آخر 10 مشاركات
جددي فيني حياتي باللقاء *مميزة ومكتملة* (الكاتـب : وديمه العطا - )           »          منطقة الحب محظورة! - قلوب أحلام زائرة - للكاتبة::سارة عاصم - كاملة+روابط (الكاتـب : noor1984 - )           »          دين العذراء (158) للكاتبة : Abby Green .. كاملة مع الروابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          [تحميل] حصون من جليد للكاتبه المتألقه / برد المشاعر (مميزة )(جميع الصيغ) (الكاتـب : فيتامين سي - )           »          وإني قتيلكِ ياحائرة (4) *مميزة ومكتملة *.. سلسلة إلياذة العاشقين (الكاتـب : كاردينيا الغوازي - )           »          رهينة حمّيته (الكاتـب : فاطمة بنت الوليد - )           »          ليلة مع زوجها المنسي (166) للكاتبة : Annie West .. كاملة (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          طريقة صنع البخور الملكي (الكاتـب : حبيبة حسن - )           »          كما العنقاء " مميزة ومكتملة " (الكاتـب : blue me - )           »          في بلاط الماركيز(71)-غربية-للكاتبة:منى لطفي(احكي ياشهرزاد)[حصرياً]كاملة بالرابط -مميز (الكاتـب : منى لطفي - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > شـرفـة الأعـضـاء

Like Tree31Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 04-10-21, 12:14 AM   #1

AyahAhmed

كاتبةفي منتدى قصص من وحي الاعضاء


? العضوٌ??? » 451462
?  التسِجيلٌ » Aug 2019
? مشَارَ?اتْي » 1,566
?  نُقآطِيْ » AyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond repute
افتراضي مشهد إضافي رواية لقيــــاك لي المأوى


مســـاء الخيـــــر

ستيم نشر المشهد الإضافي من رواية لقياك لي المأوى في غضون دقائق بإذن الله...


AyahAhmed غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-10-21, 12:29 AM   #2

AyahAhmed

كاتبةفي منتدى قصص من وحي الاعضاء


? العضوٌ??? » 451462
?  التسِجيلٌ » Aug 2019
? مشَارَ?اتْي » 1,566
?  نُقآطِيْ » AyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond repute
افتراضي مشهد لقياك لي المأوى








