آخر 10 مشاركات
إمرأة لرجل واحد (2) * مميزة و مكتملة * .. سلسلة عندما تعشق القلوب (الكاتـب : lossil - )           »          ليلة مع زوجها المنسي (166) للكاتبة : Annie West .. كاملة (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          السرقة العجيبة - ارسين لوبين (الكاتـب : فرح - )           »          كل مخلص في الهوى واعزتي له...لوتروح سنين عمره ينتظرها *مكتملة* (الكاتـب : امان القلب - )           »          [تحميل] مهلاً يا قدر ،للكاتبة/ أقدار (جميع الصيغ) (الكاتـب : Topaz. - )           »          130 - كلمة السر لا - روبين دونالد (الكاتـب : عنووود - )           »          ثمن الكبرياء (107) للكاتبة: Michelle Reid...... كاملة (الكاتـب : فراشه وردى - )           »          روايات بتحبوها كثير وانامعاكم (((دليل الروايات حسب الاحداث))) (الكاتـب : fabiola - )           »          فجر يلوح بمشكاة * مميزة ومكتملة * (الكاتـب : Lamees othman - )           »          رواية قصاصٌ وخلاص (الكاتـب : اسما زايد - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > سلاسل الروايات المصريه > منتدى سلاسل روايات مصرية للجيب

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 17-02-22, 12:17 AM   #1

MooNy87

مشرفة منتدى عبير واحلام والروايات الرومانسيةومنتدى سلاسل روايات مصرية للجيب وكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية MooNy87

? العضوٌ??? » 22620
?  التسِجيلٌ » Jul 2008
? مشَارَ?اتْي » 47,927
?  مُ?إني » واحة الهدوء
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » MooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   7up
¬» قناتك mbc
?? ??? ~
لا تحزن ان كنت تشكو من آلام فالآخرون يرقدون
?? ??? ~
My Mms ~
Rewitysmile10 الوحش القابع فى أعماقك_سالى عادل


الوحش القابع في أعماقك

– الجزء الأول –

لماذا السنون تبدو كوصمات عار على جبين البعض، في حين تبدو كنفحات رحمة للآخرين؟
لماذا العمر مثل نسمة تمر لدى البعض، وللبعض الآخر مثل كلب يقبع في الظلام يقطع الطريق؟
لماذا تزور الناس أزمة منتصف العمر بمنتصف العمر، وتزورك أنتَ بكل حين؟
وماذا لو أن العمر لا يقبل القسمة على اثنيْن؟
ماذا لو أن نصف العمر هو كله،
وانتهى الآن؟
وماذا تنفعكَ الفلسفة الحين؟
~
لماذا لم ألتقيها عمدًا حين كنتُ في عزّ رعونتي ولياقتي وشبابي؟
لماذا لم ألتقيها صدفة حين كنتُ في أوْج وَجدي وولهي واشتياقي؟
لماذا لم ألتقيها في غفلة من الزمان حين كنتُ أتحرق لهذا منذ زمان؟
آلآن؟
آلآن بعد أن لطّخت السنون جبيني، وأكل عليّ الدهر وشرب، ولم يعد يحملني الميزان!
أين أخفي وجهي، أين أخفي لُغدي،
وأخفي كرشي أين؟
~
ملعون الجوع،
ملعون النَهَم،
والوحش القابع في أعماقك ملعون!
لولاه لما نزلتَ من بيتك،
لولاه لما ذهبتَ للتسوق،
ولما وجدتَ نفسك بمواجهة حبيبتك السابقة لولاه!
أنت وحدك على جانب، وهي وطفلان في عربة تسوقها على الجانب الآخر، كان من الممكن أن يكونا طفليْك، لكنهما ـ لحسن حظهما ـ ليسا كذلك، حملَتْ وولدَتْ مرتيْن، لكنها أصبى مما عرفتَها أول مرة، فكيف ذلك؟
لتمنحني الوصفة التي أبقتها شابّة، أو الصفقة مع الشيطان إن كانت هنالك!
~
ميّزتُها على البُعد، لم تشتتني عنها المسافات، فضلاً عن السنوات، والحيوات المُهدَرة. أثارت فيّ كل الإنفعالات، فضلاً عن الأمنيات، والتساؤلات الغاضبة، فلمّا اقتربَتْ لم تُثِر غير الرعب أن تراني كذلك!
تتقدم قبالتي، يضطرب قلبي، إنني خَجِل منها، خجل من نفسي، من الطفلين اللذيْن هما لرجل آخر، تزوج حبيبتي، وأنجب طفليّ، وعاش حُلمي عوضًا عنّي، مشكورًا على ذلك.
تقتربُ بمواجهتي، يزوغ نبضي حتى لأخشى أن أُفتضَح، أدير وجهي حتّى لكأنه لُوِح، لكنه لا يستجيب، لا يريد أن يفوّت نظرة إستثنائية منحها إيّاه الزمان بعد فوات الأوان، لربما لاحقًا تساءلتُ عن سرّ هذا الكَرم، ربما بحثتُ عن الثغرة هنالك، لكنّي لن أضيّع اللحظة في مونولوج بائخ، سأتبصّر بعينها، أكتنزها داخلي، وأبثها رسائلي عن طريق التخاطر، إن استطعتُ ذلك.
تدنو حدّ التلاصق، تتلاقى نظرتانا للحظة، تصافح أنفاسي وجهها للحظة، وللحظة أتوقف عن الحياة، لقد خشيتُ أن تعرفني، ولكنّي أدركتُ أن هذا لا يُقارَن بخوف ألاّ تتعرفني وكأنها لم تعشقني بالسابق، فقط منحتني نظرة غريبة، نظرة صفاح العابرين، غرباء ولكن ودودون، أنا لا أزدريكَ لأنكَ سمين!
تجاوَزتْني وتقدَمَتْ، أمّا أنا فتوقفتُ، بالأحرى تراجعتُ بالذاكرة... كيف أصبحتُ غريبًا إلى حد أن حبيبتي لم تتعرفني؟ أتُرى.. لو كانت أمي على قيد الحياة، أكانت لتتعرفني؟ لو تحرَرَتْ روحي من جسدي أتتعرفني؟ تركتُ عربتي المُحمّلَة بأكياس الكيك والحلوى والمقليات، وغادرتُ المتجر.
~
أعود إلى المنزل، وأول ما أفعل، أن أطالع وجهي بالمرآة.
غريب أن تنظر في المرآة كل يوم، لكنك لا ترى نفسك إلاّ في مرآة الآخرين!
لماذا السنون تبدو كلطخات طلاء على سحنة البعض،
وإعجازًا فنيًا على سيماء الآخرين؟
وما حيلتكَ إن كنتَ أنت من "البعض"،
وحبيبتكَ من "الآخرين"؟!
هل أسعد أن أزالت عنّي الحَرَج إذ لم تتعرفني،
أم أحزن لما وصلتُ إليه؟
أم أعجَب أنني لا أعرف كيف وصلتُ لما وصلتُ إليه؟
هل يجيبني الذي في المرآة...
أم أكسرها عليه؟
~
أطالع ألبوم الصور الذي كان لي به تاريخ مُشرّف، مَنْ كان ليقول إن البطل الرياضي الأنيق الممشوق الذي لم يتزوج لأنه ظل يستكثر نفسه على الفتيات، ويماطل، ويُسوِّف، ويتمنع.. ينتهي به الحال جالسًا على مقعديْن في القطارات، ومرتديًا من محلاّت المقاسات الخاصة، ومتعثرًا في كل خطوة برباط حذائه المفكوك، لأنه لا يستطيع الإنحناء!
من منهما أنا؟
جيّد ألَّم تتعرفني، لا تنقصني نظرات شفقة وعَجَب وتصعبات، ونوستالجي وحنين وذكريات... هل أسمَتْ طفليْها: سليم وخديجة كما اتفقنا؟ هل زرعت فُلاً في الشُرفة كما حلمنا؟ وهل يصنع لها منه عُقدًا الرجل الذي أصبح أبا طفليّ؟ لا أريد أن أعرف، لا يعنيني هذا الآن.
