آخر 10 مشاركات
الجبلي .. *مميزة ومكتملة* رواية بقلم الكاتبة ضي الشمس (فعاليات رمضان 1436) (الكاتـب : قصص من وحي الاعضاء - )           »          آسف مولاتي (2) *مميزة ومكتملة * .. سلسلة إلياذة العاشقين (الكاتـب : كاردينيا الغوازي - )           »          جدران دافئة (2) .. سلسلة مشاعر صادقة (الكاتـب : كلبهار - )           »          أسيرة الثلاثمائة يوم *مكتملة * (الكاتـب : ملك علي - )           »          شيوخ لا تعترف بالغزل -ج3 من سلسلة أسياد الغرام- لفاتنة الرومانسية: عبير قائد *مكتملة* (الكاتـب : noor1984 - )           »          إحساس جديد *متميزة و مكتملة* (الكاتـب : سحابه نقيه 1 - )           »          مشاعر على حد السيف (121) للكاتبة: Sara Craven *كاملة* (الكاتـب : salmanlina - )           »          أرملة أخيه-قلوب زائرة(ج1 سلسلة حكايات سريه) للكاتبة : عبير محمد قائد*كاملة&الروابط* (الكاتـب : قلوب أحلام - )           »          خادمة القصر (الكاتـب : اسماعيل موسى - )           »          رغبات حائرة (168) للكاتبة Heidi Rice .. كاملة مع الروابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

Like Tree35Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 09-09-21, 02:19 AM   #71

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي


اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة زهرورة مشاهدة المشاركة
ااحداث سخنت الله يستر بس بالله لاتعملي شي في لؤي ومروة. كرهت غباء وحقد ريم على مروة هي السبب في فشل تحرير الاسرى وفضح لؤي كرهتها.. ياقوته راحت فبن ..ريماس قررت تفضح بشير وان شاءالله نهايته قربت..
محسن وسهام مع اني ضد فرق السن بس هي محتاجة لمحسن وحاسة معاه بالامان.

محمود ونسرين ازاذ حيقدروا يهربوا يارب محسن يقدر يوصل لهم.. ومروة المافيا خذتها مسكينةياحرام مالها ذنب.

منتظرين الاحدات الجاية بشوق
يسلمو حبيبتي.
الأحداث تتجه نحو النهاية. مروى ولؤي في مرحلة حرجة.
ريم ضحية أخرى من ضحايا بشير. ولو أنه غباءها سبب كارثة.
محمود ونسرين في خطر ومحسن يحاول أن يجد ذاته من جديد مع سهام...
منابعة شيقة حتى اللنهاية


بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 09-09-21, 02:22 AM   #72

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة سوووما العسولة مشاهدة المشاركة
مساء الخير والابداع والجمال... قرأت روايتك بالصدفة وحبيت جدا اسلوبك وطريقة سردك وشفت نفسي فجأة في اخر فصل... مبدددعة مبدعة فعلا. انسجمت مع الأحداث لدرجة اخويا ينادي وانا اقولو استنى لؤي يمكن يموت😂😂لاتتاخري علينا بليز وحبيت اعرف متى ينزل الفصل الجاي سلمتي وسلمت يمناكي.. بانتظارك..
جميلة هي الصدفة التي حملتك إلي.
ضحكتيني حبيبتي.... ممكن ما يموت لؤي... حرام مروى ما ممكن تتحمل الصدمة.
الفصل سينزل الآن لعيونك


بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 09-09-21, 02:25 AM   #73

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الواحد والثلاثون

أشرق صباح اليوم التالي صامتا كئيبا وكأن شيئا لم يكن...
نسمات الربيع ترفع ستائر ذلك البيت الذي أضحى خرابا، لقد دمره أولئك الرجال وحطموا كل أثاثه عن قصد... كان يجب على بشير أن يفهم أن الوضع لا يحتمل المزاح قبل هذا اليوم، لكن جشعه وطمعه هو من جعله يفقد ابنته، أعز ما يملك.
وصل صباحا فور أن سمع بالخبر... وكان يسير بتعب متحاملا على آلام بطنه المبقورة... تفاجأ فور أن شاهد الدماء على الأرض وفي كل مكان... لم يهتم بعدد رجاله القتلى فأمهاتهم ونساؤهم هن من سيبكينهم لا هو...
فور وصوله إلى الباب قابله المحقق: صباح الخير سيد بشير... هل تحسنت؟
حاول تجاوزه لكنه منعه: الشرطة العلمية تقوم بعملها...
وعاد ليسأله: لديك أعداء؟.. هل تشك بأحد؟...
أجابه باقتضاب: أنا رجل ليس لديه أية عداوات...
هز المحقق رأسه مومئا، وهو يعي أن بشير لن يعطيه الحقيقة. عادة مثله من الأثرياء يلعبون بالقذارة بعيدا عن الأعين...
سأله من جديد: اتصل بك الخاطفون؟
أجابه على الفور: لا... لم يتصل أحد.
وصاح به: أين كانت الشرطة بعد أن رن عندها جرس الانذار... لماذا تأخرتم في الوصول؟
أجابه: لقد تحرك رجال الشرطة فور تلقيهم لنداء الاستغاثة، ولكن من هاجموا بيتك كانوا أسرع... إنهم رجال مؤهلون لمثل هذه الأعمال وليسوا أبدا مجرد لصوص أو أناس عاديين... كان هدفهم واضحا فأخذوا المطلوب... دمروا البيت وغادروا...
صمت قليلا ليردف: أعتقد أنك تعرف جيدا من يكونون... تحقيقاتنا مع الخدم أكدت لنا أنك رفعت من احترازاتك الأمنية في الآونة الأخيرة... ثم أين هو رئيس الحرس... بلغنا أنه اختفى هو وأحد الرجال قبل الهجوم بقليل؟
نهره بشدة ليسكت: أنت تقول كلاما كثيرا وأنا لا أعرف أي شيء... يبدو أنه من الواضح لك أو لغيرك أنني كنت بالمستشفى طريح الفراش، ولست أعرف أي شيء مما حدث.
توقف المحقق عن طرح الأسئلة ثم قال له: يمكنك أخذ قسط من الراحة في مكان آخر حتى تنهي الشرطة أعمالها.
••••
مع طلوع شمس الصباح أصبح بإمكان محمود ابصار الكوخ بكل ما فيه من معدات... عيونه ترى كل شيء لكنه مكبل مكانه لا يقوى على الحراك.
هز نسرين فأفاقت مذعورة، همس لها: أنت بخير؟
أجابته متألمة: أنا بخير...
كان يعلم أنها تخفي عنه تدهور حالها، ولم يكن بوسعه فعل شيء لا لها ولا لنفسه.
قال بعد صمت: حبيبتي... أعلم أنك متعبة وربما سنخاطر بالجنين... لكن يجب أن نحاول لنخرج من هنا أحياء.
سألته مباشرة: ما الذي تريد أن نفعله؟
أجابها: أنظري إلى الجدار... هناك حيث تلك الآلة...
كانت آلة لقطع الأعشاب الضارة يُعلق محركها على الظهر لتمتد عصاها إلى الأمام منتهية بمروحة حادة تقطع العشب بحركات دورانية سريعة... وابن الفيلات والشركات أبدا لن يعرف ما هيتها.
أجابته: أراها...
قال مستطردا: إن زحفنا إلى هناك قد نستطيع حك الحبل على شفراتها... إنها أكثر تدليا وربما تطالها أيدينا.
بدت يائسة: وكيف سنصل إليها؟
لم يكن متأكدا مما يقول: ماذا لو ارتمينا على الأرض على جانبينا وزحفنا كالدودة!
زفرت بعدم اقتناع: وزني لا يسمح لي بدفع جسمي بهذه الطريقة... أشك في أنني أستطيع...
شجعها ليرفع حماسها: لنحاول... يجب أن نحاول.
صمتت لبعض الوقت مفكرة فاستحثها: هيا قبل أن يفكر أي منهم في الدخول إلينا للتأكد من حالنا.
بعد أن أعطته موافقتها ارتمى وإياها أرضا على نفس وضعهما في الجلوس... صرخت متوجعة وحاولت أن تكتم آلامها. فقال لها مواسيا: حبيبتي... تشجعي... لم يبق أمامنا الكثير... هيا لندفع بأنفسنا إلى الأمام.
وجدت صعوبة في مد ركبتيها لشدة تشنجهما من الجلوس وأصبحت تحس بوخز كالإبر جعلها تتألم بصوت مكتوم ومحمود يواسيها بكلمات مشجعة حتى ثنتهما وثبتتهما على الأرض، وفعل محمود مثلها ثم عد حتى الثلاثة فانزلقا على تلك الأرضية الترابية الخشنة. راحت تلهث بعد أول محاولة فسمعت محمود يقول لها: أحسنت... هيا مرة أخرى.. تشجعي أرجوك..
كررا نفس الحركة مرة بعد أخرى حتى اقتربا من الجدار. وكانت ذراع محمود متسلخة من الحصى والحجارة بينما نجى ذراعها من تحت أكمام ثوبها، لكنها كانت تشعر بألم لا يطاق وصداع وغثيان.
الآن وقد أصبحا قرب الجدار، لم يعد في وسعهما الجلوس مرة أخرى فهما يحتاجان لأن يسندا نفسيهما بأيديهما ليتمكنا من استرجاع الوضع الأول لكن أيديهما مربوطة وليفكاها يحتاجان للجلوس... إنها دوامة فارغة!
رفع قدميه المقيدتان يحاول إسقاط الآلة فصرخت به: ماذا لو كانت ثقيلة!
أجابها: لا تبدو كذلك... يجب أن نحاول.. أن أكسر بعض عظامي أفضل من أن نخسر حياتنا.
حاولت منعه مرة أخرى: ماذا لو سمعوا صوت ارتطامها بالأرض!
أجابها وهو يمد رجليه من جديد: لا يبدو لي أنهما بالجوار...
بعد عدة محاولات فاشلة تمكن من اسقاطها أرضا، فنجا رأسيهما من ثقل المحرك بينما أصابت شفراتها ساقه فتمزق سروال الجينز الذي يرتديه وجرت دماؤه، تألم للحظة متفاجئا من حدتها ثم همس لنفسه: هذا ما نحتاجه...
سألته بخوف: أنت بخير؟
طمأنها، وراح يحك الحبل الذي يربط قدميه بضع مرات على تلك الشفرات حتى شعر أنه قُطِع، ففرجهما وألقى به بعيدا ثم وضع الآلة بين قدميه وحركها لتصل تلكم الشفرات إلى مربط يديهما.
كانت حادة جدا فنزفت أصابعهما قبل أن تتأذى الحبال، ومع بعض الصبر والمثابرة تمكن من قطعها وتحررا.
كانت لحظة فرح غامر وعدم تصديق... ضم كل منهما الآخر، وراحت نسرين في البكاء وهو يحثها على الصبر للتحرك بسرعة قبل أن يصل أحد.
جعلها تجلس قرب الجدار لتكون خلف الباب إذا ما فُتحت، وحمل الرفش واختبأ بالقرب منها هامسا: سننتظر وصول أحدهما... سيأتي أي منهما ليلقي علينا الخبز اليابس والماء حتى لا نموت جوعا...
كانت تشعر بخوف شديد وهي ترجو من الله النجاة، وفجأة شعرت بسخونة تسري أسفل منها فأدركت أنها قد بدأت تنزف...
لم تخبره بما يحصل معها وقررت أن تلتزم الصمت حتى يفرج الله كربهما.
عندما سمعت وقع خطوات تقترب من الباب عرفت أن القادم أصعب من كل الذي مضى... أغمضت عيونها عندما علا صوت صرير الباب الخشبي، فسمعت شهقة الرجل باندهاش وهو يصيح: أين ذهبا...
شعرت به يهم بالإسراع لإخبار صديقه لكن صوت ضربة قوية أجفلها وجعلها تفتح عيونها لتشاهد الرجل ملقى على الأرض ورأسه ينزف، بينما يلقي محمود بالرفش بعيدا ويبدأ بتفتيشه بحثا عن سلاحه.
أخذ منه مفاتيح السيارة أيضا وبعض الذخيرة، ثم خبأ كل شيء في ثيابه وراح يحاول جعلها تقف على قدميها ليسرعا بالفرار.
فتح الباب ببطء وأطل منه يحاول تحديد مكان السيارة ثم عاد والتفت لها: تستطيعين الركض؟
هزت رأسها نفيا وكان الألم يعصرها... إنها تجهض طفلها!
لم يعرف إن كان عليه الاهتمام بها أم مراقبة الطريق أم البحث عن السيارة...
تأمل المفاتيح بيده ليعرف نوع المركبة التي يجب أن يبحث عنها، ثم عاد وأطل من جديد فرآها متوقفة قرب باب المنزل القريب... كانت الحقول حولهما تمتد على مد البصر وسنابل القمح تتراقص مع هبوب النسيم.
أشار لها أن تنتظره وخرج بحذر يختبئ خلف كل حاجز ليمنع أيا كان داخل المنزل من رؤيته عبر النوافذ.
عندما وصل إلى باب المركبة ألغى القفل من الحمالة التي ترافق المفاتيح فسمع طقطقة الأبواب، عندها تأكد من أنه لم يخطئ هدفه...
ركب بسرعة وقادها باتجاه الكوخ الذي لم يكن بعيدا، ثم فتح الباب لنسرين التي ركبت إلى جانبه مباشرة، وماهي إلا لحظات حتى بدأ الرصاص يخترق هيكل السيارة.
صرخت بقوة وأخفضت رأسها فأسرع محمود بالقيادة إلى الخالف حتى وصل إلى الطريق ومن هناك راح يقود نحو الأمام ويزيد من سرعته يتبع نفس الطريق دون وجهة... كان عليه أن يبتعد قدر الإمكان، هذا كل شيء... حتى وإن كان جاهلا لما ينتظره.
••☆•☆