مشهد إضافي




الحنين..
شعور يكتسح الشخص المشتاق لأشياء و أناس أعتاد رؤيتهم.. يتضخم داخل النفس حينما تبعدك الأيام عنهم عنوة أو بدون.. حينما تنخلع من جذور منشأك و تُجبَر أن تغرس جذورك في مكانٍ آخرٍ.. و رغم أنه لم يكن يؤمن بهذه المشاعر أو يكيل لها وزنًا إلا إنه يحن لكل شبرٍ هنا...
آه يبدو أنه حقًا يشتاق!
واقفًا عند مدخل الحي يتفحص الناس المشغولين عنه.. وجوههم لم تتغير رغم أنه لم يقابل مألوفًا حتى الآن.. حركتهم الدائمة حوله تشعره بأن سريان الحياة هنا لم يقف للحظة بل استمر في التدفق ليخلق جيلًا جديدًا...
أغمض عينيه ببطء حينما داعبت نسائم البحر الرطبة أنفه.. كم يفتقد هذا الهواء الذي شبَّ عليه.. سحب نفسًا عميقًا و كأنه لا يسحب لرئتيه مجرد هواء بل هو يسحب الحياة.
(داغر!)
فتح عينيه بتروٍ حينما وصله صوت عزت المُرحِب.. اقترب عزت يضمه إليه بقوة تبلغه سعادته رغم نبرة العتاب في صوته.
(حمدًا لله على سلامتك داغر.. لكنني عاتب عليك كنا نتلهف لرؤيتك فور خروجك فلماذا اختفيت و أين كنت؟)
ابتعد عنه قليلا ينتظر رده الذي جاء هادئًا..
(كنت أزور قبر هدير و بعدها أردت أن أبقى بمفردي)
خيم الحزن على عينيّ عزت و هو يراقب نظرات داغر المتألمة و صوته الذبيح.. ربت على كتفه بمؤازرةٍ يهمهم..
(رحمها الله..)
ثم أكمل سريعا بلطفٍ مُرحِبًا ليخفف عنه..
(هل ستذهب لبيت السمري أم أبلغ أهل بيتي بأن يحضروا الغداء)
ارتفعت نظرات داغر لتعبر كتف صاحبه و ينظر تجاه مسجد الحي قائلًا بإصرارٍ واضحٍ..
(لا.. لقد جئت لأرى الشيخ عثمان و سأرحل)
(الشيخ عثمان!)
التعجب البادي في صوت عزت دبَّ القلق في قلب داغر الذي تحفزت ملامحه و هو يعود بعينيه لصاحبه متسائلًا بترقبٍ...
(ما به الشيخ عثمان؟!)
جاوبه عزت بنبرة توضيحية بعدما لمح القلق في صوته...
(الشيخ بات كهلًا و لا يقوى على ترك بيته)
ضيق داغر عينيه بأسى يهمهم...
(لم يعد شيخ المسجد!)
تنهد عزت يقر حقيقة يعرفونها...
(إنها تسع سنوات يا داغر.. فترة كفيلة بتغيير كل شيء)
ابتلع داغر ريقه يعيد توازنه فالشيخ عثمان هو نقطة التحول التي بدلت حياته كليًا.. كيف لو فقده؟!.. يشعر و كأنه سيتوه في الأرض كما كان تائهًا عمرًا طويلًا!.. سأل عزت بقلة صبرٍ
(هل حالته صعبة؟!.. ثم لماذا لم تخبرني عن وضع الشيخ اثناء زياراتك لي في السجن؟)
رفع عزت كتفيه يقول بتعجبٍ..
(أنت لم تسألني عنه.. أصلًا بالكاد كنت تتحدث معي.. كل همك كان توصيتي بتوزيع المال على المحتاجين باسم هدير المراكبي!)
فلتت انفاسه مهزوزة و هو يهمهم..
(حاجتي الماسة إليه جعلتني أظن أنني سأجده كما تركته)
انهى همسه الذي لم يسمعه عزت ثم تحرك يتخطى صديقه بعزيمةٍ تطل من عينيه..
(إلى أين؟!)
سؤال عزت المتعجب لم يوقفه بل جاوبه و هو يكمل خطواته..
(إلى بيت الشيخ عثمان.. احتاج أن أراه)
ابتعد قليلًا عن عزت لذا علا صوت الأخير يسأله بعدم فهم..
(ألن تذهب إلى بيت والدك؟!)
(فيما بعد)
بصوت متعجل نطق داغر هاتين الكلمتين قبل أن يسرع في طريقه يشقه متلهفًا لرؤية الشيخ عثمان.. إنه بحاجته كما لم يحتج شخصًا من قبل.. لقد صبر سنوات طوال حتى يحين اللقاء معه.. تحمل هواجسه و كوابيسه بصدرٍ رحبٍ آملًا أن يأتي اليوم و يُفضي للشيخ بكل ما أرّقه و يؤرقه.. كم يأمل أن يمنحه الله فرصةً ثانيةً ليراه!!..
***
وقف أمام باب بيت الشيخ يتنفس بوتيرةٍ سريعةٍ مهابةً و قلقًا.. لن يكذب أنه يرتعد من إجابة سؤاله.. يود لو يطرحه من قبل سنوات و في نفس اللحظة يخشى أن يُجاب عليه.. يخشى عليها.. كفاه المستريحان بجانبيه يصعدان و يهبطان ببطءٍ على بنطاله و كأنه يمسح عرقًا تصبب توترًا و جزعًا!.. تقدم خطوة إضافية يُبلغ نفسه لا بد من لقاء الشيخ ثم رفع كفه يدق الباب و ينتظر.. لحظات قلائل و فُتح الباب فتحةً صغيرةً لتُطل منه رأسٌ مغطاه بوشاحٍ أبيضٍ تسأل بخفوتٍ..
(من؟)
تنحنح مجيبًا بصوتٍ متحشرجٍ..
(هل الشيخ عثمان بالداخل؟)
وصله صوتها الخافت تجيب بهدوءٍ..
(نعم.. من يريده؟)
زاد توتره فجأة و كأنه مُقبِل على امتحانٍ صعبٍ فخرجت حروفه مهزوزةً و هو ينطق اسمه.. كأنه خائفًا من تذكير الناس بمن كان عليه يومًا!
(داغر.. ابلغيه أن داغر السمري يريد رؤيته)
لمح التغيّر الواضح في نبرةِ صوتها و كأنها كانت تنتظره!..
(داغر السمري!..)
ضيق عينيه و قد قلَّ توتره بشكلٍ ملحوظٍ ليردد بترقبٍ..
(نعم.. هل يمكنني زيارة الشيخ؟)
عاد اتساع عينيه لحجمه الطبيعي و هو يرى الباب يُفتح كاملًا بينما الشابة تقف خلفه تقول برجاءٍ..
(بالطبع.. خالي ينتظرك منذ فترة طويلة)
و قبل أن يستوعب ما قيل أو يسأل التفسير عنه وصله صوت امرأة ظهرت أمامه قد ارتدت وشاحًا مماثل للشابة تتساءل..
(مع من تتحدثين يا حفصة؟!)
التفتت الشابة تجيب بنبرةٍ بشوشةٍ..
(إنه ذلك الشاب الذي يسأل عنه خالي دومًا أمي.. داغر السمري)
تفهمت المرأة مقصد ابنتها فابتسمت له بترحيبٍ تقول..
(تفضل بني..)
تلكأت خطواته قبل أن يدلف قائلًا بحرجٍ..
(السلام عليكم.. لا تؤاخذيني يا حاجة جئت دون ميعاد لكنني بحاجة الشيخ)
شعر بالشابة تبتعد للداخل بهدوءٍ بينما ردت المرأة سلامه دون أن تتغير بسمتها السمحة..
(و عليكم السلام و رحمة الله.. لا تعتذر بني الشيخ لا ينفك يسأل عنك)
ارتجف قلب داغر و نفسه يراودها سؤالٌ هل يعرف الشيخ عن حاله؟!.. انتبه لصوت المرأة و هي تدعوه بينما تؤشر على غرفةٍ ما..
(تفضل حيث غرفة الشيخ فهو ملازم للفراش و يتركه بصعوبةٍ)
اومأ لها شاكرًا ثم تحرك تجاه الغرفة.. طرق الباب بقلبٍ تتقاذف دقاته لكن صوت المرأة خلفه جاء منبهًا..
(أدخل بني ربما لن يُجيب ليأذن لك بالدخول)
التفت يناظرها بعدم فهمٍ جعلها تردف بنبرةٍ لمح فيها الوجع..
(الشيخ بات مؤخرًا ينسى و ينعزل عن الدنيا حوله يسرح في ملكوتِ الله الواسع)
رجفة أخرى أصابت قلبه بعدما سمع ما قيل.. هل نسيه الشيخ؟!.. الشعور بكونك أخف من وزنِ ريشةٍ هو ما يعتمل صدره الآن.. عاد ينظر لباب الغرفة ثم مدَّ كفه يدير مقبضها بأنفاسٍ ممتزجةٍ بالرهبة..
***
فتح الباب فلفحت بشرته ريحٌ ليست باردة و لا حارة.. و قد تنعمت مستقبلات الشم لديه برائحةٍ عطرةٍ لم يشمها من قبل.. وقعت عيناه على الشيخ عثمان المستريح في سريره مستندًا بظهرهِ على الوسائدِ خلفه و رأسه مرتفعة للأعلى يناظر سقف الغرفة بابتسامةٍ مطمئنةٍ و مستبشرةٍ.. تردد شفتاه بهمسٍ مسموعٍ وصل لقلب داغر قبل أذنيه..
(اللهم صلِّ و سلم عليك يا رسول الله.. الحمد لله الذي منَّ علي بهذا)
للحظاتٍ وقف داغر مشدوهًا فاقدًا القدرة على فعل أي شيء سوى التحديق في الشيخ و ما يفعل.. ترى هل يتواجد مع الشيخ أحد؟!.. هل أجواء الغرفة المريحة هذه ريح طيبة ليست بفعل بشرٍ؟!.. سبحان الله الذي يختار عباده الصالحين و يهبهم أمنًا تستكين معه القلوب.. من شدةِ التأثر نطق لسانه غير مصدقًا دون وعي..
(شيخي!...)
اتسعت عينا داغر و هو يرى الشيخ يرمش بعينيهٍ بانتباهٍ.. و كأنه كان في حلمٍ و قد أيقظه منه للتو.. أنزل الشيخ رأسه لوضعها الطبيعي يهمس بصوتٍ عذبٍ رغم كونه يبدو غير مدرك تمامًا..
(نعم يا عبد الله..)
تقدم داغر خطوتين للداخل مستغربًا مناداة الشيخ له بهذا الاسم.. فبدأ يؤشر على نفسه مُذكرًا الشيخ..
(ألا تذكرني يا شيخ.. أنا داغر)
ابتسم له الشيخ بهدوءٍ جعل داغر يتيقن بأنه نسيه.. ابتلع ريقه و نكس رأسه أرضًا يقول بخزيٍ من نفسه السابقة..
(داغر يا شيخي.. ذاك الشاب الطالح الذي أفسد كل شيء و الذي نسي أنه مجرد بشر زائل.. ذاك الذي حطم أرواحًا بريئةً لا ذنب لها.. و جاءك ذات يوم يحمل ذنوبه فوق ظهره فربت على روحه و أريته الطريق)
رفع عينيه سريعًا للشيخ الذي بدا على صوته قمة الإدراك و هو يقول بتركيزٍ ينافي الحالة التي كان عليها قبل لحظات..
(كُلنّا عباد الله بني.. تعال يا داغر لقد طال انتظاري لك)
شقت بسمةٌ مرتعشةٌ شفتيه و قد ألحت عليه قدماه بأن يتقدم و ينهل من هذا النور الساطع حول الشيخ.. هنا سيجد الراحة و يبكي قدر ما يشاء.. همس بنبرةٍ مهتزةٍ لم يقوَ على منعها..
(أنت تذكرني يا شيخ!...)
وصل حتى السرير فكان قريبًا كفايةً ليرى وجه الشيخ عثمان.. من قال أن العمر يحفر خطوطًا متعرجةً على الوجوه تبدل الملامح لأخرى غير محببة.. بل هنا على وجهٍ سجد لله عمرًا مديدًا زادته التعرجات قبسٍ من الضياء.. تكلم الشيخ بنبرته العذبة..
(جعل الله لك من ذاكرتي نصيبًا...)
ثم ربت بكفه المرتعش على السرير طالبًا من داغر أن يقترب أكثر.. و قد فعل دون تردد ليتمسك بكفِ الشيخ بقوةٍ فيسمعه يسترسل بما يهز روحه..
(أبلغني ما تريد داغر فسبحانه يُسخر الناسَ للناسِ ليقضوا حوائجهم بفضله علام الغيوب)
شدد داغر من تمسكه بيد الشيخ و قد تكدست الدموع في عينيه قبل أن يلقي قوله لقلبٍ اصطفاه الله كالشيخ عثمان.. نطق بصوتٍ مختنقٍ كلمتين لا ثالث لهما..
(خائف شيخي...)
سحب الشيخ نفسه بصعوبةٍ تلائم سنه الهرِم و أمراضه ليقول بخفوتٍ..
(لقد دلّك الله إلى طريقه فمن يخاف و هو في رحاب الله.. لا تُسلم نفسك لوساوس الشيطان)
هز داغر رأسه و قد اغرورقت عيناه فقال...
(لست خائفًا على نفسي يا شيخ فو الله حالي بعدما قابلتك في المسجد قبل تسع سنوات لهو فضل من الله علي لم أكن اتخيله.. لكنني خائف على هدير)
صمت قليلا ثم عاود النطق بصوت مختنق و قلب يحترق...
(على مدار سنوات سجني يا شيخ تراودني عنها أحلام توجع قلبي.. لقد منحني الله فرصةً لأتوب و أستغفر أما هي.. لقد ماتت قبل أن تُمنح فرصتها)
عض على شفتيه يوقف ارتعاشهما ليكمل بحروف تتفتت رعبًا...
(تأتيني في احلامي يا شيخ بدموع تلطخ وجهها.. تمد يدها إلي و تردد كلمة واحدة "انقذني" و كل مرة أعجز عن انقاذها.. بذلت كل جهدي لأتصدق على روحها لكن الحلم لا يتركني.. إنها غير مرتاحة يا شيخ و أنا الذي كنت سببًا في كل ما مرت به مُنحت فرصةً جديدة!!)
رفع وجهه للشيخ الذي يتابعه بسكينةٍ ليسأله برجاءٍ ألا يجيبه بما يخشاه..
(هل.. الله غير راضيًا عنها؟!.. هل تتعذب في قبرها يا شيخ؟!)
من خوفه لم يمنح الشيخ فرصة ليجيب بل أخذ يردد بصدق تام..
(لو كان كذلك فأنا من يستحق العذاب.. هدير كانت ضحيتي.. و اللهِ أشهد أنها كانت نقية كما فطرها الله و أنا من لوثها.. أنا من أقنعها أنها زوجتي و ما نفعله حقنا.. أنا يا شيخ أنا من يموت قهرًا عليها و على مصيرها.. أرجوك اخبرني كيف انقذها و اتحمل نتيجة جرمي؟!)
رفع وجهه للشيخ منتظرا أن ينطق بالمحتوم فقال بيقين لا يتزعزع...
(الله فاطر السموات و الأرض خلقهن و سيّر أمورهن كل شيء عنده بمقدار لا يظلم أحدا.. وحده يعلم ما تخفي النفس و خائنة الأعين و حده جلى في علاه يعلم مصائرنا.. وحده بني.. نعيش الدنيا بالقدر الذي يمنحه لنا سبحانه منّا من يظن أنه يحسن صنعًا و لكنه خاسر و منّا من يعصي الله و لكن عند لحظة يختارها الله يهديه و يبدل سيئاته حسنات فيكون من الفائزين.. وصف نفسه بالرحمة و جعلها تغلب غضبه لأنه عليم بضعفنا و نفوسنا.. هل تظن أن الرحمة و الشفقة التي أوجدها في قلبك على زوجتك و التي دفعتك لتستغفر لها و تتصدق عليها أكبر من رحمته هو؟!.. هل تظن أن شعورك بالخوف عليها انتابك عبثًا؟!.. لا و الله إنها تدابير ربك العظيم)
ابتلع داغر ريقه يسأله بقلب ينبض بجنون..
(هل تقصد أن الله غفر لها؟!)
اتسعت ابتسامة الشيخ ليردف...
(سبحانه لا يمنح علمه لأحد...)
توجس داغر فسأله بترقب...
(ماذا تقصد يا شيخ؟!)
رفع الشيخ عينيه للأعلى مجددا ليردف بصوت تغيرت نبرته.. و كأنه عاد لرؤياه
(إنها بين يدي الله هو أرحم بها منّا جميعا.. لا نملك سوى أن ندعوه و هو لطيف خبير.. فقط لا تدع الشيطان يتحكم بك و اطرده بذكر الله)
تنفس داغر بسرعة و صوت الشيخ يخفت و يده تتراخى من تحت كف داغر و يبدو سيغيب عما حوله فسأله بعدم فهم مرتعد...
(و الأحلام يا شيخ التي تراودني ماذا عنها؟!.. كلها يا شيخ تخيفني على هدير!!)
ثبتت عينا الشيخ على سقف غرفته ليجيب...
( استعن بالله عليها.. إنها تنبع من داخلك أنت)
أفلت داغر كف الشيخ يناظره طويلا.. هل حقا احلامه المخيفة عن هدير كانت تُنسج من شعوره بالذنب نحوها.. هل يستغل الشيطان شعوره بأنه لا يستحق أن يُمنح فرصة ثانية و يتسلل منه اليه ليزرع في قلبه الشك في رحمة الله؟!!...
رفع كفه يمسح فوق وجهه و قد أشفق على الشيخ و حاله كثيرا.. فمال بجسده نحوه يهمس بترقب فلا يعرف هل يشعر به الشيخ الآن أم ماذا..
(شيخي دعني أساعدك و انقلك الى المشفى حالتك الصحية تبدو غير مستقرة!)
دون أن يزيح عينيه عن سقف الغرفة جاوبه بهدوء...
(إنه العمر بني و قد اوشك على النفاذ..)
اعترض داغر قائلا بقلق..
(لا تقل هذا شيخي..)
بعذوبة تقطر منها الاشتياق جاوبه الشيخ..
(آه و شوقا لنظرة ربي)
اغمض داغر عينيه تأثرا فهمس برجاء..
(امنحني فرصة أرد بها صنيعك معي يا شيخ.. كيف أرد معروفك اخبرني؟)
همهم الشيخ بخفوت يكاد يُسمع...
(سيلهمك الله بالطريقة المثلى لتفعلها...)
تابع داغر ابتسامته العذبة التي ملأت وجهه و هو يناظر السقف و بدأت همساته تتردد من جديد...
(اللهم ربي سبحانك.. الحمد لله.. الحمد لله)
***
خرج داغر من غرفة الشيخ بوجه بدا عليه التأثر الجلي.. صادف المرأة التي استقبلته فوقف قبالتها قائلا بجدية...
(الشيخ يحتاج لرعاية صحية في مشفى)
هزت المرأة رأسها بيأس تردف بعينين دامعتين
(إنه يرفض بني حتى الحاج سليمان المراكبي لم يتمكن من إقناعه بالمكوث في المشفى)
تنهد داغر بقلق على الشيخ ثم نظر إليها مليًا قبل أن يعرض عرضه الجاد...
(أعذريني يا حاجة لكن إن كانت الأحوال المادية سببا فأنا كفيل بكل شيء منذ يدخل الشيخ المشفى حتى يخرج منها معافى بإذن الله)
اتخمت عزة النفس حدقتيها و هي تردف ببسمة بشوشة...
(مستورة بني نحمد الله)
عاد داغر لحديثه الجاد...
(جميل الشيخ في عنقي حتى يقبض الله روحي فلا تُحرَجي من طلب أي شيء مني.. رقبتي فداء للشيخ و أهله)
اتسعت بسمة المرأة و تحدثت بامتنان..
(سلمت بني.. منذ جئت للعيش مع أخي الشيخ هنا و الجميع يظهر حبه له بشتى الطرق و يعرض المساعدة.. كثر خير الحاج سليمان يتكفل بكل شيء و معاش أخي يكفي بفضل الله)
بنبرة حمائية أردف داغر...
(أنا أحق بخدمة شيخي و أهله.. أدام الله فضله عليكم لكن أرجو أن يكون بابي أول باب تطرقونه إن كانت لكم حاجة تريدون أن تقضوها)
اومأت له المرأة ببسمتها التي لم تتغير بصمت جعله يستأذن ليرحل بعدما أبلغها بقدومه مجددا ليطمئن على الشيخ.. تحرك نحو باب الشقة يفتحه و يلقي السلام مودعا حتى أوقفه صوت الشابة المضطرب و التي خرجت من غرفة ما تشكو لأمها ظنا أنه قد رحل...
(عمي لا يكف عن الاتصال بي هل أبلغ الحاج سليمان مجددا؟!)
ضيق داغر عينيه قليلا بجهل و حواسه الإجرامية مسبقا تنبأه بشيء غير طبيعي.. أغلق الباب بعدما خرج احتراما لحرمة بيت شيخه و بداخله نية أن يعرف ما بهما أخت الشيخ و ابنتها.. إن امتدت يد العون للشيخ و أهله لا بد أن تكون يده هو حتى قبل يد سليمان المراكبي...
***
يسير في الحي بتفكير عميق بأي الطرق يمكنه أن يساعد الشيخ عثمان.. اصطدمت بقدمه كرة لبعض الأولاد الذين يلعبون فرفع بصره نحوهم.. سأله أحدهم بصوت لاهث راجيا..
(أركل الكرة من فضلك)
ابتلع داغر ريقه متأملا وجه الصبي.. يبدو صغيرا لم يتعدَ العشر سنوات بعد.. هل لو مُنِحَ ابنه الفرصة ليحيا لأصبح مثله أليس كذلك؟!.. همهم بصوت مقهور يدع نصيحة الشيخ تأخذ بيده و يدحض شيطانه..
(استعيذ بالله من الشيطان الرجيم)
ركل الكرة لهم بخفة فعاد الأولاد للعبهم.. تنهد و استأنف خطواته حتى شعر بأنه بلغ بيت هدير.. توقف بقلب مضطرب و رفع رأسه يناظر شرفة بيتها المغلقة.. ضيق عينيه بقلق على أمها فتفحص المكان حوله علَّه يجد أحد ما يعرفه و يسأله.. ظل للحظات يصادف وجوهًا غريبة عليه حتى وقعت عيناه على مراهق كان يوما مجرد صبي يلتصق بجلباب هدير دومًا.. و بصوت مهتز نادى له..
(طاهر!!)
انتبه طاهر له فعقد ما بين حاجبيه يمرر نظراته على وجه داغر مليًا.. لم يكن صعبًا أن يتعرف عليه لكنه لم يكن سهلا أن يتقبله بعدما كان سببا في أن تلوك ألسنة الناس قبل سنوات سيرة هدير المراكبي.. تحفز طاهر في وقفته و داغر يقترب منه حتى وصله فسأله بلهجة مترقبة..
(لمَ شرفة أم هدير مغلقة.. ماذا حدث لها؟!)
ناطحه طاهر بعدائية...
(و ما دخلك أنت بها!!)
زفر داغر بغضب و همجية كانت متأصلة به تود لو تعود لكنه يلجمها مردفا بلهجة خطيرة..
(أجب علي فقط)
رمقه طاهر بنظرة مقيتة قبل أن يلقي جملة اصابته في مقتل...
(إنها بالأعلى لا تبرح شقتها تعاني شيخوخة مبكرة بعدما قصم موت ابنتها ظهرها.. إن كنت قادرا على رؤية ذنبك متجليا بها فأصعد لها)
أشار طاهر بكفه للبيت بتشفي لما يراه من نظرات الألم في عينيّ داغر قائلا...
(ها هو البيت أظن لم تنسَه و قد خطوته قبل سنوات لتسرق منه هديـــ....)
انحسرت الكلمة في جوف طاهر بعدما تبخرت صفة الحلم داغر و فلت عقال غضبه.. أمسكه بعنف من تلابيبه يحرقه بنظرات سوداء من عينين تعانيان مُر خسارة هدير.. اهتزت حدقتا طاهر بتوجس ففي هذه اللحظة تجلى له أن إجرام داغر لم يُطمس رغم السنين...
(داغر ما خطبك؟!!!)
صوت عزت المذهول من فعلة داغر دفعه لأن يتقدم منهما و يحاول سحب كف داغر المتشنج فوق عنق الفتى راجيا..
(اتركه يا داغر إنه مجرد فتى صغير)
تنفس داغر بوتيرة متسارعة و ببطء انقشع سواد عينيه كما خفت قبضته حتى أفلت طاهر منها.. تراجع داغر للخلف ينظر بغضب في عينيّ الفتى و يحذره بجدية يود لو يؤكدها للناس أجمع مرارا.. هدير زوجته.. أم ابنه.. و وجع قلبه الذي عاد حيًا بعد موتها ليذوق الموت بخسارتها مرات..
(إن تحدثت عن زوجة داغر السمري فلا تلفظ اسمها مجردا.. أبدًا)
اهتاج طاهر في وقفته فأوقفه عزت بتحذير..
(يكفي طاهر...)
ثم حرك جسد داغر بصعوبة ليبتعد به قليلا عن بيت هدير.. و اثناء سيرهما سأله داغر بصوت مختنق..
(هل صحة أم هدير سيئة؟)
زفر عزت بخفوت يجيب..
(إنها تحت رعاية سليمان المراكبي)
ناظر داغر الشارع أمامه بصمت صاخب بداخله.. إن أمتلك الجرأة لمواجهة العالم أجمع و إصلاح ما أفسد فلا يملك مثقال ذرة من شجاعة لينظر في عينيّ أم هدير.. كيف سيتمكن من الوقوف أمامها و قد سلبها ابنتها الوحيدة و أساء لسمعتها.. يا لها من حياة! هو داغر السمري من كان يعيث في الأرض فسادا غير عابئا ببشر أو ذنب.. كان يقف في وجه الموج و يفتح صدره مرحبا باجتياحه الهائج.. ها هو يقف يعاني ويلات ذنبه في حق أم زوجته!
