آخر 10 مشاركات
أسيـ الغرام ـاد -ج2 من سلسلة أسياد الغرام- لفاتنة الرومانسية: عبير قائــد *مكتملة* (الكاتـب : noor1984 - )           »          قلبي فداك (14) للكاتبة: Maggie Cox *كاملة+روبط* (الكاتـب : monaaa - )           »          راسين في الحلال .. كوميديا رومانسية *مميزة ومكتملة * (الكاتـب : منال سالم - )           »          في أروقة القلب، إلى أين تسيرين؟ (الكاتـب : أغاني الشتاء.. - )           »          وشمتِ اسمكِ بين أنفاسي (1) سلسلة قلوب موشومة (الكاتـب : فاطمة الزهراء أوقيتي - )           »          في قلب الشاعر (5) *مميزة و مكتملة* .. سلسلة للعشق فصول !! (الكاتـب : blue me - )           »          روايتي الاولى.. اهرب منك اليك ! " مميزة " و " مكتملة " (الكاتـب : قيثارة عشتار - )           »          نيران الجوى (2) .. * متميزه ومكتملة * سلسلة قلوب شائكه (الكاتـب : hadeer mansour - )           »          جدران دافئة (2) .. سلسلة مشاعر صادقة (الكاتـب : كلبهار - )           »          96 - لحظات الجمر - مارجري هيلتون - ع.ق ( مكتبة زهران ) (الكاتـب : عنووود - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة ضمن سلاسل (وحي الاعضاء)

Like Tree11394Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 01-07-22, 10:34 PM   #1261

بوفرديا

? العضوٌ??? » 435866
?  التسِجيلٌ » Nov 2018
? مشَارَ?اتْي » 251
?  نُقآطِيْ » بوفرديا is on a distinguished road
افتراضي


تسجيل حضور 🤗🤗🤗🥰❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️❤️

بوفرديا غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-07-22, 10:41 PM   #1262

حفصه العزام

? العضوٌ??? » 498373
?  التسِجيلٌ » Jan 2022
? مشَارَ?اتْي » 29
?  نُقآطِيْ » حفصه العزام is on a distinguished road
افتراضي

تسجييييييل حضور حمااااسي ناااري متشووووقين للفصل بقوووه ربنا مايحرمنا من طلتك ي شمس الشموس ❤️❤️❤️

حفصه العزام غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-07-22, 10:43 PM   #1263

ام سليم المراعبه

? العضوٌ??? » 342138
?  التسِجيلٌ » Apr 2015
? مشَارَ?اتْي » 568
?  نُقآطِيْ » ام سليم المراعبه is on a distinguished road
Mh04

تسجيل حضورررررر للفصل

ام سليم المراعبه غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-07-22, 10:44 PM   #1264

دانه عبد

? العضوٌ??? » 478587
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 513
?  نُقآطِيْ » دانه عبد is on a distinguished road
افتراضي

بانتظارك يا شموسه 💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚

دانه عبد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-07-22, 10:44 PM   #1265

Shammosah

كاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية Shammosah

? العضوٌ??? » 413617
?  التسِجيلٌ » Dec 2017
? مشَارَ?اتْي » 1,909
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » Shammosah has a reputation beyond reputeShammosah has a reputation beyond reputeShammosah has a reputation beyond reputeShammosah has a reputation beyond reputeShammosah has a reputation beyond reputeShammosah has a reputation beyond reputeShammosah has a reputation beyond reputeShammosah has a reputation beyond reputeShammosah has a reputation beyond reputeShammosah has a reputation beyond reputeShammosah has a reputation beyond repute
افتراضي الفصل الثاني والعشرون

تنويه:
الجمعة القادمة سنتوقف عن النشر بمناسبة وقفة عرفات، وسنعود الجمعة التي تليها، وكل عام وأنتم بخير

××××



فيضٌ من حبٍ
ودمعٍ
وخفقات ِقلبٍ مبعثرة
وأنينُ الشوقِ
يبوح بأمانٍ حائرة
فدعني أسكن بين عينيكَ
واسقني سلوان أيامٍ عابرة


