إلى باب الحديقة ففتحه وسمح لها بالعبور وهو يتأملها بإعجاب. وما إن التقت أعينهما حتى شعرت بالإحراج فابتسم: تبدين جميلة اليوم.

بادلته ابتسامته على مضض: شكرا لك.

لقد تحدثت سهام قبل اليوم إلى وليد وقصت عليه حكايتها. أخبرته بكل ما حصل بعد تلك الليلة التي تقابلا فيها وكيف أن الكل اتهمها بالجنون حتى أسرتها لم تصدق كلامها وما روته عن زوجها الشاذ. حكت له عن معاناتها وكيف أنه حرمها من ابنها لأنها قررت الانفصال عنه. وطلبت منه أن يرافقها لبيت أهلها حتى تضعهم في الصورة ويصدقوا كلامها أخيرا.. ولم يتأخر عن مد يد العون لها وقرر أن يقابل كل أهلها وتمكنا من أخذ إجازة لساعات حتى ينهيا هذه المهمة.

x

وصلا إلى المنزل ووقفا قرب الباب. شعرت سهام بخوف شديد وأحست بألم يعتصر أمعاءها، فهي حتى الآن لا تعرف كيف سيستقبلها والدها بعد مغادرتها للبيت دون إذنه ورغما عنه، لكنها قوت نفسها ورنت على الجرس. بعد هنيهة فتحت أمها الباب واستقبلتها بحب آخذة إياها في حضنها ودموعها تسيل على خديها: حبيبتي... اشتقت إليك. كيف أنت؟

ابتعدت عنها تتأملها ثم تابعت: قلقت عليك يا بنتي... لماذا لم تتصلي؟

أجابتها بصوت متزعزع: خشيت أن أكلمك وتخبريني بغضب أبي ووعيده... لم أكن أريد سماع ذلك...

صمتت لبرهة ثم أشارت لوليد: أمي هذا وليد.

رحبت به أمها ودعتهما للدخول فقالت سهام: هل كلهم هنا؟

هزت رأسها بنعم وعيونها تفشي بخوفها وقلقها مما سيحدث بالداخل.

ولج الاثنان إلى قاعة الاستقبال خلف سامية، وهناك على الأرائك كان يجلس والدها متوسطا إخوتها الثلاثة ووجوههم مقطبة في عبوس.

ألقيا التحية معا دون أن يقف أي منهم للترحاب، إن لم يكن بها فبالرجل الغريب معها على الأقل!

حملقت فيهم جميعا برهبة ولم تجرؤ على معانقة أي منهم. أشارت لهما سامية بالجلوس فجلس وليد على أقرب أريكة بينما جلست هي بعيدا عنه. وساد القاعة صمت مهيب إلى أن نطق أخوها الأكبر: وماذا بعد!

لم يرق لوليد هذا الاستقبال الغريب وكان يرمقها بنظرات سريعة من حين لآخر وقد ضاق ذرعا بما أبدوه من جفاء حتى الآن.

قالت وهي تحدق بهم: أحضرت معي هذا الرجل.

وأشارت إلى وليد فتتبعت عيونهم سبابتها. لتكمل بارتباك واضح: إنه السائق الذي أقلني في تلك الليلة إلى الملهى الذي يسهر فيه فادي... لقد كان معي وهو شاهد على حقيقة ما رويته لكم...

لم ينطق أي منهم بكلمة وبقيت عيونهم تحدق فيه بريبة فقال: أنا إسمي وليد... لقد كنت أعمل سائق سيارة أجرة تابعة للشركة الوطنية للنقل ومعي كل الأوراق التي تثبت ذلك... لقد كنت مناوبا تلك الليلة وصادف أن توقفت أسفل العمارة التي نزلت منها السيدة سهام فركبت معي. وتتبعنا سيارة زوجها طول الطريق حتى دخل الملهى ثم ولجنا المكان على إثره.

قال أوسطهم مختصرا القصة: هل رأيت زوجها في الغرفة رفقة الرجل الآخر؟

حدق بسهام للحظة قبل أن يجيب: لا...

ثم استطرد: لكنها استطاعت تجاوز الحارس ودخلت المنطقة المحظورة وشاهدت زوجها بأم عينها قبل أن يطردونا خارجا... أنا صدقتها فقد كان المكان منذ البداية مرتعا للأنذال. وقد أوصلتها للمنزل وهي في حالة يرثى لها...

لم يجد ما يقوله بعد فسكت يستقرئ نظراتهم العابسة اشمئزازا. فخمن أنهم صدقوه، لتقول سهام بعده: أخبرتكم أنني أقول الحقيقة لكنكم صدقتم كلام الأفعى وابنها اللذان اتهماني بالجنون وقلتم أنني مريضة تهذي. الآن وبعد كل ما حدث لاقاني الله بالشاهد الوحيد على الحادثة... وقد جئت به إليكم لتتأكدوا من صحة ما قلت ولتعرفوا أنني بكامل قوايا العقلية.

قال أكبرهم: حسن صدقناك... كيف ستقنعين العدالة لتستردي ابنك؟ فهو يقول أنه لم يشاهد زوجك!

صمت الجميع في تفكير فنطق والدها الذي التزم الصمت وقتا طويلا: انتهى الموضوع. تلك مشكلتها وهي من تحلها بنفسها...

حملقت فيه بصدمة فأشاح بوجهه متجاهلا لها وقام مبتعدا، فانتفضت واقفة: لماذا تقول هذا الكلام يا أبي؟ ألست ابنتكم! ألستم كل أهلي!

نظر إليها بحدة: لا... ليس بعد أن كسرتي كلمتي وتركتي البيت...

وقف أولاده أيضا ففعل وليد مثلهم. لتقول سهام من بين دموعها: أنا لم أرتكب خطيئة ما لتتبرأ مني... كل ما أردته هو أن أثبت ذاتي... ولولا خروجي من المنزل ما كنت لألتقي بوليد... إنه يعمل في نفس البيت الذي أعمل فيه...

ناظرها أبوها باشمئزاز وهو يقول: تخدمين في البيوت... ابنتي أنا تخدم في البيوت!.. وكأنه ليس لديك أب وأربعة من الإخوة الذكور!

قال أخوها الأكبر: لو قلت لنا أنك في حاجة للمال ما تأخرنا عليك...

شعر وليد أن الحوار سيصبح عائليا وعرف أن دوره قد انتهى فقال: أنا سأنصرف إلى العمل وسأطلب من سائق سيارة الأجرة أن ينتظرك بالأسفل.

أومأت له موافقة، فاستأذن من الجميع وغادر. بينما شعرت هي بالاختناق ورغبت في الصراخ لكنها لم تستطع إلا أن ترد على أخيها بهدوء: ليس المال هو مبتغاي الوحيد... أنا أريد أن أثبت ذاتي...

ابتعد والدها وهو يشير لها إلى الباب: أثبتي ذاتك إذن بعيدا عني... ليس لدي ابنة اسمها سهام.

شقت الدموع خديها وقالت برجاء: أبي لا تقل هذا...

تركها وانصرف ففعل إخوتها المثل دون أن يقولوا كلمة تاركين المجال لوالدهم حتى يقرر ما يريد بشأنها.x وبقيت هي مع أمها التي أخذتها في حضنها وهي تبكي وتقول: يا ابنتي اتركي عملك وارجعي إلى المنزل... لست في حاجة لهذا العمل... والدك سيرضى عنك بعدها...

مسحت دموعها وناظرتها بألم: لأرجع إلى غرفتي وأحزاني!

أجابتها: الحياة قاسية والناس مثل الوحوش يا ابنتي... عودي إلى المنزل ولن تكوني إلا معززة مكرمة...

صمتت للحظات متذكرة تحرشات محسن بها وما أخبرتها به ليلى عن أنه زير نساء، ثم قالت: سأتحدث إلى السيد محسن عن تركي للعمل... ثم يجب أن أمكث حتى يجدوا غيري... وبعدها سأرجع إلى هنا...

عانقتها أمها بحب وهي تردد باركك الله يا ابنتي... باركك الله يا ابنتي... عودي سريعا ولا تتأخري.

♡♡♡♡♡♡

x

دخل محمود الفيلا ويده تشد على كف نسرين ساحبا إياها خلفه وهي تتعمد المماطلة وكأنها لا تريد الدخول. كم كان ثقيلا عليها أن تلج هذا المنزل الفخم من جديد بعد الذل الذي لاقته فيه!

تفاجأت ليلى من رؤيتهما معا جهارا نهارا دون خوف، وكادت تسقط ابريق الماء الذي تحمله، ثم قالت بفضول: مرحبا نسرين!.. هل عدت!

أكيد ليست قرينتها من تقف هنا!... بعض المواقف الصادمة تولد الغباء!

ارتبكت وحاولت سحب يدها من يد محمود مغمغمة ببضع كلمات فأحس بإحراجها الشديد عندها أجاب نيابة عنها: هذه زوجتي... نادها السيدة نسرين من فضلك... وأريدك أن تخبري الجميع هنا بهذا...

هزت رأسها بعتاهية وهي مندهشة من سرعة تطور الأمور بينهما. لقد كانت تعرف بلقاءاتهما الحميمة في غرفتها بعيدا عن الأعين منذ وصولها إلى المنزل وفي غياب مروى لكنها أبدا لم تعتقد أنه سيتزوجها!..