و لا يعرف لمَ الآن قفزت في عقله صورة الشابة في بيت شيخه فتوقف فجأة يلتفت لعزت بجانب وجهه مردفا بملامح متجهمة و كأنه تذكر شيئا هاما..
(ما هي حكاية أخت الشيخ عثمان و ابنته.. بدا لي أنهما بحاجة لحماية ما و ما عرفته أن سليمان المراكبي يوفرها لهما)
اجابه عزت بما شغل تفكيره أكثر...
(إنها حكاية طويلة يا داغر)
و بإصرار أمره داغر...
(قصها عليّ)
***
نهاية الأسبوع.....
(انقذني داغر...)
انتفض من نومه مفزوعا من هيئة هدير التي تظهر له في كوابيسه تستنجد به.. يتفصَّد جبينه عرقا و انفاسه تعدو خلف صدره.. سياط الذنب تجلد روحه.. ابتلع ريقه بصعوبة و استقام يخرج من السرير يسرع نحو نافذة الغرفة يفتحها و يستنشق الهواء.. احتقنت عيناه بدموع الندم و هو يهمس بوجع..
(كيف انقذك يا هدير.. فقط دليني على طريقة يمكن بها أن أفعل و لن أتأخر)
تذكر صوت الشيخ عثمان و هو يطلب منه ألا ينساق لوساوس الشيطان.. فهمهم يستعيذ بالله منه و صوت أذان الفجر ينساب ليؤنس وحشة ليله.. ابتعد عن النافذة يشمر عن ساعديه متوجها للحمام داعيا بدموع محتجزة في مقلتيه.. و نيران تلتهم حشاه.. و دخان يخنق قلبه فيجعله على شفا حفرة من الموت..
(يا رب أذقها الرحمة التي اذقتني إياها.. أتوسل إليك)
في الصباح...
حمل قدح الشاي الذي أعده لنفسه ليحجم من صداع رأسه فلم يذق النوم منذ استيقظ على كابوسه.. خرج من المطبخ و توجه الى الصالة يجلس على أحد كراسي طاولة الطعام.. أخرج علبة سجائره من جيبه يشعل واحدة بينما يرتشف من الشاي.. زفر الدخان بعقل متخم بأفكاره.. و زاد عليه ما عرفه من عزت بخصوص شقيقة الشيخ و ابنتها.. صحيح لكل عائلة فرع شيطاني يصيب شجرتها بالسقم.. عاود يسحب من سيجارته نفسا جديدا و كلمات عزت تقتحم عقله كأنه سمعهم للتو..
(قبل خمس سنوات سمعنا أن أخت الشيخ عثمان جاءت بصحبة ابنتها المراهقة لتعيش مع أخيها.. و بعد أشهر قليلة جاء عدة رجال يتهجمون على بيت الشيخ يريدون أخذ الفتاة عنوة.. تدخل ابناء المراكبي و تصدر سليمان الصورة مراعاة لمرض الشيخ و سنه و أجبرهم على الرحيل.. بعدها تسربت بين النسوة اخبار بأن هؤلاء هم أعمام الفتاة يريدون الاستيلاء على ميراثها بعد وفاة والدها و يجبرونها على الزواج من أحد ابنائهم.. تكرر مجيئهم مرة واحدة و حينها كان الحاج سليمان أكثر حزما فلم نرهم من وقتها)
شردت عينا داغر بعيدا و تفكيره يعلو و يهبط بين زخم كلمات عزت...
(الفتاة و أمها لا تخرجان من البيت إلا نادرا و الحاج سليمان يوفر لهما طلباتهما و يرسلها مع أحد رجاله.. لا أعرف هل لاحظت أم لا لكنك ستجد رجال المراكبي حول بيت الشيخ تحسبا لظهور أعمام الفتاة من جديد.. لكنني لا أظن انهم سيعودون لقد مرت حوالي ثلاث سنوات على غيابهم)
انهى داغر سيجارته فأطفئها بملامح متحفزة.. و هل له أن ينسى أنه كان لعبة بيديّ ابنيّ عمه اللذين دمراه و جعلاه يدمر من حوله بسبب الميراث!.. ميراث ملوث بدماء عمه الذي استباح والده قتله لينهبه!.. الفتاة تحوم حولها السباع كما يبدو.. بل كما يوقن أنه سيحدث.. همهم بيقين متذكرا صوت ابنة أخت الشيخ عند أول زيارة له و هي تبلغ أمها بخوف عن أعمامها..
(من يستبيح سرقة المال لن يهدأ حتى يحصل عليه و لو بعد حين)
***
في شقة كرم...
خرج كرم من غرفة نومه يثني كم قميصه الأيسر و يتوجه نحو الصالة حيث هاتفه الصادح.. حينما بلغه انحنى يلتقطه و يجيب على سيد ببسمة سعيدة لأجله..
(و عليكم السلام يا سيد.. لا تعتذر نحن استيقظنا بالفعل.. أنا سأبلغ أيوب بنفسي لا تحمل هما)
اتشحت عيناه بحنان و هو يردف بحنين...
(من يصدق!.. كبرت يا سيد و سنخطب لك الليلة)
ضحك بمحبة بعدما لمح الحرج من نبرة سيد فقال بصدق سعيد و نبرة فخورة..
(يا ولد متى مر العمر!.. بغض النظر عن نية أيوب في لكمك متعللا أنك ستعجزنا قبل أواننا إلا أنني شاكر لهذه الفرحة التي تغمر قلبي.. أشعر و كأنني أزف ابني بنفسي يا استاذ سيد)
هذه المرة سمع حشرجة صوت سيد الذي يوشك على البكاء تأثرا قبل أن يهمس بخليط من مشاعر متضاربة يعمها الامتنان لكرم..
(أخي كرم!.. لولاك ما كان ليتحول سوسكا إلى الاستاذ سيد.. أن تضعني في مكانة ابنك شيء يكفيني فخرا لنهاية عمري)
ابتسم كرم بدفء مستشعرا تدفق المشاعر في قلب سيد حتى انتبه لصوت ابنه المهلل و الذي خرج لتوه يطلب منه برجاء...
(أبي هل هذا سوسكا.. دعني أحدثه من فضلك)
نظر كرم لابنه نظرة ذات مغزى ليعدّل من اسم سيد ثم أردف لسيد باستسلام..
(كرم يريد أن يحدثك)
تناول الصغير الهاتف بحماس ينخرط فيه مع سيد..
(صباح الخير.. أنا بخير شكرا لك سوســ.. أقصد عمي سيد.. هل اشتريت لي اللعبة الإلكترونية الذي طلبتها منك..)
ارتفعت نظرات كرم نحو غسق التي خرجت من الغرفة تتفحص حقيبتها بعدما انهت ارتداء ثيابها.. ابتسم بعشق يراقب خطواتها البطيئة نحوه بسبب حملها.. تعلقت عيناه ببطنها البارزة فينبض قلبه بشعور طاغي بالسعادة.. هنا تنمو ابنته من غسق!.. ابنة منها تحمل ملامحها هي.. شعوره لا يمكن وصفه أبدًا.. يشتاق من الآن ليضمها قرب صدره.. ليراقب نموها لحظة بلحظة و يحاوطها برموش عينيه..
(سأغار يا ابن المراكبي)
جملة عتابها الناعم بعدما وصلت إليه جعلته يضحك بخفوت بينما يلامس بطنها بحنان..
(ستغارين لأنني أعشق ابنتي.. أعشقها لأنها قطعة منكِ)
تأوهت غسق بخفوت بعد ركلة قوية من ابنتها فضحكت تشكو بصوت مازح..
(ابنتك تقف في صفك من البداية)
ابتسم بحنان يربت على بطنها مشفقا و يهمس لابنته...
(غالية لا تكوني سبب شقاء أمك فقلب ابن المراكبي معلقا بها)
لامست غسق كفه فوق بطنها تناظره بعينين عاشقتين مردفة...
(لا حرمني الله من ابن المراكبي و حبه لي)
انتبها لصوت كرم الصغير و هو يردف بصخب..
(نعم اتفقت مع إسماعيل أن ننتظرك اليوم لتعلمنا كيف نستخدمها)
أبتعد كرم عن غسق و توجه إلى ابنه يطلب منه بلطف..
(يكفي يا كرم سيد مشغول اليوم و نحن يجب ألا نتأخر فالجميع في بيت جدك ينتظرنا)
اومأ له الصغير ينهي المكالمة مع سيد مشددا عليه أن يفي بوعده الليلة في حفل عيد ميلاد إسماعيل ..
في الحي...
توقفت سيارة كرم أمام بيت والده فأسرع بالترجل.. راقبت غسق سعادة ابنها و راحة زوجها و هما هنا في الحي الذي تأصل داخل أحدهما و ملك قلب الآخر.. تنهدت بأسف فابتعادهم عن هنا كان بسببها.. حينما طلب منهما سليمان أن يرحلا من هنا بعدما عرف بحادثة غسق.. خشي عليها أن يُذكرها المكان و الناس حولها بيوم أليم.. ظن أنه هكذا يعوضها و لو قليلا عما أخفق في فعله من قبل.. و كم كان قرارا حاسما و حساسا جدا أن يجتث كرم جذوره و يبتعد.. لأهله و لنفسه و لها هي وقتها.. لذا صممت أن تبقى في بيت المراكبي حتى وضعت ابنها كرم.. و أجلت الرحيل حتى بلغ الصغير عامه الثالث و بعدها عاود سليمان تجديد طلبه.. و لن تكذب على نفسها كانت شاكرة له فلا تظن أنها ستنسى ما مرت به لأخر يوم في عمرها.. لن تنسى المكان الذي تحطمت فيه و احرقتها ألسن ساكنيه.. لذا انصاعت لرغبة سليمان و ما وجدت من كرم إلا التفهم و الاحتواء..
(غسق أين شردتِ؟!)
سؤال كرم المتعجب جعلها تبتعد عن السيارة و تبتسم له و تردف..
(أفكر في زيارة والداي نهاية اليوم)
اومأ لها بموافقة يطرح فكرته..
(ما رأيك أن ندعوهما ليقضيا اليوم في بيت أبي؟)
هزت رأسها نفيا تجيبه بهدوء..
(سآخذ راحتي معهما أكثر في شقة أبي)
حاوط خصرها يساعدها على اجتياز العتبة الفاصلة بين الشارع و بيت المراكبي قائلا..
(كما تشائين حبيبتي.. حينما أذهب لزيارة أهل عروس سيد ستنزلين معي لأوصلك الى بيت والدك و أحيّهما)
هزت رأسها موافقة و لكنهما التفتا لصوت ابنهما الذي يطلب برجاء...
(أبي سأذهب لإسماعيل عند بقالة الجدة وجيدة)
رفضت غسق بهدوء و هي توضح..
(سلم على جديك و اعمامك و ابنائهم قبل أن تلعب مع إسماعيل يا كرم)
توسلها الصغير بنظرات استجداء..
(لن اتأخر ماما وعد...)
تنهدت غسق برفض لكن كرم حدث ابنه بجدية يقصد بها أن يُشعر صغيره بكونه رجل ذي كلمة و يتحمل المسؤولية..
(حسنا كرم أذهب لصاحبك و لا تتأخر.. أريدك أن تكون في بيت جدك قبل أن يسأل أين كرم)
هز ابنه رأسها شاكرا...
(حسنا بابا.. شكرا لك)
هرول الصغير بحماس نحو صاحبه ليخبره بأنه أكدَّ على سيد ليأتي الليلة و يجلب معه اللعبة الإلكترونية.. و بعدما وصل للبقالة وجد مسرة تقف ببابها فسألها بخفوت..
(صباح الخير زوجة عمي أين إسماعيل؟)
قابلته مسرة ببسمة محبة تجيبه...
(يا صباح الورد يا حبيبي.. إسماعيل بالداخل لحظة أناديه)
التفتت مسرة تنادي لابن أختها...
(سُمعة صاحبك وصل و يسأل عليك)
هرولت نور بجديلتيها تجتاز الباب الفاصل بين البيت و البقالة و تسبق إسماعيل راكضة نحو كرم تحييه ببسمة سعيدة...
(أهلا كرم كيف حالك..)
ابتسم لها الصغير مجيبا...
(الحمد لله يا نور كيف حالك أنتِ)
قبل أن تجيبه سحبها إسماعيل من ياقة فستانها للخلف.. التفتت له تناظره بتعجب فقابلها بنظرات حانقة و حدث صاحبه...
(مرحبا يا كرم متى جئت)
أحمرت وجنتا نور انفعالا حزينا من معاملة إسماعيل لها بينما صوت كرم الصغير يعلو..
(وصلت توا للحي معي أبي و أمي.. جئت أبلغك أن عمي سيد سيشتري لنا اللعبة الإلكترونية اليوم لقد أكدت عليه هذا)
التمعت عينا إسماعيل و اقترب من كرم قائلا..
(ما دام وعدك سوسكا سيفي بوعده.. أنا متحمس للعب عليها من الآن)
اومأ له كرم موافقا و انخرط الصبيان في أحاديث حول اللعبة الجديدة و مميزات أخر إصدار حديث منها و الذي سيكون بين أيديهما الليلة.. خرجت مودة تجاور ابنة أختها المنكمشة بصمت و تنحني تسألها بتعجب...
(ما بك يا نور؟)
رفعت نور انظارها لأمها المنشغلة في البيع مع إحدى الجارات و همست بصوت مهتز..
(إسماعيل جذبني من فستاني و.....)
شهقت الصغيرة و سالت دموعها الحزينة من ابن خالتها فضمتها مودة إليها تربت على ظهرها و تعدها بجدية...
(يا روح خالتك لا تبكِ و أنا سأقرص لكِ أذنه على فعلته)
هزت نور رأسها في حضن خالتها رفضا و همست...
(كنت سعيدة بمجيء كرم و أردت أن أسأله عن اللعبة الجديدة لكن إسماعيل لم يمنحني الفرصة)
اقتربت مسرة من أختها تراقب ابنتها الباكية فتسألها بجزع...
(ماذا اصابك يا نور و الله والدك لو جاء و رأى دموعك لن يمررها على خير!)
استقامت مودة تنظر لابنها بالخارج و هو يودع كرم فانتظرت حتى دلف البقالة ينظر نحو نور ببرود فسألته بنبرة حازمة...
(لمَ أبكيت ابنة خالتك يا إسماعيل..)
هز الصغير كتفيه بعدم اكتراث يقول..
(كانت تسد طريقي لم أقصد)
اسبلت نور أهدابها و كتفاها الرقيقان يهتزان من بالبكاء فتقدم إسماعيل منها يتحدث بأمر...
(لا تقفِ مجددا مع الأولاد و لا تتحدثِ معهم)
رفعت وجهها إليه تهمس بنبرة بريئة...
(إنه كرم ليس ولدا.. أليس صديقنا)
بصوت آمر من جديد يتلبس زي الرجولة المبكرة التي تشربها دون قصد من اختلاطه بأبيه و عميه كرم و أنور...
(إنه صاحبي أنا لا أنتِ.. أصلا عيب أن تصاحب الفتاة ولدا)
فلتت ضحكة أيوب الصاخبة و التي التفتت عليها كل من مودة المصدومة من جفاء ابنها و مسرة المبتسمة بخبث من فحوى حديث إسماعيل.. حدقت مودة زوجها بحدة ألا يزيد من بكاء الصغيرة بضحكته فمال يحمل نور بين ذراعيه يقبّل وجنتها و يطيب بخاطرها..
(لا تبكِ بسبب الجلف ابني يا حبيبة عمك.. إسماعيل يخاف عليك لأنه يحبك)
لاحظ أيوب وجنتيّ ابنه الحمراوين و هو يتخطاهم للداخل مغمغما.. أمسكه أيوب من قميصه يوقفه و يناظره بجدية ثم يأمره...
(توقف و اعتذر لنور)
تعلقت عينا إسماعيل بعينيّ نور فازدادت حمرة وجنتيه قبل أن يتململ في وقفته و يهمس بضيق..
(حقك علي...)
تركه والده فأسرع يدلف للداخل دون كلمة إضافية بينما أيوب أنزل نور أرضا فركضت للداخل خلف إسماعيل تهتف...
(إسماعيل انتظر)
نظر أيوب للصغيرة و هي تهرول للداخل ليردف بضحكة مكتومة..
(آه يا ابن أيوب ستخسرني صاحبيّ عمري)
***
و في طريقه للعودة لبيت جده سليمان المراكبي توقف كرم حينما خرج مازن ابن عمه خالد من بيت جده لأمه.. لاحظ كل منهما الآخر فابتسم له مازن يؤشر كي يقترب منه ثم يعاود ليمنح جده كل اهتمامه و ينصت له...
(لم أشاء أن أسألك أمام جدتك عن وضع أمك بني خوفا على صحتها.. لكن أخبر جدك يا مازن هل سهر بخير في الـ.. السجـن)
أسبل مازن أهدابه بضيق من ضعف جده و خوفه على ابنته الوحيدة.. فسؤاله هذا يتكرر على مدار سنوات.. و رغم أن الإجابة واحدة لم يمل جده من سماعها.. همس ببسمة صغيرة و هو يرفع وجهه إليه يطمئنه..
(بخير و الله يا جدي اطمئن)
زم شفتيه بوجع من كره أمه رغم سجنها الذي لم يغيره و همس ساخرا بحزن..
(حتى أنها لا تكف عن السؤال على كل صغيرة و كبيرة تحدث في الحي)
وصل كرم إليهما فابتسم لحسونة و سلم عليه بأدبٍ...
(كيف حالك جدي حسونة و كيف حال الجدة بهية)
مسح الرجل بأنامل مرتعشة فوق خصلات شعر الصغير شاكرا..
(الحمد لله بني سألت عنك العافية)
حاوط مازن كتف ابن عمه و قربه منه مستعدا لتوديع جده لكن نظرة جده اوجعته و زادت ألمه الكلمات التي ألقاها..
(طال العمر أو قصر سيسترد الله أمانته و ستصبح ابنتي بمفردها.. غدا ستكبر و يصبح لديك ابناء ستفهم أن مهما كان جرمهم لا يمكنك كرههم.. لأجل جدك بني عدني انك ستتحمل أمك للنهاية..)
انكمشت شفتا مازن يداري رعشتهما ثم يعد جده بصوت رجولي...
(هي أمي و ستبقى لأخر لحظة في حياتي.. أعدك جدي)
ربت الرجل فوق صدر حفيده براحة ثم حثه بلطف..
(هيا بني خذ ابن عمك و أذهبا لبيت جدك سليمان)
قبّل مازن كف جده و ودعه مع كرم.. ثم اتجها نحو بيت المراكبي يصعدان سلمه بينما يمازح مازن ابن عمه الصغير متسائلا عن حاله و متى جاء للحي.. حتى بلغا باب الشقة المفتوح فدلفا ليجدا ان حفاوة الترحيب بكرم و غسق لم تنتهي بعد..
و من وسط صخب عبارات المحبة و الوئام المتبادلة بين الابناء و الأحفاد فتح سليمان باب غرفته ليطل عليهم بجلبابه الأبيض و وجهه البشوش المتبسم.. فتخفت الأصوات احتراما و تلتمع العيون اشتياقا و إجلالا.. فترتسم على الوجه بسمة رضا و سليمان يراقب غصون شجرته قد أثمرت و اشتد عودها فينطق بقلب متخم بحمد الله على نعمه...
(لا حرمني الله من صباح يدفئ القلب برؤيتكم يا سند سليمان)
هرول الأحفاد إليه يتعلق الصغير فيهم بساقيّ جده و يقبّل الكبير كفيه.. و من بين ابنائها وقفت صفية تتمتم بدعاء لله أن يحفظ ابنائها و احفادها من شر العين...
***
مساءً....
وصل سيد أسفل بيت المراكبي بحلته الرسمية و بين يديه كرتونة مستطيلة تحوي اللعبة الإلكترونية التي وعد بها كرم و إسماعيل.. التفت بحرج من صوت أيوب المازح من خلفه.. و إن كان محملا بمشاعر الفرحة
(الليلة ليلتك يا سوسكا)
أحمرت انفه قليلا و ابتسم لأيوب بحرج جعل انور يتدخل مباركا بمحبة..
(مبارك يا سيد أتمها الله على خير)
شكره سيد بصوت متأثر...
(بارك الله فيك أخي انور..)
أقترب أيوب من سيد يحمل عنه الكرتونة قائلا..
(هات هذه عنك كي لا تتجعد الحلة.. و أصلب ظهرك و تمالك نفسك يا ولد.. لا تدخل على عروسك مترددا)
عدّل سيد من وقفته بجدية كجنود الجيش.. جعلت أيوب يضحك عاليا بينما أنور يهز رأسه يائسا..
(لا حول و لا قوة إلا بالله اترك سيد في حاله يا أيوب من حقه ان يتوتر في يوم مهم كهذا.. بالله عليك لا تجعلني أفضح سرك و أخبره كيف كنت ليلة عرسك...)
أسرع أيوب بضحكة متوسلة لأنور يقاطعه...
(قلبك أبيض يا عديلي لماذا نفتح دفاتر الماضي فلو سمعتك ام إسماعيل لن أبيت في البيت الليلة)
ضحك أنور و سيد بصخب خفف من حرج سيد.. التفتوا الى كرم الذي خرج من بيت والده متسائلا ببسمة رزينة...
(جاهزون؟)
أجابه سيد بامتنان...
(نعم أخي كرم)
ربت كرم على كتفه بمحبة و قال...
(دقائق و نتحرك إن شاء الله)
تدخل أيوب قائلا بتعجب..
(أين ابنك يا كروم كي يأخذ مني اللعبة أم سندخل على أهل العروس بـها)
ضحك كرم بخفة قائلا...
(قال سينزل ورائي)
و بعد لحظات صدح صوت الصغير مهللا و هو يقترب من أيوب..
(إنها هنا بالفعل...)
ثم التفت نحو سيد يضم خصره إليه شاكرا..
(شكرا لك عمي سيد.. إسماعيل سيفرح حينما يراها)
مال سيد يقبّل شعره قائلا بحنان...
(لا شكر على واجب يا حبيب عمك سيد.. أنت و إسماعيل تأمرا و سيد سينفذ فورا)
تبادلوا حديثا قصيرا بينهم حتى وصل لمسامع كرم صوت غسق من خلف باب البيت.. أسرع إليها متسائلا...
(جاهزة لأوصلك الى بيت والدك)
ناظرته ببسمة صغيرة تبلغه بأسف..
(أختاك و هبه و راضية لا يريدن أن أذهب الآن.. سأنتظر حتى تعود بالسلامة و نذهب سويا لبيت أبي قبل أن نعود لشقتنا.. آسفة لأنني تسببت في تأخيرك)
و بنبرة متفهمة قال...
(لا بأس يا غسق خذي راحتك حبيبتي حتى أعود و نزورهم بإذن الله)
اومأت له و خرجت قليلا تبارك لسيد بحبور..
(مبارك يا سيد.. أسعدك الله و كلل خطواتك بالفرح)
شكرها سيد بمحبة...
(بارك الله فيك يا دكتورة...)
تحركوا الرجال نحو سيارة كرم بينما غسق نادت لابنها تحمل عنه اللعبة و تصعد لبيت المراكبي حتى يحين المساء و يذهب بها لبيت أيوب...
***
في شقة عادل...
وقفت شروق بقلب يخفق خلف ستار المطبخ تنصت لكل حرف يقوله الرجال بالخارج مع أخيها عادل.. لا تصدق أن سيد بالخارج يطلب يدها للزواج.. إنه الحلم البعيد الذي ظنت لوهلة انه صعب المنال.. ها هو يتحقق و يصبح أقرب إليها من روحها.. انتبهت لضحكة زوجة أخيها الخافتة ثم قولها المازح..
(لن يطير العريس يا شروق تعالِ لتأخذي صينية الضيافة)
التفتت لها شروق بوجه أشبه بثمرة الفراولة و هي تسألها بتلعثم...
(كيف أبدو يا تسنيم؟!)
رمقتها زوجة أخيها بحنان فقالت...
(مثل البدر في تمامه)
ابتلعت شروق ريقها بخجل و هي تسأل أمها التي تراقبها بعينين دامعتين...
(أعرف أن القرد في عينيّ أمه غزال لكن هل حقا أنا جميلة يا أمي)
قربتها أمها منها تضمها بقوة و هي تهمس بصوت متحشرج...
(حفظك الله من العين.. أجمل عروس حبيبتي)
ربتت شروق على ظهر أمها بدموع تهدد بالهطول فقالت مازحة...
(لا تبكِ و إلا بكيتُ أنا أيضا و خربت زينة وجهي و تسببت لمن بالخارج بإصابة بالصرع من مظهري البشع)
ضحكت زوجة أخيها و أمها عادت تهندم لها ثيابها و تطلب من تسنيم برجاء...
(هات صينية الضيافة يا ابنتي كي تخرج العروس)
بالخارج...