مر أسبوع كامل والأوضاع على حالها دون جديد...
بشير دفع كل مستحقاته للمافيا، لكن لا أحد من الرؤوس الكبار يريد أن يتحدث إليه... حتى أنهم لم يطمئنوه عن ابنته ولم يسمع صوتها منذ ذلك اليوم الذي اختطفت فيه.
أما ريماس فكانت تحاول الاستقرار في مسكنها الجديد بأحد الأرياف السويسرية الخضراء لتبدأ من هناك هجومها الشرس على ذلك القذر الذي جعل حياتها بطعم العلقم ولون الرماد.
محسن عقد قرانه على سهام وقد اقترب موعد زفافهما، لكنه لم يسمع حتى الآن أي أخبار عن ابنه ونسرين... أما هذان الاثنان فحكايتهما طويلة.
إن تأخرا في الوصول حتى الآن فلا يبدو أنهما قد استطاعا النجاة من بشير... وإن كان هذا الأخير لم يرسل له برأس ابنه فلابد وأنه مشغول بقضية ابنته...
خرج إلى الحديقة وجلس على الدرج كئيبا مهموما وكأن ثقل الدنيا كله يجثم فوق صدره.
بلغه أن لؤي لقي حتفه وتكفل بشير بإرسال جثته إلى مسقط رأسه بتلك القرى العالية هناك بالجبال... كان الوغد كريما بما يكفي ليسمح لأبويه بإلقاء نظرة أخيرة عليه...
أبواه اللذان لم يكونا بالمنزل لتوديعه. فشيعه الجيران إلى مثواه الأخير...
رحيل لؤي معناه انكسار ظهر محسن... وغياب ابنه كل هذا الوقت بلا خبر ينبئه بالأسوأ لا غير.. أصبح مثل المجنون يكلم جدران البيت ويصب غضبه على كل آنية فيه...
غدا يوم زفافه... في الغد ستزف إليه سهام عروسا في حلة بيضاء تماما كما تمناها قلبه... لكن قلبه اليوم مكلوم... إنه مهشم يئن ألما ويشكي وجعا...
من يطل عليه ويراه في جلوسه ذاك سيشفق عليه من عذابه وحزنه... هو الرجل الذي يكره أن يثير شفقة أحد!
••••
في الصباح الباكر لليوم التالي سمع بشير صراخا بقاعة منزله فخرج من غرفته على عجل ووقف أعلى الدرج ليشاهد مروى واقفة هناك والخدم حولها يسألونها عن حالها.
أسرع في النزول وتجاوز الجميع ليأخذها في حضنه وهو يسألها إن كانت بخير.
كانت تذرف دموعها وهي تردد أنها بخير، وأنها خافت كثيرا وكادت تموت رعبا..
أخذها تحت جناحه لترتاح بغرفتها، وطلب من الخدم أن يجهزوا لها الحمام وبعض الطعام... ولم تكن في تلك اللحظة بحاجة إلا لحضن لؤي حتى تسكن آلامها...
استرخت في المياه الدافئة وأغمضت عيونها بتعب... لازال الخوف يسكن عظامها وليست تصدق بعد أنها في أمان... حملقت بالخادمة التي كانت تعلق المناشف وسألتها: أين لؤي؟
صمتت لبرهة ثم أجابتها: بلغنا أنه مات.
نزل عليها الخبر كالصاعقة فهبت واقفة: مستحيل!
طأطأت الخادمة رأسها: هذا ما وصلنا...
ظنت أن رجال تلك الليلة هم من قتلوه ولم تكن تعلم بأنه مشى لحتفه...
صرخت بها: غير ممكن.. هو لم يكن ليلتها بالمنزل فكيف يموت!!!
التفت في المنشفة وخرجت إلى غرفتها لترتدي ثيابها بسرعة. ثم توجهت إلى والدها في الحال.
طرقت على باب المكتب ودخلت، فرحب بها وطلب منها الجلوس.
وقفت تناظره لبعض الوقت ثم نطقت: أين هو لؤي...
أطرق للحظة ثم رفع رأسه بأسف: لقد مات...
صرخت به غير مصدقة: كيف مات؟.. لم يكن بالمنزل!!!
ما كان ليفتح معها موضوع السجون التي احتضنت جثته الهامدة فقال بعد صمت: وصل بعد الهجوم مباشرة وتم قتله...
شحب وجهها فجأة واسودت الدنيا أمام عيونها... شعرت بساقيها يخذلانها قبل أن تتهاوى أرضا على صوت صراخه...
•••••
كانت التحضيرات على قدم وساق في منزل سهام التي تزينت لتصبح أجمل عروس قد تقع عليها عين بشر... في ثوب أبيض يتلألأ بوميض الأحجار التي تزينه وقفت بين إخوتها وكل واحد يبارك لها ويتمنى لها الأفضل... كانت عيون البنات عليها يحسدنها لأنها ظفرت بزوج آخر بهذه السرعة "إحداهن تتزوج مرتين وأخريات لا يجدن عريسا واحدا!!!"
قطبت بعبوس عندما سمعت ابنة خالها الكبرى تقول هذا الكلام فربتت أمها على كتفها: ابتسمي لتحرقي قلب الحاسدين..
وراحت تلتقط معها بعض الصور. وتدعو إخوتها ليخلّدوا هذا اليوم الجميل ويتشاركوا معها فرحتها.
التفتت إلى أمها: أين والدي؟ أريد صورة معه...
أجابتها: تعرفين أنه لا يحب الاكتظاظ وكثرة الأصوات... سأناديه في الحال.
لم يبق الكثير على وصول عريسها ليأخذها إلى منزله أين سيقام الاحتفال البهيج...
ذلك العريس الذي كان محطما لأقصى درجة وقد نال منه اليأس والجزع... يعرف جيدا أن بشير ينهي كل شيء يبدأه... ومن المؤكد أنه سيسمع أخبارا سيئة عن ابنه في بضعة أيام...
ألقى بقارورة الشراب بعيدا فتحطمت على الجدار واستلقى على الأريكة ليغفو فقد كان يسكر لينسى عذاب قلبه...
••••
فتحت عيونها بألم... مازالت تشعر بالدوخة. أحست بيد والدها تشد على كفها... كانت باردة مثل الأموات.. مات قلبه وجيفته قد أنتنت ما بين جوانبه...
حدقت به للحظة لتسيل دموعها غزيرة وهي تتذكر الخبر المفجع الذي لا تريد أن تصدقه...
سألته بعذاب: كيف مات؟
رفع كتفيه بلا مبالاة: كنت في المشفى إن كنت تذكرين!.. لست أعرف كيف مات... لكنه وُجد مع القتلى...
شهقت تنتحب بشدة فربت عليها مواسيا: اهدئي حبيبتي... سوف تنسينه سريعا..
أبعدت كفيها اللذان يغطيان وجهها وهمست بذهول: أنساه!!!
من الواضح جدا لمثله أنها كانت عاشقة له، فكيف يتجرأ بعد كل تلك الدموع أن ينطق كلمة كتلك... لا ريب في أن قلبه معدم من الأحاسيس والمشاعر.. مسكين هو، فمن أين له أن يعرف الحب!.. هو لا يعرف كيف تناجي النجوم القمر... ولا كيف تفتح الغيوم ذراعيها لينزل المطر... لم يعرف كيف تحمل الرياح أنين الشوق كل ليلة من نافذة لباب... كيف تطرق قلوب العشاق بقهر دون أن تلقى الجواب...
هو لا يرى من هذه الدنيا غير الماديات... ولن يرتقي مطلقا ليدرك تلك الأحلام، ويزرع أمله بذرة بين كل الأمنيات... صدقوني بشير الكلب لن يعرف كل ذلك...
راحت تشهق بألم وقد ضاق الكون الفسيح بها حتى باتت تشعر بالاختناق... صرخت بعذاب: أريد أن أرى قبره لأتأكد... أريد أن أراه...
أجابها ببرود: اهدئي الآن... أنا لم أسألك لِمَ كل هذه الدموع من أجله، فلا تستفزي تحفظي... وكفي عن التصرف بصبيانية... يليق بك رجل مرموق وذو أهمية. أما ذاك فليس سوى نكرة... حمدا لله أنه مات!
قالها بعينين جاحظتين تمنت أن تفقأهما في تلك اللحظة... هدأت فجأة وهي تشعر بالخواء... رحيله عنها بتلك الطريقة يذبحها من الوريد إلى الوريد ويجعل من قلبها فريسة بين ساعدي أسد...
لقد كان كأمل أومض في عتمتها لحظة ثم تبدد وتاه في تلك الدياجي...
عاد ليقول لها من جديد: إن كانت رؤيتك لقبره ستساعدك على تقبل الوضع فسأطلب من الرجال إيصالك في صبيحة الغد إلى القرية التي يسكنها والداه.
•••••
كل الأسرة بانتظار وصول العريس... لقد تأخر كثيرا بشكل غير مبرر والكل يتصل به دون أن يجيب... وجه مصطفى بدى عليه الاستياء أما أولاده فكانوا يتهامسون حول الموضوع...
سهام التي كانت جالسة في غرفتها لم تترك هاتفها لحظة واحدة... اتصلت به عشرات المرات لكنه لا يفتح الخط... يرن الهاتف في كل مرة ولا يجيب... ما الذي يحصل الآن!؟
لماذا أدبر عنها بهذه الطريقة!؟... قبل أيام كان يتصل بها ليسمع صوتها ويخبرها كلاما معسولا... أما في الأيام الأخيرة أصبحت هي من تتصل به... واليوم ها هو يتجاهلها ببرود!
دخلت أمها تحك كفيها بقلق: تحدثت إليه؟
رفعت رأسها إليها وهي توشك على البكاء: لا يجيب...
وتقاطرت من عينها دمعتان: هو لن يأت...
توسعت عيون أمها بفزع وراحت تتمتم بقهر: سيفضحنا أمام الضيوف... ما الذي سنقوله لهم لنبرر إلتغاء الزفاف!
ارتفع صوت بكائها وألقت بباقة الورد بعيدا وهي تردد: تبا لي من مغفلة.... تبا لي...
•••••
لم تستطع مروى النوم تلك الليلة، أمضت كل الوقت في العويل والبكاء... أصبحت عيونها حمراء قانية ووجهها منتفخ، لكنها لم تمل البكاء.
سمعت طرقا على الباب وبعدها دخل والدها. تقدم منها وسحب له كرسيا ليجلس قرب سريرها: يجب أن تكفي عن البكاء!
كانت ستصرخ به "وما شأنك!!" لكنها التزمت الصمت.
ألقى إليها بملف فتحته فقابلتها صورة لؤي... تهاوت دموعها مباشرة، فأخرسها: كفي عن النواح!
ثم أشار إلى الاسم: هذا هو اسمه... حتى لا تقولي أنني كاذب عندما ترين الشاهد على قبره...
وأكد عليها: اسمه الحقيقي "فؤاد المنصور"... هل هذا واضح...
أخذت منه الملف فلم يحاول استرجاعه.. ضمته إلى صدرها وانكمشت على نفسها مولية إياه ظهرها وصوت نشيجها يصل أذنيه.
فسألها بملل: أين هي أمك؟
أجابته بتهدج: لا أعلم...
تنهد باستياء: حسابها معي عندما تعود.
ظنها غاضبة منه بعد أن عرفت بحقيقة عشيقته، ولم يكن ليدرك أن القطة الوديعة قد أصبحت لبوة شرسة...
ترك الغرفة أخيرا موصدا الباب خلفه، بينما بقيت مروى تشهق بحرقة وهي تشعر أن قلبها سينفجر من شدة الألم وأن روحها حتما ستغادر هذا الجسد.
•••••
أرادت أن تنام لكنها لم تستطع أن تغمض عيونها المتورمة من شدة البكاء... لقد تخلى عنها في يوم زفافهما... تركها كسيرة بعد أن أعطاها أملا في غد أفضل... أعطاها وعودا وشجعها على أن تعيش الحياة... لولاه ما كانت لتهب قلبها لرجل من جديد...
تقلبت فوق سريرها والألم يعصرها عصرا ويعضها عضا... لم تحتمل حتى ملمس الفراش الذي تنام عليه!
استقامت بجذعها تتأمل ابنها النائم على السرير المقابل ثم قامت إلى الخزانة وسحبت منها بعض الثياب وارتدتها على عجل.
أخذت حذاءها وحقيبة يدها وخرجت إلى الشارع في جنح الظلام. كان عليها أن تقابله وتصرخ بوجهه.. أن تقول كل ما يجب قوله ثم تقفل عليه أبواب النسيان كما فعلت مع سابقه.
أوقفت سيارة أجرة لتصل إلى منزله، ولم تمض سوى بضعة دقائق حتى كانت عند الباب.
دفعت للسائق وطلبت منه انتظارها فقال أنه لن ينتظر أكثر من ربع ساعة، دخلت إلى البيت بعد أن فتح لها البواب فسألته بفضول: السيد محسن هنا؟
أخبرها أنه في المنزل، فحثت الخطى تقطع ذلك الطريق الحجري على طول الحديقة... استطاعت أن تشاهد طاولات العرس المستديرة مع كراسيها المزينة على الجهة اليمنى... يبدو أنه كان مستعدا للاحتفال! ما الذي تغير في آخر لحظة؟
عندما دخلت إلى الفيلا قابلتها ليلى بترحاب: أهلا أهلا سهام... كيف حالك؟
أجابتها باقتضاب: أين محسن؟
ردت عليها باستنكار: السيد محسن...
ثم أردفت: نائم بغرفته...
توجهت رأسا إلى الدرج والأخرى من خلفها تحاول منعها من إزعاجه، ولا يبدو أنها تعرف بأن سهام هي العروس المنتظرة.
سارت على طول الرواق حتى توقفت أخيرا عند باب جناحه فأدارت المقبض ونظرت إلى ليلى: غادري... لدينا ما نناقشه...
فغرت فاها بدهشة ولم تجب، فدخلت سهام وأقفلت الباب من خلفها.
استطاعت أن تشتم رائحة الشراب منذ أن دلفت للداخل. شعرت بالاشمئزاز وتوعدته بسيل من الشتائم اللاذعة لهذا السكير الذي لا يخاف الله.
كانت القاعة هادئة رغم الفوضى... سارت بعجل حتى فتحت باب غرفة نومه ودخلت. شاهدته نائما على صدره بعشوائية وحوله قناني الشراب.
أغمضت عيونها باستياء... هذا آخر ما تمنت أن تشهده في يوم زفافها. اقتربت منه ترجه فاستفاق مبهوتا وعلقت عيونه عليها بضع لحظات ظنتها دهرا...
قال بتعب: أنت هنا؟
سألته: كم هي الساعة؟
أجابها بعتاهية: لا أعرف...
سألته مرة أخرى: في أي يوم نحن؟
صمت وكأنه لا يريد أن يجيب فأردفت بحنق: في يوم زفافنا على ما أعتقد...
صمتت وصدرها يعلو ويهبط من الغضب... كانت تنتظر رده لتهجم عليه.
حاول الوقوف وهو يمسك برأسه من الوجع ثم استوى جالسا على السرير بتعب: سهام... فعلت هذا من أجلك... أنت إن أصبحت زوجتي فمصيرك سيكون نفس مصير ابني...
شعرت بانكساره بعد أن نطق كلمته الأخيرة فتحولت معالمها من الاستنكار للدهشة: ما الذي تقوله؟
تابع ويده تمسح على وجهه بيأس وإرهاق: مضت عشرة أيام منذ اختفائه وزوجته... بشير سيقتله وسيرسل لي صور الجريمة لأحتضر من بعده...
تنهد بغم وأردف: إنه أسوأ من الشيطان... إن عرف بحبي لك سيقتلك.. سينكل بك فقط ليميتني قهرا...
وصمت معذبا وهي تراقبه بحيرة وجمود: من هو بشير؟
أجابها مختصرا كل الكلام: أوسخ من ابليس...
وهي تراقب وجهه وحركاته اليائسة، لم تستطع أن تمنع نفسها من الاشفاق عليه. اقتربت على مهل وجلست بجانبه: والحل؟
قال بغصة: الزفاف لن يتم وأنت ستبقين عند أهلك...
أجابته بدهشة: لكننا تزوجنا!
قال دون أن ينظر إليها: سنتطلق...
شهقت مع تلك الكلمة فرفع رأسه إليها: لن أستطيع العيش بهناء مادام في قلب ذلك البغيض نبض وفي صدره نفس... يستحيل أن أعرضك للخطر افهميني.
لم تكن لتفهمه... لقد ظنته يحاول التملص منها. وقفت لتغادر فوقف من خلفها وأمسك بكفها: ليتني أستطيع أن أمنحك الأمان...
التفتت إليه: أنت منحتني الخداع... شكرا لك...
واغرورقت عيناها بالدموع فاقترب منها أكثر... كان يقف على قدميه بصعوبة فالدوار أرهقه... أمسك بذراعيها بكلتا يديه وحدق في عيونها مباشرة: أقسم لك... أنا أحبك... وأفعل كل هذا من أجلك...
أغمضت عيونها فتقاطرت دموعها واحدة بعد أخرى واستلت نفسها من بين يديه تريد الرحيل، فتركها تفتح الباب وتغادر.
سارت مبتعدة ودموعها تنحدر على خديها ألما وضيقا... جل ما يحز في نفسها هو تحطم ذلك الحلم الوردي الذي باتت ترسمه ليالي طوال... وقلبها المجروح ما كان ليقبل منه أية حجة ينطقها...
لقد كان كسيرا مهزوما!.. لم تره بهذا الشكل حتى في أسوأ حالاته.. عيونه العسلية قد خالط بياضها الاحمرار وشكله يوحي بالانكسار التام... لا يبدو أنه يمثل عليها... هو رجل إن أراد الالقاء بها خارج حياته سيقولها لها مباشرة في وجهها وبلا مشاعر... ما حاجته لأن يقسم لها على حبه!.. ما حاجته لأن يريها مزيدا من الذل الذي يعانيه!
لابد وأنه يطمع أن تكون له سندا وعونا...
توقفت فجأة عند آخر الدرج و راحت تنظر خلفها...
فاجأتها ليلى: انتهت زيارتك؟
أجابتها بشرود: ليس بعد...
وعادت أدراجها بسرعة تحت أنظارها المتعجبة.
عندما دخلت جناحه من جديد شاهدت باب الحمام مفتوحا وصوت الماء يسيل بغزارة من الحنفية، دنت من الباب ببطء فشاهدته يجلس منتكسا على الأرض وظهره إلى الباب المفتوح... لم تر في حياتها أقسى من ذلك المنظر... شعرت بالإشفاق الشديد عليه وغزتها الدموع فاقتربت منه أكثر وجثت على ركبتيها بقربه ملقية بالحقيبة جانبا.
من عاش الألم بحق، لن يهمل وجع الآخرين... من تألم وحيدا، من قاسى الظلم وعرف ماهيته، من تجرع العلقم حتى الثمالة ... وحده من يعرف معنى الانكسار...
رفع رأسه إليها بيأس... عيونه المتألمة تلك تداري جرحا دفينا لا تبوح به سوى مياه مالحة كالبحر تتساقط كزخات المطر عندما لا تجد من يرصدها لتخفي مرارة ذلها و هوانها.
حدقا ببعضهما البعض للحظات دون كلام. فأغمضت عيونها وأخذت برأسه في حضنها... وبحنو راحت تمسح عليه، لتنطق من بين شفاهها المرتعشة: هون عليك...
تنهد عميقا وهو يرتخي بين ذراعيها وكأنه وجد عنوان السلام أخيرا... ولم يقل أي كلمة بل راح يستشعر الأمان الذي منحته إياه في لحظة كان فيها في أمس الحاجة إليه.
••••
بحلول صباح اليوم الموالي كانت مروى تلج مقبرة القرية بأعالي الجبال.
شدت على الباب الحديدية بقوة حتى لا تسقط وسحبت نفسها ببطء تغالب تلك الدوخة التي عصفت بها من شدة تأثرها، فحاول بعض الرجال ممن يحرسونها مساعدتها، لكنها نهرتهم وتابعت تسير الهوينة حتى وصلت إلى القبر المقصود...
قرأت الاسم على الشاهد ولم تستطع الاحتمال فخرت على ركبتيها تشهق بشدة... لم تكن تريد استيعاب الموقف ولا تصديق الواقع... لماذا الحياة قاسية لهذه الدرجة!
وضعت رأسها على كومة التراب المرتفع وراحت ترويه بدموعها وهي تئن بقلب موجوع وتهمس له بلوعة من بين شفاهها... لماذا رحلت؟.. لماذا رحلت؟.. لمن تركتني؟.. لأب مجنون أم لأم هاربة... أم لذكريات قليلة جمعتني بك وستعذبني طوال أيامي القادمة...
شهقت وأنفاسها تتردد في صدرها. تلك النيران التي شبت بصدرها لن تنطفئ قبل أن تأتي عليها لتحولها إلى رماد...
فتحت ذراعيها على اتساعهما تضم ذلك القبر إليها وهي تهمس بعذاب: يا حبيبي...
وراحت في بكاء مرير يمزق نياط القلب.
بكيت وهل بكاء القلب يجدي؟
فراق أحبتي وحنين وجدي!!
فما معنى الحياه إذا افترقنا؟؟
وهل يجدي النّحيب فلست أدري!!
فلا التّذكار يرحمني فأنسى
ولا الأشواق تتركني لنومي
فراق أحبّتي كم هز وجدي
وحتّى لقائهم سأظلّ أبكي

••••
هناك بأعالي تلك الجبال، وفي المنزل الذي سكنه محمود ونسرين طوال الأشهر الفائتة، كان فريد يفتح الباب بعجل، وما لبث أن أقفله من ورائه وراح يطل من النوافذ مخافة أن يكون قد تبعه أحد...
أطلت عليه ياقوتة تسير على العكازات ورجلها ملفوف في الجبس: ما بك؟..
قال باقتضاب: لا شيء...
ثم سألها: استيقظ من نومه؟
أجابته: أجل تركته يأخذ دواءه.
تجاوزها بعجل وصعد الدرج الخشبي الذي كان يصدر من تحت أقدامه أزيزا خافتا وطرقا شديدا حتى وصل إلى غرفة واسعة كل نوافذها مفتوحة فدخلها، وتوجه إلى السرير الذي كان لؤي ممددا عليه وعلى وجهه آثار الانهاك الشديد.
قال بلهفة: مصيبة يا لؤي... حضر رجال بشير إلى هنا... شاهدت عمر ونبيه... علينا أن نبدل المكان... أعتقد أنهم عرفوا أين نحن؟
وزمجر ساخطا: ألم تقل أن بشير سيظننا أذكياء بما يكفي حتى لا نقصد منزل عمك ماذا لو فتشو منزل والديك ثم جاؤوا إلى هنا!!!
حاول أن يستوي جالسا فساعده: حاذر على بطنك.
قال متوجعا: لقد جاؤوا المرة الماضية وغادروا عندما لم يجدوا أهلي... لم يهتم أحد بتفتيش المكان لأن بشير متأكد تماما من أنني لن أحضر إلى هنا فهو يعرف مدى حرصي.. وأنا فعلت هذا لأخالف توقعاته...
صمت قليلا ويده على الضمادة التي تغطي سائر جسده ثم استأنف: من كان برفقتهم؟.. هل جاءت مروى؟
أجابه: لا... أو بالأحرى لا أدري... لقد هربتُ فور أن تعرفت على السيارتين واستطعت أن أشاهد نبيه وعمر من وراء المقهى... كان كابوسا... خفت أن يسبقوني إليك... لكنني ارتحت عندما انعطفوا عند الجامع.
قال بانتباه: ذهبوا إلى المقبرة... لا بد وأنها تريد رؤية قبري!
شعر بالألم يمزقه فوق كل الجراح التي تغطي جسده... يعرف أنها لن تتحمل نبأ فقدانه... ستبكي بدل الدموع دماءً والله وحده يعلم متى ستسنح له الفرصة للقائها من جديد.
أيقظه صوت فريد من شروده: لماذا يفعلون كل هذا؟ ما فائدة الجثة التي جاؤوا بها ثم كيف استطاعوا أن يدفنوها دون حضور أهلك!.. أليس من المفروض أن يوقع والداك من أجل استلامها!
أجابه: الأمر كله ملعوب من بشير... وإن حضر والداي سيعرفان أن الميت ليس أنا... يريد أن يقنع ابنته بأي وسيلة أنني مت ليستطيع السيطرة عليها من جديد... ومن المؤكد سيفكر في ترحيلها إلى مكان ما قريبا جدا بهدف تغيير الجو حتى لا يتسنى لي الوقت للقائها...
صمت الآخر يفكر بإمعان ثم قال: ستنساك وتتزوج غيرك... الأفضل لك أن تهتم بجراحك ولا تحاول لقاءها فحياتنا على المحك... خروجنا من ذلك المكان في حد ذاته معجزة... ولا نريد أن نضيع هذه الفرصة التي انتزعناها من بين براثين القدر...
حدجه بنظرات ساخطة ثم التزم الصمت، ففي ما يقوله شيء من الحقيقة... الوضع حرج ولا يحتمل أي أخطاء.
••••
أرادت رؤية المنزل الذي نشأ فيه لؤي... لم ترغب أبدا في أن تترك المكان دون أن تدخله وتتأمل صور طفولته.. كانت تريد أن تبحث عنه بين الجدران، وتعانق طيفه في أروقة المكان... وتستنشق هواءً ورد رئتيه في يوم من الأيام...
قيل أنهم رأوا قيس بن الملوح (مجنون ليلى) يقبّل كلبا أجربا ويشدد من احتضانه مرة بعد أخرى فاستنكروا الأمر وسألوه: لِم تفعل ذلك؟ فقال: إن هذا الكلب سكن بديار ليلى.. مشى حيث مشت وجال حيث جالت!

توقفت السيارتان قرب المنزل فنزلت من إحداهما ووقفت تتأمل البيت للحظات والعبرة تخنقها... لم تعد تقوى على احتمال المزيد من الألم!
سبقها أولئك الرجال ليفتحوا لها الباب الذي كسروا قفله في المرة الماضية. وعندما وصلت إليهم التفتت إلى أحدهم مقطبة: كيف تجرؤون على اقتحام البيت!
أجابها: لا أحد هنا سيدتي... والداه غائبان ولا أحد يعرف أين يقيمان...
ترددت طويلا في دخول منزل ليس فيه أهله، ثم دفعت الباب ودخلت مشيرة لهم بالابتعاد..
أشعلت الضوء و اقتربت من النوافذ تفتحها... أحست بألفة غريبة تجمعها بهذا المكان وشعرت بالاطمئنان يسكنها بعد كل ذلك الخواء...
جلست على الأريكة ثم رفعت ساقيها وتقوست مثل الجنين مغمضة عيونها بأسى وقلبها يدق قهرا... كانت تئن بصوت خافت وروحها ترتجف معلقة بين الحياة والموت... لتغفو بعدها كطفلة صغيرة أعياها البكاء.
في الخارج كان الرجال واقفون داخل الفناء يراقبون المنطقة وأحدهم يكلم بشير ويخبره بكل تحركاتهم، ومن تلك النقطة بالذات كان المنزل الذي يتواجد به لؤي يظهر فوق التلة القريبة وبكل وضوح.
فريد كان يطل من نافذة الغرفة وهو يلعنهم. فسمع صوت لؤي: ماذا دهاك؟
أجابه بحنق: إنهم يجولون في الأرجاء!.. قد يكشفوننا في أي لحظة!
رد عليه بهدوء: هل هي داخل البيت؟
زفر باضطراب: حياتنا على الهاوية وأنت تسألني عن حبيبتك!... دعنا نعيش أستحلفك بالله... ليس بعد كل هذه المعاناة!
قال بصوت متهدج: سيتركون المكان قريبا... لا داعي للدراما...
راح يدور في الغرفة بقلق ثم عاد ليراقبهم من خلف الستار: إن أمضوا الليلة هنا سأنزل إليهم لأدق أعناقهم... أقسم لك..
أجابه باستنكار: ليعرف بشير أين نحن ويحاصرنا! أنا عاجز عن الحراك وتلك المرأة تسير على رجل واحدة... وأنت وحدك لن تستطيع حمايتنا!
ثم انتبه: أين السيارة؟
أجابه: خبأتها في زريبة الماشية ولن يروها...
أومأ بارتياح ثم حاول الوقوف: تعال وساعدني...
أسنده حتى وقف على قدميه متألما ثم سار باتجاه النافذة، قلبه كان يطلب رؤيتها ولو للحظات... لم يعد في وسعه احتمال بعدها عنه أكثر...
حملق فيه بملل وهو يراه يقف خلف الستار يسترق النظر للخارج، ثم قال: ظننتك ستخرج للخلاء!
لم يجبه واكتفى بتأمل مدخل بيتهم بترقب عله يراها تخرج، وعندما وهنت أطرافه عاد يسير بتثاقل إلى سريره وفريد يتململ في مكانه بين خوف وقلق، ثم حدق به مليا قبل أن يقول: حتى الآن ما زلت لا أصدق أننا خرجنا من ذلك المكان أحياء...
تأمله الآخر بانتباه ليواصل فريد بشرود متأثرا: مازال طنين الرصاص وهو يخترق الهواء كل لحظة من حولي يرسل بصداه في أذناي... تلك الرصاصات التي رُسم لها منحًا آخر غير قلبي وقلبك.. كيف استطعت أن أصيبهم بتلك الدقة دون أن أخطئ وأنا الذي كنت فاشلا في التصويب بمدرسة الشرطة!... وكيف ارتسمت أمامي الخطط لأنفذ بتلك السرعة...
صمت للحظات ثم أردف: يد الله كانت ترعانا... حمدا لله أننا نجونا من الموت المحتم لننال فرصة أخرى بهذه الحياة.
كان يحدق فيه بتأثر... فكل ما قاله قد لامس قلبه... لم يكن ليشك أن العناية الإلهية هي التي جعلتهما يخرجان من هناك أحياء وليس التخطيط وحسن التدبير.
قال له ممازحا: كنت بطلا عندما أنقذتني من الموت... أنا مدين لك بحياتي يا زورو...
قطب: زورو!
أجابه مبتسما لا يريد الضحك حتى لا يتألم: كان ينقصك فقط الرداء وأن تنقش حرف الزاد عند المخرج...
أجابه مع نصف ابتسامة: بلى فعلت...
سأله: أين؟
فأردف: على مؤخرة ذلك الغبي الذي ظن أنه سينهي أمرنا بلا ريب!
ضحك بشدة متذكرا تلك الليلة حتى استلقى على قفاه وعاد ليتألم من جراحه فاقترب منه فريد ليغطيه وهو يتمتم: يا لبرودة دمك...