هي ستخبر الجميع مثلما طلب منها، لكنها لن تبدأ إلا ببشير فهو سيدفع أكثر عندما تنقل له خبرا كهذا.

اعتذرت منهما وتابعت طريقها بعجل، فأفلت محمود يد نسرين من قبضته والتفت إليها ضاحكا ليشاهد احمرار وجنتيها ويستشعر سخونة الدماء في عروقها... يعلم جيدا أن أكثر ما حز في نفسها هو تلك الأفكار التي خمنت أنها تتضارب في رأس ليلى من نظرات عيونها.. لقد كانت تنعتها بالعشيقة، المخادعة وسارقة الرجال هذا مؤكد...

ضمها إليه بحب وهمس قرب أذنها: لا تبالي بأحد...

دفعته عنها بعبوس وحاولت كتم غضبها: أين هو والدك؟... دعنا ننتهي من الأمر بسرعة ونغادر..

شد يدها من جديد وسارا معا باتجاه قاعة الاستقبال الفسيحة أين وجداه جالسا على الأريكة وليلى بقربه تضع ابريق الماء وتقرب الكأس منه، ولم تلبث طويلا هناك فانصرفت فور وصولهما.

مرحبا أبي...

قالها محمود وهو يسير باتجاهه وخلفه نسرين ويدها معلقة في قبضته. عندما وقفا قبالته ألقت التحية بصوت خافت وعيناها لا تجرؤان على النظر إليه. ربما حرجا مما حصل مع مروى قبل أسبوع.

أشار لهما بالجلوس، فاستراحا على الأريكة الكبيرة قبالته ثم قال محمود بفضول: جئنا كما أمرت... أخبرنا بالموضوع الخطير الذي لا يحتمل التأجيل!

حملق بابنه الذي يجهل تماما ما ينتظره، ثم بزوجته التي كانت ترقبه بحذر، وتنهد: اتصلت بك قبل عدة أيام وألححت في طلبك، كما أنني أرسلت إليك مع ربيع لتأتي لكنك لم تفعل... جعلتني أنتظرك أسبوعا كاملا!... هل كان غرقك في العسل عميقا لهذه الدرجة يا ابن أبيك!

فهم أنه يلمح له عن تركه للعمل بالشركة وبقائه في شقته مع نسرين كل هذه المدة. قال له لينهي الموضوع: لقد تركت العمل ولن أرجع إليه... جد غيري ليدير أعمالك مثلما كان يفعل وديع قبل أن يموت...

وقبل أن يقول المزيد قاطعه بغضب مزمجرا: ليس من أجل هذا طلبتك!!!!

انتفضت نسرين فزعًا بينما التزم محمود الصمت منتظرا أن يستعيد والده هدوءه... صحيح أنه متعود على فعل ما يغضبه لكنه كان دائما ما يحتفظ بأعصابه باردة في الثلاجة وقلما يبدي انفعالاته. وبحدسه الآن يستشعر خطورة ما يحصل.

نظر محسن من حوله قبل أن يهمس له: إنه يتوعدك بالموت...

شهقت نسرين بفزع وشحب لونها بينما توسعت عيون محمود الشاخصة فيه: تقصد بشير؟

هز الآخر رأسه وعاد ليحدق من حوله متأكدا من عدم وجود أحد من الخدم ليستطرد بنفس الهمس المريب: التقط صورا لزوجتك وهي في الصيدلية تشتري اختبار الحمل...

حملق فيهما ولسان حاله يقول "أيها الكاذبان"!.. إذ يبدو أنه اكتشف أن نسرين لم تكن حاملا قبل الآن كما أخبره محمود.

التفت هذا الأخير إليها ليتأكد من صحة خروجها وكانت هي شاحبة قد تمكن منها الرعب . لتقول أخيرا بصوت متزعزع: لقد خرجت... أجل... إلى الصيدلة.... صحيح...

بدت كلمات متناثرة لم تحاول جمعها في جملة مفيدة من هول الفاجعة التي حلت عليهما...

شعر محمود بتشنجها فأحاطها بذراعه وهمس قريبا منها: لا تخافي...

تساقطت من عينيها بعض الدموع وهي غير قادرة على تصديقه... كيف لا تخاف والوحش خلف بابهما سينقض على أي منهما في أي لحظة!.. والآن بعد كل ما حصل مع مروى أصبح لديه الدافع والمسوغ لينتقم منهما كيفما شاء.

شدها إليه ومسح على ظهرها بحنو، بينما أخفت هي وجهها في صدره لتكتم شهقاتها ويدها تتشبث بقميصه وكأنها تتمسك به حتى لا تفقده.

تفرج عليهما محسن بملل ويده على خده إلى أن ضاق بهما ذرعا: ألن تنتهي مسرحيتكما الغرامية لنفكر بحل!

ابتعدت عنه وحاولت تجفيف دموعها في ما نظر محمود إلى والده: كيف عرفت هذا؟

استهجن هذا السؤال: لدي مصادري... ثم ليست هذه مشكلتنا... مشكلتنا هي أن نسبقه بخطوة لنتصرف بحذر...

ساد الصمت فترة طويلة والكل منكسي رؤوسهم يفكرون بعمق إلى أن قال محمود: كنا سنسافر بعد أيام...

أجابه على الفور: ولماذا لم تفعلا؟

قالت نسرين: أنا السبب. أردت أن نسافر إلى البلدة لرؤية أهلي قبل المغادرة...

رسم نظرة استخفاف على وجهه ويده تعبث بشعر ذقنه الذي نما قليلا على غير عادته وهو يحاول أن يخفي اضطرابه... حتى وإن كان رجلا بارد المشاعر وغير مبال في كثير من الأمور إلا أنه يفكر ألف مرة وتنقلب كل موازينه عندما يتعلق الأمر بابنه الوحيد... أعز شخص على قلبه في هذه الدنيا.

لم يعقب على كلامها متهكما ولم ينطق بشيء... لقد كان يفكر بعمق ليجد حلا لهذه المشكلة.

تنهد محمود بغم: أعتقد أننا يجب أن نسافر في أقرب فرصة.

حدق فيه للحظة ثم قال: على الأغلب هو يتوقع خطوة كهذه منك... لابد وأنه يترصدكما ليأخذكما إليه قبل أن تتمكنا من مغادرة البلد... أنا أعرفه. رجل مثله لن يسمح لكما بالخروج من هنا سالمين...

صمت لوهلة ثم استطرد بسخرية: حتى أنا لا أملك المبلغ الكافي لدفع ثمن حريتكما... بالكاد نجونا من الإفلاس.

رفع محمود حاجبيه بما يشبه الدهشة: وأين اختفت أموال أعمالكما الاجرامية!.. على حسب ظني متاجرتكما في أعضاء البشر تدر عليكما الكثير من النقود...

تأمله ساخطا بعبوس ثم حدق بنسرين التي لم ترفع طرفها إليه، وقال: هل أخبرتها بهذا أيضا!... يا لك من أحمق!

أجابه بحنق: لم تجبني على سؤالي... أين ذهبت أموال شراكتكما؟.. أتذكر أنني رأيت حسابات بمبالغ ضخمة قبل سنوات... وقبل أشهر أخبرني بديع أننا سنفلس...وعندما عدت للعمل كان الوضع سيئا وبالكاد استطعنا مواجهة الأزمة وتجاوزها... أخبرني أين هي نقود شراكتكما؟..

ظل على صمته للحظات قبل أن يحملق فيه ببروده المعتاد ويقول: أخبرتك أكثر من مرة... لست شريكه...

لم يدر أيصدقه أم يكذبه كعادته... بشير بلسانه قال أنهما شريكين ولطالما كانا شريكين منذ الأزل... ما الذي حصل!

طرحه بوجهه سؤالا: ما الذي حصل يا أبي؟

أجابه : أنا ولدت ثريا... والدي كافح من الصفر ليبني ثروته بعرقه... وأنا نشأت وفي فمي ملعقة من ذهب كما يقولون... وجدت كل شيء جاهزا وما كان علي إلا أن أوسع أعمال الشركة. ولم أكن في يوم من الأيام بحاجة لأن أشرب من دماء البشر لأبني مجدي...

قال بأمل: لست شريكه؟

أجابه: لقد دخلت معه في شراكة لإنشاء مستشفى داخل قطعة أرضه الممتدة خلف مباني الشركة على مساحات هائلة، كنت قد عقدت معه بضع شراكات وكانت ناجحة... لم يكن أمامه السيولة الكافية وقد قبلت بأن أدخل معه شريكا بالنصف في هذا المشروع...