كان وجود أضلع مثلث الأمان بالنسبة له أكثر من كافٍ ليشعر بكونه ينتمي لعائلة عريقة تضمه تحت جناحيها.. كرم.. أيوب.. و أنور ثلاثة أصدقاء اتخذوه أخا صغيرا ففاز بقربه منهم.. و ها هم يجالسون عادل برزانة و يرددون بلسان واحد يبدأ أي حديث بجملة واحدة.. سيد ابننا.. جملة تشعره بمقداره في قلوبهم.. رفع رأسه حينما شعر بخطواتها المترددة بخجل.. و صوتها يهمس باستحياء..
(السلام عليكم...)
استقام عادل برفق يأخذ منها الصينية و يضيف الرجال ثم يحاوط ظهر أختها و يجلسها جواره.. رحب بها الجميع و ردت الترحيب بآخر يذوب خجلا.. حتى وصلها صوت كرم الهادئ..
(جئناكم الليلة يا عادل بطلب نرجو ألا تردنا فيه خائبين)
أسرع عادل بقوله المبشر...
(لا خيب الله خاطركم.. تفضل يا أبا كرم)
ربت كرم على فخذ سيد المجاور له يقول ببسمة سعيدة...
(القلوب و أمورها متروكة لله يقلّبها كما يشاء حتى تستقر بأمره و يستوطنها من يستحق و من جعله الله نصيبها.. و قلب ولدنا ألقى الله فيه محبةً لكريمتكم نسألك أن تقبل لنكللها بحلاله.. نحن نطلب يد الآنسة شروق على سُنة الله و رسوله.. ما هو قولك)
ارتسمت البسمة فوق وجه عادل فقال بسعادة..
(لن أجد أفضل من سيد آتمنه على عرضي و اطمئن على شروق معه..)
تقاسموا الفرحة جميعهم حتى مال عادل على أخته يسألها بحنان...
(ما هو رأيك يا عروس)
من خلف أهدابها المسبلة همست بخجل...
(الرأي رأيك يا أخي)
لولا أن سعادته تطغى على أي شعور آخر لوقع أرضا من شدة الضحك.. هل هذه هي نفسها أخته التي أخبرته بنية سيد لطلب الزواج بها.. يومها كانت كالمجنونة من فرط السعادة و هي تبلغه بموافقتها قبل أي شيء..
تنحنح أنور قائلا بحبور...
(خير البر عاجله دعونا نقرأ الفاتحة)
وافقه أيوب فقال مصدقا...
(أخذتها من على طرف لساني يا عديلي..)
ابدى عادل موافقته كما فعل كرم فرفعوا جميعهم أكفهم يقرأون الفاتحة.. رفعت شروق وجهها غير مصدقة أنها وصلت لهذه المرحلة بالفعل بعد سنوات من حبها لسيد.. تعلقت عيناها بعينيه و كل منهما ينال منه عدم التصديق.. ابتسمت له بخجل و نظراتها تبلغه إلى أي حد أصابها عشقه.. فتنفك عقدة ذهوله و يُكرم نُزل عشقها بنظرة أصابت قلبها في مقتل.. فانفرجت شفتاها تحركهما بصمت ليقرأ هو من عليهما ما هز قلبه...
"أحبـــــك"
ثم رفعت كفيها تغطي وجهها و تقرأ الفاتحة تاركة إياه يعاني خفقات قلبه العطشى للإجابة عليها.. لكزه أيوب في كتفه يحثه على قراءة الفاتحة فرفع كفيه ببسمة صغيرة.. و بعد انتهائهم تحدث كرم بجدية..
(أي موعد يناسبكم لنقيم الخطبة)
و قبل أن يجيب عادل تدخل سيد بجدية مماثلة لكرم و نظراته تتعلق بشروق يقول...
(عقد قران.. أريد أن أعقد قراني بدلا من الخطبة فنحن نعرف بعضنا منذ سنوات.. و لن نطيل حتى نتمم العرس إن شاء الله)
و عاد عادل يسأل أخته رأيها فتصله الإجابة هامسة خجولة فتعلن الموافقة.. و انتهى اللقاء بتحديد موعد لشراء الذهب و عقد القران.. ودع عادل ضيوفه بينما يخرجون تباعا.. اقترب سيد من شروق قليلا ليتحين أول فرصة و يميل يهمس لها بخفوت...
(قلتها مرتين يا شروق و في كل مرة تجعلين قلبي يتوقف من شدة عذوبتها.. وعد أن أردها لكِ و أجعل قلبك يشعر كما قلبي بل و أكثر.. إنها مجرد أيام فتجهزي)
تعالت زغاريد زوجته و مباركتهم لشروق الغارقة في بحر همسته قبل أن يرحل...
***
في المساء...
صعدت غسق درجات السلم لتصل الى باب السطح حيث كرم الذي يتابع ابنه على سطح بيت رجب عم أيوب و هم يشعلون الألعاب النارية برفقة صاحبيه و سيد.. تحركت بتؤدة حتى بلغته فلامست ظهره بكفها تهمس ببسمة و هي تراقب حماس الصغار فوق سطح البيت..
(فيما تفكر؟)
لف ذراعه ليتمسك بكفها فوق ظهره و بالآخر قربها من صدره قائلا..
(في الحياة التي أصبحنا عليها كلنا..)
التمعت عينا غسق و هي تشاهد ابنهما يقفز مع إسماعيل و سيد يحاوطهما بحذر..
(يبدو أن زواج سيد الوشيك يثير بداخلك الحنين)
تنهد بحمد يردف..
(أشعر بسعادة لأجله و كأنه ابني الذي كبر أمام عينيّ و الآن سأزوجه.. الحمد لله الذي يمن علينا بفضله و عطاياه)
رفعت رأسها تناظر وجهه المبتسم و عيناه معلقتان بسطح بيت رجب.. فاستطالت على أصابع قدمها تقبّل ذقنه بخفة و تخبره...
(كل لحظة تمر من عمري معك أعشقك فوق عشقي لك يا كرم.. أنت رجل عظيم)
ابتسم و مال يلثم جبهتها يعترف لها بعشق..
(أنا رجل محظوظ بكِ يا منية الروح)
بحذر تراجع بها للخلف عن سور السطح متسائلا بعينين ضيقتين..
(طلبتي أن نؤجل زيارة أهلك حتى يعود كرم من عند إسماعيل.. الساعة أصبحت التاسعة الآن متى سنذهب؟)
حاوطت خصره بذراعيها تناظره بعينين لامعتين و تجيبه...
(صعدت لأخبرك أنني هاتفت أمي و ابلغتها أننا سنزورهما بالغد و نقضي معهما اليوم إن شاء الله)
عقد ما بين حاجبيه بعدم فهم فأردفت..
(أنا في فترة إجازة من العمل.. أريد أن نقضي هنا يومين في الحي ما رأيك؟)
ضحك بخفوت و كأنه عقد رهان بينه و بين نفسه و ها هو يفوز.. ضغطت على خصره تسأله بفضول...
(لماذا تضحك يا ابن المراكبي؟!)
مال بوجهه إليها قائلا بضحكة تخفت..
(منذ وصلنا صباحا الى الحي و كنتِ شاردة أيقنت أنكِ ستطلبين هذا يا غسق)
رفعت كفها تلامس وجهه و تردف بأسف..
(أنت ترتاح هنا يا كرم..)
(كرم يرتاح حيث تكونين يا غسق و لا يهم أين)
لامس وجهها بكفه و مال يقبلّها بخفة.. تأوهت بألم بين شفتيه فابتعد يناظرها بلهفة حتى ضحكت و مالت برأسها تستند على صدره و تحاوط بطنها فتهمس...
(ابنتك تغار عليكِ هي أيضا يا ابن المراكبي)
ربت على ظهرها بحنو و ضحكته تعلو قليلا بينما غسق تشكو...
(لا تكف عن ركلي كلما اقتربت مني!)
و ببقايا ضحكته همس لها بخفوت...
(الفتاة تقدر جهود والدها المبذولة فتشجعه بحماس)
ضحكت غسق بخجل تحاوطه بذراعيها و تريح رأسها فوق صدره يتابعان شرارة الالعاب النارية و عيناها يلتمع بهما انعكاسها الذي يلون سواد الليل فيمنحه الحياة.. كما منحها لها كرم من قبل...
***
صباح اليوم التالي...
وصل داغر الى الحي باكرا فمنذ وطأه من جديد و هو يفضل اللجوء لأوقات لا يزدحم بها الحي.. لا يحبذ أن يراه الناس ربما خشيةً من ان يرى في عيونهم صورته القديمة أو لأنه لا يسعى سوى للشعور بالراحة المفقودة جوار الشيخ عثمان.. زفر بخفوت و هو يقترب من بيت الشيخ بعينين متعبتين.. كابوسه لا ينتهي و صرخة هدير تعذبه.. أيعقل أن كل هذا نابعا من عقله؟!.. أيعقل أنه يهيأ له معاناة هدير لشعوره بالذنب نحوها؟!.. لكن ألا يمل عقله من هذا.. ألا يرهقه تكرار الكابوس لمدة تسع سنوات متواصلة؟!.. توقف عند شقة الشيخ يمسح فوق وجهه بتعب ثم يدق الباب منتظرا.. فتحت له أخت الشيخ ببسمتها البشوشة و لكن التوتر عكر صفوها بشكل ملحوظ.. ضيق داغر عينيه بتوجس يسألها...
(هل هناك خطبا ما؟!)
أجابته بنبرة قلقة...
(الشيخ حالته ساءت عند الفجر و رفض أن ننقله للمشفى و قبل ساعة فقط استقر وضعه قليلا)
انقبض قلب داغر بغصة و شعور أليم يعصر صدره.. تحفزت ملامحه بينما يخرج هاتفه من جيبه ليتصل بعزت و قال بجدية..
(سننقله للمشفى الآن)
قاطعته أخت الشيخ بصوت مضطرب...
(لكن بني الشيخ لا يحب أن...)
نظر لها داغر قائلا بصرامة..
(دون لكن.. لن أقف و أشاهد حالته التي تسوء ما دمت موجودا)
ابتلع ريقه بمرارة يردف..
(يكفي من رحلوا و أنا غائب)
وصله صوت عزت الناعس فأمره بسرعة..
(عزت أحضر لي سيارة عند بيت الشيخ عثمان ضروري...)
(خـــــالي!!!!!)
صرخة ابنة أخت الشيخ الهلعة من الداخل أصابت داغر بالشلل التام.. ارتجفت يده فسقط الهاتف دون شعور منه و صوت عزت كان أخر ما يصل لعقله قبل أن يتوقف عن التفكير للحظات ثقال.. هرولة أخت الشيخ لغرفته كان يراها لكنه كان أضعف من أن يتحرك.. صراخ الشابة يعلو فيبلغه أن ما يخشاه قد حصل.. علت ضربات قلبه بقوة و هو يجبر قدميه أن يتحركا.. أن يبلغا غرفة الشيخ.. و قد فعل ليرى الأخت تتمسك بكفه الساكن و تبكي بحرقة و الابنة تحاوط رأسه بين أحضانها و هي تصرخ.. ابتلع ريقه بوجل و هو يخطو إليه حتى وصل لسريره فانحنى يلتقط كفه الآخر فتخبره برودته أن الروح قد فارفت و أن العمر ها هنا انتهى.. ارتعشت شفتاه و هو يهمس برجاء..
(شيخي..)
فتتساقط دموعه دون وعيه و هو يحدثه بألم..
(ما زلت احتاجك بجانبي.. ما زالت شياطيني تغلبني.. شيخي ما زلت ضعيفا يقوى بك.. لمَ ترحل أنت أيضا.. لمَ ترحلون و تتركوني يا شيخي!!)
مال برأسه فوق كف الشيخ يهمس بحرقة قلبه..
(أنا غارق في لُجة كوابيسي و كنت طوق النجاة لي.. كيف سأنجو يا شيخي دونك؟!!)
صراخ الفتاة و بكاء المرأة حوله دفع بداخله شعورا بالمسؤولية.. شيخه قد فارق الحياة و من يفارق لن يعود مهما كان شرخ روحك من فقدانه.. عليه أن يُكرم شيخه بالقدر الذي يستحقه رجل عاش لربه و منحه السكينة ذات يوم.. قبّل كفه بدموع حارقة و تركه برفق على السرير ثم استقام يحدث أهل الشيخ بمواساة..
(كان يتوق لنظرة ربه فليرحمه الله و يلحقه بالصالحين.. الفراق نار تأكل القلوب لكن عزاؤنا رحمة الله الواسعة..)
نظرت له أخت الشيخ بلا حول و لا قوة فبادلها داغر نظرة مطمئنة حتى سمع صوت ابنتها الباكي...
(هل نهاتف الحاج سليمان أمي؟)
نظر لها داغر يردف بتأكيد..
(اتركيها علي.. سأهتم بكل شيء حتى يصل شيخي لمثواه الأخير بسلام)
خرج من الغرفة يتوجه نحو هاتفه فيلتقطه و يجد عدة رسائل تبلغه بمحاولات عزت في الاتصال به.. تنفس بصعوبة و هو يعاود الاتصال ليبدأ في مراسم الدفن فسمع صوت عزت المترقب..
(داغر ماذا حدث عندك؟!!)
فليفظ داغر جملته بألم يقر نهاية محتومة حينما ينتهي دفتر الحياة و توضع كلمة الختام...
(لقد أسترد الله أمانته.. الشيخ عثمان في ذمة الله)
***
في مسجد الحي.. بعد صلاة الظهر
اصطف رجال الحي أجمع من الصغير للكبير يؤدون صلاة الجنازة خلف شيخ المسجد الجديد.. يحتل داغر الصف الأول كتفه في كتف سليمان و ابنائه لكنه يعيش داخل قوقعة تفصله عن الناس حوله.. يقف كل منهم عند عتبة موت هدير غير قادرا على تخطيها.. و على نفس مبدأ الحياد تشارك داغر مع كرم حمل نعش الشيخ بصمت.. لا كرم سينسى ما فعله داغر بغسق و هدير و لا داغر ينتظر الغفران من أحد.. فالغفران المطلق صفة تجلى بها الله وحده.. فنفوس البشر أضعف من أن تتحلى بغفران مماثل.. لن تجد من يمحو ذنبك كأنه لم يكن و يعيد لك هدوء روحك و يتقبلك بكل عيوبك بل و يصلحها سوى الله.. و دام الحال حتى رقد جسد الشيخ في المقابر و وقف ابناء المراكبي على مقربة من داغر يتلقون العزاء..
وقف صالح وسط الرجال يطلب منهم بصوت متأثر...
(لا تتعجلوا بالرحيل و أدعوا للشيخ أن يثبته الله كما أوصانا النبي عند الدفن فقال: "استغفروا لأخيكم وسلوا له التثبيت فإنه الآن يُسأل")
علت صوت الهمهمة بالدعاء للشيخ بقلوب تقاسمت الحزن على فراقه...
بعد ساعة...
رحل من رحل و تبقى قلة من الرجال بجانب ابناء المراكبي و داغر الذي يجلس الآن قرب قبر الشيخ بمفرده.. وقف سليمان يناظر داغر بصمت شاركه به أولاده.. حتى استقام و توجه الى باب المدفن فحانت منه نظرة لسليمان.. لكنها لم تدم و شرع في تخطيهم و قبل أن يرحل أوقفه سؤال سليمان...
(هل ستعود للحي داغر؟)
تحفزت خلايا داغر و استنفرت و هو يلتفت يجيب السؤال بآخر...
(و لمَ لا أفعل؟!)
اقترب سليمان قليلا يضرب بعكازه الأرض قائلا...
(وجودك سيؤلم قلوبا تجاهد لتنسى)
اهتزت حدقتا داغر بقوة و قد فهم من يقصد سليمان.. أم هدير و زوجة كرم.. لكنه وقف يقابل سليمان و يقول بيقين..
(لن يقلعني من جذوري سواي يا حاج سليمان.. اطمئن كتفاي يحملان ذنوبا تثقلهما و لا نية لي في حمل المزيد)
لمح الرضا في نظرات سليمان فأردف بجدية لا رجعة بها...
(أهل الشيخ تحت مسؤوليتي من اليوم)
نبرة سليمان كانت أمر بالتخلي أكثر منها إقرار..
(أهل الشيخ في رعاية الله و تحت أعيننا)
و برفض قاطع تمردت كلمات داغر بإصرار..
(لخمس سنوات تتحمل مسؤوليتهم وحدك.. الآن بتُ هنا و أنا أولى بهما)
تدخل خالد بحزم يوقف داغر...
(داغر وفر نديتك فما مررنا به بسببك كان كافيا)
بنظرات محتدة أردف داغر...
(ليست ندية.. أهل بيت الشيخ عثمان تحت حمايتي شاء من شاء و أبى من أبى)
أشاح كرم ببصره بعيدا عن داغر فلو فلت عقال تعقله ستحدث كارثة.. منذ رآه صباح اليوم و هو يقف على صفيح ساخن.. لا يستطيع أن يسامحه حتى و إن تغير.. لا يستطيع أن ينسى ما أصاب غسق بسببه و إزهاق روح هدير و طفلها بما جنته يداه في حقهما.. بينما خالد كعادته اهتاج مذهولا من عودة داغر كما كان و كأن سنوات السجن لم تغيره.. فرفع سليمان عكازه يحول بين ابنه و بين داغر و يردف بحزم...
(ماذا تنوي يا ابن السمري؟!)
انقبضت كفا داغر بحدة.. ابن السمري توحي له بأن الجميع ما زال يراه مجرما.. اسم عائلته يدينه حتى إن ندم و تاب.. جز على ضروسه بحدة يلجم غضبه و يردف بعينين متمردتين..
(لقد بلغني ما فعله أعمام ابنة أخت الشيخ من قبل.. بهد وفاة الشيخ أصبح أهل بيته لقمة سائغة في نظر الجميع.. فأتركهم لي لأن الحلم و التعقل مع أناس كهؤلاء لن يفيد.. أنا وحدي من يعرف كيف يردعهم)
لانت ملامح سليمان و صدق نية داغر يصله دون تزييف.. انزل عكازه جانبه و قال بهدوء..
(لا نريد مشاكل في الحي)
بلغته موافقة سليمان المتوارية خلف جملته فهز رأسه موافقا و قال...
(لست هنا لأثير المشاكل..)
تنهد سليمان بصمت قبل أن يمنحه القبول المنطوق..
(لك ما تريد و نحن معك فلن نترك حرمة بيت الشيخ تُدهس)
***
بعد بضعة أيام...
خرجت حفصة من غرفتها بتعجب من استمرار الطرق على باب الشقة دون أن تفتح أمها.. أسرعت نحو غرفة أمها فوجدتها تصلي لذا اتجهت نحو باب الشقة بينما تغطي شعرها بوشاحها بإحكام.. فتحت الباب فشحبت ملامحها بفزع و ارتعشت شفتاها و هي تهمس برعب..
(عمـــي!!)
أزاح الرجل باب الشقة بكفه فتراجعت حفصة للخلف من دفعه.. دلف الرجل الشقة و خلفه شاب بملامح مقتضبة.. تكدست الدموع في عينيّ حفصة و قد أدركت سبب قدومهما.. تحدث عمها بنبرة قاسية..
(أين أمك أم تبقين في الشقة بمفردك؟!)
ضمت حفصة كفيها المرتعشين معا تهدأ نفسها.. منذ كانت في الخامسة عشر من عمرها و لم ترَ من أهل والدها سوى الجفاء.. أرادوا أن يستولوا على ميراثها بعد وفاة والدها متبعين عاداتهم بأن الفتاة لا ترث.. وقتها عاشت اقسى أيام حياتها و هم يجهزونها ليزوجوها لابن عمها عنوة.. طفلة لم تفقه شيء عن الحياة ارادوا دفنها حية ليسرقوها.. و لم ينجدها من أيديهم سوى لجوء أمها لخالها عثمان.. حينها سافر لهم بلدة أبيها و جلس مع كبار البلدة و تقديرا له وافقوا أن يعول اخته و ابنتها في مدينته الساحلية.. لكن أعمامها لم يسكتوا حتى بعد ردعهم من سليمان و رجاله.. و الآن ها قد عادوا بعدما مات خالها و أصبحت بلا سند..
(همام!!!.. ما الذي تفعله هنا؟!!)
صوت أمها منحها الأمان فالتفتت لها سريعا ترجوها أن تنقذها من براثن هؤلاء الناس.. اقتربت منها تقف أمام ابنتها و تسأل العم بنبرة مرتجفة...
(ألا تملون من مداومة المجيء؟!!!)
ناظرها الرجل بحدة يقول بأمر...
(أتينا لنعيد ابنة أخينا الى البلدة.. أم تريدين أن تبقى لحمنا و دمنا هنا بمفردها دون رجل)
احاطت الأم ابنتها برعب و هي تهدر فيه...
(ابنتي ليست بمفردها أنا معها.. لم يعد لنا شيء في بلدتكم كي نعود)
هدر الرجل بدوره...
(لا نهتم بمجيئك من عدمه إن احببت البقاء هنا فليكن.. لكن ابنتنا ستأتي معنا)
هز رأسه يأمر ابنه بشيء ما لم تحتج حفصة و أمها الوقت لفهمه.. و قد اقترب يمسك معصم حفصة بقسوة و يسحبها من حضن أمها بينما الفتاة تصرخ بهلع..
(اتركني بالله عليك.. لا أريد المجيء معكم.. لا اريد ان اتزوجك.. أمي لا تتركيني!!)
جاهدت أمها بكل قوتها كي تعيدها الى حضنها لكن الرجل و ابنه كانا حائلا بينهما.. حمل الشاب حفصة بين ذراعيه يرفع قدميها عن الأرض فحركاتها الهستيرية اتعبته.. و توجه بها مع والده نحو الباب بينما أمها أسرعت تجذبه من ملابسه و هي تصرخ بجنون...
(أين تأخذون ابنتي.. أتحسبون أنها بلا سند يقف لكم.. و الله لأبلغ عنكم الشرطة إن لم تفلتوا ابنتي و تتركونا في حالنا)
امسكها همام من ذراعها يعتصره بقسوة و هو يهددها...
(أن بلغ للشرطة علم فلن ترى عينك ابنتك لأخر بوم في حياتك.. نحن سنسترها و نزوجها لابن عمها ليحفظها و يحفظ ميراثها)
احتدت نظرات الأم بغضب و هي تصرخ به..
(ابنتي لا تحتاج ستر لصوص مثلكم.. ستأكلون أموال اليتيمة زورا و ظلما.. خافوا الله يا جاحدين القلوب)
ناظرها الرجل بغلٍ ليدفعها بعد ذلك بقوة للخلف فتتقهقر و تفقد توازنها و تقع أرضا.. بينما هو و ابنه يحملان ميراث أخيه بين يديه و الذي لن يتخلوا عنه بأرواحهم.. أسرعوا في خطواتهما خوفا من أن يأتي هذا المدعو سليمان من جديد و لكن حتى لو أتى هما هنا هذه المرة ليأخذا الفتاة و لن يعودا دونها.. وصلا للباب الحديدي للبيت يفتحه همام كي يساعد ابنه الذي انهكته حفصة بضرباتها و صراخها حتى يخرج.. لكنه فور فتحه تراجع للخلف حينما ركله أحدهم بقسوة في بطنه..
رفعت حفصة وجهها للباب فوجدت داغر يناظرها بعينين متسعتين بذهول.. كانت كعصفور ضعيف بين مخالب الصقر.. صورتها المهينة هذه أمامه افقدته عقله.. أن تهان حرمة بيت شيخه جعلته يجن و يسد باب البيت بجسده هادرا بعنف..
(أنزلها حالا...)
تمالك همام وجعه و قدحت عيناه الشرار و هو يقف قبالة داغر هادرا...
(و من أنت لتأمرنا..)
ثم التفت لابنة أخيه المعلقة بين ذراعيّ ابنه يجذبها من وشاحها بقسوة هادرا...
(من هذا الغريب الذي يدافع عنك.. تريدين أن تبقي هنا لتعيشين كما يحلو لكِ أليس كذلك؟!)
اهتاج داغر مما يسمعه و يراه من معاملة لا يقبلها لأهل الشيخ فلم يجد بد سوى أن يخرج مديته من جيب بنطاله الخلفي.. و بحركات متمرسة كان الرجل يتأوه عاليا حينما جرحه داغر في كفه الممسك بوشاح حفصة.. دفعه بهمجية للخلف ليقترب من ابنه مهددا بلهجة مخيفة و ندبة وجنته تزيد من صورته الإجرامية..
(أنزلها و إلا نحرت عنقك.. أنا لا أمزح)
صوت أمها الآتي من الأعلى زاد من توتر الأجواء.. فأنزلها ابن عمها منصاعا لأمر داغر.. فأزاحه داغر ليجاور والده و وقف يخبئ حفصة خلفه و يرفع مديته بعينين غاضبتين و هو يزمجر فيهما...
(أقسم بربي لو خطى أحدكما خطوة واحدة الى بيت الشيخ لن ارحمه)
تقدم همام منه بنظرة لا تبشر بالخير فانكمشت حفصة معترفة بقسوته خلف داغر تتمسك بقميصه دون وعي و ترجوه بصوت صارخ..
(لا تجعله يأخذني بالله عليك..)
