آخر 10 مشاركات
عشقكَِ عاصمةُ ضباب * مميزة ومكتملة * (الكاتـب : نورهان عبدالحميد - )           »          125 - الضوء الهارب - جينيث موراي (الكاتـب : حبة رمان - )           »          عندما يعشقون صغاراً (2) *مميزة و مكتملة *.. سلسلة مغتربون في الحب (الكاتـب : bambolina - )           »          وَ بِكَ أَتَهَجَأْ .. أَبْجَدِيَتيِ * مميزة * (الكاتـب : حلمْ يُعآنقْ السمَآء - )           »          73 - شاطئ الجمر - سالي وينتوورث (الكاتـب : فرح - )           »          متزوجات و لكن ...(مميزة و مكتمله) (الكاتـب : سحابه نقيه 1 - )           »          رواية المنتصف المميت (الكاتـب : ضاقت انفاسي - )           »          أحلام بعيــــــدة (11) للكاتبة الرائعة: بيان *كامله & مميزة* (الكاتـب : بيدا - )           »          فَرَاشة أَعلَى الفُرقَاطَة (1) .. سلسلة الفرقاطة * متميزه و مكتملة * (الكاتـب : منال سالم - )           »          1026 - مؤامرة قاسية - هيلين بروكس - د.ن (الكاتـب : pink moon - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

Like Tree35Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 30-08-21, 12:56 AM   #51

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي


اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نهله صالح مشاهدة المشاركة
الف مبروك حبيبتي ♥️
متابعة بإذن الله ♥️
يسعدني تواجدك حبيبتي نهلة 💓💓💓


بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 30-08-21, 12:58 AM   #52

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الثالث والعشرون

وصلوا إلى المدينة القريبة من البلدة مساءا ونزلوا بمطعم بسيط ليتناولوا بعض الطعام. كانت ياقوتة جائعة واشتغلت بما هو أمامها من أكل بينما بقيت نسرين صامتة كما كان حالها طوال الطريق. وتكتفي بإرسال نظرات تأملية حول المكان... لطالما كانت صديقاتها بالمدرسة تخبرنها أن المدينة كبيرة وتصفن لها محلاتها وسوقها العامر بالناس ويتباهين بما اشترينه رفقة أمهاتهن. إلا هي لم تزرها إلا مرة واحدة رفقة جدتها من أمها... وكانت تلك أول مرة تشتري فيها حذاءً تختاره بنفسها وعلى ذوقها... لم تكن يوما تتمتع بامتياز اختيار ملابسها ولا حتى التطلع لأشياء غالية تعجبها. والدها هو من كان يشتري لها ولأختها ملابسهما دون تكلف. و رغم بساطتها كانتا تفرحان بها وتجربانها مرة بعد أخرى... إنها براءة الطفولة وسذاجة الصغر... وكان الأمر كذلك حتى كبرتا وصارتا تميزان بين ما ترتديه الأخريات بالمدرسة وما كانتا تحصلان عليه كلتاهما. ورغم ذلك تقبلتا الأمر وقنعتا بالموجود.
لم يكن الأمر سيئا حتى انتهكت كرامتهما... في الدخول المدرسي، وعندما كانت نسرين تستعد لولوج الاعدادية لأول مرة جاء أسامة أكبر إخوتها بكيس كبير به كثير من الثياب. ناداهما معا: نسرين... منال... تعاليا لتشاهدا ما أحضرته لكما.
قفزتا معا ووقفتا بقربه في فضول ثم لحقت بهما أمهما. وراح هو يخرج من الكيس بعض الثياب الجميلة ويقدمها إليهما وهما تجربانها فوق جسديهما بإعجاب... كانتا سعيدتين بها ومنبهرتين من روعتها. وأسرعتا لتجريبها فورا امتثالا لطلبه.
وهما تلبسان أول ثوبين انتبهت نسرين أنه لا يحمل البطاقة التي ترافق عادة الأثواب الجديدة. ثم دققت النظر فيه بالمرآة بعد أن لبسته فوجدته باهتا في بعض أجزائه... وكانت فطنة لتدرك أنه ثوب قد لُبِس قبلاً وربما قد اشتراه أخوها من سوق الثياب المستعملة... لم تهتم للأمر كثيرا فلا أحد من أصدقائها سيعرف بالأمر.
لقد كانت لفتة طيبة منه رغم كل شيء، فوالدها لم يشتر لهم أي ملابس هذه السنة، ولن تلوم أخاها على ما فعل فهو يجمع نقوده ليجهز منزله الذي هو في طور البناء حتى يتزوج. وربما رق قلبه عليهما ولم يشأ أن تلجا المدرسة دون أن ترتديان ثيابا جديدة.
خرجت إليه وأمها فعبرا عن إعجابهما بفستانها وفستان أختها. ثم انتبهت إلى فتاة في عمر منال تتأملهما وأسامة يقول لها: أرأيت إنها على مقاسهما تماما... بلغي والدتك شكرنا...
تجمدت الدماء في عروقها فجأة لتغلي وتفور كرة أخرى عندما أيقنت تماما أن تلك الثياب ما هي إلا صدقات من بعض أحد سكان البلدة من الميسورين...
هذا شيء، وجَعْلُ تلك الفتاة تتفرج عليهما وهما ترتديان مخلفات أسرتها وتشفق على سعادتهما وامتنانهما شيء آخر.
لم تتمالك نفسها وفرّت من أمام عيونهم جميعا بغضب وقامت بخلع ما عليها وإلقائه أرضا... كانت دموعها تنساب على خديها قهرا وهي تسأل نفسها لماذا كُتب عليها أن تعيش أقل شأنا وأسوأ حظا!
ظلت عيون الفتاة تعري كرامتها وتطيح بكبريائها... لقد ولدت عنيدة بأنف شامخ منذ الصغر. ولم تكن لتقبل بمهانة كتلك...
في المساء، جمعت كل الثياب التي قدمها لها أخوها وقامت بتمزيقها بالمقص حتى أتت عليها جميعها ولم تترك شيئا منها. لكنها لم تستطع أن تأخذ ما قدمه لمنال لأنها لم تسمح لها بأخذها منها فقد كانت سعيدة بها ولا تفكر بمنظور نسرين... على العكس كانت أكثر منها تقبلا لما تعيشانه رغم صعوبته. وانصهرت في الحياة أكثر منها رغم ما تعانيه.
عندما شاهدت أمها ما حل بالثياب صاحت فيها معنّفة ومتوعدة. ونالتها بضع ضربات بالسوط قبل أن تفر من أمامها وتختبئ بالغرفة مقفلة الباب عليها وتستمع بإنصات لشتائمها ودعائها عليها لأنها فتاة بائسة لا تليق بها إلا المناشف لترتديها، وإلا كيف لها أن تتلف ذلك العدد الكبير من الثياب دون سبب!
الأسوأ من كل ما حصل هو تلك اللحظة التي عرفت فيها صدفة من خلال حوار دار بين أخيها وأمها أنه هو من طلب من والدهم ألا يشتري لهما الثياب هذه السنة وألح عليه في أنه سيفعل ذلك بنفسه. وكان له ما أراد فأعطاه المال ليكمل بناء بيته. وبدل أن ينفق الآخر على ثياب أخواته قرر أن يتسولها من بنات إحدى العائلات هناك... تراه قال لها: هناك فتاتان لا تجدان ما ترتديانه فتكرموا عليهما بما فاض عليكم من ثياب!..
ليس مهما ما تلفظ به مادام أنه استطاع أن يتسول الغير...
أجفلت على صوت محمود: ما بك حبيبتي؟... لماذا لا تأكلين!
أخذت الشوكة بيدها وعبثت بالسلطة قبل أن ترفع اللقمة إلى فمها لكنها ما استطاعت بلعها وأحست بغصة في حلقها فتناولت كأس الماء بيدها وارتشفت منه تحت أنظاره المراقبة لها. ثم وضع كفه على فخذها: لا تخافي نسرين... أنا بجانبك.
ابتسمت بوجهه مطمئنة فبادلها الابتسامة وأشار لها إلى الطبق: كلي قليلا أنا أرجوك...
♡♡♡♡
قرر محمود أن يمضي الأمسية مع نسرين في المدينة وألا يتوجه إلى البلدة إلا عند الصباح. ياقوتة أول من رحبت بالفكرة وقررت أن تقوم بجولة في المنطقة لتجمع ذكرياتها هناك. أما نسرين فكان الأمر بالنسبة إليها مجرد تأجيل للواقع المحتوم.
خرجت هي ومحمود إلى السوق لشراء بعض الثياب، فهي قدمت دون حقيبة سفر بسبب السرعة الفائقة التي تقرر فيها مغادرتهما للبيت.
بعد أن جابا كل المنطقة واشتريا أجمل الثياب هناك جلسا بأحد المطاعم في انتظار ياقوتة حتى يتعشوا جميعا قبل التوجه إلى الفندق.
لم تغفل نسرين عن عيون محمود التي كانت ترقب المكان بحذر وتمحص بتفاصيل كل من ينظر إليهما. إنها تعلم جيدا أنه سيظل يقظا مخافة أن يتمكن بشير من اقتفاء أثرهما فهو رجل من الصعب هزيمته!
وصلت ياقوتة بعد بعض الوقت وجلست إليهما وهي تقول: مرحبا... هل تأخرت؟
أجابها محمود: لا... على الإطلاق..
وضعت أكياس مقتنياتها جانبا ونظرت إلى نسرين بلهفة: نسرين أحضرت إليك أخبارا عن عائلتك... لن تصدقي التطورات التي حصلت بعد رحيلك.
أحست بهبوط قلبها من بين ضلوعها وهي تتوقع سماع الأسوأ. وشحبت تماما: حصل معهم مكروه!
ردت نفيا: على الاطلاق... كلهم بخير وجل إخوتك قد تزوجوا... وأصبح لديك الكثير الكثير ممن يناديك عمتي...
لم تشعر بالسعادة لهذا فهي تعلم جيدا أنها عمة لا يرغب بها أحد... تجاوزت الأمر ثم تذكرت أختها منال: ومنال... هل تزوجت!
ياقوتة هي من تجهمت هذه المرة: أجل. ولديها أولاد أيضا... دعينا في المفيد. ابنة أخيك الأكبر تدرس بالجامعة... تصوري هذا!
وتابعت بحنق: في الماضي حرموك ومنال من هذا الحق... وانظري الآن كيف يهتمون لبناتهم! ألم يكن خروج المرأة عيبا! أم أنكما أنتما فقط مصدر العار!
لم تجبها واستمرت تحرك المصاصة بكيس العصير متأملة له في شرود. فنظرت ياقوتة إلى محمود ثم إليها: هل فضحت شيئا!
أجابتها: لا. أبدا... محمود يعرف كل الحكاية...
تنهدت وتابعت: الحمد لله أنه هنا ليحول دون أن يؤذوك...
حدق بها محمود: هل حقا سيتجرؤون على أذيتها! أنا لا أصدق أن هناك أهلا قد يفعلون هذا!
رفعت ياقوتة حواجبها بأسف: نحن لن نعرف ما سيفعلونه بها حتى نقابلهم... ونصيحة مني لا تأخذوني معكم...
حاوط كتفي نسرين بذراعه وقال لياقوتة: لن يفعلوا شيئا. لأنني لن أسمح لهم بإهانتها. عليهم أن يواجهوني أولا...
●●●●●

جلست مروى على الأريكة في انتظار وصول والدها لأنه اتصل بها قبل قليل وأخبرها أنه سيتعشى رفقتهم. كانت قلقة ومرتبكة... أمها تلتزم الصمت التام، ونظراتها باردة تتسم بالجفاف. هي لا تلوم قسوة قلبها لكنها تخشى من حدوث عاصفة أخرى تهز أركان هذا البيت...
وضعت وجهها بين كفيها وغاصت بفكرها تتذكر مرارة تلك الأمسية البائسة قبل أسبوع... لا تريد أن يتكرر أمامها أي من تلك اللحظات المدمرة.. وليست تعلم إن كانت قادرة على استحمال غطرسة والدها أكثر...
سمعته يحدث الخدم وما لبث أن حل قبالتها في كامل هيبته، ومن خلفه دخل سائقه وهو يحمل حقيبته. اغتصبت مكرهة ابتسامة غطت بها على شحوبها وتجهمها وتملقته قائلة: مرحبا بك أبي... سعيدة برؤيتك.
ابتسم بحب وفتح لها ذراعيه ليضمها، وعلى غير العادة وجدت حضنه باردا لا دفء فيه. أو ربما قسوته وجبروته هو من دمر بداخلها كل مستقبلات العاطفة تجاهه!
ابتعد عنها متأملا لها ثم قال: أين هي والدتك؟
أشارت للطابق العلوي: في غرفتها... غرفتكما...
ودعها بابتسامة واتجه إلى الطابق العلوي. فأرخت نفسها لتقع فوق الأريكة من جديد خائرة القوى. وقلبها يدق بترقب... هل سيتشاجران من جديد؟
سمعت بعدها انفتاح الباب الخارجي فرفعت رأسها لتشاهد لؤي يدخل وفي يده مفاتيحه. ثم حملق بها للحظات قبل أن يعبر باتجاه المطبخ أو ربما غرفته.
لم يقل أي كلمة ترحيب ولم يرق لها أن يهملها بهذه الطريقة. لكنها لم تشغل بالها بالتفكير فيه، بل حملت نفسها لتخرج إلى الحديقة الخلفية فمن هناك بإمكانها الوقوف تحت نافذة غرفة أبويها لتسمع إن كانا يتشاجران.
في الرواق وقبل أن تمر بجانب المطبخ جاءها صوت الخادمة الجديدة ريم وهي تقول: سعيدة برؤيتك سيدي، كيف حالك؟
بدى لؤي متفاجئا وهو يقول: ريم!... متى بدأت العمل هنا؟
وصلتها ضحكتها الرقيقة قبل أن تجيبه: مباشرة بعد أن رفضتني... لقد سألت عن عنوان ثان وقدم لي المكتب هذا العنوان. والسيدة هنا لطيفة ورائعة لقد قبلت بي رغم أنها ليست في حاجة لخادمة.
انتابها الفضول لترى وجهه وهو يحدثها فتسللت خطوة بعد. لتشاهده واقفا بقربها وعيونه متحدة مع عيونها وعلى شفتيه ابتسامة من شدة دفئها أحرقت قلبها غيظا.
تنحنحت قبل أن تدخل فتجاهلها وسار مبتعدا نحو الطاولة ليسكب الماء لنفسه مانحا إياها ظهره بينما اربكتها فعلته ولم تجد ما تفسر به دخولها إلى هناك.
قالت لها الريم: هل تحتاجين شيئا سيدتي؟
حملقت فيها بعبوس قبل أن تجيبها بجفاف: لا شيء اهتمي بشؤونك...
واقتربت منه حتى وقفت بمحاذاته فأخذت الكأس الذي وضعه توا وسكبت لنفسها، بينما بقي هو على وقفته وقد أدهشه قربها منه على هذا النحو. ثم وضعت الكأس على الطاولة بعد أن ارتشفته دفعة واحدة وهمست له: كيف حال الأسرى؟
تجمد فجأة وبلع ريقه محملقًا فيها بدهشة فمالت شفاهها بابتسامة انتصار وحدقت به بمكر: هل كنت تفكر بأنني فتاة تافهة لا يصلح عقلها للتفكير؟
التفت إلى ريم التي كانت تحاول معرفة ما يدور بينهما ثم إلى مروى وهمس لها: لا أفهم عما تتحدثين؟
زفرت باستياء: كف عن المراوغة... أعرف أنه أنت...
لم يبد عليه الارتياح من وجود ريم ولا من فتحها لهذا الموضوع في هذا المكان فطأطأ رأسه إليها ليهمس بالقرب من أذنها: سنتحدث لاحقا...
تركها مباشرة متوجها إلى غرفته بينما حدقت بريم بضع لحظات قبل أن تقول: أليس لديك أعمال تقومين بها عدا التنصت على الآخرين؟
ارتبكت ريم واحمر وجهها وابتعدت معتذرة وقد ساورها الشك حول وجود علاقة ما بين ابنة السيد ورئيس الحرس في منزله.
خرجت بعدها إلى الحديقة وجلست تحت شرفة غرفة والديها فلم تسمع أي صراخ أو تبادل للشتائم. بعد برهة ابتعدت عن المكان وتابعت سيرها واضعة كفيها بجيوبها.
صحيح أنها لم تفكر في مصارحته قبل الآن، لكنها شعرت بحاجة ملحة لأن تفعل ذلك في تلك اللحظة بالذات. أرادت أن يكون واضحا ولا يواري عنها أسراره. إنها متحمسة لمعرفة كل الحقيقة منه خصوصا السبب الذي دفع به للإقدام على إقحامها بالموضوع.
وقفت تحت بعض الأشجار وحدقت بالمكان حولها فشاهدته يشرع نوافذ غرفته. لقد غاب عنها طويلا ولابد وأنه يريد تهويتها، بقي واقفا للحظات يبادلها النظرات ولم تقم بتجاهله مثلما تعود أن يفعل معها، ولا حتى أن تبدل نظراتها عنه بعنفوان مثلما هي عادتها. شعر بأنها تستهدفه، ومتيقن هو من أنها لن تتركه حتى تخلي وفاضه وتعرف منه كل الحقيقة، ولم يعد في جعبته ما يخفيه عنها بعد أن كشفته إلا مشاعره المجلجلة تلك التي أصبح لا يعرف كيف يواريها..
سيلتقيها في مكان ما بعيدا عن الأعين، وربما فكر في أن يبدأ حديثه معها من حيث انتهى آخر مرة!
زفر بتعب وقلبه يوجعه. إن الأمر أشبه بأن تضع الجزرة في فم الحصان وتمنعه من التهامها... كيف له بعد الآن أن يتواجد معها بمكان واحد دون أن يفعل ما تمناه منذ زمن!
ترك النافذة متوجها إلى خزانته وهو يعتصر عيونه من التعب وكثرة التفكير.
ألقى بثيابه النظيفة فوق السرير، وأخذ معه منشفة قبل أن يغادر باتجاه الحمام ليريح جسده المرهق في مياه دافئة.
♡♡♡♡♡♡
في الصباح الباكر لليوم التالي، كانا جالسين معا بالكافتيريا القريبة من الفندق. بدت مضطربة وخائفة... وكيف لها ألا تخاف ولم يعد يفصلها عن لقائها بأهلها سوى بضع سويعات أو ربما دقائق... ليست تدري كيف ستنظر بعيونهم الحاقدة ولا حتى كيف ستقابلها ألسنتهم الصارمة!
تنهدت بأسى وزفرت بإرهاق فتأملها محمود لبرهة قبل أن يقول: لا تخافي نسرين... أعدك أنني لن أسمح لهم بأذيتك...
هزت رأسها بإيماء وعادت لتحدق بعيدا. ولم تكن سوى بضع دقائق حتى وصلت ياقوتة في صخبها المعتاد: صباح الخير... كيف كانت ليلتكما هنا بهذه المدينة الجميلة؟
سحبت لنفسها كرسيا وتابعت: لن أسأل... وجهيكما لا يبشران بخير... هل شاهدت كوابيس أثناء نومك يا نسرين؟
لم تجبها واكتفت بهز رأسها بملل فتابعت الأخرى وهي تنظر إلى محمود: هل أخبرتك نسرين أن البرد شديد هنا في فصل الشتاء؟... إنه الزمهرير... سمك الثلوج يكون عاليا خصوصا بالبلدة... أنظر هناك.
وأشارت من خلال النافذة القريبة إلى الجبل الأبيض القريب. ثم تابعت: تقع البلدة في سفح ذلك الجبل... المكان رائع خصوصا بالربيع...
أشار للنادل حتى يطلب لها طعام الافطار ثم حدق بها: سنتوجه إلى هناك بعد قليل. أخبرني عامل الاستقبال بالفندق أن الطريق إلى هناك صعب في مثل هذا الوقت من العام، وقال أنني سأستغرق وقتا أكبر في قطع المسافة بسبب الطريق الزلقة.
قالت بأسف: مؤسف أنني لن أرافقكما... قد بحذر أرجوك.
♡♡♡♡♡

وقفت قرب المرآة تعاين مظهرها بسروال الجينز ثم لبست معطفها الجلدي الأسود القصير فوق كنزتها وحملت حقيبتها لتغادر وكلها حماس. ستقابله بعد قليل وستعرف منه كل الحقيقة... وأخيرا سوف تشبع فضولها...
ركبت سيارتها وقادتها بسرعة نحو البوابة ومن هناك عبر الطريق العام باتجاه المكان الذي طلب منها أن يلتقيا فيه.
لقد كانت رسالة واحدة منه وصلتها قبل أن تنام دون لها فيها العنوان الذي سيلتقيان فيه. وها هي ذي ستسبقه إلى هناك قبل الوقت الذي حدده لها ببضع دقائق حتى تلم بالمكان.
بعد دقائق من القيادة المتواصلة ركنت سيارتها على جنب الطريق كما أخبرها وانتظرت مروره من هناك. ولم يمضي كثير من الوقت حتى رن هاتفها بمكالمة واردة من صاحبها الحزين. شعرت بالرهبة فهذه أول مرة سيكلمها فيها دون رسائل وارتبكت قبل أن تفتح الخط وتضع الهاتف على أذنها: ألو...
جاءها صوته الذي لن تخطئه بين مائة صوت: أنا خلفك تماما.
حدقت بالمرآة الأمامية فأومض لها بأضواء سيارته ثم تابع: الحقي بي.
وأقفل الخط دون قول المزيد فشغلت محرك سيارتها وتتبعته حالما تجاوزها.
سارت خلفه لفترة طويلة حتى انتهيا عند مدخل المدينة الأثرية خارج العاصمة. ركن بعدها بالموقف ففعلت مثله وتبعته لكنه اختفى بين الزحام. بقيت تتأمل الوجوه من حولها وهي تلتفت يمنة ويسرة حتى شاهدته يقترب منها وفي يديه تذكرتان. ثم قال ما إن أصبح على مقربة منها: ما رأيك في جولة بالمدينة الأثرية!
هزت رأسها موافقة ومشت بمحاذاته... التزم كليهما الصمت التام وهما يسيران بممر حجري يقود إلى مساحة شاسعة مليئة بالأنقاض الحجرية الضخمة، فقال لها: إنها مدينة بناها الرومان خلال فترة احتلاله للمنطقة.
هزت رأسها موافقة واستمرا يسيران بأزقتها الحجرية التي مازالت تحافظ على بنيتها إلى حد ما رغم تعاقب السنين... وأعمدتها الشامخة التي مازالت تتحدى عوامل الطبيعة والزمن.
ثم عاد للقول من جديد: لطالما كانت المنطقة مطمعا لمختلف الغزاة على مر الزمن. والرومان، الوندال والبيزنطيين... كلهم مروا من هنا وتركوا بصمتهم الخاصة بالمنطقة.
حملقت فيه بنفاذ صبر: درسونا التاريخ بالمدرسة وأنا أعرف كل ما ستقوله... لكنني جئت لأجل أمر آخر...
توقف للحظة قبل أن يقول: أعرف...
ثم أشار لسور حجري سميك لا يرتفع كثيرا عن الأرض وطلب منها الجلوس. وجلس مقابلا لها فوق بعض الحجارة الكبيرة. ثم حدق فيها باهتمام: ما الذي تريدين معرفته؟
كان سؤالا مغريا جعلها لا تعرف من أين تبدأ فقد كانت تجول برأسها آلاف التساؤلات منذ أن تورطت بالقضية.
قالت بحزن: كيف عرفت بما يقوم به أبي؟
أجابها: تقصدين متاجرته بالأعضاء البشرية؟
هزت رأسها بنعم وعلى وجهها معالم الاشمئزاز. فتابع: كنت بحاجة للمال عندما اتصل بي والدك وطلب مني أن أعمل لديه حارسا شخصيا. لم أمانع وبدأت بالعمل فورا. وقد راقني ما يدفعه لي من مال جعلني أتحسن ماديا وأطمح للمزيد...
سكت لبرهة يستقرئ نظراتها إليه ثم تابع: لقد مرت بي ظروف جعلتني متعطشا لأنال القوة والسلطة وكان علي أن أجمع المال لأنالهما معا... لكن كل طموحاتي تحطمت بعد أن عرفت بما يقوم به والدك وبما ورطني فيه... يبدو أنه لاحظ تعطشي للمال مثله وجعلني مسؤولا عن أمن مذبحته القذرة تلك... في البداية لم أهتم بمعرفة ما يحصل داخلها وتعمدت ألا أبحث في الموضوع لأنني كنت على يقين من أنه أمر غير قانوني. لكنني عرفت بعدها بفظاعة ما يقترفه... أعترف أنني كنت أمينا ومخلصا له ولأسراره حتى تلك اللحظة... لم أستطع أن أقتل إنسانيتي وأتجاهل عذاب ضميري وكوابيسي التي تقض مضجعي...
بدت شاحبة ويائسة، لكنها استمرت في سؤاله: كيف عرفت بشيفرة الولوج إلى بطاقة التخزين؟
حك رأسه بإبهامه وقال كمن هو مذنب: وضعت كاميرا بسقف المكتب وصورت لمسات أصابعه على لوحة التحكم.. ماذا تريدين أن تعرفي بعد؟
بلعت ريقها بقلق: ما الذي ستفعله الآن؟
رفع حواجبه بيأس: مضت سنتان منذ أن عرفت بما يقوم به. لكنني لم أجد حلا شافيا بعد..
استغربت الأمر: لديك كل تلك الأدلة التي قدمتها لي ولم تفكر في التبليغ عنه!
رسم نصف ابتسامة ساخرة: هذا ما فكرت فيه حتى عرفت أنه يدفع لكبار رجال البلد ما لا يُستهان به وتربطه بهم علاقة وثيقة. لا بارك الله فيهم إنهم لصوص مثله ورؤوس للفساد... مؤكد لن يلقى الجزاء الذي يستحقه... أسوأ ما قد يحصل معه، أن ينقل أمواله لحساب بنكي خارج البلد. ثم يسهلون عليه الهرب. وتكتب الصحف أنه لص فار من العدالة... سيطالبون بتسليمه... أو هذا هو اللغط الذي ستكسب به الجرائد مزيدا من القراء السذج، لكن في الحقيقة لن يحصل شيء من هذا لأنه اشترى حريته مسبقا من هؤلاء...
قالت بحيرة: ما الذي ستفعله إذن؟
أجابها: لا تريدين أن تعرفي...
جحظت عيونها وخارت قواها: ستقتله!
لم يجبها وحدق بالمكان من حوله ثم غاص ببصره بعيدا: فكرت طوال هذه المدة ولم أجد أي طريقة لردعه عن جرائمه... إنه يقتل كل مرة العديد من البشر... فقط ليبيع أعضاءهم في السوق السوداء لمن يدفع أكثر... من أين له الحق في أن يأخذ الحياة من هذا ويهبها لذاك فقط لأن الأول لا يملك قوت يومه والثاني يستطيع أن يفديها بالمال!...
رفضت أن تسمع المزيد لأن ما يقوله سيعذبها: دعني أحاول معه...
نهرها بشدة: إياك...
بقيت تحدق فيه بصدمة فَلان صوته ليكمل: سيؤذيك حتما... هو رجل مختل صدقيني...
كشرت باستنكار: ما الذي تقوله؟
تابع بجد: لا تنخدعي بمنظره المتكامل وكلامه المتناسق ولا بتصرفاته المحسوبة... إنه يخفي وجها آخر أكثر بشاعة... إنه يستلذ بتعذيب الآخرين... هل قرأت عن مرض متلازمة الساديزم... أو ما يعرف بالسادية؟
بدت تائهة وهي تنقب عن معلوماتها الضئيلة حول الموضوع ثم قالت بارتباك: السادي هو من يؤذي شريكه في العلاقة...
ابتسم لخجلها واحمرار وجنتيها بسبب ما لمحت له، وهز رأسه نفيا: تلك معلومة ضيقة المفهوم حول حقيقة هذا الاضطراب النفسي... فالسادي يمارس اضطهاده على كل من حوله ولا يشعر بالذنب تجاه المتضررين بسببه. إنه لا يسامح أحدا أخطأ بحقه، ويمتلك حب السيطرة والهيمنة والمجازفة على حساب الآخرين... كما أنه يتعامل معهم بعنف في محاولة إخضاعهم ويوقع أشد العقاب بمن يخالف رأيه أو يعارضه... ولا يتوانى عن إهانتهم وإذلالهم... وكل هذا لأجل إرضاء نفسه وإمتاعها... ولا تتوقعي شفقته أو ندمه.. لأن السادي لا يهتم لمشاعر أحد...
شعرت بالخدر في أطرافها وهي تستمع لما يقوله، ثم قالت بفتور: كيف عرفت كل هذا؟
أجابها باختصار: اليوم هنالك شيء اسمه الانترنت...
لم تقل أي كلمة فأردف: عندما أرادني أن أعمل لديه متغاضيا عن بعض التفاصيل في ملفي عرفت أنه يبحث عن شخص فاسد ليوكل إليه بعض الأعمال الغير مشروعة..
عرفت أنه يقصد بالتفاصيل تهمة المتاجرة بالمخدرات.
في ما تابع هو: أعترف أنني لم أكن لأمانع التعامل في المخدرات أو تهريب الأموال... لكن أن أتاجر بأعضاء البشر فهذا أمر غير وارد! عندما بدأت العمل معه شككت باضطرابه النفسي فقد كنت شديد الملاحظة وسريع التحليل... وقد اهتممت بمعرفة كل تصرفاته وطبيعة تعامله مع الغير. ومع قليل من البحث خلصت للجزم بأنه سادي بلغ درجة الإجرام...
صمت للحظة يغوص في أفكاره وعيونه تحدق بعيدا ثم تابع على نفس هيئته: أنت لم تشاهدي تلك النظرة بعيونه وهو يحدق بالأسرى لديه... إنها مزيج من الكبر والتسلط... شيء من القوة والجبروت... ربما كان يرى في بريق عيونهم الخائفة سطوته وهيمنته...
عاد من تيهانه على صوتها: وماذا كنت ترى أنت؟
أحس بشعور مرير وهو يقول: وساختي... كنت أرى وساختي...