ابتسم باستخفاف ليتابع: بنى مشرحته... وألحق بها سجونه وبدأ إجرامه... ووصلتني الأرباح قبل أن نعلن عن افتتاح المشفى وكنت أعتقد أنه لايزال في طور البناء... وأخبرني بعدها بحقيقة شغله الوسخ ووجدتني محاصرا بقذارته... أبلغ عنه! مستحيل!!.. إنه أسوأ من أن أدخل معه في حرب... لقد قررت أن أترك الشراكة معه وألا أطالبه بأي شيء لكنه رفض!.. لقد أرادني أن أغرق معه أكثر... لكنني كنت مصرا ورفضت بشكل قطعي وسحبت نفسي منه بالقوة. وقد التزمت الصمت حرصا على سلامتنا. كان علي كسب بعض الوقت لأفكر بحذر وأعرف كيف أتصرف. لكنه أبدا لم يسمح لي بالتقاط أنفاسي فقد ورطك في قضايا الفساد ولوح بتلكم الأوراق في وجهي... وبدل أن يعيش هو في خوف من أن أفضحه... عشت أنا خوفا من أن يسجنك!

تحركت مشاعر محمود تجاه والده الذي يخفي عنه حبه باحترافِ رجلٍ لا تليق به العواطف. وارتسمت ابتسامة امتنان على وجهه لأنه ليس مجرما مثلما كان يظن سابقا: آسف يا أبي لأنني شككت بك.

لم يكن يريد الخوض في هذا الموضوع من جديد، كل همه كان إيجاد حل لما يحصل: دعك من كل هذا... يجب أن نفكر بحل للمشكلة...

صمت للحظة ثم التفت إلى نسرين: أين يسكن أهلك؟

أجابته: في بلدة ريفية خارج العاصمة...

عاد ليحدق بمحمود: أعتقد أنه يجب أن تختفيا هناك بعض الوقت... ريثما يمل بشير البحث عنكما ويتيقن من مغادرتكما للبلد... بعدها يمكنكما العودة للسفر خارجا... سيكون قد خفف من البحث عنكما.

التفت محمود إلى نسرين دون أن يقول كلمة ثم إلى أبيه: أعتقدها فكرة صائبة... بشير يتوقع سفرنا إلى الخارج الآن. ونحن يجب أن نخالف توقعاته... لا أعتقد أنه يعرف أين يسكن أهل نسرين فحتى لو بحث فمن الصعب أن يجد من يدله لأنك لم تكوني امرأة اجتماعية تتبادل أسرارها مع الآخرين.

فكرت قليلا: من جهتي أنا لا أحد يعرف عن أهلي شيئا... المشكلة في...

وقالتها بصوت خافت: ياقوتة...

قطب محسن متسائلا: ياقوتة!... تلك الساقطة! أم أنني مخطئ...

لم تجبه نسرين فالتفت إليه محمود: من أين تعرفها؟

رفع حاجبيه وتظاهر بالبراءة: قصة قديمة... نزوة الشباب...

هز رأسه بملل: لا ريب في أنك تعرف نصف سافلات البلد!

نهره متظاهرا بالسخط: احترمني يا ولد!

أجابه مشيحا بوجهه: اعتقدت أنك لا تمانع وقاحتي مثلما لا أمانع أنا وقاحتك...

أشار له بإصبعه: أنا والدك الأمر مختلف.

كانت نسرين تراقب مناوشاتهما فاغرة فاها متعجبة من تلك الطريقة السلسة في التواصل بينهما فمحمود يعبر لوالده عن سخطه وعن امتنانه بكل بساطة ودون حرج، بينما يتقبل والده الاستماع لكلامه دون أن يصنفه عاقا. ورغم سوء أخلاق محسن وقلة لباقة محمود التي تخالف في مظهرها الصرامة والانضباط الذي تتميز به أسرتها والاحترام الشديد الذي يكنونه لوالدهم إلا أنها وجدت في تلك المعاملة شيئا من التمرد المقبول... أو ربما كانت صداقة وألفة بين الاثنين بعيدا عن الشكليات التي تربط علاقة الأب بابنه...

ما رأيك؟

هزت رأسها لسائلها محسن قبل أن تقول: فكرة جيدة...

قاطعها محمود: وياقوتة!... تقولين أنك التقيت ببشير في منزلها. مؤكد سيسألها عنك ولديه كل الطرق ليستخرج منها المعلومات التي يريدها...

قاطعه محسن متهكما: قد يلوح لها بحزمة نقود في الهواء ولن تمانع من أن تخبره حتى عن أسلافك ومن أين ينحدرون...

حاولت أن ترفض كلامه وتدافع عن صديقتها لكنها لم تستطع أن تقول كلمة وهي تتذكر أنها باعت حبيبها بشير من أجل نقود محسن... إن كان يتهمها بعشق المال والنقود فمؤكد لديه أسبابه ليفعل هذا...

قال محمود بعد تفكير: لماذا لا نأخذها معنا؟

نظرت إليه دون كلام فتابع: لن يتمكن بشير من إيجادها...

هزت رأسها بإيماء: هذه فكرة جيدة...

عاد ليلتفت إلى والده: ضع خطة لنخرج من هنا دون أن نثير ريبة بشير.

رمقه من طرف عينه: وأنت ألا يصلح مخك للتفكير! أم تراك ملأته بأشياء أخرى طوال هذا الأسبوع!

تجاهل تلميحاته: لا أنت أفضل مني في هذا. وأنت أكثر من يعرف بشير...

وقف استعدادا وأشار لهما: اذهبا لترتاحا الآن... سأفكر في خطتنا لاحقا.

♡♡♡♡

x

حل المساء ومالت الشمس للمغيب. كان واقفا قرب النافذة الكبيرة بالطابق العلوي يتفرج على شفقها الأحمر في الأفق عندما اهتز هاتفه ينبهه لوصول رسالة نصية.

أخرجه من جيبه ليجدها بضعة كلمات منها: "لقد اختفيت طويلا. ماذا بشأن الأسرى؟"

ارتسمت بعيونه نظرة كلها شوق وحنين ثم أعاده إلى جيبه قبل أن يصل بشير الذي كان يسبقه وقع خطواته بالرواق. وما لبث أن وقف قبالته مشيرا إليه: سأخرج الآن، هل السيارة جاهزة؟

أجابه لؤي: أجل والحرس في الانتظار... هل أرافقك؟

أومأ له بلا: لن أبتعد كثيرا... اتصل برجال الأمن في بيتي وتفقد الأحوال هناك..

سأله: هل تريد مني أن ألقي نظرة هناك بنفسي؟

أجابه قبل أن ينزل الدرج: لا... نسق الأمور بينكم على الهاتف...

تابع نزول الدرج واختفى عن ناظريه فحمل هاتفه واتصل بالرجل المسؤول عن الأمن هناك ليتأكد من أن الأمور تسير على خير ما يرام. لقد تمنى أن يوافق على ذهابه ليمتع ناظريه برؤيتها ولو من بعيد... لا يعرف إن كانت قد تجاوزت صدمتها أم لا... ففي ليلة واحدة اكتشفت جرائم والدها وخيانة زوجها ثم انكسار أمها... إنه لمن الصعب على فتاة مثلها احتمال كل هذا الألم!

بعد أن اطمأن عن الأحوال هناك ولج إلى غرفته أين استلقى على سريره بتعب وهو يفكر فيها. برقتها وروعة ابتسامتها... لقد أخذت بعقله تلك الفتاة وستنسيه نفسه!..

x

ويحملني الحنين إليك طفلا

وقد سلب الزمان الصبر مني

وألقي فوق صدرك أمنياتي

وقد شقى الفؤاد مع التمني

غرست الدرب أزهارا بعمري

فخيبت السنون اليوم ظني

وأسلمت الزمان زمام أمري

وعشت العمر بالشكوى أغني

وكان العمر في عينيك أمنا

وضاع الأمن حين رحلت عني

فاروق جويدة ♡ونشقى بالأمل♡

x

أثبتت له حتى الآن أنها امرأة قادرة على فعل المستحيل... والحقيقة أنه لم يراهن عليها ولم يكن ليثق بقدراتها كل الثقة.

في ذلك اليوم عندما أخبرها أنه سيلتقيها في مكتب والدها كل ما أراده حينها أن تتشجع لتدخل إلى هناك وتكتشف الحقيقة بأم أعينها. وأبدا لم يكن ينوي أن يلاقيها فيه.

وقف في مكان يسمح له بمراقبتها وهي تدخل إلى القاعة. بمجرد وصولها أخذت منها الخادمة معطفها وسارت هي تتألق في فستان سهرة أسود يبرز انحناءات جسدها. ولكم كان يكره أن تكون في مرمى كل العيون ليشاركوه النظر إليها رغم أنها أصبحت زوجة لرجل غيره... شاهدها تتحدث إلى محسن ثم تركته لتلحق بوالدها. لقد كانت ذكية بما يكفي كي تضمه وتفتش في جيوبه... ابتسم حينها رافعا أحد حواجبه وهو يشاهد مَكرها ودهاءها الذي لم يحسب له حسابا... شاهدها تحدق باتجاهه طويلا فعرف أن دوره قادم لا محالة. ولم يستطع أن يحِد بنظراته بعيدا عنها حتى اختفت من أمامه... ادعاؤها للإغماء كان فكرة لامعة منها... ولم يكن غبيا حتى لا يشعر بأصابعها تداعب حزامه وهو يحملها. لقد أخذت المفاتيح وكانت حريصة ألا تصدر أي صوت حتى لا ينتبه لها. وعندما وضعها على السرير وغطّاها أشفق عليها مما ينتظرها. كان يعلم أن الليلة سيتحطم قلبها.

