آخر 10 مشاركات
الدخيلة ... "مميزة & مكتملة" (الكاتـب : lossil - )           »          497- وحدها مع العدو - أبي غرين -روايات احلام جديدة (الكاتـب : Just Faith - )           »          نبضات حرف واحاسيس قلم ( .. سجال أدبي ) *مميزة* (الكاتـب : المســــافررر - )           »          الرزق على الله .. للكاتبه :هاردلك يا قلب×كامله× (الكاتـب : بحر الندى - )           »          بين الماضي والحب *مميزة و مكتملة* (الكاتـب : lossil - )           »          ضلع قاصر *مميزة و مكتملة * (الكاتـب : أنشودة الندى - )           »          شيءٌ من الرحيل و بعضٌ من الحنين (الكاتـب : ظِل السحاب - )           »          سمراء الغجرى..تكتبها مايا مختار "متميزة" , " مكتملة " (الكاتـب : مايا مختار - )           »          دموع زهرة الأوركيديا للكاتبة raja tortorici(( حصرية لروايتي فقط )) مميزة ... مكتملة (الكاتـب : أميرة الحب - )           »          ندبات الشيطان- قلوب شرقية(102)-للكاتبة::سارة عاصم*مميزة*كاملة&الرابط (الكاتـب : *سارة عاصم* - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > ارشيف الروايات الطويلة المغلقة غير المكتملة

Like Tree4Likes
موضوع مغلق
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 22-09-21, 04:35 AM   #1

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
Rewitysmile9 قبلة بلا شغف



السلام عليكم ورحمة الله وبركاته






كانت واقفة هناك بين الجموع تتأمله بنظرات حزينة وهو يمسك بقبضة زوجته الجديدة ويسكنها ذراعه وكأنه يمنحها الحق في امتلاكه. تلك الذراع التي طالما تشبثت بها في مناسبات عديدة تباهي به الدنيا والسعادة تراقصها... نعم، كان زوجها وقبل أيام فقط أصبح طليقها! كانت شفاهه ترسم ابتسامة رضًا وهو ينزل بها الدرجات وسط احتفال بهيج حضره جمع كبير من أقربائه وأصدقائه فضلاً عن أهل العروسة... ليقفا قرب الأشجار الخضراء خارج قاعة الزفاف من أجل صورة تذكارية كما طلب المصور. بعيون أضحت زجاجية من تجمع الدموع فيها كانت تتأمله وهو يقبل عروسه على جبينها... لامست شفاهه ما فوق حاجبيها لتمنحها قبلة بطيئة وأضواء الكميرات تخطف تلك اللحظة من الزمن. قبلته تلك حملت معها شغفا خفيا استطاعت أن تبصر بريقه متلألئا في عيونه، متهللا مع أسارير وجهه... هل هي فقط من كانت قبلاته لها بلا شغف! باردة... بلا إحساس... كالثلج... مثل الصقيع! تساقطت دمعتان من تلكم المقلتين الذابلتين مسحتهما بكبرياء، وأولته ظهرها لتترك المكان قبل أن يبصرها أحد...

روابط الفصول
التمهيد... أعلاه.
الفصل 1... أسفل الصفحة.
الفصل 2



noor elhuda likes this.


التعديل الأخير تم بواسطة **منى لطيفي (نصر الدين )** ; 27-09-21 الساعة 03:38 AM
بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
قديم 22-09-21, 08:40 PM   #2

حسن التازي

? العضوٌ??? » 439344
?  التسِجيلٌ » Jan 2019
? مشَارَ?اتْي » 61
?  نُقآطِيْ » حسن التازي is on a distinguished road
افتراضي

متابع لجمال القلم

حسن التازي غير متواجد حالياً  
قديم 23-09-21, 01:14 AM   #3

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة حسن التازي مشاهدة المشاركة
متابع لجمال القلم
شكرا
متابعة شيقة


بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
قديم 23-09-21, 01:26 PM   #4

mansou

? العضوٌ??? » 397343
?  التسِجيلٌ » Apr 2017
? مشَارَ?اتْي » 3,014
?  مُ?إني » عند احبابي
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Algeria
?  نُقآطِيْ » mansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond repute
?? ??? ~
«ربّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَاغْسِلْ حَوْبَتي، وَأجِبْ دَعْوَتي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي.»
افتراضي

مقدمة جميلة متشوقة للفصول القادمة وموفقة فيها ان شاء الله

mansou غير متواجد حالياً  
قديم 23-09-21, 11:49 PM   #5

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة mansou مشاهدة المشاركة
مقدمة جميلة متشوقة للفصول القادمة وموفقة فيها ان شاء الله
تسلمي
شكرا لوجودك


بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
قديم 23-09-21, 11:57 PM   #6

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي



جزء 1: قبلة بلا شغف


كانت واقفة هناك بين الجموع تتأمله بنظرات حزينة وهو يمسك بقبضة زوجته الجديدة ويسكنها ذراعه وكأنه يمنحها الحق في امتلاكه. تلك الذراع التي طالما تشبثت بها في مناسبات عديدة تباهي به الدنيا والسعادة تراقصها... نعم، كان زوجها وقبل أيام فقط أصبح طليقها! كانت شفاهه ترسم ابتسامة رضًا وهو ينزل بها الدرجات وسط احتفال بهيج حضره جمع كبير من أقربائه وأصدقائه فضلاً عن أهل العروسة... ليقفا قرب الأشجار الخضراء خارج قاعة الزفاف من أجل صورة تذكارية كما طلب المصور. بعيون أضحت زجاجية من تجمع الدموع فيها كانت تتأمله وهو يقبل عروسه على جبينها... لامست شفاهه ما فوق حاجبيها لتمنحها قبلة بطيئة وأضواء الكميرات تخطف تلك اللحظة من الزمن. قبلته تلك حملت معها شغفا خفيا استطاعت أن تبصر بريقه متلألئا في عيونه، متهللا مع أسارير وجهه... هل هي فقط من كانت قبلاته لها بلا شغف! باردة... بلا إحساس... كالثلج... مثل الصقيع! تساقطت دمعتان من تلكم المقلتين الذابلتين مسحتهما بكبرياء، وأولته ظهرها لتترك المكان قبل أن يبصرها أحد...
◇◇◇
في سيارة الأجرة وطوال الطريق كانت عيونها تنزف دموعا حارقة... دموعا تشق خديها وتحفر عليهما تفاصيل ألم مكبوت... ألم يغلي في كل قطرة تذرفها لتنزلق نزولا وتقع فوق صدر أعياه الشهيق.. مد إليها السائق العجوز بعلبة للمناديل الورقية وهو يقول بحزن: لله ما أخذ وله ما أعطى وكل شيء عنده بمقدار... يظنها المسكين ترثي حبيبا غيبه الثرى ولم يكن يدري أنها كانت ترثي قلبها المفجوع وتئده حيا ينازع الموت حق الحياة!... تنهدت بعمق وأغمضت عيونها بأسى وهي تطبق جفونها بشدة تعتصر آخر القطرات العالقة ما بين أهدابها الكحيلة. لقد خطبها قبل سنة.. أو بالأحرى خطبها أهله وأقنعوه بها عروسا... وهو أبدى موافقته ولم يعبها! هو شاب في بداية الثلاثينات من عمره محترم ولديه وظيفة تكسبه دخلا لابأس به. لم يكن ذلك الوسيم بامتياز ولكنه رجل مقبول الشكل لا يعيبه شيء، لم يكن من النوع الذي يكثر الكلام وبدى مثقفا وذكيا في كل كلمة موزونة ينطقها... ولم تكن هي تهتم لشيء بقدر ما سحرتها الكريزما التي يتمتع بها... شخصية قوية ورجولة واحترام... تزوجا بعد أشهر معدودة من تعارفهما وسكنا بشقته الخاصة بحي راق من أحياء العاصمة. كان ينفق عليها وعلى المنزل بسخاء ويهتم بكل حاجياتها... هادئ في تعامله ولا يسيء إليها بأي كلمة، لكنها وبفطنة أنثى كانت تشعر ببروده... برود غير مبرر يجتاح مسام جلدها مثل الصقيع... تلك العيون السوداء كانت تحمل كل شيء إلا الحب! لقد أعياها تأملهما بتساؤل، ولم تخطئ يوما إذ لمحت طيف غيمة حزن تكدر صفاء بريقهما، لكنها أبدا لم تعرف أي ريح حملتها إليه... تشهد الصدق لم يهنها يوما ولم يجرحها بكلمة، لكن أنوثتها كانت تئن وجعا من ليلة تعانق فيها جسدا بلا روح... من قبلات لا شوق فيها ولا إحساس... رجل يمارس رجولته مثل أي واجب مدرسي يتحتم عليه إنجازه حتى لا يلومه أحد لتقصيره! ارتجف صوتها وهي تطلب من السائق أن يركن جانبا لتدفع له وتسرع الخطى نحو باب منزلها.

علم فور توقيع أوراق الطلاق بأنها حامل بطفله من أمها التي انفجرت فيه غاضبة رغم إصرار ابنتها على ترك الأمر سرا، فهي تكره أن يتراجع عن قراره فقط من أجل هذا الخيط الواهن الذي جاء ليشدهما إلى بعض أكثر... ولأن أبوته تحتم عليه رعاية هذا الطفل الذي لا ذنب له فقد تكفل باستأجار شقة لها والانفاق عليها طوال الفترة الماضية... لقد تحمل مسؤوليته كاملة تجاهها ولم يكن ينقصها شيء، في عيون البعض كان رجلا شهما يتحمل مسؤوليته، أما في عيونها فقد كان سعادة خُطفت من بين يديها لأنها لم تحسن التشبث بها... بل فعلت كل ما كان بوسعها لكنها خسرت بالنهاية أمام المرأة التي أحبها منذ الصغر... تلك كانت حلم حياته وأقصى ما كان يصبو إليه، وبسبب مشاكل عديدة لم يتمكن من الزواج بها. لكن وبمجرد أن أصبح الطريق خاليا أمامه من كل العراقيل حتى ترك كل شيء وركض إليها ليحققا معا حلم العمر... بل حتى هي لم تكن حجرة عثرة في طريقه تمنعه عنها! يااااااه كم هو مر أن تكون مجرد حبة قمح لا قيمة لها سقطت من كيس يزن مائة رطل! استلقت على الأريكة مغمضة عيونها وهي تفكر بتلك اللحظة... كيف يمكن له أن يكون محبا وعاشقا لهذه الدرجة! وهي التي ظنته كائنا خجولا لا يعبر عن مشاعره!... تعابير وجهه تلك تحرق أنوثتها وتذر رمادها في كل مكان... ألم تصلح يوما لأن تكون هي أنثاه التي تحرر فيه مشاعر العشق المتأججة! كانت قبلة واحدة أتت على كل ذرة كبرياء ادخرتها لتواجه الحياة من بعده... وتركتها تجتر سنين خيبتها الطويلة وتذرف دموع الحزن الموجع... حزن يحمل مرارة العلقم وضيق اللحود وقهرا يفتت الصخور... تسأل نفسها في كل مرة عن لحظات عابرة أشعرتها بالسعادة إلى جانبه وكلمات قالها أو حركات قام بها جعلتها تحلق في فرح... هل كانت سعادة حقيقية افتكتها من بين براثين القدر! أم أنها مجرد لحظات مزيفة وخادعة كان ينفقها عليها بداعي الشفقة ليس إلا! تكره غباءها الذي جعلها تهيم حبا به رغم أنه كان في عواطفه أبخل من تموز بالمطر... هل كان يخاف أن يمنحها قلبه ويقع في غرامها! ألقت الوسادة بعيدا لتستوي بجذعها جالسة وهي تلعن سذاجتها للمرة الألف! تأملت انعكاس صورتها على زجاج الطاولة القريبة... لم تكن تلك المرأة الباهرة الجمال... لا في العيون ولا الحواجب ولا الأنف ولا الشفاه المغرية. لكن تناسق ملامحها معا يعطيها منظرا مقبولا، كأي أنثى فطنة كانت تعتمد على أدوات التجميل لتجعل أنوثتها متدفقة... لكن ألم يكن هذا كافيا ليغري رجولته! لتتحرك عواطفه المتجمدة وليس فقط هرموناته! تراه كان يفتقد محبوبته وهو إلى جوارها!... اللعنة! هل تخيلها يوما هي وهو يبثها حبه! انتفضت واقفة بسخط والدموع تتجمع في مقلتيها من جديد... كم هو مؤلم أن تكون الكسيرة التي هي الآن! وساوسها ستقودها حتما للجنون! بحثت بين أغراضها عن جهاز قياس الضغط وجلست على السرير مثبتة إياه على ذراعها الأيسر... هي حامل ويجب أن تنتبه لصحة جنينها قبل كل شيء... وهذا الصداع الذي تشعر به الآن نذير سوء... لم يكن ضغط دمها مرتفعا بشكل كبير، ومع ذلك كانت تشعر وكأن قلبها سينفجر... تأملت تلك الغرفة من حولها بشجون... مازالت تذكر ليلة العمر بكل تفاصيلها الدقيقة... أسبلت أهدابها لا تريد استحضار خيالات الماضي حتى لا تزيد جراحها وجعا... يكفيها كم القهر الذي يعتمل بصدرها حتى الآن.
◇◇◇
كان صباحا مشمسا جميلا... أنهت مكالمة والدتها على الهاتف، ثم تركته على النضد واقتربت من النافذة تفتحها لتتخلل أشعة الشمس الستار وتضيء الغرفة الصغيرة... في فندق جميل في أحد المنتجعات السياحية. فتح عيونه وراح يتأملها وهي تجمع أغراضهما المترامية هنا وهناك... حتى مفاتيح سيارته كانت ملقاة على الأرض!.. أي جنون تملكه تلك اليلة! اقتربت منه بدلال لتقبله بحب وتهمس له بإغراء: صباح الخير يا عريس... ناظرها بابتسامة: صباح النور يا عروسة... وقفت من جديد بنشاط مستعدة لبدأ أول أيام حياتها مع الرجل الذي أحبته وضحت من أجله بالكثير تماما مثلما فعل هو... لقد جعلها أبوها تُخطب عنوة لابن عمها ورفض تماما أن يقبل بآدم رغم أنه لا يعيبه شيء... فقط لأنه أراد لها الزوج الأفضل الذي سيصونها ويحترمها، ضف إلى أنه كان رجلا متمكن ماديا ولديه مستقبل زاهر... عندما تمت الخطبة وانقطعت كل السبل بينهما قررت أم آدم تزويجه حتى يخرج من شجونه ويمنح نفسه فرصة أخرى. وظن هو أن زواجه والتزامه بمسؤوليات أسرته ستنسيه حبه الأول، وكانت تلك هي الخدعة التي وقع فيها الجميع... رغم أن زوجته صفاء لم تكن سيئة ويعرف أنها أحبته وأرادت كسب قلبه وامتلاكه إلا أنه لم يستطع أن يحبها أكثر من الحد الذي يجعله يحسن معاملتها ويشفق على قلبها من خذلانه! هل كان رجلا عاشقا مخلصا لحبيبته؟ أم مجرد زوج خائن حي الضمير! تلك دوامة لطالما تاه فيها دون أن يرسو على بر... بين قلبه الموجوع على حبيبته والمتنكر لجفائه مع زوجته كان هو يحترق على مهل... تشتعل نيرانه وتخبو... ثم تشتعل وتخبو دون أن تلتهب مرة واحدة لتنطفئ بعدها... هل كان عليه أن يستمر في كذبه وخداعها بادعاء حب مزيف!.. أم كان يجب عليه أن يتخذ قراره ويعلن عن الحقيقة مع تحمل العواقب! الفرق بسيط بين أن تكون رجلا صاحب مبدأ أو تكون مجرد خائن هارب!.. الفرق بينهما لا يخضع لأي قاعدة بل يتغير حسب وجهات النظر... سألته بدلال: هل أطلب الفطور؟ أجابها بشرود: أجل صفاء... شكرا. التفتت إليه كمن لُسِع ولم يبد أنه شعر بالخطأ الجسيم الذي ارتكبه... ناداها باسم صفاء! تلك المرأة التي وضعت بصمتها في حياته وجعلته ينطق اسمها بتلقائية مغيبا عن وعيه... حتى وإن جعلته يمحي كل عذاب بعده عنها فهي لن تستطيع جعل الزمن يعتذر عن مغبة إقحام اسم صفاء هذه حياتهما! رغما عنها كانت الغيرة تراقصها، لماذا يذكرها هذا الصباح!.. أهي عقدة الذنب التي ترافقه! أم أن ليلته معها حملت إليه ذكريات الأشهر الماضية! سألها بفضول: مابك؟... ألن تطلبي الافطار؟ اغتصبت ابتسامة زينت بها ثغرها على مضض ثم أولته ظهرها لتتوجه إلى الهاتف القريب، وهو يتأملها بإمعان... هل كان حبه لها يستحق كسر قلب صفاء رغم طيبته! سؤال لن يجد له جوابا في أي قاموس... إذ أنها معادلة متعددة الخسائر وليس المجاهيل. هي خسرته، هو خسر اعتباره، وزوجته الجديدة "رحاب" خسرت أهلها... هل كان الأمر يستحق كل هذا التعقيد!.. الزمن وحده من سيجيبه عن سؤاله...
◇◇◇
أنجبت طفلها بعد تسعة أشهر من الحمل وثمانية منذ الفاجعة، كان صبيا جميلا لم تعرف يوم ولادته إن كان يشبهها أم يشبه والده. على الأرجح كان مزيجا متناسقا بين ملامحهما معا. الغرة والحواجب لها، و الأنف والشفاه له... أما العيون فكانت مميزة لا تشبه أيا منهما. فرحت به أشد الفرح وحاوطها كل أهلها مباركين ولم يتأخر الأب عن الحضور فكان ملازما لها يهتم بما تحتاجه أوقات الزيارة، إلا أن كبرياءها كان يمنعها عن طلب شيء منه. لم تره طوال فترة حملها إلا مرتان عندما ساءت صحتها، لأنه ظل بعيدا يكتفي بوضع المال في حسابها والاطمئنان عن صحة الجنين عن طريق الهاتف على فترات متباعدة. لم تقبل برؤية زوجته فكرامتها منعتها من ذلك، ورغم حرصه على أن يجعل الأمور بينهما هادئة إلا أن صفاء رفضت أن تزورها ولا حتى أن تبارك لها... لماذا؟ لتشمت بها لأنها استطاعت تجريدها من زوجها الذي كان بين يديها في يوم من الأيام! الحقيقة أنها ما كانت لتمنع مشاعر الغيرة من السيطرة عليها، لأن قلبها الخائن مازال يذعن لحبه سرا... شيء ما يجعلها لا تكرهه رغم شتائم أمها وتحريض صديقاتها... دائما تبحث له عن أعذار وتكبر فيه تعلقه بحب حياته ومحاربته من أجله... أحيانا ترضخ للقدر وتقر بأنها لم تملك شيئا لتخسره بل كانت مجرد غراب أسود حط بين الحمامة والطاووس فلا هو بجمال الطاووس ولا رشاقة الحمامة فكان مصيره التهميش.