أن يحتمي به أحدهم لهو شعور يختبره لأول مرة.. احتاجته هدير من قبل بل و توسلت إليه أكثر من مرة ليعلن زواجهما.. لكنها لم تحتمي به.. يعرف أنه لم يمنحها الأمان و لو لمرة لتفعل لكنه لا يصدق أنه بات مأوى لأحدهم.. و ليس أي أحد إنها من أهل الشيخ عثمان!.. ابتلع ريقه يلف رأسه قليلا لها واعدا بصوت ترسخ في أذنهم جميعا..
(لن يأخذك أحد دون رغبتك.. و من يريد فليخطو على جثتي أولا)
هدر عمها فيها بعنف و هو يؤشر على داغر بغصب..
(تحتمين في بلطجي يا ابنة أخي.. أهذا هو الحي الذي كان يعيش فيه الشيخ الجليل.. تريدين أن تحتمين برجال غرباء لا صلة لكِ بهم لتعيشين كما يحلو لكِ)
انقض عليه داغر يمسكه من تلابيبه يشهر مديته في وجهه هادرا بصوت ترتعد له الأوصال..
(إن تحدثت عن الشيخ رحمه الله و أهله إما أن تتحدث بأدب و إن كنت عديم الأدب أو لتخرس)
ثم قرب وجه الرجل منه يناظره بنظرة قاسية و هو يردف بقصد..
(و لتصل لك المعلومة كاملة.. لست بلطجيا فقط.. أنا رد سجون)
اتسعت عينا الرجل بعدم تصديق فيزيد داغر من تهديده الصريح قائلا..
(و لا بأس بعودتي إليه مجددا فلن تكون الأول الذي أقتله لكن ربما الأخير)
ارتعشت نظرات الرجل بخوف حقيقي من داغر.. و في هذه اللحظة قد بلغ رجال المراكبي ما يحدث فتكدسوا بمقدمة خالد و صالح ليقفوا لأول مرة كتف بكتف مع داغر أمام عم الفتاة و ابنه.. تقهقر الرجل مع ابنه معترفين بأنهما إن بقيا سيخسران.. رمق الرجل حفصة المرتعشة خلف ظهر داغر فرفع سبابته يهددها..
(لن تكون المرة الأخيرة يا قليلة التربية.. مصيرك لنا)
أخفاها داغر تماما عن عمها بعدما سمع شهقتها المرتعبة ليهدر في الرجل بوعيد..
(ستكون القادمة هي الأخيرة في حياتك لأنني سأنهيها.. جرب و سترى)
أختفى مع ابنه في سيارتهما و داغر يرسل لهما نظرات مرعبة.. و انفض الرجال شيئا فشيء لتلتقي عينا داغر بعيون خالد و صالح غير مصدقا أنهم تكاتفوا لأول مرة.. انتفضوا على صرخة أخت الشيخ و هي تنادي بهلع على ابنتها..
(حفــــصة!!!!)
داغر كان أول من يعود للبيت فيجد الفتاة قد خارت قواها و سقطت أرضا ترتعش بينما تهمهم ببكاء مرتعد...
(لا أستطيع الوقوف أمي.. ساقيّ لا أشعر بهما)
و بحرج وليد اللحظة أغلق داغر مديته يدسها في جيبه مجددا.. و يقترب بحذر من الفتاة فلا يعرف كيف تنظر له الآن بعدما رأت جزءً صغيرًا مما كان عليه يوما.. انحنى بجسده ليجلس على عاقبيه أمامها و يتنحنح قائلا بصوت حاول أن يزيل الغضب منه بأقصى قدرته...
(أنت مرتعبة مما حدث لذا لا تقوين على الوقوف.. لا تخافي.. نحن هنا و لن نسمح لأحد أن يجبرك على شيء)
مد كفه لها بتردد يقول...
(استندي علي و على أمك لتصعدين فالناس لن تكف على القاء نظرات عليكما من الخارج و لن يرحلوا الآن)
رفعت له عينيها الواسعتين و الدموع تتقطر منهما لتهمس بشكر جلي..
(شكرا لك.. على مساعدتي)
فيردف بجدية و عفوية...
(أفدي أهل الشيخ برقبتي)
أطرقت رأسها بصمت حتى حثتها أمها بصوت باكٍ...
(هيا حبيبتي استندي علي)
حاولت أن تعتدل لتستقيم فشعرت بثقل جسدها و قبل أن تنطق بما تشعر أحاطها داغر من خصرها يشدها للأعلى فتستقيم من محاولته الأولى..
(دعها لأم عيد يا داغر...)
التفت داغر لصوت خالد المقتضب فيجد أم عيد خلفه مباشرةً.. سلمها كف الفتاة لتسندها مع أمها و يصعدن للأعلى.. فيراقبهن حتى سمع صوت باب الشقة يُغلق فيطمئن قلبه قليلا.. فلن يهدأ قبل أن يجد حلا يعصم أهل الشيخ من التعرض لأي أذى من أعمام الفتاة...
***
فجر اليوم التالي...
اطفأ داغر سيجارته التي فقد عدها و عقله لم يتوقف عن التفكير منذ ما حدث بالأمس.. لم يذق النوم للحظة و هو يضع الحلول لينهي عبث ما حدث و لا يمنحه الفرصة ليتجدد.. و عقله يهديه لحل واحد.. وحده المقبول وسط حلول عدة.. زفر بتعب يرجع بظهره للخلف فيستند على كرسي طاولة الطعام.. أغمض عينيه يستكين للصمت و يوقف عقله عن الصخب للحظات.. حتى سمع أذان الفجر فردد معه بخفوت ثم استقام ليتوضأ و يصلي..
و على سجادة الصلاة جلس شاردا و النعس بدأ يهل عليه.. فيستسلم للنوم و عقله لا يكف عن التفكير و لا يطرح سبيلا غير ما طرح للمساعدة.. استقام ليتجه نحو السرير يلقي بثقل جسده عليه يغمض عينيه دون رغبته.. فيحتل صوت الشيخ عثمان كيانه و كأنه يجالسه في غرفته حينما زاره اول مرة بعد خروجه من السجن و سأله كيف يمكنه أن يرد حسن صنيعه معه...
(سيلهمك الله بالطريقة المثلى لتفعلها...)
فتح داغر عينيه فجأة و كأن النعس كله قد زهده في لحظة.. ناظر السقف بصمت قبل أن يهمس لنفسه بتأكيد...
(فلتصون حرمة بيت شيخك داغر.. هذا ما ألهمك الله به)
***
صباحا... بيت المراكبي... غرفة كرم
مال كرم على وجه غسق الغافية بعمق يناديها برفق...
(غسق استيقظي لنذهب الى بيت والدك.. الساعة اقتربت على العاشرة و أهل البيت سيستيقظون ليفطروا.. دعينا نسرع لنفطر عند والديك لأن الحاجة صفية لو رأتنا لن تخرجنا دون فطور)
تململت غسق في نومتها بضيق من إزعاجه لها فهمست برجاء...
(خمس دقائق فقط يا كرم)
ضحك بحنان و اردف...
(تقولين خمس دقائق منذ نصف ساعة!..)
رفعت يدها مستسلمة تحدثه بصوت ثقيل..
(وعد ستكون هذه أخر خمس دقائق)
هز رأسه متفهما أنها لن تستيقظ الآن.. فمال بضحكة خافتة يدغدغ وجهها بلحيته فتنتفض صارخة برجاء أن يتوقف فهي تفقد سيطرتها من هذه الحركة و تفلت ضحكاتها العالية دون قصد.. و ها ما تخشاه بدأ يحصل مع رفضه أن يتوقف.. فتعالت ضحكاتها و كلماتها تخرج بصعوبة...
(كرم توقف.. لأجلي.. لأجل غالية توقف بطني ستتشنج)
ابتعد عنها بوجهه ينظر لعينيها الناعستين فيميل يقبّلهما و يقول...
(ها أنتِ استيقظتِ و ما أحلاكِ)
استقامت جالسة على السرير تعاتبه بضحكة..
(لا بد أن صوتي سمعه من بالخارج.. يا للإحراج!!)
سمع صوت رنين باب الشقة فاقترب من باب الغرفة و قبل أن يفتحه طمأنها..
(لم يستيقظ أحد بعد.. منذ رحلنا من بيت المراكبي أصبحوا كسالى فمن كانت تستيقظ من الفجر لتنزل الى عملها نقلت لبيت جديد)
خرجت من السرير تلملم شعرها و تتحرك الى الحمام بينما تردف بمزح..
(و لمَ لا تقل أن الصياد النشيط الذي يعود من رحلاته قبل أن تشرق الشمس هو السبب)
فلتت ضحكته الخافتة قبل أن يفتح الباب ليخرج طالبا منها أن تتعجل قليلا..
صادف صالح في طريقه لباب الشقة فألقى عليه تحية الصباح ليجيبها صالح و يسأله..
(من الذي سيأتي باكرا هكذا؟!)
زم كرم شفتيه بجهل و تقدم من الباب ليفتحه.. تجمدت عيناه على داغر أمامه.. و احتدت نظراته بغضب يجز على ضروسه في محاولة لكبته.. تقدم منه صالح متسائلا بترقب..
(من يا كرم؟!)
و حينما وجد داغر عقد ما بين حاجبيه بذهول يردد...
(داغر!)
فيبتلع داغر ريقه ببطء و نظرات كرم تنخر في جرحه النازف.. و يردف بصوت هادئ...
(هل الحاج سليمان موجود؟)
ازداد التوجس في قلب صالح فسأله...
(لماذا؟!.. هل عاد أعمام ابنة أخت الشيخ؟!)
هز داغر رأسه يطمئنه و يجيب بجدية..
(لا و لو عادوا سأقطع أرجلهم.. لكن هذا لا يمنع أنني هنا بشأن أهل الشيخ)
عذر صالح كرم و نظراته القاتلة لداغر فمهما مر من العمر صعب أن ينسى كرم أنه دلف السجن بسبب داغر.. لكنه ربت على كتف أخيه ليتنحى جانبا و يستقبل داغر..
(تعال يا داغر..)
ثم أمر كرم ليبعده عن داغر و يقلل من حدة اللقاء...
(هلا أبلغت الحاج سليمان يا كرم)
تحرك كرم بغضب غير مستور الى غرفة والده ليبلغه بوجود داغر.. بينما داغر دلف خلف صالح الذي دعاه ليجلس حتى يأتي والده.. فرفض داغر و فضل الوقوف قرب الباب..
و في غرفة كرم...
وضعت غسق وشاحا خفيفا على رأسها تنوي الخروج لتوقظ ابنها و تساعده في ارتداء ملابسه قبل أن تلبس.. خرجت من الغرفة و لكنها سمعت صوتا غريبا بالخارج فرفعت عينيها لتتسمرا على داغر عند باب الشقة.. لحظة واحدة.. فقط لحظة انكسر بها قفل روحها .. لقد دفنت تلك المشاعر المرعبة لسنوات لكنها طفت في لحظة على السطح.. شعرت بأن الدنيا تدور بها و وعيها يتشوش.. امسكت بطنها بجزع و كأنها تحمي ابنتها منه.. ثم أسرعت لأقرب مكان يمكنها أن تلتقط به الأنفاس فكان المطبخ أقربهم..
دلفت بعينين متسعتين بذهول من وجوده.. و من هواجس كانت تطمسها منذ حملت بفتاة و فجأة هاجمتها.. استندت بضعف على كرسي لتجلس عليه و تناظر الأرض بأنفاس صاخبة..
بالخارج...
خرج سليمان من غرفته بتعجب لا يختلف عن اولاده.. و حينما بلغ داغر سبقه الأخير بالحديث..
(احتاج أن اتحدث معك بمفردنا)
ضيق سليمان عينيه يسأله..
(بشأن ما حدث بالأمس!)
أشاح داغر بعينيه قليلا ثم عاود النظر لسليمان قائلا بجدية..
(ما حدث بالأمس سببا فيما أريد الحديث بشأنه)
اومأ له سليمان متفهما ثم أشار له على غرفة الضيوف فتبعه داغر بصمت..
و فور استقرارهما في الغرفة بدأ داغر الحديث بصدق..
(فضل الشيخ عثمان علي كبير.. إن كان بي شيء جيد اليوم فالشيخ السبب الأول به.. لذا أشعر بالمسؤولية تجاه أهل بيته.. و يتوجب علي حمايتهما)
رفع بصره لسليمان يجاهد كي لا يفقد رباطة جأشه و يردف..
(على مدار سنوات تمنيت أن استجيب لـ.. هدير.. و أحقق مطلبها الوحيد و آتي لأطلب يدها منك)
خسر نزال العيون المتقد بينه و بين سليمان فأطرق بوجهه يردف بألم..
(لكنني خسرتها قبل أن ألبي مطلبها و خسرت ابني.. تمنيت بدل المرة ألف أن يعود بي الزمن لأجالسك مثل الآن و تمنحني القبول.. لكن الزمن لا يعود و الميت لن يجديه ندمي نفعا)
احتقنت عينا سليمان فتحشرج صوته و هو يسأله بحزم...
(ماذا تريد يا داغر؟!)
رفع داغر بصره مجددا يقول بإصرار..
(أتيت أطلب منك يد ابنة أخت الشيخ عثمان.. لا يوجد حل آخر لأحميها من أعمامها.. الفتاة لا تريد الزواج و السفر معهم.. و هم يريدون الاستيلاء على ميراثها.. أنا كفيل بحمايتها لكن حفاظا على سمعة الشيخ و اهله لا بد أن.. أتزوجها)
في المطبخ...
دلفت راضية لتجهز الفطور لكنها شهقت من هيئة غسق المرهقة فتقدمت منها تسألها بهلع..
(بسم الله.. ما بكِ يا دكتورة غسق؟!!)
ابتلعت غسق ريقها بصعوبة و رفعت رأسها لها تطلب بخفوت..
(أريد كرم)
دلفت هبه على مطلب غسق فأسرعت بلهفة إليها تسألها بجزع..
(غسق ما بكِ حبيبتي.. هل تشعرين بشيء.. هل ابنتك بخير؟!)
تكدست الدموع في عينيها و هي ترجو هبه..
(نادي لي كرم.. أرجوك)
نظرت هبه لراضية برجاء فهزت راضية رأسها بتفهم و أسرعت للخارج بينما تطمأنها
(حسنا.. سأناديه أنا)
بعد لحظات...
كان كرم في المطبخ يجلس أمام غسق متسائلا بقلق عن حالتها فتهمس جملة واحدة بتوسل..
(خذني لأبي الآن يا كرم..)
فيعاود السؤال بقلب مضطرب..
(حاضر حبيبتي.. لكن أريحي قلبي هل تتألمين.. أيوجعك شيء!!)
مدت كفها له فاسندها لتستقيم فيرى رجفة جسدها.. طلب من زوجة أخيه بسرعة ملتاعة على غسق..
(احضري لي جلباب من عندك يا أم يزيد بسرعة)
اومأت هبه و خرجت بسرعة لتغيب قليلا و تعود مع صفية التي هالها منظر غسق.. منحت الجلباب لكرم فساعد زوجته كي ترتديه بينما صفية تقترب تضم جسد غسق اليها و تتساءل بلهفة..
(اسم الله حولك يا ابنتي.. ما بكِ يا غسق؟!)
تمالكت غسق نفسها المهترئة و قالت بخفوت..
(أنا بخير لا تقلقي أمي.. أشعر بإعياء و أريد أن تكون أمي جواري)
اومأت لها صفية بتفهم و قالت بينما تناظر كرم..
(لا بأس حبيبتي كرم ينزل و يطلب منها أن تأتي إليك هنا)
هزت غسق رأسها برفض و هي تتوسل كرم بعينيها...
(لا.. أنا أريد الذهاب لبيت أبي من فضلكم)
حوقلت صفية بقلق عليها و تركتها لكرم الذي ضمها اليه يهدئها بحنان..
(حسنا سنذهب الآن كما تريدين)
خرجت صفية خلفهما تدعو الله أن يسترها و لا يكن الأمر خطيرا.. بينما بالداخل أسرعت راضية بالبحث عن البخور حتى وجدته فأشعلته و هي تردف بيقين...
(عودت كرم و زوجته الى الحي جعلتهما عرضة لألسنة النسوة هنا.. أصابتهم العين بالحسد حسبي الله)
مر كرم بغرفة الضيوف متوجها مع غسق الى باب الشقة.. فوصله صوت والده مع داغر.. داغر!!!..و كأنه فهم ما تمر به غسق و إن كان مستبعدا من عقله.. لقد تخطت هذه المرحلة قبل سنوات.. لقد تعافت مع طبيبتها النفسية.. توقف بها متخشبا فيسألها بهمس خافت..
(هل رأيتِ داغر يا غسق؟)
فيشعر برأسها تندس في صدره و يلاحظ يدها التي تحاوط بطنها و تشدد عليها.. فتبلغه حالتها أنها حقا رأته و ما تمر به بسببه.. صوت اصطكاك ضروسه كان مسموعا و هو يرمق الغرفة بغضب يود لو يكسر بابها فوق رأس داغر و ينهي حياته.. انتبه لهمسة غسق المتعبة..
(دعنا نذهب من هنا.. رجاءً)
فيعود يحث خطواته على الاستئناف ليخرج بها من مكان يجمعها مع داغر.. الآن فقط فهم إصرار والده على تركهما للحي.. غسق تتألم بصورة او بأخرى مهما تخطت مرارة حادثها..
***
في شقة ثروت...
بقي كرم برفقة غسق حتى هدأت قليلا و عادت تبتسم و تطمئنه أنها بخير..
(و الله أصبحت بخير.. أنا حقا آسفة لما سببته لك و لأهلك من خوف)
في جلسته على عاقبيه أمامها أمسك كفها بقوة يمنحها دعمه و يسألها بصراحة..
(تخشين على غالية!)
تبادل والديها النظرات المترقبة.. بينما هي نظرت لكرم بعينين دامعتين و ابتسمت له تجيب بسؤال تريد منه وعدا قاطعا..
(ستكون بخير لأنك ستحميها.. أليس كذلك؟)
هال كرم هواجس زوجته فشدد من تمسكه بكفها يقول بيقين..
(غسق!.. ابنتكِ ستكون بخير لأننا كلنا سنكون حولها.. سأحميها بروحي و ستطمئن قربكِ و كرم الصغير معها لن تكون بمفردها أبدا)
اومأت له بدموع تتساقط فوق قلبه جمرا.. فيسألها بجدية..
(منذ متى تشعرين بهذا يا غسق و لماذا لم تخبريني حبيبتي؟!)
أطرقت برأسها تجيبه بصوت مختنق..
(منذ حملي بكرم.. دعوت الله ليل نهار ألا يكون فتاة و إن كان فلا يجعلها تعيش ما عشته)
الصمت القاتم حولها جعلها ترفع رأسها و تبتسم بسمة مرتعشة بينما تقول لتطمئنه..
(كنت أحارب هواجسي و ظننت انني انتصرت عليها حتى رأيت....)
توقفت عند هذا الحد فوالداها لليوم لا يعرفان هوية مفتعل حادثها.. و هي طوت الصفحة و الله فعلت حتى علمت بحملها في غالية.. فتاة قد تعيش تجربة أليمة مثلها يوما ما.. و كم يفتت قلبها مجرد التخيل أن يصيب ابنتها سوء..
فهم كرم مقصدها و ما زاده فهمه سوى نارا فوق ناره.. داغر مجددا!!.. انتبه لصوت ثروت و هو يقترب من ابنته طالبا منه برجاء..
(اتركها لي بني..)
أفلت كفها و منحه لوالدها الذي أمسك كفيها معا بحنان ينظر لعينيها المرتعبتين فيردف بهدوء و تأكيد..
(هواجسك هذه لا تعي سوى إنك قانطة من قضاء الله يا ابنتي)
اتسعت عينا غسق بذهول تردد..
(أنا!!.. استغفر الله يا أبي)
ابتسم لها بحنان قائلا..
(كلنا بشر و كلنا ضعفاء و كثيرا نميل لهواجسنا التي تنسجها انفسنا أو يوسوس لنا بها الشيطان)
اسبلت اهدابها و دموعها تتساقط فتلامس يد والدها الذي استرسل يرسخ بداخلها رضا و قبول ساعدته به على اجتياز خبر حادثها المفجع..
(لولا إيمانك بقضاء الله و رضاكِ بنصيبك قبل سنوات لكنت مت قهرا على ما أصابك يا ابنتي.. لكنك رغم وجعك و ألمك الذي أخفيته عنا كنت تشدين أزري و تخبريني بكل قوة أن هذا قدرك و أنتِ راضية به.. قلتِ كرم علمكِ كيف تقبلينه أليس كذلك)
اومأت برأسها ببطء و هي تتذكر كلماتها لوالدها يومها.. أمرها والدها بحزم حنون..
(ارفعي وجهك لي غسق)
امتثلت لأمره و ناظرته بعينين تائهتين فقال..
(من سوء أدب المرء مع ربه أن يتوقع السيء في حياته القادمة.. الأمس كان لله و قد مضى بفضله و رحمته و اليوم لله و قد أنعم علينا بعيشه مستورين و الغد لله بكل ما فيه و ما يخفيه لنا.. أنا عند حسن ظن عبدي بي إن كان خيرا فخير.. احسني ظنك بربك و لا تضعفي بسبب هواجسك يا غسق.. دوما أنتِ قوية لا تقهركِ أعتى الظروف)
ابتسم لها بوعد حقيقي يمازحها..
( تشرف اولا ست غالية و سترين ماذا سيفعل جدها ثروت لو أزعجها الهواء فقط!)
ابتسمت غسق بحب لوالدها فمالت تحتضنه بقوة.. تدفن شكوكها في عنقه ليحملهم عنها و يريحها.. و قد فهم ثروت حاجة ابنته فشدد من احتضانها يقبل وجنتها قائلا بمزح يخفف خوفها به..
(تبكين و أنتِ زوجة ابن المراكبي الذي يفديك بروحه!)
ضحكت غسق أخيرا فابتعدت عن والدها بخجل حتى تدخل كرم معربا عن عشقه لها..
(و ابن المراكبي حاضرا في أي لحظة ليموت فداء عينيها)
همست غسق بخفوت وصلهم..
(بعيد الشر عنك)
ضحك ثروت يلامس وجنتها بحنو قائلا..
(ربي يبعد عنكما الشر و يحفظكما لبعضكما و لأولادكما حبيبتي)
صدح رنين هاتف كرم فأخرجه ليحدث غسق..
(هذه أمي.. مضطر أن أذهب إليها بنفسي لأنها لن تقتنع بالحديث على الهاتف)
اومأت له غسق بحرج و قالت..
(اعتذر لها نيابةً عني يا كرم حتى أراها)
طمأنها بقوله..
(ستأتيك لتطمئن عليكِ بنفسها أنا أدرى بالحاجة صفية.. طمئنيها أنتِ بنفسكِ)
أبلغته أمل بحبور...
(تأتي و تنير البيت في أي وقت)
شكرها كرم بامتنان بينما يتوجه الى باب الشقة..
(سلمتِ يا خالة)
رافقته أمل حتى الباب و قبل أن يخرج همست له بشكر..
(عجزت عن شكرك لما تقدمه لابنتي من تفهم و احتواء يا كرم)
توقف كرم مكانه يردف بجدية..
(هذا أقل ما أقدمه لزوجتي و أم اولادي يا خالة)
اومأت أمل بحرج قبل أن تهمس..
(تحملت لأجلها الكثير)
فهم كرم مقصدها فابتسم بسماحة يريحها.
(ليس للإنسان إلا ما يرى و ما رأيتموه حينها عني لم يكن إلا سيئا.. و أصريتم ألا تغيروا صورة ليست لي بأخرى حقيقية)
أسرعت أمل بصدق توضح له ما تؤجله لسنوات.. إن كان بتعنت في بادئ الأمر فأصبح بحرج في نهايته..
(قبل أن يعترف داغر بأنه من لفق لك تهمة المخدرات كان قد ظهر معدنك الحقيقي لنا.. و إن كان عمك ثروت قد قبلك من قبل هذا بكثير لكنني تعنت و رفضت أن انصاع لما أراه لأنني أم تخشى على ابنتها الوحيدة.. لن أنكر كنت اتحين لك أي غلطة لأبرهن لنفسي أنك لست مناسبا لغسق.. كل ما أريد قوله لك بعد تلك السنوات أنني لم اقبلك لأجل ما فعلته لابنتي وحيدتي بعد حادثها و إن كان معروفك معها حينها لن يوفيه كلمات أو شكر لكني قبلتك قبل هذا بكثير و يعلم الله انني أبلغك الحق.. كل أم تستطيع أن ترى ما لم يره غيرها فيما يخص ابناءها و أنا رأيت حب ابنتي في عينيك قبل سنوات.. أرجو أن تسامحني بني)
اتسعت بسمته بلطف يجبر بخاطرها..
(يكفيني "بني" هذه منكِ.. تخبرني أن مكانتي فعلا تغيرت عندك)
اقتربت منه ببسمة شاكرة تضمه إليها و تربت فوق ظهره قائلة..
(حماك الله بني و رزقك حب الناس)
استقبل حضنها بحبور حتى لمح غسق الواقفة عند الصالة تناظرهما بسعادة تخفف من وطأة خوفه عليها و لو قليلا...