غريب ألَّم تتعرفني، وإن لم تتعرف جسدي، فكيف لم تتعرف روحي التي تطل من العيْن، إنها الشيء الوحيد الذي لا يتغير مهما تكتّل الشحم، العين التي حدّثتها بلا كلام، وحرستها مثل ملاك، وذرفت الدموع من أجلها، كما تفعل الآن.
كيف أخرج من هذه الدائرة من أفكاري، بل والأهم، من جسدي؟
إنني أشعر أني أحمل شخصًا آخر فوق أكتافي، يُثقِل خطواتي ويُحمّلني أوزارًا ليست أوزاري ويلتهم أكلي، ضيف لكنه ثقيل حقًا، وقد ضقتُ به ذرعًا.. إنه لا يزاحمني في جسدي فقط، بل يعتبر نفسه صاحب جسدي، إنه يمنعني أن أعيش حياتي، وأنا أريد أن أعيش حياتي كما فعلَتْ هي..
أريد أن أستردها،
أريد أن أحصل على غيرها،
أريد في كل يوم واحدة مثلها،
ومثلها، أريد أن أدفع طفليْن في عربة التسوق.
أريد أن أمزّق شيئًا..
أريد أن أنهش شيئًا..
لكن مُحرّمٌ عليّ الأكل منذ اليوم،
لا أطيق البقاء مع نفسي،
لا أطيق البقاء في جسدي،
أجذب المفاتيح وأخرج من البيت،
يتبعني شحمي إلى حيثُ خطوتُ.
~
القاهرة كما لم أرها من قبل،
رائقة ومغسولة مثل الجديدة بالضبط،
وكذلك بدت لورا،
مثلها، لم أستعد للأمطار المفاجئة، لكنّ مخزوني من الشحم يساعدني للتدفئة، أمّا هي.. سيارتي التي أغرقها المطر فبدت هشّة مثل مرأة مُبتلَّة، تستجدي مروءتي ألاّ أتركها وحدها الليلة.. إلى أين آخذها؟
صورة مطعمي المُفضَّل الذي أُخرِج فيه همّي تلّح على ذهني، لكنني أدفعها.
اقترحَتْ المُغنّية الغربية أن أسابق القمر، وألحق بالريح، وأتبع الليلة إلى منتهاها.. وهو الإقتراح الذي لم يسعفني بالضبط، فاكتفيتُ بأن مشّطتُ الطرقات في صمت..
لم تعترض لورا على الكلام أو الصمت، إنها تعرف ما عليها فعله وتفعله بالضبط، لو أجد زوجة في ذكائها لتزوجتُ منذ قرن، ينسال المطر بلا توقف تزيحه مسّاحاتها بلا كلل، لكنها تلطّخ أثواب الفتيات إذا اقتربن.
فلتنظر أمامكَ، ولتغضَّ الطرْف!
تناغشني، تناوشني، تجذب انتباهي لنفسها، شابّة وإن شاخ جسدها.. من أجل ذلك أحبّها، ليس عندي إلاّ هي، وصور جيّدة منذ خمس سنين فائتة.
كم جائع لتلك الفترة! كما ذكّرتني كلمة "جائع" بالطعام، وكأنني نسيته لحظة! وما الذي يضاهي الطعام في المتعة؟ إنها: النسوة.
سأعدّها لُعبة، وأضع قوانين اللُعبة، مقابل كل وجبة من الطعام أفتقدها، وجبة من النساء أعوّضها.
عزيزتي لورا،
انسي طريق المطاعم كلها، واذهبي بنا إلى أي مقهى أو سرادق عزاء، بصحّة لعبتنا نشرب قهوة سوداء، وتكون ضحيتنا أول فتاة تقابلنا، على أن تكون حسناء.
~
المقهى الوحيد المتاح قد ضمّ مقاعده إلى الداخل، وكأنما قد ضمّ ساقيه من البرد، بينما علّق على أبوابه مظلات للعابرين، أعجبتني اللفتة، وقدّرتُ إن الذي يوفر مظلات للعابرين، فسيوفر الملجأ للاجئين.
مع الخطوة الأولى شعرتُ أنني في المكان الصحيح، هذا هو المكان الذي يناسب ذوقي الكئيب، بديكوره الغربي، ومداخنه التي تشعرك أن بابا نويل سيحضر الآن، والموسيقى الغربية القديمة التي خلّفتها في السيارة أتت تحاوطني من الجانبيْن. وعلمتُ أن هذا هو مكان سهراتي الوحيدة القادمة.
ولكنّي مع الخطوة الثانية تحطمَتْ آمالي السالفة، حيث انقضّ علي النادل الأرعن مُتبشبِشًا، وقال بلطافة زائدة:
- يا مرحبًا بكَ، كم نحن سعداء بقدومك!
أقول مستنكرًا:
- بقدومي أنا؟ ولِمَ؟
- لأنك العميل الوحيد منذ بداية المساء.. أنت تعرف، لقد انهالت الأمطار من غيْر إنذار، ويبدو أن الناس لم تتخذ حذرها بعد، وأنتَ، لماذا جئتَ؟
- أفندم؟
- عفوًا، لا تؤاخذني، فلا أحد ينزل من بيته في مثل هذا الطقس السيء سوى الموظفين البائسين أمثالي، أو المضطرين وصاحبي الأعذار، أو مثيري الشفقة غرباء الأطوار....
يقطع عبارته بينما ينتبه إلى نظرتي التي تخترقه مثل مثقاب، يحني رأسه في حرَج، ويقول باقتضاب:
- ماذا تطلب؟
أقول متأنفًا:
- أي شيء خالٍ من السكّر، خالٍ من الدهون، خالٍ من السعرات، وغالبًا سيكون صالحًا للمهملات.
يستعيد روحه المرحة وكأنما لم يشعر بالحرج للتو، ويصيح على الفور:
- أها... لقد فهمت.. أرى أن أحدهم يحاول أن يتبع حِمية غذائية، وأن مزاجه متعكر بسبب الجوْع.
ثم يهز برأسه مطمئنًا:
- لا عليكَ! فإن عندنا فنجانًا من القهوة الحالكة يسدّ شهيتكَ عن الكوْن.
نجحَتْ بساطته في أن تخفف من تجهمي، فابتسمتُ متباسطًا وقلت:
- سيكون جيدًا.
بعد قليل كان على المائدة فنجانان، وكنتُ قد عرفتُ كل شيء عن حُسيْن من دون أن أقرأ له الفنجان، أما هو، فقد أمسك بفنجاني وقال:
- أنت تحب جديدًا.
ضحكتُ وقلتُ بتشفٍّ:
- كنتُ أصدّقكَ لو قلتَ: "قديمًا"!
بدا متعصبًا لنبوءته، وخبط على المائدة قائلاً:
- أنا فنجاني لا ينزل الأرض، وأنا أقول لك: أمامكَ حبّ جديد!
لم تنجح عبارته إلاّ في إثارة المزيد من الضحك، فرجعتُ برأسي للوراء ضاحكًا، وكان ذلك حين وقعت عيني عليها لأول مرة.
بمعطفها الطويل، وقفازيها اللذيْن يُخفيانِ المعصمين, وقبعتها التي ظلَّلَتْ عينيْها، وعينيْها اللتيْن ليستا من هذا الكوْن.
اتخذَتْ مقعدها أمامي، فبدت كقطعة من الديكور، وللحظة لم أدرك هل أنا بالقاهرة أم باريس.. فأمامي كانت لوحة الموناليزا، بابتسامتها الشاحبة، ووجهها الصافي، ويديها المتقاطعتيْن، وعينيْها.. لا تدري إن كانتا تنظران لكَ أم حولكَ، لا تدري إن كانتا ترياكَ أم تريا خلالكَ، لكنك تدرك يقينًا أنهما ليستا سعيدتيْن.
أفاقتني من غفلتي ضحكات النادل الصغير، وقال في زهو:
- ألم أقل لكَ، فنجاني لا ينزل الأرض!
صدقتَ أيها النادل الحكيم، فلا أحد ينزل من بيته اليوم سوى البائسين.
خلعَتْ القبعة، فبدت صفحة وجهها مثل صفحة كتاب يمكنني أن أقرأه كما يقرأ حُسين الفناجين، وكما يعبّر يوسف الرؤى بتعبير لا يخيب.
على جبينها عبارة إنها الضحية التي أبحث عنها، وبين شفتيها تقرأ أسنانًا مصطكة، وتحت جلدها عروق مختلجة، وتحمل ثنيات وجهها أخاديد أمطار أو دموع، وأنفها أحمر من البرد أو الانفعال، وكحلها ذائب فما كان ليرسم عينيها أفضل لو لم يذبه المطر،
أو البكاء...
إنها ضحية مثالية،
إنها ضحية أكثر مما تحتمله لفظة "ضحية"،
وإن منعدم المروءة فقط مَنْ يتخذها ضحية! ما بها!
هل هي هاربة أخرى من نفسها،
هل تحمل شخصًا آخر فوق أكتافها،
أم قابلَتْ توًّا حبيبها الذي يدفع ـ في عربة التسوق ـ طفلاً كان ليكون طفلها؟!
قلتُ وقال النادل معي:
- يا مرحبًا بها!
~
يُتبَع..
سالي عادل