♡♡♡♡
وصلا معا إلى البلدة المغطاة بالثلوج. ولولا عمال البلدية الذين يسارعون بجرافاتهم في إزالتها من الطرقات دوريا لما تمكنا من الوصول. أوقف السيارة قرب باب حديدي مصبوغ بالأزرق وقد تقشرت طبقة طلائه ليظهر من تحتها لون آخر أكثر غمقا وبعض الصديد على أطرافه.
بقيت نسرين تحدق فيه بتيه حتى أجفلها صوت محمود: هذا هو البيت؟
هزت رأسها بنعم دون كلام وهي تحاول مجاراة دقات قلبها بتنفسها السريع. ثم بلعت ريقها حتى لا يرتجف صوتها وقالت له: سأنزل وحدي... انتظرني هنا.
زجرها باستياء: أجننت!!! هذا مستحيل... لن أتركك تخطين خطوة واحدة من دوني...
بدت مصرة: سأدخل لوحدي... وإن تأزمت الأمور سوف أخرج في الحال...
منعها بصرامة، لكنها كانت أعند منه... وبعد أخذ ورد رضخ لأمرها وقرر انتظارها مكانه حتى تعود.
ترجلت من السيارة فهبت عليها رياح باردة جمدت أطرافها وأشعرتها بالغربة... لا يحمل المكان لقلبها أي دفء...
طرقت على الباب بقوة ولكن الباب المبللة لم تكن تصدر صوتا قويا ليسمعه من في المنزل. وتفاجأت بأن شاهدت زر الجرس فلم يكن موجودا قبل الآن...
رنت عليه بضع مرات لتسمع صوت فتاة ما وهي تقول: قادمة...
اقتربت خطواتها لتقف خلف الباب مباشرة، ثم سمعتها تقول: من؟
لم تدر كيف تجيبها!... هل ستعطيها اسمها؟ ثم من هذه الفتاة؟ ربما هي ابنة أحد إخوتها وليس من المرجح أن تعرفها... قالت بعد تفكير: هل السيدة كريمة هنا؟
وكانت تقصد بهذا الاسم أمها، فأطلت الفتاة بفضول بعد أن عرفت أن الطارق امرأة وبدت عليها الدهشة والاستغراب وهي تعاينها: من تريدها؟
كل شيء فيها يشبه منال... تماما مثلما تركتها. في الخامسة عشرة من عمرها نفس الأنف والعيون حتى تلك التفاصيل الدقيقة حول رسمة الخدود!.. كادت تثب عليها معانقة وهي تناديها بمنال... تمالكت نفسها وقالت مع ابتسامة تخفي الشجن: أنت ابنة منال؟
تفاجأت الأخرى أكثر وهي تجيبها: أجل... من أنت؟
ترددت طويلا قبل أن تقول: أنا خالتك... اسمي نسرين.
جحظت عيون الفتاة فجأة وسكتت لبرهة ثم غمغمت ببعض الكلمات لتقول بعدها بطلاقة: أنت هي نسرين؟... قالت أمي أنك ميتة.
تجرعتها على مضض وحاولت أن تخفي انكسارها: لا أنا حية وقد جئت لزيارتكم... هل يمكنني الدخول؟
تنحت بصمت من أمام الباب وأفسحت لها المجال للدخول فالتفتت إلى محمود مرسلة له بنظرة مطمئنة وولجت إلى الفناء الشاسع الذي ينتهي بعدة مداخل لمساكن مختلفة بعضها لم يكن موجودا من قبل، وخمنت أنها مساكن إخوتها بعد أن تزوجوا.
حدقت بالفتاة التي كانت تسبقها وقالت: ما سمك؟
أجابتها: اسمي بشرى...
تابعت تسير معها وهي تحدق بالمكان الذي بدى لها غريبا مريبا وكأنه يخفي لها الأسوأ خلف كل تلك الجدران، سألتها مرة أخرى: أمك هنا؟
أجابتها وهي تسبقها لتفتح لها الباب: لا... ستعود بعد قليل.
ولجت للداخل وخلعت حذاءها عند الباب ففعلت نسرين المثل. أحست بدفء المكان لكنها لم تشعر بالراحة مطلقا... لقد باتت آلام بطنها أكثر حدة وقلبها ينبض بقوة في جوف صدرها. جاءها صوت أمها من إحدى الغرف وهي تقول: من يا بشرى؟ هل عادت منال؟
أجابتها بضحكة بريئة: لا إنها أختها نسرين.
قالت الأخرى من نفس الغرفة تزجرها بوعيد ظانّةً منها أنها تمزح: لا سمع الله منك يا طويلة اللسان. تعالي أسكتي هذا الولد سيجلطني من كثرة بكائه... أما آن لأمه أن تعود هي الأخرى وتريحني منه!
أشارت بشرى لنسرين بأن تلحق بها وسبقتها بالدخول إلى الغرفة المعدة للضيوف والتي كانت جدتها جالسة فيها على الكنبة تتابع التلفاز وبالقرب منها طفل صغير في كرسيه الهزاز وهي تهزه بقدمها.
قالت بشرى بما يشبه الانبهار: ألم تخبروني أن خالتي نسرين ميتة!
أجابتها باستياء: ما الذي يدعوك لتذكرها الآن!...
وقفت نسرين عند الباب تناظر أمها التي أضحت عجوزا متقدمة بالسن تجلس في غرفة محترمة أكثر بهاءً من تلك التي كانوا يملكونها قبل ثمانية عشر سنة وألقت التحية بشجن: صباح الخير أمي.
حملقت الأم فيها للحظات بذهول تام وقربت نظاراتها منها أكثر من مرة والشك يساورها، لا يعقل أنها هي وقد رجعت!.. كيف لها أن تتجرأ وتطأ هذا البيت من جديد!
اقتربت نسرين بضع خطوات حتى تمكنت أمها من تأملها وتذكر تفاصيل وجهها التي مازالت تحتفظ بها في مخيلتها... تفاصيلٌ لمراهقة في السابعة عشرة من عمرها فرت ليلة زفافها وتركت شرفهم مدنسا تلوكه الألسن، وتتفنن في نصب الأكاذيب حوله. حتى بلغ بهم القول أنها كانت حاملا وفرت لألا يكتشف زوجها ليلة دخلتها العار الذي ألحقته بنفسها وبأهلها... وهروبها مع ياقوتة صب الزيت على النار، فهناك من قال أنها كانت تعرضها على زبائنها مقابل المال وهكذا فقدت شرفها... آخرون ذهبوا إلى أنها ربما كانت بريئة من كل هذا وهربت لأنها تحب رجلا آخر... لكنهم جزموا جميعا أنها ستتحول لفتاة ليل بائسة بسبب ياقوتة... حتى وإن اختلفت التأويلات والتكهنات فإنهم كلهم قد اتفقوا على أنها أصبحت بلا شرف... وها هي الآن تعود بعد أن نسى الناس قصتها لتجدد العار لأسرتها مرة أخرى.
أشارت أمها للباب مباشرة: أخرجي.... ارحلي... ليس لي أي بنت بهذا الاسم...
وكأنها بهذا ستبترها عن هذه الأسرة... وكأنها بتجاهلها لها ستعود بها السنون إلى الوراء لتصحح خطأ ولادتها لها!
شعرت بالاختناق ورغبة بالبكاء لكنها قوّت نفسها لتقول بحشرجة: ولكن... أمي... لا يمكنك أن تتنصلي مني بهذه الطريقة، أنا ابنتك!.. أنت وأبي و إخوتي... يجب أن تسمعوني حتى النهاية وتفهموا مني ما حصل... أنا لست كما تفكرون...
نهرتها بغضب: ليتني لم ألدك يا وجه البؤس... أنت من وضعت وجه والدك وكل إخوتك في الوحل!.. بلى... سنتنصل منك... تريدين دليلا؟... سآتيك بدليل...
وقامت بعجز تغالب آلام ظهرها ومفاصلها واتجهت صوب الخزانة القريبة تفتش فيها عن دفتر صغير ما إن شاهدته نسرين حتى عرفت أنه الدفتر العائلي وألقت به في وجهها فالتقطته وفتحته لتشاهد صفحتها المدون فيها تاريخ ميلادها وبعض معلوماتها ممزقة تماما ولا أثر لها. ثم قالت والدتها بنقمة: أنت لست فردا من هذه العائلة... غادري حالا قبل أن يرجع والدك أو أحد إخوتك.
شعرت بسخونة تتصاعد مع جسدها وتحفز الغضب بداخلها، وعادت ذكرياتها المريرة في هذه الأسرة تغزوها وتقتل قلبها الدامي مرة بعد أخرى دون أن تفلح في محاربتها... صاحت بقهر: والدك وإخوتك!... منذ وعيت على هذه الحياة وأنا أسمع هذه الكلمة... والدك وإخوتك! وكأنهم آلهة ستنصبين لها أوثانا وتقدمي لها القرابين....
صمتت بقهر وقالت بيأس هامس: ما بك أمي!... انتهى زمن العبودية... كيف تسمحين لأولاد دفعتهم إلى الحياة من جوف بطنك أن يرهبوك ويتعنتوا عليك!
في هذه اللحظة بالذات دخل أصغر إخوتها. دفع الباب بالقوة بعد أن سمع شجارهما وأخبرته بشرى بالرواق أنها نسرين... كان يتنفس بغضب شديد وقد احمرت عيونه كثور أهوج يوشك أن يفتك بمصارعه. قال بصوت حاد: ما الذي تفعلينه هنا؟
كان يحدق فيها بغل لم تره بعيون بشر، حتى أنها لم تعرفه من أخيه إذ أنهما كانا متقاربين في السن. ولولا آثار ندبة يسار جبينه لما أدركت أنه وليد... لقد حدث ذلك قبل زمن عندما كانت تضعه فوق ظهرها وتجول به المنزل ليسكت وهو لم يتم العامين من عمره بعد... في إحدى المرات أوقعته عن غير قصد وتأذى. خافت عليه من تلك الدماء التي غطت وجهه وراحت في البكاء معه وصار صوتهما نحيبين متناغمين. ولم تتمكن من إسكاته إلا بعد أن جاءت أمها وحملته وهدهدته... شعرت بالذنب تجاهه خصوصا بعد أن أسمعتها أمها ما تستحقه من لوم وعتاب... بعدها باعت سلسلتها الفضية لابنة الجيران من أجل أن تشتري له بعضا من الحلوى وتدللة تكفيرا لذنبها تجاهه. ولم تسلم هذه المرة من ضربات أمها بعد أن عرفت بما قامت به، فأخذتها من شعرها إلى بنت الجيران لتسترد ما باعتها إياه بثمن بخس من أجل شراء بعض الحلوى التي لا تسمن ولا تغني من جوع...
عادت لرشدها على صوته الغاضب المتفجر من قلب حاقد: كيف تجرئين!... كيف تجرئين على دخول هذا المنزل أيتها الساقطة!
صرخت به زاجرة: إياك!.. إياك وأن تنعتني بالساقطة أنا أشرف منكم جميعا... أتسمعني يا وليد. وأنت بالذات لا يحق لك أن تنتقدني لأنك أبدا لم تشهد معاناتي في هذا البيت وبين هذه الجدران.
حاول تجاوز مفاجأته لمعرفتها باسمه ورد عليها بنفس الغل لم تُنقصه كلماتها قطرة واحدة: ليتك مِتِّي ذلك المساء... على الأقل ما كنت تجرأت على المجيء إلى هنا بهذا الوجه الوقح يا عديمة الحياء.
كانت شرسة في الدفاع عن كرامتها وقوية لتذود عنها حتى آخر نفس. عصف بها الغضب وجعل الأدرينالين تتدفق في عروقها خصوصا بعد أن عرفت أنه من أطلق النار عليها، فلم تشعر إلا وهي تهوي على وجهه بصفعة قوية أخرسته. في ما شهقت أمها وبشرى برهبة وخوف.
رفعت سبابتها في وجهه متحدية: إياك والانتقاص من كرامتي... شرفي ليس عرضة للمهانة أبدا فلا تسول لك نفسك في التطاول عليه...
بنظرة صارمة وعيون تتقد قهرا وغضبا كانت تتوعده الموت إن هو أهانها من جديد. لقد حرمتها الحياة كل شيء ولم يبق لها سوى شرفها لتذود عنه ولن تسمح لأي كان بأن ينتقص من قيمتها... ليس بعد أن عانت كل ما عانته...
خرجت بشرى بسرعة بعد أن سمعت طرقا على الباب. ووهنت ركب أمها فخرت على الأريكة تضرب فخذيها بجزع: فضحتنا يا ابنتي وستفضحيننا من جديد... اذهبي لا سترك الله يوما... اذهبي يا قليلة التهذيب... تضربين أخوك يا شوكة بحلقي.. يا أم المصائب... تضربين الرجال يا نكرة...
شتائمها كانت تزيد وقودها حطبا... كانت تدفع بها للجنون وإعلان مزيد من العصيان... وعبثا حاولت استرجاع هدوئها فصاحت بحنق: أجل أضربه وأدوس عليه بقدماي... أنا من ربيته بيداي وكان الأجدر به احترامي ووضعي في مقام أمه... إنها تربيتك الجائرة يا أمي أنت من وضعت برأسه أنه رجل لا يخضع لأي سلطة فشب لا يحترمك... مثله مثل كل إخوتي... أنت لا تملكين سلطة على أي منهم... كل همك دفني وأختي أحياءً في هذه الحياة... تماما مثل الجاهلية..
أشارت إلى الباب وهي تقول: أخرجي... أخرجي يا نحسي في هذه الحياة... لو كنت أدرك أن كل هذا سيأتيني منك كنت خنقتك يوم ولدت... اذهبي سود الله حياتك يا وجه الشؤم...
شعرت بكلماتها خناجر تصيبها ولا تخطئ... ولم تعد تقوى على احتمال المزيد.. وأرادت أن تفر من هناك ولا تعود... لا مكان لها هنا وهذه هي الحقيقة.
همت بالمغادرة وحاولت الوصول للباب لكن وليد لم يقل كلمته الأخيرة بعد، جاء بسكين من المطبخ ورفعه ليضربها به فصرخت أمه بعويل وتمكنت نسرين من الابتعاد وتجنب الضربة. لكنه كان مصرا على قتلها والتخلص منها إلى الأبد ولم تشفع لديه توسلات أمه ولا صراخ أخته التي كانت تحاول الهرب من النافذة والنجاة بنفسها وهو يقترب منها أكثر فأكثرا متوعدا إياها بالموت المحتم.
وصلا ركضا واقتحما الغرفة، صرخت بشرى بجزع بينما وثب عليه محمود وأوقعه أرضا وأسقط السكين من يده ثم طلب من بشرى أخذه وفعلت ذلك فورا. انهال عليه ضربا بعدها وتمكن منه إذ كان يثبته أرضا شالا لحركته، قال له بحنق وهو يشد شعره متأملا لوجهه: أعرف أننا التقينا من قبل... إنه أنت من أطلق النار عليها. ونجحت في الفرار مني يومها، لكنني أعدك سأجعلك تتعفن في السجن يا هذا...
ولم يتركه إلا عندما تأكد من أنه لن يقوم من مكانه عاجلا. أسرع بعدها إلى نسرين وسحبها من كفها بقوة يجرها خلفه، ثم توقف قرب العجوز التي خمن أنها أمها: هذه زوجتي وهي أشرف مما تخمنه عقولكم... تزوجتها عذراءً لم يلمسها أحد. ومن يتجرأ منكم على أذيتها سيلقى جزاءه على يدي... أبلغيهم جميعا بهذا...
صفق باب المنزل خلفه واستمر يسحب زوجته خلفه حافية والغضب يهز جسده هزا... ورغم صعوبة أن تسير فوق الثلج البارد إلا أنها لم تطلب منه التوقف لعلمها أنه بلغ أقصى درجات حنقه بسبب إصرارها لرؤية أولئك القوم رغم رفضه للفكرة من أساسها.
شرعت أمها الباب وهي تحمل حذاء نسرين ورمت بالفردة الأولى فأصابت بها ظهرها ثم الفردة الثانية فأصابت بها رأس محمود وهي تقول: خذي قذارتك... لا أريد شيئا يخصك في بيتي... اذهبي ولا تفكري بالعودة إلى هنا من جديد...
حملت حذاءها بيديها وقد تجمعت الدموع بعينيها وتحاملت على آلام ظهرها لتعجل في ترك المكان برمته... لقد باتت تعرف الآن أنها بنظرهم ميتة والأموات لا يغادرون القبور...


noor elhuda likes this.

بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 30-08-21, 12:59 AM   #53

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الرابع والعشرون

تغديا معا بمطعم قريب وخرجا إلى الشارع يسيران بين أزقة المكان المليء بالمارة. أغلبهم قدموا لمشاهدة المدينة الأثرية التي خلّفاها وراءهما.
كانت مروى مرتبكة، لا تدري ماذا تفعل أو تقول. وماذا عساها تقول بعد كل ما سمعته منه!
أشار إلى الغيوم السوداء: يبدو أنها ستمطر قريبا.
نظرت إلى حيث أشار ثم توقفت عن المسير: أظن أنه علينا العودة...
قفلا عائدين إلى الموقف الذي تركا به سيارتيهما وهبوب الرياح يزداد شدة. فتمسكت بمعطفها أكثر: أعتقد أننا سنتبلل اليوم.
أجابها بالابتسام وأردف: لقد خُدعنا بشمس الصباح.
هزت كتفيها: هذا هو فصل الشتاء...
أظلم الجو فجأة والطريق أمامهما طويلة فرفعت رأسها إلى السماء ترقب الغيوم القاتمة: ستمطر الآن... لنسرع...
قال وهو يزيد من سرعة خطواته: كنت أجاريك ليس إلا. لو أسرعت لخلفتك ورائي.
قبل أن تنتبه للطريق أمامها ارتطمت بصدر شاب كان في طريقها فانتفضت بفزع وتراجعت معتذرة: آسفة.
بدى الشاب مرتاحا لما حصل ورمقها بنظرة متفحصة تخفي خبثه، قبل أن يجيبها: لا بأس أن ترتطمي مرة أخرى...
هوت عليه ضربة لؤي وهو يهدر فيه: اسمح لي أن أرتطم بك أنا أم أنك تمانع!
تماسك الشاب قبل أن يقع وقد توجهت إليهما عيون المارة بترقب. فأسرعت مروى بدفع لؤي لتبعده عن غريمه وهي تقول: ما الذي دهاك!... لماذا تضربه؟ ما الذي فعله لتتصرف معه بهمجية؟
حملق فيها بحنق قبل أن يتجاوز الوقوف من المارة ويتركها هناك. ووصله صوتها وهي تعتذر من الشاب، ثم لحقت به مهرولة حتى كادت أنفاسها تنقطع: ما بك! لم أعد أقوى على مجاراة خطاك توقف لو سمحت!
لم يجبها بل استمر على نفس سرعته والغضب يرسم شراراته ما بين عينيه دون أن تستطيع فهم السبب، فحتى وإن كان يغار عليها فهي لم تفعل ذلك عن قصد! ربما ما قاله الشاب هو ما يعصبه!
صاحت به: توقف...
لكنه مشى وكأنه لم يسمعها. واستشاطت هي غيظا من فعلته ولم يكن بوسعها سوى محاولة اللحاق به حتى لا يضيع منها وتضل طريق العودة ثم تضطر من بعدها لسؤال المارة.
لم تنتبه لضوء إشارة المرور وعبرت الطريق بسرعة خلفه.
كانت صرخة واحدة مع صوت بوق السيارة واحتكاك عجلاتها بالأرض التفت على إثرها بوجل ليجدها ملقاة على الأرض وسائق السيارة يشد رأسه بفزع وهو يترجل منها على عجل.
ركض باتجاهها بهلع وجلس القرفصاء بقربها يحاول رفع رأسها وعيونه تفتش عن آثار للدماء: مروى... مروى... أفيقي...
أنّت بصوت متعب وفتحت عيونها مقطبة بوجع. فحمد الله في سره وسألها بلهفة: أنت بخير...
أجابته وهي على وشك البكاء: مؤلم...
اقترب السائق منها يسألها بوجل: أنت بخير يا بنتي؟
هزت رأسها بنعم وقد تجمعت الدموع في عيونها أكثر فضم لؤي رأسها إلى صدره الذي كان يعلو ويهبط بفزع وأخرج بيده الأخرى هاتفه ليتصل بالإسعاف. فمنعته: لا داعي... أنا بخير..
أكد له السائق: الحمد لله أنني لم أصدمها بقوة... لقد توقفت السيارة عند أقدامها تماما... ولا أعتقد أنها تأذت.
رفعت يديها تنظر إليهما وكانتا تحملان بعض الخدوش، ثم حاولت الوقوف فساعدها لؤي، بينما قال السائق بعتاب: ألم تنظري إلى الإشارة يا ابنتي؟ كيف تعبرين الطريق دون انتباه!
أحس لؤي بالذنب في قرارته وسار بها تحت ذراعه معتذرا من السائق حتى عبرا الطريق فأجلسها على أحد الكراسي بالرصيف وانحنى بجذعه يسألها: أنت بخير؟... يجب أن نذهب إلى المستشفى...
شهقت مرة واثنتان لتنفجر بعدها دموعها في صمت، بالكاد استطاع منع نفسه من ضمها إلى صدره مرة أخرى وحاول جاهدا أن يتمالك نفسه فاستقام بجذعه وهو يخلل أصابعه في شعره بتعب. لماذا الأمور بينهما بهذا التعقيد؟ هل كان عليه أن يغار عليها ويغضب من تصرفها!... لماذا ينسى دائما بأنه لا شيء قد يربط بينهما ولا يمكن أن يحدث ما يجمعهما إلا في أجمل أحلامه!
دوى الرعد بقوة فنظر إلى السماء، ثم عاد ليميل إليها هامسا ببؤس: آسف... أنا آسف...
مسحت دموعها بأكمام كنزتها وحاولت تجاهل نظراته ثم وقفت بتأنٍ وسارت على مهل تتابع طريقها مخلفة إياه وراءها.
وقف مكانه بضع لحظات يتأمل عنفوانها وكبرياءها يقودانها بلا وجهة ثم قال بصوت مرتفع حتى تسمعه: من هنا...
وأشار إلى الطريق المعاكس، فسارت بذلك الاتجاه. ثم لحق بها ومشى بجانبها: لا تكابري... هل حقا تستطيعين السير؟
أجابته بحنق: وإن لم أقدر هل ستحملني!
لم تكن إلا لحظة واحدة وأصبح قدماها يتدليان في الهواء وهو يرفعها بين ذراعيه فشهقت ذعرا.
قال مؤكدا: لديك شك؟
تأملت المارة حولها وشعرت بالحرج مما يفعله فنهرته بحدة: ما الذي تفعله!... أنزلني!...
أجابها بثقة: خبئي وجهك وسيعتقدون أنك طفلتي...
مزاحه زاد من توترها وضاعف من خجلها، لكنها لم تكن قادرة على الافتكاك منه. وماهي إلا بضع دقائق حتى كانا بالموقف فأنزلها عند باب سيارته وفتحه ثم ساعدها على الجلوس بالمقعد الأمامي: سنذهب إلى المشفى.
جلس بمقعده وأقفل الباب فقالت قبل أن يشغل المحرك: وسيارتي؟
أجابها بعد أن شغله: لا تقلقي سأتدبر الأمر.
تابعت بوجل: سيعرف أبي أننا التقينا...
هز رأسه نفيا والتفت إليها مطمئنا لتلتقي عيونهما في لحظة مشحونة بالارتباك والتوتر: لا تقلقي... لن يعرف.
تأملها لوهلة ثم تابع: اتصلي بالمنزل وأخبريه أنك تعرضت لحادث بسيط... ثم اطلبي إليه أن يرسل من يقلك...
تمتمت ببضع كلمات ثم قالت: سيروننا معا ويخبرونه.
هز رأسه مؤكدا: افعلي ما قلته.
اتصلت بوالدها وحدثته لثواني ثم أخبرته أنها خرجت إلى المدينة الأثرية وتعرضت لحادث بسيط وهي بحاجة لمن يقلها إلى المنزل. بدى عليه الخوف والاضطراب لكنها طمأنته وهدأته قدر الامكان قبل أن تقفل الخط.
تنهدت بأسى وساد الصمت للحظات ثم قالت له: ماذا سنفعل الآن؟
أجابها باقتضاب: لا شيء
وضعت كفها على جبينها بأسى وأرخت رأسها على الزجاج وهو يتأملها بعيون قتل الحزن فيها ما قتل... أليس له غير أن يجلس بجوارها ويتأمل تقاسيم وجهها البائسة!.. ألا يمكنه أن يبوح لها ببعض مما يختلج في نفسه وأن يحكي لها عن تلك الليالي التي حمله فيها الشوق ورقة تتقاذفها رياح الذكريات وغبار الأمنيات!
رن هاتفه فأجاب على الفور: نعم سيدي..
عرفت أنه والدها فبقيت ترهف السمع. فيما تابع هو: حاضر سيدي... أنا قريب من المكان...
صمت يستمع لتوصيات محدثه ثم ختم كلامه: سأتصل بك...
وأقفل الخط: حُلّت المشكلة.
بدت مستغربة: أليس من المفروض أنك أخذت إجازة! لماذا يتصل بك؟
رسم نصف ابتسامة وهو منشغل بالإقلاع بالسيارة: عندما يتعلق الأمر بشخص مهم فإنه يطلبني ولو كنت في بطن الحوت...
شهقت بأسى فلا أصعب من أن يخدعك من توكل إليه زمام أمورك وتجعله محل ثقتك!.. لكنها تعرف جيدا أن لؤي ما كان ليخون سيده لولا فظاعة ما يقوم به.
مازال عقلها يجد صعوبة في تقبل كل الإجرام الذي يغرق فيه والدها ذي الملامح الهادئة والمسالمة...
♡♡♡♡♡