***
يسيران متجاورين في لحظة لن تتكرر كما يظن سكان الحي المتابعين لسليمان المراكبي برفقة داغر السمري.. يتوجهان الى بيت الشيخ عثمان ليطرح عليهما طلب داغر للزواج من حفصة.. قبل قليل أبلغه أن القبول او الرفض فهو للفتاة و أمها و لا يمكنه أن يجبرهما.. فوافقه داغر طالبا منه أن يكون حاضرا.. أن يقبل سليمان بطلبه لفتاة يضعها سليمان تحت عينيه شيء يدفع بداخله أملا متعلقا في باب رحمة ربه.. لقد تغير بالفعل و يأمل أن تتغير حياته و نظرات الناس له.. لكنه منذ خرج من السجن لم يمنحه أحد بادرة أمل حتى الأمس.. لا منذ يوم دفن جسد شيخه.. و سليمان يسلمه مقاليد حماية أهل شيخه..
(سنعرض الأمر عليهما إن وافقت الفتاة فلنعجل بالزواج و إن رفضت لن نضغط عليها و ستبقى مصانة بإذن الله تحت حمايتي)
أمر سليمان بعدما وصلا لبيت الشيخ كان الحد الفاصل بين الصعود و اتخاذ دور "الوالد" لداغر كما يُهيأ الموقف لأي شخص آخر إلا هما.. و بين التخلي عنه إن فعل ما يشين "كعادته" التي ما زال يظن أنها لم تتغير..
(و تحت حمايتي أنا أيضا أيًا كان جوابها)
اومأ له سليمان بنظرة خاطفة ظن داغر أنه لمح بها الاستبشار!!..
بالأعلى.. شقة الشيخ عثمان
(ما هو رأيكِ يا حاجة أم حفصة؟)
سؤال سليمان جعل أم حفصة تتفحص داغر بنظرة مختلفة عن أي مرة رأته بها.. هيئته تبدو مخيفة لكن ما شهدته عليه ليس إلا كل الخير.. خاصةً موقفه الأخير مع ابنتها و حمايته لها.. تنهدت بخفوت تقر حقيقة..
(من يسمح له أخي الشيخ رحمه الله بدخول بيته لا يُسأل عليه يا حاج سليمان.. داغر كان له من دعاء أخي نصيبا على مدار سنوات)
اهتز قلب داغر بالعرفان للشيخ عثمان و شعر بمكانة لم يذقها من قبل.. إنه مميز عند أحدهم.. شخص رآه بعيوبه كلها و ظل مؤمنا به و يدعو له.. رفع وجهه للمرأة التي قالت بتأكيد..
(لكنني لا يمكن أن أمنحكما القبول أو الرفض إلا بسؤال صاحبة الشأن)
هز سليمان رأسه متفهما ليردف بهدوء..
(لا يعيب الأصول شيء.. فلنسمع رأي حفصة)
استقامت الأم الى غرفة ابنتها لتغيب قليلا و تخرج و حفصة خلفها بوجه خجول و عينين مسبلتين للأسفل.. جلست جوار أمها حتى سألها سليمان برفق..
(ما رأيك يا ابنتي فيما أبلغته لك أمك؟)
راقب داغر كفيها المرتعشين بتوتر فأشفق عليها.. الفتاة صغيرة للغاية.. قليلة الخبرة.. و يتيمة يستبيح ضعفها القريب قبل الغريب.. همست على استحياء...
(لا يمكنني الزواج دون علم أهل والدي)
سبق داغر سليمان في الحديث ليطمئنها بوعد قادر على تنفيذه..
(سيأتون ليصبحوا وكلاء العروس فقط إن وافقتِ)
رفعت عينيها اليه بعدم تصديق تسأله..
(حقا؟!)
فيلمح براءة تذكره بنظرات هدير فيبتسم بشجن و يؤكد لها..
(بشأن هذا لا تحملي هما)
ثم تتغير نظرته للجدية و هو يردف برفق..
(لا أريدك أن توافقي مجبرة على هذا الزواج.. ما فعلتها سوى حفاظا على حرمة بيت الشيخ عثمان.. لكِ الحق بالرفض أو القبول و مهما كان ردك فالحاج سليمان و أنا سنكون للنهاية هنا لنحميكما..)
نظرت لأمها بترقب ثم استجمعت شجاعتها لتجيبه بيقين في خالها عثمان و رؤيته الخاصة للأشخاص.. ما حدث بالأمس كان أكبر مخاوفها و داغر ساعدها به.. تحتاجه.. تحتاج حمايته.. و صورته تكتمل مع خيال غزل خيوطه عثمان بحديثه عنه قبل سنوات..
(خالي أخبرني عنك الكثير لدرجة جعلتني أريد رؤية من داغر السمري هذا.. و حينما رأيتك وجدت ما قاله خالي فيك.. أنا أثق برأي خالي في الأشخاص دوما كان ذا نظرة ثاقبة.. آمل أن يوفقني الله فيما هو قادم.. معك)
ما يشعره الآن يبث الدفء في قلبه الميت منذ فقد هدير.. إنها تحكي عنه.. عن داغر السمري أليس كذلك؟!.. ابتلع ريقه و حك أنفه يتهيأ لما سيقوله فيطرح سؤاله دفعة واحدة..
(وجب أن تعرفي أنني كنت في السجن لسنوات طوال.. ألن يضايقك هذا؟!)
اجابته بهدوء..
(أعرف أين كنت قبل سنوات.. الماضي من حقك ما دمت لم أكن فيه حينها.. إن أردت أن تشاركه معي أو لا فهو لك بأكمله)
ابتسم ساخرا فقال..
(لكن ماضي شخص مثلي حتما سيشكل نقطة سوداء على الحاضر و المستقبل ألا تهتمي بهذا حقا؟!)
أردفت بهدوء و ثبات..
(ما ارتكبته في الماضي تبت عنه و عاقبك عليه القانون.. أي أنك الآن شخص مختلف بصفحة جديدة تسطرها بما تعلمته من اخطاءك.. أليس كذلك؟)
ابتسم سليمان بهدوء معجبا برجاحة عقل الفتاة حتى قال داغر بخفوت..
(تعلمت حتى تألمت منه)
اومأت له حفصة تردف بيقين..
(لقد اخطأت و دفعت ثمن خطاءك و الأهم تبت عنه.. نقطة و بداية صفحة جديدة)
نظر لها داغر مليًا متعجبا من تفكيرها الذي ظن أن شخصية هشة مثلها لا تملكه.. فعاود يسألها للمرة الأخيرة و كأنه يمنحها كل الفرص.. لتهرب منه!!
(يعني أنتِ موافقة على الزواج)
اومأت له معترفة أنها تفكر به منذ انقذها بالأمس أكثر بكثير من سنوات مراهقتها كلما سمعت عنه من خالها.. أجابته بيسر
(بعلم أعمامي نعم موافقة)
و ها قد منحته القبول للمرة الثانية.. قبول يشعره بكونه بشرا جديدا كما وصفت.. بشر ينظر له الناس بنظرة مختلفة عن تلك التي التصقت بداغر السمري لحياة طويلة...
***
اليوم التالي..
أنزلت غسق الهاتف عن أذنها بنزق تبلغ كرم الذي يقود سيارته...
(أريج هاتفها مغلق هذا يعني أنها تجري عملية الآن.. دعنا نعود يا كرم فأنت منشغل بالفعل في تجهيزات عقد قران سيد الوشيك.. أنا بخير و الله ما حدث بالأمس كان مجرد هرمونات حمل مع قلة نوم صدقني)
دون أن ينظر لها قال برفض..
(رفضتي استشارة طبيبتك النفسية لن أسمح بالهروب.. ستفحصك الدكتورة أريج لنطمئن على وضعك و وضع البنت)
تنهدت غسق بقلة حيلة لترفع الهاتف مجددا و تحاول الاتصال بأريج.. فيصلها الرسالة المسجلة بأن الهاتف مغلق فتتركه تغمغم بحنق..
(موعد زيارتي الشهرية لها قريبا لماذا تحكم رأيك لا أفهم)
وصلها صوته الراجي بحنان..
(أريحي قلبي يا غسق.. أريد أن اطمئن على وضعك أنتِ و غالية)
نظرت لنافذة السيارة بصمت مستسلمة.. كيف فلتت اعصابها بالأمس و افصحت عن هواجس لم تكن تنصت لها بالأساس.. لكن يبدو أنها عششت في عقلها منذ زمن و انفجرت حينما رأت السبب الرئيسي لحادثها!...
***
في نادي شهير...
جاء يائيل راكضا بملامح متوجسة بعدما أوقف تدريبات السباحة الخاصة به نحو ملعب التنس حينما أبلغوه أن رحيق سقطت أرضا و جرحتها قطعة زجاج ملقاه على الأرض.. أخته بطلة العالم في التعثر و الإصابة!!.. اقترب منها فهاله منظر الدماء النازفة من رسغها.. نظر بهلع الى جرحها العميق فيصرخ فيمن حوله ليمنحوه أي قطعة من القماش.. حدثه المدرب الخاص بها بنبرة مطمئنة..
(لقد أبلغنا الطبيب و هو على وشك القدوم)
رمقه يائيل بحدة و هتف بغضب...
(لن انتظر حتى يتصفى دمها كله..)
منحه أحد الأولاد ضمادات من علبة اسعافات اولية يحمله معه فالتقف يائيل الضمادات يربط فوق جرح أخته ليوقف النزف حتى يأخذها لمشفى والده.. نظر لقطعة الزجاج الكبيرة الملطخة بدمها ثم حملها بين ذراعيه و قد خارت قواها و أوشكت على فقدان الوعي ليصرخ في مدربها بحدة...
(ما حدث لن يمر مرور الكرام حينما يعرف والدي)
خارج النادي....
وضع يائيل أخته بحذر على الكرسي الخلفي و ركب جوار السائق المخصص لهما يبلغه بضرورة الذهاب للمشفى.. بينما يحاول جاهدا أن يصل لأحد أبويه و لكن للأسف كلاهما هاتفه مغلقا.. لم يفكر مرتين و هو يهاتف أكمل يستنجد به بقلق...
(أكمل رحيق جرحت يدها جرح عميق.. نحن في طريقنا للمشفى لكني لا أستطيع الوصول لهاتفيّ أبي و أمي)
وصله صوت أكمل المطمئن رغم قلقه على ابنة أخته...
(حينما تصل ستجدني هناك.. لا تخف)
أغلق يائيل الهاتف ينظر لأخته بالخلف فتدفعه حالتها لأن يطلب من السائق أن يسرع قدر ما يستطيع...
و خلف سيارتهم كانت تزداد سرعة سيارة أخرى يبلغ سائقها شخصا ما على الهاتف بجدية..
(إنهما يسلكان طريق المشفى الذي يعمل بها الدكتور مؤيد)
صمت قليلا ينصت لمن يحدثه و بعدها يجيب بطاعة..
(حسنا...)
***
في المشفى...
وقف كلا من أكمل و يائيل يناظران رحيق الباكية بحيرة لا يعرفان ماذا يمكنهما أن يفعلا.. الفتاة تبكي بحالة هستيرية رافضة أن يقترب منها أي طبيب سوى والدها.. و لسوء الحظ أريج و مؤيد في غرف العمليات و لن يخرجا الآن مطلقا!!.. اقترب أكمل من ابنة أخته يرجوها برفق...
(حبيبتي رحيق دعِ الطبيب يقطب لك الجرح لقد فقدتي دما كثيرا)
برعب متجسد في عينيها و هي تناظر الأدوات الطبية صرخت...
(لا... أنا أريد أبي)
دلفت ديما الغرفة بعدما وصلها الخبر.. فشهقت بجزع و هي تسأل يائيل عن سبب الإصابة.. صرخات الصغيرة جعلت ديما تخرج هاتفها و تتصل بزوجها تطلب منه الحضور.. و بعد دقائق كان يجاورها كاظم الذي تتغضن ملامحه بألم كلما عصرت ديما ذراعه من فرط تأثرها بحالة رحيق.. و ختمتها بصراخها به الحاد..
(تصرف يا كاظم و حاول معها ألست طبيبا؟!!)
رفع حاجبيه مجيبا بلهجة بديهية...
(أنا طبيب اسنان يا ديما أتعامل مع الفم طيلة حياتي ليس تخصصي شيء آخر سواه.. ماذا سأفعل و الصغيرة لا تريد سوى والدها.. إنها تبدو مرتعبة و تحتاج لتشعر بالأمان في وجود والدها)
عادت لتطلب منه بتأثر..
(إذًا أذهب و نادي له)
اتسعت عيناه بتعجب واردف ساخرا
(يا سلام.. تريدين مني ان اقتحم غرفة العمليات و انتشل الطبيب منها و ليس اي طبيب انه مؤيد .. تريدين ان تخربي بيتي أليس كذلك)
ناظرته ديما بعينين حمراوين تهتف باستهجان
(انها ابنته يا كاظم و تحتاجه)
تحدث كاظم بجدية و بهدوء يعرف ان ديما قلقة على ابنة مؤيد
(و بغرفة العمليات هناك مريض يحتاجه .. مؤيد مسؤول عن حياته يا ديما)
زفرت ديما بقنوط و صراخات الصغيرة التي تارة تعلو و تارة تخفت تنال منها.. تخشبت في وقفتها بعدما خيم احدهم على الغرفة متحدثا بصرامة تعرفها جيدا
(افسحوا لي المجال)
التفتت ديما تناظره بعدم تصديق و تردد
(عمي)
دلف مهران الى الغرفة يتفحص الوضع فيها بعينين خبيرتين فينظر لمن حوله قائلا بتقريع ساخر
(يا للروعة كلكم لا تقون على السيطرة على حالة طفلة صغيرة)
نظر الجميع لبعضهم فإن كانت حالة الصغيرة منفلتة إلا ان كلهم يحسبون ألف حساب بالذات معها بسبب والدها.. جميعهم ينحون قدرتهم على السيطرة جانبا و يتولى القلق من غضب مؤيد الدفة.. نزع مهران سترة حلته و القاه قرب حفيدته على السرير ليجلس قبالتها على الكرسي يمسك كفها الصغير و ينظر للجرح بضيق قبل ان يأمرهم بصرامة
(انا سأهتم بها .. )
عادت الصغيرة للبكاء المرتعد و هي ترفض بصرخاتها
(انا أريد أبي)
نظر لها مهران بعينين حازمتين يردف بصوت اخرسها
(والدك ليس هنا الآن يكفي دلالا)
نظرت رحيق ليائيل المتخشب في زاوية من الغرفة يناظر جده بتوتر واضح.. عادت لجدها تهمس برجاء
(أبي لن يؤلمني .. انا اريده)
اهتز الحزم في عيني مهران لوهلة قبل ان ينظر لحفيدته يطمئنها
(و جدك لن يؤلمك ايضا)
رمشت رحيق بأهداب التصقت بها دموعها.. و نظرت لعينين جدها المماثلتين لعيني ابيها فابتلعت ريقها بوجل.. التفت مهران لمن حوله يأمرهم بنظرة أن يحقنوا الفتاة بمخدر...
نظرت رحيق للطبيب الذي امسك ذراعها فعادت للصراخ حتى امرها مهران
(لا تنظري اليه و انظري نحوي)
تعلقت عيناها بعينيه فابتسم لها بسمة صغيرة يهمس لها
(تشبهين والدك حينما كان في مثل عمرك)
دقائق و كانت الصغيرة تغفو بسلام و جدها يقطب جرحها العميق بمهارة ..
ظل مهران باقيا جوار حفيدته يتابع حالتها و قد انفض من حوله في الغرفة إلا يائيل.. رفع مهران بصره اليه فوجد حفيده يلتزم نفس الزاوية منذ جاء و ينظر له بتوجس.. لا ينكر بأن قلبه اصابته غصة من نظرات يائيل فابتلع ريقه بندم و حدثه
(بت شابا كبيرا)
تنفس يائيل بتوتر يشيح بوجهه بعيدا عن جده للحظات قبل ان يسأله بترقب
(كيف عرفت بما حدث و لماذا انت هنا)
ابتسم مهران بخفوت يعترف ان ابناء ابنه نسخة منه في مراحل عمره المختلفة.. تنهد مهران بتعب بدا جليا لحفيده و قال
(انتم لا تغيبون عن عيني منذ سنوات)
بغضب يافع عاود حفيده سؤاله
(لمَ ..لماذا تهتم لأمرنا و قد نبذتنا من قبل)
اطرق مهران برأسه للحظات قبل ان يرفعها لحفيده معترفا
(لم تكن سهلة علي ايضا)
ابتلع يائيل ريقه يتذكر حياة صعبة شاركها مع والده حتى ظهرت لهما أريج.. استقام مهران من مجلسه يتوجه نحو حفيده فيتأهب يائيل بحذر زاد من ندم مهران.. اقترب منه يرفع كفه و يلامس وجنته في لحظة عدم فهم اصابت يائيل بالسكون.. نظرات مهران تغيرت كليا.. هذا ليس الجد القاسي الذي رفضه قبل سنوات .. طمأنه مهران بنظرة حنونة و قال بصوت مهتز
(لقد اخطأت في حق ابني مرات من قبل و نال احفادي مني الجفاء.. ظننت ان الطريقة المثلى للعيش هي ما اضع قوانينها انا لكنني كنت مخطئا .. انا آسف لكل ما فات )
ارتعشت شفتا الحفيد و تكدست الدموع في عينيه فبث مهران الحنان في لمسته .. هذا الحنان الذي حرم ابنه الوحيد منه و احفاده.. اغمض يائيل عينيه بذهول مما يقدمه له جده من امان.. فجذبه مهران نحو صدره يضمه اليه بقوة و يهمس بصوت متحشرج
(كم تمنيت ان اضمك هكذا من قبل.. جدك آسف لكل ما فعله بك يائيل)
سالت دموع يائيل تلامس كتف جده بصمت فكل حواسه خارجة عن السيطرة في هذه اللحظة لدرجة يشعر و كأنه هلاما لا قوة له..
بعد ربع ساعة...
خرجت اريج من غرفة العمليات بتعب واضح فأوقفتها احدى الممرضات تبلغها بقلق
(دكتورة اريج ابنتك في الطابق الارضي)
ضيقت اريج عينيها بتوجس و سألتها
(ما الذي اتى بها الى هنا .. مع من جاءت)
ابتلعت الممرضة ريقها و اجابتها
(جاءت مع اخيها تعاني جرحا في يدها)
انقبض قلب اريج بهلع و هي تسأل بلهفة
(كيف هو جرحها و من يعالجها)
اجابتها الممرضة بتوجس
(دكتور مهران معها بالأسفل)
اتسعت عينا اريج بخوف حقيقي و ركضت الى المصعد تضغط على زره بأصابع ترتعش.. و فور وصوله وقعت عيناها على عيني مؤيد الواقف بداخله فهمست برجاء مرتعب
(ابنتي يا مؤيد)
رؤيتها بهذا الخوف في عينيها جعل قلبه يضطرب بجنون و هو يسألها
(ما بها رحيق)
نظرتها اوحت له بأن ابنته تعرضت للخطر فسحبها من يدها يدخلها للمصعد يسألها بصوت متحفز
(في اي طابق هي)
(الارضي.. والدك معها)
تشنجت اصابع مؤيد فوق ازرار المصعد للحظة قبل ان يضربها بحدة قاصدا الطابق الارضي
بالأسفل...
تلملمت رحيق في نومها فلامس جدها شعرها بحنان يأسر عيني يائيل المبهورتين بما يقدمه لهما من مشاعر الآن.. لكن دخول والده العاصف بجنون قذف في قلبه الترقب.. نظر مؤيد لجسد ابنته الغافية و عيناه تتعمقا في ضمادات يدها فتهتاج روحه و يقترب من والده يمسكه من تلابيبه هادرا برعب على اولاده
(ماذا فعلت لابنتي.. )
اقتربت اريج من ابنتها بقلق تضمها اليها بعينين متفحصتين و صوت مؤيد يعلو بغضب كاسح..
وصلت غسق مع كرم الى المشفى فاتسعت عيناها و هي ترى تجمهر المتواجدين في الطابق الارضي عند غرفة معينة.. لحظات و ميزت صوت مؤيد الهادر فالتفتت لكرم تردف بقلق
(انه مؤيد)
اسرع كرم نحو الغرفة يتخطى الناس حتى دلف فوجد مؤيد بحالة منفلتة يصرخ في رجل لا يعرفه و ابنه بمساعدة أكمل يحاولان منعه بكل طاقتهما.. اقترب من مؤيد يحاوطه بذراعيه و يعيده للخلف بصعوبة مهدئا
(اهدأ يا دكتور ماذا حدث)
عينا مؤيد كانتا مهددتين و هو يهدر في والده
(ابتعد عني و عن ابنائي يا دكتور مهران.. نبذتنا من قبل فلا تقترب مني و من عائلتي مجددا.. لا تفعل لأنني حقا لا اضمن العواقب)
ظهور كرم في هذه اللحظة منح يائيل القدرة على التحدث مع والده فعلا صوته يخبر مؤيد بما صار
(ابي اهدأ ارجوك.. جدي كان هنا ليعتني بنا.. رحيق جُرِحَت في النادي و رفضت ان يعالجها اي طبيب سواك حتى ظهر جدي و تمكن من السيطرة عليها)
اتسعت عينا مؤيد بذهول و هو يناظر ابنه مرددا بصدمة
(جدك)
اسبل يائيل اهدابه بصمت استغله مهران ليتحدث لابنه بنبرة مختلفة عن صرامته و قسوته .. نبرة حملت من الالم و الندم ما هز مؤيد بالفعل
(العمر يغير الانسان يا دكتور مؤيد.. و ليس عيبا ان تدرك اخطاءك مهما طال الوقت.. المهم ان تمنحك الدنيا فرصة جديدة لتصلحها.. بني)
حمل مهران سترته و القى نظرة خاطفة على حفيدته قبل ان يرحل بصمت.. ناظر مؤيد ظهر والده بعينين مهتزتين بشيء من القلق...
في مرآب المشفى...
وصل مهران الى سيارته فأسرع السائق بالخروج و فتح الباب له لكنه توقف حينما وصله صوت مؤيد اللاهث
(انتظر)
التفت مهران الى ابنه منتظرا قوله فعقد مؤيد حاجبيه يسأله
(هل تمر بأزمة صحية )
ابتسم مهران من طريقة تفكير ابنه.. فهز رأسه نفيا دفع مؤيد لسؤاله بعصبية
(إذًا ما سر تغيرك هذا.. و لماذا الآن)
منحه مهران نظرة آسفة و هو يردف
(هذه الخطوة ترددت اكثر من مرة لأخطوها .. ربما عمرها من عمر ابنتك)
ابتلع مؤيد ريقه و رمق والده بشك فاسترسل مهران بصدق
(و لماذا.. فهذا لأن الدكتور مهران.. والدك.. يشتاق لابنه و لأحفاده .. يحق لهم أن يعتذر منهم و يأمل أن يقبلوا عذره.. انت ربحت مؤيد و برهنت لي انني كنت المخطئ دوما)
رفع مؤيد ذقنه يردد بسخرية رغم توتر نظراته
(بسهولة تنتظر ان ينمحي الماضي بكل اوجاعه لمجرد انك ادركت هذا)
هز مهران رأسه نفيا و اقترب من ابنه.. يقف قبالته و يرفع كفه الى وجهه كما فعل مع يائيل ثم يهمس بنبرة مليئة بالألم
(فقط احتاج هذا بني.. لسنوات انتظر ان احققه)
انحسرت انفاس مؤيد في صدره و والده يضمه اليه بقوة.. ماذا يحدث له.. هل فقد مهران الفايد صوابه ام يعاني الخرف.. رمش مؤيد بعينيه مصعوقا من هذه الوخزة الحارقة في عينيه.. عيناه تريدان أن تفيضا من مجرد لمسة حنونة من والده.. فرفع اصابعه يؤكد لنفسه أنه لم يفعلها و يفرط في دموعه.. و حينما تأكد همس ساخرا
(يبدو انا من فقد صوابه)
ضحك مهران بخفة متفهما رد فعل مؤيد.. ثم يبعد ابنه عنه طالبا برجاء دون ان ينتظر الرد..
(اريد ان اكون قريبا من احفادي مؤيد فلا تحرمني من هذا)
ترك ابنه خلفه و تحرك نحو سيارته فتابعه مؤيد بعدم استيعاب.. على مدار سنوات يعرف ان والده يرسل خلف ابناءه حراسة .. على مدار سنوات يرى انعكاس طيفه على زجاج سيارته في اي مكان يكون فيه مع عائلته الصغيرة.. لكنه ابدا لم يتوقع ان يأتيه مهران يعاني من الندم و يطلب منه ان يسامح و يتقبل أسفه.. زفر مؤيد نفسه عاليا قبل ان يغمغم بخفوت
(لن امنعك ان حقا اردت ان تقترب)
***
بعد أيام... في مسجد الحي
إن أخبره أحدهم يوما أنه سيعقد قرانه في نفس اليوم مع داغر السمري لنعته بالمجنون.. لكنه حصل بالفعل و امتثل سيد لأمر سليمان.. لقد أراد أن يُشعر حفصة بأن لها سند و عزوة خاصةً في وجود أعمامها الذي لا يفهم كيف أحضرهم داغر الى هنا ليزوجوه ابنة اخيهم.. انتبه سيد الى أيوب المتحفظ في تصرفاته فجميعهم لا يتقبل فكرة وجود داغر.. صعب أن ينسوا.. صعب أن يمحوا ماضيهم أجمع.. اقترب سيد من أيوب يسأله بترقب..