عانت طوال أشهر والحرقة بقلبها لا يداويها طبيب... افتقدته وأضناها الحنين لأيام جمعتهما معا... ولم يكن لها غير خيط واهن من حبل الذكريات تشد به شراع صبرها لتبحر في يم من الأحزان. هل نسيته؟ تقول أنها فعلت... لكن النار التي تلهب قلبها كلما رأته، تحرق ثوب الأنفة الذي ترتديه... حبها له يشعرها بالمذلة... كيف يحب المرء من تخلى عنه بمحض إرادته؟ كان الأجدر بها أن تكرهه كلما تذكرت رحيله عنها بكل برود... مرت أشهر عديدة وهي تعاهد نفسها وتقسم على أنها ستنساه لتبدأ من جديد، لكنها في كل مرة تحنث...أحيانا تجزم بأنها تستحق الصفع بالقبقاب! كلما جاء لرؤية ابنه استقبلته على حياء بحجابها الشرعي وأفسحت له المجال وأمه لملاعبة الصغير... كانت عيون حماتها كلها حزن وألم فهي مازالت تعتبرها الزوجة المناسبة له والتي سترعاه وتحفظه، أما رحاب فلم تكن غير امرأة قوية الشخصية من عائلة مرموقة تعلم أنه سيواجه المشاكل معها عاجلا أم آجلا بسبب ثقافته الشرقية المحافظة وطموحاتها التي لا تعرف حدودا ولا حواجز... كلما غادر المنزل سقطت أسيرة الآهات والشهقات... الفراق مجرم لا يعرف الرحمة... فكيف السبيل لنسيانه!.. إنه يعيش حياته بكل فرح بينما تعركها أشجانها كعرك الأديم!.. أليس من الظلم أن تعاني وحدها دون أن يتقاسم معها الوجع أحد! خرجت مرة رفقة صديقتها وابنها البالغ من العمر خمسة أشهر لتشتري له ثيابا جديدة، وكان من عادتها أن تقصد أكبر محل لبيع حاجيات الأطفال حيث تجد كل ما تريد وبأصناف متنوعة دون عناء. كانت تتخير له قبعة عندما فوجئت برؤية آدم ورحاب يتفحصان ثياب الرضع الجدد... شعرت بوهن شديد في أطرافها ولم تكد تتماسك حتى رجعت لرفيقتها أنسام التي كانت منكبة على الصغير تلاعبه ودفعت بالحمالة تسوقها أمامها باضطراب. صرخت بها: ما بك دست على قدمي! اعتذرت بهمهمة وأسرعت بالفرار. والأخرى تلحقها ولم تعرف سبب هروبها ذاك إلا عندما أصبحتا بالمنزل. بعصبية هدرت فيها: أي غبية أنت!.. ألأجل هذا تهربين! حدقت فيها بخجل ولسان حالها يقول" معك حق... أنت لاتحسين بالألم الذي يعصرني عصرا ويهرسني هرسا!" التزمت الصمت التام فاسترجعت أنسام هدوءها لتقول بهمس موجع: أعلم أنك مازلت تحبينه... إلى هذا الحد وانفجرت باكية تصرح بغيرتها الشديدة من زوجته التي تحضى بكل الحب والاهتمام... أوجعها أنه لم يكن حاضرا معها وهي تشتري أغراض ابنهما بل اكتفى بوضع مبلغ من المال في حسابها لتتكفل بالباقي. وحتى تلك الأغراض التي أحضرها بنفسه من المرجح أن زوجته انتقتها وإياه. من الواضح أنهما ينتظران مولودا والفكرة تحرقها رغم قابلية حدوثها... لكن قلبها الدامي أثخنته الجراح ولم يعد قادرا على احتمال المزيد... - هل من العدل أن يعيش حياته على سجيته بينما تقتلين نفسك كمدا! كان سؤالا طرحته عليها أنسام بموضوعية فلم تجد ما تقوله لها. عقلها يفرض عليها المنطق لكن قلبها البائس هو من يحتم عليها العيش تحت إذلاله! ارتعشت شفاهها قبل أن تنطق بصوت يخنقه البكاء: هل إلى نسيانه من سبيل؟ أومأت صديقتها بالإيجاب: إن كنت تريدين ذلك فأنت حتما تستطيعين... بقيت تنصت إليها باهتمام لتكمل بعد صمت: سنقتل كل ما من شأنه أن يهلكك... أوله الفراغ... توسعت عيونها: الفراغ!.. أنا بالكاد أجد وقتا بين الاعتناء بالمنزل والصغير... ردت عليها: ستعملين... اشغلي وقتك بعمل مفيد ودعك من البيتوتية فهي من ستقضي عليك... سألتها متوجسة: وهل سيقبل آدم بأن أعمل وأترك الصغير دون عناية؟ نهرتها بغيظ: أين عقلك يا فتاة!.. هل أخذ بمشورتك عندما اعتزم تطليقك؟ هزت رأسها نفيا لتهاجمها بسؤال آخر: زوجته محامية بارعة وهو يسمح لها بالعمل... هل تعتقدين أنها ستقعد بالمنزل بعد ولادتها لطفلها! أجابتها بسذاجة: ربما إن طلب منها... هو يقول دائما أن مهمة الأم الأولى والأخيرة هي الاهتمام بأبنائها. هدرت فيها من جديد: ستقتلني سذاجتك أي والله!... هي ليست غبية مثلك لتضحي بمستقبلها المهني وتجلس في البيت ترعى الأولاد... والدها قاض وعمها سياسي وإخوتها كلهم في مناصب مرموقة وهي مثلهم جميعا... هل تصدقين أنها ستبيع أمجادها وأمجاد أسرتها لتندب حظها في البيت مثلك! همت بالحديث فقاطعتها كمن لا يحق له أن ينطق حتى لا يزيد من رصيد حماقاته: لا يحق له منعك من مزاولة حياتك وهو يعرف هذا أكثر منك... والطفل ستعتني به أمك ولن ينقصه شيء... فكري بالمستقبل ولا تنظري نحو الماضي... حتى ابنك الذي تضحين من أجله سيكبر في يوم من الأيام ويؤسس حياته، سينتهي بك المطاف عجوزا وحيدة تعد خيباتها فوق مقعد هزاز. ولن أجاورك حبيبتي لأنني بعكسك سأحقق كل طموحاتي... نظرت إليها بذهول فأكملت الأخرى بصرامة مشيرة إلى قدر ضئيل ما بين سبابتها وإبهامها: الفرق بين تحقيق الأمنيات وانكسار الأحلام قدر ضئيل بهذا الحجم يسمى الطموح... ثم جمعت أغراضها وهي تكمل: عندما تخرجين من حدادك اتصلي بي. غير ذلك أنا لن أدخل لهذا المنزل الذي تعشعش الكآبة بين جدرانه!.. تركتها ذلك اليوم كسيرة تلملم شتاتها وتجبره... كانت تقلب كلماتها في رأسها بتمعن... الحق معها لقد أصبحت امرأة نكدة كل همها العويل والنواح... متى سينتهي كل هذا؟... متى؟ ◇◇◇ في صباح اليوم الموالي عادت أنسام بعد أن اتصلت بها صفاء واتفقتا على أن تبحثا عن عمل في المدرسة الملحقة بالجامع القريب. ففي بلادنا بكل مسجد هناك مدرسة للأطفال ما دون السادسة ليتعلموا الحروف والأعداد والأدعية وبعض السور القرآنية، يدخلها الغني والفقير على حد سواء خصوصا من لايتمكن من تسجيل ابنه في حضانة خاصة. هي متعلمة وقد تحضى بفرصة عمل كتلك... ليس المهم هو المكسب المادي بقدر ما يهمها أن تشغل وقتها في ما يفيد... كما أن ساعات العمل قليلة وستتمكن من الاعتناء بابنها كما يجب. عندما تم قبولها شعرت بالسعادة تسكن قلبها بعد دهر طويل... إنها تحقق أولى طموحاتها... هي إذن على الدرب الصحيح. ومثلما قالت أنسام آدم لم يحتج وأمه اقترحت عليها أن ترعى الطفل هي وأمها بالمناوبة ولم تكن لترفض الفكرة فبيت حماتها السابقة على بعد شارعين. بدا الأمر غريبا وصعبا بالبداية مثل أي عمل لم تتعود عليه، ليصبح يسيرا ومسليا بعد فترة وجيزة وتندمج تماما مع الأطفال الصغار لتصبح مثلهم الأعلى. في المقابل كان آدم كادحا في عمله يسعى لتوفير حياة أفضل لرحاب علها تفكر في ترك عملها وتربية طفلها ولو لبضعة سنوات حتى يشتد عوده فليس من العدل أن تتركه للمربية طوال اليوم. لقد رفضت أن تعتني به جدته من أبيه بحجة أنه صغير ويحتاج لعناية خاصة، حتى لا تكثر لقاءات آدم بصفاء... أرضعته لثلاث أشهر فقط لتنوب الرضاعة عنها في تغذيته. كرجل متعلم كان يعرف أن حليب الأم لا يمكن أن يعوضه أي حليب، لذا حاول نصحها بأن لا تنقطع عن ارضاعه حتى يكبر وإن كان لمرات قليلة باليوم، لكنها رفضت الفكرة وفطمته في شهره الثالث دون شفقة بحجة أنها لا تدر الكثير من الحليب. كان أحيانا يرجع إلى المنزل قبلها بساعات وتتأخر في الوصول من بعده، ثم تنشغل بأعمال البيت حتى لا يتهمها بالتقصير... أما هو فيجلس غالبا أمام شاشة التلفاز وهو يهز بابنه في مهده. عندما تنهي كل شيء تصبح منهكة خائرة القوى فهي تحارب على عدة جبهات. لطالما حاول أن يفهمها بأنه يحتاج إليها أنثى تهتم به وبابنه وتمنحه مزيدا من وقتها، لكنها دائما تخبره أنها تفعل كل ما بوسعها لتوازن ما بين العمل والمنزل. يعلم أن الأمر مرهق بالنسبة لها لكنه رجل يحب الاهتمام... ذلك الاهتمام الذي عودته عليه صفاء طيلة أشهر زواجهما التي تقارب السنة، لا شعوريا يجد نفسه تحن إليها... إلى كلامها المعسول وهي تضع أمامه الطعام، إلى لمساتها الحانية وهي تساعده في تزرير قميصه ليجهز للخروج... لقد كانت تعرف حزنه من نظرة واحدة وتسأله عن شحوبه على الدوام... كان منبهرا من تحليلها السريع لخلجاته، فيجدها أحيانا تحضر له فنجان قهوة في الوقت المناسب دون أن يسألها!.. التواصل بينهما كان عالي المستوى رغم شح المشاعر... صفاء كانت امرأة رائعة ولم تستحق منه ذلك الجفاء.