لقد مشت على تعليماته بالحرف الواحد وتمكنت من معرفة أسرار والدها. وكان عليه أن ينتظر خروجها ليمنعها من ارتكاب الحماقات. شاهدها تخرج محطمة القلب يائسة... كانت تسير وكأنها تحت تأثير xxxx أو مخدر... يعلم جيدا أن صدمتها اليوم كبيرة. مر بقربها وطلب من الخدم البحث عن مفاتيحه وتركها تغادر باتجاه الحديقة متمنيا أن تمكث هناك حتى تتمالك أعصابها لألا يكتشف والدها ما حصل.

لكن وبمجرد أن أخذ مفاتيحه التي كانت ملقاة على الأرض في المطبخ جاءه أحد الخدم وقال بفزع: السيدة مروى جاثية في الحديقة وهي تبكي بشدة.

لازال يحس بالكيفية التي هبط فيها قلبه من بين ضلوعه وراح يركض مهرولا باتجاه الحديقة أين وجدها هناك في حال مزرية تحت أنظار الموجودين من المستخدمين...

أخذها من كلتا ذراعيها كالعصفور الجريح وجعلها تقف قبالته. رؤيتها على تلك الحال البائسة أوجعت قلبه ونهشت عواطفه... ليس في الدنيا أسوأ من أن يشاهدها تتعذب وتتألم بسببه...

لقد أرادها أن تعرف الحقيقة... أن تشاهد بأم عينها فظاعة والدها حتى لا تكرهه في يوم من الأيام... حتى لا تحقد عليه وتتمنى موته بعد أن يقدم على الإطاحة به... تلك الخطوة التي لابد منها لينهي كل شره ويتوقف عن إيذاء البشر... لقد راهن عليها وعلى نبل أخلاقها... صحيح أنه وضع ضمن حساباته أن تخبر والدها ويبحث عن المذنب لكنه رسم خططه لتميل كل شكوكه تجاه محسن الشريك المكره والذي قرر الانفصال عن شريكه رغم عواقب ما قام به. فقد لاحقه بشير بمكره وكيده حتى كاد يعلن إفلاسه...

لم تخيب ظنه فيها وكانت على قدر المسؤولية التي أوكلت لها وها هي ذي تتلقى الصفعة تلو الأخرى بثبات وحزم كبيرين... ولكم يحز في نفسه أن يراها تتعذب دون أن يستطيع دفع الألم بعيدا عنها...

x

x



بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 28-08-21, 01:25 AM   #48

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الثاني والعشرون
تعشى محسن رفقة محمود ونسرين اليوم وتحدث إليهما في أمور عابرة بعيدة عما يخططون له. لقد كان محمود مختلفا عن العادة وقد تعامل مع أبيه بحب أكبر. فالحقيقة التي كشفها له غيرت كثيرا من نظرته إليه..

xبينما بدت نسرين مرتبكة وقلقة خصوصا بعد أن عرفت بما ينتظرهما من بشير.. ضف عليه تخوفها مما قد يفعله أهلها عندما يرونها وقد عادت إليهم كلعنة لا تموت...

انتبهت على صوت محسن وهو يقول: طمنيني... كيف كان اختبارك!

رفعت طرفها إليه بتساؤل فسمعت ضحكة محمود وهو يجيب نيابة عنها: إيجابيا يا أبي...

فهمت أخيرا أنه يقصد اختبار الحمل فتلمست تلقائيا بطنها دون أن تقول كلمة، بينما أردف محسن: عليك أن تعتني بوريثي جيدا ولا تغرقيه بكثرة الدموع... أعرف أنه مثلي لا يحب كثرة النواح...

عبست مقطبة بينما أفلتت بضع ضحكات من بين شفاه محمود. واستمروا يتناولون طعامهم في صمت إلا من بعض التعليقات الجانبية بين محسن وابنه.

انتهى العشاء فقام محسن ليجلس بقاعة الاستقبال، في ما اعتذر محمود ورافق نسرين للغرفة لعلمه أنها لا تحبذ التواصل مع والده كثيرا... ربما لأنها لم تتعود على طريقته الغير مبالية في التعامل مع الآخرين.

طلب فنجان شاي ساخن وجلس يتابع الأخبار في اهتمام وما لبث أن وصلت سهام حاملة ما يريد.

وضعته قبالته واستقامت واقفة ورأسها مطأطأ إلى الأرض لا تدري كيف تفتح معه الموضوع.

حدق بها من رأسها حتى أخمص قدميها. ليس يدري لماذا تفتنه هذه المرأة كلما تأملها! قال بفضول: هل هناك ما تريدين قوله؟

رفعت طرفها إليه فمنحها ابتسامة مطمئنة لتقول ما بجعبتها، وشجعتها تلك النظرة في عيونه لتخبره ما تريد دون خوف: سيدي... أريد الاستقالة من وظيفتي...

بدى متفاجئا فلم يمض زمن طويل منذ استلمت شغلها! قال بحيرة: هل أساء إليك أحدهم هنا؟

هزت رأسها نفيا وعادت لتحدق بالأرض: لا سيدي..

سألها كرة أخرى: ألم يعجبك راتبك؟... ربما وجدت عملا غيره؟

لا أبدا...

احتار حقا سبب رفضها الاشتغال هنا وخمن أنه ربما خافت تجاوزاته خصوصا عندما كادت ترتطم به ووضع يده على خصرها. لا ينكر أنه تصرف أخرق منه لم يسبق أن قام به مع أي من عاملات المنزل قبلها لكنه يتعجب حقا من نفسه كيف ينظر إليها وكم يستعذبها قلبه ويرغب فيها...

مما لا شك فيه أن رجلا مثله حظي بنساء كثيراتx في حياته لكن أي منهن لم تؤثر به عميقا ولم تثر اهتمامه إلى هذا الحد... هل تتوق نفسه إلى مغامرة جديدة ومختلفة يا ترى؟

قال لها مع ابتسامة غامضة: هل أنا من يزعجك؟

رفعت رأسها إليه ولم تَخفَى عليه صدمتها: لا... سيدي...

تحشرجت الكلمات في حلقها فصمتت ترقب توسع ابتسامته وهو يشير إليها بالجلوس... لم يكن ضمن البروتوكولات المتعارف عليها في هذه الأسرة أن يجالس هو بنفسه أيا من خدمه، لكنها استثناء قد لا يتكرر.

تنهد متأملا لها وهي تجلس غير بعيد عنه وأصابعها الرقيقة تسحب تنورتها لتغطي ساقيها حرجا منه... وفي داخلها كانت تتمنى لو أنها متخفية في دثار ما ليحول دون عيونه التي شعرت بها جريئة في تأمل تفاصيلها.

أدركت الآن أن حقا ما يحفظ أي أنثى من عيون أي رجل هو الستر في اللباس، حتى لا يتمكن من انتهاك حرمة جسدها ولو بعيونه... كم يحزنها أنها لم تفكر يوما في أن تحمي جسدها وأنوثتها في لباس مستور يطرد تلك الرغبات الحيوانية المحيطة بها من كل جانب.

قال بصوته الهامس: أخبريني لماذا تريدين ترك العمل، علنا نصل إلى تسوية.

حاولت أن تبرر بكذبة ما مقنعة لكنها لم تجد غير الحقيقة تلقي بها في وفاضه: أبي لم يكن موافقا على أن أعمل في بيوت الغير... والآن هو يرفضني لأنني عصيت أمره.

بدى متعجبا: معقول!.. لكن ما الذي دفع بك للبحث عن العمل أساسا؟

صمتت لبرهة قبل أن تقول: تلك حكاية طويلة.

استرخى على الأريكة واضعا ساقا فوق أخرى: لدي كل الوقت لأسمعها...

لم تدر من أين تبدأ بالتحديد... حملقت في عيونه الشاخصة فيها للحظات وحاولت أن تهدأ وتركز ثم قالت: كل الحكاية بدأت من تلك الليلة...

صمتت من جديد وقد بدى عليه الاهتمام بما تقول، فتابعت تسرد عليه معاناتها بألم... وهو يستمع إليها بانتباه. أخبرته عن لقائها بوليد وكيف اكتشفت شذوذ زوجها ثم الحيلة التي اتبعتها حماتها لتطمس الحقيقة وتجعلها مجنونة. وصولا إلى رفعها لقضية خلع ثم تجريدهم لها من ابنها وكيف ساءت حالتها...

مسحت دمعة حارقة فرت من عينها ولم تجرؤ على النظر إليه إلا عندما سمعته يقول لها: لابد وأنك ووليد زرتم اليوم أسرتك ليوضح لهم الحقيقة...

هزت رأسها بنعم: لقد فعل... ولم يُبدوا كثيرا من التضامن معي... والدي غاضب لأنني كسرت كلمته. وإخوتي لن يساعدوني حتى يرضى عني أبي...

تابعت بألم: يجب أن أعود للمنزل... لا أحتمل العيش دون رضا والداي... عل الله يرضى علي ويسخر لي من الأسباب ما يجعلني أربح قضيتي وأعيد ابني إلى حضني...

لم يعلق بكلمة، كان متعجبا من تشبثها بأسرتها وارتباطها الوثيق بهم... لابد وأنها تدرك أنه لا تحيا الورود بعيدا عن منبتها...