كانت جالسة على سريرها بالغرفة منكمشة في مكانها تحتضن ساقيها إلى صدرها بكلتا يديها وترخي رأسها فوق ركبتيها دون أن تذرف دمعة واحدة.
عيونها الشاخصة في الفراغ أمامها تؤكد له ارتحالها وتجوالها في عالم الذكريات. لقد كاد يجن مما حصل! كيف يتجرأ الوغد على محاولة نحرها وإنهاء حياتها للمرة الثانية!.. لقد لعن غباءه آلاف المرات.. كيف سمح لها بالدخول وحدها إلى وكر الذئاب!..
اعتقد أنهم سيحلون مشاكلهم كعائلة... يبدو أنه استهان بكلام ياقوتة عن أسرتها واعتقد أنها تبالغ في الأمر، ولم يخطر بباله أبدا أن هناك من قد يصل به الغل حد القتل من أجل الشرف...
هناك حيث كان يعيش يعرف صديقات حملن وأنجبن وربين أولادهن كأمهات عازبات دون أن يقول لهن أهلهن أنهن مذنبات... بل يعتبرون الفتاة التي تصل سن الرشد ناضجة بما يكفي لتختار حياتها... وكل ما يفعلنه هو الهرب من عيون المجتمع الذي يعيب هذا الفعل ويرتمين في أحضان آخر يبيح كل الرذائل بالجملة...
أنسي هؤلاء أن عين الله لا يخفى عليها شيء لا هنا ولا هناك!... عيبنا أننا نختبئ من الناس ونقيم اعتبارا لكل ما يقولون ويفعلون، في حين أننا نجعل الله أهون الناظرين إلينا.
الزنى محرم في كل الأديان السماوية وقد وضع الله له حدا في الإسلام واشترط في تنفيذها شهودا بمواصفات معينة لإقامة الحجة الدامغة على مرتكب هذه المعصية... ويسقط الحد إن لم يستوفى شرط واحد فقط من تلك الشروط...
كما أن الله بين أيضا أنه يقبل التوبة من عباده، وأنه تعالى يغفر الذنب، ويفرح بإياب عبده و هو في غنى عنه وعن عبادته...
لماذا إذن نصنع قوانيننا حسب رغبتنا، ونعاقب الجانح على هوانا! بل ونقتله إن شئنا!
ألأننا نشك في عدل الرحمان! - حاشى لله أن يخطئ- أغلب من يفعل ذلك لا يكون همه نصرة دين الله وإقامة حدوده... إنما يفعل ذلك لغسل عاره وتنظيف ثوب الشرف الذي يختال فيه ببتر أطرافه المدنسة... هذه هي الحقيقة.
كانت تغرق في بحار تتلاطم فيها أمواج الذكريات... لو أنها حقا مثلما يعتقدون لهان الأمر عليها!... الأكثر وجعا أن تكون بريئا في ذاتك، متهما في عيون الآخرين... طاهرا في داخلك، مدنسا في دواخلهم... أن تريد الكلام لتبرئ نفسك فلا يستمعون إليك حتى الاستماع...
جاءها صوته الذي أحسته بعيدا رغم أنه قريب منها... تأملته بوجوم لتلمح حركة شفتيه وتسمع صوته دون أن تعي ما يقول. حملقت فيه بعتاهية ودققت النظر فرابه منظرها وأحست بيده التي كانت على كتفها ترجها برقة. ثم استطاعت أن تفهم منه: نسرين، أنت بخير!
قالها بوجل وعيونه تناظرها بترقب... بدى لها خائفا عليها بسبب تبلد مشاعرها فلا هي بكت ولا هي صرخت ولا حتى علقت على ما حصل بكلمة...
أحست بيده الدافئة على خدها البارد تتحسسه ثم انتقلت إلى جبينها دون أن تجيبه بكلمة. لم تكن قادرة على الكلام... علقت الكلمات هناك في ذلك البيت وبين تلك الجدران... لقد قالت ما يجب قوله وانتهى...
ساعدها على الاسترخاء وغطاها بلحافها ثم جلس بقربها: سوف أطلب لك طبيبا...
هزت رأسها نفيا وهمست بصوت مبحوح: أنا بخير... أريد أن أنام.
قبل جبينها برقة وأطفأ النور حتى تستطيع أن تغفو ثم جلس بقربها يتأمل الغرفة على ضوء المصباح الخافت وهو يفكر في ما سيفعله. رن هاتفه النقال فحمله بيده وخرج إلى الشرفة موصدا الباب خلفه وتحدث إلى الضابط وائل فأكد له أنه قد تم القبض على المدعو وليد سعيد وأنه سيُنقل إلى العاصمة للاستكمال التحقيق وسيكونون بحاجة إليه للتعرف عليه...
أقفل الخط بعد أن أكد له عودته القريبة. وعاد إلى الغرفة ليطمئن على نسرين فوجدها نائمة كطفلة صغيرة أنهكها التعب.
التقط معطفه ومفاتيح سيارته وترك الغرفة موصدا الباب على مهل. وفي رواق الفندق التقى بياقوتة تسرع اخطى وعلى وجهها أمارات الفزع: ما بها؟ ما الذي فعلوه بها!
أجابها رافعا كفيه مطمئنا: إنها بخير الآن.... تركتها نائمة. اتصلت بك لأنني لا أريدها أن تبقى وحدها.
استغربت خروجه: إلى أين ستذهب؟
قطب بعبوس وقال باقتضاب: لإقفال الموضوع برمته...
أشارت له بعدم اقتناع: لا.. لا... هم لن يستمعوا إليك...
وسكتت لبرهة ثم عادت لتقول: افعل ما تراه صائبا.
هز رأسه مومئا وهم بتجاوزها فاستوقفته: لقد اشتريت هاتفا وشريحة جديدة... لأنني تركت هاتفي الآخر بالمنزل فنسرين نبهت علي ألا أحضره.
لم يجد ما يقوله لها فظل على صمته في حين تابعت بهمس: أعلم أنكما تهربان من شخص ما... أهو بشير؟
حدق بالمكان حوله ثم بها: لماذا تعتقدين أنه هو...
فكرت قليلا قبل أن تقول: لأنني أعلم أنه مجرم...
لكلمة مجرم مفهوم واسع لن يتعمق فيه الآن. من المؤكد أنها تعرف شيئا وهذا يثير فضوله: ما رأيك أن نتحدث هذا المساء فور عودتي.
ردت عليه: كما تشاء. سأبقى مع نسرين...
هز رأسه مومئا وتابع طريقه، لن يرتاح حتى يضع لمدعي الشرف هؤلاء حدا، وينهي قصة نسرين وهروبها ثم يختم عليها بطابعه نهائيا.
♡♡♡♡
خرجا من المستشفى معا. كانت تسبقه ببضع خطوات واضعة يديها بجيوبها، أما هو فلم يكف عن تأملها طوال الوقت وهو يسير من خلفها وبيده مغلف كبير لصور الأشعة.
توقفا عند المدخل يتأملان هطول المطر فقدم لها الظرف: انتظريني هنا سأحضر السيارة.
أجابته بهمس وهي تلتقط منه الظرف: ستبتل.
ابتسم لاهتمامها وهم بالمغادرة فسمعها تستوقفه: انتظر.
التفت إليها فاقتربت منه حتى يسمعها ولا يغطي صوت تساقط المطر على صوتها: انتظر حتى يتوقف المطر.
حدق فيها للحظات يحاول فهم ما يدور في عقلها، هل سامحته أم أنها مازالت حانقة عليه؟.. لقد أثبتت الفحوص الطبية أنها بخير ولا تعاني من أي كسر، لكن قلبه يلومه ويلومه... ما كان عليه أن يتصرف بهذا الجفاء فقط لأنها لم تشعر بتحرش الرجل بها..
أشار لها إلى الكرسي القريب . فتوجهت إلى هناك وسبقته في الجلوس بينما بقي هو واقفا يتأمل ساحة المستشفى وبينهما مسافة فاصلة. حملقت فيه للحظات وهو على شروده، لم ينتبه لتدقيقاتها في تفاصيله. ما الذي يشدها إليه يا ترى؟ مؤكد أنها تعرفه منذ زمن.. لماذا تشعر وكأنها تتعرف إليه الآن!
لمحت الخاتم الفضي في إصبعه من خلال قبضته التي كان يشد بها على عمود من الحديد يرفع المظللة التي يجلسون تحتها عند مدخل المستشفى. ليست تعرف لمَ تمنت في تلك اللحظة بالذات أن تكون هي تلك المرأة التي لم يمحها الزمن من سجل ذكرياته....

♡♡♡♡

ارتدت سهام ملابسها للخروج وتوجهت لمكتب السيد محسن فطرقت على الباب ودخلت بعد أن سمح لها بالدخول.
وقفت قرب المكتب بصمت تنتظر أن يوليها اهتمامه، ولم يلبث أن أبعد عيونه عن شاشة الكمبيوتر وحدق فيها بإعجاب واضح. تعجبه خصلات شعرها الأحمر عندما تجدلها لتنزل على يمينها وقد تحولت تقاسيم وجهها من امرأة نال منها الوجع إلى أخرى أكثر إشراقا وبهاءً... إن الأمل يصنع المعجزات... لقد أعاد إليها حب الحياة بوعد قطعه على نفسه وها هو يؤكد لذاته أنه سيحققه، لأنها امرأة تستحق الحياة والجمال... امرأة تستحق أن تعيش في كنف رجل يعرف قيمتها ويتفنن في اكتشاف أنوثتها.
قالت بخجل من تلك العيون التي كانت تلتهمها التهاما: سأخرج سيدي... لن أتأخر.
انفرجت شفتيه بابتسامة غامضة وحاول ألا يخيفها بجرأة نظراته ولا يشعرها بلحظةٍ حالمة تجتاحه فحمل قلمه وعاد ليحدق بالمستندات أمامه: خذي كل وقتك... واستمتعي رفقة ابنك قدر ما تشائين.
فرحت فرحا شديدا لكلماته وكادت تقفز في مكانها لكنها تمالكت نفسها وشكرته بامتنان: أشكرك سيدي...
هز رأسه مومئا وأذن لها بالانصراف فخرجت من هناك متحمسة تشع السعادة من تلكما العينين البنيتين المكسوتين بأهداب كثيفة.
وجدته في طريقها ينظر إليها بامتعاض ولم يعلق على شكلها بكلمة فلم تشأ أن تمر عليه دون أن تلقي التحية: مرحبا وليد. كيف حالك؟
أجابها باقتضاب: بخير شكرا.
استغربت رده الجاف لكنها تجاوزت الأمر وقالت بابتسامة: سأخرج لرؤية ابني...
بادلها الابتسامة على مضض: سعيد من أجلك..
صمت للحظة ثم قرر أن يقول ما برأسه: سهام... قربك من السيد بهذا الشكل أمر لا تُقدّرين عواقبه.. إنه يستدرجك لوكره خطوة خطوة... هو رجل لا أمان له.
التفتت إلى الباب خلفها وكأنها ترى الجالس من ورائه ثم إليه: لماذا تقول هذا الكلام؟
أجابها مؤكدا: لأنك لا تعرفينه!... إنه زير نساء.
شعرت بصدرها يضيق وبتنفسها يقل. صمت للحظة يتأمل بريق الدهشة في عينيها ثم تابع: ما أقوله ليس كذبة... السيد لن يتوانى عن أذيتك في أول فرصة. وأنت لاقيت في حياتك الكثير... لا أريدك أن تعاني أكثر..
هذه هي الكلمات التي سمعها محسن وهو واقف عند باب مكتبه وقد فرجه قليلا للخروج ففوجئ بوليد يلقي بمواعظه على تلك التي يحاول أن يقنعها بأنها فريسة لسيده... له هو شخصيا!
ابتعدت سهام عن محدثها قليلا حاولت أن تفكر بلا تشويش. ثم قالت: ليلى تقول نفس الكلام. لكنني أعتقد أن به شيئا من الإنسانية... لقد عرض علي أن يساعدني، غيره ما كان ليبالي بمأساتي...
أبدى غيظه من كلامها وحاول ألا يرفع صوته وهو يقول بعصبية: تلك خطته لاستدراجك إلى مخدعه... ليلعب على عواطفك. ليغريك بسحر وجهه البشوش! لماذا لا تفهمين!
شعرت بالاستنكار من كلامه: لا أحد يستطيع استدراجي إلى مخدعه فقد قرفت منكم على أية حال.
ثم استدركت كلامها قبل أن تغادر: أقصد كل الرجال...
مشت باتجاه الباب مخلفة إياه خلفها وهي تشعر بالحسرة والأسف... في كلامه شيء من الحقيقة، لقد لاقت الكثير في حياتها. فهل ينقصها رجل مثل محسن لينهي كل عذابها بضربة هي الأشد فتكا!
♡♡♡♡

بحلول ظهر اليوم كان محمود جالسا في سيارته المتوقفة قرب نفس الباب الأزرق الذي توقف عنده صباحا.
ترجل من السيارة وطرق الباب وما لبث أن فتح له رجل في أواخر الأربعينات من عمره وقد أبدى دهشته لجهله بمن يكون: مرحبا...
رد عليه محمود: هل أنت من أسرة سعيد؟
أجابه بفضول: أنا الابن الأكبر أسامة... من أنت؟
قال باستخفاف وهو ينظر في عيونه مباشرة: صهركم... زوج نسرين أم أنه ليس لديكم ابنة بهذا الاسم!
التفت خلفه متوجسا وحاول أن يخفي اضطرابه ثم أشار له بالدخول: هذا أمر لا نناقشه على الباب. تفضل إلى بيتي وسنوضح الأمور...
أجابه على الفور: أريد والدك شخصيا... عليه أن يسمع ما سأقول...
بدى الآخر مصرا: قلت تفضل إلى منزلي... والدي غاضب الآن، لأن رجال الشرطة ألقوا القبض على وليد وتم احتجازه هناك بتهمة محاولة القتل... وكما فهمنا من أمي أنه حاول قتل نسرين مرتين!
أكد له بغل: هذا صحيح وسأجعله يتعفن في السجن صدقني...
مر أحد الجيران فألقى التحية على كليهما وهو يراقبهما بفضول ثم تابع طريقه فقال أسامة بنفاذ صبر: إما أن تدخل لنتحدث وإما أن ترجع من حيث أتيت لا تنقصنا الفضائح.
ولج الاثنان إلى الداخل وتمشيا بالفناء الواسع ثم انعطفا يسارا باتجاه أحد الأبواب فسبقه أسامة ليخلي الممر من أهل بيته ويلج محمود إلى الداخل.
بعد برهة كانا جالسين في قاعة صغيرة مزينة بأثاث بسيط تتوسطها مائدة زجاجية هي أبهى القطع هناك.
أراد محمود أن يدخل في صلب الموضوع مباشرة فقال لجليسه: كنّا هنا صباحا وقد...
قاطعه الآخر: عرفني بنفسك أولا.
قال بإيجاز: محمود ناصر السعدي...
لم يبد على أسامة أنه سمع بهذا الاسم من قبل فتابع بلا دهشة: مرحبا بك سيد محمود... قلت أنك متزوج من نسرين. منذ متى؟
أجابه: منذ أشهر...
باغته بسؤال آخر: كيف عرفتها؟
علم أنه يريد أن يلم بطريقة عيشها قبل أن تلقاه فقال: كانت جارتي في نفس البناية... لقد عرفتها امرأة متمنعة خجولة.. حتى أنها كانت منزوية لا تخالط الجيران... لقد عملت أيضا بأحد فروع شركاتنا وقد كانت امرأة محترمة ومتقنة لعملها.
أبدى الآخر اهتمامه بموضوع الشركات: شركاتكم!
بتر أي خوض في هذا الموضوع بشيء من حنكة والده: لقد أحببت فيها عزة نفسها وطهر روحها... كانت امرأة متفردة لم أر لها مثيلا في حياتي.
أطرق أسامة لبرهة مفكرا ثم قال: لقد رسم الجميع لها ألف حكاية خصوصا بعد مرافقتها لفتاة السوء تلك.
بدى عليه الغضب فقاطعه باستخفاف: تلك المرأة سيئة أجل... الجميع يعرف هذا والله وحده من يحاسبها على أعمالها. لكن الحقيقة التي لن تصدقوها أنها اعتنت بها وعلمتها وأنشأت منها امرأة يُتَّكل عليها... دعوا الماضي وشأنه فأنتم أيضا أذللتموها وقمعتموها ثم قضيتم بتزويجها إلى رجل ما كانت لتطيق التواجد معه تحت سقف واحد... إن كانت قد ارتكبت خطأ بفرارها من هذا البيت فأنتم وحدكم المذنبون في ذلك وعليكم أن تكونوا رجالا وتتحملوا نتيجة ما اقترفته أيديكم بحقها...
غمغم بكلمات غير مفهومة ثم التزم الصمت دون أن يجرؤ على التحديق بمحدثه كمذنب يقر ويعترف بجريمته. سكت محمود هو الآخر منتظرا منه إجابة واضحة فقال مبرءً ساحته: كان ذلك قبل سنوات... والوضع تغير الآن... لم نعد كالسابق...
رسم نصف ابتسامة ساخرة: أجل عندما يتعلق الأمر ببناتك يصبح للوقت تأثيرا... نسرين لم تحظى بفرصة للتعلم ولا للخروج ولا لاختيار زوجها ولا حتى لقول كلمة تصغون إليها!
هز رأسه باضطراب: أعرف... أعرف...
أجابه: لا يكفي أن تعرف... إنك مثل والدك مثل أمك مثل جميع إخوتك... كلكم ستحاسبون أمام الله على إجرامكم في حقها.
أخرسه ذل الحقيقة فلم يقل كلمة بينما استطرد محمود: إن كنت تريد التكفير عن ذنبك فعليك أن تجد حلا لتعيد إليها اعتبارها بين كل أهلها... تحدث إلى والدك وإلى الجميع وأخبرهم بالحقيقة... عليك أن تفعل ما يتوجب عليك في حق أختك المظلومة... لو عاد الأمر إلي لأخذتها بعيدا وأنسيتها همكم... لكنني صرت أعرفها بما يكفي لأتأكد من أن عقدتكم ستطاردها طوال حياتها ولا أريد لها أن تتعذب بسبب أي منكم...
وقام يستعد للمغادرة فقال أسامة: سأفعل ما قلت... اجلس لتشرب شيئا لا يجوز أن تغادر منزلي هكذا.
ناظره من زاوية عينه: عندما تثبت لي أنك رجل يستحق كل الاحترام سأفعلها بكل سرور.
مشى بضع خطوات فسمعه يقول: وماذا بشأن وليد؟
توقف والتفت إليه بجمود: عليه تحمل نتائج أفعاله..
وترك المنزل مباشرة وأسامة خلفه حتى يوصله إلى الباب.

♡♡♡
عندما وصلت إلى الحي الذي كانت تسكنه وجدت سالم في انتظارها ورفقته أنس، والذي ركض إليها فرحا بمجرد أن رآها. جثت على ركبتيها وفتحت له ذراعيها فارتمى في حضنها فرحا يصرخ بهجة: ماما!... ماما!...
ضمته إليها بقوة وأطلقت العنان لدموعها غير آبهة بالمارة من جيرانها القدامى وهم يشاهدون انكسارها بإشفاق...
أن تشم عطره بعد كل هذا الفراق هو النعيم الذي كانت تبحث عنه بلا عنوان... أن تلمسه وتملأ بجسده الصغير حضنها الخاوي كما هو قلبها، أمنية طال بها الشوق إليها وظلت حبيسة مخاوفها من أن تحققها وتنكسر بعدها انكسارًا لا يُجبر...
أشفق عليها سالم وهو يستشعر لوعة قلبها واحتراقها من فقدانه كل هذا الوقت وأحس بالذنب تجاهها واتجاه أمومتها. قال لها بإحراج: كيف أنت يا ابنتي؟
حملقت فيه باستنكار، ليس له الحق بسؤالها عن نكبتها بعد أن شارك فيها بصمته... ثم عادت لتمحو عنها تلك الملامح بعد أن رأت الحياء والندم في عيونه..
أجابته باقتضاب: بخير.
وراحت تمسح دموعها وتأخذ ابنها في حضنها بقوة مقبلة إياه علها تطفئ لهب الأيام الماضية. فسمعته يقول: صدقيني لقد فعلت كل ما بوسعي لإقناع فادي بإرجاعه لك... حتى أمه نهرته وأصرت بأن يعيد إليك الصغير لكنه لم يستمع إلينا وقال أن القاضي يرى مصلحة الطفل في تواجده معنا... وبهذا أسكتنا وخشينا أن نحاصره فيأخذ الطفل ويترك البيت...
شعرت بالاشمئزاز عندما أتى على ذكر شبيه الرجال ذاك. ثم قالت منهية للموضوع: سآخذ أنس في نزهة... وسأعيده آخر المساء.
قاطعها: يمكنك إبقاؤه للمبيت عندك... لا تقلقي أنا من سيتدبر الموضوع مع...
قبل أن ينطق اسمه مرة أخرى ليقرفها عجلت في إجابته: لا. سأحضره مساءا فأنا خارج بيتنا حاليا...
ثم حدقت بصغيرها بأمل والدموع تتجمع في عيونها وتابعت بصوت مهزوز: لكن قريبا... قريبا... سيرجع حبيبي إلي ولن يفارقني من جديد...
هز رأسه مومئا وقد آلمه ما هي فيه: إن شاء الله يا ابنتي... أعدك أنني سأفعل كل ما بوسعي لمساعدتك في إرجاعه لحضنك... حتى لو بصفع ذلك الأحمق.
♡♡♡♡

عاد محمود إلى الفندق متعبا. فدخل غرفته وألقى بمعطفه على الأريكة ليشاهد ياقوتة واقفة عند الشرفة تراقب الشارع من خلف الزجاج.
بحث بعيونه عن نسرين فلم يجدها: أين هي نسرين؟
التفتت إليه وكأنها عائدة من شرود عميق: دخلت لتستحم...
ألقى بالمفاتيح على الطاولة فاقتربت من حقيبة يدها لتحملها: بما أنك قد عدت. سأستأذن للمغادرة.
جلس على الأريكة وأشار لها قبالته: اجلسي... أمامنا حديث عالق.
شعرت بالرهبة وخافت من إقحام نفسها في المتاعب... من يضمن لها أن محمود رجل نزيه ولا يغرق في دماء الأبرياء شأنه شأن بشير!
جلست بارتباك وراحت تفرك أصابعها بقلق فلاحظ انفعالها وقرر أن يمنحها بعض الأمان لتصرح بما تعرفه: اهدئي ياقوتة... اعلمي جيدا أنك صديقة زوجتي وسلامتك تهمني.. خصوصا وقد أبديت الاستقامة وعدلت عن عالمك السابق... أخبريني كل ما تعرفينه عن إجرام بشير وأعدك أن كلامنا لن يتجاوز جدران هذه الغرفة.
لم تكن وعوده كافية لها... إن الأمر يتعلق ببشير وكل حياتها على المحك. لذا فهي لن تخاطر بذكر ما أخبرها به وديع تلك الليلة.
بعد صمت قصير قالت: هو رجل سيئ التصرفات... وأعتقد أنه يكسب أمواله بطرق غير مشروعة... لولا اختلاساته وسرقاته ما أصبح على ما هو عليه.
ضيق عيونه وهو يستشعر بفطنته أنها تراوغه: أجل هذا صحيح... لكنك تحدثت عن جرائم...
قاطعته: أليست هذه جرائم!
أجابها على نفس هدوئه وعيونه شاخصة إليها ليرقب كل انفعالاتها: الجريمة في مفهومنا تشير إلى القتل غالبا...
ارتفعت يدها بتوتر وراحت تعبث بخصل شعرها وعيونها تتجاهله: لا، ذهب تفكيرك بعيدا...
وصمتت لوهلة ثم تابعت: مع أنني أظنه قادرا على القتل.... أجل، قد يفعلها من أجل المال...
كانت تلف وتدور حول الموضوع بين اقدام وإحجام فسئم محمود من مراوغاتها وهدر فيها بنفاذ صبر: ما الذي تعرفينه عن قتله للبشر؟
نطقتها دفعة واحدة بوجل: يتاجر في أعضائهم!
ثم وضعت كفها على شفاهها والتزمت الصمت التام تحت عيونه المتوسعة من الدهشة: من أخبرك بهذا؟
لم تكن غبية لتأتي على ذكر قتيلها: إنه هو... سكر وانتشى ثم... أنت تعرف... لقد كنت على علاقة معه... و...
خمن ما تريد قوله فقاطعها: فهمت.. فهمت...
ثم صمت مفكرا فعقله لم يصدق فكرة أن بشير يبوح بأسراره بمجرد أن يسكر أو ينتشي، لو كان الأمر كذلك لكانت جل عشيقاته تعرفن بأدق تفاصيله الخفية. كلا إنه رجل يجيد غزل خيوطه وإبقائها متينة دائما...
حملق فيها بشك ثم قال: لا أظنه غبيا ليفشي أسراره مع أي كان!
أجابته بثقة: لم أكن يوما "أيا كان" بحياته... أنا المرأة التي خذلته وباعت حبه. وأعلم أنه مازال حتى اليوم متعلقا بي لكنه يفضل محاسبتي على طريقته...
ارتفع حاجباه بدهشة ولم يعلق... هل بشير متعلق حقا بها أم أنها تؤلف القصص!
تجاوز دهشته ليسهب في الحديث أكثر: من غيرك يعرف هذا؟
هزت رأسها نفيا: لا أعرف.
صمت مفكرا ثم قال: هل قال شيئا عن والدي؟
استغربت سؤاله: ما به والدك؟ أهو متورط معه!
أجابها فورا: لا... لكنه أراده أم يكون شريكا له بالغصب...
لا تذكر أن وديع حدثها عن وجود علاقة اجرامية بين بشير ومحسن... ربما لأن بشير وحده من كان يدير أعماله الحيوانية.
قالت بفضول: جاء دوري لسؤالك... لماذا تفرّان منه؟
فكر للحظة. ربما كان بشير هو من يدسها بينهم لتنقل إليه أخبارهم... بدأت الهواجس تحاوطه. أيعقل أنها ترمي الطعم ليلتقطه!..
قال لها متظاهرا بعدم الاكتراث: منذ أن طلقت ابنته وهو يترصد خطواتي... إنه متغطرس كما تعرفينه ولن يقبل بمثل هذه الإهانة.
لاحظت أنه يرمي بها بعيدا عن الحقيقة التي صورها لها عقلها، فقالت ناصحة: بشير إن وضع شيئا نصب عينيه فإنه لن يرتاح حتى يحققه، وإن حطك برأسه فلن يتركك تنجو مهما حاولت الهرب... كن حذرا واعتني بنسرين.
هز رأسه مومئا دون أن يقول شيئا. فالتقطت حقيبة يدها من فوق الأريكة واستأذنت في الانصراف.

خرجت نسرين من الحمام بعد فترة وجيزة من مغادرة ياقوتة. تأملها محمود بحب وفتح لها ذراعيه فسارت باتجاهه تجر أقدامها بتعب وجلست بالقرب منه فاحتضنها بحب: كيف أنت؟
اجابته ببحة: بخير.
راح يربت على ظهرها بحنو وهي تشدد من عناقه: انسي كل ما حصل... أعدك أنني لن أسمح لأحد بمضايقتك من جديد.
لم تجبه وتنهدت بأسى وكأنها وجدت الراحة أخيرا بين ذراعيه. وبقي هو يلاعب خصلات شعرها في شرود. إلى أن قال لها: هل تعتقدين أن ياقوتة قادرة على خداعنا وبيعنا لبشير؟
ابتعدت عنه قليلا ونظرت في عيونه مباشرة باستفهام فتابع: إنها تعرف بشأن تجارته في الأعضاء البشرية. قالت أنه كان سكرانا ومنتشيا. لكنني بت أخشى أنه يجعل منها عينا له بيننا... إنه وغد قادر على كل شيء...
لم تستطع القول أن صديقتها لن تفعل ذلك فهي من قبل باعت الحب بالنقود... ثم باعت جسدها وأنوثتها... ستكون غبية إن استأمنتها على حياتها. حملقت فيه بذعر: والحل!
نظر إليها بصمت ثم قال: أفكر في أن نسافر أنا وأنت إلى مكان آخر ونتركها هنا.
توسعت عيونها بدهشة فتابع قبل أن تقول كلمة: لا نستطيع الوثوق بها يا نسرين. الوضع حساس...
أجابته بحيرة: ماذا إن رجعت واستجوبها بشير... سيعرف أننا كنا هنا وكل شيء عن عائلتي!
هز رأسه بالنفي: المهم ألا يجدنا. لا يمكننا الوثوق بها فقد تكون هي من تنقل أخبارنا إليه!..
ردت باحتجاج: لو كان الأمر كذلك ما كانت لتصارحك بشأن تجارته!
بدى متوجسا: ربما كانت خطة منهما لأجل أن نثق بها... بشير ليس غبيا ليرمي بأسراره هنا وهناك!
أمسكت رأسها من الصداع وقامت من مكانها لتأخذ المسكنات وهي تقول: افعل ما تريد... لم أعد أعرف شيئا.
فور أن حملت علبة الدواء قال لها محمود: لا تأخذي أي دواء دون استشارة الطبيب... لا تنسي أنك حامل حبيبتي...
ردت عليه وهي تملأ الكأس: أوصيت ياقوتة وقالت أن الصيدلي قال أنه مناسب للحامل...
صمتت قليلا ثم تابعت: لا تعرف كم فرحت عند سماعها لخبر حملي!... إنها دائما من تشاركني أفراحي وأتراحي...
لم يجبها بكلمة فتناولت الدواء ثم التفتت إليه: لم أعد أستطيع التفكير... أشعر بخمول دماغي... تصرف أنت ودعنا ننتهي من كل هذا بسلام. أخبر والدك أن يجهز لنا طائرة خاصة للسفر... أريد أن أنتهي بعيدا عن هنا... أنا أرجوك.



noor elhuda likes this.

بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 30-08-21, 01:00 AM   #54

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الخامس والعشرون

مضى يومان اثنان وهذا صباح الثالث. جلست مروى بالحديقة تحت أشعة الشمس وعيونها تراقب أمها في حركاتها الدؤوبة وهي تعتني بزهورها وتقتلع الأعشاب الضارة من حولها. تعلم جيدا أنها تشغل نفسها بأتفه الأمور حتى لا تفكر بالوحش الجاثم على صدرها يكاد يزهق روحها مستمتعا بحشرجة أنفاسها... تعلم جيدا أنه لا أمل منه وتعي حقا خطورة الوقوف في وجهه. لذلك هي تبيع الحب للنسيان كما باعت من قبلها روحها لرجل مثله يشبه الشيطان...
قبل أن يقص عليها لؤي حقيقة مرضه النفسي كانت تعتقدها امرأة ضعيفة وكسيرة لا أمل منها، لكنها اليوم تدرك أنها تتحمل الكثير من أجل أن تتقي شره، وتوازن السفينة بهم جميعا... تلك السفينة التي مآلها الغرق لا محالة...
جمود وجهها وشحوبه يفضح ادعاءها للسعادة... إنها تنازع الموت حق الحياة وليس تدري في النهاية أتصرعه أم يصرعها!
تستغرب من أين أوتيت كل تلك القوة لتمثل على الجميع دور الزوجة الهادئة! ليست تدري ما الذي حصل بينهما خلف تلك الأبواب المغلقة لكنها تستطيع أن تميز بريق شظايا الأمل مكسورا في عيونها... أتراها تنتظر فرجا قريبا بلا حول ولا قوة!
تنهدت بأسى وغصة الألم لا تبارحها... متى ستقرر أمها الهرب... ألا ليتها تهرب من جحيم أبيها المختل إلى أي مكان لا يجدها فيه لتبدأ من جديد... ربما ستجد من بعده رجلا يهب لها الحياة وطنا بصدره لا تعيش فيه بغربة أبدا...
كم هي جميلة الأحلام!... وما أضيق العيش لولا فسحة الأمل!..
رسمت نصف ابتسامة ساخرة وهي تشاهد لؤي يسير بخطى سريعة نحو السيارة المتوقفة قرب النافورة متفقدا للمسدس بحزامه. ومن بعده خرج والدها في بدلته الرسمية يباهي الأرض بمشيته، ففتح له السائق الباب ليركب ومن ثم انطلق موكب جلالته في صورة مبالغ فيها الغرض منها المباهاة لا أكثر فحتى محسن كان يذهب إلى العمل رفقة سائقه فقط وربما سيارة واحدة مرافقة إن كان يحمل أوراقا مهمة... تعلم جيدا أن جرائمه تلك هي من تستدعي منه أن يكون حذرا على الدوام!
لقد بحثت عن حقيقة ما يدعيه لؤي وقرأت عديدا من المقالات التي ينشرها أصحاب الاختصاص وربطتها بواقع والدها فوجدت تشابها مريبا بين الأعراض التي يذكرها الأطباء وسلوكيات والدها... طريقة كلامه، استصغاره للغير واستهزاؤه بهم، تفحيمه لمن يحدثه علنا وأمام الجميع... حتى جمعه لقطع من الأسلحة الفريدة ومباهاته بها... وعشرات الأمور غيرها... كلها أعراض خفية لسادية بلغت به حد الإجرام...

♡♡♡♡

دخلت سهام المطبخ فوجدت ليلى تعد الطعام للسيد، فاستأذنت لتساعدها ومن ثم حملت الصينية وخرجت بها إلى الحديقة حيث أشارت لها.
وجدته يتأمل الأشجار في وجوم وكأنه غارق في التفكير فألقت التحية ثم وضعت الطعام أمامه واستقامت واقفة تسترق النظر إليه وهو يتأمل ما أحضرته.
أخفضت بصرها حالما رفع طرفه إليها شاكرا. ثم وضع يده على ملف به بعض الأوراق بقربه وقربه منها: مبارك عليك.
تلك الابتسامة على شفتيه أذهلتها أكثر. ماذا تراه يكون بهذا الملف؟ صور للمختل ربما!
فتحته بارتباك وكانت أوراق معاملات الطلاق تحمل توقيع زوجها السابق. فغرت فاها بدهشة وحملقت فيه بتمعن وكلها تساؤل: ما هذا؟
أضحكته دهشتها ثم قال: وقعي أوراق الطلاق... وستنتهين من ذلك الشاذ إلى الأبد. وإن اعترض طريقك مرة أخرى يمكنك الاعتماد علي.
كم هو عظيم أن تجد جدارًا يسندها لتحتمي به بعد أن هامت في القفار طويلا دون أن تجد من يمسك بكفها ويدعمها... بل لم تجد من يشجعها بكلمة... أو ربما أسوأ منه... كُذِّبت من أقرب الأقربين!
سألته بريبة: كيف جعلته يوقع الأوراق؟
رفع حواجبه بتكبر: ليس أنا... فأنا لا أتعامل مع هؤلاء، لكن لدي من يؤدب الناشزين...
هزت رأسها مومئة بامتنان ، لكن إجابته لم تكن كافية، سألته بحياء: هل صورتموه؟.. ابتززتموه؟
رأى أنها لن تكتفي بهذا الفوز الذي حققته حتى تعرف ما حصل، فقال لها: أرسلت إليه بقرص يحمل كل شذوذه... فجاء إلى رجالي جاثيا على ركبتيه يريد الخلاص من الفضيحة بأي ثمن... وقع من فوره على أوراق الطلاق التي جهزها المحامي من قبل وتحت حضور مندوب من القضاء. وستفعلين المثل لأنه وصل توا... والشهود سيكونون من عمال هذا البيت.
عقدت الدهشة لسانها وراحت تقفز كطفلة صغيرة احتفالا بنيل حريتها تحت أنظار محسن الذي تحولت ابتسامته لضحكة مقهقهة وهو يشير للمندوب بالاقتراب.
وقعت الأوراق حيث أشار لها المندوب، ثم وقع الشهود وبعدها احتفظ بنسخة من الأوراق واستعد للمغادرة: نحن في خدمتك سيد محسن.
أجابه وهو يهز رأسه: شكرا لك قاسم...
بعد رحيله كانت الصدمة والدهشة لا تراوحانها، فسألته بفضول: كيف استطعتم تصويره؟
أجابها باقتضاب: ثبتنا كاميرات بالشقة التي يستأجرها هو وبعض أشباهه. والمستأجر هو من قدم لنا المفتاح بعد أخذ ورد.
لم تسأله كيف كان الأخذ والرد، لأنه شيء من الاثنين... تم تهديده أو تم شراؤه.
لن تأخذها الرأفة برجل مثله فهو يستحق أسوأ من هذا كله. سألته بصوت خافت: وابني؟
أجابها وهو يستعد لتناول فطوره: يمكنك استلامه من حمويك متى شئت...
كادت أن تثب عليه معانقة من شدة فرحتها. لكنها اكتفت برسم ابتسامة تشع حماسا وهي تقول له: ممتنة لك سيدي... أنا ممتنة...
وتحشرجت الكلمات فلم تعد تدري كيف توفيه حق شكره.
رفع طرفه إليها وقال بهدوء، لست بحاجة لأن تشكريني.. كوني سعيدة وحسب... وقبل أن ترتبطي بأي كان شغلي دماغك ولا تنظري إليه من خلال عيون الآخرين... اختاري الرجل الذي تريدينه أنت عن قناعة.
أبدت موافقتها على كلامه. فوضع قربها مغلفا به أجرتها وقال: يمكنك ترك العمل متى شئت...
نظرت بعيونه متسائلة، فبادلها النظرة بأخرى صارمة وكأنه قرار لا غبار عليه. فطأطأت رأسها من جديد: أشكرك سيدي سأبدأ بتجهيز أشيائي...
أذن لها بالانصراف فمشت من هناك تكاد تقفز في كل خطوة من السعادة الغامرة التي اجتاحتها. أما هو فقد أرسل بنظراته المودعة تلحق خطاها، ثم وضع كفه تحت ذقنه ليستند على مرفقه مفكرا بأشياء كثيرة تجول بذهنه. أهم شيء حتى الآن هو سلامة ابنه، حمل هاتفه من فوق الطاولة وأرسل برسالة نصية إلى أحد الأرقام كتب فيها: "الثعلب ماكر؟"
وكان يقصد بها بشير، في محاولة الاستفسار من بعض عيونه التي يدسها عنده إن كان قد اكتشف شيئا بخصوص اختفاء محمود.
وبعد بضع دقائق وصله الجواب: "أنت أمكر منه."
وكانت تلك إشارة له بأنه لم يحصل على أي شيء ملموس حتى الآن.
حمد الله في قرارة نفسه وعاد ليحدق بالفراغ أمامه وقد كره تناول فطوره. الفراغ سيقتله والخواء بداخله في اجتياح مستمر. سترحل سهام كما رحل ابنه من قبل وسيظل وحيدا مع جواسيس عدوه.
تنهد بأسف، ألا ليت ذلك المتغطرس يدس له السم في طعامه ليرتاح من كل هذا... لا، إنه يعرف أنه لن يميته حتى يجعله شاهدا على عذاب ابنه الوحيد... رجل مثله يتفنن في انتقامه بكل تأكيد.
♡♡♡♡

في مكتبه كان يجلس بشير على كرسيه بكل هيبة ووقار يتأمل من خلال الحائط الزجاجي بنايات الشركة الممتدة على حدود واسعة من أراضيه. سمع صوت طرق على الباب فالتفّ بكرسيه ليواجه المكتب، ثم أذن للطارق بالدخول.
ولج إلى الداخل أحد معاوني لؤي وفي يده ملف به بعض المستندات وبطاقة تخزين معلومات. وقبل أن يفتح أي من الأشياء الموضوعة أمامه كان يجب أن يستمع للملخص من لسان محدثه: لقد تتبعنا مسار شاحنة الأثاث التي استطعنا أخذ لوحة ترقيمها من خلال كاميرات المراقبة في منزل محسن. وقد توقفت في محطة الوقود خارج الولاية ومن هناك عادت أدراجها إلى المحل. استجوبنا السائق على طريقتنا وقال أن محمود ومعه زوجته قد غادرا في سيارة أخرى ومعهم امرأة في الأربعينات من عمرها.
انتبه وفكر للحظة... إنه يشك بياقوتة فقد توقف عن زيارتها منذ آخر مرة عندما أخبرته بزواجها القادم. إنها صديقة نسرين ولا بد وأنهما أخذاها معهما لألا تفضحهما.
صر على أسنانه بغيظ وقال بحدة: ابحث عن ياقوتة في بيتها. وإن لم تجدها استجوب كل الفتيات اللواتي كن تحت يدها واجعلهن يخبرنك عن كل معارفها. أريد تلك الساقطة من فوق الأرض أو من تحتها... مفهوم!
أومأ بانصياع: حاضر سيدي.
ثم تابع القول: محطة الوقود التي توقفا بها قريبة جدا من المطار.
فكر للحظة: إذن فقد غادرا الوطن من خارج العاصمة! كيف استطاعا خداعه!
ضرب على المكتب بفرط غيظ وهدر في وجه الرجل: أنتم مجموعة أغبياء لا طائل منكم... لابد وأنه نجح في الفرار خارج البلاد!
رد عليه بوجل: سيدي... لقد تفقدنا قوائم الركاب ولم نجد اسميهما. كما أنه لم تقلع منه أي طائرة خاصة.
همّ بأن يضربه بعلبة الأقلام: وكأنهما سيستخدما اسميهما لأستطيع اقتفاء أثرهما أيه الأبله!!!
حاول أن يهدأ ثم تابع: جد لي أهل تلك الساقطة... يجب أن نصل إلى أهل زوجته فمن المؤكد ستتصل بهم، ومنهم سنعرف مكانهما... هيا لا تضيع وقتي.
من المؤكد أن محسن كان ذكيا بما يكفي ليختار المكان الذي ستتوقف به الشاحنة بدقة حتى يحمل عدوه على الاعتقاد بأن محمود ومعه زوجته قد تركا البلد نهائيا...
إنه رجل يلم بكل التفاصيل، وقد تعمد أن تصور كاميرات بيته الشاحنة حتى يأخذ الجواسيس رقمها... لم ينل الضرب إلا ذلك السائق المسكين... لأنه عندما يتصارع الكبار يكون الصغار مداسا تحت أقدامهم.

♡♡♡♡

كانا على الطريق السريع. محمود منشغل بالقيادة وهي غفت بضع دقائق لتستفيق مذعورة.
التفت إليها بوجل ثم ابتسم بحب: ارتاحي حبيبتي... إنه مجرد كابوس.
تنهدت بغم ثم سألته: هل اقتربنا؟
أجابها وعيونه على الطريق أمامه: لم يبقى الكثير لنصل.
عادت لتتأمل الطبيعة الساحرة من حولها وهي غارقة في همومها... إلى أين المفر هذه المرة يا ترى؟ صعب أن تعيش في خوف...

"الخوف لا يمنع من الموت، لكنه يمنع من الحياة"
نجيب محفوظ

بعد مسيرة قصيرة وصلا إلى قرية صغيرة بيوتها بسيطة ومتفرقة تترامى على أطرافها بعض البساتين والأراضي المغمورة بالثلوج.
توغلا داخلها أكثر، ثم ركن سيارته قرب المسجد واتصل بوالده الذي أجابه على الفور بلهفة: كيف أنت بني؟
ابتسم محمود فرحا بعد أن تلمس الشوق في كلمات والده، ثم قال: بخير يا أبي... اطمئن. لقد وصلنا حيث أشرت إلي. وأنا الآن متوقف بالقرب من المسجد...
أجابه قبل أن يكمل: فهمت... سيصل من يوجهك في الحال....
قال بتوجس: ألن يغدر بنا يا أبي؟
أجابه: مستحيل... صدقني إنه آمن مكان لكما حاليا. على بشير أن يطرق أبواب الغيب ليعرف أين أنتما الآن. إنه مكان من المستحيل أن يخطر بباله. والرجل مضمون وهو من أهل المنطقة لا يعرف عن بشير أي شيء...
هز رأسه وكأنه يراه ثم أمسك بكف نسرين: شكرا يا أبي... سأقفل. اعتني بنفسك.
أقفل الخط، ثم قبل كفها وقال لها: اطمئني. أبي يقول أن بشير لن يجدنا هنا... سنمكث لفترة. وبعدها سننتهي من بشير إلى الأبد.
حملقت فيه بفضول: سمعت بعضا من حديثك إلى والدك مساء البارحة، ما الذي تخططانه بشأن بشير؟
لم يشأ الخوض معها في هذا الحديث. محسن ينوي القضاء على بشير نهائيا ومن الأفضل لها ألا تعرف بالموضوع. قرص خدها معاتبا: تتنصتين علي يا قلبي.
نفت الأمر: لا... سمعتكما بالصدفة، وفهمت أن هناك حكاية معقدة ومتشابكة... ومن بعدها لاحظت أنك أهدأ بالا...
أبعد عنها الوساوس: المهم أننا سنمضي هنا وقتا ممتعا.. سنستقبل الربيع بعد بضعة أسابيع وسيصبح المكان جنة فوق الأرض... المنطقة، هنا رائعة.
تحولت نظراتها إلى القرية تتأمل بيوت القرميد والأفنية المسيجة بالأخشاب المتعامدة المربوطة بالأسلاك. تتأمل المارة في برانيس من الصوف يجوبون الطرقات ويقومون ببعض الأعمال رغم صعوبة الطقس.
بعد قليل وصل رجل مسن ونظر إلى السيارة بتمعن ثم إلى لوحة ترقيمها ومن ثم اقترب منهما فأنزل محمود زجاج السيارة ليتحدث إليه المسن مع ابتسامة مرحبة: أنت السيد محمود... مرحبا بك.
رد عليه: مرحبا... إنه أنا، وهذه زوجتي.
أومأ لها المسن بترحاب فردت عليه، ومن ثم قال: أنا اسمي فاروق. تفضلا معي...
أشار لهما باللحاق به فطلب منه محمود الركوب ليصلا إلى وجهتهما.
بعد بضع دقائق وصلوا إلى بيت من الحجارة مؤلف من طابقين ومغطى بالقرميد. ملحق به فناء واسع وعلى أطرافه خم كبير للدجاج به أيضا بعض الأرانب.
ركض باتجاههما كلب بني اللون بذيل كثيف الشعر في حالة استنفار فصاح به فاروق: اهدأ... اهدأ... هذان ضيفانا.
لم يكن للكلب اسم كما توقع محمود. هنا الكلاب للحراسة وليس لتجول بالقصور وتنادى بأجمل الأسماء.
دخلا رفقته إلى بيت نظيف مرتب بعناية، رغم بساطته إلا أنه يحمل لمسة أنثوية واضحة من خلال الستائر المزينة حوافها بالدانتيل المكشكش وأواني الزهور المتناثرة هنا وهناك.
خرجت من المطبخ امرأة يبدو أنها زوجته، مازالت تحتفظ ببهائها رغم التجاعيد.
دعاها لتتعرف على زواره: تعالي يا يامنة إنهما السيد محمود وزوجته.
ابتسمت نسرين بوجهها: اسمي نسرين.
اقتربت مرحبة: أهلا بكما أنتما في منزلكما...
جلسوا جميعا في قاعة استقبال صغيرة بسيطة التأثيث وأحضرت يامنة ما لذ وطاب من الطعام. فمن عادة أهل القرى أن يكرموا ضيفهم ويبالغوا في بذل وسائل الراحة له.

في المساء، خرجا من غرفتهما بعد أن نالا قسطا من الراحة، فدعاهما فاروق لتناول بعض الفطائر التقليدية التي تشتهر بها المنطقة. بدت ألذ بكثير من تلك التي كانت تصنعها نسرين بنفسها في المنزل، كيف لا وهي من صنع أيادي محترفة. يامنة امرأة قروية محدودة الثقافة، لكنها ربة بيت ماهرة بامتياز.
قال محمود لفاروق: أليس لديكما أبناء؟
بدت على وجهه شبه ابتسامة يائسة وهو يرد عليه: بلى... ابن واحد. لكنه غير موجود...
انتابه الفضول ليعرف المزيد لكن تغيير فاروق للموضوع جعله يلتزم الصمت: ما رأيك يا محمود في جولة حول القرية؟
أجابه بالقبول ومن ثم خرجا تاركين نسرين في عهدة يامنة.
بدى لها هذان الزوجان ألطف مما كانت تتوقعه واستطاعا بتصرفاتهما العفوية أن يكسبا إعجابها فارتاحت لتواجدها في هذا المنزل وبدأت الطمأنينة تزحف إلى قلبها شيئا فشيئا.

تمشى محمود مع فاروق حول القرية حتى وصلا إلى بيت صغير مشابه للبيت الذي كانا فيه، إلا أنه بدى مهجورا خاليا.
قال فاروق مشيرا إليه: لقد كلفت من يصلحه لتبقيا فيه إن كنتما تريدان استقلالية في السكن.
التفت محمود إليه بفضول فتابع: لقد ورثته من أخي الوحيد بعد أن توفي في حادث مرور أودى بحياته وحياة كل أسرته.
قال بهمس: رحمه الله.
قال مثله ثم استأنف: أخبرني ابني أنكما زوجان حديثان من أصدقائه ففكرت أن بعض الخصوصية تليق بكما. سعيد أنكما اخترتما قريتنا لتمضيا فيها شهر العسل. رغم جمالها إلا أنه لا يزورها الكثير من الغرباء.
هز رأسه وهو يشكره. وعقله يفكر في الحيلة التي استخدمها أبوه. وكيف وجد ابن هذا الرجل... ثم كيف يثق به كل هذه الثقة ليقول أنه أفضل مكان يختبئان فيه!
ليس عليه أن يشك في فطنة والده فهو أفضل من يخطط. لكن حدسه ينبئه أن ابن فاروق ليس إلا ورقة رابحة من أوراق والده يخفيها جيدا ليستعملها عندما يحين دورها.
سأله بفضول: ما اسم ابنك؟
أجابه: فؤاد... فؤاد المنصور.
استغرب حقا هذا الاسم فهو لم يسمع به أبدا بين الحرس أو الخدم!
تراه لا يعرفه!.. أو ربما يستخدم اسما ثانيا له. فغالبا من يخوض في مثل هذه الأعمال يبدل اسمه وكنيته ليحمي أسرته. لكن فضوله يلح عليه في معرفة من يكون سواء كان هذا عاجلا أو آجلا..

نظرت إلى الساعة في معصمها وكانت تشير إلى تمام الخامسة مساءا. لقد تركت المنزل دون أن تودع محسن وتبلغه امتنانها. أخبرها أنه مشغول ورفض استقبالها رغم معرفته بشأن رحيلها، وكأنه تعمد ألا يودعها. غصة تحرق قلبها... فلربما كان غاضبا منها بسبب شيء تجهله، وامتنانها له يجعلها تشعر بذم نفسها.
نزلت من سيارة الأجرة ودفعت للسائق ثم مشت باتجاه باب البناية تجر حقيبتها.
رنت على الجرس ففتحت والدتها باب الشقة. وسرعان ما تبدل شحوب وجهها لفرحة عارمة وراحت تحتضن ابنتها ببهجة وسرور.
لقد فرحت بعودتها أيما فرح. كانت تنتظر وصولها كل يوم بعد أن وعدتها بالرجوع وها هي ذي تفي بوعدها.
سارتا معا بالرواق و هي تطوقها بحب وتقبلها بشوق بين الفينة والأخرة مرددة عبارة حبيبتي الصغيرة في كل لحظة.
توقفتا فجأة وساد الصمت المهيب عندما شاهدتا مصطفى يخرج من غرفته ليعرف سر هذه الجلبة.
نظر إلى كلتيهما بجمود فشعرت سهام بالخوف يتملكها.. جل ما تخشاه أن يطردها أو يرفض استقبالها في بيته.
قالت سامية وهي تبتسم بارتباك: لقد تركت سهام عملها ورجعت إلى البيت.
تأمل الحقيبة المرمية عند المدخل للحظة ثم عاد ليحدق بابنته التي أخفضت بصرها بوجل، فلكزتها أمها بمرفقها لتتحرك، عندها اقتربت من والدها على مهل ووقفت بقربه محدقة بعيونه للحظة ثم قبلت جبينه وهي تصارع دموعها: أطلب الصفح منك يا أبي...
حاولت أن تتماسك وتابعت: سامحني لأنني عصيت أمرك.
رفع يده بتردد ثم وضع كفه على ظهرها بحنو وضمها إليه محاولا تمالك نفسه، فأجهشت بالبكاء وراحت تشهق بأسى مشددة من احتضانه كطفلة صغيرة عرفت الأمان أخيرا.

♡♡♡♡

كان محسن جالسا بمكتبه يراجع بعض حسابات الشركة فبعد أن توقف ابنه عن إدارة أعماله عاد هو ليشغل هذا المنصب فوجده وسيلة نافعة لتمضية وقته. استطاعوا تجاوز الأزمة والشركة الآن تسير على خطى ثابتة نحو الأفضل إن لم يتدخل بشير بمكائده من جديد.
توقف عن العمل وأقفل الكمبيوتر ثم استلقى على الكرسي ليريح ظهره زافرا بتعب. ليس الشغل ما يرهقه ولكن تلك الأفكار التي تتلاطم برأسه كتلاطم الموج في البحار هي من تنهك عقله.
سمع طرقا على الباب فأذن للطارق بالدخول. وبعد قليل دخلت ليلى تحمل بين يدها صينيةً بها كوب شاي ساخن. ووضعتها أمامه فأشار لها بالانصراف.
عندما أقفلت الباب تاقت نفسه لأن يرى سهام تجول في هذا المنزل من جديد... لقد بدأ بافتقادها في وقت مبكر جدا... ترى هل ابنها في حضنها الآن؟ هل هي سعيدة بوجودها في بيت أهلها من جديد؟ سيكون من الصعب أن ينسى عبق وجودها في حياته...
لو ظلت هنا بين أسوار هذا المنزل فالله وحده يعلم ما كان سيحصل بينهما وما كانت نفسه ستسوله له! لكنه سارع بإبعادها عنه ليقيها شر نفسه. فما قاله وليد ذلك اليوم أعاد إليه بعضا من عقله... قد تستمر أحيانا في غفلتك حتى يعري أحدهم قبح حقيقتك، ويمسح بك الأرض أمام عيونك... قد تغضب بالبداية وتحقد، ثم بعد قليل من الصبر والتفكير ستدرك حتما أنه هذا أنت في عيون الآخرين... وأن تلك هي حقيقتك بلا تلميع ولا تنميق... بعيدا عن كل التودد والتملق.
مؤسف أن يكتشف بعد كل هذا العمر أنه حقير لهذه الدرجة!
حتى يشغل تفكيره بأمور أخرى حمل هاتفه وأرسل رقم "واحد" لأحدهم. ثم بعد بعض الوقت رن هاتفه فأجاب: مرحبا.
رد عليه الآخر التحية: أهلا بالأشيب الذكي، ماذا تريد؟
لم يهتم لسخريته وقال بهمس: يجب أن نتقابل هذا المساء.
رد عليه باقتضاب: سأتصل بك.
وأقفل الهاتف بوجهه، فحدق بهاتفه بحاجب مرفوع وهو يتمتم: سأدق عنقك ذات يوم يا قليل التهذيب!

♡♡♡♡♡

خرجت مروى إلى الحديقة فوجدت لؤي يخرج من المستودع ويديه بجيوبه من البرد، يسير باتجاه المدخل، وعندما التقت عيونهما لم يدر أيبتسم لفرحته أم يقطب لورطته.
ألقى التحية وهم بتجاوزها فسألته: أين أبي؟
توقف والتفت إليها ثم أمال شفته بعدم دراية: لا أعرف.
رسمت نصف ابتسامة حذقة وهي تقترب منه ببضع خطوات: أنت لا تعرف!... إذن أنا من ستخبرك... لقد عاد لمجونه أليس كذلك!
لقد أصابت عين الحقيقة فقد تركه ببيته الآخر يستعد لسهرة أنس طويلة وترك معه كل الحرس. بينما رجع هو إلى هذا المنزل ليبقي عينه متيقظة بسبب غياب رجال الحراسة.
تجاهل ما كانت ترمي إليه وحدق بها للحظات يستشعر قربها منه وفي نفسه رغبة مجنونة تعبث بعقله، ثم قال بصوت هامس: هل شفيت خدوشك؟
أجابته وهي تتأمل كفيها: أنا بخير.
هز رأسه مومئا وتابع طريقه ففاجأته وهي تمسك بذراعه: توقف من فضلك.
حدق بيدها قبل أن يرجع ويلتف إليها من جديد: ما الأمر؟
شعرت بالارتباك من حركتها الغير محسوبة وتجاهلت نظراته المتقدة ثم قالت بألم: أخبرني... ما الذي سنفعله الآن؟
همس لها وعيونه تراقب المكان: في الوقت الراهن يستحيل أن نتحرك...
بلعت ريقها لتتخلص من الغصة في حلقها: والأسرى... هل سننتظر حتى يقتلهم جميعا!
أحس بالارتياح من ذلك الخوف في عيونها، فإن كانت تشفق على هؤلاء فلابد وأنها تحرص على سلامتهم وتريد خلاصهم.
آلمه أن يراها تحمل كل تلك الهموم فوق كتفيها دون أن يتمكن من تخفيف العبء عنها، ولم يجد الكلمات ليواسيها فاكتفى بالقول: لا تقلقي... سأحرص على سلامتهم.
استطاع الافتكاك منها وسار باتجاه غرفته ليستحم ويبدل ثيابه. ثم عاد أدراجه وخرج إلى الشارع دون أن يأخذ سيارته.