◇◇◇ مضت أربع سنوات... ◇◇◇

كانت الأمور مع صفاء تسير نحو الأحسن، أما مع آدم فقد ظلت تنتقل به من سيء لأسوأ... زوجته تهتم لما ينصحها به أهلها دون أن ترجع لمشورته، فبعد أن تصالحت معهم أعطتهم ولاءها التام... ولأنه وحسب ردها عليه في آخر جدال لهما هم يحرصون على نجاحها بينما أنانيته تدفع به للحد من طموحاتها... أنجبت له طفلا واحدا وعندما اقترح عليها أن ينجبا طفلا آخر أخبرته وبكل وضوح أنها لن تعمل مربية للأولاد!.. مع مرور الوقت كان يحس بأن الزمن يعاقبه ويقتص منه لما فعله بصفاء... تلك الغيمة الصافية التي لم يكدرها غيره ليترك دموعها تمطر على مر الفصول. هل كانت أمه محقة عندما أخبرته أن حياته مع رحاب ستصبح جحيما لا يطاق! لم يعد يشعر أنه رجل لديه كلمة نافذة في بيته، فغالبا كان يتنازل عن كثير من الأمور من أجل أن تستمر بهم الحياة دون مشاكل، بينما لم تقدم هي تنازلا واحدا ترضي به رجولته!.. دائما تضعه أمام الأمر الواقع وتحتم عليه الاختيار فلسان الحال يخبره إما أن يقدم مزيدا من التنازلات... أو يطلق رحاب ويفقد ابنه تماما مثلما فقد الأول. ورحاب ليست رحيمة كما هي صفاء لتسمح له برؤية فلذة كبده في كل حين! في أحد الأيام التقى بصفاء في منزل والدته وقد بقيت لشرب القهوة معها، سألها أن ينزه الطفل لبعض الوقت فلم ترفض واتفقت أن يعيده إليها قبل حلول الظلام. بعد صلاة العشاء اتصلت به لتسأل عن سبب تأخره فأخبرها أنه قد وصل، وعندما أطلت من شقوق النافذة شاهدته يمسك بقبضته الصغيرة متوجها إلى مدخل البناية. بعد لحظات طرق على الباب فغطت رأسها وفتحت له، لكن صغيرها تشبث بيده يدعوه ليريه ما رسمه اليوم... لم يكن من عادته أن يدخل بيتها من بعد طلاقهما لكنه وجد نفسه يرضخ لصغيره و يدخل غرفته ليشاهد رسوماته. لم يتأخر في الخروج ورافقته صفاء حتى الباب بلباقة، لكنه توقف فجأة وحدق بها... شعرت بقشعريرة تتملكها فتلك النظرات لم تكن عادية أبدا... لأول مرة في حياته يتأملها بتلك الطريقة. سألته بارتباك: تريد شيئا؟ أومأ بنعم واقترب منها أكثر ليهمس بندم: سامحيني... شعرت بتوتر شديد ولم تدر كيف تجيبه. ليواصل بنفس النظرة المستجدية: أعلم أنني أسأت إليك وجرحتك... تلك الكلمات مرت كالسيف تفتح الجراح المندملة... مضت أربع سنوات منذ أن عاهدت نفسها على نسيانه وهاهو يأتي الآن وبكل بساطة ليذكرها بجرمه! بلعت غصة بحلقها لتقول بارتباك: لا يوجد ما أسامحك عليه! أنت فعلت الصواب وأنهيت الحكاية قبل أن يطول العذاب... ما كان يمكننا العيش معا دون حب! ابتسمت بمرارة وهي تخبره كذبا أن ما فعله كان عادلا. لكن لا قلبه ولا قلبها صدقا ما تقول. وجدته يحدق بها بإمعان وشيء ما يتخلل تلك النظرات.. شيء لم تعهده ولم تعرفه! لم يكن ندما... بل كان أكثر من ذلك... كان يشبه نظراتها عندما يهفو قلبها إليه... تراجعت خطوة إلى الخلف غير مصدقة ما تخبرها به عيناه! لتهمس بخوف: وداعا... عاد لرشده بعد هذه الكلمة فأطرق للحظة ثم تابع طريقه: اعتني بمجد... أمسكت بالباب حتى تقفله فلم يغادر حتى تأملها من جديد ليردف: اعتني بنفسك... لأول مرة منذ سنوات شعرت بأنه يعني هذه الكلمة... يعنيها حرفيا... فظلت عيونها متعلقة بعيونه للحظة تبوح لها بسر دفين قبل أن يغادر. عندما أقفلت الباب وعادت أدراجها لم يكن عقلها ليجزم بما أحسته!.. أيعقل أنه بعد كل هذه السنوات لان قلبه ليحتويها! مالذي تتفوه به هذه الحمقاء! هو يحب امرأة واحدة اسمها "رحاب" باع من أجلها كل شيء... من أنت ها؟ من أنت؟ أطرقت بحزن... مازالت تطمع في أن يحبها رغم تعاقب السنين!.. ظنت أنها تجاوزت محنته لتجد قلبها الخائب يرنو إليه عند أول نظرة!.. تبا له! ◇◇◇ كان يومها عديا.. جاء الأولياء لأخذ نتائج أبنائهم الدراسية، وبعد أن انتهت من مقابلتهم جميعا واستعدت للمغادرة ناداها المشرف وأخبرها أنه قد جاء والد أحد التلاميذ متأخرا. استقبلته وقدمت له نتائج ابنه وهي تشكو له من مشاغباته وكثرة حركته وهو يستمع إليها بانتباه حتى سكتت فالتفت إلى الصغير: بماذا أوصتك أمك أيها القرد؟... ألم تقل لك أن تحسن التصرف! ليرد عليه الصغير: عمي أنت لن تخبرها أليس كذلك؟ أجابه بصرامة: بلى سأفعل! أشارت إليه بدهشة: لست والده! أومأ مبتسما: أنا عمه... لقد توفي والده قبل سنتين.. وأمه تعيش في منزل والدي ونحن نهتم بأولاد أخينا.. نطقت بعد أن زالت عنها الدهشة: هذا أمر رائع... لكن لماذا لا تأتي هي للسؤال عنه؟ أجابها: والدي صارم ولا يسمح لنساء البيت بالخروج.. تفهمت الأمر وتابعت تقول: المهم أن تخطلب منها تحفيظه الحروف بالمنزل... إنه متأخر بعض الشيء عن زملائه... أجابها وهو يتأمل وجهه المشاكس بابتسامة: سأفعل هذا بنفسي. أبدت رضاها لكلامه، والفضول يتملكها لتعرف لماذا قد يفعل شاب مثله هذا؟ أهو حبه لأخيه المتوفي! أم ربما تخطيط مسبق للإطاحة بزوجته!.. لن تستغرب الفكرة الثانية فقد باتت تعرف أن الرجل العاشق قد يفعل أي شيء ليظفر بحبيبته. وهذا لن يمنعه شيء إن رغب بزوجة أخيه الراحل، عليه أن يهيئ لها الأمر حتى لا ترفضه... هذا كل شيء. ليست تدري لماذا أصبحت تقحم نفسها في حياة الآخرين! وما همها هي إن اهتم بزوجة أخيه أم بابنة الحاجة رقية! اعتذر منها عندما رن هاتفه واستأذن في الرد لأنها مكالمة لا تحتمل التأجيل، ثم انزوى يقول كلاما كثيرا فهمت منه أنه مشترك في خدمة تطوعية وهم يسعون لجمع التبرعات. عندما انهى مكالمته رجع ليعتذر إليها بلباقة فوجدت نفسها تسأله: آسفة على التدخل ولكن... هل تجمعون التبرعات للمحتاجين؟ أجابها موضحا: أنا مجند ضمن جمعية خيرية تُعنى بمساعدة المعوزين... نجمع التبرعات، نشتري المواد الغذائية، ونوزعها على البيوت... كما أن شهر رمضان المبارك على الأبواب والمسؤولية تتضاعف... وكذلك التبرعات في هذا الشهر تزداد... سألته بفضول: هل تنظمون إفطارا جماعيا لعابري السبيل؟ أجابها: أكيد ككل عام... نحن نعمل على جمع المتطوعين. وجدت نفسها ترفع يدها بلهفة كطفلة صغيرة لتثبت حضورها: هل يمكنني أن أتطوع؟ أجابها مؤكدا: طبعا... تحتاجين فقط لتؤكدي حضورك في مكتب الجمعية... سأعطيك العنوان ورقم الهاتف. أومأت موافقة وشكرته مطولا وهي تأخذ منه البطاقة، فرد عليها بامتنان: نحن من نشكرك آنستي... وجودك سيسعدنا. كانت تلك فرصة جديدة لتثبت فيها ذاتها... شعرت بسعادة عارمة وهي تحمل القدر الضخمة رفقة زميلاتها لتضعها فوق النار ثم تبدأ بإعداد الطعام لأعداد كبيرة من الناس الذين يتوافدون على هذا المطعم كل مساء من أجل الافطار... الخدمة التطوعية عمل نبيل، وكل عمل نبيل يحمل الخير للغير يجد صاحبه في نفسه راحة وفي قلبه سكينة... جرب أن تسعد في يوم من الأيام أحدا وستعرف حتما ماذا أقصد... إعداد الطاولات قبل الآذان مهمة تتشاركها مع عزيز وبعض من الزملاء... عملهما معا طور معرفتهما ببعضهما فقد أصبحت تعرف أنه رجل خفيف الظل يحسن معاملة الناس ويستطيع بسهولة كسب ودهم... ببساطة كان محبوبا من الجميع سواءًا زملاؤه أم الناس الذين يقدم يد العون لهم...