يقال أن "شر البلية ما يضحك".. وما حصل تلك الليلة يتذكره لؤي بدعابة رغم أن حياته كانت على المحك... فبعد أن تراخت أطرافه وسقط أرضا تلقى عدة رصاصات قاتلة في صدره لولا العناية الإلهية أولا والسترة الواقية التي كان يرتديها.
قبل أن يفقد وعيه شعر أنهم قد أحاطوا به... لكن كل شيء تغير فجأة ليحل الظلام الدامس في المكان ويصبح صراخهم من حوله أكثر حدة ثم ينطلق صوت الرصاص من جديد وبشكل مكثف... ليغيب من بعدها مباشرة في سكون عالم مظلم لا يعي ما يحصل من حوله.
لقد قام فريد بضرب الحارس المتواجد بأحد منصات المراقبة وأخذ منه نظارات الرؤية الليلية، ثم قام بتدمير مولد الكهرباء وإضرام النار فيه ليشغل باقي الحرس... ودخل بعدها إلى المبنى باتجاه السجون مع كل ما يحمله من أسلحة احتفظ بها للطوارئ كما تقتضي الخطة. وجد الباب المؤدي إلى الزنازين مفتوحا وبالممر عدد لا يستهان به من الرجال.
بدأ باصطياد فرائسه واحدا واحدا وهم يتخبطون في ظلمات المكان دون أن تمكنهم مصابيحهم من تحديد مكانه بدقة... وعلى الأغلب ذلك الاضطراب والهلع بين صفوفهم هو من جعل منهم فريسة سهلة لمسدساته.
حدث الأمر بسرعة كبيرة ووصل فريد إلى لؤي الطريح أرضا فرجه بقوة ليفتح عيونه. ألح عليه في التحامل على كل إصاباته من أجل الخروج من هناك أحياء فهو لن يتمكن من حمله لمسافة طويلة.
أسنده إليه وكان لا يستطيع رؤية الطريق من الظلام الدامس الذي خيم على الأرجاء... تعثر بضع مرات في جثث القتلى فسأله: ما هذا؟
أجابه وهو يحاول الاسراع: رششت مبيدا فسقط البعوض أرضا!
وقبل أن يبتعدوا أكثر أطلق أحد المصابين رصاصته لتصيب ظهر لؤي مباشرة فترنح وسقط من بين يدي صاحبه.
في تلك اللحظة رجع فريد أدراجه ليشبعه ركلا وشتما حتى أفقده وعيه، وكان هذا الرجل هو من قصده بقوله "ظن أنه قادر على أن ينهي أمرنا..."
عندما خرجا من المبنى ركبا سيارتهما في حين غفلة من كل الرجال الذين كانوا يحاولون إطفاء الحريق المهول الذي شب في المكان بشكل مدمر بسبب انفجار المولد.
تمكن من الخروج إلى الطريق والابتعاد دون مطاردة، وكان لؤي ينزف بشدة وفي حال سيئة، فآخر رصاصة اخترقت الصدرية الواقية وأصابت جسده...
كان عليه أن يسرع به لأقرب مسعف، فحمله إلى بيت ابن خاله الذي كان يعمل بيطريا... ليس بيده حيلة و لم يكن ليثق بأحد.
قام البيطري باستخراج الرصاصة التي لم تخترق جسده عميقا بفضل السترة الواقية. وإلا كان رفض أن يقحم نفسه في هذا الأمر من أصله... وبعد أن نظف الجرح جيدا بالمطهرات وخاطه طلب منهم المغادرة في الحال لأنه لا ينقصه مصائب...
ظل جرحه ذاك يوجعه طوال الطريق الذي سلكاه باتجاه هذا المكان وهو يسأله: بالله عليك تراني كلبا لتأخذني لابن خالك ذاك!...
ليصمت قليلا ثم يقول: ما الذي وضعه بالجرح إن الألم به لا يطاق؟!
فيرد عليه بعصبية: مطهرات... مطهرات!



موعدنا مع آخر فصل يوم غد بحول الله

noor elhuda likes this.

بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 09-09-21, 08:40 AM   #74

قــــلــــم
 
الصورة الرمزية قــــلــــم

? العضوٌ??? » 491808
?  التسِجيلٌ » Aug 2021
? مشَارَ?اتْي » 2,346
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » قــــلــــم has a reputation beyond reputeقــــلــــم has a reputation beyond reputeقــــلــــم has a reputation beyond reputeقــــلــــم has a reputation beyond reputeقــــلــــم has a reputation beyond reputeقــــلــــم has a reputation beyond reputeقــــلــــم has a reputation beyond reputeقــــلــــم has a reputation beyond reputeقــــلــــم has a reputation beyond reputeقــــلــــم has a reputation beyond reputeقــــلــــم has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   cola
¬» اشجع ahli
افتراضي

روايه قد تحدث وتكون حقيقيه
تعبر عن قضيه
خاصه بالانثى العربيه




صراحه


روعه جدا
اسلوبك روعه
وقلمك روعه
وطبعا تفكيرك غايه في الروعه




استمتعت جدا بتواجدي هنا
وانتظر بشغف باقي الروايه








الاديبه الرائعه أ /










رجاءا قبول حضوري المتواضع
وشكرا بغير انتهاء لك






كان هنا

قلم



تحياتي وودي واحترامي


قــــلــــم غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 13-09-21, 01:09 AM   #75

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة قــــلــــم مشاهدة المشاركة
روايه قد تحدث وتكون حقيقيه
تعبر عن قضيه
خاصه بالانثى العربيه




صراحه


روعه جدا
اسلوبك روعه
وقلمك روعه
وطبعا تفكيرك غايه في الروعه




استمتعت جدا بتواجدي هنا
وانتظر بشغف باقي الروايه








الاديبه الرائعه أ /










رجاءا قبول حضوري المتواضع
وشكرا بغير انتهاء لك






كان هنا

قلم



تحياتي وودي واحترامي
حبيبتي وجودك الأروع .
شكرا لجمالك وجمال كلماتك...
يا رب تستمتعي بالرواية للأخير
راح يسعدني رأيك الشامل بكل الفصول
😘😘😘


بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 13-09-21, 01:12 AM   #76

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الثاني والثلاثون

مشت سهام بتثاقل مسايرة لخطى والدها بذلك الرواق الطويل بالمشفى وهي تفيض في الشرح له: لقد كان مريضا... وجدته في حال سيئة... ومن الجيد أنني طلبت الإسعاف في الوقت المناسب!
لم يبد عليه أنه صدق ما تقول، لكنه سألها بانفعال: لماذا تركت البيت في جنح الظلام!... لماذا خرجت دون إذن!... على الأقل كنت ذهبت رفقة أخيك!
حاولت أن تُهدئه قدر المستطاع، لكنه مازال يعاني من الموقف المخزي الذي وضعه به صهره الجديد ولن يغفر له بهذه السهولة...
نطق من جديد: وما ضرورة مبيتك معه بالمستشفى تلك الليلة!.. لديهم أطباء وممرضون أم أنهم لا يكفون حضرته!... ها أجيبيني!
بهدوء يعاكس ثورته أجابته: أبي... اتصلت بآدم وبقي إلى جواري الليل كله... لقد غادر منذ قليل عندما علم بقدومك حتى يرتاح...
أجابها بحنق: لا... هرب لأنه يعلم أنني سأفج رأسه!.. منذ متى أصبح يقرر عني بهذا البيت!... كان عليه إخباري قبل أن يأتي إليك...
مع كل ذلك الغضب لم تجرؤ على إخباره أنها هي من توسلته ألا يفعل. قالت محاولة إخماد ثورته: لقد أبلغ أمي...
هدر فيها بغضب أكبر: تلك المرأة رأس المصائب... تتفق معكما ضدي!.. حسابها معي...
عندما اقتربا من الباب أمسكت يده برجاء: أبي... لا تقل شيئا أنا أرجوك...
حول نظراته عنها بعيدا فترجته أكثر: الأمر ليس كما تعتقد... محسن مريض وعليه أن يرتاح... لا توتره... لم يخذلني عن قصد... لقد فقد وعيه اليوم بطوله ولم ينتبه للأمر أحد!
كانت ترجو الله في قرارتها أن يغفر لها كذبها... مصطفى رجل صعب ويابس الرأس... كان عليها أن تتصرف حتى لا يطلقها من محسن...
فتحت الباب بهدوء وأطلت عليه فوجدته نائما على سريره بدون حراك... أشارت لوالدها بالدخول فولج من خلفها، واقتربا من سريره بهدوء يتأملانه للحظات.
همست له: لم يستيقظ بعد... يبدو متعبا جدا!
أجابها رافعا أحد حواجبه: ربما دخل في غيبوبة!
قطبت باستياء ثم قالت: لا... سيستيقظ بعد قليل...
لم يرغب بالمكوث هناك طويلا فقد تمنى أن يجده مستيقظا ليلقي في وجهه بوعيده غير آبه بتوصيات ابنته، لكن كونه نائما أفسد عليه برنامجه!
•••••
استيقظت من نومها بفزع واستوت بجذعها جالسة فوق نفس الأريكة. حملقت بالمكان من حولها فأدركت أنها مازالت بمنزل لؤي ولم تغادره...
قامت من مكانها واتجهت نحو الرواق ومنه خرجت إلى الفناء، فنزل الرجال من السيارة في استعداد: تريدين شيئا سيدتي؟
أشارت إليهم بعبوس: غادروا... وأخبروا والدي أنني بحاجة للاختلاء بنفسي...
همست لنفسها "لا أريد رؤية وجهه... هو سبب المصائب!"
لم يتحرك أحد من المكان فصرخت بهم بقوة: قلت غادروا حالا...
سألها أحدهم بارتباك: كيف نتركك هنا سيدتي... الباب بلا قفل والمكان خالٍ... قد تتعرضين لهجوم!
عقلها لم يعد صالحا للتفكير، ورغم أن ما يقوله عين الصواب إلا أنها شعرت بالحنق من اعتراضه وأشّرت له إلى السيارة: إن لم تركب الآن فالله وحده يعلم من سيتعرض للهجوم!!!
ابتعد من أمامها يحث الخطى وأشار لأصحابه بالركوب ثم أقلع بالسيارة مبتعدا عن المنزل.
كانت تعلم أنه لن يتركها وشأنها... والدها سيبقيهم لحراستها ومراقبتها عن كثب، ولن تخطو خطوة في هذا المكان من دون علمه!
دخلت المنزل وأوصدت الباب من خلفها. شاهدت الدرج فصعدت بتثاقل لتلقي نظرة على الغرف، علها تجد بغرفة حبيبها صورا تشبع عيونها المشتاقة من تأمله...
كل الغرف بسيطة التأثيث ونظيفة... لم يبد لها أن أهل هذا البيت قد غادروه منذ فترة طويلة، الأمر الذي جعلها تفكر فيما فعله والدها بهم... وإن كانوا قد هربوا قبل أن يصل إليهم أم أنه هو من أخفاهم من الوجود!
آخر غرفة بذلك الرواق كانت مميزة. سرير لشخصين قرب النافذة، خزانة ثياب كبيرة ، وأدراج كتب معلقة على الحائط...
اقتربت منها وتفقدت بعضها فوجدت بين صفحاتها مقصوصات تشرح الانضباط الذي يجب على الطالب اتباعه في مدرسة الضباط..
لا ريب في أن هذه غرفته!.. تفحصت باقي الكتب فوجدت بعضا من نتائجه الدراسية في سنوات مختلفة من حياته... يحتفظ بها جميعا في ملف واحد.
عندما فتحت أبواب الخزانة كانت ثيابه مطوية بعناية وأخرى معلقة... أما الجهة الأخرى فكانت فارغة تماما... حدى بها الأمر للتساؤل "هل هي الجهة المخصصة لثياب زوجته المتوفاة"
بأحد الأدراج وجدت صندوقا صغيرا فحملته وجلست على السرير لتفتحه، وكان مليئا بالصور...
صور كثيرة لم تكد تميزها حتى غزت عيناها الدموع... رؤيته أمامها من جديد دون أن يكلمها أو تسمع صوته يزيد قلبها عذابا وروحها احتراقا...
أول صورة رفعتها أمام عيونها كانت لعروس في فستانها الأبيض وهي تضحك برقة... شعرها أسود طويل وعيونها بنية بأهداب كثيفة وأنف دقيق... كانت جميلة الملامح تمتلك ابتسامة ساحرة. ليست تدري لماذا شعرت بالغيرة تتملكها... هل هذه أول امرأة تطرق شغاف قلبه!... إنها هي من ظل يذكرها بعد سنوات من رحيلها...
وضعت الصورة جانبا وهي تهمس لنفسها: يبدو أنه قرر الالتحاق بك...
قلبها المكتوي بنار فقدانه رجع لينزف من جديد... ما أصعبه الفراق على قلوب لم تعد تقوى على الوجع!
•••••

أعدت ياقوتة طعاما للعشاء وجهزت الصينية حتى ينقلها فريد إلى لؤي لكنهما تفاجآ به يدخل المطبخ مقطبا بسبب آلام جسده.
قالت فور أن شاهدته: كنت بقيت بالفراش... فريد سيحضر لك الطعام.
جلس على الكرسي بحذر: أشعر بتحسن... شكرا لك.
صب فريد لنفسه وارتشف القليل من حساء الفاصولياء: إنها مالحة... يبدو أنك لا تجيدين سوى الرقص لبشير!
أجابته بسخط: لا... أجيد أيضا قطع الألسن.. هل تريد أن تجرب!
أسكتهما لؤي: كفى... منذ أن وصلنا إلى هنا وأنتما كالقط والفأر..
نطق فريد: عليها أن تحمد الله صباحا ومساءا لأنني أبقيت على حياتها... بل وتدبرت لها من يجبر كسرها أيضا...
أجابته: غمرتنا بلطفك أنت وذلك البيطري... مع أنني أشك في أنني عندما أشفى سوف أمشي على أربع!
حدق بلؤي محتجا على كلامها: رأيت كم هي ناكرة للجميل! هذا بدل أن تستحي وتلجم فمها!
قال بنفاذ صبر: دعانا من الأمور التافهة... لنتحدث بالجد.
نطقت على الفور: كل ما أريده هو أن ننهي ذلك الحقير قبل أن ينهينا جميعا...
أجابها فريد: كنت أنهيته من أول ضربة إذن!
حملقت فيه بسخط فاحتوى لؤي الأمر قبل أن يتأزم من جديد، ووجه كلامه لفريد: ألم تتصل بمحسن؟
أجابه: لا... أنا لا أثق به. تركت الأمر إليك حتى تتحسن... على الأرجح هو يظننا أمواتا...
قالت مفكرة: ترى هل نجت نسرين ومعها محمود؟ أم أنه تمكن منهما؟
ناظرها فريد باستخفاف: ما رأيك في أن تذهبي لسؤال بشير بنفسك... سأتركك عند ناصية الشارع!
أغمضت عيونها بحنق تستعد لقصفه، فقام لؤي من مكانه: عن إذنكما... أنتما لا تصلحان للنقاش.
زفرت باستغفار : اجلس... سأسكب لك...
••••••
في المستشفى الخاص حيث يتواجد محسن كانت سهام تدخل الغرفة وفي يدها باقة ورد أبيض. وضعتها على الطاولة وراحت تتأملها بافتتان لبعض الوقت فاستفاق محسن.
دنت منه مبتسمة وجلست على الكرسي إلى جواره: كيف أنت؟
شهق الهواء لرئتيه بارتياح ممتنا لوجودها الدائم بقربه: كلما فتحت عيوني ورأيتك بقربي شعرت بالسعادة...
توسعت ابتسامتها وعضت على شفتها بحرج، فقال: لا تفعلي ذلك...
قطبت بتساؤل فأردف: قد أعذر من أنذر...
توردت خدودها بعد أن فهمت مقصده وأرادت أن تبدل الموضوع: اتصل أبي يسأل عنك... أخبرته أنك لازلت تعاني من الألم وأن الطبيب قرر إبقاءك تحت المراقبة...
وضعت يدها على شفاهها وهي تضحك ثم تابعت: لا يعلم أنني توسلتك لتبقى يوما آخر...
مد يده إلى خدها يبعد بعض خصلاتها النافرة التي تشوش عليه رؤية عيونها التي تفيض عاطفة، وهام فيها للحظات يغوص في تلكما الحدقتين البنيتان بشرود: ماذا فعلت أنا لأستحق امرأة مثلك؟
لم يكن سؤالا لها، بل لنفسه... يعرف جيدا أنه غوى لوقت طويل من عمره... وما كانت له أفعال تستحق أن يحظى بقطعة من السعادة الحقيقية... فكل سعادته كانت مزيفة...
هل كانت استفاقته من مجونه وعدوله عن درب الخطيئة هما من جعلاه ينال فتاة برقتها مكافأة على حسن تصرفه؟
بل ربما أكثر... جعلها الله من نصيبه لتطهر قلبه ببراءتها من كل وساوس قد تثنيه عن عزمه...
لقد أخطأ مرة بحياته ودمر "بسمة" بكل ما كانت تحمله من نقاء وعاطفة بقلبها... وليس معروف عنه الغباء ليكرر نفس الخطأ.
تجاهلت نظراته محاولة الافتكاك من تلك العيون القاتلة وقالت بارتباك: أعرف أبي جيدا.. عليه أن يتأكد من أنك حقا معذور ليقبل بإتمام الزفاف...
بنفس النظرة العميقة قال لها: أخاف عليك...
سكتت مفكرة ثم نطقت: لم أعهدك تخاف من شيء... محسن وكأنك لست أنت!
ابتسم بمرارة... في طريقه ليرجع إنسانا من جديد عاد ليكتسب عواطف البشر... الحب، القلق، الخوف... كلها كانت مجرد ترّاهات في الماضي... كان قويا.. واليوم فقد بعضا من قوته...
يتميز الانسان بعواطفه، ويسمو بها... رأفته بالآخرين، عطفه... حبه... كلها أحاسيس ترفع من رصيد انسانيته حتى يصبح كالبلسم على الجراح... وكلما ابتعد عن عواطفه ونبذ أحاسيسه أصبح مثل الآلة... يدمر بلا قلب ولا إحساس... تماما كما هو الحال مع بشير...
تذكرت شيئا فأشارت إلى باقة الورود: أحدهم أرسل إليك الورد... لم يترك اسما!
تأمل الباقة للحظة ثم قال بتوجس: هل أخبرت أحدا آخر عن تواجدي بالمستشفى؟
أجابته بحيرة: كلا... فقط عائلتي.
حاول الجلوس وهو يردف: هاتي البطاقة.
أحضرتها كما وصلته داخل رسالة صغيرة ففتحها ليقرأ عليها: "لقد ذبلت سريعا... الضرب لم يبدأ بعد!"
صر عل أسنانه غيظا فلم يعد في الأمر التباس، إنه بشير من عرف بشأن مرضه عن طريق الخدم...
قطب بجمود وقد اشتعل داخله من الغضب... من يظن نفسه هذا اللئيم!..
لاحظت سهام وجومه فحاولت أن تلفت انتباهه: محسن...
نظر إليها للحظة: قومي سنغادر للبيت... ذلك السافل سيسمع ردي هذه المرة.
انعقد لسانها دهشة وخوفا من تلكم الملامح الثائرة على وجهه، وقالت بصوت ناعم يملأه الخوف: أنا! في بيتك!.. ماذا سأقول لأبي؟
التفت إليها للحظة: أنا من سيقول له... والعرس غدا في منزلي وكل أهلك حتى الجيران مدعوون عندي...
فغرت فاها باندهاش، لم تفهم ما الذي يحدث بالضبط... لكن محسن كان كالأسد الجريح... أن يسخر منه ذلك النكرة فهذا ما لن يقبله!
سيبقي سهام إلى جواره وسيحتفل بزفافه نكاية به وليعيد لزوجته اعتبارها فهي تستحق أن تُكرم... حتى وإن كان قلبه يئن ألما على ولده، فسيترك المعاناة لنفسه تأكله من الداخل، ويبرز أنيابه لذلك الوقح الذي تمادى كثيرا في غيه... لطالما كان ندا له ولن ينهزم أمامه في آخر جولة... وحتى وإن نجح في إنهاء ابنه فسيكون هو من سينهيه ليخلص البشرية من شره!
••••••
كان القمر بدرا هذه الليلة... وقف قرب النافذة يتأمله من ثقوب الستار وقلبه يشكو ألما لا طاقة له به غطى على كل جراح جسده. إنها هناك... على بعد أمتار، في منزل والديه... وبالضبط في غرفته... تلك الغرفة التي هجرها منذ زمن وأشعلت اليوم أضواءها... ألا ليتها تفتح النافذة ليراها وتشبع عينه...
وقف فريد قرب الباب الموارب وتنحنح فالتفت إليه لؤي: ماذا تريد؟
بدى مرتبكا: جئت لأطمئن عليك...
رمقه بنظرة استفهام فاعترف: تلك المعزاة تتخاطر وإياي على أنك سوف تتسلل لرؤية زوجتك.. ما بي المخاطرة ولكن... لدي رأس أهتم بحمايته.
لم يقل شيئا... لا يستطيع أن ينفي تلك الفكرة المجنونة التي تلح عليه منذ أن عرف بقدومها، وكلما أعتمت السماء أوغل هذا الشعور في قلبه.
زفر بإحباط فعرف الآخر بما يجول في رأسه: رحماك يا ربي... إنهم يحاوطون المنزل ويتناوبون على حراسته... لن تتمكن من الاقتراب من الباب لحظة واحدة وأنت في هذه الحالة! حتى أنهم صلحوا القفل ولن تفتح لك بهذه السهولة!
قال بعد تفكير: ليس من الباب... أعرف من أين سأدخل.
انعقد لسانه بعد هذا الكلام ثم خضع للأمر الواقع: كيف ستفعل هذا... أنت مصاب وبالكاد تتحرك!
رفع أحد حواجبه وقد خطرت له فكرة: ستساعدني...
أغمض عيونه بتعب: أمري لله.
نطق الآخر بعد صمت: هناك أسفل هذه التلة وعلى بعد عدة أمتار يوجد خم فارغ... لقد كان لأبي ولكنه أنشأ آخر أكثر قربا من المنزل. قم بإضرام النار فيه لتلفت انتباههم تماما مثلما فعلت تلك الليلة... لن يستغرق الأمر أكثر من بضع دقائق لأكون بالداخل.