MooNy87 غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 24-02-22, 11:52 PM   #2

MooNy87

مشرفة منتدى عبير واحلام والروايات الرومانسيةومنتدى سلاسل روايات مصرية للجيب وكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية MooNy87

? العضوٌ??? » 22620
?  التسِجيلٌ » Jul 2008
? مشَارَ?اتْي » 47,927
?  مُ?إني » واحة الهدوء
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » MooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   7up
¬» قناتك mbc
?? ??? ~
لا تحزن ان كنت تشكو من آلام فالآخرون يرقدون
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي


– الجزء الثاني–
إنها ضحية مثالية،
إنها ضحية أكثر مما تحتمله لفظة "ضحية"،
وإن منعدم المروءة فقط مَنْ يتخذها ضحية! ما بها!
هل هي هاربة أخرى من نفسها،
هل تحمل شخصًا آخر فوق أكتافها،
أم قابلَتْ توًّا حبيبها الذي يدفع ـ في عربة التسوق ـ طفلاً كان ليكون طفلها؟!
قلتُ وقال النادل معي:
- يا مرحبًا بها!
~
دارت الأغنية بالمقهى فشعرتُ بأنني قد فُضِحتُ:
"إنكِ أجمل من أن تكوني حقيقة،
لا أستطيع إبعاد عيْني عنكِ"..
ومع ابتسامته غير البريئة، لم أدرِ إن كان النادل قد تعمّدها، أم تكفلت الصدفة بالأغنية!
أناديه وأسأله:
- مَن هذه الفاتنة؟
يتذاكى عليّ:
- مَنْ؟!
أشير بطرف عيْني:
- لا تتغابَ يا حُسيْن! لا يوجد غيرها!
يقول وكأنما يتذكر:
- آه! سيدة الأمطار؟ إنها تأتي كلما أمطرَتْ السماء لتجلس وحدها!
أهمهم بعبارة:
- غريب أمرها!
- بالمناسبة، أنتَ تحدّق بها بطريقة مثيرة للريبة، هل تريد منها أن تعتقد أنكَ مجنونًا؟
أنتبه، فأزجره:
- اصمت أنتَ، لا تقطع انسجامي مع اللحن..
"إنكِ أجمل من أن تكوني حقيقة،
لا أستطيع إبعاد عيْني عنكِ"..
صدّقني، أحاول!
~
طلبَتْ قالبًا من الحلوى إلتصقت به عيناي، هل هذا "مولتن كيك"؟ بالتأكيد هو، إنه يشبهها؛ يدّعي الصلابة من الخارج، لكنكَ ما إن تتخطى الطبقة الخارجية حتى تغرق بما لذّ وطاب من المشاعر التي نسيتَ أن تشعرها، رفعَتْ الشوْكة بقطعة الحلوى إلى شفتيها تتبعها عيناي، نزلَتْ الشوْكة إلى الطبق لكن لم تنزل القطعة، وحارت عيناي، فعادت تلتصق بقالب الحلوى، لابد أنها ابتلعت القطعة، لابد أنها تلذذت بها قبل أن تبتلعها، لابد أنها ذابت في حلقها كما كانت لتذوب في حلقي، إنني أشتهيها ـ الحلوى لا المرأة. وأنا حين أشتهي إحداهما، لا أستطيع أن أحوّل فكري عنها، سأطلب الحلوى.
لكنني في حِمية، ينحني رأسي مثقلاً بأوجاع روحي الخَرِبَة التي نضحت على جسدي كتلاً من الشحوم، وأوجاع جسدي البدين الذي فاض على روحي أطنانًا من الخواء.. هذا أول يوم بالحمية، هذا اليوم الذي نزلتُ أشتري فيه الحلوى فعدتُ بطعنة سكين، فإن لم تبدأ الحمية اليوم، فلن تبدأ بعد الحين.
لن أنظر إليها ـ الحلوى لا المرأة، لن أفكر بها ـ الحلوى لا المرأة، وذلك من أجل أن أحصل عليها ـ المرأة لا الحلوى.
فإن امرأة من هذا الطراز لن ترضى بأقل من ذات المستوى، ويجب أن أستعيد نفسي أولاً، ثم أقدمها إليها.
ولكي لا أبدو مجنونًا، فقد أحجمتُ نفسي عن النظر إليها، خاصةً وأنني أملك إرادة حديدية، وتشاغلتُ بالنظر إلى الشاشة، ولابد أن الذي على الشاشة كان فيلم رعب من النوع الردئ، حيث ظهر شيء مثل كتلة من الشحم تتخذ شكل قرد سمين، تتساقط منه كتل لحم فيسندها بيده أينما خطى، وبتدقيق النظر تدرك أنكَ تتمنى لو كان قردًا، لأنه ليس كذلك، وإنما مسخ قرد، لو كان هناك شيئًا كهذا! مجدوع الأنف، طويل الشعر، جاحظ العينيْن، وربمّا أن ابتسامته أوسعَ مع اللازم.. كان قبيحًا ومنفرًا كما أنه يثير الضحك أكثر من أي شيء آخر، هل ينتظرون من هذا أن يثير الرعب؟! لا أعرف كيف!
أنزلتُ عيني فكان ذات القرد على المائدة المواجهة للشاشة، جالسًا يشاهد التلفاز الذي يعرض صورته! كتمتُ صرخة، رجعتُ بمقعدي، ونقّلّتُ بصري بين القرد والشاشة، هو هو! غيْر أن الذي جالس يتناول شيئًا على سبيل التسلية.
هببتُ واقفًا، وناديتُ النادل الذي صار من أعز أصدقائي، ولُمته بدون لياقة:
- كيف تسمحون لشيء كهذا بالدخول للمقهى المحترَم، وترويع الأبرياء الذين جاءوا ليحتموا من المطر!
وقد قدّرتُ أن هذه اللقطة ستُقدّرها امرأة المطر، حين تدرك أنني أزود عنها ضمنًا، لكنّها نظرَت لي بانزعاج، كما نظر النادل الذي قال مُندهِشًا:
- سلامة نظركَ، لا أحد هناك!
لكنّي قبل أن أبادله العتَب على النظر، أدركتُ أنه محق، لم يكن هناك قردًا!
جلستُ، مستعيدًا انتظام أنفاسي، وقائلاً بصوت كسيف:
- لا تؤاخذني، يبدو أنني بدأتُ أهذي، بدأتُ أهلوس.. كم مضى لي من الوقت بدون طعام؟!
ثم تذكرتُ دُفعةً واحدة التي كنتُ نسيتُ وجودها ـ المرأة لا الحلوى، فإنني لم أنسَ وجود الحلوى أبدًا، أخفيتُ وجهي بكفيّ، ثم نظرتُ من فرجات كفّي باتجاهها، كانت لازالت حلوة كما هي، وحزينة، وتتناول الحلوى.
ولكنها لم تكن وحيدة في ذلك، ثمة قرد يقبع تحت طاولتها، لكنّه ليس قردًا بالضبط، يتحيّن الفرصة ويمد أصابعه السمينة يختلس القطعة تلو القطعة من الحلوى الدسمة، ثم يغيب تحت المائدة تسمع له أصوات امتصاص، وتلظٍّ!
لا أدري هل أكشفه أم أنني لا أحتاج إلى ذلك؛ فحتّى وإن اختبأ، فإن ذيله يفضحه.
انتظرتُ أن تلاحظ بنفسها، لكنّها عوضًا عن ذلك فقد غرسَتْ الشوْكة بالحلوى ورفعتها إلى فمها، صرختُ بعلو الصوت:
- احذري! أسفل الطاولة!
وهببتُ أتوجه إلى مائدتها، وقد وصلتُ في الوقت المناسب قبل أن تضع القطعة في فمها، أخذتُ الشوكة من يدها معلنًا:
- لا تأكليها! هناك قرد مقزز دسّ أصابعه فيها!
تراجعَتْ إلى الوراء وزوَتْ يديها عنّي، انحنيتُ بصعوبة على ركبتي ونظرتُ أسفل الطاولة، فضمّت ساقيها بعيدًا كذلك، لماذا تنفر مني وكأنني أنا القرد المقزز، وليس هو! ولكن، أين هو؟
حضر حُسيْن وبعينه نظرة: "ليس لأنني أحبكَ تتمادى في دلالكَ"! فاعتدلتُ واقفًا وقلتُ بتأفف:
- يجب أن تنضّفوا مقهاكم جيّدًا من القرود الضالّة.
فربّت على كتفي قائلاً:
- بالتأكيد، بالتأكيد، سنرسل القرود إلى حديقة الحيوانات، فقط تعالَ معي...
وحاول أن يعيدني إلى مائدتي، لكنّني لم أشعر أنني أديتُ واجبي بعد، فقد لاح ـ من خلف النادل ـ القرد. أنزلتُ يد النادل عن كتفي وقلتُ:
- أراكَ أيها السمين، وهل تظن أن جسد حسين النحيل يكفي لإخفاء شحمكَ؟ إنك كارثة في الإختباء!
كشف القرد رأسه بنظرة جريحة، وكأنما قد شعر بالإهانة، ثم خطف طبق الحلوى، وركض إلى الجانب الآخر.
ابتعد النادل خطوتيْن، فيما بدا كمحاولة لتقدير خطورة الموقف، ولابد أنّه فكّر باحتمالات تقييدي، أو طردي من المقهى، أو الانقضاض عليّ لإسقاطي، أو شيئًا كهذا!
ومع نظرات الريْبة وشعوري بالغربة، وجدتُ أني أقف وحدي وقطعة الحلوى فوق الشوكة لازالت بيدي، لا يفصلني عنها سوى طول يدي، وقد طويتُ يدي وإلتقمتها من قبل أن أدري أنني طويتُ يدي وإلتقمتها! وذُبتُ مع الطعم الذي يستحق ذلك، وعذرتُ القرد على ذلك، ثم وفي اللحظة التالية، تقافزتُ أطارد القرد بطبق الحلوى، كلما تقافز إلى مقعد أو طاولة أو مدخنة.