كان يسير بأحد الأزقة الخالية عندما أظلم الليل وبدأ المطر بالهطول. حتى انتهى عند سيارة سوداء.
كانت سيارة عادية لا توحي بأن راكبها على قدر من الأهمية. لكن بالمقعد الخلفي كان يجلس محسن في انتظاره. ألقى عليه التحية وهو يرسل بخصل شعره المبتل إلى الخلف: كيف حالك أيها العجوز؟
رسم ابتسامة ساخرة وهو يرد: في أفضل أحوالي أيها العاشق الصغير...
تجاهل تلميحاته وقرر الدخول في صلب الموضوع: إن ابنك في أحسن الأحوال وبشير لن يصل إليه بهذه السهولة... أخبرني بربك لماذا تستمر في إزعاجي! دعني أهتم بما يجب فعله...
رد عليه باستخفاف: لا أراك فاعلا شيئا يا حبيبي... ربما مراعاةً لمشاعر حبيبة القلب!
لم يستطع إغضابه، واكتفى بالتحديق فيه بنظرات مستفزة: لن نقتل بشير حتى أتمكن من إنقاذ كل الأسرى... أخبرتك أن خطته تقتضي بتدمير كل المنشأة بمن فيها إذا حدث وأن مسه أي مكروه حتى لا يتمكن من كشف سره أحد. لم أستطع حتى الآن الوصول لخريطة توزيع المتفجرات التي زرعها حول المكان ولا لمعرفة الأشخاص الموكل إليهم هذه المهمة. كل ما استطعت معرفته أنه في حال تخلصنا من بشير فكل إمبراطوريته ستُنسف في لحظة واحدة... وهكذا سيموت كثير من الأبرياء ويُدفنون تحت الأنقاض.
بغضب حدق به ثم قال: أنت تعرف أنك لن تستطيع اختراق حواجزه الأمنية مهما بلغ ذكاؤك. وإن أخرجت أسيرا واحدا على قيد الحياة من هناك تعال واركلني!
رفع لؤي أحد حواجبه وناظره باستمتاع: سأفعلها بكل سرور... أعدك..
زفر بسخط: دعك من كل هذا وأخبرني ما الذي تنوي فعله.
صمت لبرهة ثم قال: بعد شهرين أو ثلاث سيسافر بشير إلى الخارج من أجل الأعمال. سأحاول أن أجعله يرحل من دوني حتى وإن اضطررت للتعرض لحادث... عندما يغيب سأستلم زمام الأمور من بعده. ولحظتها ستكون صلاحياتي أوسع في التصرف...
أبعد عيونه عنه بملل: خلال هذه المدة سيكون قد كشف أمر محمود وزوجته...
رد عليه بسخط: ألا تهتم إلا بابنك!.. أنسيت أن أمي وأبي في خطر أيضا!
قال زافرا: لا لم أنس.. أغرقتنا بجميلك يا ابني...
ثم أصبح صوته أكثر سخرية: أعلم أنك تخاف أن تؤذي مشاعر الجميلة صاحبة النظرة البريئة.
أجابه بنفاذ صبر: دعك منها الآن واهتم بعشيقاتك...
أصدر صوت تأفف ثم قال: تبنا إلى الله.
ضحك طويلا قبل أن يمد يده إلى مقبض الباب ويردد ساخرا: وهل تنوي الحج أيضا!
ثم نزل وأطل عليه قبل أن يقفله: خذ معك صاحبك بشير عله يغسل عنه دماء الأبرياء... وأخبره ألا يخبئ عشيقاته في حقيبة السفر...
هم بإقفال الباب ثم عاد وفتحه: طمني عليك يا لبيب قومك... هل أُصبت بالسيدا ودنى وقت أجلك؟
أجابه بحنق: لا سمع الله منك يا طويل اللسان... أغرب عن وجهي قبل أن أخرج إليك وأركلك...
ضحك متسليا ثم أقفل الباب وغادر. فهز محسن رأسه بملل وابتسم مرغما، ثم قام من مكانه ليقود سيارته ويرجع بها إلى المنزل.

عندما خرج لؤي من الزقاق وانعطف على يمينه يسير بمحاذات الطريق العام باتجاه موقف الحافلات القريب ليستقل سيارة أجرة توقفت بقربه سيارة بيضاء وفُتِح بابها. حنى رأسه بريبة ليتعرف إلى السائق فإذا بها مروى تدعوه للركوب.
جلس بالمقعد قربها وأقفل الباب فبادرته بالكلام: لقد تبللت كليا!
نظر إليها بحنق: كنت تلحقينني!
زمت شفتيها بعبوس وقالت: لأنك لا تقول الكثير... أردت أن أعرف سبب خروجك من دون سيارة...
زفر بسخط ولم يجرؤ على الصراخ بوجهها فحدقت به بعد أن طال صمته، لينهرها بحدة: لا تسأليني أي شيء!
لم تحتمل أن يهدر فيها بهذه الطريقة وهي المتعودة على الدلال... شحب وجهها وتبدلت ملامحها والتزمت الصمت التام. بينما بقي هو يصارع غضبه إلى أن استطاع تمالك نفسه، رغم علمه بأن محسن سيذبحه لا محالة... لقد تصرف من عنده ولم يستشره عندما قرر إخبارها، ولم يتقبل الآخر الموضوع ولم يهضمه بتاتا، لكنه صمت مجبرا لا مخيرا... لو أنها استطاعت أن تعرف بتعاونهما معا الآن يجزم أنه لن يسكت أبدا!
التفت إليها وسألها بهدوء: لماذا تتجسسين علي، ألا تثقين بي؟
ركنت السيارة جانبا وحدقت فيه: ليست الثقة... أنت لا تصارحني بما يدور في رأسك رغم أنني أريد مساعدتك..
حك جبينه يخفي حنقه واضطرابه محاولا التحلي بالهدوء: وماذا استفدت؟
صمتت للحظة ثم عقدت ساعديها أمامها وحدقت بالطريق: لم أره لكنني أجزم أنه محسن...
توسعت عيونه وهو يحدق فيها ساخطا دون أن تتجرأ على الالتفات إليه. فحاول أن يماري كلامها: محسن!... لا أفهم لمَ ذهب تفكيرك نحوه!
إلتفتت إليه عاقدة حواجبها فعرف أنها ستقصفه بحجة دامغة: إنه هو من حمل حذائي وهاتفي إلى الغرفة بعد أن تركتهما في المكتب تلك الليلة... أتذكر!
صمت مفحما، ففي تلك الليلة عندما خرجت من المكتب مخلفة وراءها حذاءها وهاتفها، دخل إليه بعد أن حملها إلى غرفتها ورتب كل ما عبثت به معيدا كل شيء إلى مكانه. ثم ترك الكيس الذي يحمل أغراضها لمحسن بعد أن أرسل له رسالة نصية فحمله إلى غرفتها بعد أن استأذن بشير للاطمئنان عليها، لأن لؤي كان سيلفت الأنظار إليه لو أن أحدا من الخدم شاهده.
اعتصر عيونه بتعب وهو لا يدري إن كان سيصارحها أو يستمر في الانكار. فجاءه صوتها هامسا برجاء: صارحني.. ولا تكذب علي.
سألها دون أن ينظر إليها: وهل أستطيع الوثوق بك!
أجابته بإصرار: لقد وثقت بي وانتهى الأمر... وأنا عند ثقتك صدقني.
التفت إليها فقابلته عيونها المتوسلة: أنا لن أبيعك لأحد ولن أعرضك لأي مكروه... لن أقول كلمة أقسم لك...
رق قلبه عليها وهو العاشق لكل شيء فيها فكيف لا يرضخ لتوسلاتها ويصدق وعودها مغمض العينين مستعذبا نغمة صوتها الرقيقة تهمس في شجن.
الحب أضعفه... ربما كان معه حق محسن عندما قال له يومها أن دخول مروى إلى هذه اللعبة سيغير من قوانينها ويجعله خاضعا لها...
رجع برأسه إلى الخلف وأرخاه على المسند مغمضًا عيونه يأخذ مهلة للتفكير وبقيت هي تراقب قطرات الماء وهي تنزلق من شعره ترسم طريقها على وجهه ثم تختفي عندما تلامس شعر ذقنه الخفيف.
قال بعد طول صمت: لقد جمعتنا الصدفة...
أرهفت السمع بانتباه بينما تابع هو: عندما قررت الانقلاب ضد والدك أول شيء هممت بفعله. هو إفراغ السجون... لقد حاولت أن أُهرِّب الأسرى لكنني فشلت. وكان يومها محسن شريكا لبشير فعلم بالأمر قبله. وتخلص من كل الشهود ثم أحضرني إليه وبدأ في استجوابي... اعتقدت يومها أنني ميت لا محالة وصارحته بكل الحقيقة... أخبرته أنهما مجرمين وأنني لن أغرق معهما أكثر... لكنني تفاجأت به يطلق صراحي ويخبرني بأنه لن يخبر بشير بما حصل... وأنه هو أيضا يفعل كل ما بوسعه ليتخلص من شراكته معه... يمكن القول أنه انقطعت علاقتنا بعد تلك الحادثة، ولم يطلبني إلا مؤخرا.
توقف عن الكلام فافترضت من عندها: لأنه خائف من أن يؤذي والدي محمود بعد طلاقنا...
تجهم وجهه بمجرد أن جاءت على ذكر اسم طليقها: أجل...
لم يضف أي كلمة فبقيت تفكر للحظات ثم نطقت من جديد: إذن محمود لم يكن شريكًا لأبي!
بدأ الموضوع حقا يزعجه لكنه لم يتهرب من الاجابة: إن رفض والده الشراكة فلا أعتقد أنه قبل بها...
نظر إليها وسألها بجرأة: لماذا تبحثين حول الموضوع؟ أمازال يهمك أمره!..
استنكرت سؤاله وعبست بوجهه: هل تراني غبية لألهث خلف رجل يفضل أخرى ولا يراني سوى حجرة عثرة في طريقه!
أراحته كلماتها رغم تخوفه من أنها تحمل له بقلبها بقايا جمرات حب قد تلتهب من جديد...
قال بعد صمت: والدك يرفض تماما أن ترجعي إليه من أجل أي سبب كان... قد يقتلكما معا...
ناظرته باستغراب: وهل تراني بلا كرامة لأرجع إليه!
صمتت لبرهة ثم أردفت: لم تقول هذا!
عبث بأظافره ثم قال: حتى تضعي هذا ضمن حساباتك...
تأففت من الموضوع وأعادت تشغيل محرك السيارة ثم انتبهت وشغلت مكيف الهواء للتدفئة: لابد وأنك تشعر بالبرد... ستمرض بكل تأكيد.
ابتسم لحنانها ورقة قلبها ولم يقل أي كلمة فأقلعت بالسيارة وهو يتأملها بحب بين الفينة والأخرى. ثم قال: لا تنسي أن تنزليني عند ناصية الشارع. لا أريد للخدم أن يثرثروا بالموضوع. تلك المرة عندما أوصلتك لم أسلم من فضول ريم وأسئلتها... لا بد وأنها تشك بوجود شيء بيننا.
حملقت فيه للحظة بسخط وعادت لتنتبه لقيادتها ثم هدرت بغضب: وما شأنها تلك الفضولية فيما يدور بيننا!... الأفضل أن أزورها بالمطبخ وأعلمها الأدب...
قاطعها باستهجان: ماذا!... هذا ما سيجعلها تتأكد من الموضوع... دعينا ننتبه لتصرفاتنا وحسب.
لم تهدأ ثورة غضبها فتابعت تقول: إذن سأسرحها... هكذا لن تتسبب في المشاكل لنا.
أجابها من فوره: دعي الفتاة وشأنها ولا تتسببي في قطع رزقها.
تمتمت بحنق: لابد وأنك معجب بها.
لم يسمعها فالتفت إليها: ماذا قلتي؟
أرسلت إليه بنظرات حارقة قبل أن تنتبه للطريق أمامها: لابد وأنها معجبة بك لترصد تحركاتك! أنا أعرف حركات الفتيات تلك...
ضحك والتزم الصمت فتوقفت بالسيارة بقوة حتى احتكت عجلاتها بشدة وكادا يرتطمان بالزجاج لولا حزام الأمان. فمرت بقربهما بعض السيارات المزمرة انزعاجا. بينما التفتت إليه مقطبة وعيونها تتهمه: لم الضحك!.. هل قلت ما يضحكك!
أجابها بغضب: ولم الصراخ!... ما بك!
ردت بصوت أعلى: أنا لا أصرخ!
حاول جاهدا تمالك نفسه ثم نظر من حوله: أفضل المشي سيرا على الأقدام... المطر سيطفئ لهيب غضبي.
وفتح الباب ثم أقفلها بالقوة خلفه دون أن تتمكن من ردعه. فراقبته يبتعد عنها ماشيا تحت المطر وشعرت بمزيد من القهر فانطلقت بسيارتها بقوة وهي تتنفس بغضب.
أما هو فقد كان يراقب سيارتها تسابق الريح مبتعدة ولم يخطر بباله أنها تغار عليه إلا بعد أن اختفت من أمام عيونه. ابتسم للحظة وهو يخمن أن ضيقها واستنكارها نابع من شعورها بالغيرة ليس إلا... تحولت ابتسامته لضحكة انتصار وهو يتابع سيره تحت زخات المطر والناس من حوله يظنونه مجنونا.
♡♡♡
أغمضت عيونها بحب وابنها بين ذراعيها ينام قرير العين.
لقد توجهت هذا المساء رفقة أبيها وأخيها الأكبر إلى منزل حمويها واستعادت ابنها منهما. بدت هناء حزينة ومستاءة وحاولت طلب الصفح منها لكنها تجاهلتها ونزلت مع ابنها إلى السيارة تاركة والدها وأخيها يمثلون أصول اللباقة مع سالم وزوجته.
لقد آذوها بما فيه الكفاية وليست مستعدة لأن تمنح الغفران لأحد... حقها عاد إليها وابنها بين أحضانها ولن تسمح لذكريات ذلك المختل أن تمحي كيانها.
حمدت الله أنها لم تلتقه بالمنزل لكنها اصطدمت به وجها لوجه عند مدخل البناية. حملق فيها بغل وقهر، ثم همس لها بفحيح: لا تفكري أبدا في أنك نلت مني... كيف استطعت جعل ذلك الثري يقف بصفك!.. فضولي يدفعني لأخمن ما دفعته له ثمنا!... أراهن أنه يملك من المال الكثير فكم ساعة جُدتي عليه فيها بجسدك الممشوق ذاك!..
كانت تريد صفعه وتعليمه الأدب لكنها اتقت شره وقررت أن تأخذ ابنها وتنصرف فأمسك بذراعها ولفها إليه، ثم قال بوعيد: أقسم أن أجعلك تدفعين الثمن يا سهام... وسأذلك مثلما أذللتني صدقيني... سأجعلك تندمين.
نفضت يدها منه وركبت السيارة مخلفة إياه وراءها. لقد أخافتها كلماته... خصوصا عندما تخرج من فم شيطان لا يخاف الله.
شددت من احتضان ابنها إليها وهي تستنشق شذا عطره الذي اشتاقت إليه. وعيونها تذرف الدموع فرحا وسعادة.
الشكر والمنة لله وحده. ومن بعده لمحسن الذي سخره الله ليكون ذراعها التي تبطش بفادي وتلقنه ما يستحقه.
♡♡♡
وصل إلى البيت يقطر ماءا والابتسامة لا تفارق شفتيه. غيرة مروى عليه انتصار يرضي قلبه الكسير ويجبر كل عواطفه المكلومة. دخل من الباب وعيونه تبحث عنها وكما توقع سمع صوتها هي وأمها في غرفة الطعام فتعمد المرور بالقرب من المكان ليشاهد اكفهرار وجهها. شاهدته ريماس فصاحت به متفاجئة: لؤي! أين كنت؟
انتبهت إليه مروى وراحت تناظره من زاوية عينها فقال مبتسما: كنت بالجوار...
قالت بعتاب: سوف تمرض... عليك أن تبدل ثيابك سريعا فالجو بارد.
أجابها منصرفا: سأفعل فقد تجمدت أطرافي.
بعد أن أخذ حماما ساخنا ولبس ثيابا دافئة خرج إلى المطبخ فاستقبلته ريم بحفاوة: مرحبا سيد لؤي أسكب لك طعاما؟
سحب لنفسه كرسيا ليجلس وهو يقول: القليل من فضلك.
وضعت أمامه كل ما يحتاجه ومن ثم جلست في الكرسي المجاور لكرسيه: كيف كان يومك؟
شعر بغصة في حلقه خوفا من أن تظهر مروى وتتحول غيرتها إلى لعنة.. ولم يفتح فمه ليجيبها إلا وكان صوتها بالرواق يسبقها تحدث احدى الخادمات.
ضرب بقبضته على صدره وأسرع باتجاه صنبور المياه يملأ كأسه. فلم تلبث أن دخلت هناك وألقت بنظرة على المكان. فقامت ريم من جلوسها ورحبت بها: مرحبا بك سيدتي...
أومأت برأسها ولم تغفل عن طعام لؤي المجاور لكرسيها ثم حملقت به يرتشف كأسه دفعة واحدة. وقالت بحنق: ساعدي شاهيندا في تنظيف قاعة الطعام.
همست: حاضر
ثم انصرفت من هناك. فبقيا لوحدهما بالمطبخ. وضع لؤي كأسه والتفت إليها، فأشارت لإبريق الماء قائلة: تلك مياه صالحة للشرب... أما ما شربته فيمر عبر الأنابيب.
رجع إلى كرسيه وهو يرد عليها: لا تخافي لن أموت.
وضعت يدها على خصرها بتحدٍ والحنق باد على نبرة صوتها: لماذا أخاف يا ترى!..
وجد نفسه يقف إليها ويقترب منها حتى أصبح في مواجهتها. تراجعت إلى الوراء لتحفظ المسافة بينهما، فطواها في بضع خطوات ولم تستطع أن تتملص منه بعد أن لامس الجدار ظهرها ووضع قبضته قرب رأسها ليمنعها من الفرار.
حملقت فيه بعيون متوسعة وقلبها يخفق بشدة وقالت بصوت يغلب عليه الوجل: ماذا دهاك!
تأمل عيونها متبسما يراقب اضطراب تنفسها دون أن يقول كلمة، فحاولت إبعاد يده لتخرج: لو سمحت...
وجدته يهمس لها: لماذا أتيت؟
عادت لتنظر إليه عاقدة حواجبها: أذهب أين أريد أم أنك تمانع هذا!
أجابها: على الإطلاق..
شهقت بقوة عندما اقترب منها أكثر متعمدا ليربكها، وتاقت نفسه حقا لأن يحتضنها وتستأنس روحه بدفء روحها... لكنه منع نفسه عنها بالقوة.
فانسحب بهدوء متأملا احمرار وجنتيها. ثم همس لها ليصالحها: سنبقى على تواصل... سأخبرك بكل جديد. ولا تنسي أن تبلغيني بكل ما تسمعينه... سنضبط خطتنا بعد بضعة أشهر ويجب أن ننجح.
هزت رأسها مومئة فأبعد كفه عن الجدار لتفر من أمامه في الحال. حتى كادت ترتطم بريم التي تحمل أواني الطعام.



noor elhuda likes this.

بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 30-08-21, 06:31 AM   #55

أزهار الفل

? العضوٌ??? » 476182
?  التسِجيلٌ » Aug 2020
? مشَارَ?اتْي » 252
?  نُقآطِيْ » أزهار الفل is on a distinguished road
افتراضي

شكرآ لك على الرواية 🌿🌿🌿🌿🌿

أزهار الفل غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 31-08-21, 01:54 AM   #56

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة أزهار الفل مشاهدة المشاركة
شكرآ لك على الرواية 🌿🌿🌿🌿🌿
العفو
شكرا لك على المتابعة


بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 31-08-21, 01:59 AM   #57

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل السادس والعشرون:

حزم الشتاء أمتعته للرحيل.. ومسحت السماء كل دموعها لتشرق شمس الأمل من جديد، وتجدد وعودها بغد أفضل وأيام لا تكدرها العتمة...
ها هي الأيام تمضي سريعا لتطوي ثلاثة أشهر من الزمن. عندما تدور xxxxب الساعة فإنها تأخذ من عمر الجميع ولا تستأذن أحدا...
إنها أواخر الربيع. وهناك بأعالي الجبال، تباهي الأرض غيوم السماء ليرقص الأخضر من أثوابها مع هبوب الرياح وينشد حفيفا عذبا بلا كلمات...
كانت نسرين جالسة بمحاذات جدول صغير تنثر بتائل الورود واحدة بعد أخرى. وتتأملها وهي تجري مع المياه نحو الأراضي المنخفضة.
لقد أمضت أياما ممتعة هنا و اعتادت على سكون المكان وصفائه، كما أن يامنة وفاروق كانا نعم الأهل لغريبين مثلهما هربا من أزقة القدر الضيقة إلى شوارع الوحدة الخالية...
اقترب منها محمود واضعا كفيه بجيوبه وهو يتأمل شرود وجهها الباسم حتى وصل قبالتها فانتبهت إليه: محمود! اعتقدت أنك توجهت إلى المدينة رفقة العم فاروق!
اقترب أكثر وتخير له مكانا ليجلس بمحاذاتها ثم همس لها وهو يضم كتفيها إليه: أحمد الله كلما رأيتك صافية البال وهادئة... لا تعرفين كم يسعدني أن تكوني مرتاحة!
أرخت رأسها على صدره: وجودك بقربي نعمة أسأل الله ألا يحرمني منها.
صمتا لبرهة يتأملان جدول الماء يجري وخرير تدفقه يداعب سمعهما. كل منهما كان شاردا في عالمه... نسرين تتطلع لمستقبل آمن، ومحمود يحاول أن يبني أفكاره ليرسي خطوته المقبلة فقد اتصل برقمه القديم المقفل الضابط وائل وأكد عليه في عدة رسائل أن يحضر للإدلاء بشهادته في المحضر. كما أن أسامة الشقيق الأكبر لنسرين قد طلبه عدة مرات وعندما عاود الاتصال به أخبره أنه قد تحدث لكل الأسرة وأنه يجب أن تحضر نسرين بنفسها لتقابل والدها فهو أهم فرد بكل العائلة ورضاه يعني رضاهم جميعا.
ليس يدري حتى الآن كيف سيفتح معها هذا الموضوع وما قد يكون رد فعلها! عليه أن يمهد لها تمهيدا يليق بمثل هذا الحديث، خصوصا فيما يتعلق بوليد فهي حتى الآن لم تعرف بأن الشرطة احتجزته... وإن حدث وأن قررت مسامحته سيتحتم عليهم العودة للعاصمة من أجل التنازل على القضية...
زفر بإعياء فابتعدت عنه لتنظر إلى وجهه المهموم ثم داعبت بأصابعها وجنته مرورا بذقنه وهي تهمس له بحب: ما يتعبك يا قلبي؟
قبل أصابعها التي دنت من شفاهه وتنهد: لا شيء... لا تشغلي بالك.
ثم تلمس بطنها الصغير بحنو: هل يكبر صغيري؟
ضحكت بحماسة، فأكثر ما يسعدها هو ذلك الشعور الجميل الذي بات ينتابها، عواطف جياشة تسمى الأمومة... فالمرأة لا تصبح أما عندما تلد صغيرها، ولكنها تصبح كذلك ما إن تحمله في أحشائها... لقد أضحت هذه الكومة الصغيرة النابضة في عمق أحشائها خيطا من خيوط السعادة وسببا من أسباب التشبث بالحياة حتى آخر رمق.

♡♡♡
سافرت مروى قبل أيام إلى أروبا عند صديقاتها لتخرج من اكتئابها واليوم موعد رجوعها.
عادت من سفرها بعد أن لملمت شتات نفسها... قضت أياما طويلة في غربتها تجول بالشوارع وتحكي للأزقة قصة معاناتها. لقد جالت في بعضٍ من مدن أوروبا الساحرة والتقت ببعض من أصدقائها المهاجرين هناك. ورغم أن كل أمورها سارت بشكل رائع إلا أن غصة كانت تخنقها وشعورها بالخذلان أحرقها.
خرجت من المطار تجر حقيبتها ونظرت على طول الرصيف علها تجد أحدا من سائقي والدها وقد جاء ليقلها...
متأكدة من أن والدها لا يزال غاضبا منها بعد آخر مشادة كلامية لها معه. لقد استفزها أن تسمعه يتحدث إلى إحدى عشيقاته على الهاتف ولم تتمالك نفسها عندما سألها عن محمود وإن كانت تقابله أو أنه مازال يتصل بها.
هي لم تكن تعرف أنه يبحث عنه دون أن يجد له أثر وأراد منها رأس الخيط فقط. أحست بأنه يستجوبها ويحد من حريتها في حين أنه يعيش الفسق على سجيته.
تذكرت ما أخبرها به لؤي عن استعداده لقتلهما معا إن حدث ورجعت إليه، فلم تستطع ألا تتلاعب به وتحرق أعصابه تماما مثلما يفعل بهم حتى وإن كانت ستلعب بالنار. قالت له بمكر: أجل لقد حدثني قبل أيام وعرض علي الرجوع إليه...
استشاط غضبا كثور هائج فاحمر وجهه وبرزت عروقه. وتمكن منها الشعور بالرضا بعد أن نجحت في استفزازه... ذاقت أخيرا حلاوة الانتصار على هذا الغول الذي لا يعرف الرحمة.
هدر فيها بصوته المجلجل محذرا ويداه تعلوان وتهبطان بغضب وكأنه على استعداد تام لخنقها. فتراجعت إلى الوراء وقالت بتشف مستتر: أنا أحبه يا أبي... لا يمكنك أن تفرقنا عن بعض...
جاءت العاصفة بعد ذلك وكاد يقلب الطاولة بوجهها فاستعدت للهرب بعد أن قالت بتحدي: سأهرب معه ونتزوج من جديد ولن تمنعنا.
وفرت على إثرها باتجاه غرفتها قبل أن تصل يداه إليها وهي تشعر بحماسة الانتصار. فاصطدمت بصدر لؤي قرب المدخل ولم تر في حياتها أحدّ من تلك العيون التي قابلتها بنظرة لم تفهمها... أهي كره أم سخط أم ربما خذلان!
شعرت بالوهن بعد أن كانت نشوة الانتصار تراقصها، ودون مقدمات ابتعد من أمامها وسار نحو والدها الذي كان يطلق كلمات وعيده وإبهامه يرتفع بصرامة مؤكدا على كل كلمة ينطقها... لم تكن أذناها تستوعبان ما يلفظه فقد كانت عيونها تلحق بالآخر الذي أهانها بنظراته قبل أن يوليها ظهره.
انتفضت في مكانها بسخط ثم تابعت سيرها إلى غرفتها على عجل. وفي تلك اللحظة بالذات فكرت في الفرار... في ترك المنزل علها تخلص لقرار... الكل يتلاعب بمشاعرها. بدءا بمحمود عندما تزوجها، ومحسن عندما كذب عليها، وأمها التي تقول أنها بخير وهي تتهاوى من سيء لأسوأ، وصولا لأبيها المجرم السفاح الذي يخبرها أنها أحب الناس لديه وكأن من يقتلهم ليسوا أحب الناس إلى أهاليهم!... ثم... لؤي ذلك الرجل الذي لم تعد تفهم لا ما يريده منها ولا ما تريده منه...