×××××


الفصل الثاني والعشرون




اعتدلت سيلا وتطلعت نحو الشاطئ مأمورة من إحساسها فلمحته يقف أمام الشاطئ فتنفست الراحة لعودته سالمًا ثم عبست وهي تراه يبتعد ليعود إلى الفيلا فقررت أن تسبح لبضع دقائق أخرى ثم تلحق به.
عاد مروان يخرج من بوابة الفيلا بعد دقائق يرتدي شورتًا قصيرًا للسباحة وتيشيرتًا قطنيًا بنصف كم وأسرع إلى البحر قدماه تغوصان في الرمال حتى وصل للشاطئ فلمحته سيلا مجددًا وتفاجأت بأنه ينوي نزول الماء.
أحست بالحرج فهي المرة الأولى التي يتشاركان فيها السباحة واندهشت لأنه يدخل البحر دون أن ينزع التيشيرت. راقبت ابتسامته وهو يقترب وتلك الشقاوة في عينيه قبل أن يقول بلهجة ساخرة "تسبحين هنا بمزاج رائق يا طبيبة وأنا أعاني على الطرق الوعرة"
تمتمت "حمدًا لله على سلامتك.. يبدو أن المشوار كان مرهقًا"
قال وهو يقترب منها وينزل بجسده في الماء حتى غطاه إلى كتفيه "بصراحة أتعبني العم دومة في تذكر الطريق، بالإضافة لذلك الوقت الذي كان فيه طريق السفر مغلقًا بسبب حادث وخفت من أن أنام وأنا أقود السيارة"
"مرت على خير"
سألها "لماذا نزلت البحر في هذا الوقت المبكر؟"
ردت وهي تستمتع بالماء حولها "كنت أتلهف للنزول أثناء الليل لكني تماسكت حتى بزوغ الفجر"
اقترب منها، فتطلعت في وجهه وفي تلك الجدية في عينيه بينما ارتجفت شفتاها تلقائيًا استجابة لنظراته نحوهما.
هل تشعر بالخجل؟ عليها أن تعترف بذلك، وعليها أن تعترف أيضًا بأنها تتمنى أن تعيد تجربة القبلة مرة أخرى. أسرعت بإمساك أنفها والنزول تحت الماء وظلت لبضع ثوان بالأسفل قبل أن ترفع رأسها وتشهق طلبًا للهواء فأخذ مروان يتأمل وجهها المغسول بالماء وقسماته الرقيقة التي تزيد من اشتهائه لقبلة وقال بخفوت "سيلا"
نبرته أشعرتها بالخطر اللذيذ ليضيف مروان "هلا سمحت لي بقبلة واحدة أخرى.. واحدة فقط سيلا"
ارتبكت وقالت ضاحكة "وهل تعتقد أنك ستنال ما تريده هكذا بسهولة؟!"
كانت تمزح، لكنه أجابها بكل جدية "اطلبي ما تريدين ودعيني أقبلك مرة أخرى"
ارتجف جسدها وأحست بالتوتر فكلما اقتربت من ذلك الشيء المجهول انتابها الخوف فقالت بدلال وهي تبتعد "تريد قبلة؟ اغلبني أولًا"
تطلع فيها بعبوس فحركت ذراعيها تسبح ثم نظرت خلفها تقول بابتسامة نافست في إشراقها حواف قرص الشمس الذي يرتفع ببطء واستحياء الآن خلفها من حافة البحر البعيدة "نتسابق حتى هناك"
قالتها مشيرة على ربوة صغيرة تخرج من وسط البحر ثم أضافت "ألم تتشدق بأنك سباح ماهر وبأن بلدتك تقع على البحر؟ أريني مهارتك"
قال مروان مستفهمًا "هل تقولين بأني لو فزت عليك في السباق سأحصل على قبلة؟"
قالت وهي تبتعد بقدر الإمكان حتى تضمن الفوز "نعم"
أطلق صيحة مرحة أضحكتها وتطلعت فيه وهو يضرب الماء بذراعيه بشكل بدا محترفًا فاجأها، ثم أسرعت هي الأخرى بمنافسته في السباحة المحترفة وهي تنوي ألا تتركه ليفوز عليها.
راقبها مروان وهي تسبقه بمسافة ثم فكر في القبلة التي قد يحصل عليها إن فاز، قبل أن تتسارع الصور في رأسه فجأة فيتذكر مشاهد من رحلته إلى هنا، تذكر أمورًا حدثت على تلك الباخرة، وبأنها كانت تحمل ما يزيد عن حمولتها وبالمخاوف التي كانت بين الركاب من الغرق.
تقافزت الصور سريعًا أمام عينيه فتوقف لبرهة شاردًا قلبه مقبوض قبل أن ينفضها عن رأسه ويبحث بأنظاره عن سيلا ثم تجمد وفقد الشعور بجسده لثوان وهو يراها تتطلع فيه من بعيد بنظرة هلعة رأسها يصعد ويهبط فوق الماء، فحدد موقعها، واتجاه سحب الأمواج ثم سقط قلبه في قاع البحر حينما أيقن بأن سيلا تتعرض للغرق.
اتسعت عيناه وضرب الماء بذراعيه بسرعة في الوقت الذي كانت فيه سيلا تبتلعها الماء للأسفل وتجاهد للتشبث باللاشيء، في الدقيقة الأولى كانت متماسكة تجاهد للعودة لمنطقة آمنة، لكن سحب الأمواج كان أقوى منها مع الجهاد لالتقاط الأنفاس وهي تحافظ على حركة قدميها لمساعدتها على إبقاء رأسها فوق سطح الماء، لكن ساقيها بدأتا تتشنجان وتأذت عينيها وأنفها بالماء المالح.
تتابعت اللحظات عليهما وكل لحظة بحال، نظرت سيلا لمروان برؤية مشوشة، وهو يتقدم ناحيتها وفكرت للحظة أنه قد يساعدها، ثم في اللحظة التالية أحست بالخوف من أن يموت معها، لتصطدم في اللحظة الثالثة باليأس. كانت على حافة الموت، عند باب العالم الآخر.
أهذه النهاية؟
الخوف يهز القلوب؛ قلبها وقلب مروان الذي لا يعرف كيف ابتعدت كل هذا القدر عنه، لكنه خمن بأن التيار قد سحبها لتلك المنطقة. قلبه يرتج في صدره ويشل عقله عن التفكير في أي شيء سوى انقاذها، صدره يضيق ويشعر بالألم ربما تعاطفًا معها، وربما لأنه يضغط على نفسه بشدة للوصول إليها.
جاهدت سيلا لإبقاء رأسها فوق الماء والعمق تحتها مخيف، وجاهدت أيضًا ضد التيار كي لا تكون ريشة بين يدي الموج، لكن طائر الأمل الأبيض طار بعيدًا وترك اليأس ظلًا أسودًا مكانه.
فكانت اللحظة التالية هي الاستسلام للقدر، ونظرة لوجه مروان، ولمحة لصور عائلتها، ثم العودة للتركيز في وجه مروان الذي تتضح ملامحه شيئًا فشيئًا أمام تشوش العدسات في عينيها.
لن يلحق بها، إنها النهاية، صدرها يضيق وساقاها تجمدتا من الإرهاق والماء المالح يحرق أنفها وعينيها.
"ابتعد"
نطقتها أو لم تنطقها لم تعرف، لكنها خافت عليه رغم الخوف الذي يسيطر عليها، لكنه ليس وقت الاندهاش.
قال بمجرد أن اقترب وتوقف عند نقطة معينة أحس بعدها أن تيار الماء سيسحبه نحو الدوامة "حركي ساقك سيلا.. حركي ساقك تحت الماء"
غطس رأسها فهدر آمرًا وقلبه يرتج فزعًا "سيلا حركي ساقك"
رفعت رأسها تشهق وتطلعت في عينيه بينما حركة ضعيفة متعبة من ساقها عادت للدوران فقال مروان وهو يتطلع حوله مفكرًا في شيء ليمده لها كخطة أولية "ساقاك سيلا.. حركي ساقيك"
ماذا سيجد في ذلك البحر الشاسع؟ هكذا حدث نفسه قبل أن يخلع التيشيرت ويقوم بإلقائه كالحبل.
المسافة قصيرة لكنه فكر لوهلة في البحث عن حل من منطقة يكون فيها قويًا. أخفق التشيرت في الوصول إليها؛ فاقترب مروان لبضع إنشات من منطقة الدوامة بينما سيلا تغطس تحت الماء فهدر فيها بصرامة "هل قررت الاستسلام؟ حركي ساقيك وساعديني في التقاط التيشيرت"
كلماته جعلتها تستعيد بعضًا من شخصيتها التي لا تستسلم بسهولة فحركت ساقيها رغم الألم وبدأت في التركيز على قطعة القماش التي يلقيها بعد أن مزق التيشيرت كي يكون أطول.
محاولة أخرى واهنة لم تنفع، وثانية، ثم ثالثة حتى أمسكت بطرف القماش وكادت أن تفلت منها، لكنها تشبثت بها بكل رغبتها في النجاة بينما ثبت مروان طرف التيشيرت بين أسنانه ويديه وبدأ في سحبها ببطء، والطائر الأبيض يعود ليحلق فوق المشهد.
أنفاسها تلهث، وأنفاسه محبوسة يكاد قفصه الصدري أن ينفجر، وعيناه مثبتتان على وجهها لا يفكر في شيء سوى اللحظة الحالية، فهو وسيلا على حد فاصل بين عالمين؛ الحياة والموت، لكنها ليست إلا ثوان وينضم أحدهما للآخر؛ فإما يسحبها للحياة معه أو يلقي بنفسه معها في هوة الموت فتبتلعهما معًا.
لحظة، وما أصعبها لحظة فارقة يحدد فيه المصير؟!
أحست سيلا بأنها تبتعد عن دائرة الدوامة فبدأت قدماها في الإعلان عن ارهاقهما، لكن مروان كان يهتف بشكل متكرر "استمري.. استمري.. قدماك، قدماك"
سحبها؟
لا تصدق، وهو أيضًا لا يصدق، لقد سحبها حتى تقلصت المسافة بينهما ثم التقطها في حضنه.
عقدت ذراعيها حول عنقه بقوة فاعتصرها بين ذراعيه مطلقًا سراح أنفاسه وهو يردد "حمدًا لله.. حمدًا لله.. حمدًا لله"
كانا يرتجفان من الخوف، لكن مروان كان الأكثر تماسكًا فأخذ يسبح للخلف مبتعدًا عن تلك البقعة المميتة، بينما سيلا تتمسك بعنقه بقوة.
حينما أصبح الماء عند منتصف جسد مروان توقف وأوقفها معه، ثم أجبرها على فك ذراعيها ليتطلع في وجهها. كانت لا تزال تشعر بالصدمة مما تعرضت له، ومن نجاتها أيضًا فطالعته بنظرات ذاهلة.
سألها متفحصًا وهو يلهث بقوة " هل أنت بخير؟"
هزت رأسها بالإيجاب تحاول الكذب على نفسها ثم قالت وهي تمسح قطرات الماء عن وجهها "حمدا لله (بدأت في الارتجاف وحضنت نفسها تتمتم بارتعاش) لا أعرف ما الذي حدث، فجأة سحبني التيار، أنا.. أنا أعرف احداثيات المكان وهذه ليست المرة الأولي التي..."
ضاعت الكلمات، تساقطت منها مع قطرات الماء في البحر فحضن وجهها بكفيه وهمس "كفى سيلا كفى.. مرت على خير"
استمرت في الارتعاش وهي تقول بحشرجة "ساقي تؤلمني"
ضمها إليه بقوة، فعقدت ذراعيها حول رقبته تحتمي بحضنه، فكاد أن يحطم عظامها وهو يردد وتردد خلفه "حمدًا لله، حمدًا لله"
وقفا في وسط البحر مذعورين يحضنان بعضهما وقد سقط عنها درع الثقة الذي تختال به، بينما سقط عنه مرحه، يتبادلان ذلك الهمس المبتهل بالحمد والشكر.
بصعوبة استجمعا شتات أعصابهما بعد برهة، وتحركا نحو الشاطئ، فضمها مروان تحت ذراعه يسندها حتى لمست قدماهما الرمال، لكن سيلا لم تطع الرغبة بداخلها للانهيار فوق الشاطئ وتماسكت تقول "أريد العودة للبيت بسرعة"
فاستمر في طريقه وهي تحت جناحه ويديها واحدة متشبثة بصدره العاري والأخرى ملفوفة حول ظهره حتى وصلا للبيت.
لم يشعر كلاهما بعظمة الشعور بالبيت وأمانه أكثر من هذه اللحظة. دخلا إلى البيت تتساقط من أجسادهما قطرات الماء ونبضات القلب الفزعة، وسيلا لا تزال تشعر بدوار البحر وصوت الموج لا يزال في أذنيها وحول جسدها فوقفت عند طاولة السفرة تتمسك بظهر المقعد؛ ليسحب لها مروان أحد المقاعد ويجلسها عليه ثم يسرع إلى الداخل ويعود مسرعًا بمنشفة كبيرة لفها حول كتفيها وشعرها وساعدها على تجفيف نفسها قاصدًا أن يمنحها بعض الشعور بالأمان؛ فلم يرها بهذا الشكل من قبل، كان وجهها شاحبًا كالأموات، وبدت أمام عينيه القلقتين تجاهد لعبور الصدمة فسألها يمسك بالمنشفة حول وجهها ويميل ليتطلع في عينيها من قرب شديد "هل أنت بخير؟"
تطلعت في عينيه وهزت رأسها بالإيجاب فقطع تواصل الأعين بالقول وهو يتحرك "سأحضر لك بعضًا من الماء"
ازداد ارتجافها حينما أبعد عينيه عنها، كانتا شعلتين من دفء آمن هكذا أحست حينما ابتعد فتابعته بأنظارها قبل أن تطلق صرخة مفاجئة أفزعته رغم وهنها ثم هتفت "مروان.. ما هذا؟!"
تطلع فيها باتساع عينيه متحفزًا، فاستقامت واقفة تقول "ظهرك، ماذا ..؟"
أطلق أنفاسه المحبوسة وقال بهدوء "لا تقلقي"
اقتربت منه فأدارته ثم وقفت تتطلع في ظهره وهي تقول بصوت متحشرج "كيف لا أقلق (وضعت يدها على فمها تتمتم) يا إلهي! ما هذا يا مروان؟!"
استدار يجيب "على الأغلب آثار تعذيب"
رفعت عينيها إليه تطالعه بنظرات ذاهلة وهو ينطق بالعبارة بهدوء، ثم تحركت كي تنظر على ظهره ثانية وقالت "يا إلهي! لا أصدق"
كانت على ظهره آثار تعرضه لتعذيب فتمتمت وهي تتحسس جلده بأطراف أصابعها "هذه أثار حروق وندبات جروح (وهتفت بلوعة قلب) مروان ماذا فعلوا بك؟!"
استدار ليواجهها ويبعد عن ناظريها المشهد الذي رغم وقعه المؤلم في النفس نجح في إخراجها من حالة التبلد التي أصابتها من الصدمة ثم قال بهدوء "هيا لتغتسلي من الماء المالح"
ظلت تتطلع في وجهه بصدمة دون حراك فأضاف بلهجة مطمئنة "أنا لا أذكر شيئًا سيلا إنها فقط آثار تخبرني عن جزء من الماضي، لكني لا أحمل تفاصيل عنها حمدًا لله"
ظلت تتطلع إليه والألم يعتصر قلبها، فأمسك بذراعها يقودها نحو الداخل قائلًا "سأسبقك للحمام حتى تحضري ملابسك ولن أغيب"
توقف عند الحمام وراقبها وهي تكمل الطريق نحو غرفتها ثم أطلق زفرة راحة حينما دخلت فأغمض عينه يجمع شتات نفسه وأعصابه التي انهارت في الماء قبل قليل.
بعد دقائق خرجت سيلا من غرفتها تحضن ملابس جافة ونظيفة في الوقت الذي خرج فيه مروان من الحمام يلف منشفة حول خصره.
تطلع في عينيها وتطلعت في عينيه، كان كل منهما قلق على الآخر بما لا يجعلهما واعيين لتفاصيل اللحظة فقال وهو يبتعد عن باب الحمام كي يفسح لها مجالًا للدخول "سأرتدي ملابسي وأعد فطورًا سريعًا وبعدها ننام.. فحمدًا لله أن اليوم هو الجمعة وليس لدينا عمل"
هزت رأسها وتحركت نحو الحمام بينما أسرع هو إلى غرفته لكنه لم يستطع أن يتخطى وقع المشاعر الثقيلة في صدره خاصة حينما باغتته تلك الذكريات ذات الوقع المؤلم في النفس قبل ثوان مما حدث فكان شعوره لحظتها مضاعفًا بالخطر والخوف ما جعله غير قادر على تخطي اللحظة.
ارتدى ملابس نظيفة، وخرج من غرفته ثم توقف عند الحمام يمنع نفسه بصعوبة من الدخول إليها، ليس لشيء سوى عدم رغبته في تركها وحدها. لم يعد له الشعور بالأمان بعد، ولن يحدث ذلك إلا في محيطها كي يطمئن قلبه.
أما سيلا فوقفت تحت الدوش الساخن صامتة، تستعيد ما حدث، لقد كانت في مواجهة حقيقية مع الموت، وللحظة ظنت أنها النهاية، تذكرت مروان وهو يقترب منها وذلك التعبير على وجهه، ألهذه الدرجة يحبها؟! لقد غامر بنفسه وحياته وكان من الممكن أن يسحبه الموج هو الآخر.
انهمرت دموعها تحت الماء، فما أصعب لحظة تكون فيها في مواجهة الموت، كل شيء يتضاءل، يصغر حجمه، يبهت، ويصبح لا شيء، كل المخاوف تتلاشى أمام ذلك الشعور المخيف بالاقتراب من الفناء.
كل المخاوف، كل الشكوك، كل الأفكار المعقدة، كل شيء يختفي وتبقى فقط الرغبة في البقاء على قيد الحياة، على سجيتها.
التنفس، الشعور بالماء الساخن الآن على جسدها، البيت؛ هذا البيت، الأمان، مروان، ضاحي، عائلتها.
خرجت من الحمام بعد أن ارتدت ملابسها البيتية لتجد مروان في وجهها بمجرد أن فتحت الباب يقف مستندًا بكفيه على جانبي الباب ويطالعها بنظرة جادة وهو يسألها بحشرجة "هل أنتِ بخير؟ بصراحة أنا لم أتخط اللحظة بعد"
دون كلمة أخرى ألقت بنفسها في حضنه، أو ربما هو من ألقى بنفسه عليها لم يعرف أحد منهما من كان البادئ، ولم يهتما. حضنها بقوة وكلاهما يتشبث بالآخر، كانا مذعورين يرتجفان، سقط عنها اعتزازها بنفسها وسقطت مقاومتها بينما ضاع منه حذره وحيطته وذاب صبره في دفء حضنها.
همس وهو يدفن وجهه في رقبتها "قلبي أنت يا سيلا.. قلبي الذي كدت أن أفقده"
انهمرت المزيد من الدموع الساخنة على وجنتيها وهي تستمتع بدفء حضنه، وقوته، وشفتيه اللتين تشعر بهما اللحظة تطبعان قبلات ساخنة على رقبتها، وكأنه بمداعبته لتفاصيلها يدللها، يبث محبته وخوفه عليها، يطمئنها بذلك الشعور المدغدغ الذي سرى في جسدها بأنها حية.
لم تفعل شيئًا استسلمت هي ودموعها ومسدت بكفها على ظهره بطمأنة من ناحيتها.
اشتد انجذابه الحسي لها وتعقد موقفه بسطوة اللهفة المشبعة بالخوف والاحتياج فتدفق مزيج غريب من المشاعر التي تغازل الفطرة وقد ذاب كل شيء دون ذلك في الماء المالح، فكانا بنقاء الفطرة التي خلقها الله بين رجل وامرأة وضع الله في قلبيهما سر المحبة.
حضن مروان وجهها بكفيه وأبعده قليلا كي يتطلع فيها لاهثًا وأخذ يمسد على شعرها المبلل بحركات سريعة على سبيل الطبطبة وعيناه تدوران على صفحة وجهها بينما مشاعر التعاطف والمواساة لديه تتلامس في خط تماس مع مشاعره كرجل.
تأمل أسود عينيها وتلك الدموع التي بللت وجهها فمسح بإبهاميه وجنتيها ثم مال يطبع قبلات فوق مسار الدموع وهو يهمس باسمها، فكان ذلك الهمس مع وقع شفتيه عذب الأثر في نفسها.
وصلت شفتاه لثغرها فالتقطه بلهفة رجل كان على حافة الموت يبحث فيهما عن طعم الحياة، فاستسلمت سيلا لقبلاته المتتالية على ثغرها، وتركت له زمام الأمر ويداه تبحثان وسط تفاصيلها الناعمة عن ملجأ آمن له.
أهو ملجأها بصلابته وقوته؟ أم هي ملجؤه المخملي الدافئ؟
تسابقت اللهفة مع الشوق في اشتعال الأمر بينهما؛ هو يشتد صلابة وهي تزيد انصهارًا بين ذراعيه.
ألصقها مروان بالحائط وقد حل أزرار بلوزتها وأخذ يطبع قبلات أضحت أكثر توقًا وتلهفًا على وجهها، وعنقها، وجسدها، ثم عاد من جديد لشفتيها؛ بوابة روحها، ليدق من جديد في طلب لجوء متوسل إليها، واسمها يتردد من بين شفتيه همسًا بين الدقيقة والأخرى فيخرج محملا بكل المشاعر دفعة واحدة.
أطلق مروان سراح شفتيها وابتعد كي يتطلع فيها، لكن سيلا لم تعطه الفرصة، لم ترغب في أن يبتعد لثانية فبادرته هي بمحو الخطوة التي تراجع فيها فأضحى جسدها ملتصقًا بجسده يطلب الدفء ويطلب الدعم ولولا خجل البتول، لقامت بأكثر من ذلك، فلم يردها خائبة؛ أبقاها بين ذراعيه وجسده وهو يميل ليلتهم شفتيها وأتون الشوق يتأجج على وقع الأنفاس العالية، كل منهما يبحث عند الآخر عن قطعته الناقصة كي يصل للحظة الاكتمال.
لم يترك مروان شفتيها إلا لثانية كي يرفعها فوق ذراعيه ثم يعود ليلثم ثغرها بلهفة عاشق متلهف للارتواء ولا يذكر كيف ذهب بها إلى غرفتها، لكنه وضعها على السرير وابتعد عن شفتيها يتطلع في وجهها فكانت عيناها تتطلعان فيه بانشداه تحت وقع مشاعرها التي فاضت بعدما سقط عنها كل أسلحتها ودروعها. مرر كفيه على وجهها يبعد شعرها، ثم عاد يقبلها من جديد وهو يميل ليخيم فوقها.
بعد دقائق أطلقت سيلا شهقة خجلة من وقع جرأته فتطلع مروان في عينيها يهمس من بين لهاثه بلهجة مطمئنة "أنا مروان سيلا، زوجك، وأنت حلالي"
لم تكن تنوي المقاومة؛ لم تملك النية ولا القدرة، بل كانت مستسلمة تمامًا متفاعلة على استحياء بتول تعيش تلك المشاعر لأول مرة، فكانت سيلا الناعمة الهشة التي سقط عنها المزيد من دروعها الواقية مع ملابسها.
أما هو فلم يدر إن كان ما يعيشه اللحظة قد عاشه مع أنثى أخرى من قبل أم لا، لكنه لأول مرة منذ أن استيقظ في صحراء روحه تطأ قدماه أرضًا ناعمة، لينة، فاكهتها حلوة المذاق، فها قد انتهت سنوات التيه في صحراء الجليد ووصل أخيرًا للواحة.
××××
تعثرت الحروف وفشلت في تكوين كلمات معبرة عما عاشه قبل ساعات، لم يشعر بالندم يومًا حينما قرر أن ينتظرها كل هذه السنين، وحينما تذوق لأول مرة طعم السكن إلى أنثى لم يندم أيضًا؛ فذلك الشعور المذهل في روعته يعي تمامًا بأنه يخصها وحدها، ويا لها من مكافأة مميزة له بعد طول الصبر.
تأمل ضاحي جمالها المبهر وهي مستغرقة في النوم، جسده يشعر بنبض جسدها وحرارته وهو ممدد بجوارها، وتحركت أصابعه بخفة على شعرها الجميل الذي ينام بينهما على الوسادة، إنها أجمل وأصغر عمرًا وأكثر شبابًا في ملابسها الكاشفة ودون حجاب، وكأنها عادت للعشرين من عمرها حينما خفق قلبه لها، وجدها مشاغبة أيضًا؛ هذا ما اكتشفه فلم تكن تظهر ذاك الجانب مع تحفظها في الحياة العامة.