قال أخيرا: لن أمانع تركك للعمل لكن يجب أن نحظى بخادمة بديلة أولا...

هزت رأسها موافقة: أتفهم هذا...

♡♡♡♡♡♡

استيقظ من نومه على صوت اهتزاز هاتفه، رفعه أمام وجهه وهو يفرك عيونه... إنها تتصل به... مروى تريد أن تتحدث إليه!

أقفل الهاتف دون أن يجيب ثم تذكر أنه لم يرد على رسالتها بشأن الأسرى. وماذا عساه يقول لها وهو لم يستطع أن يرتب خطته دون أخطاء... صعب جدا أن يخطو خطوة كهذه إن لم يحسبها بدقة.

أرسل لها: "لا تسأليني عن شيء حتى أقرر أنا ماذا سنفعل."

لم ترسل له أي جواب. ولكم يحزنه أن يعاملها بهذا الجفاء... كل ما يريده أن يراها وتشبع عيونه من وجهها. تتوق نفسه لضمها إليه والاحساس بدفئها... لكنه يعلم جيدا أن أمنياته ستبقى أحلاما تراوده كلما استبد به الشوق إليها... لم يعرف أبدا أن تواصله معها من خلال الرسائل واقترابه منها بالآونة الأخيرة سيؤجج نيران شوقه تجاهها...

حملق بالساعة، إنها التاسعة ليلا... لقد غفا على غير عادته بعد المغرب بقليل ليستفيق الآن وفي رأسه صداع ودوخة... كم هو مزعج أن ينام المرء على غير موعد نومه!

تنهد بألم وغادر سريره. خرج من غرفته وسار على طول الرواق وكان يسمع صوت الموسيقى و الضحك وبعض الصخب في جناح بشير فعرف أنه قد رجع وهو غارق في لهوه ومجونه كعادته مع بعض عشيقاته اللواتي يحترفن الرقص... أحيانا يشفق على السيدة ريماس. لابد وأن لها إرادة من حديد لتتحمل مغامرا مثله!

وهو في الدرج جاءه أحد الحراس ركضا وهو يقول سيدي... إنها هنا!

ارتسمت على وجهه معالم الدهشة: من!

وقبل أن يجيبه انتبه لوقع خطواتها وهي مقبلة عليهما في معطفها الأحمر الذي لا يتجاوز خصرها وتنورة سوداء لا تغطي ركبها مع حذاء طويل العنق يصل حتى منتصف ساقيها. كانت تسير بسرعة نحوهما ويديها في جيوبها أما عيونها فشاخصة إليهما ترقبهما بصرامة.

أسرع ليعترض طريقها: مرحبا سيدة مروى...

رمقته بنظرة متذمرة: أهلا يا هذا!

لمس الحنق في كلماتها فأشار لها إلى ما خلفها حتى تنزل لغرفة الاستقبال: تفضلي سأبلغ السيد بحضورك.

رفعت حاجبيها باستخفاف: ألا يمكن لسيدك أن يستقبلني دون إذن!.. أعتقد أنني ابنته. أم تراني مخطئة!

قالتها وهي تقترب منه وقد وقفت على أطراف أصابعها محاولة أن تضاهي طوله، ونظرت في عيونه متحدية: ابتعد عن طريقي لو سمحت...

بدا له أنها قد غيرت من لهجتها الصارمة تجاهه ونابت عن فضاضتها تلك بليونة "لو سمحت".

لكم يعشق مروج عيونها الخضراءx عندما تعصف بغضب... يدرك جيدا أن ما يكدرهما ليس هو وإنما من يجلس خلفه في جناحه يسرح في مجونه...

همس لها: اهدئي...

حاولت تجاوزه: لا تطلب مني أن أهدأ...

أمسك بها بكلتا يديه ومنعها من التقدم: سيدة مروى اهدئي لو سمحت... لن تستفيدي أي شيء من غضبك.

وأشار للحارس حتى يخبر بشير قبل أن تفاجئه في وكر خبائثه فركض من أمامه. ثم التفت إليها: اجلسي بغرفة الاستقبال وسيحضر حالا.

حاولت أن تبعده عن طريقها لأنها تعلم أنه يتستر على والدها ويحاول أن يحول دون أن تفاجئه بجناحه. لكنه كان أضخم من أن تفلح في مناورته.

قال وهو مدرك لما يجول في ذهنها: رافقيني إلى الأسفل.

تظاهرت بالانصياع لطلبه وتجاوزته بمجرد أن تحرك من مكانه. لكنه كان يتوقع حركتها تلك، فأمسكها قبل أن تفر وجعلها تعود أدراجها وظلت هي تحاول أن تخلص نفسها منه دافعة بنفسها إلى الأمام وفي كل مرة تجده في وجهها سدا منيعا يحول دون ذلك.

ضربت بقبضتها على صدره: أيها ال....

لم تشتمه رغم أنها كانت تحس بحاجة ملحة لأن تفعل ذلك... ربما بتصرفاته معها علمها كيف تحترمه...

وتأملها هو بقربه لا يفصله عنها سوى بضع سنتمترات ستتلاشى حتما لو قرب منها رأسه. لقد اشتاق لرؤيتها وآن له أن يغرق في بحارها التي لا قرار لها... شهق بعمق عندما شعر باضطراب تنفسها، فمؤكد أنها تشعر بحرارة قربه وقد تذوقت طعم أنفاسه.

مال إليها مقربا رأسه منها ويداه مثبتتان على خصرها. واقترب رويدا رويدا وعيونها تتأمله بذهول، لقد كان يختزل المسافة بينهما أكثر فأكثر. وهي كالبكماء قد تجمدت من دهشتها...

أغمضت عيونها عندما شعرت أنه قد طوى كل المسافة بينهما، وقلبها يدق بقوة في جوفها خوفا وفزعا...

أجفلا فجأة عندما سمعا صوت بشير: مرحبا يا ابنتي...

ابتعد لؤي عنها يمسد جبهته دون أن يجرؤ على معاودة النظر إليها. في ما تلعثمت هي وشعرت أنها عاجزة عن الكلام.

أخذها والدها الذي لم يمنحه المكان الذي أتى منه صورة واضحة لما كان سيحصل بينهما ثم سار معها إلى قاعة الاستقبال بالأسفل وهي تحت جناحه: كيف أنت يا حبيبتي... اشتقت إليك.

هزت رأسها بتيه وعيونها تسترق النظرات باتجاه لؤي الذي سار بالاتجاه المعاكس إلى غرفته لاعنا لغبائه آلاف المرات. هل كان عليه أن ينقل إليها إحساسه الذي طالما أخفاه عنها بلا مبالاته!... كيف ستتصرف معه بعد الآن! فمؤكد أن مشروعه كان قبلة قاطعها والدها دقيق المواعيد ذاك!

●●●●●●●●

نزل محمود إلى قاعة الاستقبال فوجد والده هناك لم يبارح مكانه. جلس قبالته وهو يفرك أصابعه فنظر إليه لبرهة: هل نامت عروسك؟

هز رأسه نفيا: إنها قلقة ومن المستبعد أن يغمض لها جفن.

تنهد بملل: عليها أن ترتاح لأنكما ستتركان المنزل باكرا.

حملق فيه بذهول: لم كل هذه السرعة!

استوى في جلوسه وقال بجد: كي لا نترك له مجالا للمناورة.

هز رأسه مومئا والاضطراب بادٍ على وجهه. فبقي محسن يحدق به لفترة: لقد خططت لكل شيء... غدا صباحا ستتركان المنزل في شاحنة تابعة لمحل الأثاث الذي كان وديع رحمة الله عليه يملكه... وستترككما خارج الولاية وهناك ستنظم إليكما تلك العاهرة لتكملوا ثلاثتكم باتجاه البلدة.

نظر إليه متوجسا: هل ستنطلي عليه هذه الخدعة؟

نظر من حوله ثم قال: أعرف أن هناك من ينقل إليه أخبارنا... علينا أن نلتزم الحيطة والحذر ولا يجب أن يراكما أي مخلوق عند مغادرتكما كما أنني سأفصل الكاميرات حتى لا تسجل خروجكما. بشير لا يجب أن يعرف برحيلكما حتى تتمكنا من الابتعاد عن عيونه...

●●●●●●●

انتهت مروى من مقابلة والدها وقد أقنعته بضرورة تطييب خاطر أمها و الاعتذار إليها... تعترف أنها كانت تنوي مفاجأته ومعرفة ما يخبئه بعيدا عن عيونهما لكن لؤي حال دون ذلك... لقد بحثت مطولا لتعرف أين يقيم إلى أن خطر لأمها أن تتبعه عند خروجه من الشركة وهكذا عرفت أين هو الآن...

xكل ما يهمها حاليا هو أن يعيد الاعتبار لوالدتها بعد أن مسح الأرض بكرامتها لعلمها أن أمها تستحق معاملة أفضل وليس عليها أن تقبل بسوء معاملته خوفا منه أو مما قد يلحقه بها إن هي تجرأت ووقفت في وجهه أو حتى إن فكرت في طلب الطلاق منه. إن كانت سترجع إليه في مطلق الأحوال فالأحفظ لكرامتها أن يبادر بمصالحتها والاعتذار إليها.