(أين أخي كرم؟)
تنهد أيوب بضيق هو من بينهم يعرف ما أصاب غسق.. لكنه أجاب باقتضاب..
(في بيت المراكبي مع الدكتورة.. لا تقلق سينزل عند عقد قرانك ليكون شاهدا كما وعدك)
حك سيد عنقه من الخلف قائلا بنبرة متفهمة..
(إن أراد أخي كرم ألا يحضر بسبب ابن السمري فلا بأس.. سأهاتفه و اخبره بهذا)
(من قال أنني سأوافق على هذا يا سيد؟!)
سؤال كرم المتجهم جعل سيد يلتفت له بنظرة شاكرة رغم كل شيء و يوضح مقصده..
(لا حرمني الله من وجودك أخي كرم لكن...)
تقدم كرم يربت فوق كتف سيد قائلا بتأكيد..
(دون لكن يا سيد.. أنا معك خطوة بخطوة)
ابتسم له سيد بامتنان حتى ناداه صالح الواقف جوار شيخ المسجد الذي سيعقد قرانهم فتوجه إليه سريعا..
اقترب أيوب من صاحبه يسأله بترقب..
(كيف تسير الأمور؟)
شردت عينا كرم يتذكر يوم ذهبا للمشفى ليطمئنوا عليها.. رغم حالة التوتر التي شهدها لكن أريج أصرت أن تفحص غسق و تطمئنه أنها و جنينها بخير.. لكنه يشعر بغسق و يفهم مقدرا التوتر الذي تعانيه بالبقاء هنا في وجود داغر.. أجبرتهم الظروف منذ وفاة الشيخ على البقاء لحاجة والده له و لكنه وعدها أن اليوم سيعودون الى شقتهم..
(كرم!!!)
انتبه كرم لصوت أيوب القلق فربت على كتفه قائلا..
(سنرحل بعد عقد قران سيد.. الاجواء هنا باتت موترة)
اومأ له أيوب مستحسنا الفكرة حتى اقشعر بدنه بتحفز حينما سمع صوت داغر ينادي لصاحبه..
(كرم)
اغمض كرم عينيه يكور قبضته بحدة آملا أن تفيد سيطرته على نفسه الآن.. تكرار نداء داغر القريب منه جعله يفتحهما و ينظر اليه بقسوة تفهمها داغر الذي نطق بما أراد قوله منذ خرج من السجن..
(لم اوافق على البقاء في الحي إلا عندما عرفت أنك و الدكتورة تعيشان في مكان آخر)
احتقنت عينا كرم بحدة فرمق داغر بتحذير ليردف الأخير مستأنفا..
(لم أعد قاصدا هدم حياتكم مجددا.. و لم يكن في نيتي البحث عن حياة جديدة.. أنا متُ منذ ماتت هدير.. لكن النصيب وضعني في طريق فتاة تحتاج حماية ظننت أنني لست أهلا لها.. لكنها توسمت فيّ الخير فلا استطيع أن اولي ظهري لها.. ربما ما أفعله معها تكفيرا عن ذنوب اقترفتها)
نظر كرم لعينيّ داغر بغضب متسائلا باستهجان..
(هل تطلب السماح يا داغر؟!)
زم داغر شفتيه بصمت قبل أن يقول ما يعرفه عن كرم..
(لن تمنحه لي يا كرم مهما طلبته)
احتدت عينا كرم و نطق بشراسة..
(جيد أنك تعرف..)
اومأ داغر متفهما و قال..
(الجرح ما زال نازفا و انا خير من يعرف.. لكني آمل أن يندمل يوما و تسامحني الدكتورة)
جز كرم على ضروسه ينهي هذا الحديث بقول جاف..
(بعض الجروح لا تندمل و إن توقف نزفها.. ستترك ندبة لا تنمحي كلما رأيتها ستذكرك بوجعها.. أمضي في حياتك الجديدة يا داغر و لا تسأل الغفران لأن الانتظار سيطول و لن تحصل عليه)
نداء الرجال لكرم لينضم الى سيد في عقد قرانه جعله يذهب تاركا داغر خلفه يناظر ظهره المبتعد.. قلوبهم كأقطاب مغناطيس متشابهة تتنافر مهما قصرت المسافة أو طالت.. مسافة فاصلة دوما تجعل كل منهما في وادٍ مختلفٍ..
***
بعد عقد القران...
أقيم حفل صغير في شقة سيد مع أمه مراعاةً لمرضها و أنها ملازمة للفراش.. فتجمعن النسوة مع أهل العروس التي الصقتها أم العريس جوارها تقبلها كل ثانيتين و تربت على ظهرها بسعادة جمة.. صعد سيد الى الشقة يتنحنح حتى يفسحن النساء له مجالا.. لقد وجد فرصة ليصعد هنا بصعوبة بعدما تلقى المباركة من رجال الحي.. بحث بعينيه عن زوجة عادل و بعد أن وجدها طلب منها برجاء..
(نسيت أن أعطي لشروق هدية أخي كرم و زوجته الدكتورة.. هلا ناديتها رجاءً فلست مرتاحا في التعامل بالأسفل و أنا بيدي هذه العلبة الضخمة)
اومأت له تسنيم بسعادة و هرولت الى الغرفة المتواجدة بها العروس.. خرجت شروق تبحث عن سيد حيث دلتها زوجة أخيها لكنه لم يكن هناك.. ضيقت عينيها بتعجب تقترب من المطبخ مناديةً عليه فلا يصلها منه أي رد.. برمت شفتيها تهمهم بضيق...
(يبدو نزل من جديد للرجال.. لا أفهم ما حظي النحس هذا ألا يجب أن يبارك لي على الأقل!)
تحركت عائدة حيث كانت لكنها شهقت بهلع حينما فُتِحَ باب غرفة أخرى و جذبها سيد من فستانها للداخل.. اغلق الباب خلفهما و اسندها عليه يكمم فمها يطمئنها بهمس..
(إنه أنا اهدئي...)
تفحصت وجهه بتأكيد و هزت رأسها متفهمة فأفلت كفه من فوق فمها.. سألته بهمس مشابه و حاجبين معقودين..
(كنت ابحث عنك بالخارج.. ما الذي تريده؟!)
اسند كفه جوار رأسها على الباب و مال بوجهه هامسا..
(أردت أن أبارك لكِ)
رفعت حاجبها بتعجب تسأله..
(و لماذا نتهامس هكذا؟!!)
التقط خصلات شعرها بين اصابعه مجيبا ببسمة سعيدة..
(لأنني لا أريد أن يعرف أحد أننا هنا)
رمشت بعينيها تسأله من جديد...
(لماذا؟!)
ضحك بخفوت تلامس أنفاسه وجهها فيردف..
(كفي عن السؤال و امنحيني فرصة)
نظراته المتعلقة بشفتيها دفعت الدماء لوجنتيها فهمهمت بخجل..
(فرصة لأي شيء بالضبط؟!)
ترك خصلاتها و تحركت كفه فوق عنقها ببطء و يجيب...
(لأفي بوعدي.. سأجعل قلبك يشعر كما قلبي بل و أكثر)
قضمت شفتيها بخجل و لمساته تصيبها برجفة و تهمس اسمه بخفوت..
(سيد!!)
فتذوب بقية حروفها بين شفتيه الشغوفتين باشتياق.. شعر بجسدها يتراخى فابتعد عنها بقلق هامسا..
(شروق!!!!)
استندت على ذراعيه تلتقط انفاسها بصعوبة و جسدها كله غير متزن.. ندائه لها المتكرر جعلها ترفع وجهها اليه و تنظر له بعينين عاشقتين فتهمس بعدم تصديق..
(هل قبلتني للتو يا سيد.. لم يكن حلما أليس كذلك؟!.. أنت اقتربت مني بهذا القدر الذي تمنيته منذ سنوات.. شروق فازت بقلبك صحيح؟!)
ضحك سيد بخفوت قبل أن يضمها إليه مؤكدا..
(لا تحتاجين للفوز أو الخسارة فلم يكن بالقلب غيرك من الأساس.. إنه لكِ حبيبتي لا قبلكِ و لا بعدكِ)
حاوطته بذراعيها و دموعها تهدد بالهطول بينما تردد بلا توقف..
(أنا أحبك.. أحبك يا سيد.. أحبك)
***
في الحي...
وقف داغر أمام بيت الشيخ عثمان يستقبل حفصة "زوجته" بعدما عقد القران قبل قليل في المسجد.. خرجت له بفستانها الأبيض البسيط.. لم يكن فستان عرس لكنها اختارته باللون الأبيض كأي عروس.. مد كفه لها فرفعت عينيها اليه تتعلق بملامحه قليلا قبل أن تعطيه كفها.. تخبره دون ان تنطق أنها اختارت بملء ارادتها أن تركب سفينته.. أن يبحر بها حيث يشاء دون خوف من القادم و الأهم منه.. لملم اصابعه على كفها يقربها اليه فتقف جواره تستقبل المباركة من سكان الحي.. استطالت قليلا لتصل الى أذنه تهمس له بسؤال لمح منه الحيرة و التوجس..
(كيف أقنعت أعمامي أن يقبلوا زواجنا و يأتون؟)
منحها جانب وجهه فتتجلى ندبته أمام عينيها الواسعتين و هو يجيب بلهجة لا مزح بها..
(لي طرقي الخاصة..)
رمشت بتفكير و سؤال آخر يتأرجح على شفتيها فيلمحه و يمنحها الحق في لفظه..
(اسألي عما تريدين)
زمت شفتيها بصمت لم يدم طويلا و هي تسأله بقلق..
(أنت لم تستخدم سلاحك أليس كذلك؟)
انزوت شفتيه ببسمة غير مرئية بعدما سمعها تصف المدية بسلاح!.. أشاح بوجهه عنها ينظر للناس المهنئين أمامه ثم يجيبها بتأكيد..
(ألم تقولي أنني فتحت صفحة جديدة في حياتي.. فاطمئني لا انوي تلويث هذه الصفحة فيكفي كتابي كله ملوثا)
اسبلت أهدابها بصمت.. لا يعرف أهو يخيفها منه عمدا أم يريد أن يبلغها حقيقته الكاملة كي لا تنصدم يوما ما.. أو ليبرهن لنفسه أنه رغم ما كان عليه سابقا هناك من يقبله و إن ذكر ماضيه ليل نهار أمامه..
شعر بتحفزها جواره فرفع وجهه لمن يقترب منهما فاسودت عيناه بقسوة لأعمامها.. طالت النظرات الغاضبة من الأعمام و المتوعدة من داغر حتى حثهم بحركة رأسه أن يباركوا لابنة أخيهم كما اتفقوا..
استقبلت حفصة مباركتهم الجافة بوجل حتى تركوها و اقتربوا من داغر.. مد داغر كفه بنظرة متحكمة دفعت أعمام حفصة لمد أكفهم بتشنج.. الأعين تتواجه في تحدٍ و حمايةٍ فتعود كلمات لقائهم لتلوح في أفق ذاكرتهم.. وعد قطعوه لداغر نُقِشَ على جبينهم و إن نقضوه لن يسلموا من شر رجل مثله.. انتهت مباركتهم فابتعدوا عن العروسين ليميل داغر الى حفصة آمرا...
(لا تخافي.. ما دمت حيا لا تخافي منهم أو من أي شخص)
اومأت له بصمت جعله يتذكر ما حصل بينه و بينهم بعدما سافر لهم بلدتهم.. لقد طلب منهم أن يثمنوا ميراث حفصة ليدفعه لهم مقابل ترك ما تملكه من أرضٍ لوالدها كما هو.. لم يكن القبول سهلا خاصةً و هم يظنون أن أرض الفتاة ستكون في يد زوجها "الغريب" عنهم و أن حقهم سيشاركهم فيه داغر.. فما كان من داغر إلا أن يستعرض اسم عائلته في هذه اللحظة فيبلغهم به أن ما يملكونه من مال صفر على خانة اليسار.. و هكذا اشترى راحة حفصة قاطعا عليهم وعد ألا يقتربوا منها و إلا سيندمون..
(ابنتي أمانة عندك فاستوصي بها خيرا بني)
انتبه لصوت أم حفصة القلقة على ابنتها فطمئنها بجدية...
(أكرمني الشيخ من قبل فلا تخافي عليها)
تابع حفصة و أمها تضمها اليها بدموع لا يعرف إن كانت سعادةً أم خوفًا على مصيرها الذي ربطته به هو!..
عند بيت المراكبي...
خرجت غسق من البيت تتوجه نحو سيارة كرم ليرحلوا بعد انتهاء عقد قران سيد.. فتح كرم لها باب السيارة لكنها توقفت حينما وصلها مباركات الناس للعروسين المهمشين من تفكيرها عمدا.. رفعت وجهها لكرم تمنحه نظرة توحي له بما تريد أن تفعل.. فهز رأسه رفضا و هو يهمس برجاء خوفا عليها...
(غسق!.. لا تفعلي!)
ابتلعت ريقها قبل ان تقول بإصرار..
(أريد أن اتخطى هواجسي..)
(لا تحملي نفسك فوق طاقتها في وضعك هذا)
جملته المتحفزة المشفقة عليها جعلتها تبتسم و تخبره بيقين..
(لو فعلتها سأدحض ما أخافني قبل أيام.. سأخبر نفسي بأن ما مضى كان نصيبي و نصيب ابنتي ليس مرتبطا بيّ)
ابتعدت عن السيارة فأسرع كرم باللحاق بها.. إن أرادت هذا سيكون دعمها.. فقط ليطمئن قلبها..
تسمر داغر في وقفته بعدما وقعت عيناه على غسق التي تتقدم منه و كرم خلفها.. انفاسه كانت مضطربة آملا أن ينال غفرانها لتزيح من فوق صدره ثقلا يفتته.. و على بعد سنتيمترات منه وقفت غسق بوجه شاحب قليلا.. عيناها في عينيّ حفصة و لسانها يردد المباركة ببسمة صغيرة...
(مبارك لكِ...)
فتستقبل حفصة مباركتها بحبور أوحى له أنها تعرفها من قبل.. و دون أن تنظر له غسق التفت ناوية الرحيل لكنها نظرت لزوجها بمغزى فلاحظ تشنج فكيّ كرم قبل أن يلقي كلمته بجفاء له..
(مبارك...)
تدفقت الدماء كسيل جارف في عروق داغر و مباركتهما له تعني له الكثير.. تفك القيد ببطء من حول عنقه.. و تخفف من وزن الثقل على صدره.. تابع ابتعادهما عنه بعينين شاكرتين..
***
عند بيت السمري...
فتح داغر بوابة بيت والده و بجواره حفصة.. لولا رجاء أمها أن تبقى ابنتها قريبة منها في نفس الحي ما كان ليخطو بيت السمري من جديد.. سحب نفسه بقوة متذكرا مقابلته التي لم تدم لدقيقتين مع والده قبل أيام.. أبلغه بنيته في الزواج هنا في هذا البيت.. فما كان من والده إلا أن يرحب بسعادة طفل وحيد و يطلب منه برجاء..
(يا ليت يا داغر.. البيت موحش دون ساكنيه و أنا امضيت فيه عمرا منتظر عودتك.. فلتأتي مع عروسك و تنيره..)
فتح الباب يطلب من حفصة برفق..
( تفضلي...)
همستها و هي تسمي بالله قبل الولوج كانت مسموعة له.. فتمنى بصدق أن يحفظها كرامةً للشيخ.. أن يكون و لأول مرة عند حسن الظن..
وصلا معا الى الشقة التي جهزها داغر لها فدلفت لتتوقف عند الصالة تنظر اليه ببراءة تختلط بصورة هدير في روحه.. فابتسم بتعجب من رحمة الله التي ما زالت تشمله.. وصله صوتها المتسائل بترقب..
(هل تبتسم؟!)
انتبه لها فعقد حاجبيه مجيبا بنبرة متعجبة..
(هل التبسم ممنوع!)
هزت رأسه بسرعة نفيا بينما توضح سؤالها..
(لم أقصد هذا.. لكن ما سبب ابتسامتك فمنذ رأيتك و انت كما وصفك خالي)
ضيق عينيه بفضول يقترب منها متسائلا بلهجة لم يقصد أن تكون و كأنه يستجوبها..
(تكررين هذا كثيرا فينتابني الفضول لماذا يخبرك الشيخ عني تحديدا.. اخبريني كيف وصفني الشيخ؟!)
توترت ملامحها فأسبلت أهدابها للحظات قبل أن تلين نبرته و هو يعاود سؤالها برجاء...
(أريد أن أعرف كيف كان يراني شيخي)
تنحنحت قبل أن تردف بهدوء...
(في سنوات الشيخ الأخيرة بدأ ينسى كثيرا و كلما تحدثنا إليه يذكر أناس لا نعرفهم لا أنا و لا أمي.. و في كل مرة يسأل عن داغر السمري و إن كان عاد أم لا.. و ذات مرة سألته من هو داغر لربما استطعنا أن نطلب منه الحضور لرؤية خالي الذي لا يكف عن السؤال عنه)
صمتت تنظر اليه و كأنه تسأله هل تكمل فيردف هو برغبة في السماع...
(ثم؟!)
بللت شفتيها بلسانها تسترسل..
(اجابني هو شاب بوجه واجم ذي ندبة على وجنته اليمنى.. و حينما سألته فيما تريده أجابني أريد أن اطمئن عليه)
إذًا لم تستنكر هيئته و لم تخشى ندبته لأنها تعرفها قبل أن تعرف صاحبها.. اغرورقت عينا داغر تأثرا باهتمام الشيخ به رغم مرضه بصورة واضحة فسحب نفسه و ابتعد قليلا عن حفصة التي اوقفته بكلماتها المستمرة...
(قضيت الليالي جوار خالي أسمع منه عنك.. كنت أنا من يسأل لأروي فضولي عن الشخص الغريب الذي يحتل ذاكرة خالي المشوشة.. و على مدار سنوات كان داغر السمري محور أحاديثنا)
التفت لها بتعجب مما يسمعه فتبتسم له و تردف..
(كيف كان و كيف أصبح كانت نقطة التحول التي جعلتني حقا اتمنى رؤيته يوما.. ليس سهلا أن يعترف المرء بذنبه و يريد أن يكفر عنه و يتوب.. لكنك امتلكت الشجاعة لتفعل)
اقترب منها بعينين تتفحصان وجهها الصغير فيقول بجدية...
(أن تسمع غير أن ترى.. هذا الشجاع الذي تظنينه ما كان سوى شخص تائه أفسد كل شيء.. شخص غريب عما في مخيلتك لا تعرفينه)
ناظرته بعينين واثقتين و هي تردف..
(لكنه يحاول أن يصل رغم تيهه)
ماذا يحدث معها؟!.. هل تعلقت كمراهقة تسمع عن قصته بخيال لرجل ليس له.. فهو أكثر الناس دراية بنفسه.. تحدث برفق بها..
(أنتِ بريئة بلا خبرة في الحياة يا حفصة.. و لا أعرف حقا لماذا يمنحني الله الأنقياء و أنا اسوأ شخص على هذه الأرض؟!)
ابتسمت له بسماحة تقول..
(الله يعامل الناس برحمته و ليس بعدله أو بعملهم.. رحمة الله وسعت كل شيء)
أقترب منها يقبل جبهتها بحنان و يهمس بتمني صادق...
(آمل أن أكون عند حسن ظنكِ بي.. و احفظ أمانة الشيخ عثمان)
خفق قلبها بخجل فأطرقت برأسها تتحاشى النظر إليه.. فيبتعد هو مردفا برفق..
(أنرتِ بيتكِ يا حفصة...)
ثم يستكمل بنفس النبرة...
(الغرفة على يدكِ اليمين أدخلي و بدلي ملابسكِ بالتأكيد متعبة بعد يوم طويل كهذا)
اومأت له و تحركت الى الغرفة تدلفها و تختبئ بها و ضربات قلبها تعلو.. همهمت بتوبيخ لنفسها...
(لماذا أخبرته أنني أعرف حكايته.. لماذا هذيت بكل هذا!!..)
ابتلعت ريقها ببطء و رفعت كفها فوق قلبها تستشعر تأثير داغر عليها.. أيعقل أن تغرم بشخص تعرف كل عيوبه.. أيعقل أن صورته اكتملت مع خيالها عنه و كانت صورة مثالية مع شخص اوضاعه ليست مثالية بالمرة.. اغمضت عينيها تهمس بصوت خجول...
(يا رب إنه زوجي الآن فاجعله خيرا لي و إن كان غير ذلك فأصلحه و أجعله خيرا لي.. أنا قبلته بكل ما فيه فكما رزقته القبول من قلبي أرزقني قبوله لي.. أرجوك أجعل لي مكانا في قلبه)
***
نظر داغر حوله لهذه المساحة الخضراء الشاسعة.. ضيق عينيه بتعجب من كونه بمفرده في هذا المكان الذي لم يتعرف عليه حتى الآن.. مشي قليلا فصادف شابة تمنحه ظهرها.. اقترب منها متسائلا بعدم فهم عن مكانهم و حينما التفت له الشابة.. اتسعت عيناه بقوة و توقفت انفاسه في صدره للحظات و هو يرى هدير بملامح مرتاحة مبتسمة.. منذ تزوج قبل أشهر و لم تعد تراوده كوابيس عنها.. لم تغب عن باله للحظة لكنه لم يحلم بها منذ فترة طويلة!.. مد كفه نحوها يهمس بذهول..
(هدير أنتِ.. تبتسمين!!)
كانت كما رآها أول مرة و هي تبتسم ببراءة مع طاهر.. كانت جميلة للحد الذي يوجعه.. اجابته بتعجب دون ان تتخلى عن بسمتها..
(و لمَ لا أفعل!)
ابتلع ريقه بصعوبة و عيناه تحمران بشدة فيهمس...
(كنتِ.. تتألمين.. على مدار سنوات.. كنتِ تحرقين قلبي عليكِ!)
تنهدت بنظرة متسامحة قبل أن تجيب برضا..
(الألم مهما طال سينتهي.. حينما يشاء الله ينتهي)
لفت نظره صوت طفل رضيع فانتبه انها تحمله.. خفق قلبه بقوة يسألها
(من.. من هذا؟!)
تعلقت نظراتها بالرضيع تهمس...
(هذا...)
ثم ترفع وجهها بسعادة و تبلغه...
(طفلك)
تساقطت دموعه أمامها و هو يسألها بأسف..
(طفلنــــا!!)
هزت رأسها نفيا تردف بهدوء...
(لا.. طفلك أنت)
ضيق عينيه بجهل يسألها
(أنا لا أفهم...)
ابتسمت له بحنان و اوضحت له...
(جئت لأمنحها إياه)
فزاد ضيق عينيه و هو يسأل بشيء من التوجس..
(من هي؟!)
التفتت هدير للخلف تنظر لشخص ما.. فتجلت له بوشاحها الذي يغطي رأسها الصغير.. تمتم بذهول من وجودها هنا بالتحديد.. من اقتحامها مساحة هدير الخاصة في روحه...
(حفصـــــة!!)
ابتسمت له هدير ببراءة عينيها و اتجهت الى حفصة تضع الرضيع بين ذراعيها و تبتعد عنهما.. ركض داغر خلفها يناديها برجاء ألا ترحل...
(هديــــــر!!!!!)
و كلما ركض كلما اتسعت المسافة بينهما.. حتى اختفت هدير تماما من أمام عينيه.. فهطلت دموعه بوجع و قلبه يوقن أنه اللقاء الأخير بينهما..
شهق بصوت مفزوع و هو ينتفض من حلمه.. مسد فوق صدره و دموعه تهطل بلا توقف.. قلبه يؤلمه حد الموت.. هدير منحته الحياة و سلبها هو إياها.. و عادت لتمنحه الهدوء و السكينة بعد سنوات طوال من العذاب.. تقطعت انفاسه و هو يضرب فوق قلبه بحدة و يهمهم بدموع مختلطة بكلماته...
(هدير.. يا وجع قلبي!)
شعر بحركة حفصة جواره و صوتها الوجل يسأله بقلق...
(داغر ماذا أصابك؟!)
التفت لها فتعلقت عيناه ببطنها طويلا.. هدير جاءت اليه تبلغه رسالة.. جاءت تريحه و تبشره.. مد كفه المرتعش غير مصدقا أن الله سيمن عليه بنعمة جديدة.. سيصبح أبا من جديد بعد كل شيء.. لامس بطنها فشعر برجفتها ليرفع عينيه الباكيتين إليها و يهمس بذهول
(سيمنحنا الله طفلا...)
ناظرته ببسمة سعيدة قبل أن تهمس..
(آمين..)
نظر في عينيها يخبرها بصوت مهتز..
(هدير وضعته بين يديكِ)
ضمت ذراعه اليها تواسيه بصمت.. تقبلت حقيقة أن هدير لا يمكن نزعها من قلب داغر.. و لتكون صادقة تعترف أن لولا هدير ما كان ليصل داغر الى هذا الشخص الذي أصبحت هي زوجته.. وعدته بصدق نابع من قلبها..
(إن رزقنا الله بفتاة.. ستكون هدير.. هدير داغر السمري)
ابتعد عنها ينظر لوجهها بعدم تصديق.. فتومئ له بسماحة.. مال برأسه يسند جبهته فوق جبهتها مستشعرا دفء روحها الطيبة فيهمس بصدق شاكر..
(لا حرمني ربي منكِ يا حفصة)