ابتسم وهو يتذكرها الليلة الماضية، كانت تفيض بالشباب والحيوية، اختلط خجل الأنثى فيها بنضج العمر، فخلبت لبه وأطارت عقله، وقضى ليلة لن ينساها أبدًا، ليلته الأولى وهو يتذوق للمرة الأولى شعور النشوة الرجولية مع عروس البحور، ذلك الشعور الذي لم يهرع خلف نسخة باهتة مزيفة منه في شبابه، كان صيادًا طماعًا هكذا حدث نفسه، فلم يلتفت للسمك العادي من طرح البحر، لم يشتهيه، آثر على الصبر، وهو سلاح الصياد، وانتظر عروس البحور، حتى رضيت عنه، ففاز بها وبما عوضه عن كل ما فاته.
ليلة واحدة مع سندس، مرة واحدة رتقت ثوب العمر الذي أبلته السنين.
تململت في نومتها بدلال فدغدغت بفتنتها ذلك القلب الذي ينبض بقوة هذه اللحظة في صدره. تأمل نعومة ثوبها ذا الحمالات الرفيعة ومرر كفه على أعلى ذراعها الأبيض البض فعدلت سندس رأسها واعتدلت ببطء زاد من اشتعاله وهو الذي يتمسك بأطراف الصبر بصعوبة.
كان جسدها مسترخيًا ومن قبل أن تفتح عينيها استعاد عقلها شعور قبلاته المحمومة على تفاصيلها وتذكرت لهفته الشديدة التي أخافتها عليه الليلة الماضي، لكنها لم تكن تعلم بأنه يملك من عنفوان الرجولة ما ينافس به شبابًا في نصف عمره ويتفوق عليهم.
فتحت عينيها كبلورتين ملونتين تتطلعان فيه ثم ارتسم الحياء على ثغرها الجميل وهي تتأمل وجهه الذي يشرف عليها ولحيته التي خالطها الشيب بوقار يناقض شقاوته معها قبل ساعات.
همست "متى استيقظت؟ ..كم الساعة"
لم يرد، تأملها لبرهة مستسلمًا لخطف قلبه أمام عينيه ككل مرة تنظر له ثم مال يُقَبِّل تجويف رقبتها.
دغدغها بلحيته ودللها بشفتيه فسألته بشك "ألم تنم حتى الآن؟"
رفع رأسه إليها فكررت السؤال "لم تنم؟"
هز رأسه بالنفي فاتسعت عيناها وسألت "لماذا؟ كم الساعة؟"
تمتم بحشرجة "حوالي السابعة صباحًا"
قالت بلهجة عاتبة "لماذا لم تنم؟"
أجابها بحشرجة "كنت أنتظرك، (وأضاف بلهجة عاتبة) لماذا تبقيني دومًا منتظرًا يا سندس!"
ارتبكت وتمتمت "أنا.. لم أنم سوى ثلاث ساعات (ورفعت كفها لتمسد على لحيته مضيفة) لماذا كنت تنتظرني كي أستيقظ؟ هل أنت جائع (وهمت بالقيام وهي تقول) كنت أيقظتني أجهز لك الطعام"
تمتم أمام عينيها بأنفاس ثقيلة وهو يعيدها للوسادة "أنا بالفعل جائع ولم أعد أطيق الانتظار، سئمته يا سندس.. فكفي عن جعلي أنتظرك.. يكفي ما فات"
خيم فوقها وأبعد طرف الحمالة عن كتفها يطبع قبلة فابتسمت وتمتمت بضحكة خجولة "رَيِّس ضاحي"
لم يضف شيئًا، ولكن رفع وجهه عن كتفها وأطبق على شفتيها بلهفة دون أن يدع لها الفرصة لقول المزيد.
××××
قبيل الظهيرة
كانت ساكنة بين ذراعيه ومحاطة كليًا بجسده الصلب الدافئ تتوسد ذراعه ويفترش وجهها صدره العاري بينما ذراعه الأخر يلتف حول خصرها وكأنه يخشى من أن يفر الحلم من بين ذراعيه.
أخذت سيلا لبرهة تسترجع ما مرت به منذ فجر اليوم، لحظات وقفت فيها على حافة الموت، ثم غرقت بعدها في بحر العشق وتذوقت جانبًا حلوًا من الدنيا. استعادت عقلها مع وعيها؛ عقلها الذي ذهب في غفوة منذ أن خرجت من البحر وهي لا تملك سوى نفسها المجردة من كل شيء.
الآن استعادت كل شيء، وتذكرت كل شيء، تذكرت لحظاتها الاستثنائية مع مروان، وأيقنت بأنها لم تعد سيلا القديمة، تغير فيها شيء بإتمام زواجه منها، وبقدر ما عاشته بين ذراعي ذلك الرجل الذي مر بكل ما مر به في حياته كي ينتهي به المطاف ليقدم لها قلبه قربانًا ويطلب اللجوء بين ذراعيها. أحست بالخوف، بل إن تلك الطمأنينة التي عاشتها بين ذراعيه خلال الساعات الماضية انقلبت اللحظة للنقيض وهي تحرر نفسها من أسر ذراعيه وتبتعد عنه.
تطلعت فيه وهو مستغرق في النوم وأحست بالخطر؛ ليس منه، وإنما مما تشعر به اللحظة، خطر يداهمها مع تدفق الأفكار في رأسها، حاولت تنظيم أنفاسها المفزوعة وهي تغادر الفراش وتلتقط ملابسها من أرض الغرفة ثم أسرعت بالهروب من غرفة نومها.
××××
العاصمة
خرج وائل من الحمام ذراعه ذو الجبيرة معلق على حامل يتدلى من رقبته بعد أن اغتسل وبدل ملابسه لأخرى بيتية مريحة، فتطلع في الصالة يبحث بعينيه عن ماجدة لتخبره أنجيل الصغيرة بأنها في المطبخ.
نظر إليها بتوجس يسألها عن حال أمها فقد استقبلته فزعة من ذراعه المربوطة، فارتسم تعبير محذر على وجه أنجيل. مما جعله يبلع ريقه بصعوبة ويتحرك نحو المطبخ وهو يسألها "أين أختك؟"
ردت أنجيل "عند جدتي"
كانت ماجدة تقف تستند بيديها على الطاولة الرخامية توليه ظهرها، ورغم أنه لم يرَ ملامحها لكنه كان يشعر بضيقها وتألمها بسببه.
تمتم وهو يقترب منها "جوجو"
أشاحت بوجهها ناحية الشباك الصغير على يسارها تمسح دموعها فوخز الألم قلبه واقترب يحضنها من الخلف بذراعه السليمة ويهمس "جوجو"
انهمرت دموعها دون قدرة على التماسك فتمتم وهو يديرها إليه "انظري إليّ جوجو"
استدارت إليه تقول "اتركني يا وائل أرجوك.. لم أعد أحتمل ما تفعلونه"
قال باندهاش "ماذا فعلنا؟ قلت لك كان حادث سيارة ونحن عائدون والأمر بسيط.. الطبيبة طمأنتني بأنه مجرد شرخ (وأضاف بلهجة شقية) بالمناسبة كانت طبيبة وحلوة جدًا"
لم ينجح في مسعاه لجذب انتباهها نحو اتجاه آخر تفرغ فيه شحنات غضبها فصاحت بانفعال "لا تكذب يا وائل فلن أعرفك اليوم لأول مرة.. بالتأكيد الأمر يخص مشاجرة سيد مع والده بسبب ما حدث"
تمتم وبراءة الأطفال في عينيه "أبدًا.. لم يحدث.. صدقيني"
قالت من بين دموعها بإصرار "لن أصدقك.. الكذب يطل من عينيك، ولكن عليك أن تعلم أن أعصابي لم تعد تحتمل أن أراك في هذا الوضع"
تطلعت لذراعه المربوطة وانهمرت المزيد من الدموع فأسرع بضمها إليه واحتوائها هامسًا "آسف جوجو.. صدقيني لا أحب أن أحزنك أبدًا.. (وأصر على كذبته) قلت لك حادث بالسيارة وكان هذا نصيبي منه"
ظل يمسد على ظهرها كي تهدأ وهي تسكب رهافة مشاعرها بسبب الحمل في صدره قبل أن تستعيد توازنها وتبتعد وهي تمسح دموعها فالتقط شفتيها بشفتيه في قبلة شغوفة انفلتت لها أعصابه ناسيًا وجود ابنته في الصالة؛ وهو الذي يمتنع عن مواصلتها منذ خبر حملها خوفًا عليها وعلى جنينها، فاستجابت ماجدة في شوق لقبلته قبل أن تبعده بعد برهة قائلة بخفوت موبخ "أنجيل!"
تركها تبتعد يعيد تحكمه في أعصابه فقالت ماجدة تمسح المزيد من الدموع "سأعد لك لقمة سريعة كي تفطر"
طالع تفاصيلها التي تزداد أنوثة مع حملها ولمنظر بطنها الصغير الذي يدغدغ رجولته ولم يستطع تركها في هذه الحالة فقال مشاكسًا "بالمناسبة لقد كبر أنفك يا جوجو"
عبست وأدارت وجهها إليه تطالعه بعينيها الحمراوين من أثر الدموع فقال بجدية "صدقيني أنفك كبر بشكل غريب.. أهذا بسبب الحمل؟"
تمتمت بضيق وهي تمسك بأنفها "ما الذي تقوله؟"
قال بإصرار "صدقيني (ورفع صوته) يا أنجيل تعالي"
طالعته ماجدة بعبوس أكثر بينما لبت أنجيل نداء والدها ليقول وائل مشيرًا بعينيه الزرقاوين إلى أمها حينما ظهرت عند باب المطبخ "قولي الحقيقة.. ألم تكبر أنف أمك عن ذي قبل؟"
كتمت أنجيل ضحكتها وهي تتطلع في أمها ولم تعلق فقال وائل عابسًا "قولي الصدق.. هل سنخاف؟ أنفها تغير أم لم يتغير؟!"
حركت أنجيل مقلتيها بينهما وهي تقول "بصراحة به بعض التغيير"
حدجتهما ماجدة شذرًا ثم هتفت بضيق "اذهب يا وائل وسأعد لك الفطور"
انتفض مرتعبًا بطريقة تمثيلية ثم تنحنح يقول مهدئًا "تمام.. تمام (وسحب ابنته من معصمها مضيفًا) تعالي لنهرب من أمامها بسرعة"
قالها وخرجا على قهقهة أنجيل الرقيقة فاستدارت ماجدة تتطلع في انعكاس صورتها على باب الخزانة الزجاجي تتفحص أنفها بضيق.
بعد دقائق دخلت غرفة النوم لتبحث عنه بعد أن نادته عدة مرات كي يتناول فطوره ولم يرد، فوجدته مستغرقًا في النوم.
أشفق قلبها عليه واقتربت من السرير تهمس بخفوت "وائل.. ألن تتناول فطورك؟"
حين لم يرد، مسدت على شعره الأشقر بحنان جارف ثم مالت عليه تطبع قبلة على وجهه وتطلعت في الجبيرة فتجمعت الدموع في عينيها ومالت تُقبِّل عضده وهي تدعو ربها ألا يحرمها منه، وألا يصيبه أي سوء أبدًا.
××××
المدينة الساحلية
لم ترحمه في منامه؛ بكت وأشعرته بالذنب لأنه يحب سيلا كل هذا الحب الجارف، والذي اختبر لمحة منه خلال وصاله لها، وأدركه وهي بين ذراعيه، ولهذا جاءته الأخرى في المنام كي تؤنبه بشكل آلمه كثيرًا وهو يحاول أن يخبرها بأنه لم يتخل عنها، بل هي التي تتقصد إيذائه وهي تعذبه دون أن تخبره من هي، وما العلاقة التي تربط بينهما.
كان يصيح في حلمه غاضبًا ثائرًا على الأخرى، فرمقته بنظرات آسفة وانهارت بالبكاء، فتألم قلبه وهم بمواساتها قبل أن تستنجد به سيلا فيجدها تصارع الأمواج العاتية، وهكذا انخلع قلبه مرتين؛ مرة من أجل سيلا وخوفه عليها والثانية من أجل تألم الأخرى التي حزنت لأنه تركها خلفه وألقى بنفسه في الماء خلف سيلا لينقذها.
فتح مروان عينيه يتطلع حوله ليجد نفسه في غرفة سيلا، فنظر في السرير بجواره ولم يجدها. اعتدل يفرك وجهه بيديه يسترجع كل ما فات وأصاب قلبه القلق، فبحث عن ملابسه وارتداها ثم خرج مسرعًا ليبحث عنها.
لم يجدها في الحمام، أو في المطبخ المفتوح على الصالة، فسقط قلبه بين قدميه وتساءل أين ستذهب واليوم هو الجمعة؟
بحث حوله عن الهاتف، ثم تذكر أنه تركه في غرفته حينما بدل ملابسه بملابس البحر، فأسرع نحو غرفته ليجد بابها موصدًا.
عبس مروان وطرق على الباب ينادي "سيلا!"
لم يأته الرد فحاول فتح مقبض الباب ببعض العنف وارتفع صوته "سيلا"
توقفت الأخيرة عن الحركة العصبية في غرفته وردت بتماسك "ماذا تريد يا مروان؟"
التقط أنفاسه براحة ثم تنحنح وسألها بتوجس "ماذا تفعلين في غرفتي؟ ولماذا تغلقين عليكِ الباب؟!"
أمسكت برأسها تحاول إيجاد الكلمات التي تشرح بها ثم ردت "من فضلك مروان.. أريد أن أبقى وحدي لبعض الوقت"
كسى الحزن قلبه وسألها بتوجس "هل أنت بخير؟"
ردت بهدوء "أنا بخير لا تقلق عليّ.. من فضلك أريد بعض الوقت"
ازداد توتره وخوفه عليها فقال "سيلا نستطيع أن نتحدث عما حصل بيننا"
قالت بإصرار "مروان أرجوك"
بدأ يشعر بأنه قد أخطأ حينما انفلتت أعصابه قبل ساعات فقال بلهجة مترجية أوجعت قلبها "أريد أن أطمئن عليك فقط"
تمتمت بتماسك "أنا بخير لا تقلق"
ساد الصمت لبرهة فقرب وجهه من الباب وازدادت لهجته توسلًا وإيلامًا لقلبها "لماذا تغلقين الباب أريني وجهك كي أطمئن؟"
غمغمت بترجٍ "أرجوك مروان"
أسند جبينه على الباب وقال بلهجة متوسلة "لا تفعلي بي هذا يا سيلا أنا ..."
إلحاحه مزق قلبها، لكنها لم تكن قادرة على مواجهته قبل أن تواجه مشاعرها فقاطعته تقول بارتباك "مروان أنا... أنا أحتاج للتحدث مع طبيبتي النفسية.. أرسلت لها رسالة وأخبرتني بأنها ستتصل بي بعد قليل.. فهلا منحتني بعض الوقت وحدي أرجوك.. أنا بخير اطمئن.. ليس بي شيء مطلقًا.. أريد فقط أن أحدثها بشكل عاجل"
نكس رأسه وأعتصر الألم قلبه شاعرًا بالذنب فغمغم بلهجة متألمة "لهذه الدرجة كان الأمر سيئًا!"
"مروان"
قالتها بتوسل شبه باكٍ فقال مستسلمًا خوفًا من أن يضغط عليها "تمام سيلا.. أنا بالخارج.. لن أذهب إلى أي مكان حتى تخرجي وأرى وجهك"
كانت لهجته التي تفيض بالمشاعر تؤلم قلبها فتحركت وجلست على طرف السرير تميل بجذعها للأمام وتمسك برأسها.
رن هاتفها بعد قليل فأسرعت بالنظر في اسم المتصل وردت "آسفة لأني أزعجك يا دكتورة نعمة.. ولكني وقعت في مشكلة كبيرة"
××××
العاصمة
لم يكن مستعدًا بعد لتخطي الأمر واستئناف حياته؛ لهذا أصر أن يعود لنفس المكان، البيت القديم الذي تكشفت فيه الحقائق المفجعة.
كان جالسًا على نفس المقعد المواجه لباب الغرفة والمفتوح على الصالة، مرفقاه مسندان على ساقيه الفتوحين وجذعه مائل للأمام يتطلع أمامه بوجوم. والصمت يعم المكان بعدما أصر على أصحابه أن يعودوا لبيوتهم، فهم لم يناموا منذ الليلة السابقة ورافقوه للمستشفى كي يعرف من والده مكان قبر أمه، ثم ذهبوا معه لزيارتها عند الفجر في ذلك المكان القريب من هذا البيت القديم، بعدها تركوه بعد أن أصر رامز على البقاء معه تعويضًا لأنه لم يستطع المشاركة معهم في مساعدته.
لا يدري أين يجلس رامز، ربما في سيارته خارج البيت. يعلم بأنه يريد مواساته، لكنه لا يجد ما يقوله خاصة وأنه لا يعرف كل التفاصيل. لم يحب أن يعرف تلك الحقائق البشعة التي علمها، أراد أن يحتفظ بكرامته أمامه؛ وحدهم شلة الخن من يعلمون ودون أن يطلب منهم طمأنوه بأن ما سمعوه لن يخرج لأحد حتى لزوجاتهم، وهو يثق في أنهم لن يفعلوها. لقد اتفقوا على إخبار الجميع بأنه تشاجر مع والده وأثناء المشاجرة والعتاب على ما حدث في الماضي علم بمكان قبر والدته الذي لم يكن يعرفه.
يذكر بأن الحاج إبراهيم سماحة قد اتصل به على هاتف أحمد بعد زيارته لقبر والدته، فسأله سيد عما علمه من أسرار؛ ليخبره الآخر بأنه حينما عاد من السفر قبل أربعين سنة سمع بعض الأحاديث التي قيلت على استحياء وقتها وانتهى الأمر، ودفنت السيرة كما دفنت صاحبتها.
الوقت يمر من جواره ويتركه خلفه مع تلك اللحظة التي لا تريد أن تمر، والصمت، ذلك الذي يغلف المكان حوله يصاحبه شعور كبير بالإجهاد والتعب من كل شيء.
في الخارج ركن أحمد سيارته عائدًا بعد أن أوصل وائل وعمرو، وترجل منها يدخل من البوابة فوجد رامز جالسًا على أحد المقاعد الخشبية في الساحة يسب ويلعن في الهاتف بعصبية فعبس وحاول فهم ما يحدث في الوقت الذي أغلق فيه رامز المكالمة مع محدثه بعد ثوان بضيق.
سأله أحمد "ماذا حدث؟!"
لاح الضيق على وجه رامز وتمتم "الشركة أبلغتني بأنهم غيروا رأيهم بشأن دور البطولة الذي كانوا ينوون إسناده لي"
عبس أحمد وقال "تصرف غريب جدًا.. ألم توقع معهم عقدًا؟"
رد رامز من بين أسنانه "هذا بالفعل ما حدث.. وبدأت الصحف في الحديث عن ذلك الفيلم وعن أخبار إسناد دور البطولة لي.. لأتفاجأ بأن الشركة تخبرني بفسخ العقد دون إبداء الأسباب.. لكن هناك من أخبرني بشكل غير رسمي أن السبب هو هيلدا"
رفع أحمد حاجبيه باندهاش فتمتم رامز من بين أسنانه "لا أعرف ماذا تريد هذه المخلوقة مني بالضبط!"
أخذ أحمد يلعب بمفاتيحه بين أصابعه قائلًا "لقد كسرت غرورها حينما رفضت أن تكون طوع بنانها فقررت أن تقف أمام مستقبلك"
وقف رامز متخصرًا شارد النظرات يكاد أن يتفتت من الغضب فسأله أحمد "من الممكن أن ترفع قضية ضدهم أليس كذلك؟"
هز رامز رأسه بالإيجاب وقال "نعم، ولكن لا أريد أن أعادي أحدًا.. خاصة وأنني في بداية الطريق"
تكلم أحمد يوافقه الرأي "أتفق معك.. عوضك الله بالأفضل.. الخوف من أن تحاول هذه المرأة منعك من التمثيل نهائيًا"
اربد وجه رامز من الغضب وهو يقول "بصراحة شيء مستفز وأشعر بالرغبة في قتلها"
"اهدأ ولا تدعها تستفزك.. فهي تريد أن تخرج وتتحدث عنها" قالها أحمد فهز رامز رأسه وأخفى احباطه الشديد.
كان يتمنى أن يقوم بهذا الدور الذي سيختصر الكثير من الخطوات في مسيرته حتى يثبت أقدامه في تلك المهنة التي يشعر بأنه يفرغ انفعالاته فيها وهذا ما أيده طبيبه النفسي.
سأله أحمد "كيف حاله؟"
تمتم رامز "كما هو.. حتى أنني اشتريت طعامًا وحاولت إقناعه بأن نأكل سويًا لكنه اعتذر بأن معدته تؤلمه"
هز أحمد رأسه بأسف ولم يعقب، بل تحرك يدخل إلى البيت.
رفع سيد عينيه بعد دقيقة يتطلع في القادم فبادره أحمد بالقول "كيف حالك؟"
هز الأخير رأسه وقال بصوت بح من الإجهاد "لماذا عدت؟ أنت لم تنم منذ البارحة"
تمتم الأخير وهو يسحب مقعدًا قديمًا "بعدما أوصلت وائل وعمرو لم أستطع الصعود للبيت وجئت لأطمئن عليك ربما عدلت عن رأيك وعدت معي"
تمتم سيد بلهجة مهمومة "أنا أحتاج لبعض الوقت يا أحمد.. اذهب أنت ورامز ولا داعي لبقائكما.. فقد انتهى كل شيء.. وأنا هادئ.. فلا تخافوا لن أفعل شيئًا بنفسي"
تمتم أحمد وهو يلمس المقعد بقرف ويتطلع في الغبار على إصبعه "الأمر ليس كذلك.. ولكني قلق عليك.. وآية لا تكف عن الاتصال بي لأن سيادتك تغلق هاتفك"
تمتم سيد "لا أعلم.. أعتقد بأن الهاتف بالسيارة.. وربما فرغ شحنه"
كان أحمد مشغول الذهن بالمقعد فأخرج منديلًا من جيبه وحاول أن يمسح الغبار عنه بقرف قبل أن يقول بنزق "لماذا لا تأتي معي ونذهب للخن إن لم ترغب في العودة للبيت الآن"
"لا أريد.. دعني ألملم شتات نفسي أولًا كي أستطيع مواصلة حياتي، لابد أن أكون قويًا حينما تراني رحمة وكذلك زهرة لذا أحتاج لبعض الوقت"
قال الآخر بعد أن قرر البقاء واقفًا "الحقيقة أنه من المفروض أني جئت لأني قلق عليك.. وفي نيتي أن أخبرك ببعض عبارات الدعم النفسي.. هذا ما يقوله المنطق.. لكن المشكلة أني لا أعرف ماذا أقول.. فالحديث المنمق بيننا يشعرني باللزوجة والقرف يا صاحبي"
رفع إليه سيد عينيه المجهدتين متأثرتين بالمشاعر وهو يحفظ صديق عمره فأضاف أحمد "كل ما أريد أن أقوله قلته لك من قبل، أنت أخي الكبير، كبرت على هذه الحقيقة وترسخت في وجداني يومًا بعد يوم.. (وأردف بمشاكسة) ولن أتحدث عن ملابسي القديمة التي كنت ترتديها فلا مجال لذكر ذلك الآن"
تلاعبت ابتسامة على شفتي سيد وتمتم "تطلق الكذبة وتصدقها يا ××××"
تلاعبت نفس الابتسامة الواهنة علي شفتي أحمد وواصل حديثه قائلًا "ولن أتحدث عن خيانتك لي بزواجك من أختي وتلك الأمور المقرفة فهذه قصة أخرى (ثم حرك عينيه وكأنه يبحث عن شيء ليضيفه ثم قال) و... لا أجد ما أضيفه بصراحة.. ما رأيك في هذا الدعم النفسي؟"
تمتم سيد ساخرًا " والله يا كونت لا أعرف ماذا كنت سأفعل بدونك"
هز أحمد رأسه وتمتم ببرود " حبيبي يا هولاكو.. عشت"
خيم الصمت عليهما لبرهة قبل أن يقول سيد بلهجة هادئة تغلفها العاطفة "كنت أفكر في هذا الموضوع قبل قليل.. فبرغم قلبي المفجوع على أمي المسكينة ينتابني هدوء عجيب.. وهذا ما قلته لعمرو بعد زيارة المقابر.. فمن ناحية أنظر للأمر بأنني أخيرًا علمت بمكان قبرها وتبرأت سمعتها أمام خليل وعلم بنفسه خيانة تلك القذرة له.. ومن ناحية أخرى ذلك الذل الذي عاشه خليل أمامي وأمام الجميع يجعلني أشمت فيه.. كما أن أفكاري ذهبت لرؤية الأمر من نظرة أخرى، ربما هي محاولة مني لانتشال نفسي من السقوط فأنا أشعر بأني قد تلقيت ضربة قوية فوق رأسي، قلت لنفسي: قدرك أن تموت أمك يا سيد.. وأن تعيش يتيم.. لكن ماذا لو كنت قد تربيت في كنف خليل؟ ماذا سيكون مصيرك؟ هل ستكون سيد صبرة الذي أنت عليه الآن؟ .. ونظرت لخليل نظرة كلية بعيدًا عما فعله مع أمي فوجدته من أسوأ الآباء وأقساهم قلبًا... أنظر ماذا فعل ببناته وكيف تأتي مصلحته أولاً قبل كل شيء.. أخبرت نفسي بأني الآن على هذا الشكل الذي وصلت إليه بسبب إبراهيم سماحة والحاجة الهام، هما من ربياني وزرعا فيّ الضمير الذي منعني من قتل خليل، أحاول أن أوجه أنظاري لرؤية القصة من زاوية أخرى، أن الله قد رحمني من أب مثل خليل في حياتي"
رد أحمد بمؤازرة "هذا من فضل الله عليك يا سيد أن ينزل على قلبك هذه البصيرة"