قال أنه سيفعل. وليست تدري إن كان صادقا أم أنه يسايرها وحسب. لكنها تتمنى فعلا أن تتحسن العلاقة بينهما.

خرجت من الفيلا على عجل وسارت واضعة كفيها بجيوبها. بخطوات غاضبة وقلب مقهور كانت تبتعد عن درجات المنزل الخمس عندما سمعت صوت ضحكات نسائية مصدرها الطابق العلوي.

توقفت بذهول واستدارت تنظر خلفها إلى النافذة المفتوحة التي ينبعث منها النور وصوت موسيقى خافته. تراجعت بضع خطوات إلى الخلف علها تستطيع تمييز من يقف بالداخل. واستمرت في التراجع خطوة بعد خطوة حتى ارتطمت بجسد ضخم خلفها.

التفتت على عجل معتذرة: أنا آسفة!

شحبت ملامحها فجأة عندما أدركت أنه لؤي وارتعشت شفاهها مغمغمة بكلمات لم يفهمها. والحقيقة أنه كان أكثر اضطرابا منها بعدما حصل.

تنحى من أمامها فجأة بعد أن اعتذر بصوت هامس: آسف..

ابتعد عنها شيئا فشيئا بخطوات بطيئة وهي تشيعه بنظراتها وقلبها يضرب بقوة في جوف صدرها ارتباكا واضطرابا... ليست تدري أهو الخوف أم الخجل أم ماذا!... لا تعرف حقا سبب انفعالها خصوصا بعد ما حدث قبل قليل... ليست متأكدة مما كان ينوي فعله. لكنها تعرف الآن أنه يحمل لها مشاعر دفينة... صحيح أنه لم يبح لها بأي مما يختلج نفسه لكنها أحست بنيران شوقه تلهبها واستطاعت أن تلمس الحب في تلك العيون...

أسرعت خطاها باتجاه سيارتها وهي تسترق إليه نظرات خاطفة من حين لآخر..x ربما أفضل ما قام به للتو هو هروبه... ليست تدري كيف كانت ستجيبه لو أنه قال أي كلمة...

كان قد وصل إلى باب الفيلا عندما سمع صوت سيارتها تترك الحديقة... لم يستطع النظر بوجهها بعد ما كاد يقدم عليه، وكيف له أن يضع عيونه بعيونها وهو الذي كاد يتعدى حدوده معها ويمنح نفسه حقا ليس له!...

xكيف له أن يلمس جسدها أو يفكر في تقبيلها!... كاد الشيطان أن يهلكه... بدأ بنظراته، تلاها بهمساته، والآن بلمساته، وقريبا سيقع في المحظور إن لم يتمالك نفسه ويسيطر على عواطفه.

توقف فجأة واستدار خلفه مرسلا بعيونه إلى السماء وكفه يمسح على وجهه حتى اعتصرت أصابعه عيونه تعبا وإرهاقا: ارحمني يا رب...

قريبا سيخلف الوعد الذي قطعه على نفسه أمام ربه في أن يتبع النهج المستقيم وأن يكون رجلا يخشى الله في سره وعلانيته.

صحيح أنه يحاول جاهدا الخلاص من جرائم بشير وإطلاق سراح كل الأسرى الذين هم في حوزته لكنه أبدا لم يحسب حساب مروى التي جاءت لتنزل به عذابا آخر، ربما هو الأفتك على الإطلاق... فكلما رآها بقربه تنتابه أحاسيس غريبة ومشاعر مهلكة، وأفكار ملحة لا يقوى على ردعها، ونفس تستعذب المعصية تحت شعار الحب والعشق. يعرف حق المعرفة أنه لن يتوانى عن تقبيلها المرة المقبلة إن اجتمعا في ظروف أخرى وربما لن يتوقف إن لم تحاول منعه.. وخطوة بعد خطوة سيلبي نداء مشاعره وسيصم أذنيه عن سماع صوت الحق بداخله وسينتهي به الأمر متجاوزا لحدود ربه، عاصيا لأوامره مرتكبا لنواهيه. وما الذي قد يفيده الندم بعد أن تقع الفأس بالرأس!

كثيرون هم من وقعوا في شراك ابليس بعد ان استدرجهم خطوة خطوة دون أن يشعروا ... هو لن يقول لأي منهم "ازني"...x ولكنه يقول "انظر كم هي جميلة"... لا يقول "قبلها" ولكنه يهيئ له من الظروف ما يجعله يفعلها... لا يقول له "ارتكب الفاحشة" لكنه يبرر له كل شيء تحت مسمى الحب... هو يعمي بصره ويوهمه ويُمنّيه... وما يعدهم الشيطان إلا غرورا...

●●●●●●

جاء صباح اليوم التالي. الساعة تشير إلى تمام التاسعة وشاحنة مزينة برسومات لقطع أثاث فخمة متوقفة بالقرب من باب الفيلا...

تم نقل الأثاث إلى الداخل واجتمع محسن مع كل عمال منزله في آخر قاعة يرتبون القطع تحت إشرافه. كان كل همه ابقاء العيون بعيدة عن المدخل إلى حين خروج محمود ونسرين واختبائهما داخل الشاحنة.

وعندما أخبره السائق أنه قد تمx تنفيذ الخطة بنجاح أشار له بالمغادرة على الفور قبل أن يشعر أي كان بما يحدث.

توجه بعدها بنفسه إلى قاعة المراقبة التي كانت فارغة، إذ أنه تعمد صرف العون قبل مجيء الشاحنة لأجل أن يطفئ كل الكاميرات.

أعاد تشغيلها وبقي يراقب رحيل الشاحنة من المنزل من مختلف الزوايا وقلبه منقبض... شيء ما يخبره أن ابنه رحل ولن يعود... إن كان سيسافر إلى الخارج دون أن يلتقيه ويودعه فهذا أهون الشرّين... لأن جل مخاوفه منصبة على بشير ومدىx جاهزيته لتنفيذ خطته القذرة بمهارة... إنه يرصد أخبار نسرين ومحمود معا وخطوة بخطوة... وإن كان يودع في منزله من ينقل إليه أخبارهما فهو أيضا لا يقل عنه دهاءً... وربما يسبقه بخطوات في الفطنة والذكاء... إنه يراقبه من حيث لا يدري... ودون أن يجعله يشك.

وحتى وإن كان يعلم أن ليلى وبعضا من خدام القصر لديه يتجسسون على أسرته فهو ليس بذلك الغباء ليطردهم ويوظف غيرهم، لأن بشير حتما سيجد منفذا للولوج إلى منزله من جديد... كل ما قام به هو مراقبتهم ووضعهم تحت المجهر بل حتى تمرير رسائل مغلوطة إلى بشير من خلالهم.

عاد أدراجه بخطوات متثاقلة واضعا كفيه في جيوبه وسار كئيبا حتى ولج الغرفة التي انتهى العمال توا من ترتيب أثاثها. فاجأته سهام بابتسامة واسعة وعيون منبهرة من روعة ما أحضره من زينة للمنزل وقالتx بصوت مرتفع: رائعة!... إنها تحفة!

خرج من شروده وحملق فيها بنظرة غريبة محاولا فهم ما تقوله فخافت أن تكون قد تجاوزت حدودها في معاملته ووضعت أصابعها على شفاهها معتذرة بهمس: آسفة...

رفع حواجبه: ماذا كنت تقولين؟

أشارت للأثاث والزينة متلعثمة: قلت أنها... جميلة...

ابتسم لسذاجتها وهز رأسه مومئا: على ألا تكسريها!

جحظت عيونها وقالت بذعر: أعدك!... لن ألمسها...

واحمرت خدودها خجلا فطأطأت رأسها حتى لا تنظر عيونها إلى عيونه. كان ليضحك من عفويتها لو أنه في مزاج أفضل. لكن أعصابه مشدودة وقلقه من القادم يهلكه. فاكتفى بنفس الابتسامة لم يزد عليها أي حركة.

حاولت منع نفسها لكنها لم تجد بدا من أن تسأله: سيدي... أنت بخير؟

نظر إليها مطولا وهي تتأمله بترقب ثم حملق بالقاعة الخالية حوله من الخدم وزفر بتعب: متعب يا سهام... متعب.

قالت فورا: لماذا لا ترتاح!.. أحضر لك بعضا من شاي النعناع الساخن؟

من المؤكد أنه لا يعاني من آلام الدورة ! لكنها تعودت أن تغلي لها أمها بعض النعناع لتتخلص من آلام بطنها وترتاح في نوم عميق بعد ارتشاف فنجانها...

لم يعلق على كلامها لكنه قدر لها اهتمامها به. إذ يبدو أن جلوسها معه البارحة قد جعلها ترتاح نسبيا في التعامل معه...

قال أخيرا وهو يهم بالمغادرة: سأرتاح بالغرفة. أريد الجرائد هناك.

هزت رأسها بحاضر وخرجت خلفه باتجاه المطبخ أين وضعت الابريق على النار وراحت تفتش بالأدراج الكثيرة وليلى تحملق فيها من زاوية عينها: عما تبحثين؟

قالت وهي تتابع تفتيشها: لدينا نعناع؟

أشارت لها: أجل على يمينك... هل أنت مريضة؟

هزت رأسها نفيا وهي تحمل علبة النعناع بيدها: السيد مريض.