تركه يسبقه إلى المنحدر وتأخر هو في انتظار الإشارة.
كان يقف في الظلام خارجا يتفرج على فريد وهو يفقد توازنه ويتدحرج مثل البيضة نزولا. سمع ياقوتة تضحك من خلفه بتشفي: آمل أن يقع على لسانه ليصوم عن الكلام!
التفت إليها مع ضحكة لم يستطع كتمها: إنه يلعنني من دون شك.
ردت عليه: هذا مؤكد...
عندما التهب الخم واتجهت كل الأنظار إليه وعلا صراخ الجيران وهم يهبون لإطفاء الحريق، انسل هو من بين الأشجار يحث خطاه بحذر حتى وقف عند نافذة المطبخ ففتحها بسهولة. لكن دخوله منها استنزف جهده وطاقته بسبب وضعه.
ما كاد يصبح بالداخل حتى مر من هناك أحد الرجال بعد أن سمع جلبة بالمكان، ولحسن حظه لم ينتبه للنافذة التي لم تكن مقفلة بشكل كلي. عندما انصرف قام بإقفالها من الداخل وراح يسير بمهل في المكان حتى وصل إلى السلالم فأبطأ أكثر حتى لا يصدر خشبها صريرا.
كانت ضربات قلبه تزداد عنفا كلما اقترب من باب الغرفة.. أشواقه تشتعل بين جوانبه وكل صبر خزنه بقلبه نفذ!
فتح الباب بهدوء شديد وأطل بحذر. كانت نائمة على سريره مولية إياه ظهرها وجسدها يتشنج مع كل شهقة تصدرها.
اقترب منها على مهل ولم يعد في قلبه أي احتمال. طوقها بذراعه وهو يقفل على فمها حتى لا تصرخ وتكشفه وهمس لها بصوت متزعزع: لا تبكي حبيبتي.
شهقت بهلع واستكانت فجأة دون حراك... كان يشعر بدقات قلبها تنبض بقوة تحت ساعده وعيناها متسعتان عن آخرهما. لفها إليه ببطء حتى قابل وجهه وجهها فبقيت متجمدة من الصدمة ولم تصدر أي ردة فعل.
رابه منظرها فهزها إليه برقة: حبيبتي... هذا أنا.
شهقت بالبكاء تغطي وجهها بكلتا يديها... إنها تظنه حلما ستفيق منه بين لحظة أو أخرى.. سراب سيتلاشى حتما إن مدت يدها إليه لتمسكه!
ضمها إليه بقوة وقد خاف عليها حقا من الصدمة: حبيبتي... هذا أنا... لم أمت، والدك فعل كل ذلك ليبعدك عني...
عندما شرح لها الوضع ابتعدت عنه لتتأمله. وضعت كفها على خده تتأكد من حقيقة وجوده جسدا لا روحا... ارتعشت شفاهها عندما لامست بأصابعها وجنته نزولا إلى ذقنه ثم شفاهه فقبل تلك الأصابع بحب. وسالت دموعها من جديد والسعادة تراقصها كما الخوف تماما... تخشى أن ترمش فلا تراه.
انتبه لآلام صدره وظهره وشعر بجرحه ينزف فاستقام واقفا حتى يخف الألم وهو يجعلها تقف قبالته.
كانت تنظر إليه كالبلهاء دون أن تصدق وجوده... ودموعها تسيل من دون توقف وهو يمسحها مرة بعد أخرى هامسا: كفي عن البكاء الآن... أنا بقربك.
تأملت شعره ، أنفه وعيونه... ذقنه وشفاهه ثم تعلقت بعنقه بعد أن تأكد لها أنه هو وراحت تبكي بجنون صارخة بصوت مخنوق: حبيبي... حبيبي...
•••••
توقفت السيارة قريبا من الفيلا فنزل السائق وفتح الباب لسيده، ثم التف من الجهة الأخرى بخطى سريعة ليفتح لزوجته.
نزل محسن من السيارة وتقدم بضع خطوات من باب البيت منتظرا وصولها.
كانت تخطو باتجاهه مرتبكة وعندما دنت منه مد إليها يده برسمية فتمسكت به، ليقول بابتسامة: أهلا بك في بيتك...
كانت مرتبكة جدا فكل تفكيرها ذهب إلى والدها وما سيقوله عندما يعرف أين هي... حتى وإن كان تواجدها هنا أمرا طبيعيا إلا أنها لا تطيق أن تكون المتسببة في اغضابه.
تقدما معا حتى ولجا إلى البيت فاستقبلتهما ليلى بترحاب وعلامات الاندهاش واضحة على محياها... تجاوزاها مباشرة نحو الطابق العلوي دون كلام فبقيت تتأملهما باستغراب شديد.
عندما ابتعدا عنها همست له سهام: لا يبدو لي أن ليلى تعرف شيئا عما يدور بيننا.
أومأ نفيا ثم التفت إليها: لا هي ولا غيرها... لا تهتمي للأمر سأستبدل كل الخدم حتى لا يزعجك بهذا البيت أحد.
أجابته بحيرة: لا داعي للأمر!
رد عليها بثقة: بلى... هذه خطوة لابد منها.
تباطأت خطواتها عندما اقتربا من جناحه ففهم ترددها. التفت إليها وعلى وجهه طيف ابتسامة: الغرف هنا كثيرة... يمكنك أن تنامي حيث يحلو لك... ستصل المزينة باكرا وكذلك أهلك...
ارتاحت لكلامه وانتابها الفضول لتعرف ما قاله والدها بهذا الشأن: وما رأي أبي بالموضوع؟
أجابها: بشأن الزفاف هو موافق.. أما بشأن مبيتك عندي فهو يعتقدني بالمستشفى... لم أشأ أن أخبره الحقيقة.
شعرت بالاطمئنان لهذا الأمر، والتفتت من حولها تنظر إلى الأبواب وكأنها ستلقي النرد لتختار عشوائيا. فهم حركتها فقال لها: كل الغرف لابأس بها...
وهمس مقربا رأسه من أذنها: إلا إن فضلت جناحي!
توردت خدودها ودارت خجلها بابتسامة رقيقة وهي تدفعه عنها برفق: أنت مريض وتحتاج للراحة... أخلد للنوم باكرا لتستعيد عافيتك.
ابتسم بمكر وهو يقترب من جديد: مرضي قصة أنت اخترعتها... كنت بحاجة لأن أصحو من سكري وحسب...
أوقفت اكتساحه لها واضعة راحتي يديها على صدره: محسن! ماذا دهاك!؟
انفجر ضاحكا من خوفها الواضح في عينيها. فابتسمت للأمر وبقيت تتحسس نبضات قلبه من تحت أصابعها ثم حملقت فيه بجد: أنت لن تشرب من جديد... صحيح؟
رد عليها بحب: أعدك...
أضافت: ولا كأسا واحدا...
فأردف: لست مدمنا... لا تخافي.
ابتعدت عنه بضع خطوات وراحت تفتح باب الغرفة المجاورة وهو ينظر إليها بعبوس.
أنارت الغرفة وتأملتها لبرهة ثم التفتت إليه وما إن رأت ملامحه حتى غلبها الضحك.
قالت بهمس: تصبح على خير.
أجابها: وأنت بخير...
أقفلت الباب على مهل فتركها وانصرف. بينما وضعت هي يدها على قلبها تريد إيقاف دقاته المتسارعة... كانت تخشى أن يحاول استعجال الأمور معها ولا تجد طريقة لردعه.
سمعت بضع طرقات على الباب فتوسعت عيونها واقتربت دون أن تفتحه: من؟
جاءها صوت محسن: نسيت أن أسألك إن كنت تودين تناول شيء... لقد أكلت القليل على العشاء.
سرت من اهتمامه ففتحت الباب وأطلت عليه: شكرا على اهتمامك... أشعر بالنعاس وسأخلد للنوم.
أرادت أن تقفل فاستوقفها: على ما أنت مستعجلة!
أجابته: لست مستعجلة... لكنني سأقع من التعب صدقني..
حملق فيها رافعا أحد حواجبه فلم تتمالك نفسها من الضحك. ثم ضيقت فتحة الباب مودعة إياه: تصبح على خير...
سمعته يقول مستدركا: مهلا...
أطلت عليه من جديد فقال: نسيت أن أتمنى لك ليلة هانئة وأحلاما سعيدة...
ابتسمت برقة خطفت قلبه وعلقته بها أكثر: شكرا محسن...
وأقفلت الباب وهي تعض على شفاهها مغالبة ضحكاتها وظهرها مستند عليه، فسمعته يقول بضيق وحنق "يا إلهي!"
وضعت أصابعها على شفاهها لتكتم ضحكها لكنه سمعها فجاءها صوته يقول: لا يذهب تفكيرك بعيدا!
ثم صمت ليردف: على كل حال لنرى أين ستختبئين غدا!
شعرت بسخونة تلهب وجهها فراحت تتحسسه بانفعال ولم يطل الأمر كثيرا حتى سمعت خطواته تبتعد.
جلست على السرير الفخم تتأمل الغرفة. لقد كانت واسعة وراقية... كل شيء فيها منظم ومرتب... لكنها شعرت بالاغتراب والوحشة... ربما معه حق محسن، لو أنها ظلت معه لكانت ستغمض عيونها في حضنه وتنسى قليلا من الهم والغم الذي لاحقها طويلا...
استاءت من طريقة تفكيرها تلك رغم أن السرور المرتسم على ملامحها يفضح رغبتها المبطنة في أن تكون معه... وأسرعت في ابعاد الشراشف عن السرير حتى تغمض عيونها وتنال قسطا من الراحة.
•••••••
ساعدته ليستلقي على السرير حتى يريح نفسه من الألم وظلت جالسة إلى جواره، أصابعها فوق الضمادات التي تغطي جراحه تلمسها بإشفاق وحنو وعيناها المتورمتان من البكاء تتأملانه بشوق وحب كبيرين.
أما هو فقد كان يبادلها لمساتها الرقيقة تلك بأخرى أكثر حنوا دون أن ينطق... كان عليه أن يمهلها لتتجاوز الصدمة ويتقبل عقلها فكرة وجوده. همست له بقلب ملتاع: حمدا لله أنك حي...
ابتسم مطمئنا: حمدا لله.
أغمضت عيونها بشدة تغالب كل انفعالاتها ثم فتحتهما: كنت سأموت من دونك يا لؤي... عندما رأيت الشاهد على قبرك هذا الصباح أحسست أن حياتي قد انتهت...
سحبها إليه وجعلها تنام على صدره رغم الألم: أنا هنا... لا تبكي أرجوك...
عادت لتغمض عيونها وهي تشعر بالسكينة والطمأنينة بعد كل ذلك العذاب...

•••••
كان صباحا مشمسا هناك في السهوب، تلك الأرض المنبسطة الجرداء على أبواب الصحراء الكبرى...
خرج من الخيمة ويده تحجب أشعة الشمس الحارقة عن وجهه. تأمل "سعدة" وهي تحلب الماعز وأبناؤها الصغار ينطون من حولها ويلعبون... وهي تنهرهم حينا وتضحك حينا آخر.
وقف بقربه "عبد الصمد" وربت على كتفه: صباح الخير يا محمود.
التفت إليه: صباح الخير...
أشار للخيمة القريبة: من المؤكد تريد الاطمئنان عليها ككل صباح... هل أستأذن لك في الدخول؟
أجابه على الفور: أجل... شكرا لك.
كانت نسرين تنام على حصير فوقه بعض المُلاءات الخشنة وبقربها سندس تصر عليها لتتناول بعض الخلطات العشبية: كلي القليل أرجوك...
ورفعت الملعقة إلى فمها فالتقمتها بعبوس وتجرعتها على مضض.
سمعتا عبد الصمد من خارج الخيمة ينادي على سندس. وبعد خروجها مباشرة دخل محمود وفي عيونه شوق ولهفة.
قبّل نسرين على جبينها وجلس بقربها على الحصير ويده تشد على أصابع يدها، رمقها بنظرة حانية قبل أن يقول: كيف أصبحت؟
تلألأت عيونها بالدموع: أنا بخير...
يعلم جيدا أنها لم تتجاوز حزنها لفقدانها الجنين. قبل كفها بحب هامسا: لا تحزني يا قلبي... علينا أن نشكر الله أننا نجونا من الأسر... أما إجهاضك للجنين فكان قدرا محتوما... ومثلما فرحنا بنجاتنا، يجب أن نتقبل خسارتنا.
أومأت بنعم والدموع تتقاطر من عينيها فمد ذراعه إليها يحتضنها وهو يهمس لها: تعافي بسرعة حتى نترك هذا المكان... لابد وأنهم يبحثون عنا وقد يتمكنون من اقتفاء أثرنا...
غاص بفكره يتذكر ذلك الصباح الذي تمكنا فيه من الفرار... كان يقود سيارته بسرعة قصوى على الطريق وأصابعه تنزف مما لحق بها من آلة جز العشب لكن خوفه وحماسته أنسياه كل الألم.
كان يلتفت إلى زوجته في كل لحظة فيشاهد انقباضها وتألمها... يعلم جيدا أنها في حال سيئة لكنه لم يكن ليوقف السيارة فيلحق به رجال بشير بكل سهولة...
طمأنها أكثر من مرة وطلب منها أن تتحلى بالصبر لكن صراخها أصبح مسموعا إذ أنها باتت تتوجع وتضرب المقعد بقوة.
كان الطريق طويلا ولم يعرف لا أين هو الآن ولا إلى أين سيتجه... عندما أصبح بين القفار ساوره الشك في أنه يتوجه نحو الجنوب، ولافتة صغيرة على الطريق للولاية القريبة قطعت أمامه الشك باليقين... هو يقود سيارته بجنون نحو الصحراء.
في البداية كان يريد الابتعاد قدر الإمكان حتى يقلص حظوظهم في العثور عليه.. لكن بعد أن بدأ مخزون الوقود بالنفاذ شعر أنه يجب أن يتوقف في مكان ما... لكن الصحراء خالية وقاسية... إن لم يقتله بشير فسوف يموت عطشا هو وزوجته!
خرج عن الطريق وتعمد إخفاء السيارة خلف مرتفعات صخرية وهناك اهتم بنسرين التي كانت قد أجهضت طفلها وهي تنزف بشدة... كان يحرس الطريق عله يجد سيارة أو شاحنة ما تقطع صمت المكان فيوصلهم السائق إلى أقرب محطة وقود ومن هناك يتصل بوالده، لكن حظه العاثر جعله يفوت أكثر من فرصة ما بين تشكك في أن يكونوا رجال بشير وما بين صراخ نسرين وتألمها...
عندما مالت الشمس للمغيب عرف بأنهما سيقضيان الليلة في العراء. الوضع صعب ونسرين قد تتعرض لمضاعفات.
تركها داخل السيارة ونزل يسير بلا وجهة... كل ما عليه هو تذكر طريق العودة حتى لا يتيه ويتركها هناك تصارع الموت وحيدة.
وقوفه قرب الطريق خطر لذا كان عليه أن يجرب التوغل في تلك القفار عله يجد أناسا يساعدونهم... ورغم أن احتمال تواجد أحد في مثل هذه المناطق الجرداء ضئيل إلا أنه قرر المحاولة...
قبل الغروب بقليل تراءى له من بعيد راع يسير بأغنامه في أرض فلاة... نادى عليه بأعلى صوته ثم ركض باتجاهه بأقصى سرعة وأخيرا وصل إليه وكان أحد أولاد عبد الصمد من البدو الرُحّل...
وهكذا وبأخلاق بدوي كريم استقبلهما عبد الصمد في خيمته رغم بساطة معيشته التي تعتمد على تربية الماشية والرعي أساسا... وبذل لهما هو وزوجته وأهله ممن يشاركونه نفس الحياة كل وسائل الراحة. وسارعوا في الاعتناء بنسرين التي كانت في أسوأ حالاتها وقد قضوا الأسبوع كله في هذا المكان.
كان عليه أن ينتظر حتى تشفى نهائيا ليفكر في الرحيل... فالمخاطرة مجهولة العواقب...
عاد من تيهانه على يدها وهي تشد على أصابعه: محمود... أين سرحت بأفكارك؟
منحها ابتسامة حانية مطمئنة وهو يقول: أفكر في ما سنفعله...
بدأ الخوف يزحف إلى قلبها من جديد فالله وحده يعلم كيف ستنتهي مأساتهما!
قالت متسائلة: حبيبي ولكن... إنهم هنا يعيشون حياة بدائية جدا... لا ماء، لا كهرباء ولا هواتف... لا علاقة لهم بالتطور الذي نعيشه... هل سنسافر فوق الجمل!
تنهد مفكرا ثم قال: سأخرج للطريق العام من جديد... قد نجد من ينقلنا لأول محطة...
فتحت عيونها على اتساعهما: هل جننت!... لا تخاطر أنا أرجوك...
أجابها مطمئنا: أعطاني عبد الصمد من بعض ثيابه... وإن لبست مثلهم ووضعت العمامة وحاوطت بها وجهي كما يفعلون اتقاءً لحرارة الشمس. فقد أنجح في خداع عيونهم...
قطبت بخوف: محمود...
استطرد مطمئنا: سننجح يا نسرين... أعلم أننا سننجح.
•••••
استفاق لؤي ومروى على وقع طرق على باب المنزل. أجفلت ونظرت إليه بخوف تخشى أن يكتشف وجوده أحد!
أشار لها مطمئنا: ربما الحرس، وهم يريدون الاطمئنان عليك... تصرفي بعفوية ولا تبتسمي... لا تجعلي الشك يجد طريقه إليهم.
أومأت موافقة وأسرعت في النزول وهي تصرخ بهم بغضب: قادمة... قادمة...
بعد أخذ ورد دخلت وهي تحمل كيس طعام ثم أقفلت الباب بإحكام وصعدت بسرعة إلى الغرفة العلوية حتى تفطر مع حبيبها.
جلست بقربه فرحة: آخر ما كنت أتصوره أن أتناول أنا وأنت الطعام معا من جديد؟
ابتسم بحب وهي تضع الأطباق أمامه وتهمس بإصرار: سأطعمك بيدي... يجب أن تشفى... أريدك قويا مثلما عهدتك...
أجابها ممسكا بكفها الذي يحمل كوب العصير حتى يوقف اجتياحه: ارحميني... أجد صعوبة في تناول الطعام... خصوصا في الصباح... تؤلمني معدتي.
رفعت أحد حواجبها: إذن بعض الحليب...
أشار لها بكلتا يديه: لا.. لا... أرجوك...
ظلت على اصرارها حتى جعلته ينهي طعامه... عنيدة هي مثلما عهدها!..
قال بعد صمت وهي تجمع تلك الفوضى: مروى... حبيبتي...
حملقت فيه وقد استشعرت من نبرة صوته أنه سيقول ما يحزنها، ليتابع هو: يجب أن تتركي هذا المكان... الوضع حساس... وإن انتبه أولئك الرجال إلى وجودنا فوالدك سيقتلنا بكل احترافية.
صمت لوهلة ثم أردف وأصابعه تتحسس وجهها بلوعة: سأشتاق إليك... إلى وجودك... إلى شذا عطرك لينعش قلبي... لكنني يجب أن أضع الأمور في نصابها أولا... يجب أن أزيل كل العوائق التي تقف في وجهنا لأحبك مثلما أردت دائما... أن أمسك بيدك وأعرفك لوالداي وأقول... "هذه هي المرأة التي أحبها"
ابتسمت برقة والسعادة تشع من عينيها... كانت تعيش الحلم بكل أحاسيسها: وأنا أيضا أحبك يا عمري...
قبل شفاهها بحب... كان يستودعها قلبه المشتاق إلى حين اللقاء، ويشحذ منها صبره وقوته... أما هي فكانت تستعذب رقته وصدق عواطفه... كيف لرجل مثله أن يهبها الحياة كلها بنظرة واحدة من عيونه! تفيض من بين أهدابها أشواق وأسرار عشق لن يخبر به سواها...
•••••