واصل الأخير حديثه لما وصل إليه بعد طول تفكير "عمرو قال هذا أيضًا.. وأنا لست معترضًا صدقني، فقد علمتني الحياة أن استسلم للأقدار، فما دُمتُ لن أستطيع أن أغيرها فعلى الأقل أكسب رضا مُقدرها"
خيم الصمت وسيد شارد أمامه يرتب فوضى المشاعر بداخله ثم أضاف بعد برهة "القصة أني رغم تلك القناعة التي وصلت إليها؛ هناك أمران لازلت أحاول التعامل معهما بداخلي.. الأول هو ذلك الألم الشديد والأسف على أمي وشبابها وقصتها المحزنة.. والثاني مرتبط بالأول.. وهو أني تركت تلك العقربة شربات أن تفر من بين يدي.. (وأضاف من بين أسنانه بغضب) لماذا لم أقتلها على ما فعلته مع أمي؟ الأمر كان صادمًا وكثير من الحقائق انفجرت في وجهي فلم أتصرف بشكل سليم.. كان لا بد أن أقتلها انتقامًا لما فعلته مع أمي"
تكلم أحمد يحاول إبعاد تلك الأفكار عن ذهنه "يا سيد إنها حشرة، وربك هو المنتقم الجبار، لن تخسر حياتك وحريتك من أجل امرأة مثلها.. أنت قلت في بداية حديثك قدرك أن تكون يتيمًا"
هز سيد رأسه وتمتم "أعلم ذلك.. لكن النار بداخلي لم تهدأ بعد.. أتمنى أن أستطيع تخطي ذلك الحدث"
قال أحمد مطمئنًا "إن شاء الله.. أنا متأكد من قدرتك على الوقوف على قدميك.. لم تكن أول محنة تواجهك رغم اعترافي بأن الضربة هذه المرة هي الأصعب لكن ثقتي بك ليس لها حدود"
طالعه سيد بامتنان حقيقي ثم ارتسمت ابتسامة على شفتيه وهو يراه ينتفض مفزوعًا حينما لامس ظهره للحائط بينما وقف أحمد ينفض الغبار عن كتفه بقرف ثم قال بعصبية مفاجئة "اسمع يا سيد.. البقاء هنا لا يحتمل وقد يصيبني بالجنون"
قال سيد "اذهب يا أحمد.. اذهب ودعني وحدي قليلًا وبعدها سأعود"
قال أحمد وهو يتأكد من أن قميصه لم يصبه الغبار "تمام أنا سأنصرف الآن فلم أبدل ملابسي منذ ليلة أمس وأتمنى أن تشحن هاتفك وتفتحه كي نطمئن عليك (وأضاف وهو يتحرك مغادرًا) رامز موجود بالخارج إن احتجت شيئًا"
"خذه معك" قالها سيد فأتاه الرد من الخارج يقول "سأحاول"
××××
المدينة الساحلية
أعطى ضاحي الحقائب للسائق ليضعها في السيارة ثم جز على أسنانه وهو يرى هاتفه يرن فوقف في ساحة البيت ورد ببعض الضيق " ماذا تريد يا عابد؟"
سعل الأخير وهو يحتسي الشاي وترك الفنجان بسرعة أمام أنظار زوجته ودارين ومؤيد ثم اعتدل واقفًا يغادر طاولة السفرة وهو يتنحنح قائلًا "صباح الخير"
هتف ضاحي بضيق "ماذا تريد يا عابد؟ طوال الليل اتصالات متكررة لم أرد عليها حتى اضطررت أن أغلق الهاتف بسببك.. ولولا أني كنت أنتظر اتصالًا من السائق، واتصال آخر من أخيك ماهر لما كنت قد فتحته"
سقط عن عابد جديته بمجرد أن دخل غرفة مكتبه وتلاعبت ابتسامة شقية على شفتيه وهو يقول " ماذا تعني بسؤالك عما أريد؟ .. الحق عليّ لم أنم طوال الليل قلقًا عليك"
تصنع ضاحي الجدية وتمتم "ماذا يقلقك لا أفهم!"
أجابه عابد بلهجة متسلية "أريد أن أطمئن عليك يا حبيبي.. هل أديت المهمة بنجاح؟"
"استغفر الله.. صبرني يا رب على ذلك المستفز" قالها ضاحي وهو يرفع عينيه للسماء ليستمر عابد في استفزازه قائلًا "عمومًا.. لا بأس فقلة الخبرة مع الشيخوخة من الممكن أن.."
لم يكمل عبارته وإنما انفجر ضاحكًا حينما سمع شتيمة ضاحي على الطرف الأخر فضحك حتى سعل ثم قال بلهجة صادقة بعد أن هدأت عاصفة الضحك "مبارك يا ضاحي.. لا تعلم مدى سعادتي بزواجك"
تمتم الأخير بسعادة " عشت يا عابد"
عاد الأخير للهجته المشاكسة يقول "ومع هذا لا بأس بمشاركتي ببعض التفاصيل"
قالها وعاد يضحك فابتسم ضاحي يقول بلهجة عاطفية " كان الأمر يستحق الانتظار.. (وعاد للانفعال مضيفًا) هلا رحمتني من اسئلتك السمجة؟ حتى أخوك الكلب كان يسأل مثل اسئلتك قبل قليل"
عاد عابد للضحك ليضيف ضاحي بجدية "على ما يبدو سألبي دعوة أخيك بالسفر إليه أنا وسندس في رحلة قصيرة قريبًا حتى اتخلص من إلحاحه وولولته لأنه لم يستطع حضور حفل زفافي المفاجئ أو حفل زفاف سيلا"
تمتم عابد بلهجة متهكمة " أووه! وستسافر خارج الوطن أيضًا! .. يا إلهي! الصياد سيترك الشاطئ ويسافر ويرى العالم يا ناس.. بركاتك يا عروس البحور"
رأى ضاحي الأخيرة من وقفته في ساحة البيت تنزل متبخترة من الطابق العلوي ترتدي فستانًا طويلا من قماش، ناعم، خصره ضيق وأكمامه منتفخة من عند الساعد ومحكم عند معصميها فانفجر قلبه بالسعادة وقال "اذهب الآن يا طويل اللسان فالسيارة ستتحرك"
أغلق عابد الخط مع أخيه وهو يمسك بين عينيه ويضحك بخفوت قبل أن يتمتم "يا إلهي لم أضحك بهذا الشكل منذ فترة بعيدة"
في الوقت الذي خرج فيه مروان من الملحق حينما سمع صوت ضاحي بالخارج فوجد أنه من الذوق أن يخرج ليودعه قبل سفره لأحد المنتجعات السياحية.
مد ضاحي يده لسندس التي خرجت على باب البيت فأحتضن يدها بكفه وتحرك يقطع ساحة البيت وهو يسألها "هل نسيت شيئًا؟"
هزت رأسها بالنفي وابتسامة تزين ثغرها جعلته لا يتطلع إلا لوجهها الجميل في ذلك الحجاب الذي يماثل لون عينيها، فتنحنح مروان وهو يقترب منهما ثم قال حينما نظرا إليه "مبارك... أتمنى لكما السعادة من كل قلبي"
ردت سندس تهنئته بالشكر بينما قال ضاحي "العقبى حينما أحمل أولادك أنت وسيلا"
قالها بنظرة متفحصة لردة فعل مروان فرسم الأخير ابتسامة على وجهه وتمتم "إن شاء الله"
قال ضاحي وهو يتحرك نحو بوابة الفيلا "البيت في عهدتك، سيحضر العمال بالأثاث خلال أيام بعد التواصل معك أولًا.. وبعدها ستحضر هنزادا للإشراف على فرش الأثاث"
هز مروان رأسه دون رد فقد كان الكلام ثقيلًا في صدره وتحرك خلفهما نحو البوابة ثم وقف ينظر للسيارة الخاصة التي تنتظرهما لنقلهما للمنتجع.
أدخل ضاحي سندس لتجلس في السيارة ثم استدار لمروان يسلم عليه فقال الأخير مطمئنًا "لا تقلق على شيء واستمتع بوقتك يا ريسنا"
سأله ضاحي "سيلا لا زالت نائمة؟"
هز مروان رأسه يقول "لم تنم إلا بعد الفجر حينما عدت"
عبس ضاحي يقول بتفاجؤ "عدت بعد الفجر!"
قال مروان بابتسامة مغتصبة على وجهه "الرجل عذبني حتى تذكر الطرق الداخلية في بلدته.. قال بأنه قد حدث تطوير في البلدة وأن ابنه من كان يوصله كل مرة، بالإضافة لإغلاق الطريق لفترة بسبب حادث"
ربت ضاحي على كتفه يقول "تورطت أنت في المشوار لا تؤاخذنا"
ابتسم مروان ورد بصدق "لا تقل هذا يا رَيِّس.. تسافر وتعود بالسلامة"
"سلم لي على سيلا"
قالها وهو يدور حول السيارة ليجلس بجوار سندس التي قابلته بعينيها الملونتين فانشرح صدره. وحين تحركت السيارة منع نفسه من أن يحضن كفها مثل المراهقين فعليه أن يحافظ على وقاره خارج البيت، وقاره الذي انهار أمامها الليلة الماضية. ولكن سندس لم تعطه الفرصة لكي ينفذ قراره بحذافيره فقد اقتربت والتصقت به ثم حضنت ذراعه وطالعته بجمالها لثوان قبل أن تنام برأسها على عضده، فتطلع ضاحي في ذراعيها اللذين يحضنان ذراعه ثم تنحنح وتطلع للأمام في صمت وابتسامة رضا ترتسم على شفتيه.
أما مروان فأغلق بوابة البيت وعاد مسرعًا إلى بيته وقلبه يأكله القلق على سيلا وهو يشعر بالذنب والعجز الشديد.
××××
العاصمة
تحركت آية بعصبية وهي تمسك بالهاتف في يدها وحاولت الاتصال بأحمد بعدما فشلت مجددًا في الوصول لسيد، قلبها يأكلها عليه منذ البارحة خاصة حينما علمت بأمر معرفته لمكان قبر والدته.
في سيارته مط أحمد شفتيه وضغط على الهاتف يتحدث عبر السماعة اللاسلكية وهو يتطلع في الطريق أمامه "نعم آية"
صاحت غاضبة" لماذا لا ترد يا أحمد!"
أجابها وهو يتطلع في الطريق أمامه "لأني تركت الهاتف في السيارة حينما دخلت لسيد"
هتفت بضيق شديد "ولماذا لم تأخذ الهاتف معك فهاتفه مغلق؟!"
صاح مبررًا "نسيته يا آية.. كان على الشاحن ونسيته"
تمتمت بلهجة باكية "بالله عليك ماذا تفعل بي!.. بل ماذا تفعلون كلكم بي.. هو يطلب مني ألا أتحرك من البيت، وأنت تترك الهاتف وأنت تعرف بأني أريد أن أتواصل معه"
غمغم بلهجة متسلية وهو يتطلع في الطريق أمامها "لو كان يريد أن يتواصل معك كان شحن هاتفه ليتحدث معك لكن على ما يبدو أنك لست مهمة بالنسبة له"
"أحمد!" قالتها بحنق فضحك قائًلا "أمزح معك إن هاتفه في السيارة وهو يرغب في أن يجلس بمفرده.. أما أنا فذهني مشتت لم أنم منذ البارحة كما تعلمين ونسيت صدقيني"
قالت من بين أسنانها "أشعر بالقهر.. صدقًا أشعر بالقهر.. لماذا لا أذهب له لا أفهم؟ .. ولماذا يطلب مني ذلك الطلب بألا أتحرك من البيت حتى يعود؟!"
تمتم بلهجة متهكمة "غريب فعلا!.. لماذا فعل ذلك؟ ألا يعرف بأنك عاقلة، هادئة، لا تثيرين المشاكل؟!!"
هتفت بضيق "تسخر مني يا أحمد! .. هذا بدلا من أن تقترح عليّ ماذا أفعل.. أنا آكل في نفسي يا ناس وأنا جالسة هنا وهو هناك بعيد عني.. (وأضافت بلهجة مترجية) أخبرني بالله عليك أين مكانه وسأذهب له مع السائق.. ألا يكفي بأنك أوصلت صاحبيك وعدت له دون أن تأخذني معك!"
أحس بالذنب تجاه أخته وأعترف بأنه نسي أمرها فقال موضحًا "قلت لك أنا فاقد للتركيز وحين اتصلت بي المرة الماضية كنت بالفعل قد قطعت نصف الطريق عائدًا له"
صرخت بعصبية "ماذا سأفعل الآن؟ فليخبرني أحدكم بمكانه يا ناس وأنا سأذهب إليه، حتى لو كان في آخر الكون"
خلع السماعة عن أذنه مشيحًا بوجهه ثم عاد ووضعها قائلا بضيق "لماذا تصرخين في أذني لا أفهم!"
انفجرت بالبكاء وتمتمت "لا أحد يشعر بي وأنا هنا محبوسة مع قلقي وشعوري بقلة الحيلة.. لماذا لم أذهب معكم خلفه؟ لماذا لم أكن حاضرة لكل ما حدث؟ ألأني أنثى؟! هذا الشعور بالتمييز يشعرني بالقهر أقسم بالله"
قال بلهجة مشاكسة ليخفف عنها "ليس بسبب كونك أنثى عزيزتي المجنونة.. فلا تتهميننا بالباطل.. ولكن الأمر وما فيه أن الأولوية للأطول فالأقصر منه وهكذا.. وليس لنا ذنب أنك في آخر القائمة"
"أحمد لا تستفزني"
قالتها صارخة فأغمض عينه يشعر بالألم في أذنه ثم قال "تمام.. تمام كفي عن الولولة وارحميني"
همهمت بلهجة حزينة "تمام شكرًا"
أغلقت الخط، فأشفق عليها وشتم نفسه ثم عاد للضغط على الهاتف يعيد الاتصال بها.
ردت بعد برهة تقول بلهجة واهنة "نعم"
هتف باستنكار "هل تتجرئين على إغلاق الهاتف في وجهي؟!"
تمتمت "أحمد.. بالله عليك"
"تمام.. استعدي عزيزتي المجنونة وبمجرد أن أصل سأخبرك كي تنزلي، حتى أوصلك إليه وأمري إلى الله"
قالها وأغلق الخط دون أن يسمع ردها، ولكنه زفر مرهقًا وركز على الطريق متمتمًا بامتعاض "على آخر الزمن سأكون سائق المحبين، قرف أقسم بالله قرف!"
××××
المدينة الساحلية
الندم يؤذي قلبه وهو يجلس كل هذا الوقت في انتظار أن تخرج من الغرفة، سمعها قبل قليل تتحدث في الهاتف لكنها كانت تهمس فلم يتبين ما تقوله.
أكل هذا الوقت تتحدث مع طبيبتها؟ هل الأمر بهذه الصعوبة؟!
كان غبيًا حينما خمن بأن الوقت مناسب لأن يضغط عليها أكثر بمشاعره، كان غبيًا وغلبته لهفته. عض على قبضته يجلد نفسه، كيف استسلم لمشاعره بهذا الشكل؟ حتى لو بدت أمامه مستسلمة كان عليه أن يكون أكثر حرصًا وهو الذي يتفهم ظروفها النفسية.
هل كان متوهمًا حينما ظن بأنها تحبه؟ غبي هو، وعلى ما يبدو أن فقده للذاكرة يمنعه من رؤية بعض الأمور بشكل كامل وواضح.
سمع صوت باب الغرفة فانتبهت حواسه كلها، لكنه بقي مكانه ليس فقط لأنه يخشى أن يندفع نحوها فتعود للاختباء كقطة خائفة أو لأنه بات يشك في تحكمه في لهفته عليها، ولكن لأنه شعر بتجمد أطرافه وهو يفكر في أنه ربما أذاها بغبائه وأنانيته.
أما سيلا فوقفت عند باب الغرفة تنظم أنفاسها بهدوء وقد عزمت بعد قليل من التردد على فعل ما اقترحته عليها الطبيبة.
شجعت نفسها وتحركت نحو غرفتها فلم تجده فاستمرت في سيرها حتى خرجت إلى الصالة.
تلاقت العيون للحظة قبل أن تخفض سيلا نظراتها، والحرج والخجل يضاف لشعورها المرتبك فترك مروان جلسته على الأريكة واستقام واقفًا يتطلع فيها بترقب.
تمتمت وهي تهرب بأنظارها لأول وهلة عن مواجهته "مروان أنا بحاجة لإخبارك بشيء"
هز رأسه يشجعها على الاستطراد ووقف يتطلع فيها بترقب فنظرت إليه تقول "تفضل اجلس من فضلك"
تمتم بصوت هارب منه "لا أريد.. تكلمي"
تأمل وجهها الجميل خلف النظارة الطبية ذات الإطار الأسود وشعرها الذي جف دون تمشيط فأصبح كهالة مشعثه محببة إلى نفسه، وتذكر رائحة الشامبو فيه وهو ندي يلامس وجهه. ثم تطلع في ذلك الرداء القطني الذي ترتديه باللون الأبيض، كان فضفاضًا ينزل إلى ما بعد ركبتيها واسع الفتحة من عند الرقبة مما جعل جانبا منه يسقط بشكل مغرٍ عن أحد كتفيها.
راقبها بقلق وهي تنظم أنفاسها ثم بادر بالقول بصوت لا يزال هاربًا منه "سيلا.. أنا لم أقصد أن أستغل ضعفك وحاجتك للشعور بالأمان بعد الذي حدث.. أنا تصورت -هكذا خيل إليّ- أنك كنت تبادليني الرغبة أقصد.. تعرفين ما أقصد.. لكن على ما يبدو أن هناك قصورًا لا أفهمه بداخل رأسي ربما لم يعطني الفرصة كي أفهمك جيدًا.. لكني يا سيلا لم أقصد أن أؤلمك أو ..."
"مروان اسمعني"
قالتها مقاطعة وتأملت وجهه الشاحب فأحست بالذنب وأسرعت بالقول "أولًا عليك أن تعرف بأني لا أشعر بأي شعور سلبي تجاهك وأنك لم تستغلني.. ولو كنت لا أريد ما كنت استسلمت لك"
صمت مروان يحبس أنفاسه مترقبًا للتالي فلم يشعره تصريحها بالراحة الكاملة لتضيف سيلا وهي تخفض نظراتها أرضًا بحياء الأنثى "ما حدث كان متوقعًا، أنا فقط من كنت أشعر بالجبن من الاقدام عليه، لكونها المرة الأولى.. فأنا في النهاية أنثى وأشعر بالخجل.. بالإضافة لخوفي من أمر معين سأخبرك به بعد قليل لكني أؤكد فقط أنك لم تؤذني بأي شكل وأن إتمام زواجنا كان سيحدث عاجلًا أو أجلًا لأنه كما قلتَ من قبل لابد أن يكون زواجًا حقيقيًا"
ساد الصمت وتسمر مروان يطالعها بترقب وهو يراها لا تزال هشة رقيقة كحالتها بين ذراعيه قبل ساعات، فسعلت سيلا بارتباك ثم قالت "أنا أعلم بأنك تفهمني، والحقيقة أن هذا الأمر ورغم معرفتي مؤخرًا بمشاعرك نحوي وخاصة ما رأيته بنفسي قبل ساعات، لكنه لا يزال يذهلني، ومع هذا أتمنى أن ما سأقوله يكون مفهومًا لك لأني أعلم جيدًا أن ردود أفعالي تكون غريبة أحيانًا كما حدث حينما استيقظت من النوم"
حبس أنفاسه بينما سحبت هي نفسًا عميقًا وأكملت "أنا يا مروان كنت خائفة من ذلك القرب الذي حدث بيننا لأني ببساطة أخشى من الاعتراف (وسحبت نفسًا عميقًا واستطردت بلهجة مرتعشة) بأني... أحبك"
اتسعت عيناه ثم رفع يديه ببطء يشبك أصابعه فوق رأسه وهو يستعيد العبارة قبل أن يطلق زفرة راحة وهو يتمتم بحشرجة " يا الله.. أخيرًا"
احمرت وجنتاها وأسرعت بالقول بكلمات مرتبكة "الحقيقة أني أحبك لدرجة تؤلم قلبي.. واللحظات التي جمعت بيننا كنت فيها في أضعف حالاتي، دون دروعي أو أسلحتي التي تحميني.. كنت سيلا المجردة من كل دفاعاتها.. فواجهت معك قوة وعمق مشاعري نحوك"
أنزل يديه وتحرك نحوها ببطء يهمس "سيلا.."
"أأأأرجوك دعني أكمل لأني أخشى من أن أتراجع عن الاعتراف بما أقول"
قالتها بارتباك شديد وهي ترفع كفها كي لا يقترب فتوقف يغمغم "تمام"
رفعت أصابعها إلى شعرها وتمتمت بارتجاف "هذه هي الحقيقة التي أدركتها بمجرد أن استيقظت واستعدت تفاصيل اللحظات وعمق مشاعري نحوك.. وهذا ما أفزعني"
اتسعت عيناه يسألها باندهاش "لماذا؟!"
هتفت بانفعال موضحة "لأني لم أكن أتمنى أن تتورط مشاعري، أنا وأنت متفاهمان والتفاهم مصدره العقل، ولم أكن أرغب في أن أقع في الحب لأنه يجلب الألم لصاحبه"
ساقته قدماه بأمر من قلبه نحوها وهي تضيف "أنا الآن.. اللحظة.. ومن بعد ما أيقنت بعمق مشاعري تجاهك.. أشعر بالألم هنا"
قالتها وهي تضع يدها على قلبها وترقرقت الدموع في عينيها وحين اكتشفت بأنه قد أصبح يقف أمامها وعيناه تفيضان عليها بالحب تمتمت بحشرجة وهي تبتعد خطوة للخلف "قلت لا تقترب مروان هذا الأمر لابد أن نتحدث فيه بالعقل"
تقافزت السعادة من قلبه حتى لاحت في عينيه وهو يهمس بابتسامة وسيمة "عن أي عقل تتحدثين وأنت تخبرينني بأنك تحبينني سيلا"
كلماته العذبة تسربت بداخلها كماء رقراق يروي عروقها الجافة المشتاقة للعاطفة، لكنها أبت أن تضعف فتمتمت بترجٍ خافت "مروان"
أحجم عن نيته باحتضان وجهها بكفيه فقبض كفيه في الهواء وأشرف عليها من علو يتطلع في انعكاس صورته في نظارتها الطبية وهي ترفع وجهها إليه وسألها بخفوت "لماذا تتألمين؟"
"لأني أخاف من القادم.. الحب يجلب على صاحبه الألم وأنا... أنا يا مروان.. أنت تعلم جيدًا كيف عشت حياتي السابقة، لا يغرنك قشرتي الخارجية الصلبة... فأنا شديدة الهشاشة من الداخل وعندي مشكلة في الثقة"
"ألا تثقين في مروان؟"
قالها بلهجة عاتبة أوجعتها وهو الوسيم أمام عينيها فهمست وعيناها معلقتان على وجهه القريب "يا إلهى! أنت تصعب عليّ الأمر"
قال بهدوء "الأمر بسيط.. أنا وأنت نحب بعضنا"
عبست وسألته "وماذا عن الأخرى؟"
تفاجأ بالسؤال وارتبك، لكنه قال بما هو متيقن منه "أنا أحبك أنت سيلا.. أما هي فلا أعرف عنها شيئًا"
قالت بغيرة مستمرة في عبوسها "ماذا لو تذكرتها واكتشفت بأنك كنت تحبها"
ابتسم يقول بمشاكسة "لا تقولي بأنك يا طبيبة تصدقين حديث الأفلام القديمة بأني سأنسى ذاكرتي الحالية إن عادت لي ذاكرتي القديمة"
تمتمت بجدية "لم أقصد هذا.. قصدت.. ماذا لو اكتشفت أنك كنت تحبها"
جادلها بالقول الهادئ "أنتِ قلتِها.. (كنت)"
قارعته بالقول "ربما عاد ذلك الحب مع الذاكرة"
عبس يفكر في كلامها ثم رد بثقة "أنا لا أفهم في هذه التعقيدات سيلا.. كل ما أؤمن به أني أملك قلبًا واحدًا ملك لسيلا الآن.. وللأبد"
قالها بهمس دافئ ربت على قلبها فهمست بدورها وهي تطالع وجهه القريب "أنا خائفة.. لهذا لا أريد التورط فيك أكثر من ذلك"
"التورط فيّ!"
قالها هامسًا بابتسامة متسعة والسعادة تتقافز أكثر في عينيه فأكدت سيلا "نعم.. أنا أشعر بالذعر من فيض المشاعر التي تتدفق بداخلي فا..."
أفلتت أعصابه ولم يتحمل فحضن وجهها بكفيه وهجم على شفتيها يقبلها، حاولت سيلا للحظات أن تقاوم، لكنها على ما يبدو قد نسيت من أين تستحضر تلك المقاومة المزعومة، واستسلمت لقبلته لثوان بثت بعض الطمأنينة في قلبها قبل أن تستحضر شجاعتها وتبعده هامسة بأنفاس عالية "مروان.. من فضلك قلنا سنتحدث بالعقل"
تمتم لاهثًا بلهجة مغازلة وقد غلفت الطمأنينة قلبه باعترافها "مروان لم يعد فيه أي عقل.. (وأضاف بلهجة متألمة وهو يمحو المسافة التي خلفتها بينهما) أنا كدت أن أموت بعد أن أدخلتني للجنة ظننت أنك تنوين على طردي منها"
عذبتها لهجته المتألمة وأربكها اقترابه بشكل حميمي حتى التصق بها فهتفت وهي تبتعد خطوتين للخلف حتى اصطدمت بالطاولة الرخامية التي تفصل المطبخ عن الصالة "يؤسفني أن أخبرك بأن ما تفكر فيه لن يحدث"