انتهى شهر رمضان المبارك وجاء العيد والتبرعات كانت كبيرة، ما جعل الجمعية تخطط لزيارة إلى المستشفيات حتى تسعد الأطفال بهدايا العيد، ولكم كانت سعادة صفاء كبيرة عندما قُبِلت في هذه الخرجة التطوعية أيضًا. ولم تكن تعلم أن عبد العزيز أو عزيز كما يناديه أصدقاؤه هو من ساهم في وضع اسمها ضمن القائمة بعد أن شاهد سعادتها طيلة الفترة الماضية... وكأنه أحس بحاجتها الملحة لأن تكون عضوا فعالا في المجتمع دون الحاجة لأن تفضي له بشيء. رغم تعودهما على العمل مع بعض لم تكن علاقتهما لتتجاوز حدود المعقول. وأقصد بهذا إلقاء تحية أو سلام أو الضحك عندما يلقي بعض نكاته التي تجعلها تخرج عن صمتها التام لتتهلل أسارير وجهها الشاحبة بضحكة من القلب. أما هو فقد كان ينجذب إليها في كل يوم أكثر... فتاة متوسطة الجمال هادئة... رزينة وذات ابتسامة ساحرة... يقسم أنها عندما تضحك تصبح طفلة في عمر الزهور متعطشة للفرح والسعادة... إنها وردة حاصرها الجفاف وليس يدري السبب! عندما دخلت المشفى في ذلك اليوم وطافت بين أجنحته لم تكن تعلم ما ينتظرها... أبدا لم تخمن المفاجأة التي ستلقاها هناك! لم تعرف تلك المرأة الشاحبة الممسكة بيد ابنها الصغير. أو بالأحرى لم تذكرها... تقدمت منها لتلقي التحية مرفوقة بتهاني العيد مع قبلتين على الخد كما جرت العادة، ثم حيّت الصغير بعبارات طفولية عذبة وهي تحرك رأسها بمرح وقدمت له هديته متأملة الفرحة في عيونه... وقد غفلت تماما عن زوج العيون المراقبة لها بود تتفاعل مع كل حركة تبديها. كان عزيز يرى فيها امرأة صادقة وحنونة هي الأصلح لأن تصبح أم أولاده... لقد أحبها بصدق وليس يمنعه عنها إلا ظروفه المادية. كان الطفل في مثل عمر ابنها أو يصغره بقليل ما جعل قلبها يرق عليه أكثر... حتى أنها أحست أنهما متشابهين في بعض الأوصاف! سألت أمه بحزن: مما يعاني الصغير؟ أجابتها بألم: السرطان... كم كان هذا السؤال سخيفا! فهي بمستشفى الأطفال المصابين بالسرطان. تأملتها بإشفاق وقد اغرورقت عيونها حزنا لتهمس بأمل: سيشفى بإذن الله. ووضعت كفها الحانية فوق كتفها: ثقي بالله فإنه يصنع المعجزات... أومأت الأخرى مصدقة لكلامها ودموعها تنحدر على خديها بألم فلم تستطع تمالك نفسها وفكرت في الهرب قبل أن تفقد السيطرة وتغرق في البكاء. أحيانا يحتاج الأمر لدمعة واحدة تجر ترسانة من المآسي تجعله يبكي من دون توقف... فقط لأنه يجد راحة في البكاء. من لديه ذخيرة من الوجع وجب عليه ألا يعرضها للانفجار... ودعتها بحجة أن تكمل الجولة بالمستشفى وهمت بالمغادرة في الوقت الذي ولج فيه آدم من الباب يحمل كيسا به بعض الأغراض. التقت عيونهما لتتبادلا النظرات طويلا... لم تكن تعرف سبب مجيئه وظن هو أنها عرفت بمرض ابنه... قال بعد طول صمت: شكرا لمجيئك. تلك الكلمة نبهتها للأمر فعادت لتلتفت إلى الصغير وهي تربط الخيوط ببعضها: الطفل ابنك؟ أجابها مؤكدا: أجل... ألم تسمعي بمرضه؟ تذكرت أخيرا أنها لم تقابل حماتها السابقة منذ شهر بسبب انشغالها بالعمل التطوعي. وفهمت سبب غياب آدم كل هذه الفترة دون سؤال. قالت بأسف: لم أعرف بالموضوع... أنا هنا بمحض الصدفة... تأمل شارة الجمعية التي تلبسها رفقة زملائها وأبدى اهتمامه: هل العمل التطوعي مريح لك؟ ابتسمت بفرح لاهتمامه بما تفعله: أجل... أنا سعيدة بهذا العمل... رد الابتسامة بمرارة لا يستطيع إخفاءها، فقط ليخبرها أنه سعيد من أجلها، بينما كأم كانت تعرف كيف تمزق السكاكين الحادة قلب والد مكلوم... قالت بعد صمت: آسفة لأنني لم أعرف قبل الآن... أسأل الله أن يشفيه ويعيده لحضنك... لحضنكما قريبا... مالت عيونه لتحدق برحاب التي كان الانزعاج واضحا على وجهها ثم إلى صفاء التي كانت تردف: سأدعو له بالشفاء في صلاتي كل يوم... كن قويا وحسب... سيشفى بإذن الله... كانت تبثه الأمل في كلماتها بلسما يشفي سقام روحه... أحب إيمانها العميق بقدرة الرحمان... وتمنى أن يصدقها في تلك اللحظة... كم كان في حاجة لتلك الكلمات. عادت نظراته المقلقة تجتاحها مثل الزلزال... شيء ما في تلك العيون يسبي قلبها تماما مثلما حدث بالمرة السابقة... كانت تظن نفسها واهمة لكنها تؤكد لنفسها عكس ذلك. جاءها صوت عزيز وهو يستعجلها للرحيل فقطع عنها شرودها لتعتذر من آدم وتلحق به. تأملها تبتعد عنه مع بقية زملائها وقلبه المثقل بالأسى يسألها الغفران... يعلم أنها امرأة تستحق السعادة كاملة بلا نقصان... وأضحى يشك أنه خاسر ينكسر قلبه تماما مثلما كسرها في يوم من الأيام. اقترب من ابنه يتأمله بقلب دامي يمزقه الوجع... هل كان يجب أن يختبر الله صبره على ابنه!.. أم أنه يستحق وجعا كذاك ليعرف معنى الألم! سألته زوجته بفضول: من تلك التي كنت تحدثها؟ أجابها: صفاء... توسعت عيونها لتقول بحنق: جاءت لتشمت بي! زجرها بسخط: لم تكن تعرف بمرض الطفل من أصله! لا داعي لاتهامها... عندما تركت المستشفى في ذلك اليوم كان عليها أن تأخذ ابنها من بيت أبويها إلى بيت حمويها. بعد أن عرفت بمرض حفيدهم الآخر يمكنها أن تخمن انشغالهم هذا اليوم. مكثت هناك تلك الأمسية تستمع لتفاصيل درايتهم بالمرض وكيف أن الأمر حدث فجأة. كان قلبها يتمزق ألما على ذلك البريء الذي لا ذنب له ودموعها تنزف... إنها أم وتقدر معنى أن توضع في اختبار مماثل، دون أن تلحظ الواقف عند الباب يتأملها بود. حتى سمعت أمه تدعوه للدخول: آدم... تفضل بني.. إنها صفاء. أسرع إليه مجد مناديا: بابا... بابا... فجلس القرفصاء ليحتضنه بشوق ويمرغ وجهه بين ثيابه وخصل شعره. غزرت دموع صفاء في تلك اللحظة ولم تعرف كيف تداري وجعها عليه... وكأن عذابه يمر عبر شرايينه ليسكن قلبها... تراه يحمل قلبها بين ضلوعه!... ألهذا تشعر بضياعه وأسقامه!... هل أخذ معه قلبها في تلك اللحظة عندما قرر هجرانها!.. من المؤكد أنه يسجنه هناك خلف ضلوعه... لهذا لم تعد تعرف للحياة معنًا في بُعده... ولولا وجود أنسام في حياتها لماتت كمدا من بَعده. جلس على الأريكة وابنه في حجره يقدم له نقود العيد ويوصيه ألا يكثر من الحلوى. كانت أمه تتأمله بإشفاق حتى قالت: ألم يسمحوا لك بالبقاء. هز رأسه نفيا بشحوب: لا يسمح لغير أمه بالبقاء. ساد الصمت بعدها فاستأذنت صفاء بحرج: يجب أن أغادر... تأخر الوقت. أقسمت عليها أمه بأن تبقى للعشاء ورغم أنها أرادت الاعتذار إلا أنها لم تسمح لها، فرضخت للأمر وتعشت رفقة حمويها وابنهما كعائلة... رغم الطلاق كانت تشعر أنهم عائلة. ما يزالون عائلة واحدة حتى وإن كانت القلوب متفرقة... أصر آدم على أن يوصلها بعد أن أظلمت السماء، ووافقت بعد أن رافقتهما أمه. عندما ركن أسفل البناية كان مجد نائما فحمله عنها ليوصله حتى الطابق الثالث أين تقع شقتها. وظلت أمه بالسيارة لأنها تعاني من داء المفاصل. عندما وضعه على سريره غطته صفاء ثم لحقت به لتشكره. وقفت بالرواق ونظرت إليه بعيون يسكنها الحزن: شكرا لك آدم... نطقها لاسمه بعد كل تلك السنوات داعب قلبه فحملق فيها بشجون. لم تكن قادرة على استيعاب كم الألم المرتسم على وجهه فسارعت بالقول: لا تحزن... سيكون بخير. وهزت رأسها بحماسة والدموع تلمع بمقلتيها: سيشفى بإذن الله وسترى ذلك... قال بهمس: أسأل الله أن يبعد عنك الأحزان يا صفاء... وابتسم في وجهها بمرارة ثم ترك الشقة وغادر. دعاؤه لها جاء متأخرا جدا... مالذي يعرفه هو عن الاحزان؟.. هل جرب سنين الانتظار الطويل!.. أم أنه تعرف قريبا معنى الفقدان المرير! ◇◇◇ بعد أشهر من الصراع مع المرض انتقل الصغير إلى رحمة الله. رحيله تسبب في انهيار رحاب وانكسار آدم... البيت أصبح شاحبا والدنيا أعتمت في وجهيهما فجأة. كالعاد كان هو رجلا يتقن الصبر وادعاء الهدوء رغم فوران قلبه، بينما لم تستطع هي أن تتقبل فكرة موته حتى شارفت على الجنون!

مضت أشهر قاسية والجرح فيها ينزف... رحاب لم تعد المرأة التي كانت وآدم أصبح أكثر قربا منها يواسيها ويجبر قلبها بحبه وحنانه... بعد مضي عام استطاعت أن تتجاوز محنتها بانكبابها المتواصل على العمل، تماما مثل الذي يقتل أحزانه عن طريق الشرب... سألها آدم أن ينجبا طفلا آخر يعوضهما الذي فقداه لكنها رفضت مخافة ألا تكتمل سعادتها تماما مثل المرة الأولى... ورغم إصراره لم ينجح في اقناعها بالعدول عن رأيها. حتى أن أهلها نصحوه بأن يقنعها بزيارة طبيب نفسي علها تستعيد حيويتها القديمة بعد أن فشلوا هم في ذلك. وكالعادة كان الرفض هو جوابها الدائم. أصبح يشعر بالخواء التام... لم يعد لديه ما يشقى من أجله سوى مجد الذي أصبح يبثه كل الحب والاهتمام وازدادت بذلك لقاءاته مع صفاء الأمر الذي جعل رحاب تصرخ في وجهه كل مرة متذمرة حتى وضع لها حدا في احدى المرات: لا يحق لك منعي عن رؤية ابني! عادت لتصرخ بغضب: أتريد ابنا!.. سأنجب لك آخر... توقف عن زيارة تلك المرأة وحسب. حملق فيها بجمود قبل أن ينطق بصرامة: حتى وإن أنجبت لي بدل الولد الواحد عشرة سيظل مجد ابني ولن يمنعني عنه لا أنت ولا غيرك... مفهوم! وصفق الباب خلفه بشدة ليترك المنزل ويبيت في سيارته خارجا... هذه أول مرة يفعل شيئا مماثلا... أصبح يشعر أن حياته بلا قيمة... بلا معنى... بلا هدف... في لحظات الضياع تلك كان يحن إلى حضنه الأول وحب أفلت من بين أصابعه كحبيبات الرمل ليقبض من بعده على السراب... لم يعرف أنه أصبح يحبها لهذا الحد إلا عندما تاهت عنه وخبت عيونها المتوهجة بجنون عشقه!.. أي غبي كانه عندما ظن أن صفاء لم تكن حب حياته... ربما كانته وهو لا يدري... تعلقه برحاب أعمى بصيرته ومنعه من رؤية قلب مخلص لهواه... قلب نقي يتفنن في طلب رضاه، وهو عنه مدبر يريد سواه... بدل أن يرجع من العمل إلى بيته قصد منزل والديه واكتفى بالاستلقاء على الأريكة واضعا رأسه في حجر أمه مغمض العيون. راحت تداعب خصل شعره الأسود بحب مستشعرة لحزنه وألمه... لم يشكو إليها يوما همه لكنها كأم كانت تعرف ما يوجع قلبه من نظرات عيونه ومن خلجات تجتاحه. قالت بعد طول صمت: لماذا لا تتزوجان من جديد؟ فتح عيونه المغمضة دون كلام فتابعت بحب: أعلم أنك تحن إليها يا آدم... كانت زوجتك الأولى وبينكما ابن... ليس عيبا إن تزوجتها مرة أخرى... سألها بجمود: ورحاب؟ أجابته بصرامة: عليها أن تقبل بالموضوع كما قبلت صفاء قبل سنوات... أنت في كل الأحوال لن تطلقها... قال بسأم: وأكسرها مثلما كسرت الأولى من قبل!.. انها بحاجة إلي... قالت بثقة: اسألها... ناقشها وربما لن تمانع... أجابها بمرارة: تظنينها صفاء التي انسحبت بصمت! نهرته: ولكنك لن تطلقها!! بكل هدوء أكمل يقول: ستطلب الطلاق يا أمي... أنا أعرفها... ولا أريد أن أجرحها فوق جرحها لخسارة ابنها... تنهدت بغبن: كم أنت طيب يا آدم... ابتسم رغم شحوبه: أنت أمي ولا عجب في أن تريني طيبا... غيرك قد يراني رجلا أنانيا وبلا قلب... قالت بإلحاح: اصدقني القول يا بني... أنت ترغب في أن تعود إليها أليس كذلك. لم يجبها عن سؤالها فأيقنت أنه يريد ذلك لكنه لا يستطيع أن يرتكب نفس الذنب مرتين... في المرة السابقة كسر صفاء وهذه المرة سيكسر رحاب. أجابها بعد تنهد: أشعر أنه يجب أن ألقي بنفسي من فوق تلة ما لأخلص الجميع من شري... استنكرت الأمر بشدة وضربته على جبينه: كف عن قول السخافات يا آدم... لا تكرر مثل هذا الكلام! ◇◇◇ صرح لها عزيز عن نيته في التقرب منها بعد عام من تعارفهما واشتراكهما معا في العمل التطوعي... الآن يمكن أن تقول أنها أصبحت بخير وعافية وقد شفيت من مرض اسمه آدم... عملها، تطوعها واعتزازها بنفسها جعل منها امرأة جديدة بطموحات جديدة... لكن طلبه لها للزواج جعلها تترك كل شيء جانبا لتفكر بروية... عزيز رجل رائع... تشعر أنه مهتم بها منذ أشهر وتعرف جيدا أنه معجب بها لكنه لم يصارحها حتى يجهز ماديا لطلبها للزواج! أحبت فيه أنه رجل جاد لم يحاول التقرب منها من قبل ولا إثارة عواطفها حتى حسم أمره ونوى الحلال... ورغم معرفته بطلاقها وبوجود ابن في حياتها لم يشكل الأمر فرقا بالنسبة له فكما قال لها "قد أجد ألف امرأة عزباء لكنني لن أجد واحدة مثلك.." قوله هذا حمل لها تصريحا قويا لتشبثه بها الأمر الذي جعلها ترتاح له أكثر وتفكر جديا في الارتباط به. ذات مساء وهي عائدة من عملها التقيا صدفة بالطريق وسار معها حتى أسفل البناية، هناك حيث كان آدم ينتظرها ليأخذ ابنه، والتقى الثلاثة دون سابق موعد... شعرت بإحراج شديد وعرفتهما ببعض تاركة مجد يتعلق بوالده. بعد تحية وسلام أخذ ابنه وغادر بالموازاة مع رحيل عزيز تاركا إياها تصعد الدرج وقلبها متوجس يخشى تلك النظرات الحادة التي رمقها بها قبل أن يفترقوا جميعا. عندما عاد به في المساء وطرق على الباب فتحت له فاستأذنها في الحديث إليها لبعض الوقت ودخل إلى الرواق حتى لا يسمعهما الجيران. قال بثقة: صفاء... ألا تعتقدين أن قدومك إلى المنزل مع رجل غريب سيسيء لسمعتك؟.. خصوصا وأنت مطلقة. أجابته: هذه أول مرة... حدث الأمر بالصدفة... ثم إن عزيز يرغب في الزواج بي وهو رجل مستقيم... توسعت عيونه بعد هذه الكلمات ليهمس لها بدهشة: ستتزوجينه؟ أومأت موافقة: لن أجد رجلا مثله... إنه يعرف بابني وبطلاقي وهو مقتنع بي كزوجة. قال بانفعال: لا تجعلي تعثرك في الحياة يلقي بك عند أعتاب أي رجل يبدي اهتمامه بك. شعرت بالحنق من كلماته، أيظنها مجرد عاثرة حظ تبحث عن بعض الاهتمام! حملقت فيه بصرامة لتخبره: عزيز ليس أي رجل... أعرفه منذ عام وأعلم يقينا أنه الأنسب لي... شعر باحتقان الدم في أوردته ولم يعد يدري أيبارك خطوتها ويتمنى لها السعادة رغم ألمه، أم يصرخ بوجهها أنها لن تكون لرجل غيره! شعرت بانقباضه واختناقه الأمر الذي حدا بها لتهمس له بتوجس: ألن تبارك لي؟ أمسك بذراعيها بقبضتيه القويتين ولم يشعر أنه يوجعها من شدة الغضب ليقول بألم مكبوت: فكري مليا يا صفاء... لا يمكنك أن تتخذي خطوة كهذه دون تفكير... حاولت أن تخبره أنه يوجعها عن طريق تألمها فأفلتها من بين يديه لتقول بصراحة: أنا مقتنعة بعزيز... مقتنعة جدا. همس لها بحرقة أبصرت نيرانها في عيونه: تحبينه؟ لم تستطع أن تجيبه ولو كذبا... حتى هي لم تسأل نفسها هذا السؤال!.. التزمت الصمت التام فظنه حياء منها، لذا تنهد بغصة ليقول: لا تتزوجيه أنا أرجوك... حدقت فيه بتيه لا تفهم سبب رفضه... تراه يحرص ألا يتربى ابنه عند رجل غريب؟ قالت بعد تفكير: مجد سيبقى عند أمي ويمكنك رؤيته متى شئت أنت تعرف هذا... لن آخذه منك ولن أجعله يحب غيرك. أغمض عيونه بألم ليفتحهما على اتساعهما وهو يتأملها بالتياع: لن أحتمل أن تكوني له... شحبت ملامحها فجأة ليكمل بوجع: لن أتقبل فكرة أن تصبحي زوجة لرجل غيري... صرخت به من قهرها: لكنك لست زوجي... أنت لم تعد زوجي منذ سنوات... سنوات عديدة ألا تذكر! وأشارت للباسها الشرعي: أنظر إلينا... نحن غرباء. أجابها بإصرار: أبدا... ستظلين دوما أم طفلي. أشارت له بإصبعها محذرة: لكنني لست زوجتك... هدر فيها بغضب: كوني زوجتي إذن! ساد الصمت التام بعد هذه الكلمات وبقي الاثنان يتبادلان النظرات العميقة دون أن يجرؤ أي منهما على الكلام. بعد صمت قصير أحساه دهرا عاد ليقول: ربما لا يحق لي المطالبة بفرصة أخرى... لكنني سأفعل... من أجلنا... من أجلي ومن أجلك... عادت تلك النظرات الحارقة لتؤكد لها ما اعتقدته سالفا... لم يعد قادرا على إخفاء مشاعره أكثر ولا مداراة شوقه... ينبض قلبيهما بتناغم كبير على إيقاع واحد... كل ما كان ينتابها في عشقه يتجلى اليوم على وجهه... بحثت عن الشغف! وهي تبصر اليوم أكثر من الشغف... تبصر اللوعة والحرقة والعذاب... تبصر اليأس والرجاء والعتاب... تبصر كلاما لا تعبير له إلا في لغة العيون... قادرة هي على منحه الغفران؟.. وهل جرّمه قلبها يوما ليعفو عنه!.. النهاية

الجزء الثاني يوم غد بحول الله

noor elhuda likes this.

بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
قديم 24-09-21, 02:26 PM   #7

Rima08

? العضوٌ??? » 410063
?  التسِجيلٌ » Oct 2017
? مشَارَ?اتْي » 1,389
?  نُقآطِيْ » Rima08 has a reputation beyond reputeRima08 has a reputation beyond reputeRima08 has a reputation beyond reputeRima08 has a reputation beyond reputeRima08 has a reputation beyond reputeRima08 has a reputation beyond reputeRima08 has a reputation beyond reputeRima08 has a reputation beyond reputeRima08 has a reputation beyond reputeRima08 has a reputation beyond reputeRima08 has a reputation beyond repute
افتراضي

فصل جميل جدا متشوقة للقادم تحياتي

Rima08 غير متواجد حالياً  
قديم 25-09-21, 12:44 AM   #8

دانه عبد

? العضوٌ??? » 478587
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 512
?  نُقآطِيْ » دانه عبد is on a distinguished road
افتراضي

💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚

دانه عبد غير متواجد حالياً  
قديم 25-09-21, 01:26 AM   #9

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة rima08 مشاهدة المشاركة
فصل جميل جدا متشوقة للقادم تحياتي
تسلمي حبيبتي
⁦♥️⁩⁦♥️⁩⁦♥️⁩


بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
قديم 25-09-21, 01:36 AM   #10

بريق أمل

كاتبة في قصص من وحي الاعضاء

 
الصورة الرمزية بريق أمل

? العضوٌ??? » 381251
?  التسِجيلٌ » Sep 2016
? مشَارَ?اتْي » 515
?  نُقآطِيْ » بريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond reputeبريق أمل has a reputation beyond repute
:jded:


وفي عينيك الحب كله

الجزء الثاني لقبلة بلا شغف





رفضتُ القلبين اللذين شرعا لي بابيهما بعد أن ضاع العمر في دهاليز الانتظار... وقلت لنفسي هلمي إليا نكمال الطريق الذي بدأناه سويا... لم أعد أخاف الوحدة ولا الغربة ولا وحوش الظلام... اعتدت سكون المكان، شحوب الجدران، ورتابة كل شيء...
الحب... يقولون أنه جميل، لكنه أسوأ ما مر بامرأة مثلي... ربما بسبب حظي العاثر، لكن جل ما أتمناه أن يرجع بي الزمن سبع سنوات للوراء حتى أكسر رجل هذا الحب التي دخلت حياتي لتكسر من بعدها قلبي وتتركني مع وجع الذكريات أتجرع كؤوس العلقم كأسا بعد أخرى حتى اعتدت طعمه المر في حلقي ولم يعد الأمر يبعث على الاشمئزاز!
إنه قلبي الذي أضحى شاطئ خيبة تصفعه أمواج القهر والشجن... ظننت أنني نسيته... لكن قلبي المكلوم عاد يخفق بين ضلوعي بشدة وجنون ما إن رأى شيئا من الحب يتخلل تلك العيون الحزينة... هل أنا بلا كرامة!.. كل ذنبي في الحياة أنني أحببته، عشقته حتى الموت وانتظرته... وقلبي الذي لم يكرهه يوما هفا إليه بلا استئذان... أردت منحه الغفران المطلق لنبدأ من جديد... من نقطة الصفر... لكنني اكتشفت بعد صمت أن الحياة ليست بهذه البساطة... وأنني لن أحظى بتلك اللحظات التي حلمت بها مهما ضحكت الدنيا في وجهي وتهللت أساريرها...
لن أكذب، تمنيت أن نرجع معا من جديد... لكن الأزمة هنا لم تكن أزمة حب ولا أزمة كرامة... بل أزمة ثقة.
لا أستطيع أن أجزم بحبه مهما أبرقت عيونه شرارات عشق وشغف... ومهما قدم من وعود وقطع... أنا الكسيرة التي حطم يوما من أجل من يحب... وستظل "من يحب" بيننا تمنع عني حقي المشروع في امتلاك كامل للرجل الذي أريد...
وأعلم أن قلبي لن يحلق في غمرة عشق مع الطيور لأنه مشدود بحبل التوجس إلى مرسى خيبات الأمل...
فلماذا أزيد عذابي عذابا بعد أن خفت وطأة الألم!.. صحيح أنني غبية، لكن ليس لدرجة أن ألقي بيدي مرة أخرى إلى التهلكة...
وبعد أن رضيت الأنثى التي بداخلي من تلك النظرات التي أعادت الحياة تسري في أوردتها الناشفة لتتحول من عجوز هرمت من كثرة البكاء لفاتنة مرغوبة في عيون من تحب... بعد أن أحست بالاكتفاء من نظرات عيونه المتوسلة وصوته الهامس بعذاب... في تلك اللحظة بالذات أخبرته أنني لا أستطيع الرجوع... وأنني حتى وإن كنت حتى اللحظة أحبه فإنني لن أثق به من جديد... لا أستطيع أن أسلمه مفتاحا آخر لقلبي بعد أن أضاع الأول الذي كان يملكه...
لن أنسى تلك العيون الحزينة ما حييت تنظر إلي في انكسار شديد والصمت يقول أكثر مما قد تنطق به الألسن...
نطق من بعدها ليقول: المهم أنك تحبينني... وأعدك أنني سأبحث عن أول مفتاح لنرجع من جديد...
وترك من بعدها الشقة وعيوني تتبع وقع أقدامه حتى اختفى من أمام ناظراي... لست أدري إن كنت قد أجحفت في حق قلبي وحق ابني. لكن شعورا بالرضا والارتياح كان يتملكني... لست أدري إن كان هذا بسبب وعده الذي قطعه على نفسه قبل أن يغادر أم لأنني استطعت أن أتخذ قرارا سليما دون أن أورط نفسي...

أما الآخر "عزيز" فكان رفضي له ليس لعلة فيه، ولكن لوشم بقلبي يتعب تفكيري ويؤرق نومي...
تراني أكرر خطأ آدم مرة أخرى! أتزوج عزيز فقط لأنسى حبي الأول ومن ثم أغرقه في حياة بلا أحاسيس!..
لا أريده أن يعيش الغربة في حضني ولا أن يعاني ما عانيت... فليبحث له عن شغف ما وراء أسواري ومتأكدة أنا من أنه سيجد المرأة التي تجعله سعيدا كما يستحق...
أقولها وباختصار... الحب لم يخلق ليراقص امرأة مثلي...
صفاء
********************
صوت احتكاك عنيف مع الأرض، تلاه ارتطام شديد وصراخ كل من شاهد الحادث.
التفتت مذعورة ليتراءى أمامها ابنها ملقى على الأرض مضرج في دمائه على بعد مسافة معتبرة من المكان الذي توقفت به السيارة... لقد طار المسكين بعيدا بفعل الاصطدام مخلفا حقيبته المدرسية ممزقة وراءه ببضعة أمتار، وكم كان جسده صغيرا على احتمال ألم مماثل!
تجمدت مكانها من تأثير المشهد على كل خلية في جسدها وشعرت بخدر في كل أطرافها قبل أن تتسارع دقات قلبها بعنف لتصرخ بأعلى صوتها: مااااااااااااااااااجْد!

استفاقت مذعورة وهي تصرخ بنفس الطريقة والرعب يعصف بها عصفا، فلم تجد غير أمها بقربها وهي تهمس بألم والدموع تنسكب على خديها: بسم الله الرحمن الرحيم... بسم الله الرحمن الرحيم...
أمسكت صفاء بيدها متوسلة وقالت بصوت مرتجف: أخبريني أنه كان كابوسا أمي... مجد بخير أليس كذلك؟.. مجد نائم بغرفته الآن... غطيته أمي؟..
اعتصرت الأم دموعها لتشهق بضع شهقات جعلت صفاء تشد رأسها في غير تصديق وتنتفض بهستيريا: أمي... مجد لم يتعرض لحادث!.. لم يتعرض لحادث!.. قولي نعم أنا أرجوك...
احتضنتها أمها باكية وراحت تربت عليها بكل حب: يقول الأطباء أنه نجى من الموت... اطمئني حبيبتي.
ارتفع صوت نحيبها وهي تردد في عدم تصديق: أنت تكذبين أمي... تفعلين هذا لتهدئتي وحسب... أريد أن أراه...
وصرخت بقلب مفجوع: أريد أن أراه...
مجد كان آخر أمل لها يربطها بهذه الحياة... لقد كان السعادة والأمل... كانهما معا، ابتسامته الساحرة تنسيها كل المعاناة الماضية وتجعلها تشحذ الهمة لتسير على الدرب الصحيح وتنتظر شمس الغد لتبزغ في الأفق البعيد، من بعد ليل بهيم لا نور فيه...
لقد تلقت الصفعات لسنوات طويلة بقلب صبور، لكن ركلة كهذه قد تقطع آخر شعرة تربطها بهذه الحياة...
أقسمت لها أمها مؤكدة أنه حي يرزق وحاولت جعلها تسترخي من جديد لكنها انتزعت ابرة المصل من يدها بعنف ووقفت مترنحة تبحث عن شالها الأبيض لتلفه حول رأسها قبل أن تغادر الغرفة وأمها متشبثة بها تحاول منعها من الخروج.
سارت بتثاقل وصداع رهيب ينتابها جعلها لا تكف عن التأوه بألم وهي تتشبث بكل شيء بقربها علها لا تسقط. لحقت بها أمها وهي تقول كلاما كثيرا لترجعها إلى السرير غير أنها لم تهتم، ما جعلها تأخذ بيدها وتوصلها إلى القاعة حيث تجلس "زهور" حماتها السابقة وبقربها رحاب وهما مطرقتين في صمت وغير بعيد يقف آدم مكتوف الأيدي في حالة بائسة ووالده بالقرب منه يربت على كتفه مواسيا...
أرادت أن تصيح بهم أين مجد لكن التعب الذي نال منها جعل من صوتها المبحوح يخرج مختنقا: أين مجد؟
التفت جميعهم إليها ثم أسرعت زهور نحوها وساعدتها على السير لتجلس على أقرب كرسي وهي تقول: اهدئي صفاء... قال الطبيب أنه نجا من الموت... سيكون بخير إن شاء الله...
حملقت فيها بغير تصديق وهي تصدر أنينا خافتا لتهمس مستجدية: أريد أن أراه...
رفعت زهور رأسها إلى آدم الذي كان يناظر أم ابنه بوجع شديد ثم اقترب منها على مهل وجلس القرفصاء عند أقدامها ليتمكن من رؤية وجهها الذي تغطيه الدموع وقال مطمئنا: ما تقوله أمي صحيح... مجد بخير... وسيتماثل للشفاء بإذن الله... اطمئني...
تقاطرت الدموع من عينيها بوجع وسألته برجاء: هل يمكنني رؤيته؟
قبل أن يجيبها كانت رحاب تحط بيديها على ذراعيه مواسية وهي تساعده على الوقوف لترتب ياقة قميصه أخيرا هامسة: سيكون بخير حبيبي... اطمئن.
أمسكت بكفه في حنو وسحبته معها بعيدا هامسة له تطمئنه وتبث الأمان في أوصاله.
من الواضح أنها لن تسمح له بأن يتعاطف مع صفاء بأي شكل من الأشكال...
التفتت صفاء إلى زهور وكأنها تكرر نفس سؤالها السابق عليها فهمست لها: سأتحدث إلى الطبيب يا ابنتي... قد يسمح لك برؤيته من وراء الزجاج لأنك أمه!

رفض الطبيب أن يسمح لأي كان بزيارته خصوصا بالشكل الذي هو فيه، فهو يعلم يقينا أن أمه لن تحتمل رؤية وجهه المنتفخ وجسده المتورم بهذا الشكل الفضيع...
كان الوقت متأخرا جدا وحالة صفاء في تدهور مستمر ورغم إلحاح الجميع عليها في أن تترك المكان وترتاح بالبيت حتى الصباح إلا أنها رفضت وقررت المكوث هناك حتى وإن لم يسمحوا لها برؤية ابنها.
كانت تتأمل من حولها بضببابية في رتابة وهي تدعو الله في قرارتها بقلب متفطر من الألم أن يحفظ لها فلذة كبدها ويأخذها هي إن أراد... لأنه إن رحل مجد فلن يصبح للحياة من بعده أي معنى...
شاهدت دموع زهور وتنهدات والدتها... خطوات آدم ونظراته اليائسة... رحاب وتجوالها بالقاعة... كانت تسمع أصواتا وتشاهد أناسا يترددون على المكان... أطباء وممرضون بثياب زرقاء وأحذية لا يُسمع لها وقع... رائحة المطهرات كانت تعبث بعقلها وتشعرها بالغثيان... صراخ قد ينبعث من هنا وهناك وركض بالممرات عند وصول حالات طارئة... مضت الساعات متوالية، وربما غفت أكثر من مرة على هيأتها تلك... كانت تشعر برغبة ملحة في ضم ابنها إلى صدرها... أن تشاهد ابتسامته الرقيقة كما عهدتها دوما... أن تمحو من ذاكرتها صور الدماء التي غطت وجهه وحجبت عنها تفاصيله الجميلة... كانت لتهب ما بقي من عمرها لمن يحمله لها الآن بخير دون أذى... دعت الله... ترجته... رسمت آلاف الأمنيات وهي جالسة هناك في سكون كمن ينتظر الفرج من غير ميعاد...