حضرت المزينة في وقت مبكر وتجهزت سهام لليوم الموعود بثوبها الأبيض والذي تلألأت فيه مثل البدر ليلة اكتماله... كانت جميلة... وكل عروس في يوم زفافها جميلة... لكن سهام كانت سعيدة... فرحة... تلك الطمأنينة التي سكنت قلبها بعد طول خصام جعلت منها امرأة بملامح جديدة...
عانقتها أمها بحب وهي تذرف الدموع تأثرا فبادلتها العناق وهي تشدد من احتضانها... لا شيء يسعد قلب الأم الرؤوم إلا أن ترى فلذة كبدها تشع سعادة وهناءً.
سمعتا طرقا خفيفا على الباب فانفكتا عن بعضهما البعض لتنطق سامية: أدخل.
فتح محسن الباب وبيده علبة حمراء مزينة بشريط حريري وعندما شاهد أنها ليست وحدها شعر بالإحراج: آسف على الإزعاج...
أخذت أمها حقيبتها بخجل وهي تقول: تفضل أرجوك... مصطفى يتصل بي سأنزل إلى الحديقة لأراه.
كانت كذبة اخترعتها لتبرر خروجها السريع.... وبمجرد أن ولج إلى الداخل وأقفل الباب من خلفه. شعرت بقلبها ينط مع طقطقة القفل وأجفلت. وابتسم هو متسليا من عيونها المتوسعة والتي تشي له بارتباكها.
عندما أصبح على مقربة منها تعمد أن يلامسها ويمرر أصابعه من فوق ذراعها هامسا: يا أجمل النساء...
حملقت في عيونه للحظة دون أن ترمش وقد جعلت كلماته السعادة ترفرف بجناحيها بين جنباتها.
زفر نفسا حارقا يبوح بجنون مخيف لا يعرفه إلا عندما يقف أمامها هي دونا عن كل النساء... تشعل به نيرانا وتعصف لتثيرها دون أن يرق قلبها عليه وتطفئها!
فتح العلبة التي بيده وجعلها تتأمل معه العقد الماسي مع الأقراط والسوار.
حملقت فيه ببلاهة فقال وعيونه تتأملها باشتياق لأن يضمها إلى صدره: ليست تساوي عندي ظفرا من أظافرك... لكنها هديتي لك... فهل تقبلينها؟
قصد كل كلمة قالها... محسن ليس رجلا غبيا حتى لا يميز معدن المرء وأصله... وسهام إضافة لكل ما تتمتع به من صفات أسَرته، كانت امرأة يُعتمد عليها استطاعت ورغم حداثة سنها أن تسنده وتكون له رفيقة وصديقة...
لفها إلى المرآة ووقف من خلفها يلبسها العقد المتلألئ ببريق يأسر الأنفاس والذي حرص على انتقائه هو شخصيا. وهي تتأمل وجهه المحبب إليها في المرآة وتلك الابتسامة الودودة على شفاهه تخطف أنفاسها... لطالما كانت امرأة حساسة تبحث عن الحب والاهتمام ولم تحلم يوما بأن يتوجها أحدهم أميرة على مملكته... فنالت لنقائها ما تريد وكافأها الله تعالى لصبرها بأكثر من هذا...
عندما انتهى من اقفال العقد قبل بشغف عنقها فشهقت وتسارعت دقات قلبها، بينما أغمض هو عيونه يستنشق شذا عطرها وذراعاه تطوقانها بتملك شديد: يا أميرتي...
ابتسمت برضا وهي تتأمله في المرآة يهمس لها بفحيح: ماذا فعلت بي...
وضعت يديها فوق أصابعه تتحسسها وقالت ببراءة: لا شيء!
لفها إليه فجأة لتبصر عيونه القريبة: لا شيء أيتها الماكرة!
ضيقت عيونها بمكر تماما مثلما لقبها فأثارت جنونه أكثر. ليقول من بين أنفاسه: أنت من جنى على نفسه...
أراد تقبيلها لكن طرقا على الباب جعله يلتفت من حوله. فقالت تسأل عن الطارق: من؟
جاءها صوت أنثوي يقول: هذه أنا نور... أريد أن أرى كيف أصبحت...
همست له: إنها زوجة أخي...
قبل وجنتها سريعا ثم ودعها متوجها إلى الباب ليفتحه لهذه المتطفلة وهو يهمس بينه وبين نفسه: فلترقدي بالجحيم!




noor elhuda likes this.

بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 13-09-21, 01:16 AM   #77

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الثالث والثلاثون
والأخير.


دخلت مروى منزل والدها متعبة ... كان الطريق طويلا جعل معدتها تستفرغ كل شيء دخل جوفها.. ولازالت آثار بكاء اليومين الفائتين واضحا في احمرار مقلتيها وانتفاخ وجهها... حتى أن صوتها تغير وكأنها مصابة بالإنفلونزا.
ألقت بحقيبة يدها على الأريكة وجلست تتذكر تلك المفاجأة السعيدة التي قابلتها هناك... لقاءها بحبيب قلبها منحها عمرا جديدا وحياة أخرى...
أجفلت فجأة من صوت والدها وهو يهدر برجاله في مكتبه: كيف لم تعثروا عليها!... هل هي دخان لتختفي في السماء... أريد تلك الغبية من فوق الأرض أو من تحتها.
خفق قلبها بعنف في صدرها وهي تتوقع أنه حتما يبحث عن أمها! ما الذي سيفعله بها إن عرف أنها قررت هجرانه!
عاد ليقول من جديد بحنق واضح: لا أريد أن أتحدث إلى أي صحيفة ولا إلى أي قناة إخبارية... كل ما عليكم فعله هو تفنيد كل التهم المنسوبة إلي وإحضارها إلى هنا لأشرب من دمها... الساقطة!
أصبح الوضع سيئا... من المؤكد أنها تجرأت على فعل ما يغضبه! تساءلت بينها وبين نفسها: "ما الذي فعلته أمي؟"
وتأكدت من أنه يجب أن تبقي فمها مقفلا حتى لا تجني عليها... لن تخبره أين هي حتى وإن هدد بقطع لسانها...
أخذت حقيبتها وحاولت الصعود إلى غرفتها بسرعة، لكن الباب فُتِح قبل أن تتمكن من الوصول إلى الدرج وشاهدها تسرع الخطى فنادى عليها.
دخلت إلى المكتب بعد انصراف رجاله ووقفت تناظره بعبوس حتى قال: أين هي أمك؟
أجابته بجفاف: أخبرتك أنني لا أعرف.
نهرها بشدة: بلى تعرفين!
قالت بثقة: من المنطقي أن تفكر في الهرب... هذا البيت أصبح لا يطاق أبي!
توسعت عيونه بدهشة ليقطب فجأة ويعنفها بشدة: كيف تقولين مثل هذا الكلام!
هزت كتفيها بلا مبالاة ورددت بخيبة: لأنها الحقيقة... وإن خرجت دون رجوع فهي لن تعطي عنوانها لا لي ولا لغيري... لأنها تعرف أنك ستبحث عنها...
تركت المكتب متوجهة إلى غرفتها في الوقت الذي كان فيه هاتفها يهتز داخل حقيبة يدها.
عندما أقفلت الباب عليها ردت على الرقم الغريب قبل أن يقفل للمرة الثالثة: ألو من معي؟
جاءها صوت والدتها: كيف حالك يا ابنتي؟ هل أنت بخير؟
أجابتها على الفور بصوت خفيض: أمي بحق الله ماذا فعلت؟ والدي غاضب جدا ويحرض رجاله على البحث عنك!
ارتبكت للحظة قبل أن تقول: ألم تسمعي الأخبار!.. فضائحه على وسائل الاعلام والتواصل الاجتماعي... لقد نشرت وساخته... كل وساخته بالصوت والصورة...
شهقت بهلع: أمي!.. أي وساخة تقصدين؟
جاءت إجابتها مختصرة: قلت كل شيء... يمكنك مشاهدة الفيديو بنفسك... لقد أرسلته إلى حسابك.
أقفلت الخط مودعة إياها والدهشة تتملكها! أيعقل أن أمها تجرأت وفضحت كل تلك الأمور المخجلة أمام العالم كله!
أسرعت بالبحث عن الفيديو الذي أخبرتها عنه وجلست على طرف السرير تشاهد صورا متفرقة للفيلا التي يختلي فيها بنفسه بعيدا عن الأعين وصوت أمها وهي تتحدث عن اختلاله النفسي وعشقه لأذية الآخرين كان واضحا لا التباس فيه. حتى أنها فضحت بعض ممارساته الشاذة والعدوانية معها فوضعت كفها على شفاهها وحركت الفيديو نحو الأمام لا تريد أن تعرف التفاصيل وهي تهمس بانفعال: جننت أمي!.. جننت!!!
شاهدت ريم وهي تروي حكاية اغتصابها دون أن تغطي وجهها بل وأصرت على مواجهة المجتمع حتى لا يظن أي كان أن الفيديو ملفق وفي الأخير أكدت أنها قد رفعت دعوى قضائية في المحكمة ضده وأنها ستتابعه حتى تأخذ حقها منه.
كادت مروى تجن وهي تسمع كل كلمة ترويها ريم ودموعها تتقاطر بحرقة مؤلمة... حتى أنها تمنت أن تكون طفلة مجهولة النسب على أن تكون سليلة رجل مثله!... تكاد تقسم أن أمها لن تنجو منه وأنه سيقتلها لا محالة... لقد أخطأت بفتح النار عليه فهو رجل لا يستهان به... وريم مؤكد ستكون نهايتها أبشع من كل ما روته حتى الآن...
عندما انتقل الفيديو يصور تلك الغرفة التي كانت ياقوتة سجينة بها أقفلت الهاتف وجعلت رأسها بين كفيها محاولة استعادة تركيزها... كل ما عرفته حتى الآن لا يساوي شيئا أمام قتله للبشر من أجل تسويق أعضائهم.. إن هذه الفضائح التي نشرتها أمها قد تفسد سمعته أمام الناس في البلد وخارجه لكنها أبدا لن تجعله يدخل السجن فهنا المال فوق الجميع!
أكثر ما يثير قلقها هو ما قد تتعرض له أمها بسبب ما فعلته... من المؤكد أنها لا تعرف مع من تلعب. رفعت الهاتف لأذنها وعاودت طلب آخر رقم ورد هاتفها وبعد بضع ثوان أجابتها: مرحبا ابنتي...
بكل قهر قالت: أمي... لماذا فعلت هذا؟
صمتت أمها للحظة قبل أن تدافع عن نفسها: قد تنتقدينني الآن لأنني أسأت لوالدك... لكنه هو من بدأ بالإساءة وأنا فقط أريد الانتقام لنفسي وللمسكينة التي اغتصبها...
قاطعتها بانفعال: أنا لا أهتم لأمره... لم يعد يهمني وجوده منذ زمن... لكنني أهتم لحياتك... أمي... أصبحت أعرف الآن أن والدي لن يتردد في قتلك!
صمتت أمها مدهوشة من ردة فعل ابنتها التي لم تتوقعها وخمنت أنها أصبحت تكرهه لسبب ما.
أردفت مروى بقهر: ألا تعرفين أنه قاتل!.. يتاجر بأعضاء البشر في السوق السوداء... ألا تعرفين هذا!... ألا تعرفين أن محسن ومحمود رغم كل ما يملكانه من مال وسلطة لم يستطيعا الافتتكاك منه وهما خاضعان لشره!... كيف فكرت أنك تستطيعين هزيمته!.. كيف!. كيف!
أصدرت أمها صوت تأتأة والصدمة لا تراوحها لتنطق: كيف عرفت كل هذا؟
أجابتها بعد زفير: أخبرني لؤي وقد كان يحاول الإطاحة به أيضا ولم يفلح!.. كلهم يا أمي لم يفلحوا فكيف فكرت بسذاجة أن تواجهي من هو مثله!...
سكتت أمها فاعتذرت مروى وأقفلت الخط خوفا من أن يأتي والدها في أي لحظة... ثم تمددت على سريرها وانكمشت على نفسها تبكي بقهر على أمها التي من المؤكد أنها سترثيها بعد أيام...
••••••
عندما انتهى حفل الزفاف وانفض الحضور صعد محسن وعروسه إلى جناحهما حاملا إياها بين ذراعيه حتى دخلا فأنزلها وقال بتهكم: هذا حتى لا تقولي أنك تزوجت رجلا كبيرا بالسن!..
ضحكت لترد القول: أنت أفضل شاب عرفته في حياتي... مزاح، مجون، وجنون!!!
فتح عيونه على اتساعهما: ماذا قلنا عن المجون؟
واصلت الضحك: أعدك لن أفتح الموضوع من جديد...
ثم أردفت: لم أشعر يوما بأنك أكبر مني... كنت دائما طيبا وحنونا... لقد كنت متفهما جدا تحسن الانصات وتجزل منح الاهتمام!
كانت عيناها البراقتان تنظران إليه بكل امتنان متذكرة ما فعله من أجلها في الوقت الذي أدبر فيه عنها الجميع حتى أهلها... أمّا هو فكان يقترب منها متأثرا بكلماتها حتى أصبح قبالتها ووضع كفيه على خصرها: أنت تستحقين الأفضل يا سهام... تستحقين الأفضل...
ابتسمت بحب لتكمل: لطالما اعتبرتك رجلا صالحا رغم كل شيء... راهنت على قلبك..
وأشارت بإبهامها إلى يسار صدره فشعر أن لكزتها تلك قد اخترقت جسده وأحس بها تلامس قلبه، كان عاجزا عن الكلام حقا... لم يخبره أحد قبل الآن أنه رجل طيب، الجميع بما فيهم ابنه كانوا يلمحون له بأنه رجل غير صالح...
تذكره لابنه جعل قلبه يعتصر... ليس وقت اليأس الآن. حاول التماسك فسمع ضحكة سهام وهي تقول: هذا إن تجاهلنا تحرشك بي في الدرج تلك المرة...
ورفعت إصبعها عن صدره لتضعه قبالة وجهه بوعيد وحاجبها مرفوع. ابتسم باحراج محاولا الدفاع عن نفسه: لا... أنت أسأت فهم الأمور... كان حادثا...
أشرت له نفيا: كان حادثا ها!
جعلها تخفض إصبعها ذاك قائلا: دعي اصبعك ذاك يرتاح قليلا فليس هذا وقت نشر الغسيل!!!
غلبها الضحك وهو يحاول السيطرة على الوضع من جديد حتى يعود لمناخ الرومانسية والمشاعر الجياشة.
فعانقها بحب وهو يقول: أتمنى أن أراك تضحكين على الدوام...
أغمضت عيونها باطمئنان وهي تشعر بارتياح عجيب بين ذراعيه، ثم سحبت هواءً مشبعا بعطره اجتاح رئتيها كالإعصار ليفسد توازن دقات قلبها: أنا أحبك يا محسن... أحبك كثيرا...
تلك الكلمات جعلته يسألها ببلاهة: ماذا قلت؟
ابتعدت عنه قليلا لتنظر في وجهه بإمعان وهي مشدودة إليه بكل حواسها: قلت أنني أحبك...
ليست تدري أنها ببراءة كانت تلهب مشاعره... لقد لعبت على وتره الحساس، تخبره بكل صدق عن تعلقها به بأجمل كلمة خرجت من بين شفتيها حتى الآن!
آآآآه كم انتظر بصبر أن يسمعها تنطقها... وها هي اليوم تهديه اياها ليلة زفافهما وبكل احساس ورقة.
قبلته لها كانت أجمل من كل الكلمات... أبلغ من كل العبارات... مزيج من رقة الأحاسيس وجنون الشغف... شيء من العشق والتعلق والتملك...
لم تعش يوما مثل هذا الشعور، كيف جعلها هذا الرجل تتقد حبا بقبلة واحدة! وكيف استطاع أن يحرك كل مشاعرها في لحظة واحدة!..
رن هاتفه فجأة وأفسد اللحظة الجميلة فسحبه محسن من جيبه متمتما وأقفل الخط. قالت بارتباك وحرج: لماذا لا ترد؟
أجابها: لا داعي لهذا... ثم إن الرقم غير معروف.
لقد شك في أنه بشير يتصل ليفسد ليلته بخبر سيء عن ابنه...
اهتز الهاتف هذه المرة بيده قبل أن يتركه جانبا فعادت لتقول: تحدث مع المتصل... يبدو أنه أمر مهم.
رفع الهاتف لأذنه وأجاب بحنق واضح: من معي؟
جاءه صوته المميز وهو يقول: أبي...
خفق قلبه بقوة وارتعشت شفاهه قبل أن يقول: محمود!
أجابه: إنه أنا يا أبي...
كلمة أبي التي رددها على مسامعه مرتين أحيت بداخله كل عواطف الأبوة المختزنة... فجرت كل مشاعره ليصيح بفرح: أنت حي يا محمود!
أجابه الآخر: أنا بخير ونسرين كذلك... نحتاج لمن يقلنا فنحن بعيدان جدا ورجال بشير يبحثون عنا...
قال على الفور بانفعال شديد: من أين تتصل؟.. أخبرني فقط أين أنت!
عندما أخبره عن مكانه وحددا مكانا للالتقاء أقفل الخط وهو مرتبك بين فرحة وحماسة... بين خوف وترقب..
سألته سهام بفضول وقد تهللت أساريرها لفرحه: هل هما أحياء؟
قال بسعادة: أجل... يجب أن أسرع لإحضارهما إلى هنا... الطريق طويلة... سنقلع الآن...
سألته بفضول: ستذهب بنفسك؟
أراد أن يقول أجل لكنه تردد يستقرئ نظراتها ليعرف إن كان الأمر يزعجها. فأردفت: سأغير ثيابي وآتي معك...
قال بتردد: الطريق طويلة وقد تتعبين...
أسرعت في فستان زفافها العريض إلى الخزانة تسحب منها ثيابا خفيفة تليق بالسفر: ألن تُجهز السيارة... هيا دقائق وسأنزل إليك.
لم يجد ما يقوله وقد سر بأن تكون رفيقته طوال الطريق.. هكذا لن يضطر للسؤال عنها في كل لحظة.
بعد قليل كانت السيارتين جاهزتان ونزلت سهام في سروال جينز وسترة بيضاء تغطي فخذيها ففتح لها الباب الأمامية لتجلس وركب هو بالقرب منها للقيادة. شغل المحرك ثم التفت إليها: آسف حبيبتي... خططت لليلة أفضل من هذه...
أجابته تغالب حتى لا تبتسم: المهم أن ابنك وزوجته بخير... هذا أهم من كل شيء.
أقلع بالسيارة ومن خلفه السائق الثاني مع أحد الرجال يتبعانه كما أمرهم.
مرت ساعة واثنان وثلاث دون أن يصلوا وجهتهم وكلما كانت تسأله سهام كان يقول أنهم بعيدون... غلبها النعاس فنامت، وافتقد لصوتها وهو يسليه بين الفينة والأخرى حتى كاد أن يبزغ الفجر. في تلك الأثناء أوقف السيارة وبقي يعبث بجهاز تحديد المواقع حتى يتأكد من المعلومات عليه... إنه في النقطة المحددة للالتقاء لكن لا أحد بالجوار. الطريق خالٍ تماما... الظلام حالك ولا يسمع أي شيء.
بقي مكانه لربع ساعة دون أن يصل ابنه فنزل من السيارة يتحدث إلى الرجلين ويتأكد منهما أنهم لم يخطئوا الطريق تاركا سهام نائمة بالسيارة.
بعد بضع دقائق وصل مجموعة من الرجال على الجمال فبقي مكانه يحدق بهم بفضول حتى أزاح محمود اللثام عن وجهه وأسرع إليه بفرح.
تعانق الاثنان طويلا... ولم يكن من عادتهما أن يتعانقا. فبعد رحيل "بسمة" تقهقرت علاقتهما كثيرا لأن محمود ظل يُحمّل والده مسؤولية موتها ولم يفتأ يفتح جراحه إقرارا وتلميحا...
قبل محمود رأس أبيه: اشتقت إليك يا أبي... اشتقت إليك..
بدى محسن مضطربا جدا لا يدري ما يقوله ولا ما يفعله، الانفعال لا يليق برجل مثله. قال بحب: وأنا اشتقت إليك يا بني.
وعاد ليحتضنه وهو يربت على ظهره. وسهام التي استيقظت من الجلبة تتأملهما بفرح وسرور.
لم تشأ النزول حتى تأكدت من أنهما قد فرغا من الترحاب. ثم توجهت إليهم وكان محمود يساعد نسرين على السير ليجعلها تركب بالسيارة ومحسن يسألها عن حالها.
لفتت الأنظار إليها بمجرد أن وصلت: مرحبا... كيف الحال؟
حدق بها محمود ونسرين ثم ببعضهما فأسرع محسن بالقول: إنها سهام... زوجتي.
سقط فكيهما من الدهشة وعادا ليحدقا ببعضهما البعض. إن الخبر لا يصدق!
أردف محسن: سهام... هذا ابني محمود وهذه زوجته.
أجابته: أعرفهما... كانا جارين لنا بنفس البناية.
أومأ محمود: هذا صحيح، كيف حالك سهام؟
أجابته: بخير شكرا... كيف أنت نسرين؟
خرجت من شرودها وعتاهيتها لتقول: بخير الحمد لله.
أراد محسن السؤال عن حفيده لكن شكل نسرين وسوء حالتها ينبئه بالأسوأ فالتزم الصمت.
قال محمود: خذ نسرين معك وزوجتك وأنا سأركب مع السائق وصاحبه.
وافق والده فساعد زوجته على الاستلقاء بالمقعد الخلفي وودعها بحب، ثم انصرف ليركب السيارة الثانية ويقلع الجميع من فورهم.
•••••
مر أسبوع كامل حمل معه رياحا دافئة تنذر باقتراب الصيف...
بشير يكثف من البحث عن ريماس التي لم يظهر لها أثر والتي كانت تعد له في الخفاء، فبعد ان شهد الفيديو الذي نشرته رواجا كبيرا اتصل بها مشرفو إحدى أشهر القنوات المقتنصة لأخبار المشاهير حتى تكون ضيفة في إحدى الحلقات وتتحدث إلى العالم بالصوت والصورة. ترددت طويلا قبل أن تقبل الفكرة لكنها كانت في حاجة لدليل آخر حتى تنهيه بالضربة القاضية. قالت ابنتها أنه قاتل ويتاجر في أعضاء البشر الأمر الذي جعلها تصر على الانتقام منه لأنه رجل لا يستحق الحياة... تريد أن تثبت عليه هذه التهمة التي من الصعب أن تؤكدها للرأي العام إلا إن خاطرت بحياتها وصورته وهو يعترف لها بالحقيقة... لكن هذا المشهد في حد ذاته يتطلب أن تسلم رقبتها للموت المحتم!
استحوذت عليها الفكرة خلال الأيام الماضية وقررت أن تغزل خيوطها وتحاول الاطاحة به. ففي مطلق الأحوال هو لن يسكت وقد يصل إليها ويقتلها باحترافية مجرم لا يرحم...
عقدت العزم على أن تخاطر وأوصت ريم بالوصول إلى الكاميرا إن حصل معها أي مكروه ونشر الفيديو ليشاهد العالم فضاعة رجل خسيس مثله وبهذا تكون قد انتقمت منه حية أو ميتة.
حبكت خطتها وجهزت أمتعتها ثم رجعت إلى البلاد على أول طائرة دون حتى أن تعطي خبرا لابنتها... ابنتها التي كانت ترزح تحت وطأة الألم... فما بين اشتياقها للؤي وتبرمها من والدها حكاية وجع ليس غيرها يعرفها.. لقد خططت هي الأخرى للهرب من البيت واللجوء إلى حبيب القلب، لكنها لا تعرف إن كان في نفس البيت الذي تركته فيه أم أنه قد غيره... لم يعطها لا رقما ولا أي عنوان... كل ما قاله وهي في حضنه تستودعه الله بدموعها أنه سيجدها حتما وسيكونان معا قريبا... ورحلت مع هذا الوعد تنتظر الفرج وقلبها يئن من طول الانتظار...
لقد فكرت في أن تطلب المعونة من محسن فهو من يساعد لؤي ومن المؤكد أن بينهما تواصل ما... قد تطلب منه إخباره بأنها تشتاق إليه وتريد أن تعيش وإياه... قد يرق قلبه العاشق لها في لحظة ضعف ويطلب منه إحضارها إليه!
لم تكن متأكدة من هذه الفكرة لكن لا ضير من المحاولة...
•••••
كانت ساهمة في الفراغ أمامها ويدها تتحسس بطنها الذي أضحى خاويا لا حياة فيه... خسارتها للجنين موجعة وتذكر الأمر يجعل من دموعها سيلا منهمر...
جلس محمود بقربها ومرر يده فوق شعرها الأسود بلطف: يجب أن نتجاوز الأمر حبيبتي... رؤيتك حية بقربي تساوي عندي كل هذه الدنيا...
حدقت به للحظة ثم ارتمت في حضنه باكية تشكو إليه في شهقاتها حرقة قلبها والخوف الذي سكن أحشاءها بعد كل الذي عايشته.
راح يربت عليها بحنو وهو يشعر بألم مماثل لألمها: ابكي يا عمري... يمكنك البكاء قدر ما تشائين... فقط لا تسكتي وتتأملي الفراغ حولك كمن تسافر روحه ليبقى خاوي الجسد...
سمعا صوت طرق على الباب فتنحت عنه تمسح دموعها بينما فتح للطارق وكانت الخادمة الجديدة وهي تحمل فطور الصباح إليهما...
قال بتساؤل: لماذا أحضرته؟ كنا سننزل حالا...
أجابته بلباقة: السيد هو من أمرني بهذا...
وصمتت لتردف: قال أنه ينتظرك وزوجتك بالقاعة الرئيسية.
تنحى لها حتى تدخل لتضع الأطباق على الطاولة: أخبريه أننا سننزل بعد قليل...