واصل اقترابه منها وهو يقول بابتسامة شقية "لمَ أخطط؟ .. أخبريني"
تأتأت بكلمات غير مفهومة حينما مال عليها ليحضنها ثم هتفت بسرعة "أنا عندي عذر شرعي"
تجمد لثوان ثم عبس قائلًا "ها؟! كيف ذلك؟"
أسرعت بالقول مبررة " أعتقد بسبب الخوف"
ابتعد عنها يفكر ثم قال "ربما اختلط عليك الأمر وهو.. بسبب أنه.. أقصد.. أقصد... لأنها أول مرة"
قالت مؤكدة وهي تستعيد سيطرتها على الأمور بينهما "لا بالطبع فأنا لست صغيرة كي لا أعرف الفرق.. كما أنني طبيبة يا باشمهندس ولست جاهلة"
رأت الإحباط على وجهه، لكنه قال بصوت بذل مجهودًا كي لا يكشف خيبته "تمام.. لا مشكلة.. لقد صبرت كل هذا الوقت فلأصبر بضعة أيام أخرى.. رغم صعوبة الوضع وعذابه"
أخذت تتطلع إليه بملامح طفلة مذنبة لبرهة ثم قالت حانقة "أنا نفذت ما قالته الطبيبة.. لكني لا زلت لا أشعر بالراحة بعد"
عبس يسألها "بم أخبرتِها أنا لا أفهم؟"
"قلت لها أني في ورطة كبيرة.. أنا أحب مروان"
لمعت الشقاوة في عينيه وهو يسألها بلهجة متسلية "هل أخبرتها متى بالتحديد، وبعد أي شيء تأكدت من ذلك الشعور؟"
احمر وجهها وهتفت بحرج "يا إلهي! أنت وغد وقح"
قهقه ضاحكًا فلملمت ابتسامة على شفتيها وهي توضح بحرج "بالطبع لم أخبرها عن تلك الجزئية"
قال معترضًا "لماذا؟؟ ربما أفادت تلك المعلومة في أن توضح لها أمرًا مهما يساهم في علاجك"
سألته بامتعاض وهي تعقد ذراعيها تحت صدرها "ماذا كانت ستفيد؟"
تطلع في كتفها الذي يسقط عنه الثوب وأجاب بلهجة شقية "أن مروان مفجر العواطف.. وسحره لا يقاوم"
ازداد احمرار وجهها وأشاحت به وهي تضرب كفًا بكف وتضحك رغمًا عنها ثم عادت إليه تقول "مروان.. أنا أتحدث بجدية"
سحب كرسيًا من عند طاولة السفرة ثم قال "تمام أجلسي هنا.. وسأعد لك الطعام.. لابد أنك جائعة وأنا أيضًا سأموت من الجوع.. وما دمت لن أستطيع سد جوع قلبي بالطريقة التي أتمناها أسد جوع معدتي.. (قالها بلهجة ذات مغزى ثم تحرك نحو المطبخ مضيفًا) أعتقد أن لدينا طعامًا أرسلته والدتك.. هيا أكملي لي ما حدث مع الطبيبة"
لم تجلس على مقعد السفرة كما طلب منها، كانت أعصابها متحفزة ولا تزال تصارع مشاعر كثيرة مربكة بداخلها سببها ذلك الحب في قلبها فاستطردت "الطبيبة أخبرتني بأن الثقة هي الأمان.. وسألتني هل تثقين في مروان.. أجبتها بالإيجاب.. فقالت: يا سيلا أنت طلبت أن يكون حاضرًا في لحظة شديدة الدقة حينما قررت البوح بما حدث في طفولتك، هذا الأمر لم أره إلا في حالات قليلة جدًا، وله دلالة كافية على مدى ثقتك فيه"
لمعت عينا مروان بالدموع معلقًا بصوت متهدج "على الرغم من شعوري بالألم تعاطفًا معك، لكن هذه اللحظة كانت وسامًا على صدري أن تطلبي بأن أكون معك وأنت تكشفين دواخلك وأسرارك المؤلمة"
توردت وجنتا سيلا وتمتمت متأثرة بتأثره "لهذا اقترحت الطبيبة أن أصارحك بشعوري نحوك وبمخاوفي، ولكني لازلت أشعر بالخوف"
وقفا يتطلعان لبعضهما لبرهة من خلف العيون الدامعة، فتأملته سيلا، ثم وضعت كفها على قلبها الذي دق بعنف ثم أضافت بهمس مسموع "يا لمصيبتي السوداء! أنا أحبك بشدة يا مروان"
أسقط ما في يده على الطاولة الرخامية وتحرك يطوي المسافة بينهما في ثوان ثم حضن وجهها بكفيه ومال ليلتهم شفتيها غير مصدق لما يحدث، فتجاوبت معه لبعض الوقت وشفتاه تبثان فيها من الحب ما تهفو إليه نفسها قبل أن تدفعه برفق بمجرد أن أطلق سراح شفتيها قائلة بهمس لاهث "مروان تعقل.. أنت لا تساهم في حل شيء بما تفعل.. بل تغرقني أكثر.. هل أنقذتني من البحر كي تغرقني فيك!"
اتسعت ابتسامته وامتلأت عيناه بالدموع يتمتم بصوت متهدج بالمشاعر "يا لمصيبتنا معًا يا سيًلا فنحن متورطان في بعضنا"
ثم مال وحضن أسفل خصرها ورفعها فأطلقت صرخة معترضة وهي تتمسك بكتفيه وتثبت نظارتها ليرفع وجهه إليها صائحًا وهو يدور بها حول نفسه "أحبك يا سيلااااا... أحبك يا سيلااااااا"
غمغمت ضاحكة "أنزلني يا مجنون!"
"أحبك.. أحبك.. أحبك يا سيلا الصوااااااف"
××××
العاصمة
أوقف أحمد سيارته أمام البيت القديم فأسرعت آية بفتح الباب ليقول الأول "ستحاولين إقناعه بالعودة للبيت ولكن بأدب هل فهمت؟"
توقفت عن الحركة ثم أدارت وجهها إليه تطالعه بعدم فهم فقال أحمد موضحًا "بدون قلة حياء وأمور الحب واللوعة ومثل هذا القرف.. احترما أني هنا أنتظركما"
رمشت بعينيها لثوان فأضاف بامتعاض "ضعي في ذهنك أني سأقتحم عليكما المكان في أي وقت لأتأكد من حسن سلوككما فليس الكونت الذي سيجلس في السيارة بالخارج وأخته مع صديقه بالداخل"
اتسعت عينا آية ورغم لهف قلبها على زوجها إلا أنها لم تستطع أن تمنع نفسها من الضحك ثم مالت بجذعها مقتربة لتمسك بوجه أخيها وتطبع قبلة على خده وهي تتمتم "لا حرمني الله منك يا أحمد"
تفاجأ أحمد بما فعلت ولان لها قلبه ثم راقبها وهي تترجل مغادرة فلحقها بصوته قائلًا "أنا أتحدث بجدية يا بنت"
دخلت آية مسرعة فمرت على رامز في ساحة البيت الذي كان يكتب شيئًا على الهاتف فرفع رأسه إليها لتلقي عليه تحية سريعة وهي تسرع للداخل فرد لها التحية واستقام ليرى مع من حضرت فقد سمع صوت سيارة بالخارج.
سمع سيد صوت طقطقة كعب حذائها بالخارج وتعرف عليها على الفور، فهو يحفظ حتى مشيتها المتعجلة النزقة؛ تدق على الأرض بإصرار وعصبية.
جاءت تحمل معها الدفء، فرفع عينيه نحو الباب ليواجه عينيها المبللتين بالدموع وهي تقول بلهفة قلب "سيد"
قال بصوت مبحوح "ألم أقل لا تخرجي من البيت إلا حينما أعود؟!"
أهدته ابتسامتها التي تقطر عسلًا وقالت بلهجة شقية وهي تقترب "أظن أنك بت تعرف بأني لست هذه الشخصية التي تلتزم بالأوامر"
وقفت أمامه لا يفصل بينهما سوى بضعة إنشات تتطلع فيه بلوعة قلب؛ فرفع إليها عينين لا يعرف لماذا أصبحتا نديتين حينما رأتاها فسألته بخفوت "هل أنت بخير؟"
ابتسم ابتسامة متألمة وهمس "أحاول"
تحركت عيناها العسليتين على ملامحه المرهقة وانفطر قلبها فتمتمت وهي تحضن وجهه بكفيها "أشعر بأن هناك شيئًا بخلاف ما قيل عن مشاجرة بينك وبين خليل واكتشافك مكان قبر والدتك"
تمتم هامسًا بحشرجة ونفس الابتسامة المتألمة على شفتيه "زيدي على القصة التي وصلتك بعض التفاصيل التي لا يجب أن تعلن، مثل أن والدي كان يشك في سلوك أمي، وأن شربات شككته في أني ابنه، وأنه طلقها وهي نفساء، وأنها أصيبت بحمى نفاس وهلاوس واكتئاب ثم انتحرت"
اتسعت عيناها في هلع فأضاف بقلب ينفطر من الألم "أمي ماتت مظلومة في عمر الثامنة عشر من عمرها يا آية"
ظلت تتطلع في وجهه مصدومة بينما امتلأت عيناه المرفوعتان إليها بالدموع فأصابت عينيها هي الأخرى بالدمع ومالت عليه تمشط شعره بأصابعها تقول وهي تبتلع الألم في حلقها "أنت سيد الرجال.. لم أقل هذا من فراغ، ولكن لأني واثقة تمام الثقة أن لا شيء يهزمك"
هز رأسه بين يديها وتمتم معترفًا "هذا ما أقوله لنفسي.. لن يهزمني شيء إن شاء الله، فلله الحمد من قبل ومن بعد عندي أبي إبراهيم وأمي إلهام، وعندي أصدقاء رائعون أكثر من الإخوة، وعندي رحمة، وأنت يويا... أنا متحمل وثابت بإذن الله وراضي بقضائه.. لكن (وربت على قلبه بيده مضيفًا) هنا يتألم بشدة يا آية.. يكاد أن ينفجر من الألم"
اقتربت وجلست على فخذه ثم أخذت رأسه الكبير إلى حضنها فأغمض سيد عينيه ودفن وجهه في حضنها. شددت من ذراعيها حوله وأخذت تمسد على رأسه هامسة "سلم قلبك من الألم يا حبيبي، فداك قلبي وعمري يا سيد"
مسد على ظهرها بكفه الكبير وغرق في حضنها الناعم العطر الذي يطيب روحه وفي سره أخذ يردد الدعاء الذي أخبره به عمرو "اللهم ارضني بقضائك وبما قسمته لي"
××××
بعد عدة ساعات
رسم سيد ابتسامة خرجت رغمًا عنه متألمة حينما هرعت إليه زهرة تحضن جذعه باكية وهي تتمتم "قلقت عليك يا سيد"
ربت على ظهرها بحنان وتمتم "أنا بخير يا زهرة حياتي"
ابتسمت له رحمة وهي تطالعه بقلق وقلبها يأكلها عليه وتشعر نفس شعور آية بأن القصة بها شيء مبهم رغم أنهما لم تتشاركا في أفكارهما. بينما تحركت آية تدخل من باب الشقة وتسبقه إلى شقتهما عبر الباب الفاصل بين الشقتين وهي تقول "سأحضر لك الحمام والطعام"
لم تتركه زهرة، بل ظلت متشبثة به تبكي بينما اقتربت منه رحمة تقول بلهجة معتذرة وهي ترفع مقلتيها الدامعتين إليه "حقك عليّ.. كل هذا بسببي"
سحب رأسها إليه ومال يقبله قائلًا بحشرجة "بل حقك أنت عليّ يا حبيبتي"
رفعت وجهها إليه من جديد تسأله "هناك شيء مفجع في نظراتك"
تمتم سيد بخفوت "فيما بعد يا رحمة.. حين أتماسك سأخبرك وحدنا.. المهم أن كل شيء انتهى.. صفحة وعلينا طيها والمضي للأمام"
قالت وهي تتماسك وتمسح دموعها "وأنا في انتظارك حينما تكون مستعدًا للحديث.. والآن كما قلت صفحة وطويت"
خرجت إلهام من الشقة الأخرى تقول "ابني حبيبي"
اتسعت ابتسامته وتندت عيناه بالدمع وهو يبعد زهرة عنه برفق ويقترب من إلهام قائلًا "أحبك الله يا ست الكل"
قالت بلهجة لائمة "أهكذا تؤلم قلبي عليك يا سيد! لم يعد فيّ أعصاب لتحمل ذلك يا بني"
مال يلثم ظاهر يدها قائلًا "سلم قلبك من الألم يا أماه و(أضاف بلهجة مترجية) ادع لي كثيرًا فأنا بحاجة لدعائك"
تمتمت إلهام بفيض من حنان "أراح الله قلبك يا سيد يا ابن شكرية.. ورزقك من حيث لا تحتسب"
تمتم بألم بعد أن أمن على دعائها " نعم، سيد ابن شكرية محمد عبد اللطيف"
××××
في المساء
المدينة الساحلية
"سيلا افتحي الباب سيلا"
قالها مروان بلهجة مترجية وهو يقف أمام باب غرفتها المغلق فقالت سيلا من خلفه "ماذا تريد؟ ألم أخبرك بأن لدي مانع؟"
قال بلهجة متفهمة "تمام.. فهمت.. افتحي الباب"
"لماذا؟!" سألته باندهاش فأجاب "أريد أن أنام بجوارك"
احمرت وجنتاها وأحست بأنه لا يعطيها فرصة منذ بداية اليوم لأن تكون وحدها مع مشاعرها فتمتمت "أخبرتك بأني أريد بعض الوقت وحدي مروان.. أشعر بالحصار.. أريد التفكير"
قال بلهجة هادئة "التفكير لا يجلب إلا المزيد من التفكير، كوني على سجيتك معي سيلا ولا تخافي.. أعدك أني لن أخذلك أبدًا"
بلعت ريقها ثم تحركت لتقف عند الباب فوضعت كفها عليه وقالت "أنا لا أخاف من عقلك، ولكني أخشى من قلبك.. فليس لنا سلطان على القلوب"
وضع كفه هو الآخر على الباب واقترب منه أكثر يقول بحشرجة "قلبي لا يعرف إلا أنت"
هزت رأسها رافضة وقالت "لا تكن بهذه الثقة"
تمتم بترج كطفل صغير "تمام.. دعيني أدخل.. أعدك لن أفعل ما يزعجك.. لن أتحدث.. لن أقول شيئًا"
وقفت تفرك جبهتها بأصابعها بارتباك فأضاف "سيلا أرجوك.. أنا بحاجة ماسة إليك"
إن ذلك الوغد يستدر عطفًا أموميًا بداخلها، وهذه ليست المرة الأولى، لكن حنان قلبها قد تدفق كالنهر بعد ما حدث بينهما ولم تعد قادرة على التحكم فيه؛ هكذا فكرت وهي تتذكر كيف كان معها بعنفوان رجل مشتاق مكتمل الرجولة خاطف للأنفاس وحرمان طفل يتيم يبحث عن ملجأ دافئ آمن .
أعاد مروان إلحاحه فلم يكن قادرًا على تحمل ليلة أخرى في فراشه البارد فقال "سيلا، صدقيني لن أفعل ما يزعجك.. أنا أرغب في أن أكون بجوارك فقط.. تعلمين بأني أعاني من مشاكل في النوم"
زفرت وتمتمت من بين أسنانها بضيق "لن يتركني أنا أعلم.. مزعج بشكل سخيف"
فتحت الباب ووقفت متكتفة تقول "ماذا تريد يا مروان؟"
اتسعت ابتسامته بسعادة أغاظتها ودخل يغلق باب الغرفة خلفه هو يقول "كل خير إن شاء الله"
راقبته بعينين متسعتين وهو يتوجه نحو السرير وأحسته كطفل ضخم ملتصق بأمه.
استلقى مروان على السرير أمام نظراتها المستنكرة ثم ربت بجواره يقول ووجهه يحمر حرجًا "هيا تعالي سيلا"
تجاهلت الدغدغة التي لامست قلبها بخفة وهي تراه مصرًا على البقاء بجوارها رغم أنها أخبرته بوجود مانع وزفرت تقول وهي تلف حول السرير "أمري إلى الله.. بليت بك وانتهى أمري"
اتسعت ابتسامته وراقبها وقلبه يخفق بقوة حينما استلقت بجواره على طرف السرير ووضعت كفيها على بطنها وأخذت تتطلع في سقف الغرفة وعلامات الامتعاض على وجهها، لكن قلبها كان يدق بعنف وهي تسمع أنفاسه بجوارها فأولته ظهرها بعد برهة وهي تقول هاربة "تصبح على خير.. اغلق الضوء من فضلك"
مد يده دون أن تحيد عيناه عنها ليغلق زر ضوء الغرفة الرئيسي ثم فتح الضوء الجانبي بجواره، بعدها نام على جانبه يعدل الوسادة تحت رأسه ويتطلع في شعرها الذي يشاركهما السرير.
مشاعر كثيرة تتدفق في شرايينه اللحظة، خاصة ذلك الشعور الدافئ بالرفقة، رفقة ناعمة، طرية، دافئة كالتي اختبرها صباح اليوم.
بلع ريقه ينظم أنفاسه التي ثقلت ويحاول تشتيت عقله عما يلح عليه، يخبر نفسه بأن ينظر للخطوة التي اجتازها في علاقتهما ويحمد ربه وألا يكون جشعًا.
زحف بجسده بحرص ليقترب منها بأقصى قدر مسموح دون أن يضايقها ثم أمسك بأطراف شعرها يتشبث به وتمنى أن يلصق وجهه في ظهرها ليختبئ فيه.
أحست سيلا به خلفها مباشرة رغم أنه لا يلمسها فاستدارت تتطلع فيه، فكانت على موعد مع نظرة من عينيه حطمت المتبقي من الحصون التي تحاول إعادة بنائها، نظرة يتم، نظرة لجوء صامتة، أعقبها بالقول بحشرجة بما أسقط كل دفاعاتها الواهنة "أنا لن ألمسك.. أعدك أن أفعل كل ما في وسعي لتحقيق ذلك رغم صعوبة ما أعانيه اللحظة.. لكن.. (وصمت يتأمل وجهها لبرهة وأضاف هامسًا) أنت دافئة إلى حد معذب.. وأنا يا سيلا لم أختبر هذا الدفء أبدًا منذ أن استيقظت وحدي.. لم أجربه إلا صباح اليوم.. وكان.. كان.."
"مروان"
همست بها تقاطعه والشعور بالذنب يجلدها فقال بلهجة معتذرة "تمام.. آسف لو كان هذا الحديث قد ازعجك"
أسرعت بالقول "مروان.. أنا كذبت.. كنت احتاج لبعض الوقت وحدي، لكنك تجعل الأمر مستحيلًا.. ولم يعد الصمود أمامك سهلًا. خاصة وأنت تطالعني بتلك النظرات التي لا أتحملها"
اتسعت عيناه يسألها "ماذا تقصدين؟!"
ضغطت شفتيها ببعضهما لثوان تطالعه بملامح طفلة مذنبة ثم ردت "لا يوجد مانع.. أنا كذبت من أجل بعض الوقت"
تثاقلت أنفاسه وفاضت من عينيه نظرة عشق ورغبة وهو يرتفع بجذعه يقول بحشرجة "لا يوجد مانع سيلا؟"
تنهدت وقالت "لا يوجد يا أخر صبري"
لم ينتظر لثانية ولم يعط نفسه فرصة حتى للتفكير، بل انقض عليها يلتهم شفتيها بتوق شديد، كأنه ينهل من روحها لكي يسد رمقه، فلم تكن قبلة عادية كان فيها من الاحتياج واللهفة ما يفوق تصورها وهو يعري أمام أنظارها كل مشاعره كرجل صبر كثيرًا رغم المعاناة من أجل الوصول للحظة كهذه اللحظة التي أعلنت فيها بنفسها أنها موافقة.
أطلق مروان سراح شفتيها فشهقت سيلا تطلب الهواء وقد تحول جسديهما لجمرة حب مشتعلة فناظرها مروان بعينين تتأجج فيهما الرغبة يهمس " قلبي أنت يا سيلا.."
قالها وهو يخلع عنه التيشيرت البيتي ويلقي به بعيدًا ثم يميل لينهل من شفتيها من جديد، فحضنته سيلا وأخذت تمرر يدها بلطف على العلامات التي تملأ ظهره.
بعد بعض الوقت ارتوت فيه العروق من نهر المحبة رفع مروان وجهه يمرر أصابعه على شعرها ثم مال ليمرغ وجهه في شعرها فعادت، لإغلاق عينيها في استرخاء بعد معركة مشاعر كانت هي الطرف الأضعف فيها، والأكثر رهافة واستسلامًا.. معركة عشق متبادل كل طرف يتصرف على سجيته، تحررت فيها رغبات القلب والجسد فلم يبخل أحدهما على الآخر في مداواة عطب روحه.
حررها بعد ثوان واستلقى بجوارها ملتصقًا بها ثم أبعد شعرها عن وجهها هامسًا بأنفاس لاهثة "شكرًا"
طالعته بأسود عينيها اللامع تسأله بخفوت "على أي شيء تشكرني"
همس بصوت متهدج بالمشاعر "على كل شيء منذ أن عرفتك.. وعلى هذا الشيء بيننا الآن.. فلو تعلمين كيف أشعر اللحظة.. أشعر بأني ممتلئ بالدفء بعد أن كنت كالبالون الفارغ.. (وأشار على رأسه) الفراغ هنا مخيف، بشع، وحدة لا تشبه وحدة أي شخص آخر إلا إذا كان في مثل حالتي، فهذا الدفء، وهذا الحب، وتلك السكينة التي أحسها الآن تشعرني بالسكنى في أرض دافئة ناعمة لينة تغدق عليّ بالحنان"
مررت كفها على وجهه تلمس ملامحه وهي تهمس بالقول "ألن تكف عن هذا الكلام الذي يفطر قلبي!"
أغمض عينيه يمرغ وجهه في كفها باستمتاع ثم فتحهما يقول بخفوت "مهما قلت فلن أجد الكلمات التي تصف مشاعري.. فأنتِ لستِ شخصًا عاديًا بالنسبة لي.. ولست مجرد أنثى.. أنت الأنثى الوحيدة التي أعرفها سيلا هل تدركين المعنى؟.. أنا لا أذكر أمي ولا أعرف كيف هو حضنها، لا أذكر ذلك الشعور؛ فوجوده، حتى لو لم تكن الأم على قيد الحياة يشبع مشاعر معينة بداخل أي إنسان ويخفف من شعوره بالوحشة.. ولا أذكر أية علاقة لي بأية أنثى، لا أخت، ولا زوجة، ولا حبيبة.. كائن (الأنثى) بكل ما يمثله في حياة الرجل من دفء وعاطفة وحنان ولين ومشاعر لا أعرفه.. والله خلق الرجل والمرأة متكاملين.. وجود كل منهما في حياة الآخر باختلاف الدور والصفة هو بالتأكيد هام من أجل البناء النفسي للطرف الآخر"
ترقرقت الدموع في عينيها ومررت إبهامها على ذقنه بينما أردف مروان شارحًا بنفس الهمس الدافئ "تصوري أن يختصر هذا الدور فيك سيلا فتشكلين لي الأنثى التي لا أعرف سواها.. الواحة وسط صحراء جليدية.. وما شعرت به معك قبل قليل يفوق التصور.. أنت لست مجرد حبيبة سيلا. أنت الجانب الحلو لهذا الإنسان الماثل أمامك بكل جروحه ويتمه ووحدته وخوائه الداخلي وعطب روحه.. فشكرًا على اللحظات السابقة.. شكرًا لأنك غمرتني بكل هذه المشاعر.. إنه لشعور مذهل أن تملك سيلا الصواف كل هذه المشاعر لي"
سال خيط من الدموع على جانبي عينيها فمد إبهامه يمسحه وهو مستمر في البوح المؤثر " أنا كنت أتمنى نظرة منك، رفقة حصرية لي.. وأردت السفر كي أفر من شعوري بالألم وأنا أراك مع غيري.. فشكرًا لأنك وثقت فيّ وأحببتني وبادرت بعرض الزواج عليّ فلم أكن لأجرؤ أن أفعلها بنفسي وأنا في مثل ظروفي، أنت بهذا العرض سيلا فتحت لي أبواب الجنة على مصراعيها فتحققت أمنية الرفقة حتى طمعت في علاقة حميمية تطفئ نار شوقي وعذابي وتشبع احتياجي كرجل.. فكنتِ بذاك الكرم الذي نلته منك قبل قليل.. (وقبّل تجويف رقبتها) شكرًا لأنك قبِلتِ طلب لجوئي إليك وأصبحتِ وطنًا لروحي الشريدة وقلبي الجائع"
"يا إلهي" همست وهي ترفع ذراعيها وتحضنه بقوة ثم أضافت "أكل هذا الحب لي!.. (ومسدت على مؤخرة رقبته مضيفة) بالنسبة لي .. لا أجد من الكلمات ما يعبر عما أريد قوله تعلم مشكلتي في التعبير عما أشعر به.. لكنك تطبب عطب روحي يا مروان.. وتغمرني بفيض مشاعر تلهفت إليها طوال عمري"
غاص مروان في حضنها فطبعت قبلة بين رقبته وكتفه ففعل بالمثل لتغمره سيلا بفيض حنان لا تعرف من أين تدفق ودعته ليغرق فيه طواعية.. ففعل.
××××
اليوم التالي