دخل القاعة فجرا رجل ما لم تكلف نفسها عناء النظر إلى وجهه، ألقى التحية عليهم فقام إليه آدم وتبادلا الترحاب ثم تعانقا بود وذلك الرجل يضرب على كتفه قائلا: اطمئن... سيكون كل شيء على خير ما يرام.
ثم التفت إلى زهور التي وقفت مكانها دون حراك فاقترب منها معانقا وقبل جبينها هامسا: كيف حالك يا أمي؟
كلمة أمي جعلتها تفتح عيونها الذابلة لتتأكد إن كان هو من تظنه... لابد وأنه هيثم الأخ غير الشقيق لآدم من أمه فقد كان لها ابن من زواجها السابق قبل أن ترتبط بوالد آدم.
أومأت أمه وسألته بدورها: وأنت يا هيثم... كيف حالك؟
ابتسم بوجهها بود: الحمد لله...
ثم سألها: أين هو عم حميد؟
أجابته باقتضاب: يعاني من آلام حادة في المفاصل لذلك أصر عليه آدم حتى يغادر لينال قسطا من الراحة.
أومأ دون كلام فاقترب منه آدم هامسا: لم تزرنا منذ مدة!
تبادل مع أمه نظرات مبهمة قبل أن يقول مسايرا له: العمل... تعرف أنني مشغول...
قال بامتنان: أشكر لك مجيئك بهذه السرعة بعد تلقيك لاتصالي...
ربت على كتفه من جديد: كيف أتأخر عن الحضور وابنك هو من يعاني... سأتحدث إلى المدير هنا وأدرس معه إمكانية السماح لي بمعاينة وضعه... أنا مستعد لفعل أي شيء حتى وإن استلزم الأمر نقله إلى المستشفى الذي أعمل به في باريس...
شكره آدم ثم انصرفا معا على الفور إلى الادارة من أجل السؤال عن موعد وصول المدير، بينما بقيت زهور واجمة تحدق في الفراغ أمامها وكأنه ليس ابنها من وصل منذ قليل بعد غربة دامت سنين طوال!
تتذكر صفاء أنه حضر قبل سبع سنوات حفل زواجهما ولم يُطِل بقاءه، بعدها بسنتين سافرت إليه أمه لرؤيته ورجعت في نفس اليوم على الرحلة التالية دون أن تخبر أحدا بحقيقة ما أغضبها لتنكص على أعقابها في اليوم ذاته، واكتفت بالقول أنها لم تستطع البقاء هناك أكثر دون تقديم أي تفسير... منذ ذلك الحين توقفت عن الاتصال به وكان أغلب الوقت هو من يفعل للاطمئنان عليها.
لم تسأل حماتها يوما عن سبب البرود الذي بات يميز علاقتهما كما لم تهتم أبدا بمعرفة أخباره الخاصة... وكان بالنسبة لها شيئا من العدم.
إنه جراح أعصاب ماهر في الثانية والأربعين من العمر، أكمل دراسته الجامعية في سويسرا ثم انتقل إلى باريس ليعمل في أحد أكبر المستشفيات هناك... واليوم بعد كل هذه السنوات صنع لنفسه اسما محترما ومكانة مرموقة، وبات من الطبيعي أن يرفض دعوات أمه له بالبقاء هنا على أرض الوطن... لكن ليس هذا ما يوتر العلاقة بينهما... لابد وأن السر بعيد كل البعد عن العيون... ولايهمها بأي حال من الأحوال معرفته فآخر ما تفكر فيه وهي على هذه الحال أن تعرف ما يخفيه هيثم!
♡♡♡♡

استطاع آدم وصفاء رؤية مجد من بعيد بوساطة من هيثم، فقد كان المدير أستاذه بالجامعة في السنوات الأولى قبل سفره.
وفي المساء انتقلوا جميعا إلى منزل حميد لمناقشة موضوع الصغير فهيثم قرر أن يجمعهم ليخبرهم بحقيقة ما يعانيه.
صفاء كانت تجلس بينهم مجبرة غير مخيرة دون أن تخفى عليها نظرات رحاب الساخطة وتأففها أغلب الوقت... وبعد انتهاء آدم من الرد على اتصلات أخته المتكررة للسؤال عن حال مجد وكذا معارفه وزملائه، جلس الجميع في غرفة الاستقبال منصتين بانتباه.
رفع هيثم نظره للوجوه المتأملة له بترقب ثم قال: فرصة مجد للنجاة من الموت كبيرة والحمد لله...
هلل الجميع يشكرون الله وتساقطت من عيني صفاء دمعتان وهي تضم كفيها معا تعتصرهما مرددة بهمس: الحمد والشكر لله.
انتظر هدوءهم ليكمل: المشكلة في الكسر الذي حدثتني عنه...
والتفت إلى آدم فقطبت صفاء مستنكرة: أي كسر؟
مالت نظراته ناحيتها، يبدو أنه لا أحد أخبرها بالأمر! آدم اتصل بأخيه لأنه اختصاصي في جراحة الأعصاب ويمكن أن يقيم حجم الضرر لذي أصاب مجد الصغير.
استمر في حديثه: تعرض مجد لكسر على مستوى العمود الفقري...
وقبل أن يكمل شهقت بهلع: سيصبح مقعدا!!!
أغمض آدم عيونه بألم بينما عاد هيثم ليحدق بها مكملا كلامه: نرجو من الله ألا يحدث هذا... نخاعه الشوكي سليم حد الساعة... لكن الأمر يتطلب جراحة معقدة... بسبب حجم الضرر ونوعه...
صمت تام خيم على المكان حتى نطقت زهور: هل من أمل؟
أجابها: الأمل موجود دائما... العملية تستلزم اختصاصيا في جراحة العمود الفقري.. وأنا أنصحك كأخ وكطبيب بأن تنقل مجد لتلقي علاجه في باريس... هناك في المستشفى الذي أعمل به المعدات أكثر تطورا ونسب النجاح مرتفعة... أعلم أن الأمر سيكون مكلفا لذا اطمئن سأساعدك في نفقات النقل وكذلك العلاج. ولا تقلق بشأن الاقامة فمنزلي مفتوح لك ولزوجتك.
وأشار لصفاء ناسيا أنهما مطلقان فاحمر وجه رحاب غضبا ورفعت يدها لتنبيهه: زوجته هنا...
تذكر أخيرا أن أمه قد أخبرته قبل سنوات عن طلاقهما فاعتذر ثم بدل الموضوع: فكروا بالأمر...
لم تستطع صفاء التفوه بكلمة فليست تملك من المال ما يجعلها تقرر مثل هذا الأمر المهم، ولا حتى دفع تكاليف إقامتها هناك طوال مدة علاجه إن تم نقله، وحتى أهلها لا يملكون ما يقدمونه لها، أبوها يعاني من مرض مزمن وأمها هي من تهتم به طوال الوقت، وإخوتها كل له مسؤولياته ومن غير المرجح أنهم يستطيعون تقديم مبالغ مالية ضخمة لها. أما آدم فقد كان شاردا يحصي ما يملكه وما يستطيع بيعه إن اقتضى الأمر ثم قال: أنا موافق...
قطبت رحاب وهمست له: لماذا لا تسأل عن مدى نجاح مثل هذه العملية هنا... ربما أنت تكلف نفسك فوق طاقتك!
رمقها هيثم بنظرة خاطفة دون تعليق في الوقت الذي حدجها آدم بنظرات شزرة جعلتها تقفل فمها، ثم التفت لأخيه: سأبدأ بالإجراءات اللازمة... لننقله في أقرب فرصة.
أجابه: لا أعتقد أننا سنستطيع نقله قبل أسبوع... ستأخذ الإجراءات وقتا إلا إذا كان لديك معارف هنا وهناك... لذلك علينا أن نبدأ بالإجراءات قريبا.

في صباح اليوم التالي وقبل أن تترك صفاء منزلها باتجاه المشفى الذي يرقد به ابنها وصلت أمها فأدخلتها وجلستا معا في غرفة الاستقبال.
قالت سهيلة وهي تخلع معطفها: ألم تمضي ليلتك في بيت زهور وحميد.
أومأت نفيا: لقد أوصلتني زهور رفقة ابنها هيثم قبل منتصف الليل... لم أشأ البقاء عندهم رغم أن آدم لم يبت هناك وزوجته...
أومأت متفهمة: ما كنتِ لترتاحي في غير بيتك... لماذا لم تتصلي بي لأبيت معك؟... كيف استطعت أن تنامي وحدك وفي قلبك كل ذلك الألم!
رفعت كتفيها بقلة حيلة وشرذت بفكرها بعيدا تفكر فيما سيؤول إليه حال ابنها إن لم تنجح العملية... وبدأت دموعها تتساقط على خديها بتتابع وأمها تضمها إليها مواسية.
♡♡♡♡♡

بعد بضعة أيام تمكن آدم عن طريق بعض معارفه بتسريع الاجراءات لنقله وابنه إلى باريس بينما أُقصيت صفاء. فمن المستحيل أن تسمح لها رحاب بمرافقة زوجها وحدهما... ولم تكن لتقبل بالسفر رفقتهما بسبب عملها وكذلك لتكلفة العملية والمصاريف.
كان الأمر بالنسبة لها أشبه بأن يسلبوها روحها من جسدها... رحيل مجد عنها لفترة غير محددة وهو بهذا الوضع الحساس أمر يفقدها رشدها ويسبب لها معاناة نفسية شديدة... ولم يكن آدم أفضل حالا منها ففقدانه لابنه من رحاب جعل الخوف يسكن أضلعه ويعشعش في قلبه...

جلس هيثم إلى أمه صباحا ملقيا عليها التحية: صباح الخير أمي.
أجابته وهي ترفع رأسها إليه بوجوم: صباح الخير بني.
تأمل وجهها باسما يداري وجعه، ليس يكره أخاه ولكنه يحسده على تلك المكانة التي يحتلها في قلب والدته، فمنذ الحادث وهي تجزل الاهتمام به وتضمه مواسية وتضع رأسه في حجرها مثل طفل صغير وتهدهده.
صحيح أنه لا يطمح لأن تفعل معه كل هذا لكنه كان سيرضى بقليل من الاهتمام.
سألها بفضول: بما أن والدة مجد لن ترافقه... فهل ستفعلين أنت هذا؟
صمتت لبرهة قبل أن تجيبه: أنا لا أستطيع...
وتحسرت على حال صفاء: المسكينة... إنها في حال سيئة... أنا أفهم شعورها كأم... هي لن تستطيع دفع تكاليف السفر وقلبها سيظل معلقا به وهو بعيد...
أجابها بعفوية: ماذا لو دفعت أنا تكاليف سفرها وإقامتها بما أن زوجة آدم الغيورة ترفض أن يفعل زوجها هذا!
استنكرت الأمر وحدقت فيه بجد: أنت بهذا ستتسبب بإثارة غيرة آدم وقد تُفسد علاقتكما...
ونظرت من حولها بتوجس ثم أسرت له القول: آدم مازال يحب صفاء... أخبرني أنه طلب منها الرجوع إليه ولكنها رفضت...
أبدى دهشته قبل أن يقول: من المؤكد لن ترجع إليه بعد أن فضل غيرها... ربما لم تعد تهتم لأمره! عليه أن يستوعب أنه لن يأخذ كل شيء دفعة واحدة، فالحياة دائما ما تفرض علينا تنازلات...
عبست مستاءة من طريقة حديثه عن أخيه وإن كان موضوعيا في طرحه. الأمر الذي جعله يغتاظ منها سرا فهي أبدا لا تهتم لأمره ولا تسأل عنه وهو في غربته ولا تبالي لا بمرضه ولا بضيقه، فيما تولي آدم كل العطف والاهتمام وكأنه ابن بطنها الوحيد!
فكر مليا قبل أن يقول: ماذا لو عرضت عليها الزواج!.. هل ستوافق؟
تأملته بصدمة كما توقع تماما ولم تجرؤ على قول كلمة... فأردف ببرودة أعصاب متعمدا الضغط عليها: أنت قلت لي ذات يوم أنه يجب علي أن أتزوج بدل أن أصاحب الفتيات... فما رأيك بصفاء... أنت أمي ولن ترضيك إلا مصلحتي... وكما تعلمين أنا دكتور ناجح ولدي منزل وعمل والحمد الله... كما أنها بهذا ستضمن سفرها وإقامتها وستعتني بابنها كما يجب.
كان ينتظر أن تنهال عليه باللوم والعتاب... هو أصلا يريد جرها للاعتراف بتفضيلها لآدم في كل شيء... فآدم ورغم تأسيسه لحياة ثانية منذ أعوام إلا أنها ترى أن من حقه أن يحضى بصفاء لسبب ما لا يعرفه!
صرت على أسنانها قبل أن تقول بهمس: إن سمع آدم ما تقوله فلن يعتبرك أخا له بعد اليوم!
عادت لتذْكر آدم.. فقط تهتم لمشاعر ابنها المدلل... ابتسم ببرود ليردف: الأمر بسيط، هو طلقها منذ سنوات. وأنا سأتزوجها... هل في الأمر عيب.
صاحت به غاضبة: لكنه أخوك!.. هل ستفسد علاقتك به من أجل امرأة! هناك غيرها الكثير.
بعناد رد عليها: وأنا لا أريد غيرها!
صُدِمت حقا من جوابه فكيف يصر عليها وهو لم يعرفها إلا منذ بضعة أيام!.. لابد وأنه يعاندها لأنها ترفض الأمر بسبب أخيه... إنه يغار منه هذا مؤكد وهو يجرها نحو الخطأ ليقيم عليها الحجة... تنهدت ببطء حتى تهدأ وهي تفكر في أن صفاء لن تقبل به فقد سبق لها وأن رفضت عزيز رغم السنوات التي جمعتهما خلال عملهما معا.
قالت بعد صمت: لا بأس بني... إن كنت تريد هذا فالأمر عائد إليك... سأتحدث إليها وأفتح معها الموضوع.
ضيق عينيه بريبة... أمه ليست جادة في ردها هذا مؤكد... ستخبره برفضها عندما تعود من عندها يعلم هذا يقينا، الأمر الذي جعله يقول لها: سأتحدث أنا معها... وإن وافقت نطلبها رسميا.
تجهم وجهها من جديد وصرحت بما كانت تخفيه عنه: هذا إن قبلت!.. هي لم تحب رجلا من بعد آدم...
لقد نجح في جعلها تفصح عن الحقيقة. لابد وأنه كان محقا في قراءة لغتها الجسدية حتى الآن...
ابتسم منتصرا وهو يهم بالوقوف: سأغادر إلى المشفى... أريد زيارة مجد.
كانت متأكدة من أنه يريد الالتقاء بصفاء لطلبها للزواج، لكن أكثر ما طمأنها في الموضوع أن صفاء يستحيل أن توافق.