ولأنه ليس أحد منا أكثر رشاقة من الآخر، فقد نلتُ منه كما نال مني، وعندما انتهت القطعة كان القرد قد اختفى، وجلستُ ألعق أصابعي على أرض المقهى في سعادة، وعزمتُ على أن أدفع عن المرأة ثمن الحلوى كي لا تشعر بالخسارة، ولكنني إذ أرفع رأسي لم أجدها، لا أدري سرّ هذا المقهى الذي يختفي فيه الداخل! هل يجب أن أخشى على نفسي كذلك؟!
وقف النادل عاقدًا ذراعيه وقائلاً في أسى:
- لماذا يارب! العميل الوحيد الذي يجيئ في يوم المطر يطلع مجنونًا ويطيّر أي عميل آخر؟
بينما قلتُ أنا:
- لماذا يارب! الملجأ الوحيد الذي لجأتُ إليه وقت المطر، يطلع مُستَهدَفًا من قرد شارد؟
يضحك النادل وينحني يصافحني قائلاً:
- خالصان.
أصافحه متسائلاً:
- أتعتقد أنني سأراها ثانيةً؟
تتعالى ضحكته الشامتة:
- بعد الذي فعلتَه، من المستحيل أن تريكَ وجهها ثانيةً.
أشعر بعدم الفهم، فأسأله:
- عمَّن تتحدث؟ أنا أتحدث عن الحلوى لا المرأة.
تسقط ضحكته فجأة وكأنما لم يدرك قبلاً مدى خطورة حالتي، أضحك في خاطري من الغبيّ الذي لم يفهم الدعابة.
~
كان يمكنني أن أندم على أكل الحلوى، ولكن إذا فتحنا الباب للندم، فسيكون هذا هو أكثر شيء نندم عليه لاحقًا.. كما وأنه من المتعارف عليه أن الريجيم يبدأ من الغد، أمّا بمنتصف اليوم هكذا، فكأنما خرقتَ قانونًا ما، أو حدًّا من حدود الله، لا يجوز.
قطعتُ حديثي إلى لورا، حيث شاغلني خيال عبر مرآتها، فاحتددتُ عليها قائلاً:
- لورا! هل تُخفين أحدًا عنّي بالكنبة الخلفية؟
لكنّها زامت بهدير مرتفع، مما شتَّتَني عن الموضوع وأوْعَزَ لي بضرورة زيارة ميكانيكٍ للإطمئنان على المُحرِّك!
ودّعتُ لورا بالجراج، واستعددتُ لأصعب فقرة باليوم، الفقرة التي تحتاج إلى بطل أكشن، أو لاعب سيرك، أحدهما.
الفقرة التي تجعلني أتمنى لو أسكن في فيللا، أو أتشرد بالشارع، أيّهما..
فقرة صعود الروح، أو صعود الدَرَج، سيّان..
وقبل أن أنغمس في معركة الصعود، أعرج على عمّ خميس الحارس أن اتبعني، فتبعني متلثمًا بكوفية ثقيلة، ومخفيًا بين طياتها لهاثًا مع بضع لعنات أن أقلقت مضجعه في هذا البرد، لا يعرف أنني أسدي إليه خدمة عمره التي سيشكرني عليها في ذات البرد!
تمالكتُ نفسي، ومارستُ اللهاث المعتاد، وقبل أن أجلس سأشق طريقي بين جنبات البيت، لابد أن هناك بقية من مخبوزات عالقة بالصحن، أو بسبوسة من تلك التي بالمكسرات والسمن، وهناك بوّاب محظوظ اليوم! وجدتُ شرائح بيتزا داخل علبة جوار السرير، وأصابع محشٍ مُستنسَخًا من محشي أمّي من مطعمي الأثير، مع بقيّة من لحم بط وحمام لابد أنهم بكوا بالدموع ليلة مقتلهم، كما أفعل الآن.
أمد بهم يدًا مترددة ـ أمام عينيْه المندهشتيْن ـ أن تفضّل. إنه ولا شك متعجب، إنها أول مرة، ولستُ أنا من الطراز الذي يعزم بالطعام، وليس هو من الطراز الذي يتمنّع عن ذلك، ولكني وقبل أن يلتقط الصحفة من يدي طويتُها:
- انتظر.
استندتُ إلى الطاولة، فتحتُ علبة البيتزا وإلتقمتُ أكبر قضمتيْن سمح بهما اتساع فمي، أشفعتهما بإصبعين من المحشي تكوّرا في جانبي فمي، مع عضّة كبيرة من البطّة في الجانب الآخر.
نظر لي بغيْظ، فابتسمتُ له كطفل، وأعدتُ كل شيء إلى الصحفة، وقدّمتها إليه، أسرعَ هذه المرة بإلتقاطها بدناءة غير مُبرَّرة الحقيقة، فما الداعي للجشع وأنا الذي دعوتُه منذ البدء! لكن الذي يفعل الخيْر لا ينتظر المِثل!
همّ بالمغادرة لكنني استوقفتُه، حيثُ تذكرتُ عبوات المياه الغازية والفاكهة والحلوى التي أخبئها في دُرج الثلاجة الأسفل حتى لا أستطيع الوصول إليها، وقدّرتُ أن إبقائها سيجعلني أندم ألّم أُبقِ المحشي معها، ولكي لا أندم فإما أتخلص من الحلويات لعمّ خميس أو أستعيد المأكولات منه، نظرتُ إليه فبدا عليه ذات التخوف، أسرعتُ أسحب نفسي إلى المطبخ كي أحسم الأمر، انحنيتُ بصعوبة وفتحتُ الدُرج، فقط استبقيتُ قليلاً من الفاكهة، وزججتُ بالبقية في كيس ثم عقدته، وحرصتُ أن يبقى معقودًا طوال الطريق إلى الباب، وحتّى أسلمّه بنفسي للبوّاب الذي إلتقطه وإلتفتَ مغادرًا من غير شُكر.. حدّقتُ بقذاله بحقد.. الوغد الذي ضحيّتُ من أجله بكل شيء، ثم حرمني الشَرَح في الصدر الذي يسببه عمل الخيْر! هل أسترد الطعام منه؟!
إن الكائن الشحيم الذي ظهر إذ فجأةً يشاركني الرأي، فقد مدّ أصابعه المكتنزة إلى الصحفة استخلص بعضًا من الطعام حشره بحلقه كيفما أُتُّفِق، ثم خرق الكيس وانكبَّ يجمع ما تساقط منه، دون أن يشعر الحارس الغافل أن حمله قد خفّ، أو أن أحدًا ـ غيري ـ يتربص بالأكل!
للحظة عمل عقلي بالكامل لحساب ذلك الكائن الشبيه بالقرد، وليس بقرد، وإنّه لأسوأ من القرد الذي يُضرَب به المَثَل في القُبح!
مَنْ هذا القرد؟ ولماذا يظهر لي دون غيري؟ ولماذا بدا حريصًا على إغوائي بالحلوى وإفساد الحِمية؟
كيف تبعني إلى البيت؟ هل قفز إلى الكنبة الخلفية؟ أم يقطع المسافات بسرعة الصوْت؟
لحظة! هل هو واحد؟ أم إنهم فرقة من السيرك! إنّ عقلي سيُجَنّ!
انتبهتُ والبوّاب قد وصل إلى حافّة السُلَّم، والقرد خلفه تمامًا، باسطًا ذراعيْه خلف ظهره، ودافعًا إيّاه لأسفل!
لحقتُ به في جَزَع، فوجدته وقد تكوّم بالأسفل، وارتطمت رأسه بالأرض فانسالت الدماء على جبينه، لا أدري إن كانت أثّرَت على إدراكه، إذ راح يردد في جَزَع:
- لماذا..! لماذا دفعتني؟ لماذا تقتلني؟
- لا! لا!
نفيتُ بملء فمي، أكدتُ له أنني لم أفعل، ولماذا قد أفعل؟ أليس هو بوّاب عمارتي الذي يعرفني منذ أعوام طويلة؟ ألم أكرمه توًّا؟ فلماذا أقتله؟
لكنه ظل يردد:
- ولمّا أنا بواب عمارتكَ منذ أعوام طويلة، فلماذا تكرمني توًّا؟ لماذا لم تكرمني قبلاً؟ إن الموضوع به "إنّ".
- "إنّ"؟ وما هي الـ "إنّ"؟
- إنَّك قدّرتَ أنه من الأريح لضميركَ أن تكرمني قبل أن تقتلني!
سقط فمي في عدم فهم، وبعد قدرًا من الأخذ والرد، والعناد مثل الأطفال، والإلحاح مثل النساء، والجدال مثل الكُفّار.. وجدتُ أنه بصحّة ممتازة باستثناء بعض الرتوش على جبهته، بالأحرى، إن صحته أفضل مني بكثير، إنه لا خوف عليه، أنا الذي سأُصاب بالفالج! تحمالتُ على نفسي وتحسستُ الجدران واستندتُ إلى إطار السلم، وكدتُ أسقط عدة مرات حتى نجحتُ في الوقوف والعودة للبيْت.
~
رطمتُ الباب بعنف، سببتُ والد البواب، على والد القرد، إنني لستُ رائقًا لهما اليوم.. إنني مُحبٌّ.
أتمدد بملابسي على السرير.. إنني مُحبٌّ ـ على رأي النادل ـ جديد..
وحبيبتي..
تلك التي...
صارت في لحظة حبيبتي!
تلك اللوحة الهاربة من اللوفر، تجتذب عيونك على اتساعها، ولا تدري هي تنظر أين!
تلك الحلوى الذائبة في الفم، تذوي سريعًا في لحظة، ويبقى المذاق الحلو..
تلك التي جمعت حسنهن: شهرزاد، بياض الثلج، وست الحسن..
وأنا..
أنا لا شيء مثل فرسانهن،
وما بيني وبين حبيبتي ليس مسافة بحور، ليس وديانًا ولا سهولاً، وإنما مسافة كرش!
أرفع رأسي أنظر إلى كِرشي الذي امتدّ فوقي على السرير وأقول: "إمّا أنا أو أنتَ!".
ثم أغرق بالنوم.
~
يُتبَع