وفي قاعة الطعام كانت سهام جالسة رفقة محسن وهما يتبادلان الهمس والضحك إلى أن سألته بفضول: ألن ينزل محمود ونسرين لمشاركتنا الطعام؟
أجابها وهو يسكب قليلا من الماء ليشرب: طلبت من الخادمة أن تنقله إليهما... أعرف أن زوجته لا ترتاح لي وقد تنسد مجاريها الهضمية إن جلست إلي على نفس الطاولة.
ضحكت ثم أردفت: معها حق... حتى أنا كنت أشعر بآلام في معدتي كلما وضعت الطعام أمامك ووقفت أنتظر أوامرك...
حدق بها للحظات ثم ارتشف كأسه: كنت تخافين مني؟
شعرت بالحرج يتملكها، ثم تذكرت الماضي لوهلة وتابعت: لطالما كنت مغلفا بعازل يمنع الناس عن إدراك حقيقتك... لكنني سعيدة أنني الوحيدة التي حظيت بفرصة أن تجتاز كل الحواجز وتصل إليك... إلى داخلك...
قبل كفها التي أصبحت منذ بعض الوقت في يده وهو يهمس لها بحب: أطيب امرأة يا قلبي...
ركض إليها ابنها مناديا: ماما... ماما...
أسرعت إليه لتحمله وأشارت للمربية تشكرها لتنصرف، ثم عادت به إلى الطاولة ومحسن يتأملهما باسما: كيف أصبح أنس الصغير... ألن يقبلني هذا الصباح أيضا!
وأشار إلى خده فانصرف عنه الصغير وانكمش عند أمه وهو يضحك... ضحكته تلك تعد تقدما كبيرا فهو لم يستطع التعود على محسن بعد ويهرب منه على الدوام.
قالت وهي ترجع لمكانها وتجلسه في حجرها: أنظر محسن... لم يعد يبكي عندما تكلمه...
أجابها رافعا أحد حواجبه بتهكم: يبدو أنه مثل أمه عرف متأخرا أنني لا آكل البشر!
ضحكت لكلامه وقبلت وجنته بحب فضمها إليه بذراعه مقبلا جبينها، وعلى هذا المشهد وصل محمود: صباح الخير يا عروسان.
تأمله محسن: صباح الخير... تفضل بني...
وأشار له للجلوس معهما بينما شعرت سهام بالحرج الشديد وتوردت خجلا مدارية وجهها عنه برأس ابنها الذي تأمله محمود بود ومازحه: صباح الخير أنس... هل سترافقني للمسبح مثل المرة السابقة؟
هز الصغير رأسه موافقا وعاد ليخفيه بين كفيه الصغيرتين بخجل فضحك ثلاثتهم، ليقول محمود بدعابة: ها قد أصبح لدي أخ صغير ألاعبه!...
وتعمد إحراجهما تماما كما كان يفعل معه والده هو ونسرين: أم تراكما تفكران في إهدائي المزيد من الإخوة!
أصبحت سهام لا تكاد تُرى من شدة اختبائها خلف ابنها خجلا بينما وكالعادة محسن لا يتأثر من هذه الأمور: إن كنت تريد من تلاعبه فاذهب إلى زوجتك لتنجب لك أطفالا... دع سهام وأولادها لي أنا وحسب...
اصطنع نظرة عابسة ليقول: ها قد بدأت أغار...
سمعوا صوت خطوات تنزل الدرج فالتفتوا جميعا إلى مصدر الصوت لتتراءى لهم نسرين مقبلة نحوهم. فهمس محمود لوالده: بدل الموضوع... مازالت تعاني من فقدانها للطفل...
قالت سهام بفرح وكأنه قد قدم من يخرجها من الحرج الذي غرقت فيه: تفضلي نسرين... من الجيد أنك تحسنت وأصبحت تغادرين غرفتك...
ابتسمت بوجهها ممتنة لحرصها على صحتها، ثم سحب لها محمود كرسيا للجلوس فنظر إليها محسن لبرهة: مرحبا بك بيننا من جديد يا نسرين.
رفعت رأسها إليه بدهشة لتقابلها ابتسامة ود دافئة جعلتها تضع كفها على فخذ محمود وكأنها تسأله " ما به والدك!"
قبض عليها محمود وقبل يدها بحب ثم اقترب منها هامسا في أذنها: لا تسأليني ما باله فوالله لا أعرف!
جلت بحة صوتها لتقول بأدب: شكرا لك يا عمي...
كانت سهام تنظر إليهما باسمة لتهتف بحماس: من الآن فصاعدا سنفطر معا كعائلة...
رد عليها محمود: هذا مؤكد... إن توقف أبي عن تدليل كنته بإرسال الفطور إلى سريرها كل صباح!
ثم صفق لأنس ونادى عليه ليخرجا إلى المسبح بالحديقة الخلفية وهو يمد يده لنسرين حتى ترافقه. وقبل أن يتركا المكان التفت إلى والده: تمتعا بوقتكما يا عروسان...
ضحك محسن من ابنه الذي يرد له دينه القديم متسببا في احراج سهام مثلما كان هو يحرج نسرين من قبل وقال بحاجب مرفوع: طبعا سنتمتع بوقتنا... اعتنيا فقط بأنس ولا تجعلاه يبكي حتى لا يقطع علينا...
شهقت سهام وركلته من تحت الطاولة فتوجع ليكمل مستدركا: خروجنا إلى شاطئ البحر!
أبدت اندهاشها وهمست له بصوت خفيض: آسفة يا حبيبي... ظننتك ستقول شيئا آخر!!
رد عليها بهمس: هذا جزائي لأنني فكرت أن أترك كل العمل الذي فوق رأسي لأخرج أنا وأنت في نزهة قصيرة!
نظرت إليه متوسلة بنظرة طفولية بريئة: سامحني أرجوك!... هل أوجعتك؟..
ترك محمود ونسرين المكان وهما يضحكان حتى خرجا إلى الحديقة فأفلت أنس إصبع محمود الذي كان متعلقا به وركض إلى المسبح ليصيح به: توقف! توقف!
ثم هرول خلفه حتى التقطه قبل أن يقفز في الماء: يا إلهي... أبي كان سيقتلنا!
ضحكت نسرين لكلامه وجلست على الكرسي القريب: محمود لا تسبحا اليوم... الجو متقلب وقد أصبح أبرد من ذي قبل...
نظر من حوله إلى الأرجوحة ثم قال لنسرين: لا أذكر أنها كانت هنا!... من ثبتها.
أجابته بفطنة: والدك العاشق... هذا مؤكد..
زم شفتيه مقطبا: أصبحت أغار حقا... أشعر أنني لم أعد مدلل والدي..
وقفت تمد يدها إلى أنس حتى يرافقهما إلى الأرجوحة وهي تتذكر تلك الليلة التي جاء فيها محسن بنفسه إليهما ليقلهما: والدك يحبك كثيرا يا محمود.. لقد رأيته يحمد الله ويسجد إليه شكرا بعد عودتنا... ولم أرى في حياتي أصدق من عيونه الدامعة...
غص حلقها بألم وهي تتذكر أسرتها... ليت أنها ترى في عيون والدها شيئا مما رأته في عيون محسن... لكانت قبلت الأرض بين قدميه وما تجرأت على عصيانه!
بدى محمود متفاجئا، ليس من حب والده فلطالما كان يحس بحبه له وهو من كان يرفضه على الدوام! قال بدهشة: منذ متى أصبح والدي تقيا ليسجد شاكرا!.. هو لم يكن يصلي حتى!
لكزته بمرفقها: هل تشك في مقدرة ذات الشعر الأحمر!...
نظرا إلى بعضهما البعض ليضحكا في وقت واحد.

نزلت سهام إلى القاعة مرتدية فستانا صيفيا طويلا فوقه بلوزة خفيفة بأكمام طويلة وتغطي شعرها بشال من نفس اللون. وهي تلوح بحقيبتها ذهابا وإيابا من التوتر، ليست تدري كيف سيعلق محسن على شكلها الجديد.
بقيت واقفة عند آخر الدرج محدقة به وهو يتحدث على الهاتف ثم التفت إليها وما إن شاهدها حتى بدت عليه الدهشة وبقي يتأملها بإمعان فتوقعت أن شكلها الجديد لم يُرضه.
انتظرت حتى أقفل الخط ثم قالت بارتباك: ما رأيك؟
تحولت معالم دهشته إلى ابتسامة واسعة: من الجيد أنك فعلت هذا وإلا كنت سأقتلع عيون كل وغد تسول له نفسه النظر إليك...
فرحت لكلامه ومدت إليه يدها ليسيرا معا فسحبها إليه لتجد نفسها بين أحضانه تسمع آهة عميقة وساحرة شعرت بها تخرج من أعماقها لا من أعماقه ليكمل بهمس قاتل: كم أحبك أنا!..
أغمضت عيونها للحظة تعيش روعة الإحساس بجمال الكلمة التي نطقها... أن تشعر بانتمائها له وانتمائه إليها... وأن تذوب بين ذراعيه تلك اللحظة لتلتحم به، لكن صوت الخادمة وهي تتعمد لفت انتباههما جعلها تبتعد عنه وهي مازالت تتنهد محاولة الخروج من عمق أحاسيسها.
تكلمت إلى محسن: سيدي... هناك من يطلب رؤيتك...
قال بتساؤل: من؟
أجابته: يقول أنه فؤاد منصور...
ضرب بكفه على جبهته وقال بامتعاض: لقد نسيته تماما... يا إلهي، أيعقل هذا!
ثم أشار إليها: استقبليه ومن معه وأحسني ضيافتهم.. سأكون هناك بعد لحظات...
أومأت بانصياع وتركت المكان فالتفت إلى سهام معتذرا: حبيبتي... لا تغضبي مني أنا ارجوك... نسيت أنني متواعد مع رجل مهم... أو بالأحرى اعتقدت أنه لن يصل باكرًا...
وزفر بإحباط خشية أن تكون سهام قد غضبت لالتغاء خرجتهما. لكنه فوجئ بها تقترب منه من جديد وتحاوطه بذراعيها: ولماذا قد أغضب!.. اهتم بأمورك حبيبي وعندما تفرغ سأكون بانتظارك.
قبلها بحب وانصرف ليرى مفسد متعته. والذي كان يجلس إلى صاحبيه في القاعة محذرا إياهما من بدء أي شجار.
قالت ياقوتة: أنا لست هنا إلا لرؤية صديقتي... وإلا ما كنت قد دخلت بيت هذا النذل.
ولج محسن لتلتقط أذناه هذه الكلمة: مرحبا بك في بيت هذا النذل يا ياقوتة...
التفتوا إليه جميعا وقد شعرت بنوع من الإحراج، ثم التزمت الصمت ريثما رحب بفريد ولؤي.
قال محسن ممازحا للؤي وهو يهم بالجلوس: يناسبك اسم لؤي أكثر... هذا رأيي المتواضع.
همس فريد بملل: يا لخفة دمك!!
داس عليه لؤي بقدمه فهو يعرف أن صاحبه لا يطيق محسن ولا يثق به. ثم قال بلباقة: كيف حال ابنك وزوجته؟
أجابه: بخير... إنهما بخير...
نطقت ياقوتة: أيمكنني رؤية نسرين؟
نادى على الخادمة وانتظر وصولها ليخبرها بأن تبلغ نسرين برغبة صديقتها في رؤيتها ثم حملق في ياقوتة بنفس نظرة الازدراء القديمة لم تنقصها الأيام شيئا وكأنه يلومها على كل ما لحق بحياته مع بسمة من تحت رأسها: أبلغوني أنك حاولت قتل بشير!
أجابته بجفاف: ليتني استطعت اقتلاع روحه!
أومأ بملل: لؤي هو الوحيد القادر على قتله...
مالت العيون إليه فشعر بأنه مقبل على نقطة اللارجوع... إنها نقطة فارقة بين حب مروى له وحبها لأبيها...
سأله لؤي باختصار: هل جهزت ما اتفقنا عليه؟
أجابه: كل شيء جاهز... يجب أن يموت بحلول المساء.
ليدخل لؤي ذلك المنزل يجب أن يساعده أحد من الداخل، وطوال سنين عمله هناك حرص أن يجعل بعض العمال هناك مخلصين له لا لبشير... وقد استطاع كسبهم بمودته وحسن خلقه قبل أي مكاسب مادية. واليوم لديه من يفتح أمامه الأبواب على مصراعيها للإطاحة بغريمه وجها لوجه في ضربة أخيرة قاضية.
•••••
وصلت ريماس إلى البيت ولم يكن هناك أحد تماما كما أخبرتها الخادمة عندما اتصلت لتستفسر قبل دخولها...
ولجت إلى المكتب وثبتت بعض الكاميرات... إنها تنوي فضحه هذه المرة صوتا وصورة وهو يقر بفظاعته... تريده أن يعترف بجرائم أكبر من تلك التي عرضتها قبل أيام... تريد اعترافه بجرائم قتل تجعله يتعفن في السجن ولن ترتاح قبل أن تنال ما تريد.
تريده أن يحاول قتلها ليشهد العالم كله فظاعة رجل مثله... هكذا فقط ستستطيع الانتقام لعمرها الضائع وسنينها القاحلة، تنتقم لريم تلك الفتاة الصغيرة وما لحق بها... تنتقم لابنتها التي تذرف دموع خذلانها وخزيها من أب مثله... تنتقم للؤي الذي تضن أنه قد قتله... تنتقم لكل من مزقه ليتاجر بأعضائه... تنتقم لكل من تعرض للأذى ولم يجد إلا الله ليرفع إليه دعاءه...
لا تظلِمنّ إذا ما كنتَ مُقتدراً
فالظلمُ مرتعُه يُفضي إلى الندَم
تنام عينُك والمظلوم منتبهُ
يدعو عليك وعينُ الله لم تَنَمِ
علي بن أبي طالب