فغرت الأخرى فاها متعجبة من هذا الاهتمام: هو طلب منك ذلك؟

كانت ستجيبها بصدق لكنها أحست بمنحى أفكارها فقالت: أجل...

ارتسمت معالم الاستخفاف على وجهها وغادرت المكان لتتابع تنظيفها بينما أسرعت سهام في تحضير الشاي مستمتعة برائحته الطيبة إلى أن أجفلت من صوت وليد: صباح الخير..

قبل أن تجيبه ضحك لارتعادها وأردف: آسف.

ردت عليه مبتسمة: صباح الخير وليد. كيف حالك؟

ابتسم ينظر إليها بإشفاق: لم تخبريني كيف انتهى الأمر في منزل أهلك؟

هزت كتفيها بقلة حيلة: سأترك العمل...

صمت قليلا ثم قال: أراه عين الصواب... مع أنني سأفتقدك.

رفعت نظراتها إليه متأملة لوجهه البعيد وتوقعت أنها ستشعر بالخجل من كلماته،. لكن تفاجأت بتبلد مشاعرها! لم يعد الأمر يشكل فرقا بالنسبة لها... فحتى وإن صرح لها الآن أنه يحبها فلن تؤثر بها كلماته... وكأن الحب لم يعد يعني لها أي شيء!

انتهت من وضع الشاي في الفنجان وحركته ثم تذوقته ووضعته بعناية على الصينية. ثم رصفت بقربه الجرائد. تحت أنظار وليد: هل ستصعدين بها إلى جناح السيد؟

ابتعدت بالصينية وهي تجيبه: أجل.

صر على أسنانه بغيظ ثم لحق بها: لا تفعلي... إنه رجل وقح... وهو يستدرجك...

التفتت إليه: أقدر لك اهتمامك. لن أتأخر...

وحتى اهتمامه بها لم يعن لها!.. وكأن قلبها قد أضحى من خشب... لا حياة فيه. فادي دمر كل أحاسيسها حتى أنها صارت تقرف من كل الرجال...

طرقت على باب جناحه فجاءها صوته: أدخل.

ولجت للداخل واقتربت تسير على حذر تحت أنظاره. لم تلج قبل اليوم هذا الجناح ولم تكن تنظف بهذا الطابق إذ أنه لا يُسمح للموظفين الجدد بالاقتراب من غرف أهل البيت.

كان جالسا على الأريكة في قاعة واسعة مزينة تتوسطها مائدة فخمة. وبها مداخل لحجرات أخرى وعلى الجدار المقابل نافذة واسعة يتخلل شعاع الشمس ستائرها فيلقي بضوئه في المكان.

وضعت الصينية بقربه وابتعدت خطوتين للوراء لتقف في استقامة منتظرة أوامره كما علمتها ليلى.

أمسك بالفنجان وارتشف منه رشفة. ثم حملق بها ممتنا: أشكرك.

أخفضت بصرها باسمة: العفو.

أشار إلى الأريكة المقابلة له: اجلسي...

جحظت عيونها ولم يُغفل ارتيابها فتابع: سنتحدث بشأن زوجك...

تلعثمت بحيرة وسارت مثقلة الخطى إلى الأريكة واستوت جالسة. فوضع الفنجان من يده وأرسل بنظراته إليها: اتصل بي المحامي للتو...

قالت بدهشة: المحامي!

تابع: اتصلت البارحة بأحد محامي الشركة. وطلبت منه استشارة بشأن قضيتك... أخبرني للتو أنه من الصعب إثبات الشذوذ الذي يمارسه زوجك. خصوصا وأنّ وليد لم يشهد بأم عينه على ما يحدث... ثم إن عثورك عليه مع رجل آخر بغرفة واحدة لا يعني أنه مارس الفعل المخل بالحياء..x كما أنني شخصيا أعتقد أن صاحب الملهى سيفعل المستحيل لتبريئ ساحته... هو لن يسمح للعدالة بسجنه وإقفال مصدر رزقه...

شعرت بوهن شديد في أطرافها وتجرعت خيبة أمل كبيرة ثم قالت ودمعة تفر من عينها: أهذا يعني أنني لن أرى ابني من جديد!

بقيت عيونه تتابع تلك القطرة التي مسحت خدها لتهوي من ذقنها وتقع فوق أصابعها المشبوكة في حجرها، ثم أشار لها بنبرة غاضبة: احبسي دموعك!

أجفلت بخوف فتمالك نفسه وتابع بهمس: من فضلك...

مسحت دموعها بعجل: آسفة...

وهمت بالوقوف لتغادر المكان فقال: اجلسي أرجوك... لا داعي لتخافي...

حاولت أن تهدأ وغصة تخنقها... كانت تريد أن تسيل دموعها أنهارا علها تطفئ نيران قهرها. لكنه لم يأذن لها وألجم كل انفعالاتها فباتت تتخبط كالغريقة في بحار عبرات لم تفارق مقلتيها...

قال بعد برهة: دوني لي عنوان الملهى الذي يسهر به. وأنا سأتصرف معه...

تجرعت تلك الغصة بحلقها وقالت بصوت متزعزع: لا أعرفه... سأطلبه من وليد.

قال وأصابعه تمسد جبينه: أذهبي وأحضريه...

وقفت بسرعة وغادرت على عجل وعيونه تتبعها إلى أن توارت خلف الباب. ليس يدري سبب انفعاله عندما شاهد دموعها... ربما لأنها ذكرته بزوجته المتوفاةx "بسمة" أم محمود. والتي طالما شاهد دموعها وانكسارها. وربما كان سببا في عذابها... لكنها رحلت دون أن يطلب منها الغفران..

وتذكرها يثقل عليه صدره. مازال ضميره يؤنبه كلما تذكر عيونها الحزينة وتنهيداتها المثقلة بالأسى...

لقد كان الولد الوحيد لأبيه. لهذا حصل على كل شيء بشكل مضاعف فنشأ فتا عاشقا للحياة مستلذا بها. ونظرا لشكله الجذاب ومنصبه المرموق كانت الفتيات تتهافتن عليه كالنحل على شهد العسل. أما هو فقد كان ينتقل من واحدة لأخرى بحسب ذوقه ومزاجه. إلى أن قرر والده تزويجه من بسمة ابنة أحد أصدقائه. لقد كانت اسما على مسمى... بسمة مشرقة وأنثى ناعمة وحنونة. لقد أحبها فعلا وعشق فيها رقة أحاسيسها وروحها الطيبة... كانت تبكي بحزن من أجل كل محروم وكل بائس وكل معذب لذا كان يحظر عليها متابعة الحصص التلفزيونية التي تُعنى بهذه الفئة من الناس. ورغم ذلك كانت تساعد الجمعيات الخيرية وتزور المرضى بالمستشفيات في المناسبات الدينية ولا تبخل بمد يد العون لأي محتاج. ويعترف أنه وخلال تلك الفترة كانت أعماله مزدهرة والربح فيها مضاعف. ولطالما قالت له أنه ما نقص مال من صدقة وأن الله يخلف عليه كل فلس ينفقه على كل محتاج ويبارك له في ماله. ولم يكن هو يهتم كثيرا لهذه الأمور لكنه لم يمنعها يوما من القيام بهذا ولم يحاسبها قط على المبالغ التي تنفقها لثقته في رجاحة عقلها.

أسوأ خصاله أنه كان رجلا مغامرا تُسوِّل له نفسه خيانتها بعيدا عن عيونها. وحدث أن اكتشفت الأمر وواجهته بالحقيقة فلم ينكر ووعدها بالاستقامة. وحاول جاهدا أن يظل عند وعده لكن جاءت ياقوتة وحامت به تحاول إغراءه. تجاهلها بالبداية لكن عادت روح المغامر تتلبسه فلبى نداءها وجعل منها خليلته لبضعة أيام. لكنه ندم بعدها وقرر هجرانها وقبل أن يفعل كانت زوجته قد عرفت بالحكاية وتأكد لها أنه نكث بوعده لها فقهرها الأمر وأدمى قلبها... ومن هنا فقدت ثقتها به نهائيا وصارت تشك به ولا تصدقه رغم أنه لم يعرف بعد الحادثة أي امرأة ولم يتخذ من دونها خليلة... لكن قلب المرأة المكسور بداخلها ما كان ليصدقه... فقد خذلها للمرة الثانية بعد أن آتاها من المواثيق ما جعلها تمنحه فرصة أخرى. كادا ينفصلان هذه المرة لكنه ما كان ليفرط فيها بسبب نزوة عابرة. وقد نجح أخيرا بإبقائها إلى جانبه. فبقيت من أجل ابنها وحاولت أن تصبر وتداري هواجسها، لكنها كانت أضعف من أن تقاوم وساوسها. خذلانه لها جعلها لا تصدق استقامته وتشك في أتفه الأمور... ضيقت عليه الخناق وأصبحت تترصد خطواته وتتهمه بالخيانة كلما تواصل مع أي امرأة ولو مضطرا بسبب العمل. حاول بالبداية تفهمها وطمأنتها لكنها كانت أنثى مجروحة غير قابلة لأن تثق بأحد... لقد فقدت ثقتها فيه وليس من سبيل لإعادة جبر ما تحطم.