MooNy87 غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 02-03-22, 11:27 PM   #3

MooNy87

مشرفة منتدى عبير واحلام والروايات الرومانسيةومنتدى سلاسل روايات مصرية للجيب وكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية MooNy87

? العضوٌ??? » 22620
?  التسِجيلٌ » Jul 2008
? مشَارَ?اتْي » 47,927
?  مُ?إني » واحة الهدوء
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » MooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   7up
¬» قناتك mbc
?? ??? ~
لا تحزن ان كنت تشكو من آلام فالآخرون يرقدون
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

– الجزء الثاني–

إنها ضحية مثالية،
إنها ضحية أكثر مما تحتمله لفظة "ضحية"،
وإن منعدم المروءة فقط مَنْ يتخذها ضحية! ما بها!
هل هي هاربة أخرى من نفسها،
هل تحمل شخصًا آخر فوق أكتافها،
أم قابلَتْ توًّا حبيبها الذي يدفع ـ في عربة التسوق ـ طفلاً كان ليكون طفلها؟!
قلتُ وقال النادل معي:
- يا مرحبًا بها!
~
دارت الأغنية بالمقهى فشعرتُ بأنني قد فُضِحتُ:
"إنكِ أجمل من أن تكوني حقيقة،
لا أستطيع إبعاد عيْني عنكِ"..
ومع ابتسامته غير البريئة، لم أدرِ إن كان النادل قد تعمّدها، أم تكفلت الصدفة بالأغنية!
أناديه وأسأله:
- مَن هذه الفاتنة؟
يتذاكى عليّ:
- مَنْ؟!
أشير بطرف عيْني:
- لا تتغابَ يا حُسيْن! لا يوجد غيرها!
يقول وكأنما يتذكر:
- آه! سيدة الأمطار؟ إنها تأتي كلما أمطرَتْ السماء لتجلس وحدها!
أهمهم بعبارة:
- غريب أمرها!
- بالمناسبة، أنتَ تحدّق بها بطريقة مثيرة للريبة، هل تريد منها أن تعتقد أنكَ مجنونًا؟
أنتبه، فأزجره:
- اصمت أنتَ، لا تقطع انسجامي مع اللحن..
"إنكِ أجمل من أن تكوني حقيقة،
لا أستطيع إبعاد عيْني عنكِ"..
صدّقني، أحاول!
~
طلبَتْ قالبًا من الحلوى إلتصقت به عيناي، هل هذا "مولتن كيك"؟ بالتأكيد هو، إنه يشبهها؛ يدّعي الصلابة من الخارج، لكنكَ ما إن تتخطى الطبقة الخارجية حتى تغرق بما لذّ وطاب من المشاعر التي نسيتَ أن تشعرها، رفعَتْ الشوْكة بقطعة الحلوى إلى شفتيها تتبعها عيناي، نزلَتْ الشوْكة إلى الطبق لكن لم تنزل القطعة، وحارت عيناي، فعادت تلتصق بقالب الحلوى، لابد أنها ابتلعت القطعة، لابد أنها تلذذت بها قبل أن تبتلعها، لابد أنها ذابت في حلقها كما كانت لتذوب في حلقي، إنني أشتهيها ـ الحلوى لا المرأة. وأنا حين أشتهي إحداهما، لا أستطيع أن أحوّل فكري عنها، سأطلب الحلوى.
لكنني في حِمية، ينحني رأسي مثقلاً بأوجاع روحي الخَرِبَة التي نضحت على جسدي كتلاً من الشحوم، وأوجاع جسدي البدين الذي فاض على روحي أطنانًا من الخواء.. هذا أول يوم بالحمية، هذا اليوم الذي نزلتُ أشتري فيه الحلوى فعدتُ بطعنة سكين، فإن لم تبدأ الحمية اليوم، فلن تبدأ بعد الحين.
لن أنظر إليها ـ الحلوى لا المرأة، لن أفكر بها ـ الحلوى لا المرأة، وذلك من أجل أن أحصل عليها ـ المرأة لا الحلوى.
فإن امرأة من هذا الطراز لن ترضى بأقل من ذات المستوى، ويجب أن أستعيد نفسي أولاً، ثم أقدمها إليها.
ولكي لا أبدو مجنونًا، فقد أحجمتُ نفسي عن النظر إليها، خاصةً وأنني أملك إرادة حديدية، وتشاغلتُ بالنظر إلى الشاشة، ولابد أن الذي على الشاشة كان فيلم رعب من النوع الردئ، حيث ظهر شيء مثل كتلة من الشحم تتخذ شكل قرد سمين، تتساقط منه كتل لحم فيسندها بيده أينما خطى، وبتدقيق النظر تدرك أنكَ تتمنى لو كان قردًا، لأنه ليس كذلك، وإنما مسخ قرد، لو كان هناك شيئًا كهذا! مجدوع الأنف، طويل الشعر، جاحظ العينيْن، وربمّا أن ابتسامته أوسعَ مع اللازم.. كان قبيحًا ومنفرًا كما أنه يثير الضحك أكثر من أي شيء آخر، هل ينتظرون من هذا أن يثير الرعب؟! لا أعرف كيف!
أنزلتُ عيني فكان ذات القرد على المائدة المواجهة للشاشة، جالسًا يشاهد التلفاز الذي يعرض صورته! كتمتُ صرخة، رجعتُ بمقعدي، ونقّلّتُ بصري بين القرد والشاشة، هو هو! غيْر أن الذي جالس يتناول شيئًا على سبيل التسلية.
هببتُ واقفًا، وناديتُ النادل الذي صار من أعز أصدقائي، ولُمته بدون لياقة:
- كيف تسمحون لشيء كهذا بالدخول للمقهى المحترَم، وترويع الأبرياء الذين جاءوا ليحتموا من المطر!
وقد قدّرتُ أن هذه اللقطة ستُقدّرها امرأة المطر، حين تدرك أنني أزود عنها ضمنًا، لكنّها نظرَت لي بانزعاج، كما نظر النادل الذي قال مُندهِشًا:
- سلامة نظركَ، لا أحد هناك!
لكنّي قبل أن أبادله العتَب على النظر، أدركتُ أنه محق، لم يكن هناك قردًا!
جلستُ، مستعيدًا انتظام أنفاسي، وقائلاً بصوت كسيف:
- لا تؤاخذني، يبدو أنني بدأتُ أهذي، بدأتُ أهلوس.. كم مضى لي من الوقت بدون طعام؟!
ثم تذكرتُ دُفعةً واحدة التي كنتُ نسيتُ وجودها ـ المرأة لا الحلوى، فإنني لم أنسَ وجود الحلوى أبدًا، أخفيتُ وجهي بكفيّ، ثم نظرتُ من فرجات كفّي باتجاهها، كانت لازالت حلوة كما هي، وحزينة، وتتناول الحلوى.
ولكنها لم تكن وحيدة في ذلك، ثمة قرد يقبع تحت طاولتها، لكنّه ليس قردًا بالضبط، يتحيّن الفرصة ويمد أصابعه السمينة يختلس القطعة تلو القطعة من الحلوى الدسمة، ثم يغيب تحت المائدة تسمع له أصوات امتصاص، وتلظٍّ!
لا أدري هل أكشفه أم أنني لا أحتاج إلى ذلك؛ فحتّى وإن اختبأ، فإن ذيله يفضحه.
انتظرتُ أن تلاحظ بنفسها، لكنّها عوضًا عن ذلك فقد غرسَتْ الشوْكة بالحلوى ورفعتها إلى فمها، صرختُ بعلو الصوت:
- احذري! أسفل الطاولة!
وهببتُ أتوجه إلى مائدتها، وقد وصلتُ في الوقت المناسب قبل أن تضع القطعة في فمها، أخذتُ الشوكة من يدها معلنًا:
- لا تأكليها! هناك قرد مقزز دسّ أصابعه فيها!
تراجعَتْ إلى الوراء وزوَتْ يديها عنّي، انحنيتُ بصعوبة على ركبتي ونظرتُ أسفل الطاولة، فضمّت ساقيها بعيدًا كذلك، لماذا تنفر مني وكأنني أنا القرد المقزز، وليس هو! ولكن، أين هو؟
حضر حُسيْن وبعينه نظرة: "ليس لأنني أحبكَ تتمادى في دلالكَ"! فاعتدلتُ واقفًا وقلتُ بتأفف:
- يجب أن تنضّفوا مقهاكم جيّدًا من القرود الضالّة.
فربّت على كتفي قائلاً:
- بالتأكيد، بالتأكيد، سنرسل القرود إلى حديقة الحيوانات، فقط تعالَ معي...
وحاول أن يعيدني إلى مائدتي، لكنّني لم أشعر أنني أديتُ واجبي بعد، فقد لاح ـ من خلف النادل ـ القرد. أنزلتُ يد النادل عن كتفي وقلتُ:
- أراكَ أيها السمين، وهل تظن أن جسد حسين النحيل يكفي لإخفاء شحمكَ؟ إنك كارثة في الإختباء!
كشف القرد رأسه بنظرة جريحة، وكأنما قد شعر بالإهانة، ثم خطف طبق الحلوى، وركض إلى الجانب الآخر.
ابتعد النادل خطوتيْن، فيما بدا كمحاولة لتقدير خطورة الموقف، ولابد أنّه فكّر باحتمالات تقييدي، أو طردي من المقهى، أو الانقضاض عليّ لإسقاطي، أو شيئًا كهذا!
ومع نظرات الريْبة وشعوري بالغربة، وجدتُ أني أقف وحدي وقطعة الحلوى فوق الشوكة لازالت بيدي، لا يفصلني عنها سوى طول يدي، وقد طويتُ يدي وإلتقمتها من قبل أن أدري أنني طويتُ يدي وإلتقمتها! وذُبتُ مع الطعم الذي يستحق ذلك، وعذرتُ القرد على ذلك، ثم وفي اللحظة التالية، تقافزتُ أطارد القرد بطبق الحلوى، كلما تقافز إلى مقعد أو طاولة أو مدخنة.