التقاها في الحديقة جالسة على أحد الكراسي تحت أشعة الشمس الدافئة. تأملها مليا قبل أن يتوجه ناحيتها ويلقي عليها التحية.
تفاجأت من وجوده واقتحامه لخلوتها... ظنت أنه يمهد لقول شيء سيء عن حالة مجد وأصبح قلبها يقرع طبوله ترقبا فلا شيء يدعوه لمحادثتها إلا إن كان متعلقا بمجد.
كان يقول أنه يوم جميل وسألها أن تسمح له بالجلوس على الكرسي الحديدي فلم تصدر أي ردة فعل. وبقي يحدثها عن أشياء كثيرة وهي تفكر بشيء واحد متى سيخبرها عن ما يخفيه.
ولاحظ هو امتقاع وجهها وهي تراقبه فاختصر كل الكلام ليقول بعد نحنحة حرجة: صفاء... ألست تفكرين في الزواج؟
أصدرت آهة استفهام وهي تحدق فيه بذهول فالتفت إليها لتلتقي عيونهما في لحظة صمت. خانه لسانه فلم يستطع التعبير وظل يحاول إيجاد كلمات معبرة يشرح لها رغبته في التقرب منها، إلى أن استطرد يقول: أعلم أنك تطلقت من أخي منذ زمن، وربما تفكرين في أنني أناني إن أطلعتك عن رغبتي في الزواج منك...
ازدادت عيونها توسعا ولم تنطق بكلمة، ظلت تحدق فيه بصمت فشعر بالحرج وأبعد ناظريه عنها ليكمل وهو يفرك كفيه باضطراب: كل ما أتمناه أن تنظري للأمام وتخلفي الماضي وراءك فليس هنالك من شيء يستحق انتظارك الطويل... ستبتسم الحياة في وجهك فقط إن أنت أعطيتها فرصة لذلك...
قال هذا ووقف، فوقفت هي الأخرى. عندها حدق بها مليا قبل أن يكمل: فكري قبل اتخاذ قرارك... وإن قبلت بالزواج مني فسيكون علينا إتمام كل الاجراءات اللازمة لتتمكني من السفر إلى باريس حيث أسكن...
حملقت فيه بفضول، هل تراه يعرض عليها صفقة معينة!.. هل يلمح لها أنها بقبولها ستتمكن من رؤية ابنها من دون مقابل أم أن عقلها هو من يصور لها هذا!
افترقا بعدها لتمضي بقية يومها وهي تفكر في عرضه المغري... إن قبلت الزواج به فستنتهي المعاناة النفسية التي هي فيها... قريبا ستلحق بابنها وتتمكن من البقاء رفقته من دون أن يفرقها عنه شيء.
في المساء اتصلت بزهور وأخبرتها بما دار بينها وبين هيثم هذا الصباح ، وبدت الأخرى مرتبكة وحاولت أن تكون حيادية في الموضوع دون أن تنسى التلميح لعلاقة الأخوين التي قد تسوء إن هي قبلت بهذا الزواج، وكأنها تشير إليها بالرفض.
فكرت الليل كله وطلبت من أمها المشورة فأبكرت في صباح اليوم الموالي لتحدثها وجها لوجه.
عندما جلستا معا بطاولة المطبخ تشربان القهوة قررت الأم أن تقنع ابنتها بالقبول، قالت بعد طول صمت ومماطلة: يا ابنتي... أنا أرى أنه من غير العدل أن تحرمي نفسك من كل تلك الفرص التي منحتها لك الحياة... طلاقك من آدم ليس آخر سطر في حياتك.. إن كنت تريدين العيش بسعادة فستحققين السعادة التي تصبين إليها عاجلا أم آجلا... فالحياة تمنحنا فرصا ونحن فقط من نصنع منها السعادة...
تنهدت صفاء بضجر: تتحدثين عن السعادة وابني يصارع الموت والإعاقة.
قالت مؤكدة: قال الأطباء أنه سيعيش... وإن نجحت العمليات المبرمجة له فسيتماثل للشفاء وسيسير على قدميه من جديد... أنت فقط تحلي بالإيمان وكل شيء سيكون بخير.
صمتت الاثنتان طويلا قبل أن تعود سهيلة للحديث: اقبلي بعرض هذا الرجل يا ابنتي... أنا متأكدة من أنك لن تندمي على هذا أبدا... رجل مثله فرصة لا تُعوض..
حدقت بها مليا قبل أن تقول: إن قبلت به فسيكون من أجل أمر واحد... أن ألحق بابني حيث سيُعالج... فالوضع لا يسمح لي بالتفكير في غير هذا...
ابتسمت من موافقة ابنتها المبدئية وربتت عليها مطمئنة: متأكدة أنا من أن تجربتك الجديدة ستكلل بالنجاح... ثقي بكلام أمك.
أعلنت صفاء عن موافقتها وتم طلب يدها رسميا من أسرتها دون علم آدم بالموضوع، الأمر الذي جعل زهور تذرف دموعا غزيرة بعد مغادرتها لبيت العروس مما أثار استياء هيثم الذي دارى غيظه وكظمه.
في اليوم التالي وبمجرد أن طرق الخبر أذني آدم حتى جاء لبيت والديه أين أكدت له أمه ما سمعه، وبمجرد دخول هيثم المنزل استقبله بعبوس وزمجر فيه: أنت!.. كيف سمحت لنفسك بطلب يد طليقتي!
دنت منه أمه لتهدئه لكنه تجاهلها واقترب من أخيه الأكبر هادرا فيه بعنف: ألم تجد بالبلد نساءا غير أم ابني!
بكل هدوء أجابه: أم ابنك هي طليقتك كما وصفها لسانك... لقد حررتها منك بمحض إرادتك قبل سنوات واخترت غيرها فلا تستكثر عليها أن تحظى بزوج يحترمها، ولا على أخيك بأن ينال عيشا كريما مع امرأة تستحق العناء... كن عاقلا ولا تتصرف بطيش كالأطفال..
اعتصر الغضب في قبضتيه الاثنتين قبل أن تحمر عيونه ويقول بقهر: ألم تخبرك أمي بأنني عرضت عليها العودة!.. مازلت أرغب فيها يا هيثم!
حملق بأمه لوهلة ثم اقترب من أخيه بضع خطوات ليهمس له بثقة: آدم... صفاء لن ترجع إليك لأنك أنت من اختار مصيركما... وزوجتك ستظل فاصلا بينكما إلى الأبد... أنت لن تطلقها لتكرر نفس خطئك مع صفاء وهذه لن تقبل بأن تكون زوجة ثانية لك!..
وصمت لوهلة قبل أن يردف: إن كنت تحبها حقا فتمنى لها حياة سعيدة ولا تنس أنني أخوك... فلا تجعل هذا يفرقنا.
ضرب بقبضته على الجدار بقوة وصاح بقهر: أنا لست أخا لك... الأخ لا يفعل بأخيه مثل هذا!
وانصرف من هناك بخطى غاضبة بينما أجهشت زهور بالبكاء وهي توليه ظهرها وكأنه رأس المصائب...

غادر آدم وابنه أرض الوطن باتجاه باريس أين سيتم خضوعه للعلاج بينما تأخر عنهما هيثم بضعة أيام من أجل عقد قرانه على صفاء.
تم الأمر في أجواء عائلية بسيطة. وبقي عليها أن تجهز أوراقها من أجل استخراج جواز سفر والحصول على إذن للحاق به ومثل هذه الإجراءات قد تأخذ وقتا أطول.

أُدخل مجد المستشفى الخاص "سان جوزيف" أين يعمل عمه وتم إجراء الفحوصات اللازمة لمثل حالته ومن ثم تحديد موعد لأول تدخل جراحي، تم الأمر في غياب أمه التي لم تجف دموعها ولم يكف لسانها عن الدعاء له لحظة واحدة. وكانت تستقي أخباره من هيثم الذي يتصل بها بين الفينة والأخرى لطمأنتها وإطلاعها على آخر التطورات. ولكم كانت سعيدة عندما سمح له بتحديثها آخر مرة ولو لبضعة ثوان حتى لا يُجهده... كانت ممتنة له وكأن القدر وضعه في طريقها ليخفف عليها وطأة الفراق.
مضت الأيام طويلة حتى اللحظة التي حصلت فيها على الإذن بالسفر. كانت سعادتها كبيرة لتمكنها أخيرا من الالتحاق بابنها بعد أسابيع من الغياب والشوق المتأجج.
أجرى حتى الآن عمليتين جراحيتين ومازال وضعه تحت المراقبة وقد يخضع للمزيد، وهي لا تريد أن تتركه وحيدا هناك... فهي تعلم أن آدم لن يعوض الفراغ في غيابها لأن ابنه لم يتعود عليه في حياته كما تعود عليها.
أقلعت الطائرة في المساء بعد أن ودعتها كل أسرتها بالمطار وحلقت قرابة الساعتين في السماء قبل أن تحط بها في مطار "أورلي" الدولي بباريس. وهناك كان هيثم في انتظارها.
اجتازت الجموع وهي تحملق في تلك الوجوه المنتظرة بفضول حتى لوح لها من بعيد فتوجهت ناحيته أين رحب بها وصحبها إلى المخرج وطلب منها الانتظار ريثما يحضر سيارته.
تحركت السيارة نحو المخرج وتوغلت في قلب المدينة المكتضة وعيونها على الزجاج تتأمل عالما غريبا لم تتعود عليه... اللافتات، أسماء المحلات، وجوه المارة و ألوان الحافلات... كل شيء غريب، تنهدت بعمق وهي تستشعر طعم الغربة في أعماقها... فتلك أرض لا تحمل دفء "الأم الحنون" كالتي تعودت السير عليها حتى وإن تعثرت فوقها أكثر من مرة.
قيل أن البلد الأصلي مثل الأم... نوجد فيه دون أن نختاره، وأن البلاد التي نغترب فيها مثل الزوجة، يختارها الإنسان لجمالها أو لثرائها أو لأي صفة تميزها عن غيرها... لكنه مهما أحب الزوجة التي تمنحه كل ما يريد إلا أنه لا ينسى أبدا أمًا احتضنته رغم فقرها وربته وأنشأته رغم بساطتها... ليست غلطتك يا أمي إن لم تملكي ثمن الأكل والدواء.. ليس خطأك يا أمي إن كان الأوغاد يسرقونك وأنت تبتسمين ملوحة بسنابل القمح في يديك... لقد جُبل أولادك على محبتك مهما ضاق بهم العيش في رحابك...
♡♡♡♡
فتح الباب وأشار لها بالدخول: تفضلي.
دلفت بخطى متثاقلة وهو من ورائها يجر حقيبتها التي وضعها بقرب الجدار ومد يده لتشغيل الإنارة.
تلألأت أضواء المنزل فتأملت المكان من حولها بفضول... كان مرتبا ونظيفا عكس ما رسمته في مخيلتها عن رجل أعزب دائم الانشغال، فالقاعة الرئيسية فسيحة بعدة نوافذ تطل على الشارع مؤثثة بطريقة عصرية... وبالجانب الآخر أبواب عديدة للمطبخ وبعض الغرف.
شعرت به يقترب منها فالتفتت إليه بترقب وعيناها تفضحان توترها. بينما تأمل هو أصابعها الرقيقة وهي تفركها دون وعي وقال: مرحبا بك في بيتك...
أجابته وهي تتجنبه بنظراتها: شكرا لك...
كان واضحا له أنها مرتبكة للغاية ربما بسبب تواجدها معه بمفردهما لأول مرة... أو مرد ذلك إلى قلقها وشوقها الجارف لرؤية ابنها... لابد وأن كل هذا يضغط عليها.
سار باتجاه غرفة النوم وشغل إضاءتها داعيا إياها لتلحق به. وفور أن وقفت بقربه التفت إليها يشرح لها: هذه هي الغرفة... تلك الباب للحمام المرفق لها. يمكنك أخذ حمام دافئ لتسترخي فمن الواضح أنك متعبة... وجهك شاحب وخطواتك غير متزنة...
أومأت شاكرة له فرجع أدراجه ليحضر حقيبتها التي وضعها على السرير وتأملها باسما: سأخرج لأشتري لنا ما نأكله... لن أتأخر.
قال هذا وانصرف فتأملت الساعة على النضد وكانت تشير إلى تمام الثامنة... لقد أظلم الليل منذ ساعتين، شاهدت الغروب من الطائرة...
فتحت حقيبتها وأخذت ما تحتاجه ثم دخلت الحمام. كان عليها أن تتخلص من التعب لتفكر بجدية في ليلتها هذه... شعرت بقلبها يخفق بشدة والخوف يزحف إليها زحفا... ماذا دهاها يا ترى! وكأنها تتزوج لأول مرة!..
أنهت استحمامها فالتفت في الفوطة وجففت وجهها وشعرها قرب المرآة وهي تهمس لنفسها: لا تكوني غبية صفاء... هو ليس سيئا!
خرجت إلى الغرفة وراحت تفتش عما ترتديه... أخرجت ثوب نوم حريري أحمر اللون اشترته لها أمها لهذه المناسبة تأملته لوهلة ثم زمت شفتيها بعبوس وألقت به على الأرض: لازال الوقت مبكرا على ارتدائك!
وفتشت أكثر ثم أخرجت بيجامة قطنية بيضاء اللون عليها رسومات جميلة ورفعت القميص بيد والبنطال القصير بيدها الأخرى تتأملهما: هذا أفضل...
كان هو في المطبخ يبحث عن قداحته ليشعل الشموع عندما سمع باب الحمام يُفتح وشاهدها تلج إلى الغرفة ملتفة في فوطتها فوضع كل شيء من يده وسهم فيها للحظات. فتحت حقيبتها وراحت تفتش داخلها محنية الظهر وهو يتأملها بإمعان... هذه أول مرة يراها في منظر مماثل ولم يتخيل أبدا أنها تتمتع بجسد متناسق بهذا الشكل فقد كانت ترتدي ملابس فضفاضة على الدوام... حتى أنه لا يتذكر لون شعرها يوم خطبتهما!
شاهدها تسحب فستانا أحمرا من الحرير أعجبه شكله ورفعته أمامها للحظة وعُقدة ترتسم ما بين حاجبيها لتقذفه من يدها بعنف وهي تتمتم ساخطة.
شعر بغصة تخنقه فجأة وشرد بعقله يسأل نفسه إن كانت مرغمة على الزواج منه... هل قبلت به لأنها لم تملك الاختيار!
لم تكن أبدا ضمن حساباته ولم يخطط كيف سيعيش معها... أراد أن يختبر أمه وحسب... وكم كان سعيدا عندما انتقم من الاثنان، تلك التي لا تهتم لوجوده وذلك الذي أخذ نصيبه مضاعفا من الحب!.. هل كانت أنانية منه أن يضع نفسه بالصورة ليحرم صفاء من آدم!... ربما مازالت تحبه! من يدري!؟
تسلل إليه شعور بالذنب وهو على هيأته تلك متذكرا نظرات آدم المليئة بالحقد والضغينة... لابد وأنه متعلق بها أيضا!..
مسد جبينه بإرهاق وأغمض عيونه للحظات وهو يتنهد... ليته تراجع عن قراره في آخر لحظة... ربما حينها كان القدر سيرسم لكليهما طريقا مختلفا!..
اشتعل الضوء فجأة وشهقت بهلع عندما شاهدته يقف عند الطاولة في الظلام، همست بتأتأة: أ.. أنت هنا!
بلع غصة كانت تخنقه وأشار لها بالجلوس: العشاء جاهز.
تأملت الطعام على الطاولة وقالت بحيرة: عدت سريعا!
استمر في ترتيب الأغراض أمامه بوجه متجهم: المطعم بالجوار.
استغربت لهجته الجافة في ليلة كهذه لكنها لم تبدي أي ردة فعل واكتفت بسحب كرسيها بما أنه لم يهتم بإظهار بعض اللباقة رغم أنه هنا يعاشر طبقة مميزة من المجتمع بحكم منصبه.
قرب منها ما تحتاجه وراح يتذوق طعامه وعيونه على طبقه وكأنها وتد في الأرض أو حجر... لم يهتم بسؤالها عن عائلتها ولا كيف كانت رحلتها ولا عن أخبار أمه... بدى لها أكثر من جاف... اتهمته سرا أنه متغطرس وحدقت فيه بعيون ساخطة، وصادف أن رفع نظره إليها في تلك اللحظة فاستطاع أن يقرأ ما كان يختلجها على حين غرة.
داهمته ابتسامة متسلية جعلتها تعبس باستياء وهو منشغل بالتقاط الطعام بشوكته دونما اهتمام.
بعد تفكير قصير قررت أن تفتح الحوار معه: بيتك جميل..
حملق في المكان من حوله وقال بفرنسية طليقة: لطف منك...
كزت على أسنانها من تعجرفه الواضح ومنحته ابتسامة مصطنعة حرصت أن تبثه فيها بعضا من البرود الذي ينتابها تجاهه.
صمت لبرهة ثم قال: سأصحبك معي صباح الغد لتري ابنك...
تبدلت كل ملامحها فجأة ولمعت عيناها ببارق من الدموع قبل أن تهمس له بقلب ملتاع: كيف هو؟
كانت تريد أن تسأله عنه منذ أن رأته في المطار لكنها لم تجرؤ... خشيت أن يفكر في أنها تعتبره الجسر المتين الذي سيوصلها إليه ليس إلا...
عندما رأى كم الحزن الذي تحمله عيناها تعامل معها بشيء من الرأفة وتابع مطمئنا: عليك أن تفرحي... لقد اجتاز الأسوأ... بعد أن يُشفى من الجراحة تماما سيكون العلاج التأهيلي ضروريا لمثل حالته... وقد أخبرت آدم أنه من الأفضل له أن يتابع علاجه هنا وقد أبدى موافقة مبدئية.
كان شديد الحرص على مراقبة ردة فعلها عندما جاء على ذكر آدم، وكانت هي ذكية بما يكفي لتبدي عدم اكتراثها به...
صمتا لبرهة وهي تغوص بفكرها متألمة والدموع تغزو مقلتيها لتهمس بحرقة: اشتقت له...
رفع رأسه متسائلا: لمن؟
استاءت من منحى تفكيره وردت عليه بجد: لمجد طبعا..
أبدى تفهمه: إفتراقكما كل هذا الوقت ليس بالشيء السهل... لقد سألنا مرارا عنك وطلبك أكثر من مرة لكنني كنت أرفض إخبارك بهذا حتى لا تتألمي. وحتى عندما كنت أسمح له بمحادثتك كنت آخذ منه الهاتف قبل أن يبدأ بالبكاء...
تساقطت الدموع من عينيها حارقة فمد يده بلا تفكير ومسحها بأصابعه: لا تبكي... ستفسدين بهاء عيونك.
ملمس أصابعه الدافئة فوق خدها أرسل في أعماقها قشعريرة جعلتها تتأمله بتركيز وهو يتغزل بعيونها بطريقة ضمنية...
استعذب لحظتها منظرها البسيط والفاتن في آن معا... كانت خصل شعرها الغامق متلاصقة بفعل بعض البلل وعيونها بريئة من دون أي تلوينات إضافية... أنفها الصغير المحمر من البرد أو البكاء... وشفاهها رقيقة وردية أغرته لحظتها بقبلة خاطفة، لم يجرؤ على سرقتها إشفاقا على كرامته التي داست عليها عندما ألقت بذلك الثوب أرضا وهشمت بداخله خيالات لليلة العمر.