"يا إلهي! كاليل طلق شرابات!"
قالتها ليزا بتفاجؤ ثم أضافت "بصراحة أشعر بالشماتة فهذه المرأة سيئة"
قالت رحمة بكره "عليها من الله ما تستحق"
لم تفهم ليزا ما قالته أختها بالعربية، ولكنها سألت بقلق "وكيف حال سدسد الآن؟"
" منذ أن عاد الليلة الماضية لم يخرج من غرفة نومه.. يبدو أنه قد أجهد نفسه بشدة"
تمتمت ليزا بتعاطف "شيء مؤسف الحقيقة، كنت أشعر بالسوء دومًا لأن أمي ماتت وتركتني.. لكن حين أفكر في سدسد وكيف أنه لم يرَ أمه ولم يكتشف مكان قبرها إلا قبل يومين أشعر بالشفقة عليه.. (وأضافت بضيق) أنا أكره كاليل.. أكرهه.. هو السبب في كل حياتنا المعقدة.. هو السبب في حياتي أنا شخصيًا المعقدة.. لا أجد الراحة في مكان، لا أعرف هويتي الحقيقية إن كنت عربية أم غربية"
سألتها رحمة بتعاطف وذهنها يذهب إلى اتجاه معين "ألازلتِ مكتئبة ليزا؟"
ردت الأخرى "أنت أيضًا مكتئبة راهما أشعر بك"
"إنها أيام ثقال" قالتها رحمة بلهجة مهمومة فعبست ليزا تسألها "ما معنى (سكال)؟"
"أقصد صعبة"
أيدتها ليزا متنهدة "هذا حقيقي"
سألتها الأخرى "كيف حال الحفل المدرسي؟"
سحبت نفسًا عميقًا وأجابت "الحقيقة أن التجربة مثيرة بالنسبة لي وأتحدى نفسي فيها وامكانياتي كثيرًا"
أحست رحمة بأنها ليست ليزا التي تعرفها منطفئة منذ مدة فقالت لها بلهجة مواسية "أحيانًا نمر بتجارب صعبة في الحياة ليزا.. لكن علينا ألا نسمح لها بأن تقفدنا الشعور بطعم الحياة"
مررت الأخيرة أصابعها في شعرها بتوتر وردت "أنا أحاول راهما.. أحاول أن أكون قوية من الداخل.. فقد اكتشفت مؤخرًا بأني هشة كثيرًا "
قالت رحمة بلهجة صادقة "أراح الله قلبك. فكري في أن تعودي لتكوني في وسطنا.. (وأضافت بمناغشة) تعالي وسأدللك"
ضحكت ليزا وقالت بحنين "أنا بالفعل أشتاق لدفء الحياة في البيت.. وسأشتاق لشهر رمضان.. علمت بأنه قد اقترب.. كانوا يتحدثون في مطعم زازا عنه.. سأشتاق لأجواء ذلك الشهر المميز عندكم"
"تعالي إذن قبل رمضان"
هزت ليزا رأسها وأجابت "لست مستعدة بعد راهما.. احتاج للمزيد من الوقت (وأضافت بمرح زائف) لا تنسي أن تصوري لي الزينة في الشارع حينما يشرف عليها سيد ككل عام"
قالت الثانية بحزن "المهم أن يتخطى سيد ما حدث ويعود إلى حياته"
"أتمنى ذلك.. سأتركك الآن فنحن ننظم حفل زفاف زازا كما أخبرتك"
قالت رحمة وهي تستعد لإنهاء المكاملة "تمام سأنتظر الصور والمقاطع المصورة لا تنسي"
"أوكيه.. باي"
أغلقت رحمة الهاتف وتطلعت في المكالمة الأخرى التي ترن وعقدت حاجبيها تتمتم "بانة!"
أما ليزا فأنهت المكالمة وعادت للانضمام للمجموعة الواقفة أمام المطعم التي ترتب الحفل الخاص بزفاف ظاظا بقيادتها هي وبجاد.
استدار إليها الأخير وسألها "هل أتممت الاتفاق مع بائع الورد"
ردت ليزا مطمئنة "لا تقلق"
رسم بجاد علامة في الورقة أمامه ثم استدار لطباخي المطعم يقول "نريد أن نستقر على قائمة الطعام النهائية"
ونظر لليزا التي قالت "آخر قائمة سنضعها الليلة"
جاءهم صوت سيارة ونباح كلب فاستدار بجاد وليزا معًا لينظرا لسيارة ريان، وروى الذي يطل منها ينبح نحوهم، فمال بجاد على ليزا هامسًا "جاء الوطواط، أنا أسميه بالوطواط لأن أغلب مناوباته تكون في الليل ولكنه مؤخرًا أصبح وطواطًا بحق.. وبت أخشى أن ينقض عليّ ليلًا ويمص دمي"
أطلقت ليزا ضحكة خرجت عصبية تداري بها أنين القلب الذي يهفو إلى أيام لم تعد موجودة واختلست النظرات نحو ريان الذي ترجل من سيارته وقد ردت ضحكتها ووقفتها مع بجاد إلى صدره كالسهام الحارقة.
يعلم بأن بجاد يتعمد استفزازه لأنه لم يمنح له الفرصة ليناقشه في أمر علاقته بليزا، لكنه لم يستطع أن يمنع نفسه من الشعور بالاستياء كلما وجدهما يتحدثان أو يتضاحكان.
مسد بكلتا يديه على وجه روي الذي يخرج من نافذة السيارة وهمس له قائلًا "تريد أن تذهب إليها؟ تشتاق إليها مثل صاحبك؟ (وأضاف بحزن) اذهب يا محظوظ"
فتح له الباب، فأسرع روي إلى ليزا التي استقبلته بترحيب بينما اقترب بجاد من صاحبه ليبادره الأخير بالقول "متى ستعود للعاصمة بجاد؟"
سأله الأخير ببرود "لماذا؟ هل أنت مستاء من وجودي؟!"
رسم ريان ابتسامة صفراء على وجهه وأجاب "ماذا تعتقد وأنت تطبق على أنفاسي في الشقة الضيقة التي أسكن فيها"
مط بجاد شفتيه وتمتم يتصنع الاندهاش "غريبة.. رغم أننا لا نتقابل تقريبًا.. فأنت تبيت في المستشفى معظم الوقت.. عمومًا إن كان وجودي يضايقك أستطيع أن أبحث لي عن غرفة في فندق"
هتف ريان من بين أسنانه بعصبية "بجاد لا تستفزني"
حرك الثاني كتفيه ورد بنفس البرود متلذذا باستفزازه "حبيبي أنا لم أفعل شيئًا.. كل شيء أنت تفعله بنفسك لنفسك"
زفر ريان وطحن ضروسه ثم أدار وجهه فجأة وتشاغل بعمل شيء في باب السيارة المفتوح حينما وجدها تقترب مع روي.
تطلعت ليزا في وقفته الجانبية وأدركت تمام الادراك أنها لم تتخلص بعد من تأثيره عليها.. نفس الجاذبية التي تشدها إليه.. ونفس الألم الذي تشعر به في قلبها.. أحيانًا يصيبها شعور قوي بالرغبة في لمسه أو تنشق عطره الرجولي الذي تميزه اللحظة عن قرب، تمتمت "كيف حالك ريان؟"
نظر إليها يرسم بسمة على شفتيه قائلًا بلهجة حاول أن تكون عادية "أهلا ليزا أنا بخير وأنت؟"
ذكرها بتحية الغربيين الخالية من أي روح فتمتمت "أنا أيضًا بخير نشكر ربنا"
هز رأسه عدة مرات وتمتم وهو يحرك عينيه هنا وهناك كي يبعدهما عن وجهها الجميل وأنظارها التي ترسل طعنات لقلبه "هذا جميل.. جميل جدًا.. أنتِ بخير وأنا بخير.. والجميع بخير"
كان لا يعرف بم يتمتم، ونظرات بجاد الساخرة تزيد من اضطرابه فانتحى بجانبه يفعل لا شيء في سيارته التي يقف أمام بابها المفتوح بينما ظل روى يشاكس ليزا ويرفع جذعه إليها وهي تمسد على رأسه وهي تسأل بجاد المتابع لما يحدث بينهما في صمت "هل أخبرته؟"
رد الأخير "لا.. أخبريه أنت فأنا معي اتصال عليّ أن أرد عليه"
عبس ريان وبرطم من بين أسنانه بخفوت "بماذا يريدان أن يخبراني.. ومنذ متى وبينهما أشياء مشتركة!"
رد بجاد على الهاتف وهو يبتعد بضع خطوات كي يتركهما سويًا لتقول ليزا ريان "كنا نريد أن نطلب منك شيئًا"
قواعد اللباقة أجبرته على أن يدير وجهه ليتطلع في وجهها، قواعد اللباقة ولا شيء آخر مثل الشوق المتلهف لأيامهما معًا، هكذا أقنع نفسه وهو يدير وجهه إليها ويا ليته ما فعل فانعكاس الشمس التي تغرب في عينيها الحزينتين مزق قلبه.
تطلعت ليزا في وجهه المرهق وقالت "كنا نريد أن يشارك روي في مراسم حفل الزفاف"
عبس قائلًا "روى!"
"نعم"
قال مفكرًا "ولكن كما تعلمين أنا أضعه أغلب الوقت في دار للرعاية لأن ظروفه الصحية ليست على ما يرام"
قالت مؤكدة "لا تقلق.. لن نرهقه في شيء.. وسنأخذه فقط في الوقت الذي ستحضره فيه للبيت"
هز رأسه وتمتم "لا بأس.. كما تريدون.. هل تريدون مساعدة؟ (وأضاف متلعثمًا) أعني أنا بالفعل مشغول بالامتحانات لكن إن أردتم.."
ردت ليزا وهي ترسم ملامح وجهه بعينيها قبل أن ينتهي الوقت المتبقي للقاء "لا بأس بچاد موجود وشباب المطعم موجودون"
انتهى الأخير من المكالمة الهاتفية وقال " هيا ليزا لنكمل ما نفعله"
نظرت إليه بارتباك ثم تطلعت في وجه ريان وتحركت مبتعدة أمام ناظريه فحدج ريان بجاد الذي تجاهله وانضم إليها مبتعدين وهو يخبرها بشيء أضحكها فتمتم ريان من بين أسنانه وهو يحترق ذاتيًا "تمام.. مادام بجاد.. موجود.. فتمام"
××××
العاصمة
فتحت رحمة الباب وقالت بترحيب كبير وهي تقبل وجنتي ضيفتها "أهلا بانة"
عانقتها الأخيرة ثم قالت وهي تدخل "أردت أن أطمئن عليك فلم أستطع زيارتك منذ ما حدث"
تمتمت الأخرى بامتنان وهي تدعوها للدخول "لا حرمني الله منك يا بانة"
منحتها الأخيرة علبة بلاستيكية بيتية وهي تقول بحرج "فكرت في أن أحضر لك معي هذا الصنف الحلو"
قالت رحمة وهي تأخذ منها العلبة "أتعبت نفسك"
قالت بانة وهي تجلس على الأريكة "لا تقولي هذا الكلام أتمنى أن يعجبك (ونظرت لزهرة الجالسة على أريكة بعيدة مستغرقة في مشاهدة التلفاز) كيف حالك يا زهرة؟"
تمتمت الأخيرة وهي تخطف نحوها نظرة سريعة وتعود لما تفعل "بخير"
قالت رحمة بلهجة موبخة وهي تترك بانة متجهة إلى المطبخ "ألن تسلمي يا زهرة؟"
ردت الأخيرة بحنق "آسفة، ولكن ستفوتني اللقطة.. أريد أن أعرف هل ستخبر الرجل بأن كريم تايجر كان حبيبها أم لا"
نظرت بانة من تحت رموشها نحو هيلدا في التلفاز وأشاحت بوجهها بضيق حزنًا على ما فعلته مع أخيها وتطلعت حولها في انتظار عودة رحمة وهي تشعر بالحرج الشديد من المهمة التي جاءت من أجلها، خاصة وأنها ترى أن الوقت غير مناسب، لكن رامز يلح بشدة منذ ذلك اليوم الذي أنقذوها فيه من بيت والدها ولم تملك الفرصة للرفض خاصة مع اكتئاب رامز بسبب معرفته بفسخ العقد الخاص بالفيلم الذي كان سيقوم ببطولته، لهذا قررت أن تلبي رغبته وتقوم بهذه الزيارة لرحمة.
اهتز هاتفها والتقطت عيناها اشعارًا سريعًا قبل أن يختفي من الشاشة كان رامز فيه يسألها "هل وصلت؟"
أحست بأن توتره سيوترها فأغلقت الهاتف تمامًا وسحبت نفسًا عميقًا فلا أحد يعرف بالمهمة التي جاءت من أجلها حين كلفها رامز أن تسألها عن رأيها أولًا، خاصة وأنه لن يستطيع التحدث مع سيد حاليًا نظرًا للحالة التي يمر بها الأخير، وفي الوقت نفسه غير قادر على الصبر.
عادت رحمة تحمل كوبًا من العصير وطبقًا به صنف حلو وهي تقول "أنت أيضًا عليك أن تتذوقي من صنع يدي وتخبريني بأية ملاحظات"
ابتسمت بانة وقالت "اجلسي أريدك في أمر هام"
جلست رحمة مرتبكة وحدسها يطلب منها الهرب من أمامها فتطلعت في وجه بانة المحرج والتي صمتت لبرهة ترتب أفكارها ثم قالت "بصراحة أنا لست بارعة في مثل هذه المهام، ولا أعرف إن كان لها صيغة معينة، ولكني مكلفة لأعرف رأيك في موضوع"
جف حلق رحمة وتعثرت نبضاتها في بعضهن البعض وتملكها شعور يكاد أن يصل إلى اليقين بأنه أمر يخص رامز فهمهمت "تفضلي"
ازداد حرج بانة وارتباكها فضحكت ومدت يدها لكأس العصير ترشف منه رشفة قبل أن تعيده لمكانه وتقول "بصراحة أشعر بأن الوقت غير مناسب.. ولكن ماذا أفعل في الالحاح"
صمتت رحمة وأسندت يديها إلى جانبيها على المقعد تقبض على قماشه ولم تنطق في انتظار أن تتحدث بانة لتقول الأخيرة "ما رأيك في رامز أخي؟"
بدأت رحمة في الارتجاف الداخلي وهي تبتسم ابتسامة خجلة مجيبة "وهل هذا سؤال؟ الأستاذ رامز شخص استثنائي.. أتمنى أن يريح الله قلبه ويسعده"
التقطت بانة طرف الخيط وقالت "ولكي يسعده الله ويريح قلبه يريد أن يستقر ويكون عائلة"
قفز قلبها إلى حنجرتها فسبب لها اختناقًا وبانة تضيف "وكنت أريد أن أعرف رأيك فيه لأنه.. لأنه أرسلني كي اسأل إن كنت توافقين على الزواج منه"
الزواج!
رامز يريد أن يتزوجها!
يا إلهي! أحلم هذا أم كابوس!
تقلصت عضلات صدرها كي تلجم ذاك القلب الذي أصابه الجنون بينما أردفت بانة موضحة "بالطبع سيتحدث مع سيد بشكل رسمي.. لكنه فضل أن يعرف رأيك مباشرة إن كان لديك مانع (وازداد شعورها بالحرج مضيفة) أقصد مثلا لأنه يحمل جنسية مختلفة أو أي سبب آخر"
انخلع قلب رحمة من موضعه، وبدلًا من أن تشعر بالسعادة أصابها الحزن الشديد لأنها فاتحتها في هذا الأمر، وكأنها أرادت أن تظل هكذا بين الشك واليقين بدلًا من أن يحييها طلبه فتضطر لأن تقتل نفسها بنفسها.
رفعت يديها عن المقعد وضمت قبضتيها ببعضهما في حجرها، ضغطتها بقوة تحاول التوازن، وأخذت تحرك عينيها في الصالة وكأنها تبحث عن رد مناسب، وفي صدرها يتزاحم الفرح مع الحسرة والأمل مع اليأس.
تعلقت عينا بانة بها بقلق وقد صدمها تأخرها في الرد حتى استجمعت رحمة شجاعتها وتنحنحت ترد بصوت هارب منها "إنه لشرف كبير جدًا أن يفكر الأستاذ رامز بي.. ولكن.. ولكني لا أفكر في الزواج حاليًا"
احمر وجه بانة واعتصر الألم قلبها على أخيها المتلهف ولولا أنه لن يعجبه أن تخبر رحمة بمشاعره لفعلت لكنها أجلت صوتها وقالت "الحقيقة رامز سيحزن حينما يسمع ذلك فهو يكن لك احترامًا كبيرًا يا رحمة"
ازداد جنون قلبها ممزقًا بين السعادة والشقاء وتمتمت "هذا الكلام سأعتبره وسامًا على صدري.. لكني لن أستطيع.. أقصد.. أقصد... لا أفكر في الزواج حاليًا يا بانة"
أحست الأخيرة بأن دلوا من الماء البارد قد ألقي فوقها بعد أن تأكدت من رفضها وهي التي كانت ترسم الأحلام منذ أيام وتخطط كيف ستحتفل بفرحة أخيها، ولم تتوقع رفض رحمة، لكن على ما يبدو أنها كانت من الغرور والثقة الفارغة بما جعلها تعتقد أن رحمة ستوافق، هكذا وبخت نفسها بأنها لم تفكر في رحمة، فكرت فقط في أخيها وسعادته ونسيت أن هناك طرفًا آخر عليه أن يوافق كي تتحقق سعادته؛ وها هو الطرف الآخر يرفض.
سحبت رحمة نفسًا عميقًا وزادت من ضغط كفيها ببعضهما في حجرها وهي ترى علامات الإحباط على وجه بانة التي صمتت تبحث عن شيء لتنهي به الجلسة التي بدأت كالنسمة الخفيفة وستنتهي تاركة خلفها همًا ثقيلًا.
لم تجد بانة ما تضيفه بعد صدمتها فابتسمت ابتسامة محرجة وهي تستقيم واقفة تقول "كل شيء نصيب و... وكنا نأمل أن يكون النصيب من عندكم، عمومًا يا رحمة ما دام الرفض ليس له علاقة بشخص رامز فأنا لن أعتبر هذا الموضوع قد أغلق تمامًا"
تمتمت الأخيرة بلهجة متألمة "كما قلت أنت لا أحد يعلم أين نصيبه، ومن قلبي أقولها.. أتمنى له التوفيق مع من تسعده"
" أنت التي ستسعدينه" كادت أن تندفع بانة بقولها لكنها احتفظت بكرامتها وكرامة أخيها وتمتمت بصوت مختنق في حلقها " ولك بالمثل يا حبيبتي"
تحركت مغادرة فأخذت قلب رحمة معها لتقول الأخيرة "بانة"
التفتت إليها وبعض الأمل يناغش قلبها على استحياء، لتقول رحمة التي استطاعت أخيرًا أن تقف على قدميها "أرجو ألا يؤثر ذلك على علاقتنا.. فأنت والله أخت ومحبتك في قلبي..."
قاطعتها بانة بالقول الصادق "لا تقولي هذا الكلام يا رحمة.. أنت أيضًا لك محبة كبيرة في قلوبنا.. أما أمور الزواج فكما قلنا قسمة ونصيب (واغتصبت ابتسامة مضيفة) وكما قلت لك مادام الوقت غير مناسب فلا يزال عندي أمل أن يأتي وقت مناسب لنعيد فيه الطلب.. (وأضافت لعلها توصل ما تريد إيصاله) هذا فقط كي تعرفي كم أنت غالية على قلوبنا"
الانهيار بالبكاء هو الحل الأمثل كي تخفف عن قلبها قبل أن ينفجر بالألم؛ هكذا فكرت رحمة وهي تقف أمامها تطبق كفيها ببعضهما وتتمتم بحشرجة ولمعة دموع في عينيها "وأنتم كذلك.. غالين جدًا على قلوبنا"
قالت بانة بمرح زائف "لا تنسي أن تخبريني برأيك في الصنف الحلو (وجرت قدميها للمغادرة مضيفة) مضطرة أن أذهب.. السلام عليكم"
خرجت بانة وأغلقت الباب خلفها ثم توقفت للحظات تفكر كيف ستخبر رامز بهذا الخبر الصادم، أما رحمة فأسرعت إلى غرفتها تبكي لتفرج عن معاناة ذلك القلب الذي يموت اللحظة بين ضلوعها.
××××
دخلت آية بخفة لتطمئن عليه فلم يختلف وضعه عن ساعتين مضيتًا؛ منبطحًا على بطنه ينام باستغراق، إنه على هذا الحال منذ أن تناول الطعام ونام يوم أمس، ولولا قلقها على ضغطه لتركته لينام كما يحلو له لكنها تشعر بالقلق رغم أن الجميع يطمئنوها بأنه مجهد وأن النوم جيد بالنسبة له.
مالت عليه تطبع قبلة على خده ومشطت شعره المبعثر بأصابعها ثم ابتعدت بهدوء وأغلقت باب الغرفة خلفها وهي تتذكر ما أخبرها به من أسرار مؤلمة، وأشفقت عليه فهو لا يستحق هذا أبدًا.
خرجت للصالة إلى حيث تركت اللابتوب وعادت لتكمل عملها، في الوقت الذي نظر فيه باسل لأخته بنظرة ماكرة ثم تحركا بخفة إلى الداخل.
توقفا عند غرفة نوم أبويهما ووضع باسل ما في يده أرضًا ثم استطال على أطراف أصابعه يحاول فتح مقبض الباب، لكنه لم يستطع فساعدته نغم وأخذا يسحبان بكفيهما الصغيرين مقبض الباب لأسفل حتى فتح.
زينت ابتسامة انتصار ثغريهما ودخلا للغرفة وباسل يمسك بورقة ملصقات لشخصيات كارتونية في يديه فاقترب من والده النائم، ورفع سبابته لأخته كي لا تصدر صوتًا وقطع الملصقات الصغيرة وأخذ يلصقها فوق جبين والده ووجهه بينما تسلقت نغم السرير تمسك بقلم الألوان قائلة بهمس ( ثيبدو جميلا بالنجوم يا باثل)
قالتها وبدأت برسم نجوم على ذراع والدها.
بدأ سيد يستفيق من نومه على صوت ضحكات صغيرة مكتومة وأنفاس تكاد أن تكون في وجهه فرفع رأسه عابسًا ليجد وجه ابنه في وجهه.
اتسعت عينا باسل وابتعد قليلًا ينظر لأخته بينما اعتدل سيد على ظهره ووضع يده على وجهه يزيل ملصقًا ويتطلع فيه ثم نظر لذراعه الذي تزينه الملصقات والرسوم بقلم الألوان الأحمر ونظر لتوأميه المتجمدين في انتظار رد فعله ثم قال بحشرجة وهو يعتدل جالسًا "ما هذا؟ .. ماذا فعلتما؟"
قالت نغم وهي تبعد شعرها عن وجهها "نزينك كي تبدو جميلًا"
تمتم سيد بصدمة وهو يتطلع في ذراعه المليء بالرسوم بقلم الألوان "تزينونني كي أبدو جميًلا!"
ناظرهما ثم عاد يتطلع في ذراعه ثم انقض فجأة يقبض على نغم من فوق السرير فأطلقت صرخة أفزعت آية بالخارج وقفزت من مكانها تبحث عن توأميها بهلع قبل أن تسمع صوت الصرخات الضاحكة فتتطلق سراح أنفاسها.
في الغرفة التقط سيد باسل الذي حاول تخليص أخته ورفعه بجوارها قائلًا بصوت خشن وهو يدغدغ الاثنين "هذا أمر لا يمكن السكوت عليه.. لابد أن انتقم"
دخلت آية تمسك بقلبها وهي تقول "انخلع قلبي والله"
توقف سيد عما يفعل فهتفت في توأميها "لماذا أيقظتماه!"
ثم نظرت لسيد الذي تملأ الملصقات الصغيرة وجهه وذراعه واتسعت عيناها ثم انفجرت بالضحك وهي تتمتم "ما هذا؟!"
رد باسل بثقة "نزينه من أجل رمضان.. جدتي قالت أننا نزين كل شيء حينما يقترب رمضان"
انفجرت آية ضاحكة فشاركها سيد الضحك وهو يتأمل طفليه لتقف نغم فوق السرير وفي يدها قلم الألوان تنوي أن ترسم على وجه أبيها الذي ابتعد بجذعه عنها يسألها باستنكار "ماذا تفعلين؟"
قالت بلهجة مترجية "ثأرثم نجمة واحدة على خدك"
سحب منها القلم وقال "تصرفي يا آية"
قالت الأخيرة ضاحكة وهي تحمل ابنتها من تحت ابطيها وتنزلها أرضًا "يكفي ما فعلتماه به.. نحن نزين الشارع وليس بابا، كما أنني طلبت منكما أن ترسما في الكراس وليس على بابا"
تجاهلت تبرم نغم التي غادرت الغرفة غاضبة ونظرت لسيد تسأله "هل تشعر بالتحسن؟"
أنزل قدميه من فوق السرير وتمتم وهو يزيل باقي الملصقات عنه "فضل ونعمة من الله"
"أمي أرسلت طعام اليوم.. قالت إنه لسيد"
قالتها تعوج فمها بتهكم فهز رأسه بابتسامة لتضيف بسعادة وهي تراه يستعيد نشاطه "سأذهب لأعد لك الطعام"
تركته فحرك سيد عضلات رقبته المتيبسة من أثر النوم الطويل ثم التقط هاتفه يبحث عن اسم معين كان يحلم به طوال نومه وضغط على الرقم.