ولأنه ليس أحد منا أكثر رشاقة من الآخر، فقد نلتُ منه كما نال مني، وعندما انتهت القطعة كان القرد قد اختفى، وجلستُ ألعق أصابعي على أرض المقهى في سعادة، وعزمتُ على أن أدفع عن المرأة ثمن الحلوى كي لا تشعر بالخسارة، ولكنني إذ أرفع رأسي لم أجدها، لا أدري سرّ هذا المقهى الذي يختفي فيه الداخل! هل يجب أن أخشى على نفسي كذلك؟!
وقف النادل عاقدًا ذراعيه وقائلاً في أسى:
- لماذا يارب! العميل الوحيد الذي يجيئ في يوم المطر يطلع مجنونًا ويطيّر أي عميل آخر؟
بينما قلتُ أنا:
- لماذا يارب! الملجأ الوحيد الذي لجأتُ إليه وقت المطر، يطلع مُستَهدَفًا من قرد شارد؟
يضحك النادل وينحني يصافحني قائلاً:
- خالصان.
أصافحه متسائلاً:
- أتعتقد أنني سأراها ثانيةً؟
تتعالى ضحكته الشامتة:
- بعد الذي فعلتَه، من المستحيل أن تريكَ وجهها ثانيةً.
أشعر بعدم الفهم، فأسأله:
- عمَّن تتحدث؟ أنا أتحدث عن الحلوى لا المرأة.
تسقط ضحكته فجأة وكأنما لم يدرك قبلاً مدى خطورة حالتي، أضحك في خاطري من الغبيّ الذي لم يفهم الدعابة.
~
كان يمكنني أن أندم على أكل الحلوى، ولكن إذا فتحنا الباب للندم، فسيكون هذا هو أكثر شيء نندم عليه لاحقًا.. كما وأنه من المتعارف عليه أن الريجيم يبدأ من الغد، أمّا بمنتصف اليوم هكذا، فكأنما خرقتَ قانونًا ما، أو حدًّا من حدود الله، لا يجوز.
قطعتُ حديثي إلى لورا، حيث شاغلني خيال عبر مرآتها، فاحتددتُ عليها قائلاً:
- لورا! هل تُخفين أحدًا عنّي بالكنبة الخلفية؟
لكنّها زامت بهدير مرتفع، مما شتَّتَني عن الموضوع وأوْعَزَ لي بضرورة زيارة ميكانيكٍ للإطمئنان على المُحرِّك!
ودّعتُ لورا بالجراج، واستعددتُ لأصعب فقرة باليوم، الفقرة التي تحتاج إلى بطل أكشن، أو لاعب سيرك، أحدهما.
الفقرة التي تجعلني أتمنى لو أسكن في فيللا، أو أتشرد بالشارع، أيّهما..
فقرة صعود الروح، أو صعود الدَرَج، سيّان..
وقبل أن أنغمس في معركة الصعود، أعرج على عمّ خميس الحارس أن اتبعني، فتبعني متلثمًا بكوفية ثقيلة، ومخفيًا بين طياتها لهاثًا مع بضع لعنات أن أقلقت مضجعه في هذا البرد، لا يعرف أنني أسدي إليه خدمة عمره التي سيشكرني عليها في ذات البرد!
تمالكتُ نفسي، ومارستُ اللهاث المعتاد، وقبل أن أجلس سأشق طريقي بين جنبات البيت، لابد أن هناك بقية من مخبوزات عالقة بالصحن، أو بسبوسة من تلك التي بالمكسرات والسمن، وهناك بوّاب محظوظ اليوم! وجدتُ شرائح بيتزا داخل علبة جوار السرير، وأصابع محشٍ مُستنسَخًا من محشي أمّي من مطعمي الأثير، مع بقيّة من لحم بط وحمام لابد أنهم بكوا بالدموع ليلة مقتلهم، كما أفعل الآن.
أمد بهم يدًا مترددة ـ أمام عينيْه المندهشتيْن ـ أن تفضّل. إنه ولا شك متعجب، إنها أول مرة، ولستُ أنا من الطراز الذي يعزم بالطعام، وليس هو من الطراز الذي يتمنّع عن ذلك، ولكني وقبل أن يلتقط الصحفة من يدي طويتُها:
- انتظر.
استندتُ إلى الطاولة، فتحتُ علبة البيتزا وإلتقمتُ أكبر قضمتيْن سمح بهما اتساع فمي، أشفعتهما بإصبعين من المحشي تكوّرا في جانبي فمي، مع عضّة كبيرة من البطّة في الجانب الآخر.
نظر لي بغيْظ، فابتسمتُ له كطفل، وأعدتُ كل شيء إلى الصحفة، وقدّمتها إليه، أسرعَ هذه المرة بإلتقاطها بدناءة غير مُبرَّرة الحقيقة، فما الداعي للجشع وأنا الذي دعوتُه منذ البدء! لكن الذي يفعل الخيْر لا ينتظر المِثل!
همّ بالمغادرة لكنني استوقفتُه، حيثُ تذكرتُ عبوات المياه الغازية والفاكهة والحلوى التي أخبئها في دُرج الثلاجة الأسفل حتى لا أستطيع الوصول إليها، وقدّرتُ أن إبقائها سيجعلني أندم ألّم أُبقِ المحشي معها، ولكي لا أندم فإما أتخلص من الحلويات لعمّ خميس أو أستعيد المأكولات منه، نظرتُ إليه فبدا عليه ذات التخوف، أسرعتُ أسحب نفسي إلى المطبخ كي أحسم الأمر، انحنيتُ بصعوبة وفتحتُ الدُرج، فقط استبقيتُ قليلاً من الفاكهة، وزججتُ بالبقية في كيس ثم عقدته، وحرصتُ أن يبقى معقودًا طوال الطريق إلى الباب، وحتّى أسلمّه بنفسي للبوّاب الذي إلتقطه وإلتفتَ مغادرًا من غير شُكر.. حدّقتُ بقذاله بحقد.. الوغد الذي ضحيّتُ من أجله بكل شيء، ثم حرمني الشَرَح في الصدر الذي يسببه عمل الخيْر! هل أسترد الطعام منه؟!
إن الكائن الشحيم الذي ظهر إذ فجأةً يشاركني الرأي، فقد مدّ أصابعه المكتنزة إلى الصحفة استخلص بعضًا من الطعام حشره بحلقه كيفما أُتُّفِق، ثم خرق الكيس وانكبَّ يجمع ما تساقط منه، دون أن يشعر الحارس الغافل أن حمله قد خفّ، أو أن أحدًا ـ غيري ـ يتربص بالأكل!
للحظة عمل عقلي بالكامل لحساب ذلك الكائن الشبيه بالقرد، وليس بقرد، وإنّه لأسوأ من القرد الذي يُضرَب به المَثَل في القُبح!
مَنْ هذا القرد؟ ولماذا يظهر لي دون غيري؟ ولماذا بدا حريصًا على إغوائي بالحلوى وإفساد الحِمية؟
كيف تبعني إلى البيت؟ هل قفز إلى الكنبة الخلفية؟ أم يقطع المسافات بسرعة الصوْت؟
لحظة! هل هو واحد؟ أم إنهم فرقة من السيرك! إنّ عقلي سيُجَنّ!
انتبهتُ والبوّاب قد وصل إلى حافّة السُلَّم، والقرد خلفه تمامًا، باسطًا ذراعيْه خلف ظهره، ودافعًا إيّاه لأسفل!
لحقتُ به في جَزَع، فوجدته وقد تكوّم بالأسفل، وارتطمت رأسه بالأرض فانسالت الدماء على جبينه، لا أدري إن كانت أثّرَت على إدراكه، إذ راح يردد في جَزَع:
- لماذا..! لماذا دفعتني؟ لماذا تقتلني؟
- لا! لا!
نفيتُ بملء فمي، أكدتُ له أنني لم أفعل، ولماذا قد أفعل؟ أليس هو بوّاب عمارتي الذي يعرفني منذ أعوام طويلة؟ ألم أكرمه توًّا؟ فلماذا أقتله؟
لكنه ظل يردد:
- ولمّا أنا بواب عمارتكَ منذ أعوام طويلة، فلماذا تكرمني توًّا؟ لماذا لم تكرمني قبلاً؟ إن الموضوع به "إنّ".
- "إنّ"؟ وما هي الـ "إنّ"؟
- إنَّك قدّرتَ أنه من الأريح لضميركَ أن تكرمني قبل أن تقتلني!
سقط فمي في عدم فهم، وبعد قدرًا من الأخذ والرد، والعناد مثل الأطفال، والإلحاح مثل النساء، والجدال مثل الكُفّار.. وجدتُ أنه بصحّة ممتازة باستثناء بعض الرتوش على جبهته، بالأحرى، إن صحته أفضل مني بكثير، إنه لا خوف عليه، أنا الذي سأُصاب بالفالج! تحمالتُ على نفسي وتحسستُ الجدران واستندتُ إلى إطار السلم، وكدتُ أسقط عدة مرات حتى نجحتُ في الوقوف والعودة للبيْت.
~
رطمتُ الباب بعنف، سببتُ والد البواب، على والد القرد، إنني لستُ رائقًا لهما اليوم.. إنني مُحبٌّ.
أتمدد بملابسي على السرير.. إنني مُحبٌّ ـ على رأي النادل ـ جديد..
وحبيبتي..
تلك التي...
صارت في لحظة حبيبتي!
تلك اللوحة الهاربة من اللوفر، تجتذب عيونك على اتساعها، ولا تدري هي تنظر أين!
تلك الحلوى الذائبة في الفم، تذوي سريعًا في لحظة، ويبقى المذاق الحلو..
تلك التي جمعت حسنهن: شهرزاد، بياض الثلج، وست الحسن..
وأنا..
أنا لا شيء مثل فرسانهن،
وما بيني وبين حبيبتي ليس مسافة بحور، ليس وديانًا ولا سهولاً، وإنما مسافة كرش!
أرفع رأسي أنظر إلى كِرشي الذي امتدّ فوقي على السرير وأقول: "إمّا أنا أو أنتَ!".
ثم أغرق بالنوم.
~
يُتبَع