انتهى العشاء ورتبا المطبخ معا ثم اقترب من الموقد وراح يحضر له بعض الشاي: تشربين؟
أجابته متأملة لما يفعله: لا.. شكرا.
أعد فنجانا لنفسه ودخل غرفة الإستقبال لمشاهدة التلفاز مثلما يفعل عادة في الوقت الذي كانت فيه تجفف شعرها وتحسن من طلتها.
ارتدت أخيرا ذلك الفستان الذي كرهت لونه الأحمر فور أن شاهدته لأنه يعبر عن الإغراء بوضوح، في حين أن أمها قالت أن الرجل مثل الثور عندما يشاهد هذا اللون!
تأملت نفسها في المرآة لوهلة تدقق في منحنيات جسدها... منذ متى يا ترى لم تتأمل شخصها كأنثى!... مضى زمن طويل منذ أن وقفت قرب المرآة تتزين لرجل... ولم يكن في حياتها رجل غير آدم... وشقيق هذا الذي دخل حياتها الآن.
من الجيد أنهما لا يتشابهان في شيء... هكذا لن يذكرها بماضيها التعيس ولن تستحضر صور آدم وهي تتأمله...
دخلت حيث هو وسارت حافية على السجاد والوثير حتى وقفت بالقرب منه، التفت إليها بنظرة سريعة رست فيها عيونه على طلتها البهية... كانت تجمع دائما بين البساطة والفتنة... ليس ضروريا أن تكون المرأة خارقة الجمال لتغوي رجلا...
طال تأمله لها بإعجاب شديد ومد يده إليها فتمسكت به ليسحبها إليه برقة ويجعلها تجلس على فخذه.
استطاعت حينها أن تنظر لعيونه العسلية عن قرب وتشاهد خصلات شعره الأسود الذي خالطه بعض الشيب فزاده وقارا... كانت ملامحه متناسقة تعطيه منظرا محببا ارتاح له قلبها فورا...
على ذلك القرب منه كانت أصوات أنفاسهما هي أكثر من يُسمع... فكر في أن يسهر هناك حتى يغلبها النعاس في الغرفة لينام هو أيضا ملغيا كل خططه لهذه الليلة، لكنها الآن أوقعت بنفسها بين يديه...
قبلها على مهل مستلذا طعم أنوثتها بين ذراعيه وكانت هي كمن يعيش اللحظة لأول مرة... تلك الرغبة... اللهفة.. والاشتياق... شيئا ما يجعلها تؤمن أن هذا الرجل يريدها لذاتها دون أن يجمعهما أي حب ولا سنوات عشق... على الأقل عندما شرعت أبواب قلبه لم تجد بالداخل أحد! إن الساحة خالية تماما أمامها... في تلك اللحظات المحمومة كانت تفكر في أنه عليها أن تستثمر في هذا الزواج علها تعيش أياما سعيدة.
تأمل احمرار خدودها وهي تداري نظراتها عنه، وابتسم بحب: ما بك؟
كانت تفكر في أنها لم تعش يوما شعورا مماثلا مع آدم... تراها حصلت على الشغف الذي كانت تبحث عنه!..
نظرت إليه وعلى ثغرها ابتسامة ساحرة ثم همست له بخجل: ألن نصلي أولا آدم؟
نسيت تشابه الأسماء، هو هيثم وليس آدم!.. كانت زلة لسان لم تنتبه لها إلا عندما تجهمت ملامحه وشعرت بفتور يتملكه... توسعت عيونها بدهشة ولعنت نفسها سرا قبل أن تتمتم شفاهها بسذاجة: لم أقصد...
اختفى كل البريق من عيونه ليقول ببرود وابتسامة سخرية ترتسم على شفاهه تخفي انكسار تطلعاته للمرة الثانية: الأفضل أن تنامي... أنت متعبة بما يكفي لتراودك الهلوسات...
اعتذرت بشدة: هيثم... أنا آسفة لم أقصد... لم أقصد...
وضع كفيه على خصرها ليتمكن من رفعها بعيدا: لا بأس، ليست مشكلة.
واضح أنه يتعامل مع الموضوع بسطحية وتجاهل، وقفت بقربه وتمتمت برجاء: لم تغضب صحيح؟
غيره كان سيحطم أسنانها بكل تأكيد!... لشدة تآكله من الداخل ومحاولته أن يهدأ ظاهريا أصبح الأمر أشبه بسخرية وضعه فيها القدر وجلس متفرجا عليه يناقض ذاته...
مدت إليه يدها وهمست بخجل: سنصلي معا...
رفع طرفه إليها بجد: صلي وحدك... واخلدي للنوم.
ناظرته بعتاب حمله على الشعور بالذنب لوهلة، ثم أردف بعصبية: أنا لن أعاشر زوجة أخي... لا أستطيع!
توسعت عيونها في نظرة متألمة واحتجت مستنكرة: تطلقنا منذ ستة سنوات!..
رد عليها بصرامة: مازال يعيش بمخيلتك!... أعرف أنك أحببته حبا جنونيا رغم أنه تخلى عنك!
صرخت فيه بانفعال: ليس صحيحا... لقد عرض علي الزواج وأنا من رفضته.
قال بثقة: لأنك تعلمين أن رحاب بينكما... وإلا كنت ركضت إليه حافية...
صرت على أسنانها بغيض والدموع تسبقها من شدة تراكم الآلام بقلبها لتنهره مغالبة نشيجها: لا تقل هذا... لم أكن أقصد ما قلته، كانت زلة لسان ليس إلا...
عقد ساعديه أمامه وقال ببرود: أقسمي على أن مخيلتك لم تستحضر صوره...
التزمت الصمت التام وهي تمسح دموعها وتحاول أن تهدأ دون جدوى فهز رأسه بملل وأردف: على العموم ما كنت لأصدقك حتى وإن أقسمت...
قال هذا وقام من جلوسه متجها إلى باب المنزل فأخذ معطفه الأسود والتفت إليها قبل أن يخرج: الأفضل أن تنامي لأننا سنخرج باكرا غدا...
♡♡♡♡♡
استيقظت صباحا وكانت لوحدها في الغرفة، هيثم قضى ليلته على الأريكة... انتظرته البارحة طويلا حتى عودته ولم تبارح مكانها حتى شعرت بأنه قد غفى.. غطته ببطانية دافئة ورجعت إلى غرفتها... وأسوأ مما حصل بينهماتلك الليلة هو رائحة الكحول التي كانت تفوح منه!

توجهت إلى الحمام، وقبل أن تحرك المقبض انفتح الباب بوجهها فارتعبت وقفزت في مكانها.
كان هيثم يلف نصف جسده بمنشفة وقد انهى استحمامه للتو، أخفضت بصرها حرجا وابتعدت من طريقه فتأملها للحظة ثم قال: استعدي سنغادر بعد نصف ساعة.
أومأت موافقة فتوجه نحو الخزانة لينتقي ثيابه بينما دخلت هي إلى الحمام وأقفلت الباب من خلفها.
جهز كلاهما وتركا الشقة بتجاه موقف السيارات. ارتدت ثيابا أنيقة كانت قد انتقتها بعناية من أغلى المحلات بالبلاد مع شال مناسب لفته حول شعرها وحذاء مريح ناسب طلتها. تمنت أن تسمع إطراءه على منظرها لكنه لم يعلق بكلمة... فقط طلب منها أن تسرع الخطى حتى لا يتأخرا.
فتح لها الباب الأمامي لتركب ثم ألقى بحقيبته في المقعد الخلفي وجلس بجوارها. كانت تتأمله بين الفينة والأخرى وهو يقود بسلاسة في صمت، حتى قرر أن ينطق: هذه هي باريس... وذاك قوس النصر..
سيلعب دور المرشد السياحي... عليها أن تتقمص دورها الآن: هل يمكننا رؤية برج إيفل.
رد عليها دون أن يلتفت: سآخذك لزيارته قريبا وسنقتطع تذكرتين لنصعد حتى الأعلى... لكن أسوأ ما فيه اكتظاظه بالسواح قد ننتظر لساعات قبل أن يحين دورنا.
ابتسمت معجبة بخططه ثم أكملت فقط لتجعله يتحدث إليها: أريد زيارة متحف اللوفر...
التفت إليها مبتسما: هل أنت مهتمة بالآثار؟
تجاوبت مع ابتسامته بأخرى أكثر رقة: لدي ثقافة وإلمام بمختلف الأمور فإحدى هواياتي المفضلة هي المطالعة في مختلف المجالات... خصوصا بالتاريخ.
رفع حواجبه بإعجاب: هذا جيد... أحب المرأة المثقفة... لأنها تجد دائما ما تقوله ولديها إلمام بكل المواضيع... سيخدمك هذا كثيرا عندما تخرجين معي خلال المناسبات الاجتماعية...
سألته بفضول: هل هي كثيرة تلك المناسبات؟
أجابها وهو ينعطف بالسيارة: هناك مناسبات معينة للمقربين مني أحب حضورها... وهناك دعوات كثيرة أتجاهلها تحت أي حجة...

وصلا إلى المستشفى وقام بمرافقتها إلى جناح جراحة العظام أين يتواجد مجد.
في تلك الأروقة كان يتبادل التحية مع بعض الأطباء والموظفين وهي تراقب المكان بفضول وترقب. عندما وصلا إلى الغرفة طلب منها التريث ودخل قبلها مكلما مجد وسمعته يقول له: مجد... أحضرت المفاجأة التي وعدتك بها...
وصلها صوته الطفولي الذي بدى لها متعبا وهو يسأل أين المفاجأة، فسبقتها دموعها وهي تتحرق شوقا لضمه إلى صدرها.
خرج إليها من جديد وابتسم فور مشاهدته لعبراتها... يعلم أنها واحدة من أجمل اللحظات في حياتها وأكثرها إيلاما. وضع كفه على ظهرها وقربها منه حتى ضمها مواسيا: لا يجب أن يراك بهذا الشكل.
أومأت موافقة وراحت تمسح دموعها، وعندما أحس أنها استرجعت هدوءها قال مؤكدا: لا تحركيه... ولا ترفعيه إن أردت ضمه.
ثم فتح لها الباب وتركها تدخل وحدها مراقبا لها وهي تسير بتشنج قبل أن يصرخ مجد: أمي...
وتركض باتجاهه.
وصل آدم فالتفت إليه هيثم، وقال بعد صمت: صباح الخير.
ردها عليه بجمود... لقد شاهده يضم صفاء قبل قليل... كانت يده تمسح على ظهرها بكل جرأة غير مبال بعيون المارة، ولا عيونه هو التي اتقدت نارا وعصفت بغضب.
يتبع...

noor elhuda likes this.


التعديل الأخير تم بواسطة rontii ; 26-09-21 الساعة 12:04 AM
بريق أمل غير متواجد حالياً  
التوقيع
موضوع مغلق

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:42 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.