في المدينة الأجنبية أخرجت ليزا الهاتف من جيبها وتطلعت فيه قبل أن تتسع عيناها وتتحفز أعصابها وهي ترى اسم أخيها فقالت لمن معها معتذرة "سأعود بعد دقيقة"
راقبتها عينا ريان الذي وقف في الحديقة المواجهة للمطعم مع المجتمعين للتحضير لعرس ظاظا بحجة مساعدتهم في تدريب روي على دوره وهو في الحقيقة لا يريد إلا البقاء بجوارها، خاصة وأن بجاد مستمر في استفزازه بالاهتمام بها.
ترك الواقفين وتحرك خلف ليزا التي ابتعدت كثيرًا والفضول يأكله متسائلا عن هوية الذي يتصل بها فيجعلها تتحفز بهذه الطريقة.
أجلت ليزا صوتها وقالت "نعم سدسد"
قال الأخير بحشرجة من أثر النوم "كيف حالك ليزا؟"
"بخير.. كيف حالك أنت ؟.. راهما أخبرتني بما حدث وأشعر بالأسف من أجلك.. هل أنت بخير؟"
قال بهدوء "أنا بخير يا أختي لا تقلقي"
تمتمت وكلمة (أختي) تدغدغ قلبها "حمدًا لله"
ساد الصمت المرتبك بينهما فقال سيد "ليزا.. لماذا لا نعطي لبعضنا فرصة؟ أقصد لماذا لا تحضرين ونتفاهم بشكل منطقي أنا وأنت؟ بصراحة أنا قلق من وجودك بالخارج وحدك؟ .. أنت بالتأكيد تعلمين أن ما حدث بيننا كان خوفًا عليك."
تأثرت بلهجته الحانية وأحست بالشوق لرؤيتهم كلهم لكن هذا الشعور بالاحتياج يضغط على عقدة الفشل بداخلها فردت "أنا حاليا مرتبطة بعمل لابد أن أنجزه وسيستغرق وقتًا للتنفيذ"
"أي عمل؟"
قالت بلهجة متباهية "أدير حفلًا للتخرج في إحدى المدارس.. العمل ضخم وأريد أن أنجزه"
"ولماذا لا تتركيه وتعودي ليزا"
قالها بإصرار وما حدث لرحمة وهي في كنفه يزيد من شعوره بالقلق على ليزا التي تعيش وحدها في بلد أجنبي فقالت ليزا بهدوء "سدسد.. أنا أحتاج لأن أثبت جدارتي في عمل شيء.. (وبحثت في قاموس الكلمات العربية التي تعرفها في محاولة لاختيار عبارات موضحة لما تقول وأضافت) كما أنني وقعت عقدًا معهم ولا أحب أن أتخلى عنهم بعد أن وثقوا فيّ خاصة وأني لم يسبق لي إقامة مثل هذه الحفلات"
هز رأسه وقال بضيق "تمام ليزا.. عليك فقط أن تعرفي أني لا أشعر بالراحة وأختي وحدها في دولة أخرى.. لهذا سأكون سعيدًا إن قررت العودة أو حتى الزيارة حتى نتفاهم"
احمرت وجنتاها وتمتمت "سأفكر في أمر الزيارة سدسد"
"تمام"
"كن قويًا" قالتها بالإنجليزية ثم أغمضت عينيها تفكر في الترجمة وهي تتمتم "أقصد...."
قاطعها سيد قائلًا بالعربية "أنت أيضًا كوني قوية ليزا"
اتسعت ابتسامتها واستدارت وهي تتمتم بعبارات وداع ثم عبست حينما وجدت ريان يقف بالقرب منها وتلاقت عيناها معه وهو الذي كان يسب ويلعن في سره لعدم تمكنه من سماع ما تقوله.
ارتبك ريان خاصة حينما استمرت في التحديق فيه فرفع الهاتف على أذنه بيد بينما بالأخرى هم بالاستناد على الشجرة بجانبه يقول بصوت عال "آلو "
خانته يده التي كان ينوي أن يستند بها على الشجرة فوجد نفسه يستند على الهواء وكاد أن يسقط أمام عينيها لكنه توازن بسرعة واحمر وجهه حرجًا فاستند بكتفه على الشجرة بإباء وشمم ولا يزال الهاتف على أذنه يتابعها بنظرات مختلسة.
أنهت ليزا المكالمة ونظرت لريان بنظرات متفحصة وهي تمر بالقرب منه فاختلس الأخير نظرة نحوها وهو لا يزال يتظاهر بالتحدث في الهاتف ثم ازداد ارتباكه وقال بأول ما ورد على ذهنه فكانت عبارة من مسرحية شهيرة "آلو الحاج عبد الموجود موجود؟"
ظلت ليزا تتلكأ وهي تقترب منه وتمر من جواره فأضاف ريان "أريد ستة كيلو سمك وجمبري"
ابتعدت ليزا عابسة وهي تقول في سرها باندهاش "هل يطلب من مطعم عربي غير مطعم زازا؟ (وأضافت مفكرة) وسيأكل ستة كيلو جرامات وحده!"
××××
وقفت بانة أمام رامز وقلبها يتفتت من الألم وهي تتطلع في وجهه المصدوم بينما قال الأخير بدون استيعاب "رحمة رفضت!"
حاولت التخفيف عنه فقالت "أعتقد بأن الوقت غير مناسب.. وهذا ما أخبرتك به من قبل.. فلم تمر على تجربتها مع والدها سوى أيام"
هز رأسه مصدومًا وقال بغير اقتناع "لا.. رحمة أقوى مما كنت أعتقد... هذا ما اكتشفته حينما حدث ما حدث وهو ما شجعني لأن اتخلى عن قراراتي السابقة لكن.. لكن.."
تعثرت الكلمات على لسانه وحدق في الأرض بصدمة شديدة فقالت بانة بلهجة مشفقة "هون عليك يا رامز.. هي لم ترفضك لشخصك"
رفع إليها أنظاره يقول بتهكم "وهل إن كانت معترضة على شخصي ستخبرك صراحة!"
لم تجد بانة ما تقوله فوقفت تتطلع فيه وهي تحبس الرغبة في البكاء ليسألها رامز بضيق "لماذا لم تسأليها عن السبب بشكل مباشر؟"
"أي سبب؟" سألته بعدم فهم فهتف بعصبية "سبب رفضها لي"
"يا رامز.."
قاطعها يهتف بعصبية "اتصلي بها الآن"
قالت باعتراض "رامز!"
صاح وقد ازدادت عصبية "اتصلي يا بانة بها الآن واسأليها هل السبب.. ألأني من جنسية أخرى؟ أم لأني مسجون سابق؟"
أوجعتها كلماته المؤلمة فتمتمت بلوعة قلب "رامز.."
ازداد هياج الأخير والألم الحارق يذبح قلبه فقال بإصرار "اسأليها يا بانة.. أم لأني أعمل في مجال التمثيل؟ أم لأني لاجئ؟ أم لكل هذه الأسباب مجمعة"
تمتمت بتوسل "رامز أرجوك تماسك"
أطل الغضب من عينيه وهو يقول لأخته "لماذا لم تسأليها عن السبب المباشر يا بانة؟ .. اتصلي بها الآن واسأليها أريد أن أعرف"
كان صوته عاليًا، وفي حالة من العصبية لم ترها عليه من قبل فتمتمت مهدئة "رامز أنا أفهم جيدًا شعورك.. لكن أنا وأنت في غمرة فرحتنا نسينا أن هناك طرفًا آخر"
ما تقوله كان فوق احتمال أعصابه ولا يتفق مع عقله ولا يقتنع به قلبه فهتف "اسكتي يا بانة.. اسكتي"
قالها وهو يحاول لملمة أعصابه ومشاعره من الفوضى التي أحدثتها الصدمة، إنها ليست صدمة، بل قنبلة فتتت قلبه إلى أشلاء.
أخذ يتحرك في غرفته أمام أنظار أخته المتألمة العاجزة عن الإتيان بشيء ليخفف عنه فمرر أصابعه في شعره بتوتر وهو يحدث نفسه "هناك سبب.. بالتأكيد هناك سبب"
"إن تآلف القلوب بيد الله يا رامز"
قالتها بانة بلهجة مواسية فاستدار هادراً "قلت اسكتي" ومنع نفسه من إخبارها بأنه يستشعر ميلها إليه منذ فترة طويلة، فلم يخبر أخته أبدًا بأنها كانت تنتظره في الشرفة.
هل كانت تنتظره بالفعل؟ أم كان يخيل له؟ أهو مجنون؟
تمتم لنفسه برفض شديد "أنا لست مجنونًا.. هناك شيء يحدث"
قالت بانة في محاولة للوصول لمنطقة المنطق في عقله "كما قلت لك.. ربما لم تسترد أعصابها بعد ما حدث صدقني يا رامز لا تستهين بما مرت به.. أن تُجبر على الزواج من شخص لا تريده، مجرد التفكير في الأمر يشعرني بالتقزز"
لم يعلق، كان الألم في قلبه يمنعه من التفوه بشيء فالتقط مفاتيحه وهاتفه من فوق المنضدة وهم بالخروج.
سألته بانة "إلى أين؟!"
تمتم بلهجة يائسة "إلى أية مصيبة لا يهم.. ولم يعد أي شيء يهم"
قالها وتحرك أمام عينيها مغادرًا للشقة فحمدت بانة ربها أن والدها ليس موجودًا فلم يكن ليتحمل أن يرى رامز في هذه الحالة البائسة.
جلست على أقرب مقعد في الصالة ولم تستطع التحكم في نفسها أكثر من ذلك فانهارت بالبكاء متحسرة على قدر أخيها.
أما رامز فخرج من بوابة البيت بعد دقيقة يرفع رأسه نحو شرفة مطبخها ومجددًا أحس بأن الستارة مواربة، ورغم بعد المسافة، أخبره قلبه -ذلك اللعين الذي جلب عليه المزيد من الألم- أنها خلف الستارة، فأخبر نفسه بإصرار بإنه ليس مجنونًا، وأن هناك شيئًا غير مفهوم.
ابتعدت رحمة عن الستارة بمجرد أن رأته يرفع رأسه نحوها، جبنت عن مواجهته، وأخذت تردد لقلبها الذي ينوح في صدرها" كيف سأفعلها؟ كيف؟ حتى لو أخبرتها بأننا نريد بعضنا البعض.. وحتى لو قررت ليزا عدم العودة نهائيًا.. كيف سأفعلها؟ .. لقد قلتها من قبل.. لن أستطيع حتى ولو فيها موتي.. وها أنا أذهب نحو الموت بقدميّ.. المهم أن تكون رغبة رامز في الارتباط بي مجرد إعجاب لا أكثر"
ازداد نحيب القلب وهي تدعو الله أن تكون مشاعره مجرد إعجاب دون تورط لقلبه، ويا لحالها البائس.
عضت على شفتها السفلى بألم حتى كادت أن تدميها فبدلا من أن تتمنى أن يكون مدلهًا في حبها، تدعو أن يكون مجرد إعجاب كي لا يتألم!
في الشارع أسرع رامز غاضبًا نحو سيارته فركبها ثم تطلع في هديتها المعلقة أمامه على المرآة وانفجر المزيد من الألم من قلبه العليل فتمتم من بين أسنانه "تمام يا رحمة.. الأيام بيننا.. فصبر جميل"
قالها وهو يشغل السيارة ويتحرك يسحق الطريق تحت عجلاتها بينما وقفت رحمة تضرب بقبضتها على قلبها ضربات رتيبة لعلها تنجح في التخفيف من وجعه وهي تتمتم "هونها يا رب هونها"
××××
المدينة الساحلية
وقفت بجوار طاولة السفرة تتطلع في هاتفها تشاهد المقاطع المصورة والصور التي أرسلها لها والخاصة بالبيت الذي يبنيه لهم في الوطن، ووقف صقر بجوارها يراقب تعابير وجهها وعلى وجهه ابتسامة صغيرة أضفت حياة على ملامحه.
كانا متجاورين، رأسها يكاد أن يلامس صدره فوقف صامتًا يشاغله عبيرها ودفء جسدها القريب بينما قالت لُچَيْن وهي ترفع له عينيها اللامعتين ببريق الحياة "في هذه الساحة سأزرع وردًا"
أبعد أطراف شعرها إلى خلف كتفها والسعادة ترفرف كالفراشات فوق قلبه لأنها اهتمت بملاحظته حينما أخبرها بأنه يحب أن تطلق شعرها دون قيد وأجاب "لك كل ما تطلبين"
سألته وهي تشير على إحدى الصور " الممر هذا يؤدي للغرف أليس كذلك؟"
"نعم.. وغرفتنا آخر غرفة في الممر.. أخترتها بعيدة عن كل شيء"
رفعت إليه عينيها بنظرة خاطفة ثم عادت لتتطلع للهاتف والحيز الصغير الذي يفصل بينهما يشع بالحرارة ليميل صقر ويهمس بجوار أذنها "وفي البيت عند عبد الله أخترت لنا أيضًا غرفة معزولة رغم أنها الأصغر حتى نكون على راحتنا"
تمتمت هامسة وقد احمر وجهها "تشعرني بأنك لست على راحتك"
رد عليها بنفس الهمس فكان نفسه مختلطًا مع عطره الرجولي وهو يقول باستهجان "بالطبع لست على راحتي.. يكفي أنني أنتظر حتى وقت متأخر من الليل كي أدخل الغرفة بعد أن ينام الولدان"
ناظرته باعتراض فأضاف "أنا وأنت أشبه بمن يمشي على أطراف أصابعه كي لا يوقظ أحدًا، نريد أن نسير باعتدال، أن نهرول، نركض، أو حتى نقفز على راحتنا دون أن يسمعنا أحد"
فغرت فاهها تتطلع فيه لثوان ثم دفنت وجهها في شاشة الهاتف متمتمة "تمام.. رغم أني لا أفهم شيئًا"
أجابها بابتسامة زينت جانب ثغره "حين ننتقل للعاصمة سأشرح لك باستفاضة"
احمر وجهها وتمتمت لتهرب من كلماته التي تربك دواخلها "دعنا نشاهد هذا"
قال بهدوء "شاهديه على راحتك وأخبريني بما تريدين.. وأنا سأخبر أخي حميد بطلباتك"
دغدغ قلبها بكلماته واهتمامه، شعور لم تشعر به منذ فترة كبيرة فعادت تتأمل البيت الذي لا يزال تحت الإنشاء وتفكر في الوعود التي وعدها لها حينما يعودون للوطن وهذا أولها أن يكون لهم بيتًا وحدهم.
على ذكر الوعود اتسعت عيناها فجأة ورفعت رأسها إليه بحركة حادة مما جعله يتطلع فيها بدهشة لتقول هامسة وهي تخطف نظرات نحو باب غرفة أمها "تذكرت شيئًا"
عقد حاجبيه فقالت بخفوت "لم تخبرني كيف أقنعت أمي أن تخضع للعملية الجراحية"
تلاعبت نظرة ماكرة في عينيه فأضافت بخفوت متحفز وهي ترفع له سبابتها "ليس لك حجة الآن"
تنحنح وأجابها "أخبرتها بأن مفوضية اللاجئين من الممكن أن تدفع تكاليف العملية.. وأوهمتها بعدها أني قمت بالإجراءات ووافقوا على دفع التكاليف"
اتسعت عيناها لثوان ثم عقدت حاجبيها تسأله "وهل هذا حقيقي؟ أقصد هل تفعل المفوضية ذلك؟"
هز كتفيه وأجاب "لا أعرف.. لم أسأل.. ولم أحتج للسؤال.. أنا أخبرتها بهذا الأمر كي توافق وطلبت منها أن تبقيه سرًا بيننًا"
ظلت تتطلع في وجهه باندهاش ثم تمتمت بعد برهة "أيها الماكر (وقبضت على قميصه بكفها تهزه وهي تقول بغيظ) قلت لك من قبل أنك ماكر يا ياسين"
ابتسم فلاحت أسنانه البيضاء وهو يضرب كفًا بكف قائلا "الحق عليّ أني قمت بحل المشكلة وإقناعها"
أدخلت ابتسامته السرور على قلبها ولم تجد ما تقوله خاصة وأنه يرفض أخذ تكلفة العملية الجراحية منها فاحمر وجهها وتركت قميصه ثم عادت للتطلع في الهاتف.
شرح لها صقر وهو يشير بسبابته على الشاشة عما يفكر في عمله في بهو البيت، لكنها لم تكن منتبهة لكل ما يقوله، كانت شاردة فيه، في احساسها به، إن كل يوم يمر عليها يزيدها إعجابا بشخصه، فتتيقن بأنه مرسل من السماء إليها، ثم تخاف.
تذكرت عبارته حينما أخبرها بأن السعادة تخفي في طياتها الألم وفهمت جيدًا ما كان يقصده.
انتبهت لما يشرحه في إحدى الصور عما يريد أن يقوم به في غرفة الأولاد وقفز سؤال بعينه يلح عليها منذ فترة فقالت بتردد "أريد أن أسأل سؤالًا، إنه فقط للعلم بالشيء"
صمت يناظرها بترقب فقالت "هل هذا هو البيت القديم الذي كنت تعيش فيه قبل...؟"
لم تكمل العبارة، لم تقدر على نطق المزيد خاصة مع الألم الذي أطل عليها من عينيه مثل كل مرة تأتي سيرة الأموات لكنها لم تستطع أن تمنع نفسها من السؤال.
أجلى صقر حنجرته وأجاب "نفس المكان، لكنه ليس نفس البيت"
سألته بفضول "كيف ذلك؟"
أوضح لها صقر "حين عدنا للبلدة كان البيت آيلا للسقوط بسبب ما خلفته الحرب وراءها.. عشت فيه وحدي لفترة رغم حالته.. ثم اتخذت القرار بهدمه وبقي أرضًا خربة حتى قررت أن أبدأ حياتي معك من جديد.. لهذا طلبت من أخواني أن يبدأوا في بنائه بنمط معماري أحدث.. فالأول بني قبل عشرين سنة"
ابتسمت بألم وتمتمت " سامحني.. كنت أريد أن أعلم"
هز رأسه وتمتم "لا بأس"
عادت لتتطلع في الصور وهي تتنفس الصعداء لأنها لن تعيش في نفس البيت الذي عاش فيه مع زوجته المرحومة. شعور مؤلم حارق يئن في صدرها كلما فكرت في هذه الخاطرة، لكنها تنهر نفسها كل مرة من أن تغار من امرأة واراها الثرى، وفي الوقت نفسه لم تحب أن يحمل البيت له ذكريات مؤلمة وهو يتذكر أولاده.
انتبهت من شرودها حينما أحست بالبرودة عند ابتعاد صقر وذهابه ناحية الباب فسألته "إلى أين؟"
تمتم بخفوت وهو يخطف نظرة نحو الولدين اللذين يشاهدان فيلمًا كوميديًا على التلفاز "سأدخن وأجلس على أي مقهى.. ونادني حينما يفرجها الله علينا"
نظرت للولدين ثم قالت "ابق معنا لنشاهد التلفاز.. إنه فيلم جديد"
هز رأسه رافضًا ثم همس من بين أسنانه "لو بقيت سيظلا مستيقظين مثل ليلة أمس حتى الفجر"
ضغطت شفتيها ببعضهما كي لا تضحك وهي تتذكر حالته الليلة الماضية وهو يطحن ضروسه طوال الليل في انتظار أن يناما، لكن إعجابها به زاد حينما صبر ولم يعنف الولدين، فهي الوحيدة التي تعلم مدى لهفته لأن يختلي بها وأشفقت عليه حينما استيقظت أمها عند الفجر بمجرد أن نام الولدان فتركها صقر مع أمها محبطًا ودخل لينام كي يلحق ببعض مواعيده في الصباح.
سألها صقر وهو يرتدي حذائه "هل تريدين شيئًا من الخارج؟"
هزت رأسها بالنفي فقال "لو تذكرت شيئًا أرسلي لي رسالة"
قالها وخرج، فأغلقت باب الشقة خلفه ليقول نوح وقد انتبه لخروجه "أين ذهب؟ كنت أريد أن أذهب معه"
لم ترد لُچَيْن وإنما سألت "متى سينتهي هذا الفيلم حتى تناما؟"
ناظرها نوح باعتراض بينما تطلع فيها آدم صامتًا لتقول بلهجة حازمة "ينتهي الفيلم وندخل لننام.. لا أحب السهر والاستيقاظ متأخرًا"
زفر نوح وعاد لمشاهدة الفيلم فتحركت لُچَيْن بعد برهة لتجلس بجوار آدم تعقد ذراعيها تحت صدرها ثم ناظرته بنظرة جانبية شقية وأدخلت بحركة مخفية إصبعها تنكزه في جنبه.
ناظرها آدم وضحك ثم تحرك ليبتعد عنها قليلًا فأزاحت لُچَيْن نفسها لتمحو المسافة بينهما وهي لا تزال تعقد ذراعيها وأخرجت سبابتها من تحت ابطها ونكزته مجددًا فعاد للضحك.
نظر إليهما نوح عابسًا فانقضت لُچَيْن على ابنها تدغدغه ثم قالت لآدم "هيا دغدغه معي يا آدم"
ضحك الأخير واقترب ليدغدغ معها نوح الذي أخذ يتلوى فوق الأريكة بين الصراخ والضحك.
تعالت الضحكات في الصالة فكانت ضحكة لجين هي الأعلى والأوضح من بين مهرجان الضحكات التي كانت منال تسمعه من سريرها؛ فتبللت عيناها بالدموع وتمتمت بامتنان "الحمد والشكر لك يا رب أن عادت كما كانت وردة متفتحة"
××××
العاصمة
راقبته وهو يتطلع بعينيه الزرقاوين من خلف النظارة الطبية في الشاشة المعلقة وهي تشاركه التوتر والطبيبة تعرض على الشاشة بثًا حيًا للجنين في بطنها.
وعلى الرغم من أنها لا يفرق معها إن كان ذكرًا أو أنثى لكنها تتمناه ذكرًا من أجله هو، ولا تعرف كيف ستواسيه لو كانت أنثى.
قالت الطبيبة بلهجة مشاكسة "قلت لي ماذا ستكون الهدية يا أستاذ وائل؟"
قال وائل بلهجة جادة "لك هدية ذهبية من محلات وائل موريس لو بشرتني بما أريد"
ضحكت الطبيبة وقالت "ليت كل الزبائن مثلك يا أبا ميري"
تحركت عيناه نحو ماجدة الراقدة فوق السرير ثم عاد للطبيبة يسألها بترقب "هل علمت بجنسه؟"
أعطت الأخيرة بعض المناديل لماجدة وتركت مقعدها بجوار جهاز الكشف وعادت لتجلس خلف مكتبها فتوقفت دقات قلبه وهو يتابعها حتى قالت الطبيبة وهي تدون ملاحظاتها في ملف زوجته "مبارك عليكم الولد"
تقبض وائل وتقلصت عظام صدره بقوة وهو يسألها "ولد؟"
رفعت إليه أنظارها وابتسمت تقول "ولد بإذن الله"
بلع ريقه وسألها بحشرجة "هل هذا أكيد؟"
قالت الطبيبة بتأكيد "ولد"
رمش عدة مرات كي يخفف من وخز الدموع ثم تطلع في ماجدة التي اتسعت ابتسامتها وخفق قلبها بجنون وهي تعدل ملابسها وتعود لتجلس أمامه ثم قال للطبيبة بحشرجة "ماذا تريدين هديتك من محلات وائل موريس وولده؟"
قالت الطبيبة بحرج وهي تكتب في دفترها "لا شيء.. أنا كنت أمزح معك"
قال بجدية وهو لا يزال لا يستوعب الخبر "وأنا لم أكن أمزح.. لك مني هدية ذهبية تليق بهذا الخبر"
نظرت الطبيبة لماجدة وقد احمر وجهها ثم قالت لوائل "انتظر حتى يولد الطفل بسلام أولا"
"تمام.. اتفقنا"
بعد دقائق كان وائل يمسك بذراع ماجدة وينظر أمامه محتفظا بثباته أمام الناس وهو يخرج من غرفة الكشف ويمر أمام المنتظرين بينما هي تتطلع في وجهه بقلق حتى خرجا إلى خارج المبنى، فقبض على معصمها وسحبها خلفه إلى حيث يصف سيارته ثم فتح السيارة وأجلسها واستدار أمام أنظارها ليجلس بجوارها في مقعد السائق.
ظلت صامتة فرفع إليها عينيه الزرقاوين مليئتين بالدموع وارتعشت عضلة في خده وهو يمد كفه ليضعه على بطنها ويهمس بلهجة مختنقة بالبكاء "ماجد يا جوجو.. ماجد"
دمعت عيناها وتمتمت " حمدًا لله"
تحرك بجذعه نحوها فجأة وأمسك برأسها يقبله فنظرت في الشارع حولهما وعادت تنظر إليه قائلة "لنعد للبيت حتى نحتفل على راحتنا"
ظل يتطلع في وجهها مصدومًا وعيناه مبللتان بالدموع ثم مسح وجهه وتنحنح وهو يعتدل أمام المقود، وقبل أن يشغل السيارة التقط هاتفه وسجل رسالة صوتية لشباب الخن يقول فيها بحشرجة متأثرة "ماجد في الطريق يا ... (ونظر لماجدة ثم قال يبلع السبة الوقحة التي كان ينوي قولها) يا شباب.. ماجد وائل مجدي موريس.. يا بشر"
××××