MooNy87 غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 02-03-22, 11:27 PM   #4

MooNy87

مشرفة منتدى عبير واحلام والروايات الرومانسيةومنتدى سلاسل روايات مصرية للجيب وكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية MooNy87

? العضوٌ??? » 22620
?  التسِجيلٌ » Jul 2008
? مشَارَ?اتْي » 47,927
?  مُ?إني » واحة الهدوء
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » MooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   7up
¬» قناتك mbc
?? ??? ~
لا تحزن ان كنت تشكو من آلام فالآخرون يرقدون
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي


– الجزء الثالث–
وأنا..
أنا لا شيء مثل فرسانهن،
وما بيني وبين حبيبتي ليس مسافة بحور، ليس وديانًا ولا سهولاً، وإنما مسافة كرش!
أرفع رأسي أنظر إلى كِرشي الذي امتدّ فوقي على السرير وأقول: "إمّا أنا أو أنتَ!".
ثم أغرق بالنوم.
~
رأيتها..
تلك التي تجيئ مع المطر،
مثل قوس قزح،
مثل دفقة برق،
مثل ندفة ثلج،
تتألق للحظة تملأ الدنيا سِحر،
ثم تغيب، لا تدري أين؟
رأيتها..
ترتجف تحت الأمطار،
تلتفت بالانتظار،
تنتظر مَنْ؟
لن أنتظر لأعرف،
أهندم ملابسي،
وأتقدم على الفوْر!
الشارع خالٍ،
إلاّ من محبي الحياة أمثالي،
لن تجد مسنًّا ها هنا،
أو كهلاً يخشى نزلات البرد...
ستجد عاشقيْن تتشابك أيديهما تحت مظلتهما..
أو مراهقتيْن تركضان والشارع ملكهما..
ستجد أطفالاً يلعبون الكرة..
وستجدها..
تلك التي تنجذب العين لها،
تلك التي ينخلع القلب لها،
تلك التي تذكرك بعظمة الخالق،
كم بديعًا مَنْ خلقها!
يخبرني الخاطر:
إن هذه فرصتي،
أنا حبيبها وهي حبيبتي،
يقول الخاطر:
إمّا الآن وإمّا فلا،
هي لي وأنا لها!
تقدمتُ في شجاعة،
وتوقفتُ أمامها،
أخرجتُ من جيْبي خاتمًا،
وجثوتُ على ركبتي:
- هل تقبلين الزواج مني؟
زادت كثافة الأمطار،
وصاح الأطفال في استنكار،
فشتتوا انتباهها..
نظرَتْ لهم نظرة استفهام،
ثم نظرَتْ لي في حنان،
نظرة مشحونة بذكريات الطفولة،
والحنين إلى الصِبا،
واللعب مع الصِّحاب..
في البرد،
في المطر،
وفي التراب!
جميلة براءة الطفولة،
ولكن ما علاقتي بها؟
وقبل أن أفهم ما يحدث،
رفعَتْ قدمها وركلتني ركلة أطارتني وأعادتني إلى الأطفال الصائحين،
وسط ذهولي وفشل محاولاتي لاستيعاب الموقف أو ابتلاع إهانتها، أو التوقف عن التدحرج بين اللاعبين..
إلى الأعلى / الأسفل
إلى الشِمال / اليمين
رفعني أشطرهم مثل الكرة على مشط القدم،
على الرأس،
وعلى الفخذيْن!
صحتُ به:
- محترف! لاعب ولا كل اللاعبين!
لكن يبدو أن الفتى اللعِّيب كان أيضًا حبّيبًا...
فقد تعمّد أن يفقد الكرة من بين قدميه، ويدعها تنسل من جديد، نحو الحسناء المبتلة مثل قط شريد، وكأنما لم يقصد، أو أخطأ التصويب..
ثم تهادى إليها، مُسبِلاً خصلات شعره الأشقر، الملتصقة من البلل، على عينيْه الناعستيْن، وقال:
- عذرًا يا طانط، هل تسمحين؟
منحَتْه بسمة مثلها حلوة، وملسَّتْ بأناملها خصلاته اللزجة، ودفعتني له بقدمها دفعة كلّها رِقّة..
نظرتُ له من موضعي تحت قدمه وقلتُ:
- يا بن اللعيبة!
~
هببتُ من النوم وقت آذان الفجر، أستعيذ بالله وأتساءل:
- من أين جاء هذا الكابوس، وأنا نائم بمعدة فارغة!
هدّأتُ من روعي، غير أني لم أستطع أبدًا تقبل الفكرة:
- كرة! هل أنا بالنسبة لها مجرد كرة؟
مددتُ يدي أمسكتُ بكرشي وهززته بعنف:
- كل هذا بسببكَ أنتَ!
ثم أعلنتُ:
- الركض! الركض حتى النحافة أو الموت.
~
أرتدي البنطال، لكنّي أتلكأ في إرتداء السترة. أرتدي السترة، ولكني أتلكأ في غلق السحّاب.. أغلق السحّاب، لكني أتلكأ في إرتداء الكاب! أمن الضروري أن أركض في هذا البرد؟
لكن زخات المطر على نافذتي تكفلت بإقناعي، عملت كمرسال غرامي، أنبأتني أنها ستأتي اليوم..
تلك التي والمطر عاشقان..
تلك التي والقمر نصفان،
تلك التي والرخ مستحيلان...
وأنا الذي إقناعه سهل جدًا، أسهل شيئًا.. ارتديتُ الكاب وانحنيتُ أعقد رباط الحذاء من دون آلامٍ في الركبة أو شدّ في الأعصاب، ونزلتُ أثب على السلّم وثبات أخف من وثبات الأفيال، كما لم تهتز الأرض من تحتي كالزلزال، ثم سرتُ في الشارع مثل فراشة فقدت جناحيها فراحت تتهادى بدلال، وكأنني قد صرتُ رشيقًا بمجرد التفكير، أو عقد النية، حمدًا لله، إنها معجزة، لقد صرتُ رشيقًا بالفعل، فلأستدير وأعود للبيت، لكني قدّرتُ أن التمادي لن يفيدني في شيء، سأركض رغمًا عن أنفي والكِرش، حتى إذا أتَتْ للمقهى بالليل، تجدني أنحف ولو جراميْن.
أحمل كتل شحومي وألفّ، كما لو أحمل عروسي للعُش، البرد جاثم، والضباب عالق، ورذاذ المطر يرصف الشوارع، والجو جميل! جميل!
ألفًّ سور النادي من الخارج، والسماعات في أذني تدندن باللحن الغربي الذي يبحثون فيه عن لي-لي..
لقد لفّ الشوارع بحثًا عنها، ولربما نزل في البرد والمطر كذلك.. لقد فعل كل شيء ليجتذبها، وقد حمل الحلوى والهدايا ليوم يلقاها، لكنّها ظلّت في جيْبه لم تُمَس.. إن لي-لي قاسية حقًا!
أنفض عن رأسي أن تكون لي-لي الخاصة بي مثل لي-لي هذا الرجل، وأسترسل في الغناء لرفع الحماسة، من دون التفكير في المعنى:
"لي-لي تأتي عندما تتوقف عن البحث عنها،
لي-لي تذهب بمجرد أن تدير وجهك،
لي-لي تترك قبلات على ياقتك،
لي-لي، لي-لي، لي-لي، لي-لي،
ابقي معي... "
لو سألتَني لكنتُ أخبرتكَ كيف تُبقي لي-لي أيها المسكين، ليس بالبكاء ولا بترقيق الصوت بالغناء طوال الليل، وإنما بأن تصبح الفتى الذي تحلم به، بأن تلف هذا السور ليس مرة وإنما مرّات، وفي كل مرة تخسر جرامات، والثعلب فات فات وفي ذيله سبع لفات، وبنهاية اللفات ستصير معشوق البنات.
لا أستطيع إلتقاط أنفاسي، أسعل من داخل روحي، أتوقف عن الركض. كل ما قلتُ سيصير، ولكن من الغد.
أجلس أستند إلى السور، ألتقط أنفاسي، أجرع المياه، وأعاتب نفسي على تهوري، أليس من الأفضل لو كنتُ في دفء الفراش الآن؟ ثم أعاتبها على استسلامي، أليس من الأفضل أن أُكمل ما عزمتُ عليه، وأقوم لاستكمال الدورة؟
خطوة، خطوتان، ومن دون السماعات في أذني، أسمع خطوات تتبعني، أستدير فلا شيء، الشارع خالٍ ولا من صَريخ ابن يوميْن!
أعود للركض، يعود الصوت.
أتوقف، فلا دبيب نملة!
أعود فيعود، هذه المرة سأكون الأذكى، سأستدير على فجأة، ودون أن أتوقف عن الركض.
وقد فعلتُ،
ومع هذا الثِقَل في الوزن، والبلل في الأرض، كانت إلتفاتة تاريخية، كابوسية، كارثية.. كا.. يكفي هذا.
أن تركض في يوم ماطر، أي تنزلق في طين طازج، تسقط بثقلكَ على ساقكَ، تُضحّك عليكَ الخلائق؛ لولا أن الشارع خالٍ، إلاّ من قرد ضاحك.
يستند القرد إلى السور ويتناول آخر قطعة من موز مقشور، أنتبه إلى القشر، فإذا به أسفل قدمي، هو الذي زحلقني، وبرئ الطين المبلول!
يضحك ملء شدقيه، يتمرغ من الضحك، وحين ينتهي من آخر قهقهة، يعتدل ويمد يده إليّ يقيمني، فأدفع يده بعيدًا عنّي:
- إليكَ عنّي أيها الحقود! من أنتَ يا أقبح ما رأت عيني؟ لماذا تتقصدني؟ لماذا تترصدني؟ وإذا ما حاولتُ إنقاص وزني لماذا تمنعني؟
يقوم في إباء، يرفع رأسه بشمَم، ويتسلق السور في أريحية، مبتعدًا عني..
سأحتاج وقتًا قبل أن أدرك كم كنتُ مخطئًا بدفع اليد التي امتدت لمساعدتي، وقتًا يمتد من الفجر حتى ساعات النهار الأولى، وحتى ينزل أول فدائي من بيْته ـ مُرغمًا ـ لعمله، فيجدني صدفة.
صغيرة الدنيا!
~
وأنا الذي كنتُ أظنُ أن صعود السُّلّم فقرة صعبة، فكيف بالصعود بساق عَطِبَة.. حيث لا أسانسير يحملك للسماء، ولا رفاق تحملك فوق الأعناق.. وحيث يتخلى عنك الفدائي الذي أحضرَكَ للبيْت، كما لا تجد أثرًا للبوّاب الذي كان يتبعكَ كظلك إذا أحضرتَ فتاة.
لكني بمجرد صعودي زارني الخاطر أفزعني: أكان من الأجدر الذهاب للمشفى؟ وحينها يكون جهد الصعود بلا جدوى، بل يُضاف إليه عبء النزول مرة أخرى... إن الحياة ليست سهلة!