تنهدت بألم وهي تعيد خصل شعرها الأشقر خلف أذنها والتفتت من حولها لتجد لؤي يقف قربها. لم تفهم حقيقة تلك الابتسامة التي ارتسمت على شفتيه عندما التقت نظراتهما... بعد كل ما سمعه ورغم كل ما تخيله لم يستطع أن لا يفرح برؤيتها من جديد!
شعرت بدقات قلبها تخفق بشدة كمذنب ينتظر الافراج عنه، كانت تقول لنفسها "لابد وأنه فهم أنني لم أكن أقصد ما قلته"
انمحت الابتسامة عن شفتيه سريعا لتحل محلها نظرة عتاب أثقلت عليها تنفسها حتى أنها كادت تقسم له أنها بريئة ليرحمها من عدوانه! وأنها فعلت ذلك انتقاما من والدها ليستكين قلبها المغتاظ منه ولو قليلا. لكنها تداركت نفسها بالأخير وحاولت أن تحافظ على هدوئها.
اقترب منها وأخذ بمقبض الحقيبة فأفلتتها لينساب صوته الهادئ في مسامعها: كيف حالك؟
هزت كتفيها بتعب وحاولت ألا تبدي انفعالها: بخير...
سارت خلفه على الرصيف حتى وصلا إلى السيارة فوضع الحقيبة في الصندوق الخلفي وأراد أن يفتح لها الباب لتركب فسبقه يدها إلى المقبض ووجد نفسه يشد عليه... ورغما عنه استعذب نعومته.
رفعت رأسها إليه وطرفت بعينها للحظة وقد سرت قشعريرة في سائر جسدها.
سحب يده معتذرا وتركها لتصعد على متن السيارة ودار هو حولها ليجلس في مقعد السائق. أول ما قام به عندما أصبح في الداخل هو ضبط المرآة الأمامية ولم ينس أن يرسل بنظراته للجالسة خلفه والتي بدورها لم تغفل حركاته حتى شعرت بالارتباك يتملكها.
قالت بعد أن جلت بحة بصوتها: لماذا لم يأتي السائق؟..
شغل المحرك وهو يرد عليها: هل يزعجك مجيئي؟
كادت تتفوه بالحماقات وتخبره أنها ظنته غاضبا منها، لكنها تداركت أمرها وتجاهلت الشرارات التي تدور بينهما تماما مثلما يتجاهلها هو: لا... ليس بهذا المعنى. لكنك مختص بشؤون أبي ولا تخدم غيره.
عاد ونظر إليها في المرآة من جديد وهو يتقدم بالسيارة إلى الأمام: هو من أرسلني إليك...
التزمت الصمت بعدها وأشاحت بوجهها جهة النافذة لتراقب الطريق. إنّ ما غاب عنها وجهلته. أن والدها لم يمنع سفرها إلا لأنه كان يترصد كل حركاتها ليلقي القبض على محمود، ظنا منه أنهما سيلتقيان في مكان ما. لكنه عاد لنقطة الصفر من جديد وها هي ذي تعود إليه دون أن يظهر محمود بالصورة. لكن ما لا تعرفه بعد هو ما قام به والدها صاحب الأفكار النيرة ليمنع زواجها المزعوم من عدوه اللدود... لقد عقد قرانها مباشرة بعد سفرها على رجل غيره حتى يبطل شرعية أي زواج مدني قد يعقدانه معا في غفلة عن عيونه التي لا تغفل أصلا. فعل ذلك بكل غطرسة و إصرار متجاهلا حق المطلقة في اختيار عريسها. إذ أنه الوالد الشرعي لها وفي اعتقاده يرجع الحق له وحده في تقرير مصيرها... وها هي الآن أضحت زوجة رسمية بكل المقاييس لرجل مجهول دون حتى أن تعرف!

♡♡♡♡
باتت سهام حرة كالعصفور تفرش جناحيها للريح حتى تطير.
وجودها في منزل أبويها ورعايتها لابنها أنسياها أيام النحس التي عرفتها من قبل... لكنها ظلت ممتنة لمحسن الذي لم تسمع أخباره منذ مدّة طويلة.
خرجت اليوم إلى السوق لتشتري بعض الأغراض لها ولابنها. كانت تتخير من المحلات ما يثير إعجابها ويناسب ميزانيتها. لقد مضى زمن طويل منذ آخر خرجة لها إلى هذا المكان. يومها أضاعت ابنها وكادت تموت من حسرتها. لكنها اليوم جاءت لوحدها حتى لا تكرر نفس الخطأ ولكي تنهي جولتها مبكرا وترجع إلى المنزل.
ألقت بنظرة سريعة داخل أكياسها وتأكدت من أن هذا كل ما تحتاجه ثم توجهت صوب المخرج علها تفلح في توقيف سيارة أجرة قبل أن تصبح الشمس في كبد السماء.
غفلت تماما عن زوج العيون الذي كان يراقبها... لقد رصد تحركاتها خطوة خطوة منذ خروجها من المنزل وهو يعد العدة للانقضاض عليها.
كانت منشغلة بترتيب أكياسها عندما توقفت قرب أقدامها سيارة لم تكد ترفع رأسها لتميز لونها حتى دفعها أحدهم من الخلف بالقوة وأجبرها على الركوب. حاولت الصراخ وهي تهاجمه لتخلص نفسها لكنه كان أسرع فكمم شفاهها بيده الخشنة و حاوط جسدها المنتفض بشدة بذراعه حتى يشل حركتها وأقلع السائق بسرعة في عملية اختطاف ناجحة وسريعة.
بعد أن وهنت قواها من محاولاتها اليائسة في التحرر من قبضته سكنت حركتها وبدأ نحيبها يعلو تكتمه تلك اليد البغيضة التي استباحت وجهها.
لم يمض زمن طويل حتى توقفت السيارة في مكان خالي ليس به إلا بعض المستودعات والخردة. فشعرت بمختطفها وهو يسحبها من شعرها إلى الخارج عنوة ثم دفعها لتقع أرضا.
اصطدمت بقوة فتعفر وجهها وغطى التراب آثار الدموع. تحاملت على آلامها ورفعت رأسها باتجاه مختطفها تترجاه أن يرأف بها. ولكنها لم تتجرأ على النطق بكلمة عندما شاهدت وجهه الخبيث والغل يملأ مقلتيه. حنى شفته المقيتة بابتسامة ساخرة وقال لها بتشفي: ها قد نلت منك كما وعدتك أيتها اللعينة!.. أكنت تعتقدين أنها محض كلمات لا وزن لها!
تراجعت إلى الخلف وسحبت ساقيها نحوها تغطيهما بثوبها في خوف شديد وهي لا تقوى على قول كلمة. كل ما استطاعت النطق به كان لفظ اسم السافل بحشرجة: فادي!...
اقترب منها أكثر ليركلها بقوة: أجل إنه أنا... ماذا تريدين يا أميرتي؟
قالها بتهكم شديد فطأطأت رأسها بقهر تذرف دموعها ويدها تشد على موضع ركلته. وماهي إلا لحظات حتى أقبل السائق ووقف بالقرب منه: دعها الآن. لقد وعدتني بها أم أنك ستنكر هذا!
رفعت رأسها وقد ارتعدت فرائصها ذعرا ليقابلها طول فارع لرجل لم تشاهده من قبل، له وجه تشوهه ندبة سكين وعيون تملؤها الرغبة. صرخت بقوة وحاولت الفرار لكنه أطبق عليها كما يطبق الذئب على فريسته وأصبحت بين ساعديه لا تستطيع الحراك.
استغل فادي الفرصة واقترب منها ليضرب وجنتها بخفة واستهزاء: ستتعلمين الأدب يا صغيرتي... وسآخذ بثأري منك بعد أن أجعل منك منشفة لأكثر من رجل. حتى لا تفكري بالنظر لوجهك في المرآة من جديد.
صرخت بيأس تتوسله: أرجوك... لا تفعل هذا بي. أنا أم ابنك يا فادي...
ابتسم باستخفاف متأملا وجهها الشاحب من الصدمة وكأنها ميتة لا تجري بها الدماء ثم قال لصاحبه دون أن يبعد عيونه عنها: هي لك.
كان مستمتعا بصراخها الذي ملأ المكان. ولصداه المتردد من المستودعات الخالية... والرجل الضخم يحملها ويسير بها مبتعدا حتى ألقى بها في زاوية ما من تلك المفرغة فوقعت على وجهها ولم تعد تسمع إلا رنين حزامه.
راحت تلهث بيأس والروح تكاد تفارق جسدها... تجمدت الدماء في عروقها حتى أصبحت تشعر بالشلل في أطرافها. أين هم أهلها!.. أين هو محسن لينقذها!.. أين سالم ليشاهد ما يفعله ابنه بها!... بل أين المارة من الناس ممن شاهدوا هذا النذل يختطفها! ألم يبلغ الشرطة أحد!
شعرت به يسحبها إليه من ساقها بالقوة، وهي عاجزة تماما عن ركله. وكان الوغد الآخر واقفا يصورهما بهاتفه. وعندما أصبحت وجها لوجه مع الوحش الجائع لها أغمضت عيونها بشدة، لكنها لم تستطع ألا تشم أنفاسه الكريهة.
أطياف من الماضي زارتها في ظلمتها. كم كانت معاناتها مع الاضطهاد طويلة... طويلة بلا نهاية، فكلما خاطتها من جهة تفتقت من جهة أخرى...
إنه فادي... هو لعنة حياتها... ذلك الرجل الذي طرقت أبواب الشعوذة والدجل من أجله... إنه نفسه الرجل الذي ضبطته في شذوذه يمارس الرذيلة... هو من أخذ منها ابنها... هو من جعل منها مجنونة... هو من أهان أنوثتها ولم يترك شيئا لم يفعله!...
وها هو الآن يذل كبرياءها ويمسح الأرض بكرامتها...
دوت صرختها في المكان: لاااااااااااااااااااااااا ااا
وبقوة وضعت أصابعها في عيون عديم الضمير الذي كان يقترب منها ليبدأ التهامها، كما يثب الذئب على فريسته. وشعرت بسيلان ماء يسراه يجري بين أصاعبها فأيقنت أنها قد فقأتها...
انتفض يصيح بأعلى صوته وهو يضع كلتا كفيه على وجهه، فاستغلت فرصة انسحابه وقامت من انبطاحها تسابق الريح كغزالة تفر من صيادها بلا وجهة وقد سرت الادرينالين في عروقها فلم تعد تلك الجثة الهامدة التي كانت عليها. وانطلق فادي خلفها ليمنعها من الهرب حتى لا تنشر الفضيحة.
♡♡♡♡
دخلت المنزل ومن خلفها لؤي يحمل حقيبة سفرها، فأسرعت إليها ريم لترحب بها بلباقة وعيونها الزرقاء تختلس النظرات للطويل العريض الواقف قرب المدخل يقفل الباب من خلفه.
أشارت لها بغيظ أن تحمل الحقيبة إلى غرفتها حتى تصرفها، فأقبلت على لؤي بوجه بشوش وهمست له ببعض الكلمات التي لم تستطع فهمها قبل أن يسلمها ما يحمله. التفتت إلى كليهما بنظرة حادة فقابلتها ابتسامته الدافئة التي تؤمن أنها حكر وملك لها وحدها، فلا يحق لريم هذه أن تحظى بها...
راقبتها تبتعد عن المكان ثم حولت نظراتها من جديد إليه لتشاهده يتتبعها بعيونه وهي تصعد الدرج. أصدرت صوت زفير يحمل الكثير من سخطها فشخص ببصره فيها متسائلا دون أن ينطق بكلمة فشمخت بأنفها في السماء بعنفوان وحولت وجهها بعيدا عن مرمى بصره وهي تغلي وتفور من تصرفه فأغلب الظن أن علاقة الاثنين قد تطورت أثناء غيابها!
انسحب من المكان في صمت دون أن يقول كلمة وتركها تتبع خطواته بعيونها الحزينة... لم يرحمها ولم يقل أي كلمة تصالحهما!.. بل من قال أنهما متخاصمين. وهل ستعزو بروده هذا إلى الخيبة التي تلقاها بعد أن سمع ما سمع منها! ربما كان بسبب علاقته الجديدة بريم!
ريم! هذا الاسم الذي أضحى يخنقها... عليها أن تجد لها حلا سريعا.
وجدت نفسها تقف وحيدة في القاعة الفسيحة فسارت باتجاه الدرج لتصعد إلى غرفتها وقبل أن تضع قدمها على أولى الدرجات سمعت والدها يحدث أمها وهما يسيران باتجاهها فانتظرت نزولهما وبادلتهما العناق والترحاب.
التزمت الحذر التام في التعامل مع أبيها ولم تفتح معه أي نقاش من تلك المجادلات العالقة بينهما وقررت أن تفسح لأمها المجال حتى تثرثر نيابة عن الجميع.
بدى بشير هادئا كمن حقق نصره وطوى المعركة لصالحه. ساورتها شكوكها إزاء تلك النظرة المتغطرسة التي توحي بالسيطرة التامة على كل شيء. شيء ما كان يخبرها أنه يخبئ لها مفاجأة من العيار الثقيل. لكنها أبدا لم تعرف ماهي!
صعدت بعدها لترتاح بغرفتها وبعد بعض الوقت نزلت لتتناول طعام الغداء مع والديها. كانت هادئة تتناول طعامها في صمت تام على غير عادتها. سألها والدها: من عادتك أن تقصي علينا أخبارك خلال سفرك... ألم تستمتعي بالرحلة هذه المرة!
توقفت عن تناول طعامها وأجابته ببرود: في الحقيقة أجل... لم تكن رحلة ممتعة.
عاد لتناول طعامه دون تعقيب واكتفت أمها بإرسال نظراتها الحزينة تجاهها إذ أنها تعرف جيدا ما يخبئه بشير لها. بينما قامت هي من جلوسها بملل: بالصحة والعافية.
سألتها أمها باستنكار: إلى أين؟
اغتصبت ابتسامة تداري بها قلقها وهي تجيبها: سأتمشى خارجا.
مرت بالمطبخ فلم تجده وتابعت طريقها إلى الحديقة الخلفية فلم يكن هناك. ثم توجهت إلى المستودع فلم تجد سيارته. عندها عرفت أن لؤي خارج المنزل.
رجعت أدراجها تتمشى في الحديقة ببؤس حتى دخلت المنزل فوجدت أمها واقفة وعلى وجهها أمارات الخوف والوجل. اقتربت منها بذعر وسألتها: هل أذاك والدي من جديد؟
حملقت فيها بأسى فازداد توترها واستطردت: أخبريني ما الذي فعله بك هذه المرة!
أجابتها بقهر: ليس بي... بل بك.
توسعت عيونها من الدهشة وهي تحاول فهم ما تشير إليه والدتها: ماذا فعل يا أمي؟
دارت أمها في المكان بارتباك تخشى التصريح بالحقيقة خوفا من ردة فعلها، فأمسكت بذراعها متوسلة: أخبريني أمي أنا أرجوك... أخبريني ما الذي فعله أبي!
توقفت في مكانها متمسكة بكفيها وقالت برجاء: عديني أن تلتزمي الهدوء ولا تتصرفي بعصبية.
أجابتها على الفور والفضول يفترسها افتراسا: أعدك أمي... تكلمي أنا أرجوك...
تنهدت قبل أن تصرح لها: لقد عقد والدك قرانك على أحد موظفيه حتى لا تتمكني من الزواج من محمود مرة أخرى.
سقط فكها من الدهشة وأصبح تنفسها بطيئا... لم يستطع عقلها استيعاب الصدمة فشدت على أصابع أمها بقوة وهي تردد بهستيريا: أنت تمزحين!... أنت تمزحين!
حركت والدتها رأسها نفيا في نظرة متأسية. فانتفضت بغضب وأسرعت باتجاه المكتب لعلمها أن نمرود الأسرة العتيدة سيكون هناك.
دفعت الباب بقوة وولجت إلى الداخل وأمها من خلفها تحاول منعها. فصرف من كان عنده ورمقهما بنظرات حادة وساخطة: ما الذي تريدينه!
أجابته بقهر: صحيح ما سمعته!... عقدت قراني على أحد موظفيك!
بكل برود أجابها: أجل... إن كان يهمك الأمر!
كادت تتلف أعصابها من لا مبالاته وكأنها شيء بلا قيمة! فصاحت بقهر: لماذا يا أبي.!.. لماذا!..
أجابها بحدة: حتى تتعلمي احترام رأيي ولا تستخدمي معي أسلوب الابتزاز مجددا... أنت لن تتزوجي محمود مجددا وسأفعل المستحيل لذلك.... فما بالك بالممكن!
ناظرته بقرف وأنفاسها تكاد تنقطع من شدة غليانها ثم قالت بنفاذ صبر: أفهمني كيف لهذا الزواج أن يتم!؟... أنا لم أوقع شيئًا! ولم أوافق على شيء!
قال ببرود: الأمر بسيط، أحضرت شيخا وشهودا وقمت بتزويجك للعريس ثم تدبر المحامي الخاص بي أمر الاوراق الرسمية لتثبيته مدنيا بتوقيع يشبه توقيعك! انت في نظر الشرع والقانون متزوجة...
ونظر إليها باسما ليستطرد: لنرى كيف ستتزوجين محمود الآن!..
شعرت بسخونة تسري في كل جسدها وبدوار يعصف بها عصفا لكنها ظلت ثابتة تتأمله بذهول وكأنها تنتظر أن ينفجر ضاحكا بوجهها ويخبرها أنه يمزح!
انتظر خروجها وعندما لم تفعل نطق قائلا: أزيدك!... لقد تلقيت التهاني أيضا وتمنى لك الجميع حياة سعيدة...
فعل ذلك انتقاما لما فعلته به قبل مغادرتها للبلاد! فقد تركته مغتاظا يتخبط في غيظه وها هو السادي الآن ينتقم لنفسه!
شعرت بالاختناق وأرادت البكاء لأنه لا مقدرة لها على الوقوف ندا للند مع هذا الوحش الكاسر، ولا مجابهة جبروته وغطرسته لأنه قد ينتقم منها بطريقة أسوأ.
تركت المكتب ودموعها تسبقها فلحقت بها والدتها حتى تمكنت من الامساك بها وضمتها إلى صدرها: اهدئي يا ابنتي... اهدئي... سيكون كل شيء على ما يرام..
ذرفت دموعها بقهر في حضنها وهي تربت على ظهرها بحنو وترسل الأمل وميضا في كلماتها لتخرج بها من العتمة... واستمرت في مواساتها إلى أن قالت: ستنفصلان حالما يتأكد والدك من أنه لا شيء قد يربطك بمحمود...
وصمتت لوهلة ثم تابعت: لؤي رجل محترم ولن يخبر أحدا بالأمر.
تأملتها بدهشة: وما شأن لؤي بالموضوع!
ثم انتبهت بفطنة واستطردت: هل عقد قراني على لؤي!!!
هزت الأخرى رأسها بوجل، فقطبت بذهول وقد عقدت الدهشة لسانها!
♡♡♡♡♡♡
توقفت تلتقط أنفاسها بتعب... لقد ركضت لمدة طويلة ولم يعد لفادي أي أثر. وها هي ذي تضل طريقها في الغابة. وجهت بصرها ذات اليمين وذات الشمال... دارت من حولها تتأمل كل الاتجاهات! لم تعد تدري من أين أتت ولا إلى أين ستذهب!
مشت تجر أقدامها جرا وتتحامل على نفسها من التعب حتى وقعت أخيرا قرب جذع شجرة السرو وهي تشعر برغبة ملحة في إغماض عيونها.

استفاقت مذعورة على صوت عوي الذئاب. وانكمشت على نفسها تراقب المكان الذي أصبح معتما. لقد مالت الشمس للمغيب وتغير لون السماء. وقفت بصعوبة وهي لا تدري إن كانت قد فقدت وعيها فقد بدى لها وكأنها قد غطت في نوم عميق...
ألصقت ظهرها بالشجرة لتحتمي بها وهي تبحث بعيونها في المكان عن أي ذئب أو حيوان مفترس... من سينقذها الآن!... ومتى سيصل من يبحث عنها!
شعرت برغبة عارمة في البكاء فقد أخذ منها فادي حقيبة يدها وبها كل أغراضها. تذكرت فجأة أنها وضعت هاتفها بجيبها بعد آخر مكالمة أجرتها. ومدت يدها بسرعة تفتش عنه راجية من الله ألا تكون قد فقدته أثناء عراكها مع ذلك الكريه!
عندما لامست أصابعها شيئا زلقا لم تصدق نفسها حتى سحبته أمام عيونها وتأملته ثم احتضنته وقبلته كالمجنونة. وراحت تقلب الأرقام كالمعتوهة.
طلبت أول رقم قابلها وكان لبيت محسن. ليست تدري لماذا طلبته، لكن ربما يرجع الأمر لعقلها الباطن الذي يجد فيه السند ويوليه كل الثقة.
ردت عليها ليلى فطلبت منها تكليم السيد بنفسه. ولم تكن إلا لحظات حتى رد عليها بعد أن صرف ليلى إلى الطابق العلوي لتحضر له بعض الأغراض حتى لا تتجسس على حديثه.
حمل الهاتف وهمس بابتسامة: مرحبا كيف حالك؟
بدأت في البكاء بمجرد أن سمعت صوته فتبدلت ملامحه وقطب بوجل: سهام... ما الأمر!
بالكاد استطاعت أن تتمالك نفسها لتعطيه مقتطفات من كل ما حصل وما فعله بها ذلك الخبيث، بدى الغضب على وجهه جليا وهو يستمع إليها بإنصات ثم قال: وأين أنت الآن؟...
بدأت بوصف الطريق والمكان وأصابعه تقلب سجل الهاتف بحثا عن رقم أحد معارفه بسلك الشرطة. ثم قال لها: اهدئي... لا تبكي. سنكون هناك بعد لحظات اطمئني..
وانطفأ الهاتف لينقطع الخط. حاولت تشغيله من جديد لكنه كان يحتاج لشحن فعادت ووضعته بجيبها وهي تتوسل الله أن يجدها محسن قبل أن تشتد العتمة وتحاوطها الذئاب.

♡♡♡♡♡♡
خرجت إلى الحديقة والدموع الحارقة تفر من عينيها... لم يكن ينقصها إلا أن يعلن والدها نفسه راعيا لشؤونها ويزوجها دون الأخذ بمشورتها من أحد موظفيه ليضمن قطعا أنها لن تعقد قرانها من جديد على محمود... يبدو أن تحديها له المرة السابقة قد دق ناقوس الخطر عنده فعجل بشل أي خطوة قد تخطوها في هذا السياق وربط مصيرها برجل هو اختاره ليس اعجابا به ولكنما هو الأقدر على حفظ أسراره... لقد تخيلت نفسها كأي أسيرة لا يطلق صراحها إلا عندما يقرر القاضي الأعلى في العائلة انتهاء مدة سجنها والسبب أكيد اتقاءً لارتكاب جرم الخيانة العائلية بإعلان التمرد ومناصرة الجهة المعادية في الحرب.
مسحت دموعها بأصابعها الباردة وسارت تحت الإنارة الليلية حتى وصلت إلى باب الحديقة ثم قفلت بعدها راجعة وأفكارها بعقلها كما هي تروح مجيئة وذهابا.
شعرت بأنوار مضيئة من ورائها وبقربها مرت سيارة رباعية الدفع يقودها لؤي باتجاه المستودع الذي تصطف به قائمة طويلة من أحدث السيارات.
ركن السيارة ونزل منها مخللا أصابعه في شعره ويبدو عليه التعب. أدهشه تواجدها هناك تحت الانارة الخافتة للمكان. حدق فيها بدهشة دون أن ينطق بكلمة. بينما اقتربت منه هي وفي عيونها نظرة متحدية، عندما أصبحت قبالته قالت له: مبارك يا عريس...
لم يبد متفاجئا فقد توقع أنها ستعرف بالموضوع وأنه سيواجهها عاجلا أم آجلا... ورغم ذلك لم يرد عليها ما جعلها تغير من لهجتها معه، فقالت باستهزاء: أأطرش أنت أم ماذا؟
إنها تجره لحرب ضروس لا محال... يعرف جيدا أين سينتهي هذا الحديث. أجابها بفتور: مبارك عليك أيضا...
استفزها رده وأكثر منه لا مبالاته... لن تخفي أنها كانت تعتقده مسرورا بما حصل. وربما تصرفاته الودودة معها هي من رسخت في رأسها فكرة اهتمامه بها.. أما الآن وهو يعاملها بهذا الفتور فلابد وأنه قد جد لديه جديد ولم تعد من اهتماماته كالسابق.
زمجرت فيه عن قرب: لمعلوماتك... لم يستشرني أحد...
بكل برود رد عليها: ولا أنا...
بهتت ملامحها إذ لا أسوأ من الشعور بأنك منبوذ في عيون الآخر... كلامه جرحها عميقا وانتقص من قيمتها إذ أنها باتت مجرد امرأة كسيرة لا يقبل بها من هم أقل شأنا منها... حتى خدم والدها... آه من كبريائه وآه من قهرها.
تلألأت العبرات في عينيها للحظات وهي تسعى جاهدة للحفاظ على هدوئها من أجل أن تحفظ ما بقي لها من كرامة وتغادر هذا الجدال شامختًا مثلما دخلته.
كان يشعر أن تلك اللآلئ في مقلتيها ليست سوى أمواج تمور وتفور في قلبه الملتاع شوقا لها أجل يعشقها ولن يكذب... منذ سنوات يحترق بنارها... لم يصدق وهو يوقع عقد زواجه منها أن هذا اليوم جاء أخيرا حتى وإن كان بشروط صارمة من بشير... لقد احتمل الأمرين حتى اليوم بصمت وكتمان. وياليته يستطيع احتمال المزيد.
رفعت رأسها بتكبر وغطرسة بعد أن سيطرت على عواطفها وهمت بالرحيل مولية إياه ظهرها. ولم تشعر به إلا وهو يطوق خصرها بذراعيه ساحبا إياها إليه وأنفاسه الحارقة تلهب عنقها.
شهقت للحظة واستكانت فجأة وكأن الصدمة شلت أوصالها. كانت تشعر بارتباك شديد من قربه الخطير منها وهو يتنفس قرب أذنها وكأنه يستنشق عطرها بشوق وشغف، لينطق في الأخير بصوت مبحوح زعزعته تلك المشاعر المجلجلة التي كانت تعصف به : مروى...
لأول مرة تستمع لاسمها يخرج مجردا من شفاهه العاشقة... أحست بقشعريرة تسري في كامل جسدها، وصارعت شعورا بالرضى يجتاحها لم يرحمه كبرها ولم يأذن له منطقها.
كانت شفاهه تكاد تلامس ذلك العرق النابض بجنون في عنقها عندما صرح بصوت يشبه الفحيح بين الإقدام والإحجام وكأنه يخاف مشاعره: ارحمي قلبي...
أغمضت عيونها وقلبها يدق بفزع في صدرها... لم تتوقع من هدوئه وصمته أن يلد في يوم من الأيام اعصارا من لهب يعيث فسادا في أعماقها... وما كانت لترضى لنفسها بأن تقع فريسة بائسة في شراك صياد مغمور قد أحاط بطريدة لم يكن ليحلم بها في كل حياته.
عادت لرشدها ملسوعة وحاولت الإفلات من بين ذراعيه رغم أنها تعلم استحالة ذلك. ضربته وقرصته لكنه لم يسمح لها بالإفلات منه بل شدد من احتضانها إليه حتى هدأت من جديد واستجدته بصوت يائس وهي تشارف على البكاء: اتركني.... أنا أرجوك.
أرخى ذراعيه من حولها فاستطاعت الابتعاد عنه لكنه لم يسمح لها بالرحيل فلفها إليه ونظر قريبا من عيونها المليئة بالدموع، تراها تكرهه وتمقت الاقتراب منه! ألهذا السبب سبقتها الدموع! مازالت مخلصة لذكرى محمود... تمامًا كما سمع بأذنيه وحاول التكذيب! شعر بوهن شديد وبؤس لم يعرف له مثيل في كل حياته، ثم قال لها وكفيه يتركان ذراعيها: أنا آسف...
عندما أحست ببروده المفاجئ عرفت أنه يفكر في أنها لا تريده. وشيء ما بداخلها حتم عليها أن تشرح له حتى لا تجرحه. قالت بشفاه مرتجفة وهي تغطي وجهها بكفيها حتى لا تسبقها الدموع: مشاعري... أنا...
وصمتت لتستجمع أفكارها ثم همست بإعياء: لست بخير... لست بخير...
وأغرقت الدموع عينيها وهي تشاهد نفس معالم البؤس على وجهه، ولسانها يخونها وكل شيء فيها أصبح فجأة عاطلا عن العمل!
ربما هو لا يصدقها ولن يقتنع بما ستقول، أشاحت بنظرها عنه من جديد وهي حقا لا تعرف حقيقة شعورها في تلك اللحظة. ربما من الأفضل لها أن تتركه لهواجسه قبل أن يفكر جديا في التقرب منها فهي حاليا لا تريد خوض أي مغامرة تزيد من بعثرة مشاعرها.
ربت على كتفها بصمت وكأنه يشكر لها محاولة جبر كسره. وسار مبتعدا لأنه لا يريد شفقتها. بينما بقيت هي تتأمله وهو يختفي بعيدا وغصة تخنقها إذ كرهت أن تراه يدبر عنها كسير الخاطر.
♡♡♡♡♡
مضت ساعة كاملة دون أن تسمع أي صوت عدا صراصير الليل والبوم وبعض الطيور وعواء الذئاب التي كانت تتخيلها وهي تهجم عليها في كل لحظة، وأصوات أخرى لحيوانات لم تميزها.
كانت تنتظر الفرج بقلب نال منه الخوف والجزع. ولم تصدق نفسها عندما سمعت أصواتا تنادي باسمها عبر مكبر الصوت وشاهدت ضوءًا يخترق الأشجار بوهن شديد فتتبعت مصدره بفرح وهي تصرخ: أنا هنا!... أنا هنا!..
انتهت عند مجموعة من رجال الأمن يحملون المصابيح بأيديهم واستقبلوها مع فريق للإسعاف ثم نقلوها خارج الغابة.