باقتراب المساء شعرت بانقباض شديد في قلبها وأصبحت ترتجف من الخوف... إنها مقبلة على دخول وكر الذئب بقدميها الاثنتين وتعلم جيدا أنه لن يتسامح معها...
حمدت الله في قرارتها أن مروى خارج البيت ولم ترجع بعد هكذا لن تشهد المأساة بأم عينها إن خرجت الأمور عن نصابها...
تفحصت المسدس المحشو بالذخيرة وخبأته بين ثيابها متأملة لنفسها قرب المرآة ثم أعادت خصل شعرها إلى الخلف وهي تتنفس بعمق لتخفف من توترها.
عندما سمعت صوت السيارة تتوقف قرب المنزل عجلت في النزول لتلتقيه بالمكتب أين وضعت الكاميرات.
شاهدته يحدث الخادمة لبرهة ثم اقترب من الدرج للصعود فتفاجأ بها واقفة في انتظاره. نظراته الأولى كانت مبهمة لترتسم بعدها ابتسامة انتصار سابقة لأوانها على شفاهه، ربما كان يتخيل ما سيفعله بهذه المتمردة التي جاءت تستجدي الرحمة منه كما يبدو.
حكت كفيها باضطراب وقالت: بشير... أنا وأنت يجب أن نتحدث.
وكما هو متوقع أشار للمكتب حيث يمكنه الحديث معها براحة. فتركته يسبقها حتى لا يقفل الباب عليهما لكنه تأخر وفعل ذلك.
أصبحا في الداخل بمفردهما يتأملان بعضهما البعض وكأنهما في تعارف... قالت بعد صمت: جئت لأعتذر منك... لقد كانت غلطة مني وأعدك ألا تتكرر.
حاول جاهدا السيطرة على أعصابه حتى لا يقتلها الآن بعد أن ذكرته بما فعلت... يجب أن تبقى حية ليستمتع بجعلها تدفع ثمن غبائها قطرة بعد قطرة.
قال ببرود: هكذا وبكل بساطة تعتقدين أنني سأسامحك!..
وضحك ضحكة هستيرية مجنونة ثم أردف: أنت جئت لأمر آخر فلا تراوغي...
سألته بثبات: سمعت أنك تتاجر في الأعضاء البشرية وأتيت لأتأكد من هذا بنفسي... لا يعقل يا بشير أن تفعل هذا... أنت زوجي منذ سنوات وأعرف أنك لست سفاحا!
ضيق عيونه مفكرا لبرهة ثم ضحك ملء فيه طويلا ليقول أخيرا بسخرية: أين وضعت الكاميرات؟.. هيا بربك أخبريني... تلك حيلة قديمة وأنا أذكى من غبائك المفرط...
تجمدت الدماء في عروقها بعد أن فضحها بكل بساطة ودون أي جهد، ولم تستطع قول كلمة فاقترب منها بخطوات بطيئة: أين هي؟... هيا هاتها...
ازدردت ريقها بهلع: أنت مخطئ!
أمسك ساعدها بقوة وسحبها إليه بعنف حتى التصقت به وأصبح وجهها في وجهه ليقول بفحيح أفعى سامة: لا بأس... سأبحث عنها فيما بعد لأشاهد مسرحيتك هذه وأضحك متسليا...
حاولت أن تسحب نفسها من قبضته بلا جدوى، بينما كان هو مستمتعا بإبصار الخوف يغزو ملامحها ويجعلها تشحب شحوب الموتى.
أكمل بنقمة: أنت أغبى من أن تفكري فكيف تخططين!.. اعتقدت أنك بتسجيلك لذلك الفيديو ستنهين أمري.. وأعجبك فيلم الأكشن الذي اخترعته فأردت له تكملة أكثر إثارة... تريدين أخذ اعتراف مني!... سأخبرك. أجل أنا أتاجر في الأعضاء البشرية وأتقاضى مبالغة هائلة مقابل كل قلب أو كلية أو أي عضو أبيعه تحت الطلب... وقد أقتل رجلا واحدا من أجل عضو واحد وأرمي بباقي الجثة لكلاب الحراسة بعد أن أفرمها...
ثم أمسك بحقيبة يدها ورجها أمامها في الفضاء. ألم تسألي نفسك يوما من أين جاءت النقود التي تنفقينها على أغراضك الشخصية الباهظة الثمن... حقيبة من جلد التماسيح دفعت فيها ما يسد حاجيات أسرة كاملة لأشهر!
صمت لبرهة يناظرها بازدراء: تلومينني على فظاعتي وكلكم أحببتم رغد العيش الذي أنتم فيه!... حتى مروى التي بدأت بمهاجمتي فور أن عرفت بالحكاية ما كانت لتستطيع العيش بعيدا عن هذا الثراء... لقد أحببتما ما نحن فيه بطريقة أو بأخرى وهذه هي الحقيقة...
طفح كيلها منه ومن تفكيره السطحي لتقول بسخط واضح وذراعها تحت قبضته: الحقيقة الوحيدة أنك رجل مختل وتستحق الموت ليرتاح العالم من شرك... من قال لك أننا نرغب في أن نعيش على حساب دماء الأبرياء! هناك ألف طريقة لتكسب رزقك دون الإساءة لأحد.
صفعها على وجهها بقوة حتى نزف أنفها وعاد ليسحبها إليه حتى تكون في مواجهته من جديد: لا تصرخي بوجهي... عندما تتحدثين إلي... لا ترفعي صوتك!
كان يريد إذلالها لتتوسله الحياة، لتستعطفه وتترجاه.. والأمر كفيل بأن يرضي ساديته المفرطة، لكنه أبدا ما كان ليعفو عنها ويطلق صراحها وهي تعلم ذلك علم اليقين... لقد وقعت في قبضته وإن لم تسارع في تحرير نفسها منه سينتهي الأمر بها مثل حبيسته السابقة التي بقرت بطنه من أجل أن تهرب...
•••••
كان لؤي جالسا في سيارته يراقب غروب الشمس وينتظر حلول الظلام ليعطيه رشيد الإشارة للدخول. لقد اتفق معه على تعطيل أجهزة المراقبة ومراوغة الحرس وهو خبير بمداخل المنزل ومخارجه ليتسلل إلى الداخل بحذر تام... أصبح يعرف أن بشير بالداخل منذ دقائق ومروى غائبة عن البيت منذ عصر اليوم...
إلى أين ذهبت يا ترى؟.. اختفاءها الغير مبرر يؤرقه!.. هل تراها ستسافر إليه حيث التقيا قبل أسبوع بالريف في منزل عمه المتوفي!
مسد جبهته باضطراب. لا يريد أن يشوش تفكيره... عليه أن يركز في ما هو قادم من أجله. ثم إنه من الجيد أن تكون خارج البيت في هذا الوقت بالتحديد.
نطق فريد بعد طول صمت: لقد جاءت... أقصد زوجتك.
نظر باتجاه البوابة فشاهدها تنعطف بسيارتها لتدخل. خفق قلبه ما إن وقعت عينه عليها وبدأ الحنين يجري في عروقه فجأة بطريقة هي الأشد وطئًا منذ أن افترقا قبل أسبوع.
لم يدر أنه شرد معها يتتبع سيارتها بعينيه حتى رجه صديقه: ما الذي سنفعله الآن!.. هل ستقتله أمام عيونها؟
نظر إلى صديقه صامتا فأردف الآخر: دعني أدخل بدلا منك... سأجنبك المشاكل...
هز رأسه نفيا لينطق لأول مرة منذ أن وصلا: إنه لي هذه المرة مهما كلفني الأمر من ثمن.
رن الهاتف فجأة فقرأ الرسالة ثم ترجل من السيارة ليطل على صاحبه: سنبدأ الآن. كن حذرا وراقب هاتفك.
أومأ منصاعا لكلامه، فأسرع الخطى باتجاه سور المنزل ليلتف من حوله ويدخل من إحدى الأبواب الصغيرة جهة المطبخ وتلك تستعمل لنقل الحاجيات والمؤونة إلى المنزل بطريقة سريعة وهناك سينتظره رشيد.
•••••
كانت مروى تدخل القاعة الرئيسية متوجهة إلى الدرج حتى تستعجل في الصعود إلى غرفتها. لقد شاهدت سيارة والدها ولا حاجة لها بمقابلته والتحدث إليه.
كانت بالقرب من منزل محسن وأرادت حقا أن تكلمه وتطلب منه أن يوصلها إلى لؤي لكنها ترددت طويلا قبل أن تدخل وقررت أن تثق بكلام لؤي وتنتظره.. لقد وعدها باللقاء قريبا وهي متأكدة من حبه لها لذا فمن المستحيل أن يبتعد عنها كل هذا الوقت دون سبب واضح.
أكثر ما أزعجها هو مشاهدتها لمحمود ونسرين ومعهما فتاة وطفل صغير وهم في الحديقة يتسلون... ولم تشأ أن تلتقيه ولا أن تحدثه لعلمها بالحساسية المفرطة بينه وبين لؤي. لا تنقصها غيرة هذا الأخير وانفعاله إن حدث وعرف بالموضوع.
عندما وضعت قدمها على أولى الدرجات سمعت صراخ أمها لكنها تابعت طريقها دون اهتمام فمن الواضح أنها تتخيل الأمر. عندما انعطفت لتكمل باقي الدرج سمعت صراخها مرة أخرى وتأكد لها أنها لا تتخيل هذا.
شهقت بدهشة وأوقعت الحقيبة من يدها ثم ركضت مهرولة باتجاه المكتب حيث مصدر الصوت وهناك كانت إحدى الخدمات تتحرك باضطراب فصاحت بها: من بالداخل؟!
أجابتها وهي تشارف على البكاء: إنها أمك، جاءت قبل العصر وهي مع والدك منذ دقائق... إنها تصرخ منذ فترة ولا أحد يفتح الباب.
تجاوزتها لتطرق على الباب بوجل: أبي... أبي افتح الباب هذه أنا!
كان بشير ممسكا بشعر ريماس بيد وبالمسدس الذي هددته به بيده الأخرى وصدره يعلو ويهبط من نقمته. همس لها وهي ترتجف أمامه ودموعها تتطاير: ها قد جاءت ابنتك!.. تلك الخائنة التي تحيك من وراء ظهري مخططاتها مع النذل الذي اسمه لؤي...
اقترب من الباب ليفتحه فصرخت بها أمها بصوت مخنوق: اهربي... اهربي يا ابنتي... مروى اهربي.
رغم أنها سمعت صراخها المتوسل لها بأن تهرب لم تستطع تنفيذ الأمر... ما كانت لتتركها تواجه الموت وحيدة... الخادمة وحدها من فرت من هناك مذعورة لتتصل بالشرطة.
فتح الباب بقوة فبهتت من المنظر الذي شاهدته وصرخت بأمها تعتب عليها: لماذا عدت يا أمي؟.. لماذا عدت؟
وجه المسدس نحو ابنته بكل برود وأشار لها بالدخول فنفذت مرتجفة وهي لا تكاد تصدق أن من يهددها بالقتل هو والدها.
سارت حيث أمرها وجثت أرضا تماما أين أشار لها ثم ألقى بأمها بقوة فسقطت بالقرب منها باكية واحتضنتها مرتجفة بخوف.
قال وهو يتأملهما بغضب وسخط: قدمت لكما الأفضل طوال سنوات... لماذا تكرهانني؟.. لماذا تخططان للإيقاع بي...
صرخت به ريماس وهي تشدد من احتضان ابنتها: مروى لا علاقة لها بالأمر... لا تقحمها في ما بيننا!
رد بغضب مستعر: بل لها علاقة... إنها تخونني منذ زمن هي وذاك البائس الذي سأقتلع عيونه حالما يصبح في قبضتي...
ثم نهرها بقسوة: ماذا كنت تعتقدين!.. أنني لن أعرف بما تخططانه من وراء ظهري!
انفتح الباب بشدة فالتفت بشير بسرعة مصوبا مسدسه إلى لؤي الذي كان هو الآخر يصوب باتجاهه.
صرخت مروى بأعلى صوتها: لؤي!!!
وأصبحت دموعها كالمطر خوفا من أن تفقده هذه المرة إلى الأبد وأمام عيونها.
ارتمت على قدم والدها تتوسله: أبي إياك أن تطلق النار.. أنا أرجوك...
قلب لؤي هو من انفطر ألما وهو يشاهدها تفعل ذلك من أجله. أراد أن يطلق النار عليه لكنه فضل أن يبرئ ذمته منه أولا: ارمي المسدس أرضا.
رد عليه بنقمة: لماذا لا تلقي به أنت...
قال وهذا ولمعت عيونه برغبة عارمة في أن يرديه قتيلا. وكانت ريماس تعرفه من خلجاته فأدركت أنه سيطلق النار على لؤي حالا، فقفزت من مكانها عليه ودفعته بعيدا لتصيب طلقته الجدار.
في تلك اللحظة بالذات انكمشت مروى ولم تعد تسمع سوى صراخهم وهم يتعاركون. كان لؤي يحاول أخذ المسدس منه بالقوة وعدة طلقات تغادر مخدعها لتصيب السقف والأثاث. إلى أن أسرعت أمها لتحمل آنية فخارية وتضربه بها على رأسه بقوة فخر مغشيا عليه ليقع على ظهره وفوق الطاولة الزجاجية المحطمة وقد اخترقته شظاياها.
ساد الصمت والسكون فجأة وكلهم يلهثون وكأنهم كانوا في سباق... سباق مع الزمن يصارعون فيه الموت!
بدأت دماؤه تسيل وتجري فوق البلاط فاقترب منه لؤي وتحسس عنقه: إنه حي!
اقتحم رجال الشرطة المكان وألقوا القبض على لؤي، ثم أخلوا المكتب وطلبوا الإسعاف. كانت مروى تبصر تلك الصور تجري من أمامها تباعا وهي في صدمة... حصل كل شيء فجأة وانتهى فجأة!..
•••••
بعد ثلاث أشهر
•••••

هناك بأعالي الجبال حيث الجو نقي والهواء عليل... هناك حيث تعانق الأشجار زرقة السماء بكل حب، كانت جالسة تراقب يامنة وهي تطعم الدجاج. لتقول برقة: أساعدك خالتي؟
ضحكت وهي ترد عليها: تعالي... هيا جربي.
فتحت مروى الباب بحذر ودخلت المنطقة المحاطة بالسياج ثم أخذت القليل من الحبوب التي مع يامنة وراحت تلقيها للدجاج وهي تشاهدهم يتخاطفونهابشراسة: كم هذا ممتع!
وأخذت الطبق من يد يامنة فهجم عليها بعض الديكة وقفزوا إلى الصحن فألقت به إليهم برعب وهربت من هناك صارخة ويامنة تكاد تسقط أرضا من شدة الضحك. ودون أن تتمكن من ابصاره ارتطمت بصدره الصلب فضمها بين ذراعيه ضاحكا: إلى أين بهذه السرعة!
صرخت بذعر وجسدها ينتفض من شدة الخوف: سينقبونني بمناقيرهم الحادة!
والتفتت وراءها: ألم يلحقوا بي!
بدت كالمعتوهة وهي تترقب وصولهم فشدد من احتضانها إليه يغالب ضحكه وهي تضربه على صدره ليتوقف عن السخرية منها. وعندما أطلت عليهما يامنة تركها محرجا.
ابتسمت لرؤيتهما معا والطمأنينة تسكن قلبها أخيرا فها هو ابنها يبتسم بفرح وقد لقي حب حياته بعد طول عذاب... لم يعد ذلك الكسير الذي ترك البيت بعد وفاة زوجته ليعتكف حزينا في مكان آخر بعيدا عن هذا المنزل الذي بادلها فيه الحب دوما....
نادت عليها: مروى... لا داعي للخوف. لن تلحق بك!
دفعها لؤي برفق لتتمشى معه حتى وصلا إلى السياج من جديد فقدمت لهما دجاجة كبيرة: هذه ستكون طعامنا على العشاء.
أرادت مروى أن تمسكها من بين يديها لكنها ترددت طويلا حتى قال لؤي: لا تخافي.
أمسكتها من قدميها كما قالت يامنة ونسيت أن تجمع جناحيها فرفرفت في وجهها تريد الهرب. وفجأة أصبحت الدجاجة في الهواء بعد أن ألقت بها بعيدا عنها. لتصيح يامنة ضاحكة: خذ زوجتك عني لا أريد مساعدة!
احمرت خجلا واعتذرت: أنا آسفة.
ربتت على ذراعها بحب: لا عليك... اذهبي للتجول مع فؤاد... ألم تقولي أنك أحببت المكان! هيا... استمتعا بوقتكما.
ابتعدا قليلا عن المكان فتأملته للحظة وهمست له: لم أستطع التعود على اسم فؤاد... سأناديك لؤي... ألن تمانع؟
تأكد من أن أمه لا تراه ثم قبلها على خدها بحب: نادني كيفما شئت يا قلبي...
سارا معا يتبادلان الأحاديث حتى وصلا إلى التلة فوقفا هناك يتأملان منازل القرية، أمسكت بكفه واقتربت لتقف بالقرب منه: إن المكان ساحر...
لم تحد عيونه عن المنظر الجميل عندما أجابها: انه كذلك...
طوقته بذراعيها مسندة رأسها على صدره: أحمد الله أنني معك... أكاد أجن عندما أتذكر كل ما مررنا به... في كل مرة كنت أعتقد أنها النهاية!
تذكر تعلقها بقدم والدها تلك الليلة لتحول دون أن يؤذيه فراح يبثها حبه في قبلات دافئة وحنونة، مبعدا خصل شعرها عن وجهها متأملا لها بقلب عاشق أضناه الهوى: يا عمري أنت...
سارا معا حتى وصلا إلى منزل عمه فتوقفت تتأمله وقد عادت بها الذكريات لأيام خلت: من هنا كنت تراقبني وأنا بمنزلك؟
فتح الباب وسحبها من كفها فولجت للداخل معه: تعالي سأريك من أين كنت أراقبك...
عندما دخلا إلى الغرفة تأملتها بإعجاب، ثم سار باتجاه النافذة حتى فتحها ونادى عليها لتقف بقربه: تعالي حبيبتي.
تأملا معا منزل والديه يظهر بكل وضوح من تلك النقطة وهو خلفها يحاوطها بذراعيه ثم تلمس بطنها: هل أجريت الاختبار؟
أجابته بخيبة: لم يكن إيجابيا...
قبل رأسها القريب منه برقة: لا تحزني... مازالت الأيام طويلة أمامنا...
تنهدت بأسف فداعب بأنفه عنقها وهو يهمس لها: علينا فقط أن نعمل على تحقيق ذلك...
ضحكت لكلامه: وأنا أسأل نفسي لماذا نحن هنا!...
••••••
جلست نسرين رفقة زوجها في منزل أهلها حيث اجتمع والدها وكل اخوتها ومعهم أمها وأختها منال.
تحدث محمود أولا وأوضح لهم جميعا أنها زوجته وأنها خط أحمر لا يقبل بتعدي أي كان عليها. وأصر على أن يدفع أخوها وليد ثمن أخطائه فلم يحتج أحد... أفهمهم أنه عرفها فتاة عفيفة في نفسها نقية في أخلاقها وأنه أحبها لجوهرها وأصالة معدنها. مُنوِّها أنها وقفت معه أيام الشدة وعرّضت نفسها للموت من أجل أن يكونا معا وأنه سيخلص لحبهما ما بقي من عمره....
حرص على أن يتم الصلح ويتقبلوها بينهم من جديد... وقال كل من اخوتها أنهم يرحبون بالفكرة ولا يكنون لها أي ضغينة بعد أن توضح لهم أنها لم تسلك نهج الخطيئة.
ولم يقل والدها الكثير فقد اكتفى بتركها تقبله وتطلب الصفح منه ليرد بالقبول فتنهي الأمر بتقبيل جبينه.
أما والدتها فقد كانت تذرف الكثير من الدموع، لم تفهم ان كانت دموع ندم على كرهها لها ظلما أم فرح بعودتها بينهم... أو ربما مزيج من مشاعر مختلفة تملكتها في تلك اللحظة وهي تسترجع ابنتها التي كانت تعدها من الأموات. ورغم كل قسوتها معها المرة الماضية إلا أنها في هذه المرة عانقتها بحب وبثتها اشتياقها لها... تبقى الأم أمّا مهما قسى قلبها...
انتهت الزيارة في وقت متأخر جدا بعد أن أصروا عليهم ليبقوا على العشاء ثم تركوا المكان ليلا ليرجعا إلى شقتهما الحميمة التي لا استغناء لهما عنها. ورغم أن الوقت كان متأخرا جدا إلا أن محسن اتصل ليسأل عن وصولهما بالسلامة... اهتمامه بهما لم يعد يخفى على أحد، حتى أنه تمنى أن يبقيا للإقامة معه في نفس المنزل لكنهما فضلا أن ينعما بلحظات جامحة بعيدا عن مراقبة أحد.
أقفل هاتفه وألقى به على الأريكة ثم استلقى عليها هو الآخر بتعب: القيادة لوقت طويل أمر متعب.
جلست بقربه تفك أزرار بلوزتها وعقلها يسترجع يومهم الحافل وكيف انتهت المشكلة مع أهلها بهذه البساطة! لا تكاد تصدق أنهم قبلوها بينهم من جديد... لكن الفضل في هذا يعود لله وحده الذي جمعها بمحمود وسخره درعا من حديد يحميها من أي سوء قد يلحق بها.
قالت بعد طول صمت: أظن أنني سأتنازل عن القضية... آمل أن وليد قد تعلم درسا طوال فترة تواجده بالحجز...
أجابها ناعسا: أنا رفضت أن يتعاطوا في الموضوع حتى لا يقبلوك فقط من أجل مصلحتهم... وبما أن الأمر انتهى فافعلي ما تشائين.
أومأت موافقة وغاص كل منهما في أفكاره مرة أخرى... لم يعد يؤرقها شيء ولم تعد الكوابيس تقض مضجعها. محمود يشارك والده أعماله ويدير الشركات نيابة عنه وهي أصبحت ربة بيت تهتم فقط بشؤون بيتها وزوجها. ولم تعد تزاول عملها كسكرتيرة... تريد فقط أن تعتني بحملها الثاني حتى لا تفقده مثلما حصل معها في المرة السابقة... وحتى زيارتها لأهلها كانت أمرا لابد منه وإلا ما سافرا طوال كل هذا الوقت وعرضا طفلهما للخطر.
نظرت إليه بحب وهو يضع ظاهر كفه على جبينه ويغمض عيونه بتعب.
هزته بلطف: محمود... حبيبي... إن كنت تريد أن تنام فالأفضل أن تذهب إلى الغرفة.
لم يجبها فقد أثقل النعاس جفنيه. الأمر الذي جعلها تضع غطاء رأسها جانبا وتبدأ بفك رباط حذائه ليرتاح في نومه.
عندما انتهت من ذلك قبلته وهمت بالابتعاد حتى تحضر له غطاءً خفيفا فأمسك بها وسحبها إليه لتنام بقربه.
أغمضت عيونها في حضنه وقد عادت بها الذكريات لليلتها الأولى معه بين أسوار هذا المنزل... بدأ كل شيء عندما نامت على صدره مثل طفلة صغيرة أعيتها الحياة... ليصبح فيما بعد للعشق معنا آخر غير الكلام...
تنهدت بعمق وهي تشعر بالطمأنينة... طمأنينة غابت عنهما منذ زمن ولم يعرفا لها لونا إلا في الآونة الأخيرة بعد أن انتهت المصائب واستقرت الأوضاع...
••••••
في صباح اليوم الموالي كان لؤي يدخل المعمل رفقة زوجته. جلسا في المكتب الصغير وهي تتأمل ترتيبه وتهتم بإضفاء لمستها عليه: ألم يصل شريكاك بعد؟
أبدى ملله عندما ذكرتهما فضحكت لعلمها أنه يفقد صبره عندما يبدآن في الشجار على أتفه الأمور.
ولم يمض زمن حتى طرقا على الباب ودخلا واحدا وراء الثاني: صباح الخير...
ردا عليهما: صباح الخير.
جلست ياقوتة مقابلة لمروى فيما بقي فريد واقفا: أردت إلقاء التحية عليك بعد عودتك من السفر... كيف هي أخبار الريف هناك؟
أجابه: جيدة.. الهواء منعش والأجواء رائعة...
ضيق عينيه مفكرا: أنا أحن إلى المكان وأفكر في قضاء بعض الوقت هناك... ما رأيك؟
ابتسم ليقول: بيت عمي فارغ أخبرني متى تريد السفر وسأعطيك المفاتيح...
نطقت ياقوتة: على أن تبتعد عن المنحدرات فهي لا تليق بك.
كانت تذكره بسقوطه تلك الليلة عندما هم بإحراق الخم. وقبل أن يرد عليها نطقت مروى: قبل أن أنسى. أمي تدعوكما على العشاء هذه الليلة كلاكما... اتصلت بي قبل قليل.
سألها بفضول: ما الذي ستحضره لنا؟
حاولت أن تمازحه: قردا مشويا...
أجابها بضحكة: إن كان الأمر كذلك فلا داعي لأن تحسبَ حسابي...
نطقت ياقوتة من فورها: طبعا فالقرود لا تأكل بعضها!
وقبل أن يتأزم الوضع صفق لؤي ليلفت انتباههما: هيا لقد ألقيتما التحية... كل واحد إلى مكتبه... هيا رجاءً.
وقفت ياقوتة لتغادر: يوما سعيدا أيها المدير...
أما فريد فقد كرر كلماتها بصوت ساخر وهو يشاهدها تترك المكتب بأنف شامخ لتزيد من غيظه. وما إن اختفت حتى حدق بصاحبه: لماذا قبلتها بيننا يا رجل!
أجابه بجد: جميعنا نحتاج فرصة أخرى... وهذه كانت فرصتها لتعيش بعفة وشرف...
أصدر صوت تأفف وهم بالانصراف: طاب يومك.
أجابه: ويومك.
فور إقفاله للباب من خلفه أصدر صوتا لخلاصه منهما وحدق بمروى التي كانت تتأمله ضاحكة: إنهما مسليان!
أجابها: بل مزعجان...
ثم ضيق عيونه هامسا: ألن تبدئي عملك؟
استقامت واقفة: حاضر سيدي المدير... أنا في الخدمة. هل تريد قهوة؟
أجابها بابتسامة: من دون سكر لو سمحت...
كانت سكرتيرته في هذه الشركة الصغيرة... إنه مجرد معمل بسيط أنشأه بالشراكة مع فريد وياقوتة... بدأ الأمر مجرد فكرة ليتحول شيئا فشيئا لحقيقة. كما أن محسن عرض دعمه ومساعدته وقدم للؤي قروضا دون فوائد يسددها على أقساط ودون ضغط امتنانا له ولصنيعه معه أيام محنته... وهكذا أصبح لؤي المساهم الأكبر واحتل مكتب الإدارة بينما يظل مساعداه صاحبي رأي في كل القرارات المتخذة.
فريد ورث قطع أراض من والده وجده باعها ليبدأ هذا المشروع. أما ياقوتة فقد وجدته مكسبا حلالا بعد كل الضياع الذي عاشته... باعت الفيلا والشقة وكل ما كانت تملكه لتشترك معهما واكتفت باستئجار شقة صغيرة في حي جديد حيث لا أحد يعرفها، ومن هناك بدأت حياة جديدة.
علاقتها بنسرين مستمرة ووطيدة خصوصا الآن بعد كل الشدائد والمحن لقد كانت متفهمة لهربهما ذلك الصباح من الفندق دون خبر وتوقعت أنهما لو لم يفعلا ذلك لكانا قد وقعا مثلها في قبضة بشير...
كثيرا ما تجتمعان لتتبادلا الأخبار والحكايات وتتذكران أسوأ ما مرتا به بسبب ذلك المقيت... بشير الذي انتقم الله منه شر انتقام دون أن يأخذ روحه!
•••••