يعلم جيدا أنه السبب فيما حصل. وحتى اليوم هو لا يلوم غيره على تدهور علاقتهما وسيرها من سيء لأسوأ. فقد بدأت المشاكل تنشب بينهما يوميا، حاولا تجاوزها بالتجاهل. فكان كل منهما يتجاهل الآخر ويتصرف معه بسطحية، هذا ما ولد الجفاء بينهما. وتنافرت القلوب وأصبح من الصعب جبر ما تكسر وبناء ما تهدم، مثلما يقول المتنبي:

إن القلوب إذا تنافر ودها

مثل الزجاج كسرها لا يجبر

وهكذا تكدرت حياته وفقد رفيقة دربه وأنيسة وحشته قبل أن يغيبها الثرى فقد أضحت جسدا بلا روح... كلمات بلا مشاعر ونظرات باردة الأحاسيس... حتى عندما يضمها إلى صدره لا يجد فيها دفء الأيام الماضية...

أتبكي على ليلى وأنت قتلتها

هنيئا مريئا أيها القاتل الصب

شاعر

ندم من بعد أن فقد قلبها ندما شديدا وحاول إصلاح ما تهدم بينهما بكل ما أوتي من قوة حتى أنه كره مغامراته التي أفقدته أعز ما يملك... وكم كان غبيا أنه لم يعرف قيمتها إلا بعد أن تباعدت عنه... صحيح أننا لا نقدر قيمة ما نملكه إلا بعد أن نفقده!

أصيبت بعدها بالسرطان ولم تكتشف مرضها إلا بعد أن تفشى في سائر جسدها. وأبقت الأمر سرا بينها وبين طبيبها حتى لا تحزن من حولها. وتدهورت حالها أكثر فحُملت إلى المستشفى وهناك عرف بحقيقة ما تعانيه وكانت في غيبوبة... وبعدها بأيام فارقت الحياة.

لا شيء يجرح قلبه أكثر من أنه لم يبح لها بكل ما يحمله لها في صدره. وبكل الحب الذي يختزنه لها بقلبه... كانت تستحق معاملة أفضل وكان عليه أن يبذل جهدا لكي يحافظ عليها لكنه أحمق لم يفكر في أنه سيخسرها ذات يوم!... استسلم لهواه وترك نزواته تقوده إلى هلاكه... من بعدها لم يعرف قلبه طعم الحب ولم يعش روعة الاحساس الذي عرفه معها. وكانت النساء من بعدها وكأنهن أوراق خريف تتساقطن حوله بلا قيمة... ورغم أنه حاول نسيانها مع غيرها إلا أنه فشل فشلا ذريعا... لقد عاقبته حية وميتة، إنه يجني أشواكه التي بذرها بيده... ومن يزرع الشوك يجني الجراح...

ظلت عيونه شاخصة تتأمل الحديقة من خلال زجاج النافذة وذكرياته تتقاذفه كالكرة من ركن لركن... الوقت يجري والعمر يمضي والجرح بقلبه لا يداويه طبيب... مرارة فقدانها، تأنيب ضميره، ولوعة اشتياقه... هي أسرار لم يبح بها لمخلوق... إنه يغطي على جراحه بلا مبالاته.. بقلة حيائه... بأي شيء لا يجعله الكسير الذي هو عليه...

مسح وجنته بأصابعه وتأمل بريق البلل عليها... إنه لا يكون على هذا الضعف إلا عندما يشرع صندوق ذكرياته ويسمح لخيالاتها بأن تغزوه...

تنهد ببؤس وحاول بلع تلك الغصة التي شعر بها عالقة بحلقه... لكم هو صعب أن نحِنَّ لمن هو غير موجود ونتمنى طلب الصفح ممن لا يستطيع أن يريحنا بالقبول... إنه يعلم جيدا أن هذا هو العقاب الإلهي العادل له على كل دمعة ذرفتها بسببه... أن لا يستلذ الحياة في غيابها كما لم تفعل هي في وجوده...

انتبه على صوت انفتاح الباب فمسح وجهه.

ولجت سهام إلى الداخل وهي تحمل ورقة في يدها. انتبهت أنها لم تطرق على الباب قبل أن تفتحه واستاءت من سوء تصرفها فرفعت يدها وطرقت على الباب المفتوح بحياء.

سمعته يقول لها: لا بأس تفضلي...

مشت بتأن حتى اقتربت منه فالتفت إليها عندما شعر بخطواتها قربه. بدى لها الإنسان الأكثر بؤسا في العالم وكم رق قلبها عليه وهي تنتبه إلى بياض عينيه الذي خالطه الاحمرار.

أخذ منها الورقة وقرأ العنوان ثم رفع رأسه إليها فقالت بارتباك: وليد يقول أنه ربما لن يرجع إلى ذلك الملهى... سيكون أكثر حرصا وربما سيجتمع برفاقه في بيت ما بعيدا عن الأنظار.

فكر مليا: سيرجع... إنه المكان الآمن لهم، فاستئجار شقة أمر قد يلفت الأنظار إليهم وربما يبلغ الجيران عنهم... المجتمع يرفض وبشدة هذا النوع من البشر ولا يتساهل معهم أبدا. لذا هم يتخذون كل أسباب الحيطة والحذر...

هزت رأسها بإيماء ثم حدقت به متسائلة: هل يمكنني أن أعرف ما ستفعله؟

توسعت ابتسامته المتسلية متجاهلا لأوجاع قلبه: أفكر في استخدام مواهبي الفذة...

لم تفهم قصده فأردف غامزا بعينه: سنصطاده مثل الفأر في المصيدة...

تحمست للفكرة: سنثبت شذوذه.

أشار لها: تماما...

تنهدت بانفعال ولم تعرف كيف تشكر له صنيعه وكادت تسبقها دموعها لولا خشيتها من ردة فعله فقالت بحشرجة: أشكرك سيدي... أنا ممتنة لك.

ابتسم لها بود: لا داعي لشكري... سأتسلى بصيده الأيام المقبلة.

هزت رأسها موافقة وكلها حماس... يا ليته ينجح في الإيقاع به. ستكون ممتنة له طيلة حياتها لو أنه نجح في الأخذ بحقها منه...

•••••••

توقفت الشاحنة في محطة الوقود ففتح السائق لمحمود ونسرين وطلب منهما النزول. مشيرا إلى سيارة رمادية اللون كانت مركونة قرب المدخل. وأخبرهما أن سائقها ينتظرهما.

عندما اقتربا من السيارة شاهدا ياقوتة بالمقعد الخلفي وما لبثت أن نزلت مهرولة إلى نسرين وعانقتها بخوف وهي تقول: حمدا لله هذه أنت!!! كنت بدأت أشك في أنها محاولة خطف!

طمأنتها نسرين: اهدئي ياقوتة... لقد أخبرتك البارحة في اتصالي أنني أرغب في أن تسانديني في لقائي بأسرتي...

أشارت للسائق: لم أرتح له... له وجه شرير.

ابتسمت وهي تدفعها بلطف لتركبا السيارة. في حين استلم محمود المفاتيح من السائق وركب في مقعده.

جلست نسرين بجواره وياقوتة خلفهما ولم يخفي محمود دهشته من منظر ياقوتة المتحفظ. والذي أضحى يلازمها منذ مدة ليست بالطويلة. قال وهو يتأملها في المرآة الأمامية: كيف حالك ياقوتة؟

قالت بعتاب: كنت بخير إلى أن نزل سائقكم قرب بيتي... لقد اختطفني اختطافا... كان رِجلي لا يزال عالقا بالباب عندما قاد السيارة بسرعة حتى كدت أقع وأتدحرج بالطريق لولا ستر الله... سألته عنكما ولم يجبني حتى ساورني الشك في أنني عالقة في ورطة وربما لن أرجع لبيتي!

أجابها وهو يخرج بسيارته من المحطة: اطمئني الآن... إنها مجرد زيارة عائلية لبيت نسرين... سأتعرف على أسرتها.

ضحكت بصوت عال حتى قطبت نسرين لسخريتها فلم تتمالك الأخرى نفسها وقالت رغم أنها لم تكن تراها: آسفة نسرين ولكنني تخيلت محمود بين أبوك وإخوتك وهم يرسلون بنظراتهم التقييمية إليه..x لا الأكثر طرافة لو دخلت أنا معك سيرجموننا حتى أبواب منازلنا!

استمرت تضحك دون أن ترد عليها بكلمة. بل أخذت نفسا عميقا وهي تشعر بآلام شديدة تمزق أحشاءها... إنه الخوف من اللقاء الذي لا مفر منه!




بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 29-08-21, 09:05 AM   #49

أم عمر ورقية

? العضوٌ??? » 425830
?  التسِجيلٌ » Jun 2018
? مشَارَ?اتْي » 55
?  نُقآطِيْ » أم عمر ورقية is on a distinguished road
افتراضي

سلمت يداك .....

أم عمر ورقية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 30-08-21, 12:53 AM   #50

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أم عمر ورقية مشاهدة المشاركة
سلمت يداك .....
يسلمك يا قلبي
💓💓


بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 07:53 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.