في مركز الشرطة كان والدها وإخوتها ينتظرون وصولها في قلق شديد، فقد أبلغوا عن اختفائها قبل ساعات لكن الشرطة لا تتحرك إلا بعد ثمان وأربعين ساعة... عندما اتصل بهم الضابط قبل قليل هللوا حمدًا وشكرًا لله وجاؤوا من فورهم لاصطحابها.
بعد أن خضعت لمعاينة طبية بالمستشفى أحضرها رجال الشرطة إلى المركز.
طمأنت أهلها عن حالها ثم دخلت المكتب لتدلي بتصريحها في المحضر وبعد أن انتهت كل الإجراءات خرجت إليهم من جديد فارتمت في حضن والدها باكية تشكو في دموعها له خوفها والرعب الذي عاشته...
عندما هموا جميعا بالانصراف استأذن منهم شرطي في أن تستكمل بعض الاجراءات ورافقته لمكتب آخر ففتح لها الباب لتدخل وعاد أدراجه.
ولجت للداخل في حيرة، وتأملت المكتب فوجدت محسن واقف قرب النافذة وقد جاء بنفسه لرؤيتها. التفت ناحيتها ثم اقترب بخطوات محسوبة وأشار لها بالجلوس.
جلسا متقابلين على الكرسيان المجاوران للمكتب وعيونه تحدق بها وتتأكد من سلامتها: حمدا لله على سلامتك.
أومأت وهي تهمس: الحمد لله.
صمت للحظات يحاول أن يخترع كلاما لكنه وجد نفسه -وهو الذكي- كأبله لا يعرف ما يحدثها به، حتى سمعها تقول له بصوت متزعزع: شكرا لك...
أجابها: لا تشكريني... هذا أقل ما أفعله من أجلك.
ظنته يقولها مجاملة ولم تعي أنه يقصدها حرفيا. فبالنسبة إليه كان يمكنه أن يفعل من أجلها الكثير... لو فقط تسمح له بذلك.
رفعت رأسها إليه بامتنان فبدل نظراته عنها مضطربا وكان لا يواري نظراته من أحد. وبصوت متعب مثقل بالأسى قالت له: أشكر الله الذي وضعك بطريقي... لقد فعلت من أجلي الكثير. حتى أنك جئت لرؤيتي هنا!.. أشكر لك اهتمامك وكل ما فعلته من أجلي.
وجد نفسه يقول لها بلا مقدمات: كنت أتمنى أن أفعل أكثر...
لم تفهم حقيقة ما كان يقصده فبقيت عيونها معلقة به في تساؤل. صمت لبرهة محجما عن قول المزيد لكنه أكمل فجأة: سهام... أنت لست أي فتاة... لست مجرد خادمة... بالنسبة لي أنت... أنت أكثر من هذا كله، وجودك بالمنزل كان نعمة... ورحيلك حوله لظلام... لست أدري إن كنت تفهمين ما أقول ولكنني... أفتقدك.
توسعت عيونها عن آخرها مع آخر كلمة نطق بها وهي تمعن التأمل في عيونه العسلية... ما غلب على دهشتها تلك، هو ذلك الشعور الجميل الذي تملكها فجأة مثل الخائن، فأذعن قلبها قبل أن تأذن له!
لم تدر بأي كلام سترد على ما يقول. إن أهوال ما مرت به اليوم في كفة وأهوال الكلام الذي يتفوه به هذا الرجل في كفة أخرى! هل ينوي خداعها!... هل يستغلها مثلما تنبأ به وليد! أيريدها ليوم أو اثنين حتى يشبع نزوته!.. تراها هربت من مغتصب همجي لتقع على أعتاب مغتصب دبلوماسي!
وكأنه استقرأ أفكارها من تلك التقطيبة التي بدأت تحني حاجبيها فأردف القول: أنا... أنا أريد الزواج منك.
لم يعد بعد هذا الكلام حديث، انتفضت واقفة وأنفاسها تتسارع فوقف هو الآخر وعلى وجهه خيبة يحاول إخفاءها برزانته.
لم تجبه بكلمة، ولم تتحرك من مكانها فاقترب منها بضع خطوات ليهمس قبالتها: أعلم أنهم يقولون عني كلاما كثيرا...
نطقت باضطراب: ليس أي كلام...
أغمض عيونه للحظة ثم أردف بنفس هدوئه: أعدك أنك لن تري مني إلا ما يسرك.
أرادت من أعماقها تصديقه لكنها كانت تتوجس خيفة من أن لا تنال إلا الغدر مثلما جرت بها العادة في كل حياتها.
تأملت وجهه القريب منها لتكتشف فجأة أنها تشتاق إليه أيضا... لقد كانت تحن إليه سرا رغم كل ما تعرفه عنه، ورغم كل ما يقولون! الوعد الذي قطعه لها يعني لها الكثير، لكنها مازالت غير قادرة على اتخاذ قرار فاصل في حياتها مثل هذا القرار.
حاولت الابتعاد عنه واقتربت من الباب تفتحها دون استئذان. لقد كانت تشعر بدوخة في رأسها وملايين الأفكار تتقافز إلى ذهنها.
توقفت فجأة وأقفلت الباب من جديد ثم أسندت ظهرها إليه بإعياء وتأملته للحظة قبل أن تقول: لن أستطيع قول كلمة الآن... أحتاج وقتا للتفكير.
لم يغفل تلك الرجفة في أطرافها والتعب البادي على وجهها فاقترب منها مادا يده إليها لتتمسك به: أنت بخير.
شعرت بأطرافها ترتخي فتمسكت بكفه وهي تهمس بألم: أشعر بالتعب... أريد أن أرتاح.
شد على قبضتها بأصابعه وتأملها بود: سوف تكونين بخير أعدك... ولن أرتاح حتى أجعل ذلك السافل ينال جزاءه.
ساعدها على الجلوس وصب لها كأس ماء تأملته طويلا قبل أن تأخذه من يده ولم تنس أن تتأمل سيدها يخدمها بنفسه وفي مقلتيه نظرة حنون لم يسبق لها أن رأتها تطل من عيونه إلا عندما تراه جالسا يسهب التفكير في ابنه.


noor elhuda likes this.

بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 31-08-21, 02:25 PM   #58

زهرورة
عضو ذهبي

? العضوٌ??? » 292265
?  التسِجيلٌ » Mar 2013
? مشَارَ?اتْي » 2,283
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » زهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond reputeزهرورة has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   ice-lemon
¬» قناتك mbc
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

مساء الخير ..قرأت روايتك وماقدرت اسيبها الا لما اكملها بصراحة جميلة جدا واسلوبك جميل ..نيجي للابطال .
نسرين المسكينة الي عانت وشافت الذل والويل من اهلها للاسف للان بتعاني منه بعد هروب ٢٠ سنة واخوها الصغير حاول يقتلها مش فاهمة ايش القلوب المتححرة هاي للاسف موجودين في عالمنا وللاسف اللم الي اعتبرت بنتها ميته لو كان الابن غلط وقتل وجاب لهم الفضيحة ببفضل في الاخر ولد بصراحة اهلها اشعروني بالقرف ومااعتقد ان نسرين تكن لهم الحب تبعد عنهم احسن وماتقرب منهم بيكفيها محمود وابنها الي جاي وتبعد عن اهلها وسوادهم ..
محمود شخصية جميلة وكان ظهوره في حياة نسرين مهم احياها بعد كل هاي السنين بس للاسف لعنته بشير الي بيلاحقه ياترى حيقدر ينقذ نفسه ونسرين منه .
محسن كان فيه كل العبر زير نساء وفاسق بس شكله بعد ظهور سهام اتغير وناوي يصلح حاله ويستقر .
فادي حقير وامه احقر منه كان ممكن تلحق ابنها لو بلغت ابوه وهو بيتصرف بس سكتت ووصلت ابنها للدرجة هاي من الشذوذ والحقارة تستاهل هي وابنها من الي حيجرالهم ومااعتقد محسن حيسيبه بعد محاولة خطفه لسهام والحقير كمان جاب واحد يغتصبها .
ياقوته كرهتها وفي نفس الوقت اشفقت عليها هي ضحية نفسها وهواها تخلت عن بشير عشان الفلوس وللاسف اتساهلت في حق نفسها من البداية وسلمت نفسها والان بتحصد الي زرعته اتمنى تتوب وتكون توبة نصوحة .
بشير الملعون السادي مافي احقر منه وكمان يتاجر في الاعضاء البشرية اتمنى نهايته تكون سودة .
مروة ولؤي اتجوزها من غير ماتعرف عشان ماترجع لمحمود هي تستاهل واحد زي لؤي يحبها ويكون العوض لها من اب حقير وفاسق .
الرواية جميلة اشكرك حبيبتي واتمنى لك التوفيق والسعادة .


زهرورة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-09-21, 03:07 AM   #59

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة زهرورة مشاهدة المشاركة
مساء الخير ..قرأت روايتك وماقدرت اسيبها الا لما اكملها بصراحة جميلة جدا واسلوبك جميل ..نيجي للابطال .
نسرين المسكينة الي عانت وشافت الذل والويل من اهلها للاسف للان بتعاني منه بعد هروب ٢٠ سنة واخوها الصغير حاول يقتلها مش فاهمة ايش القلوب المتححرة هاي للاسف موجودين في عالمنا وللاسف اللم الي اعتبرت بنتها ميته لو كان الابن غلط وقتل وجاب لهم الفضيحة ببفضل في الاخر ولد بصراحة اهلها اشعروني بالقرف ومااعتقد ان نسرين تكن لهم الحب تبعد عنهم احسن وماتقرب منهم بيكفيها محمود وابنها الي جاي وتبعد عن اهلها وسوادهم ..
محمود شخصية جميلة وكان ظهوره في حياة نسرين مهم احياها بعد كل هاي السنين بس للاسف لعنته بشير الي بيلاحقه ياترى حيقدر ينقذ نفسه ونسرين منه .
محسن كان فيه كل العبر زير نساء وفاسق بس شكله بعد ظهور سهام اتغير وناوي يصلح حاله ويستقر .
فادي حقير وامه احقر منه كان ممكن تلحق ابنها لو بلغت ابوه وهو بيتصرف بس سكتت ووصلت ابنها للدرجة هاي من الشذوذ والحقارة تستاهل هي وابنها من الي حيجرالهم ومااعتقد محسن حيسيبه بعد محاولة خطفه لسهام والحقير كمان جاب واحد يغتصبها .
ياقوته كرهتها وفي نفس الوقت اشفقت عليها هي ضحية نفسها وهواها تخلت عن بشير عشان الفلوس وللاسف اتساهلت في حق نفسها من البداية وسلمت نفسها والان بتحصد الي زرعته اتمنى تتوب وتكون توبة نصوحة .
بشير الملعون السادي مافي احقر منه وكمان يتاجر في الاعضاء البشرية اتمنى نهايته تكون سودة .
مروة ولؤي اتجوزها من غير ماتعرف عشان ماترجع لمحمود هي تستاهل واحد زي لؤي يحبها ويكون العوض لها من اب حقير وفاسق .
الرواية جميلة اشكرك حبيبتي واتمنى لك التوفيق والسعادة .
حبيبتي أسعدني رأيك الجميل في روايتي. شكرا ليك.
نسرين واحدة من آلاف النساء اللواتي تعانين التهميش.. البعض يفضلن الصمت والاستسلام للواقع. أما هي فكافحت ومازالت تكافح من أجل نفسها وستظل تكافح حتى النهاية لأنه هي قوية وعندها ثقة بالنفس...
حبيت إشارتك أنه لو كان اللي عمل الغلطة ولد ماكانو راح يعاقبوه... فعلا هذا هو المجتمع الذي نعيشه... مهما فعل الذكر فهو أمر عادي وكل ما تفعله الأنثى هو عيب وعار ويستلزم العقاب. مع أن الله عادل وفرض العقاب على المخطئ دون الاستناد إلى جنسه...
محمود عاش تجربه علمته كيف يكون إنسانا من جديد.
محسن محتاج لبسمة أخرى حتى ينبض قلبه من جديد. وسهام لها قلب طيب يشبه قلب بسمة ، أعاد له أحاسيسه المدفونة وجعله يتذكر الماضي ويتألم.
فادي واحد من الزبالة _أكرمك الله_ التي أصبحت تتكاثر في مجتمعاتنا العربية. حسبنا الله ونعم الوكيل.
تصرف أمه كان غلط من الأساس.. وبدل ما تحاول تعالج ابنها غطت جريمته وزوجته ليرجع لجادة الصواب لكنها أخطأت في هذا وظلمت بنت الناس وابنهم الصغير اللي ماعندهم ذنب.
ياقوتة نقطة سواد تحولت لبقعة مظلمة... كانت في الخطأ ووظفت بنات ليشاركوها نفس الخطأ... وأصبحت ترتع في الخطيئة دون رادع... هل يا ترى راح تتوب بصدق وتنجح في أنها تتبع النهج السليم؟ ويبقى السؤال مطروح...
مروى فتاة طيبة وتستحق رجل مثل لؤي... هل سيسعدان رغم كل الذي يحيط بهم من عراقيل؟
الجواب قادم في الفصول القادمة بحول الله.
شكرا لاهتمامك حبيبتي ولكلامك الجميل ودعمك تسلمي يا قلبي.💓💓


بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 01-09-21, 03:09 AM   #60

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل السابع والعشرون

انتهت نسرين من تنظيف الأواني فالتفتت إلى محمود الجالس قرب طاولة الطعام وهي تقوم بتنشيف يديها بمئزر الطبخ، وجدته غارقا في تفكيره وكوب الشاي بقربه على حاله لم يرتشف منه بعد.
سألته بريبة وعيونها تمحص في تفاصيله الشاحبة: ما خطبك حبيبي... أنت على غير عادتك!
استفاق من تيهانه واصطنع ابتسامة مطمئنة: أنا بخير. هل أساعدك؟
ضحكت متسلية وأشارت إلى الأواني المصفوفة بعناية: انتهيت منها.
تفاجأ لهذا فهز رأسه متأسفا: لم أنتبه يا قلبي... هيا لترتاحي لا بد وأنك متعبة.
اقترب منها فأشرت له بإصبعها محذرة وضحكاتها تسبقها: لا تفعلها!
قبل أن تقول شيئا آخر كان قد رفعها بين ذراعيه فصرخت برعب: ستوقعني يا محمود أنا والصغير!
ضحك لوهلة ثم قطب وقال: أصبحت أثقل يا نينة...
كشرت بوجهه: قلت لك لا تنعتني بنينة! أفضل اسمي كاملا أرجوك!
سار بها يخرج من المطبخ وهو يسألها: وما العيب في نينة! ألا تحبين أن أدللك!
أجابته بتململ: لا يعجبني...
رجها بين ذراعيه لإرعابها: ليس هذا، أخبريني الحقيقة...
صرخت برعب وطوقت رقبته بذراعيها: لا تعبث أرجوك ستسقطني...
رفع حاجبه وهو يتأمل امتقاع وجهها: أخبريني لماذا تكرهين أن أنعتك بنينة.
قالت بوجل: أخشى أن يكون اسما لإحدى صديقاتك... لا أريد أن تشبهني بغيري.
جحظت عيونه بذهول وما لبث أن استهجن ما تقول: يا لك من امرأة متشككة!.. لم أعرف امرأة بهذا الاسم لكن أمي كانت تنادي قطتها بنينة فأحببته...
عبست بوجهه مشمئزة: تسميني على قطة أمك!!!
دخل الغرفة وأقفل الباب بعقبه: لقد كانت قطة ناعمة جميلة بعيون حادة ومشية مختالة... إنها تشبهك تماما لأنها تكون هادئة إلى أن تتعرض للاستفزاز فتستنفر وتزمجر وتصبح شرسة ويرتفع ذيلها منتصبا معلنا الحرب... هكذا أنت.
همت بتعنيفه لكنه عاد ليقول: سأسميك نينة رغما عنك... أنت نينة.
ووضعها على السرير بحذر بسبب وضعها الحالي ثم عاد ليقول وهو يقرب رأسه منها: أحبك نينة.
كانت ستنهره بكلمة أو اثنتين لكن غلب عليها الضحك فلم تستطع معاتبته. بينما تابع اكتساحه لها وهو يقول: وأعشقك يا قلبي... أنت هي حياتي، ولأجلك أفعل المستحيل صدقيني.
•••••
ولجت مروى إلى المطبخ في استنفار والقهر يعتصر كل ذرة فيها. ليست تدري إن كان سببه غباءها أم لا مبالاته... أو بالأحرى وجود الدخيلة بينهما!
عيناها اللتان كانتا تطوفان بالأرجاء توقفتا تماما عند زرقاء العيون، والتي سرعان ما انتبهت لفوران غريمتها فتجمدت مكانها متأثرة بتلك النظرات الصارمة التي لو كانت سيفا ما أبقى فيها من شيء!
- أنت!
نطقتها بغل رافعة سبابتها باتجاهها فأثارت انتباه باقي الخدم. وساد الصمت التام والكل ينتظرون ما سيكون بعد "أنت!"
ارتجفت ريم بخوف وهي تجد نفسها في محل اتهام وليست تدري ما جنته لتجلب على نفسها المصائب. في حين استطردت الأخرى بشراسة: اجمعي أغراضك كلها...
وفرقعت بإبهامها والوسطى مرتان تستعجلها: وغادري المنزل في الحال.
غمغمت بذهول: ما الذي فعلته سيدتي!
قطبت وهي تستعد لترك المطبخ: قلت غادري حالا. سيقلّك السائق حتى منزلك.
ثم صاحت برئيسة الخدم: خديجة. ادفعي لها كل مستحقاتها...
وخرجت قبل أن يحضر لؤي ويعرف بما حدث... هي متأكدة من أنه سيستنكر ما فعلته. حتى هي نفسها تجد أنه من المؤسف أن تقطع رزق أحد، لكن ريم باتت تخنقها حتى أنها رسخت بداخلها الفكرة "أنا أو هي بهذا البيت".
●●●●●●

غطتها أمها وطبعت قبلتها على جبينها وهي تهمس لها بحب: الحمد لله الذي أعادك إلي سالمة يا ابنتي.
أغمضت عيونها المتعبة وهي تتكوم في فراشها ثم قالت بتعب: كفي عن البكاء يا أمي... أنا بخير.
مسحت سامية دموعها وجلست على حافة السرير ويدها يلاعب تلك الخصل الحمراء المترامية على الوسادة بعشوائية ويهذبها: أريد أن أقتلع عيون عديم الشرف ذاك... لا أصدق أنه استطاع الاقدام على أمر كهذا... كل إخوتك يتوعدونه بالقتل.. قال والدك أن الشرطة اقتحمت منزل والديه ولم تجده وأنه سيبقى محل متابعة وسيتم القاء القبض عليه عند أول نقطة تفتيش فاسمه معمم بالمطارات والمعابر وكل مراكز الشرطة.
صرت على أسنانها بقهر: لا تحدثيني عنه يا أمي...
ردت متفهمة: مثلما تشائين يا ابنتي... لكن الصدمة لا تراوحني...
قاطعتها بانفعال: ما الذي لا تفهمونه! قلت لكم أنه شاذ... هو رجل بلا ضمير... إذا كان لا يقيم لله اعتبارا هل سيقيمه لي أم لأهله أم لنفسه ولابنه!
التزمت سامية الصمت التام بعد هذا الكلام وراحت تجتر الذكريات الخالية والندم ينهشها... لقد قالت سهام الكثير عنه لكن أحدا لم يكن يصدقها... وها هو الآن بكل خبث ووقاحة يؤكد للجميع نذالته وحقارته المتأصلة في نفسه.
تنهدت بغم وهي تقول: الحمد لله أن ذلك السيد الذي وظفك في بيته استخدم نفوذه ليجدوك بهذه السرعة... والدك المسكين كاد يجن ذهابا وإيابا من وإلى مركز الشرطة ولكنهم قالوا أنه يجب أن تمضي على اختفائك ثمان وأربعون ساعة حتى يشرعوا في البحث عنك! لقد كانت فكرة صائبة منك أن تتصلي به...
فتحت عيونها وحدقت بوالدتها للحظات قبل أن تقول: من أين عرفتم بكل هذا؟ أنا لم آت على ذكر السيد محسن على لساني!
أجابتها: لقد قابل والدك لبضع دقائق في مركز الشرطة وتعارفا...
سألتها بريبة: ماذا أخبره أيضا؟
حنت شفتها دلالة على محدودية الأخبار التي وصلتها ثم قالت: لست أدري... هذا كل ما قاله والدك... كما أنه أشاد بكل ما قام به من أجلك وأكبر قدومه للسؤال عنك... قال أنه رجل شريف يعاملك مثل ابنة له، وقد سر كثيرا بالتعرف عليه.
لا يبدو أن محسن قد فتح موضوع الزواج منها مع والدها وإلا ما كان قد فكر بهذه الطريقة!
عادت لتغمض عيونها من جديد وتحاول الاسترخاء لكن تلك الصور المرعبة كانت تهاجمها بعنف لتغتصب راحتها النفسية وتمحق كل حلم جميل قد يراودها. لكم تمنت أن يضمها أحدهم هذه الليلة لتشعر بالأمان... الأمان فقط. هذا ما كانت تفتقده وهي على هيأتها تلك تغرق في دوامة هواجسها.
•••••••
نزلت إلى القاعة بناءً على طلبه. كانت تسير في الظلمة بحذر وتتحاشى المصابيح الخافتة الضوء المنتشرة هنا وهناك حتى لا تكون فرجة لعيونه المختبئة، لا تحب أن تكون محل استهداف جاهلة بموقعه.
عندما توسطت القاعة شعرت بأقدامه خلفها تتحرك بخفة فاعتقدت أنه سيسارع لاحتضانها مثل المرة السابقة لكن ما حدث عكس ذلك.
أمسكها من ذراعها بقبضته القوية وهمس بحنق واضح: يجب أن نتحدث.
شعرت بالقهر من تصرفه فنفضت ذراعها منه وحدجته بنظرات غاضبة: قل ما تريد!
أشار لها لتسبقه: لا أريد أن يشعر والدك بما يدور بيننا.
سارت نحو الباب الخلفي وهو يمشي بمحاذاتها حتى خرجا إلى الحديقة وابتعدا في جنح الظلام بين الأشجار، وعندما أحس أنهما في أمان طلب منها أن تتوقف فاستدارت إليه عاقدة ساعديها أمامها في تحدٍ: ما الذي تريده! اشتكت إليك عشيقتك مني!
لقد خمنت ذلك سريعا فغضبه اللامبرر له خلفية واحدة. إنها ريم من ألّبته ضدها!
حاول أن يسيطر على أعصابه قبل أن يقول بنفاذ صبر: لماذا تنعتينها بهذه الصفة؟.. لماذا تشوهين سمعة فتاة لم تسئ إليك بأي شكل من الأشكال!
رفعت أحد حواجبها والحنق يلوك قلبها الدامي ويعركه، حاولت أن تبدي اللامبالاة فقالت باستهزاء: من تصاحب رجلا متزوجا خلف العيون تسمى عشيقة...
كشر باستياء واضح: من قال أنها تصاحبني! كفي عن تلفيق التهم للفتاة!
دفاعه عنها يكاد يتلف آخر عصب سليم مازالت تحتفظ به بعد كل نكباتها. إنه وبكلامه يضغط على مشاعرها بشدة... بل ربما يدوس عليها بقسوة. كيف يتجرأ على الدفاع عن تلك النكرة بهذه الشراسة! وفي وجه من! في وجهها هي التي يسميها محبوبته!
اقتربت بضع خطوات مزمجرة والقهر لا يراوحها: لا... والله!... أنا أعرف بما يدور بينكما فلا تستغفلني.
يبدو أنها لا تستوعب كلامه وعقدة الخيانة لديها تجعلها تشك بكل ما حولها...
طفح كيله فهدر فيها باستياء: لا تقيسي على طليقك البائس كل الرجال!.. كفي الهواجس عنك!
صمتت بصدمة عندما جاء على ذكر محمود، وذعرت حقا من ذلك الغضب الظاهر في عينيه عندما فتح سيرته. تمتمت بقهر قبل أن تصرخ في وجهه: لا تعيرني به!
وضربت بقدمها الأرض في عصبية: لا تفتح سيرته... لا تأتي على ذكر اسمه!
توسعت عيونه في دهشة: ألهذا الحد هو مقدس عندك!
استهجنت ما يقوله وهمست بما يشبه الدهشة: مقدس!
تابع بسخط وقد عادت كلماتها السابقة مع والدها لتطرق عقله: هو يعيش حياته غير آبه بك وأنت تحلمين به!
فكرت بينها وبين نفسها للحظات، يبدو أنه مازال متأثرا بما سمعه منها تلك المرة، تنهدت بخيبة وهي تعتصر قبضتها عصرا: أتعرف ما تتوق إليه نفسي الآن!
أجابها فورا: لحضنه!
رفعت قبضتها بوجهه: لضربك حتى الموت...
بقي يحدق في وجهها الذي تغطي نصفه تلك القبضة الرقيقة دون أن يجيبها فاستطردت بأسى: هل هناك رجل يقول لزوجته ما قلته للتو!
أحس فجأة بسيل من العواطف تجتاحه. اعترافها بالواقع الذي هما فيه الآن بهذه الطريقة جعله يندم على ما تفوه به.
شعرت باضطرابه لكنها تابعت تلومه بقلب منفطر: هل أنت مغفل لدرجة أن تصدق بأنني ما زلت أحبه!
لم يجبها بكلمة وآثر الصمت فهزت رأسها نفيا بأسى وقررت المغادرة لكنها سمعته يقول لها: لا تطردي الفتاة يا مروى... هذا العمل هو مصدر رزق لها ولأخيها المعاق... لا تجعليها تتسول العمل في بيوت أناس قد يستغلونها...
أغمضت عيونها والألم ينهش قلبها نهشا... لم يعلق على كل ما قالته وها هو يحدثها عن ريم!
عادت إليه لتقف قبالته: عشيقتك لن تبقى تحت سقف بيتي..
أجابها ببرود: ليس بيتك بل بيت والدك، وإن رفضت سأخبر والدتك بحقيقة ريم وما تعانيه وهي رحيمة بما يكفي حتى تقرر إبقاءها وهي سيدة البيت.
عضت على شفاهها غيظا وقهرا وتلبسها الحنق متوشحا بالخذلان. تنهدت بألم شديد وقالت بصوت حاقد: أكرهك ... أكرهك.
توسعت عيونه بمجرد أن نطقت شفاهها بتلك الكلمات وشعر بأنه قد بالغ في إثارة مواجعها فاقترب منها على مهل حتى وقف قبالتها
كررتها بوجهه في ألم وهي تلكز صدره بإبهامها: أكرهك...
أمسك بوجهها بين كفيه لينتبه إلى تلك الدموع الرقراقة التي كانت تفر من عينيها وتمسح خديها برقة لتتقاطر قطرة قطرة على صدرها.
وجد نفسه بلا شعور يهمس لها وعيناه تتحدان مع عيونها: أحبك.
ارتجفت شفاهها للحظة فمرر أصابعه برقة على خدهة يمسح دموعها، لكن كبرياءها منعها من أن تكون المرأة التي يشفق عليها.
أبعدت كفيه عنها بقوة فعرف أنها ستحاول الهرب. أحاط خصرها بذراعيه لكنها لم تسمح له بحشرها وحاولت دفعه بعيدا عنها وهي تتمتم من قهرها: اذهب إليها... هيا.. لست في حاجة إليك...
قاطعها قبل أن تكمل: لماذا لا تفهمين أنه لا تجمعني بها أي مشاعر... إنها فتاة مسكينة وأنا أحاول حمايتها ليس إلا...
صمتت غير آبهة وراحتي يديها على صدره تدفع به بعيدا عنها، بينما عيونه تتأملانها بخذلان.
ثم استطرد هامسا: أخبرتك عن مشاعري لأنني فكرت في أنك قد تبدلين رأيك بي وتنظرين إلي كرجل لا كموظف والدك... لكن يبدو أنه لا مكان لي بقلبك!
أحست بارتخاء ذراعيه فاستلت نفسها لتفلت من قبضته ثم أدبرت عنه ومسحت دموعها. ومن ثم أسرعت الخطى لترجع أدراجها وقد اكتفت بالفعل من تباعدهما بعد أن أصبحا تحت اسم واحد.
•••••••
كانت مستلقية على جانبها الأيمن تحاول النوم لكنها أحست باضطراب محمود وتقلبه المستمر في الفراش الذي يقض عليها مضجعها.
التفّت ناحيته هامسة: حبيبي... ألم تنم بعد!
أجابها بإعياء: لا أشعر بالنعاس.
سألته متوجسة: أخبرني ما يزعجك... لست على ما يرام!
صمت محجما ثم قال: اتصل بي أخوك الأكبر أسامة وقال أنهم يريدون رؤيتك... يقصد كل أسرتك.
تفاجأت مما يقول ولم تعلق على الموضوع فصمت هو الآخر ليترك لها مجالا للتفكير إلى أن قالت: هل حقا يرغبون برؤيتي والاستماع لكلامي!
رد بحيرة: لست أدري... كل ما قاله أنه أكد لوالدك أنك كنت مظلومة وأنك الآن متزوجة و....
تفاجأت من هذا: يبدو أنك تحدثت إليه!
صارحها بحقيقة ذهابه إلى هناك: أجل، فعلت... كان عليه أن يعرف الحقيقة دون تدليس...
لم تعلق على الموضوع فآثر الصمت هو الآخر ثم قال من جديد: يجب أن نضع بالحسبان أن أخاك وليد بالسجن... ربما ينوون استمالتك للتنازل عن القضية وحسب...
خمنت لبرهة: أنت من بلغ عنه أليس كذلك؟
أمال شفته بنصف ابتسامه: عليه أن ينال جزاءه... زوجتي ليست عرضة لإساءة أيٍّ كان فما بالك بمن يحاول قتلها!
اكتفت بالتزام الصمت أيضا هذه المرة فعرف أنها توافقه الرأي فيما فعل، لكنها قد تلين وتصفح عنه في أي لحظة.
قالت بعد تفكير: إن كانوا صادقين في نيتهم فعليهم ألا يضغطوا علي لأفرج عن وليد ولا يضعوا أي شروط... إن قبلوا بهذا سأتحدث إليهم وإلا فلا داعي للأمر من أصله.
ربت على كفها بحماسة: أوافقك الرأي... هكذا تكون المفاوضات...
ابتسمت لكلامه. فعاد ليقول: لكنني غير مرتاح لياقوتة... أخشى أن بشير قد تمكن من الإيقاع بها...
ردت عليه: إن فعل ذلك فسيعرف أنه من المستحيل أن أرجع لأسرتي وأنهم مثله يطلبون موتي... ولأنه ذكي لن ينتظر عودتي إليهم لأن هذا لن يجدي...
حك جبينه مفكرا: ربما...
استأنفت من جديد: هل سنسافر إلى هناك صباح الغد؟
فكر للحظة ثم قال: مثلما تشائين... إن كنت ترغبين في إقفال هذا الموضوع نهائيا سنذهب معا... وسنقف أمامهم وتقولين كل ما لديك ونخرج...
أومأت موافقة فاحتضنها إليه وأغمض عيونه لينام: نامي الآن... أمامنا طريق طويل...