اجتمع لؤي ومروى بفريد وياقوتة هذا المساء عند مدخل الفيلا. كانت ريماس تؤسس لحياة جديدة وتحفل بالتعرف على أناس طيبين تقيم معهم علاقات صداقة ومودة بعيدا عن العالم المخملي المزيف الذي كرهته طوال سنوات اختلاطها بأهله. وجاءت شراكة زوج ابنتها مع هذين الاثنين وتوطد علاقة مروى بهما لتفتح أمامهما أبواب هذا المنزل.
لقوا ترحيبا حارا منها فور ولوجهما إلى الداخل... تشتاق للأنس وتحب الأصدقاء. ولولا وجود ريم رفقة أخيها معها في نفس البيت لشعرت بالاختناق من الوحدة القاتلة...
لكم كان من الصعب على ريم أن تعود لمنزل فيه نفس المقيت الذي انتهك حرمتها وأهانها... كم هو مؤلم أن تلقاه كل صباح ومساء دون أن تتمكن من غرز أظافرها الحادة في عيونه!
بعد قليل من وصولهم دخل محسن ومعه زوجته وكذلك ابنه ونسرين.
التفتت مروى إلى أمها بعتاب وهمست لها باستياء: لماذا دعوته؟
كانت تقصد محمود، فأجابتها: محسن ومحمود أصدقاء لنا منذ زمن... وبسبب والدك تضررت العلاقة بيننا. أحببت دعوتهما لنعيد المياه لمجاريها وقد لبيا الدعوة كما ترين!
كزّت على أسنانها قهرا: لؤي سيجن!
نهرتها بتعجب: أوليست تجمعه علاقة طيبة مع محسن!.. لا أرى في الأمر عيبا... هو مع زوجته وأنت مع زوجك... كفى الآن!
قالت هذا وتركتها لترحب بضيوفها، بينما اكتفت هي بإلقاء تحية باردة على الجميع واقتربت من لؤي: لم أعلم أن أمي ستدعوهما...
حاوط خصرها بذراعه: أعلم...
ثم نظر إلى عيونها الخائفة: ما بك؟
عبثت بأزرار قميصه بشرود قبل أن تقول: أخاف أن تغضب مني وأن تغار بسببه وتشاجرني هذا المساء.
ابتسم رغم الغيرة التي بدأت حقا تزحف إلى قلبه بسبب وجود محمود هناك. ثم شدها إليه أكثر: لا شيء سيجعلني أشاجرك إلا تلك التقطيبة على حاجبيك!.. هيا ابتسمي حبيبتي.
ابتسمت في وجهه برقة فتمالك نفسه حتى لا يقبلها أمامهم جميعا ثم التفت من حوله وأخذها معه ليجلسا في القاعة ريثما يحين موعد العشاء.
شاركته نفس الأريكة العريضة وانشغل هو بالتحدث إلى محسن حول العمل وبعض المشاكل بينما كانت نسرين جالسة إلى ياقوتة تتحدثان: كيف هي أخبار حملك؟
أجابتها: جيدة... نسأل الله أن يتم لنا على خير...
سألتها مجددا: وكيف كان لقاءك مع أهلك؟
تنهدت بملل: لم يكن سيئا لكن الوضع يتسم بالبرود... صحيح أنهم لم يرفضوني مثل المرة السابقة لكن يستلزم الأمر وقتا لترجع الأمور إلى مجاريها.
أومأت متفهمة: من المؤكد أن الأمر سيحتاج لوقت... المهم أنهم قبلوا بك بينهم من جديد...
نادى عليها محمود فقامت لتجلس بجواره وبقيت ياقوتة وحيدة حتى وقف فريد بالقرب منها: لماذا أنت حزينة!
لم تجبه بل طرحت عليه سؤالا آخر: أين كنت؟
قال وهو يجلس بقربها: سلمت على بعض أصدقائي ممن يعملون هنا...
بنصف ضحكة قالت: نسيت سيدك القديم!
شحب وجهه ليقول بملل: ربما هو في حاجة لخدماتك أكثر مما هو محتاج لسلامي.
حدجته بنظرة شزراء لتقف من فورها وتترك المكان له وحده.

عندما التف الجميع حول طاولة الطعام دخلت ليلى تدفع بعجلات كرسي متحرك. يجلس به بشير خائر القوى لا يستطيع الحراك... مترامي الأطراف كجثة هامدة ليس فيه إلا عيونه ترى ما يجري من حوله... بدى بائسا شاحبا ضعيفا... ولم يكن أي منهم يشعر بالشفقة من أجله. ريماس تسعد دائما عندما تجعله شاهدا على سعادتهم لأنها تعلم أن هذا أشد ما يوجعه...
سقوطه في ذلك اليوم على الزجاج الصلب تسبب في إتلاف عموده الفقري ليفقد القدرة على الحركة نهائيا... منذ ذلك اليوم وهو يعاني من كثرة العمليات الجراحية لينتهي به الحال على هذا الكرسي بعد أن يئس الطب في علاجه... لم ينفعه لا ماله ولا جاهه ولا ما كنز لنفسه... انتهى به الأمر ذليلا لا يملك أن يمسح قطرة عرق واحدة تنساب على جبينه ولا حك أنفه أو طرد ذبابة تزعجه...
ولأن ليلى كانت تبحث عن عمل بعد أن استغنى محسن عن خدماتها رمتها الأقدار هنا لتصبح هي ممرضته الخاصة... ربما هذا هو جزاء خيانتها لمحسن، أن تطعمه وتشربه وتمسح من تحته وتحممه وتعتني به كطفل صغير. لكنها أبدا لم تكن راضية بما تقوم به لقد قرفت منه على كل حال ولا تقوم بواجبها إلا مكرهة. حتى أنها في إحدى المرات صرخت فيه من قهرها: "حلمت أن أنجب أطفالا وأربيهم، لا أن أعتني بغوريلا في مثل طولك!"
وكان هو يناظرها بسخط واضح... عيونه المتجبرة المليئة بالقوة أضحت مجرد بئرين لا ينضبان من الذل والمهانة... يراقب الآخرين وهو يعي حقيقة ما يدور من حوله دون مقدرة على اتخاذ أي قرار في حقهم أو حتى الاحتجاج... يتأمل قدميه المرميتين أمامه بعشوائية دون مقدرة على تحريكهما قيد أنملة ولا يديه اللتين تلقي بهما ليلى ذات اليمين وذات الشمال وهي تصرخ بوجهه: "تبا لك مد يديك أكثر!" ولو كانت لديه القدرة على مد يديه لالتفت أصابعه حول عنقها تخنقها...
لا أحد يعرف السبب الحقيقي في فقدانه المقدرة على النطق وإن كانت علته بسبب مضاعفات إثر الحادث الذي تعرض له أو من صدمة شلله!
لكن الجميع كان بإمكانهم أن يجزموا أنه عقاب من الله جل وعلا أنزله عليه بعد أن أمهله طويلا دون أن ينهج الطريق السليم... استمر في غيه طويلا وظن الجميع أنهم لن يستطيعوا الخلاص منه بتلك السهولة... خططوا طويلا وحاولوا بشتى السبل لكن نهايته كانت بيد رب العباد أبسط من أن يتخيلها أحدهم... زجاج طاولة جعله ينهي كل جبروته وغطرسته ويضع حدا لجرائمه وساديته... لم يكن الأمر يحتاج لأكثر من شظية واحدة صلبة وقاسية تكسر عموده الفقري وتتلف نخاعه الشوكي... لينتهي مجده وتأفل شمسه دون رجعة... الملهم في الأمر أنه لم يمت... ظل حيا يرجو الموت دون أن يجد إليه سبيلا... أن يتذوق الهوان بعد كل العز الذي بناه لنفسه وعاش فيه... أن يصبح ذليل قومه بعد أن كان سيدهم..
لطالما صرح لضحاياه أن الموت راحة هي أبعد ما تكون عن أيديهم... كان يتوعدهم بعذاب طويل يرضي غطرسته وتعطشه للأذية. وها هو يلقى نفس المصير غير منقوص...

إِذَا مَا ظَالِمٌ اسْتَحْسَنَ الظُّلْمَ مَذْهباً
وَلَجَّ عُتُوّاً فِي قبيحِ اكْتِسابِهِ
فَكِلْهُ إلى صَرْفِ اللّيَالِي فَإنَّها
ستبدي له مالم يكن في حسابهِ
فَكَمْ قَدْ رَأَيْنَا ظَالِماً مُتَمَرِّداً
يَرَى النَّجْمَ تِيهاً تحْتَ ظِلِّ رِكابِهِ
فَعَمَّا قليلٍ وَهْوَ في غَفَلاتِهِ
أَنَاخَتْ صُروفُ الحادِثَاتِ بِبابِهِ
فَأَصْبَحَ لا مَالٌ وَلاَ جاهٌ يُرْتَجَى
وَلا حَسَناتٌ تَلْتَقي فِي كتَابِهِ
وجوزي بالأمرِ الذي كان فاعلاً
وصبَّ عليهِ الله سوطَ عذابه

أرادوا البدء بتناول العشاء لكن ياقوتة لم تكن هناك فاضطر فريد للبحث عنها وكانت تقف في الحديقة تتأمل النجوم في السماء فوقف من خلفها ليقول بدعابة: لو كنتِ أصغر بقليل كنتُ تزوجتك!
أجابته بملل: لو كنتَ أكبر بقليل كنتُ علمتك الأدب...
ثم التفتت إليه فمد يده لمصافحتها: هدنة مؤقتة...
كررت وراءه: هدنة!.. ومؤقتة أيضا!!!
ثم تأملت يده الممدودة في الهواء لبعض الوقت قبل أن تصافحه: اتفقنا.
ليقول مع ابتسامة: هيا إلى العشاء.
عندما اجتمع الكل حول طاولة العشاء التي يرأسها بشير على كرسيه المتحرك وليلى بقربه تستعد لإطعامه، وقفت ريماس في فستانها الذهبي الجميل لافتة أنظار الجميع: مرحبا جميعا... لقد دعوتكم هذا المساء لأنني أحضر لمفاجأة.
وصلت ريم وبقيت واقفة عند الباب فدعتها للجلوس، ألقت التحية على الجميع وأخذت مكانها على نفس الطاولة فأكملت ريماس بفرح: لقد عملت طوال الأشهر السابقة بمساعدة ريم على التحضير لفكرة... لحلم صغير سنجعل منه حقيقة بإذن الله.
انتبه الجميع بإنصات والفضول يتملكهم ليعرفوا ما الذي تحضران له. لتكمل أخيرا: سنفتتح قريبا مركزا للعناية بالنساء ضحايا العنف والاغتصاب... مع تكفل نفسي ودعم معنوي... لنعيد للمرأة ثقتها بنفسها ونؤهلها في مختلف المجالات حتى تصبح امرأة منتجة....
انبهر الجميع بالفكرة وصفقوا لها بإعجاب مطلقين عبارات دعم وتقدير. ليقول محمود: هذه فكرة جيدة... وإن احتجت لأي دعم نحن هنا...
ليكمل محسن: طبعا سنقف إلى جانبك وندعمك...
شعرت سهام رغم حرجها برغبة ملحة في الكلام لتقول بصوت يغلب عليه الخجل: لا تتصورين كم ستكون هذه الخطوة دعما لعديد من النساء الجريحات المهمشات في هذا المجتمع... اللواتي تبكين وحيدات دون أن تمتد لهن يد تنتشلهن من القعر الذي هن فيه.
كانت نسرين تعرف أن سهام عانت الكثير في زواجها السابق وهي تقول هذا من باب التجربة. لتنطق ياقوتة: أن تعيدي دمج هذه الشريحة في المجتمع حسنة ستؤجرين عليها طيلة حياتك.. النساء اللواتي لا تجدن الدعم ترتكبن بحماقة جملة من الأخطاء... المجتمع لا يرحم ويزيد وزرهن أوزارا ليجدن أنفسهن يتخبطن في الخطيئة دون خلاص...
وجدت نسرين نفسها تنطق رغم أنها قررت التزام الصمت الحذر: لو أننا فقط نستطيع أن نحسس الأولياء بضرورة تعليم البنات، خصوصا في الأرياف والقرى... لو أنهم فقط يحسنون معاملة المرأة.
كانت ريماس تستمع لهن بإنصات لتقول أخيرا: ساعدنني إذن لتحقيق هذا...
صمتن يحدقن ببعضهن البعض لتنطق سهام: أيمكننا هذا؟
أجابها محسن مانحا إياها الاذن لتحقق هذا الهدف النبيل رفقة ريماس: طبعا يمكنك حبيبتي...
شعرت بسعادة غامرة تتملكها وراحت تناظره لتتأكد من أنه حقا لن يمانع خروجها للعمل، بينما قالت ياقوتة: أنا سأدعمك... لدي كثير من الكلام أخبر به البنات ليتعلمن من أخطاء غيرهن... هناك كثير من الأمل بداخلي أريد أن أبثهن إياه ليقفن على أقدامهن بكل عزم وإصرار ويواجهن الحياة...
بقيت نسرين صامتة فهمس لها محمود: ما رأيك؟
أجابته بصوت مختنق بالبكاء: لا أستطيع تخيل كم القهر الذي سأقابله هناك...
قالت هذا وهي تمسح دموعها فحاوط بذراعه كتفيها وربت عليها بحب: أهذا يعني أنك موافقة؟
هزت رأسها بالإيجاب فقال بصوت مرتفع: زوجتي موافقة يا ريماس... أحسني الاعتناء بها فهي رغم شراستها امرأة حساسة...
ابتهجت ريماس من هذا التجاوب الذي لقيته من ضيوفها وحدقت بابنتها مروى التي كانت تشعر بسعادة غامرة وهي تشاهد أمها تقف على قدميها من جديد من بعد كل ما عانته في حياتها... إن كانت الفتيات المعنفات ستحتجن لقدوة فهي أكبر قدوة تقف أمام أعينهن على قدميها الاثنتين.
قالت لابنتها بانفعال وحماسة: وأنت يا ابنتي... ما رأيك؟
وقفت لتعانقها بتأثر مكبرة فيها جرأتها وقوتها... أن تأخذ زمام الأمور من أبيها وتحول دماره زهورا فتية سيشتد عودها مع الزمن هو في حد ذاته خطوة عظيمة تحسب لها... أن تجمع شتاتها بعد سنوات الضياع وتبني نفسها ثم تفكر في بناء غيرها هو قمة الأخلاق ونبل المشاعر.
صفق الجميع بهتاف في تلك اللحظة التي بدأت فيها ريماس بذرف دموع الفرح وهي تعانق ابنتها بحب وهللوا لهما بحماس حتى انفصلتا عن بعضهما البعض، ثم دعت ريم لتعانقها أيضا وتشكرها على دعمها لها و صبرها على ما أصابها. بينما جلست مروى قرب زوجها الذي ضمها إلى صدره لتتوقف عن البكاء وهو يهمس لها: هل تريدين مشاركتهن؟
أومأت نفيا: لا أصلح لمثل هذه الأمور... دعني أبقى معك وحسب.
شدد من احتضانها: أحلى سكرتيرة يا قلبي.

كان بشير يتأملهم جميعا ولسان حاله يقول: "يا ليتني أتمتع بكامل صحتي، لكنت دققت أعناقكم جميعا بدءا بك يا نحيلة الساقين يا من تريد أن تنفق نقودي على غيرها من النساء اللواتي لا يصلحن إلا لبعض المتعة وحسب!" كان ينظر إلى لؤي الذي يمرر كفه فوق ابنته مواسيا دون أن يغفل نظراته الشغوفة إليها، كم يحرقه أنه استطاع أن ينال ما يريد ويحظى بحب ابنته الوحيدة بعد أن خانه وأراد قتله... أما تلك العاهرة التي كرهها منذ زمن والتي تجرأت وطعنته بقوة لتقتله... تلك التي لم تنظر لشكله المخزي وكأنه كائن يبعث على القرف هناك بينهم تجلس بكل وقار وتشارك زوجته في تبديد أمواله... الفتاة الصغيرة التي اغتصبها قد أصبحت قدوة يُحتدى بها وقد تبنتها ريماس كابنة لها... أما محسن فقد كان ينظر إليه بشموخ... وكأنه يخبره أن من يضحك أخيرا يضحك طويلا... رفقة زوجة شابة لا يتردد في منحها الحب والاهتمام أمام الجميع... يبدو أنه وجد ضالّته أخيرا! محمود الذي كان يريد أن يقتله، وزوجته التي أراد العبث بجنينها قبل أن يقتلها يجلسان هناك أيضا وقد اختفى بريق الخوف من عيونهما... كيف لا وهو ليس سوى مسخ فوق كرسي لا يصلح لشيء... عالة على كل من يهتم به حتى وإن كان يتقاضى في المقابل أجرا!
فريد ولؤي "الخائنان" تملكته رغبة عارمة في إطلاق النار عليهما لكنه لا يملك سوى عينين تمسحان تلك الكراسي بجُلاّسها وترجع إليه بفيض من الدمع بسبب عجزه المُضني... لو عاد الأمر إليه ما جلس قبالتهم لينظروا إليه بإشفاق... لكان اختبأ في مكان لا يجده فيه أحد... لكن ريماس تصر على إذلاله بطريقة دبلوماسية وجعله يدفع ثمن أخطائه قطرة قطرة...
الجميع يتناولون طعامهم بفرح ويتهامسون بحب...
كل واحد أنشأ لنفسه مستقبلا وهو يسعى للحفاظ عليه، الكل سعداء تملؤهم الحماسة ويطمحون لغد أفضل مع بريق أمل يشع في الأفق البعيد.

النهاية♡



كانت رحلة ممتعة جمعتنا معا بأبطال روايتنا.
نسرين التي عانت طويلا من أجل حريتها... وكادت أن تهلك كل حياتها بفرارها من المنزل... لأن الهرب لم يكن يوما حلا للمشاكل... بل على العكس العالم مليء بالذئاب البشرية...
أهلها، الذين أهملوا رعايتها وكانوا سببا في نفورها وهروبها.
محمود، الذي دافع عن مبادئه حتى النهاية رغم كل الخوف والمعاناة...
محسن، الذي تعلم متأخرا من أخطائه واستطاع أن يصبح إنسانا من جديد...
سهام، المرأة المكافحة التي ظلت تصارع من أجل حقها في الحياة حتى افتكت السعادة من بين براثين القدر.
فادي، الوغد المقرف الهارب من العدالة الذي سيعيش في خوف وترقب على الدوام حتى تلقي عليه الشرطة القبض ويلقى جزاءه.
وأهله الذين يكفيهم الخزي من ولد مثله...
ياقوتة، التي تابت عن ماضيها وبدأت حياة جديدة أكثر نقاءً...
مروى التي وجدت حب حياتها أخيرا.
ولؤي الذي اتقى الله فجعل له مخرجا ورزقه من حيث لم يحتسب.
وبشير الوغد الذي دمر حياة الآخرين فدمره الله... فمن يزرع الشوك يجني الجراح...

تحية حب ومودة لكل من قرأت هذه الأسطر وعاشت معاناة أبطالها لكل من أعطتها من وقتها وحرصت على إتمامها، سعيدة جدا أنني حملتكم في مركبي لنبحر سويا في هذه الأحداث راجية من الله عز وجل أنني قد أفدتكم ولو قليلا فالقلم رسالة قبل أن متعة...





نلتقي في أعمال أخرى عن قريب إن شاء الله.:
قصة من جزئين:

قبلة بلا شغف

وفي عينيك الحب كله



ونوفيلا
أهداني في ضمة وطنًا


بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 13-09-21, 02:20 AM   #78

mansou

? العضوٌ??? » 397343
?  التسِجيلٌ » Apr 2017
? مشَارَ?اتْي » 3,014
?  مُ?إني » عند احبابي
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Algeria
?  نُقآطِيْ » mansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond repute
?? ??? ~
«ربّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَاغْسِلْ حَوْبَتي، وَأجِبْ دَعْوَتي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي.»
افتراضي

مبروك ختام الرواية الجميلة والاكثر من رائعة استمتعت كثيراً
بقراءتها والعقبة لروايات اخرى ان شاء الله


mansou غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 13-09-21, 02:21 AM   #79

mansou

? العضوٌ??? » 397343
?  التسِجيلٌ » Apr 2017
? مشَارَ?اتْي » 3,014
?  مُ?إني » عند احبابي
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Algeria
?  نُقآطِيْ » mansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond repute
?? ??? ~
«ربّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَاغْسِلْ حَوْبَتي، وَأجِبْ دَعْوَتي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي.»
افتراضي

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 10 ( الأعضاء 3 والزوار 7)
‏mansou, ‏جاسمن81, ‏بريق أمل


mansou غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 13-09-21, 02:45 AM   #80

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة mansou مشاهدة المشاركة
مبروك ختام الرواية الجميلة والاكثر من رائعة استمتعت كثيراً
بقراءتها والعقبة لروايات اخرى ان شاء الله
الله يسلمك
شكرا ع المتابعة


بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:12 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.