انتهى المشهد

قراءة ممتعة












































AyahAhmed غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-10-21, 02:33 AM   #3

سهام زيد
 
الصورة الرمزية سهام زيد

? العضوٌ??? » 471029
?  التسِجيلٌ » May 2020
? مشَارَ?اتْي » 135
?  نُقآطِيْ » سهام زيد is on a distinguished road
افتراضي

ما احلاه من مشهد إضافي سلمت ايدك 🌹❤
داااغر على قد كرهي له وكيف تسبب في كل هي المعاناة على قد ما وجع قلبي عليه وهو عم يتمنى لمحة غفران ونظرة إيمان
كنت قريت الروايةpdf وكانت من اجمل ما قرأت ولم أنساها رواية ممتازة من كل النواحي ومع هي المشهد تمنيت لو عملتي جزء ثاني فيه شخصيات جديدة وفيها قصة توبة داغر
بالتوفيق 🌹🌹


سهام زيد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-10-21, 02:46 AM   #4

najla1982

نجم روايتي

alkap ~
? العضوٌ??? » 305993
?  التسِجيلٌ » Oct 2013
? مشَارَ?اتْي » 2,267
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي tunis
?  نُقآطِيْ » najla1982 has a reputation beyond reputenajla1982 has a reputation beyond reputenajla1982 has a reputation beyond reputenajla1982 has a reputation beyond reputenajla1982 has a reputation beyond reputenajla1982 has a reputation beyond reputenajla1982 has a reputation beyond reputenajla1982 has a reputation beyond reputenajla1982 has a reputation beyond reputenajla1982 has a reputation beyond reputenajla1982 has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   water
¬» قناتك max
افتراضي

سلمت يداك على المشهد أو خلينا نقول على القصة القصيرة و التتمة المعقولة لداغر بعد طول عذاب لضميره و سلوكه طريق الحق
كلك غسق و مخاوفها و نفسيتها بعد سنوات من تجربة الاغتصاب هي فعلا الحقيقة و ان كانت الوجه لجميل لبعض التجارب التي تحظى بدعم العائلة و قوة الإيمان و الرضا بالقضاء ...غيرها انتهى بهم الأمر منتحرات أو مريضات نفسيات أو حتى بائعات هوى و هذا الفرق في طرح قضية الاغتصاب و معالجة آثارها
سلمت يداك و فرحة اتظار جديدك و ربما لجزء ثاني من الجبل الجديد


najla1982 متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 04-10-21, 03:15 AM   #5

Nour fekry94

? العضوٌ??? » 461550
?  التسِجيلٌ » Jan 2020
? مشَارَ?اتْي » 339
?  نُقآطِيْ » Nour fekry94 is on a distinguished road
افتراضي

تحفة المشهد يا يويا تسلم ايدك يا حبيبة قلبي ❤❤

Nour fekry94 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-10-21, 04:00 AM   #6

Nour fekry94

? العضوٌ??? » 461550
?  التسِجيلٌ » Jan 2020
? مشَارَ?اتْي » 339
?  نُقآطِيْ » Nour fekry94 is on a distinguished road
افتراضي

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 51 ( الأعضاء 6 والزوار 45)
‏Nour fekry94, ‏taljaoui, ‏جميلة الجميلات, ‏MOLA ABDALLAH, ‏ندى رمضان 35, ‏سماح ام عبد الله


Nour fekry94 غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-10-21, 01:40 PM   #7

نسمه فوزي

? العضوٌ??? » 463498
?  التسِجيلٌ » Apr 2020
? مشَارَ?اتْي » 104
?  نُقآطِيْ » نسمه فوزي is on a distinguished road
افتراضي

تسلم ايديك كتير كتير مشهد رائع جامع كل الشخصيات 😀😁😀😁😁😁😍😍😘🤩🤩

نسمه فوزي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-10-21, 02:03 PM   #8

AyahAhmed

كاتبةفي منتدى قصص من وحي الاعضاء


? العضوٌ??? » 451462
?  التسِجيلٌ » Aug 2019
? مشَارَ?اتْي » 1,566
?  نُقآطِيْ » AyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond reputeAyahAhmed has a reputation beyond repute
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة سهام زيد مشاهدة المشاركة
ما احلاه من مشهد إضافي سلمت ايدك 🌹❤
داااغر على قد كرهي له وكيف تسبب في كل هي المعاناة على قد ما وجع قلبي عليه وهو عم يتمنى لمحة غفران ونظرة إيمان
كنت قريت الروايةpdf وكانت من اجمل ما قرأت ولم أنساها رواية ممتازة من كل النواحي ومع هي المشهد تمنيت لو عملتي جزء ثاني فيه شخصيات جديدة وفيها قصة توبة داغر
بالتوفيق 🌹🌹
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة najla1982 مشاهدة المشاركة
سلمت يداك على المشهد أو خلينا نقول على القصة القصيرة و التتمة المعقولة لداغر بعد طول عذاب لضميره و سلوكه طريق الحق
كلك غسق و مخاوفها و نفسيتها بعد سنوات من تجربة الاغتصاب هي فعلا الحقيقة و ان كانت الوجه لجميل لبعض التجارب التي تحظى بدعم العائلة و قوة الإيمان و الرضا بالقضاء ...غيرها انتهى بهم الأمر منتحرات أو مريضات نفسيات أو حتى بائعات هوى و هذا الفرق في طرح قضية الاغتصاب و معالجة آثارها
سلمت يداك و فرحة اتظار جديدك و ربما لجزء ثاني من الجبل الجديد
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة nour fekry94 مشاهدة المشاركة
تحفة المشهد يا يويا تسلم ايدك يا حبيبة قلبي ❤❤
اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نسمه فوزي مشاهدة المشاركة
تسلم ايديك كتير كتير مشهد رائع جامع كل الشخصيات 😀😁😀😁😁😁😍😍😘🤩🤩
سعيــــــدة جدا بوجودكم و رأيكم شكرا من قلبي💗💗💗💗


AyahAhmed غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-10-21, 02:32 PM   #9

طوطم الخطيب

? العضوٌ??? » 487178
?  التسِجيلٌ » Apr 2021
? مشَارَ?اتْي » 169
?  نُقآطِيْ » طوطم الخطيب is on a distinguished road
Rewitysmile1

مشهد اكثر من رائع غسق فعلا صعب عليها انها كانت تفضل عابشه فى نفس المنطقه اللى حصلت فيها الحادثة تسلم ايدك

طوطم الخطيب غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 04-10-21, 04:00 PM   #10

سحر صالح

? العضوٌ??? » 392493
?  التسِجيلٌ » Feb 2017
? مشَارَ?اتْي » 615
?  نُقآطِيْ » سحر صالح is on a distinguished road
افتراضي

تسلم ايدك بجد بس ده مش مشهد ده روايه قائمه بذاتها الله عليكي المشهد في جبر خاطر وسماحه وهدوء نفسي بجد شكراااا ابدعتي في توبه داغر ووصف حاله غسق رغم مرور سنين 💕💕💕💕💕💕💕💕💕💕💕💕💕

سحر صالح غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:22 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.