•••••••

استيقظت صباحا بعد ليلة قاسية لم تستطع أن تهنأ فيها بلحظة نوم هادئة... لقد ظلت صورة ذلك المسخ وهو يحاول استباحة جسدها تمزق قلبها وتحرقها... صرخت أكثر من مرة وتصببت عرقا كالمحمومة وفي كل مرة كانت تفتح عيونها لا تجد غير والدتها وهي تتعوذ بالله وتقرأ عليها بعض الآيات القرآنية لتهدأ. لقد كادت تفقأ لها عينها في المرة الأولى وهي تسترجع ما عاشته لحظة بلحظة...
عندما ولجت إلى غرفة الاستقبال وجدت باقة كبيرة من الورود فوق الطاولة فبقيت تتأملها بحالمية وشيء ما بداخلها يخبرها أنها لها.
وقفت أمها عند الباب ونظرت إليها بحنو قبل أن تقول: لقد أرسلها لك ذلك السيد المحترم...
سارت باتجاهها على مهل وعيونها تفتش عن أي بطاقة. لقد كانت في حاجة ماسة لأن تسمع منه أي كلمة تجبر قلبها المكسور. خللت أصابعها بين الورود بحذر وأخذت بطاقة مطوية مكتوب عليها: "صباح الخير يا أجمل النساء"
ابتسمت بعفوية بعد أن قرأتها وبرقت عيونها أملا وتفاؤلا... وكأن هذا الرجل يمتلك العصا السحرية التي تنقلها في رمشة عين من القفار إلى الجنان...
ضيقت أمها عيونها بمكر وهي تتأمل تهلل أسارير وجهها: هل ستخبرينني ما حكاية هذا السيد!
أجفلت من هذا السؤال والتفتت إليها باضطراب: لا شيء... ليس هناك حكاية.
تابعت تقول وقد عقدت ساعديها أمامها: لقد طلب الالتقاء بوالدك من أجل أمر مهم... ترى بماذا سيخبره؟
شعرت بدقات قلبها تصبح أعنف وقد ساورها القلق إزاء الأمر. ماذا لو فتح معه موضوع الزواج وقام والدها برفضه!.. تعرف جيدا أن فارق السن بينهما كبير، ووالدها ليس من النوع الذي قد تغريه المظاهر ليقبل ببيع ابنته. التفتت إلى والدتها بصمت تام، فتبسمت ثم قالت بجدية: هل ينوي التقرب منك؟
لم تجد بدا من مصارحتها فأومأت بالإيجاب لتشاهد الدهشة تطل من نظراتها: وأنت... هل تكنين له أية مشاعر؟
صمتت دون أن ترد فحتى هي لا تعرف إن كانت تريده، أم أنها فقط تستأنس بوجوده وتسعد بحمايته!
حملت باقة الورد بعناية وتركت المكان متوجهة إلى غرفتها وقلبها يدق ترقبا لما سيحمله إليها والدها من أخبار.
•••••••
خرجت مروى إلى الطريق العام تسير على الرصيف بخطى بطيئة وعيونها تفتش عن سيارته في الأرجاء. ولم يمض زمن طويل حتى سمعت صوت سيارة تأتي من خلفها فالتفتت لتجده يحرك المقود بخفة ليركن بالقرب منها وتفاصيل وجهه لا توحي لها بأن الرحلة معه ستكون ممتعة.
فتحت الباب الأمامية وجلست بقربه، فانطلق مباشرة دون كلام ولا حتى تحية ما جعلها تحدجه بنظرات ارتياب وهي تفرك أصابع يدها بتوتر، ثم قالت له بتهكم لتغطي على خوفها منه وتجعله يخرج عن صمته: صباح الخير سيد لؤي... إلى أين سنخرج باكرا!
التفت إليها سريعا فأومضت نظاراته السوداء تحت ضوء الشمس المتسلل من الزجاج الأمامي ثم خلعها عنه وألقى بها في الدرج لتتسنى له رؤيتها دون حاجز وتتمكن هي من إبصار نظراته الشزراء.
بلعت ريقها قبل أن يجيبها: لست في عطلة لأسليك... لدي ساعتان لننهي كل ما هو عالق بيننا.
شعرت بموجة من البرودة تنزل من أكتافها لتسري في كامل جسدها وصولا إلى أقدامها. تراه يقصد وضع حد للمهزلة التي وضعهما فيها والدها!
ليست تدري لماذا أحست بأنها ستخسره رغم أنها لم تشعر بأنها فازت به يوما! لم تستطع أن تسيطر على ذلك الوهن الذي اجتاحها في تلك اللحظة وأشاحت بوجهها ناحية الشارع تتأمل شريط المارة والبيوت يسرع من أمامها بلا توقف.
بعد ربع ساعة أصبحا بالقرب من بعض الأحياء الشعبية يقطعان سوقا مليئا بالباعة على الأرصفة يعرضون سلعا وملابس بسيطة لمثلهم من الناس البسطاء بأسعار معقولة والاكتظاظ قد بلغ ذروته في مثل هذا الوقت المتأخر من الصباح.
التفتت إليه بصمت دون أن يوليها اهتماما ثم سألته: إلى أين نحن ذاهبان؟
أومأ إلى الأمام دون أن يقول شيئا فعادت لصمتها تراقب ذلك الوجه الثاني للحياة وهي تعرض أمامها صنفا آخر من البشر غير أولئك الذين تعودت على الالتقاء بهم ومخالطتهم... بسطاء في ثيابهم، في وجوههم التي تلمع بفعل الرطوبة وحبيبات العرق... أناس عفويون بطبعهم، كلامهم غير محسوب وتصرفاتهم لا تخضع لقوانين التملق والتكلف... يمشون بكل اتجاه وكل منهم يحمل أثقاله على كاهله ومهما تعددت اهتماماتهم فإن أقصى ما يشغلهم هو كسب رزقهم وإطعام أهاليهم... قد يحسدون راكبي هذه السيارة على ترفهما لكنهم أبدا لن يرغبوا بأن يكونوا لحظة في مثل المأزق الذي هما فيه...
انعطف يمينا بالسيارة واستمر في القيادة على طول الطريق حتى توقف فجأة عند أحد المنازل الفقيرة، ثم فتح الباب وترجل ففعلت مثله ولم ينهرها.
استخدمت نظاراتها المعتمة حتى لا يعرفها أحد وراحت تلتفت بريبة من حولها وكأنها تخشى أن يفاجئها أحد اللصوص.
سار حتى دنى من شاب هزيل القوام يجلس على كرسي متحرك بالقرب من أحد المنازل الرثة التي يبدو عليها تعب السنين الماضية، فقد اهترأت جدرانه وعريت من الاسمنت في بعض جوانبه حتى ظهرت حجارته المرصوفة والتي تفضح قدمه فلم تعد تستعمل مثل هذه المواد في البناء الآن.
بدى لها أنه يسأله عن حاله ويطمئن على صحته وهو مائل بجذعه عليه واضعا يمناه على الكرسي وعلى وجهه ابتسامة دافئة تعرف فيها مدى شفقته عليه وربما تألمه لحاله.
عندما أصبحت خلفه التفت إليها وأشار للشاب: هذه زوجتي... اسمها مروى وقد جاءت لزيارتك.
توسعت عيونها فجأة بذهول بعد أن سمعت كلمة "زوجتي"، ثم تمالكت نفسها واقتربت من الشاب: مرحبا... كيف حالك؟
أجابها بصوت متهدج: الحمد لله...
رفعت رأسها بأسف دون أن تبدي له شفقتها على حاله، ثم التفتت إلى لؤي الذي كان يراقبها ولم تقل كلمة. عندها قال له: أختك بالمنزل؟
أشار إلى باب المنزل الذي كان مواربا ففهم منه أنها بالداخل، لذا اقترب وطرق عليه بضع مرات، وبعد هنيهة خرجت ريم وهي ترتدي ثوبا بسيطا ثبتته أعلى فخذيها من الجانبين في ثيابها الداخلية لتقصر طوله حتى يسهل عليها التحرك وفي صدرها بعض مساسيك الغسيل وعلى ذراعها ثوب مغسول يقطر ماءا يبدو أنها كانت ستعلقه ليجف.
ما إن لمحت لؤي حتى احمرت خجلا و ارتبكت ثم راحت ترتب هندامها وهي ترحب به: مرحبا لؤي... كيف حالك؟
لأنها لم تسمع كلمة "سيد" ولا أي ألقاب رسمية شعرت بالضيق ولم تبده.
بدت على الأخرى السعادة لقدومه وهي تكمل: لم أتوقع زيارتك... مرحبا بك.
تنحى من أمامها قليلا فتجلت قبالتها مروى تمسك بحقيبة يدها.... شحبت ملامح وجهها عندما رأتها والتزمت الصمت فاقتربت الأخرى وقد خلعت عنها نظاراتها: مرحبا.
ثم ألقت بنظرة سريعة إلى لؤي الذي كان يدقق النظر إليها ليلم بكل تصرفاتها فأكمل عنها: جئت ومروى لزيارتكما..
لم تغادرها الدهشة أبدا لكنها تنحت عن الباب وطلبت إليهما الدخول بكل ترحاب فأشار لؤي لمروى بأن تسبقه بينما قام هو بدفع كرسي الشاب المعاق إلى الداخل واستقروا جميعا في قاعة بسيطة التأثيث يظهر على بعض جدرانها آثار الرطوبة.
قالت ريم وهي تحدق بمروى: المكان ليس لائقا سيدتي لكن يشرفني وجودك.
تنتابها مشاعر الرحمة تجاه الآخرين كلما شاهدت مآسيهم، ونسيت لبرهة سر العداوة بينهما فوجدت نفسها تجلس على المقعد مباشرة وهي تقول: ليست مشكلة أبدا... كيف حالك؟
أجابتها بلباقة: بخير سيدتي، شكرا على سؤالك.
كان لؤي مرتاحا لتصرفات مروى يخفي عنها رضاه، فأهم ما بالموضوع أنها انسانية ورحيمة بالآخرين ولم تخيب توقعاته. خلص ليلة البارحة إلى أنه يجب أن يضعها أمام الأمر الواقع لتقتنع بأن ما يجمعه بريم هو إشفاقه عليها لا غير... كان عليها أن تجلس في مكانه وتشعر بشعوره لتعذر اهتمامه وتتفهم انسانيته تجاه هذه الفتاة لتفصلها تماما عن الحب الذي يشعر به تجاهها.
همت ريم بالانصراف إلى المطبخ: سأحضر لكما ما تشربانه.
استوقفها لؤي: لا تزعجي نفسك... وقتي ضيق ولن نمكث هنا طويلا... اجلسي من فضلك.
شعرت أنهما جاءا لسبب ما، وفهمت مروى أنه عليها أن تتراجع عن القرار الذي اتخذته بشأنها. ولم يلبث أن انصرف إلى الخارج معتذرا: سأعود في الحال.
ترك المكان فحدقت ريم بضيفتها بارتباك عندها قالت لها: هذا منزلك؟
أجابتها مشيرة إلى أخيها: منزلي وأنيس... إنه تركة والدينا...
سألتها مرة أخرى: متى توفي والداك؟
أجابتها وقد اغرورقت عيونها بالدموع: توفي والدي قبل سنوات. ولحقته أمي أواخر العام المنصرم... كانت عائدة من عملها تحت المطر. وكالعادة مرت عبر خطوط السكة الحديدية لتختصر المسافة فوقعت وتأخرت في العبور. وشاء القدر أن تنتهي تحت عجلات القطار.
عبست مروى متألمة بينما انحدرت دموع الأخرى متذكرة المأساة: بعد رحيلها تحتم علي أن أعيل أخي... وكانت أمك كريمة معي وقررت توظيفي بالمنزل رغم أنها لم تكن في حاجة لخادمة.
هزت رأسها بأسف ثم قالت: ودراستك؟ تبدين صغيرة بالسن...
تنهدت بحسرة: لقد تركتها... لم أنجح بالبكلوريا العام الفائت... وكان من المفترض أن أمتحن فيها هذا الصيف أيضا. لكنني...
ورفعت يديها بقلة حيلة ففهمت الأخرى أنها تخلت عن دراستها بسبب العمل. فقالت: عليك أن تدرسي.. وأن تنجحي... يجب أن تكون معك شهادة لتحصلي على عمل يليق بك...
ظلت على صمتها، فتابعت: سأتحدث إلى أمي وهي ستعرف كيف تنظم مواعيد عملك وستساعدك لتكملي دراستك... هي أمهر مني في هذه الأمور.
نظرت إليها بامتنان: لا أريد أن أشق عليكم...
استعدت واقفة وهي تقول: لا داعي لهذا الكلام، يمكنك استلام عملك من جديد... عودي وقتما تشائين وأمي ستقف إلى جانبك مؤكد...
شعت السعادة من عيونها شمسا بلا مغيب وراحت تشكرها بامتنان حتى قاطعتها: لا عليك... اعتني بأخيك وحسب.
ونظرت إليه فكان يجلس على كرسيه بوهن ويداه في تقاطع وكأنهما لا تخضعان لسيطرته. سألتها بأسف: من يعتني به في غيابك؟
أجابتها: إنها جارتي. تسكن بالبيت المقابل. تقدم له الطعام والشراب ويبقى بالمنزل وحيدا حتى عودتي.. وعندما أتأخر في الرجوع ليلا أتصل بها وأطلب منها أن ترسل زوجها ليطمئن عليه... وحتى لا أشق عليها في أخذه لدورة المياه ألبسه حفاظات وأغيرها له عند عودتي بعد العصر وآخر الليل...
بدت متألمة من أجله: هذا متعب له ولك... يجب أن تعتني به أكثر...
صمتت لبرهة ثم تابعت: سوف أطلب من أمي أن تأخذ حالة أخيك بالحسبان.
دخل لؤي يحمل بعض الأكياس وتركها بالممر فاقتربت منه مروى حتى يغادرا ثم التفتت إلى ريم: اعتني به...
ردت عليها: رعاكما الله وسدد خطاكما.
تركا المنزل باتجاه السيارة فأطلت من خلفهما مودعة وهي تعتب على لؤي إحضاره لكل تلك الحاجيات.
غادرا المكان وطوال الطريق ظلت مروى صامتة تسترجع تلك المناظر التي مرت عليها بين تلك الجدران فتأملها سريعا ثم عاد لقيادته: ما بك؟
رجعت من أفكارها على صوته: أنا بخير...
ولم يقل كلمة بعد فسألته: لم تسألني عما دار بيننا من حديث.
لم يلتفت إليها: لا حاجة لي بذلك... أنا أعرفك.
ابتسمت لكلامه دون أن تضيف المزيد ثم انتبهت على يده التي كانت على المقود: أين خاتمك؟
تأمل أصابعه: اعتقدت أنه يزعجك...
عرفت أنه لاحظ تحديقها الطويل به وهو يحتل اصبعه وكأنها تحسد صاحبته، وتفهم غيرتها من ريم فبادر إلى خلعه بعد أن أصبحت زوجته والأحق به...
أخفت سعادتها بعيدا عن عيونه والتزمت الصمت التام رغم أن الفرحة التي كانت تطل من عينيها تفضحها. ثم أشارت له بسرعة وقد أصبحا في قلب المدينة: توقف... توقف... توقف...
قالتها متتالية بسرعة فركن على عجل: ماذا هناك؟
نزلت من السيارة وأسرعت الخطى باتجاه أحد المتاجر الكبيرة فتأفف بنفاذ صبر: هل هذا وقت تسوقك!
وراح يبحث عن مكان يُسمح له بالتوقف فيه قبل أن يحصل على مخالفة لركنه هناك.. وبعد بعض الوقت اتصلت به فعاد لأخذها وانطلق من جديد: ماذا اشتريت؟...
لم تجبه فتدارك سؤاله: آسف... لم أقصد التدخل في خصوصياتك.
أصبح الطريق مزدحما فتأمل ساعته: سأتأخر في العودة... ووالدك لن يسكت...
توقفت حركة السير فشغل الراديو وبقي يطرق على المقود بأصابعه بتتابع ليشغل نفسه. وهي تراقب حركته باسمة إلى أن توقف واستند بذراع يسراه على المقود فيما بقيت كفه وأصابعه بالهواء ورغم أنها قررت الاحتفاظ بمفاجأتها للنهاية إلا أنها وجدت نفسها تخرج الخاتم الفضي الذي اشترته للتو من حقيبة يدها وتضعه بإصبعه بحذر واستحياء.
رفع رأسه وتأمل أصابعها الرقيقة المطلية أظافرها بالأبيض وهي تنزلق بالخاتم في بنصره على مهل... تفاجأ للحظات ثم توسعت ابتسامته وهو يتأمل احمرار وجنتيها ولمعان عيونها المحدقة به بكل حب. ودون كلام أمسك بكفها في يده وقبله وقلبها يدق بعنف في صدرها. ثم أبعد يده لكي يتأمل خاتمه فهمست له: هل ستحتفظ به حتى بعد موتي؟
التفت إليها بفزع ثم وضع أصابعه على شفاهها الوردية: لا تتحدثي عن الموت... أنا أرجوك.
أخفضت بصرها باضطراب فمرر أصابعه على وجنتها: أنت كل ما أردته لسعادتي في هذه الحياة... ولن أتحمل خسارتك... ليس بعد أن أصبح الحلم حقيقة...
شعرت بالانفعال بعد أن عادت لتنظر بعيونه القريبة منها وهمست إليه من جديد: تحبني؟
تنهد عميقا ليطفئ لهيب قلبه وشوقه... تُسائله إن كان يحبها وليس لمثله على حاله التباس... قد أذابت بين يديها قلبه وعقله وكل حواسه... وبكل سذاجة تسأله عن حبه!
أيا عمياء العيون، ألم تبصري نار الجوى طوال كل تلك السِنون!
عض شفته فيما يشبه الابتسام وهام فيها للحظات يسأل نفسه كيف سيقنعها أنه لا يعشق في هذه الدنيا امرأة سواها؟... كيف يجعلها تشعر بدقات قلبه التي تنبض باسمها؟ ولشغفه وجنونه كلما أبصرها!
انحنى على مهل وقبل خدها بحنو، ثم همس لها بصوت يغلب عليه الانفعال: هل حقا تسألينني مثل هذا السؤال!
ابتسمت رغما عنها تستعذب دفء قربه، واعترافه الضمني يزيدها شوقا لتنهل أكثر من نبع عواطفه الذي أحسته متفجرا لن ينضب.
احتواها بين ذراعيه بكل حب وشفاهه تقبل جبينها وناصيتها: حبي لك قصة عذاب لم يعرفها غيري ولن أبثها لغيرك...
حاوطته بذراعيها هي الأخرى تقربه منها أكثر دون أن تقول المزيد، كان قربه منها هو كل ما تحتاجه لتشعر بالأمان... بالسكينة... براحة نفسية لم تعرف لها منذ زمن مثيل...
عندما التحما معا يذوب كل منهما في مشاعر الآخر نسيا الدنيا وما فيها... ونسيا حركة المرور وابتعاد السيارات قبلهما حتى أفزعتهما أبواق من خلفهما.
ابتعدت عنه بسرعة تشعر بالحرج بينما أشر لمن خلفه بيده من خلال النافذة أن تمهلوا، وانطلق بالسيارة وشفاهه منفرجة بما يشبه الابتسامة: ضعي حزام الأمان حبيبتي...
ثبتت حزام الأمان حولها فمد لها كفه لتتمسك بها واستمر يقود بيد واحدة ولا يفلت يدها حتى عند امساكه بمحول السرعة.
••••••
كان أسامة جالسا رفقة أبيه بغرفة الاستقبال ومعهما باقي الاخوة وكلهم في صمت ووجوم إلى أن نطق أحدهم: لقد تأخرا في الوصول... ألم يخبرك قبل نصف ساعة أنهما بالجوار... كيف لم يصلا حتى الآن!
أجابه مفترضا: ربما عطل بالسيارة!
نطق آخر: الرأي أن تتصل به مجددا... لدينا ما يشغلنا وقد أضاعا الكثير من وقتنا.
أومأ موافقا ثم حمل هاتفه وطلب رقم محمود، في الوقت الذي دخلت فيه منال وهي تحمل بين يديها صينية أكواب الشاي وراحت تقدمه لإخوتها.
أقفل الخط بعد لحظات وهو يقول: إنه لا يجيب.
أشار إليه والده: اطلبه مرة أخرى...
امتثل لأمره بينما أخذت منال الصينية فارغة وعادت إلى المطبخ أين كانت أمها جالسة تقشر الخضروات. فوضعتها جانبا وجلست مقابلة لها على نفس الطاولة، ثم قالت: هل تعتقدين أنهم سيمنحونها صك الغفران؟
رفعت طرفها إليها لوهلة ثم عادت لتكمل عملها في صمت فاستطردت من جديد: إذا كنت أنت أمها عاجزة عن مسامحتها فهل سيفعل ذلك أحد منهم!
كانت كمن يحدث نفسه فقد اعتزمت امها التزام الصمت التام، وتابعت هي تقول: أحيانا أفكر في أنها اتخذت القرار الصائب بهروبها... وأحيانا أخرى أكرهها لأنكم حملتموني وزر خطاياها...
خرجت الأم عن صمتها فقالت بنفاذ صبر: زواجك من صهيب كان أفضل ما حصل معك بكل حياتك...
أطلقت ضحكة ساخرة ثم عادت لتقول بمرارة: إن كنت تقصدين الجزء الذي يخص وفاته في فرنسا بعد عشر سنوات من الهجرة وما ورثناه أنا وبشرى من مال فأوافقك الرأي... لكن فيما يخص هروب نسرين منه، وعرضي عليه كحل بديل وعمري لا يتجاوز الخامسة عشرة فهذا أمر لا يُغتفر... أما بالنسبة لإهانته لي وضربي وتهديدي طوال سنوات عيشي معه فهذا عذاب لن أنساه حتى أنزل قبري... وأجدني أسأل نفسي كل يوم قبل أن أنام... هل أنا قادرة على منحكم الغفران لأنكم جعلتموني أدفع ثمن أخطاء ارتكبها غيري... ألم تجدوا حلا للفضيحة التي أوقعتكم بها نسرين غير جعلي كبش الفداء فيها!..
سكتت تستطعم مرارة ما تقوله ثم أردفت: ليست نسرين... ولا أنا من يتحتم عليه طلب الصفح منكم مخافة الوقوع في عقوق الوالدين، بل أنتم من عليه طلب الصفح منا بسبب كل ما عانيناه طوال سنوات عمرنا التي انقضت بلا أمل... وللأولاد على الآباء حق... ألا تعتقدين!
كانت كمن يحدث صنما... تلك الأم التي لا تفقه كثيرا مما تقوله ابنتها ربما هي ضحية أخرى لتلك الأسرة التي أكسبتها تبلدا في المشاعر وغلاظة في الاحساس...

بعد أن طال بهم الانتظار دون أن يرد محمود قرر أسامة الخروج إلى الطريق عله يبصر قدومهما من بعيد.
وفور خروجه من الباب تعثر بحقيبة يد صغيرة حملها بدهشة وتفقدها فلم يكن بها غير بعض أغراض النساء وهاتف ذكي لم يفلح في فتحه إلا أن ما هاله فيه هو وجود صورة محمود على شاشته.
انتفض فجأة بفزع وتحقق من المنطقة قرب البيت فتأكد من وجود أثر لعجلات سيارة قد توقفت هناك ثم انطلقت بنفس الاتجاه الذي قدمت منه من جديد... فكر للحظة: هل هذه حقيبة نسرين؟... كيف أوقعتها!.. متى وصلا؟ ولماذا قفلا عائدين!
••••••

وقف بشير في مكتبه بالشركة يدور باضطراب ويديه بجيوبه.. عيونه حمراء كاللهب وعبوس وجهه لا يبشر بخير.
طرق لؤي على الباب فسمح له بالدخول وما لبث أن قال فور مشاهدته: أين كنت منذ الصباح!.. لدينا ما هو أهم من خروجك لتتسلى...
أجابه معتذرا: آسف سيدي.. كانت لدي بعض الأمور العالقة...
أشار إلى الكمبيوتر فاقترب لؤي منه وحدق بشاشته... إنها رسالة التهديد الثالثة التي تصله من المافيا الإيطالية التي أصبح يتعامل معها مؤخرا...
استخدم الترجمة ليفهم ما تقوله ثم رفع رأسه لسيده: إن كانوا حقا يهددون بقتلك وأسرتك فلماذا لم يفعلوا هذا حتى الآن! إنها ثالث رسالة والوضع على حاله منذ أشهر...
لم يجبه فتابع بعد تفكير: هل فكرت بدفع مستحقاتك تجاههم؟
حدجه بنظرات ساخطة ثم قال: يريدون إفلاسي بين ليلة وضحاها... لن أدفع لهم مبلغا مماثلا ولا في أجمل أحلامهم...
قال فور أن صمت: يجب أن نرفع تعزيزاتنا الأمنية... سأضاعف من الحراسة حول البيت ومن موكب الحرس الخاص أثناء سفرك.
تذكر سفره إلى "مالطا" بعد بضعة أيام: سوف تكون على رأس الحراسة أثناء السفر.
هذا ما سيقلب كل خطته... يجب ألا يخرج معه في سفره هذا، أجابه بنباهة: عندما تترك البيت سيتركز الخطر كله على أسرتك... زوجة وابنة لا حول لهما ولا قوة ولا فكرة لديهما حول ما يحصل سيكونان فريسة سهلة... قد يفكرون في ابتزازك..
راح يدرس الموضوع بينه وبين نفسه فاستأنف الآخر يقول: هم يعرفون أنك مصدر المال ولن يعرضوك للأذى... لذلك سيستخدمون المحيطين بك للضغط عليك. وهذا أمر وارد...
تنهد بوجوم: إذن ستبقى هنا لحماية البيت بمن فيه... كن يقضا وابقى على اتصال دائم بي... لو لم يكن اجتماعا مهما لألغيت السفر... لكن هذا أمر مستحيل...


noor elhuda likes this.

بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:28 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.