نهاية الفصل الثاني والعشرين
ونلتقي الجمعة بعد القادمة
شموسة





Shammosah غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 01-07-22, 11:05 PM   #1266

هيا عزام
 
الصورة الرمزية هيا عزام

? العضوٌ??? » 450660
?  التسِجيلٌ » Aug 2019
? مشَارَ?اتْي » 55
?  نُقآطِيْ » هيا عزام is on a distinguished road
افتراضي

السلام عليكم
امتى الفصل الجديد


هيا عزام غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 01-07-22, 11:43 PM   #1267

دانه عبد

? العضوٌ??? » 478587
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 513
?  نُقآطِيْ » دانه عبد is on a distinguished road
افتراضي

يا ربي شو عملتي فينا يا شموسه فصل مو عارفه شو أكتب خيال يا شموسه خيال 😍😍😍😍😍😍 كل سنه وانتي طيبه

دانه عبد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-07-22, 11:58 PM   #1268

أنفاس الوطن.

? العضوٌ??? » 493434
?  التسِجيلٌ » Oct 2021
? مشَارَ?اتْي » 91
?  نُقآطِيْ » أنفاس الوطن. is on a distinguished road
افتراضي

أهلا أهلا ، عدت اليكم بعد انتهاء امتحاناتي و تخرجي .
كم آلمني شعور رامز بالنبذ خاصة بعد رفض رحمة له و أتمنى من أن لا يتورط مع هيلدا و أن يتم ايقافها عند حدها، أما رحمة فألمها أشد و أكبر ، ألم استشعرته من بين أمنياتها و كتاباتها ، و أتمنى بأن يصل ذلك الدفتر الى يد رامز في القريب العاجل.
أعانكم الله و رزقكم صيام يوم عرفة و عسى أن لا يمر ذلك اليوم الا و تحققت كل أمانينا ، و عيد أضحى مبارك مقدما أعاده الله علينا مع من نحب بالخير.
و أرجو من شموسة أن لاتنسى هدية العيد ببارت طويل جدا و مليْ بالأحداث المثيرة التي نتوقعها منها.


أنفاس الوطن. غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-07-22, 12:06 AM   #1269

19nour

? العضوٌ??? » 449246
?  التسِجيلٌ » Jul 2019
? مشَارَ?اتْي » 315
?  نُقآطِيْ » 19nour is on a distinguished road
افتراضي

تسلم الايادي ياشموسة
رامز ياعيني صعب عليه دوره في الفيلم طار ورحمه رفضته بسبب الكلبة ليزا وغباءها مش عارفه هيعمل ايه ربنا يستر وميتهورش واتمني العملة دي تخليه يقطع علاقته بليزا نهائي بسبب اللي عملته ده 😒😒
ياتري هيعمل ايه يارب يقع دفتر رحمه في ايده لانه ده هيبقي فيه حل اللغز واعتقد بسبب تعليقه علي خطها هيقع الدفتر في ايده من غير مايعرف بتاع مين ويكتشف انه لرحمه بعد مايشوف الخط مش عارفه بس اتمني الموقف يتصلح بسرعه الراجل مش ناقص تقفل في وشه من كل ناحيه كده 😭😭😭عيني عليهم اكتر اتنين مسحولين في الرواية 😭😭😭😭


19nour غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-07-22, 12:07 AM   #1270

rasha shourub

? العضوٌ??? » 267348
?  التسِجيلٌ » Oct 2012
? مشَارَ?اتْي » 1,873
?  نُقآطِيْ » rasha shourub has a reputation beyond reputerasha shourub has a reputation beyond reputerasha shourub has a reputation beyond reputerasha shourub has a reputation beyond reputerasha shourub has a reputation beyond reputerasha shourub has a reputation beyond reputerasha shourub has a reputation beyond reputerasha shourub has a reputation beyond reputerasha shourub has a reputation beyond reputerasha shourub has a reputation beyond reputerasha shourub has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل رائع جدا تسلم ايدك

rasha shourub غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:11 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.