أرقد كمدًا في حسرتي أتحسس ساقي المتورمة، فلا تبدو أضخم مما كانت عليه، علّه إلتواء ويزول مع الوقت، وماذا لو أنها كُسِرَت بالفعل، فإن الكسر يستوجب الجبر، والوحيدة التي تملك الجبر تحضر إلى المقهى كلما أمطر الجوّ، ولكي أذهب إلى المقهى أحتاج بالفعل إلى ساقيّ، فما الحل!
هذه لن يحلّها إلاّ جلال..
فأين أنتَ أيها الحلّال!
أدير الرقم وأطلبه على الفوْر، صديق الطفولة، حلال العُقَد، واسمه الحركي هو "مستر فيكس".
إن شخصيته أبعد ما يكون عنّي، ولكنها أشدّ ما يعجبني، وكثيرًا ما تساءلتُ إن كان عمله كمندوب مبيعات هو ما كوّن شخصيته الإجتماعية الجذّابة ذات الكاريزما والتأثير وقوة الإقناع، أم أن تلك الصفات هي ما جعلت منه مندوب مبيعات يكاد يكتنز أول مليونًا، مِن ثمّ ينتقل إلى خانة رجال الأعمال؟! وهي بحد ذاتها معضلة لا يقدر على حلّها سوى جلال!
أستدعيه وقبل أن أضع الهاتف، تصلني رسالة من رقم سرّي، تقول بإن "هذه المرة ساق، والتالية رقبة!"، تصيبني القشعريرة في عمودي الفقري، هل هذا القرد بقادر على أن يرسل رسائل، أم من الذي وراء القرد؟
أتناول الحاسوب وأتتبع أمور عملي الإلكتروني، إن لديّ مواعيد تسليم قريبة لمشاريع تصميم وبرمجة، وهذا يضيف إلى المشكلات مشكلة!
وما إن يصل جلال حتى يحيّيني بتحية عابرة، ويذهب إلى الثلاجة رأسًا، يمد يده إلى الدرج الأسفل فيقبض على أول ما يقابله بحركة تلقائية، لكن قبضته انطوت على الهواء.. فبسطها في وجهي في قمة العَجَب:
- ما هذا؟
- حِمية.
قلتُها في قرف ثم سرتُ أتعكز نحو السرير. تبعني مساعدًا إياي وسائلاً باستظراف:
- أن تتبع حِمية فهذه أعجوبة ولكنها شأنكَ، ولكن ما ذنبي أنا في ثلاجة خاوية؟
- يا أخي كن جادًّا مرّة، إنني في مشاكل متضاعفة،
وأنت تسألني عن الثلاجة؟
- بسيطة جدًا، وما المشكلة؟
نظرتُ له بغيْظ:
- وهل حكمتَ عليها بإنها بسيطة قبل أن تسأل ما هي؟
- يا عزيزي، كل المشاكل بسيطة إلى أن يثبت عكسها، فإذا استعصت فلنستموت في حلها، فإذا حُلَّت فهذا قدرها، وإذا مِتنا فهذا قدرنا، وكلها أقدار الله وتسري على رقابنا.
أحني رأسي في خشوع:
- ونِعمَ بالله!
ثم أنتبه فأستدرك:
- أنت تتلاعب بالكلمات، ومنذ متى كان الموتُ حلّاً؟!
يقول في ملل:
- يا أخي خلّصني، ما هي مشكلتكَ؟
أقول في أسى:
- أية واحدة فيهم؟
يستدير متأهبًا للرحيل وقائلاً:
- لقد تحولتَ إلى امرأة شكّاءة بكّاءة نكدية من الطراز الأول.
أحني رأسي ولا أحاول منعه من الذهاب، فإن الاهتمام لا يُطلَب... لكنه يتوقف على الباب ويستدير مُضاحِكًا:
- كما أنني خبير بالنساء، إنهن يعشقن الذي يسمع لهن ويضبط نفسه على الهمهمات، بأكثر من الذي يعتصر ذهنه ويحرق عصبه لإيجاد حلول، قولي لي يا حلوة ما عندكِ، كلّي آذان صاغية.
ها قد بدأ يفهمني، آخذ شهيقًا عميقًا، ثم أسكب أسراري كلها، وأنهي حديثي بتساؤل:
- هل تتصور يا جلال أنني استيقظتُ لأركض مع الفجر؟ هل تتصور أنني حتى الآن لم أفطر؟ هل تتصور أنني أحب امرأة لا أعرف من هي؟
يسأل في بديهية:
- ومَن هي؟
أهزّ رأسي وأقول حانقًا:
- للتوّ أخبرتُكَ أني لا أعرف من هي!
يهمهم بتفهم:
- هممم.. وماذا أيضًا؟
أستكمل:
- ولكنه الحقود لا يريد لي أن أصبح رشيقًا وأتزوج التي أحب.
- من؟
- تلك التي....
يقاطعني:
- من الحقود؟
- القرد.
يؤيدني بهمهمة، يتبعها بسؤال استنكاري:
- همم.. أرأيتَ؟
تغيظني طريقته المستفزة، فأتساءل:
- ما الحكاية يا جلال، هل سنقضّيها همهمات وتصعبات، ما رأيك يا مستر فيكس؟
ينتبه:
- ماذا؟ هل تريد منّي حلاًّ؟ ظننتُ أنني سأنصت وأمصمص شفاهي فقط!
أشيح بوجهي، فيستدرك:
- حسنًا، حسنًا، كما قلتُ لك منذ البداية: بسيطة جدًا، أبسط شيء!
- أيُّها؟
- كلّها، لنأخذها واحدة واحدة، قل لي أول واحدة.
ألوي فمي في حنق:
- أقول لكَ أرى قردًا.
- هذا يحتاج إلى طبيب نفسي، وماذا أيضًا؟
أبتلع عبارته على مضض، وأكمل:
- وجربتُ كل أنواع الحِمْيات، ووزني لا يسمح بالرياضة، وصحتي لا تتحمل العمليات، و...
- هذا يحتاج إلى زيارة دكتور نور.
- من؟
- معالج الطاقة.
ثم يستعجلني بيديه أن أُكمل:
- وماذا أيضا؟
أستكمل:
- و.. أحب فتاة لا أعرف عنها شيئًا سوى أنها تذكرني بالموناليزا، وتأتي مع الأمطار لتبكي في المقهى ليلاً.
- نفس الطبيب النفسي الأول، ماذا أيضًا؟
- اسمع، أنا لا أفهم منك شيئًا، إما تقل شيئًا مفيدًا أو لترحل.
أخذ شهيقًا عميقًا ثم بدأ يسرد:
- إذا كنتَ تبحث عن طريقة ما ـ ليست نظامًا غذائيًا ولا رياضيًا ولا جراحيًا ـ لفقدان الوزن، فليس أمامك سوى دكتور نور، إنه يعالج من خلال الطاقة، فمن المعلوم أن بالجسم سبع شاكرات، أي مسارات للطاقة، تتحكم بكامل كينونتك، وهو سيضبطها لك، الأمر بسيط.
يسقط فمي مستنكرًا:
- بل "شاكران" لكَ، لن أذهب إلى معالج الخزعبلات هذا، فلتحضر لي شاي دكتور مينج، أو عشبة التوت البرّي، أو أي بلاء آخر.
- يمكنني أن أبيعكَ الكثير من هذا، قبل أن تضطر بالنهاية إلى الذهاب إلى معالج الخزعبلات هذا، لكنني أختصر الطريق عليكَ.
أقول بعناد:
- لن تقنعني، ولكن اخبرني هل هناك طريقة للحصول على هذه الفتاة من دون أن أفقد وزني؟
يفكر قليلاً، ثم يقول:
- بالنسبة للفتاة، فيمكنني أن أقول بناءً على الخبرة التي اكتسبتها من عملي كمندوب مبيعات مع الأطباء النفسيين، إنك لا تحبها، وإنما تجدها المهرب المناسب لكَ من حالة الرفض التي تمر بها، رفضك لنفسك، لجسدك، لوحدتك، رفض الفتيات لكَ، وكل هذا الرفض تم تحفيزه من خلال رفض حبيبتك السابقة والتي لم تتعرفكَ بالمتجر، وتقييمي لتعلقك بفتاة الأمطار تلك أنه ليس خطرًا، أو بمعنى أدق فإن المكاسب الناتجة عنه أكثر من الخسائر المتوقُعَة، فقد مثّلَتْ الحافز لفقدان وزنك، كما قد أحجمتكَ عن الإضرار بفتيات أخريات، كما قد يتحول هذا الشعور إلى حب حقيقي من طرفك، وبمعجزة ما هي تحبك، ونراكَ يومًا في القفص! مَنْ يدري!
لا أخفي امتعاضي على وجهي، بينما أقول:
- تحليل سخيف!
يقول بصوت خفيض:
- ذاك كان الجزء الجيد من التحليل، فإن لم يعجبك فلن يعجبك التالي، على أي حال.... تفسيري للقرد بأنه حيلة وقائية من عقلك ليحميكَ من الفشل، شماعة مثالية لكَ لتُسقط عليها فشلكَ، لستَ أنت الذي تضعف أمام الحلوى، وإنما هو، لستَ أنت الذي لا تقوى على التريض، وإنما هو، ولستَ أنت المتسبب في دمار حياتك. ولعمري فإن هذه أغرب شماعة سمعت عنها في خبرتي الطويلة مع الأطباء النفسيين.
- عظيم.. خبرتك مع الأطباء النفسيين أوصلتكَ لأن تتهم صديق طفولتكَ بالجنون؟
- لا، هذا أمر تعرفه بالبديهة، لكن تفاصيل تحولك إلى مجنونًا هذا ما يستحق زيارة الطبيب، يمكنني أن أعقد لك لقاء مع دكتور سرور.
أقول بعصبية زائدة:
- لا! إن وقاحتك فاقت الحد، ويبدو وكأنك تريد توقيعًا مني على جنوني!
يقول بهدوء يشلّ:
- أنا لا أدري ما الذي يعصّبكَ هكذا؟ إن أعصابكَ مُتعبَة جدًا، وهو ما يؤكد ضرورة ذهابك للدكتور سرور!
وهو ما يجعلني أعتصر ذهني لأفنّد كلماته وابرر عصبيتي، فأقول:
- أنت أيضًا تجلب لي أسماءً مُستفزة! نور، وسرور! هذه مؤامرة، تعرف أن كآبتي المُرهَفة لا تتحمل كل هذا القدر من التفاؤل!
يقول بلا مبالاة:
- يا أخي هدّئ نفسك! إن المسألة بسيـ.....
أقاطعه بعصبية أشد:
- إيّاك أن تنطق كلمة بها حرف السين أو الطاء ثانيةً! ألا تحسّ؟!
يغلق فمه وكأنما بسحّاب، ألتقط أنفاسي ثم أعود فأستنطقه:
- ولكنك لم تجب سؤالي، كيف أُوقعها في حبي من دون أن أفقد وزني؟
- ما رأيكَ أن تشتري لها خاتمًا؟
أنظر له نظرة العليم ببواطن الأمور وأقول:
- كُفّ عن هذا، في كل مرة تأتي إليّ أعرف أنك ستبيعي شيئًا، وبعد أن حوّلتُ الغرفة الداخلية إلى مخزن لأشيائي الفائضة اتخذتُ قرارًا ألا أنساق لإغراءاتك للشراء مهما بدت مقنعة أو مُلحّة أو أني لن أستطيع الحياة بدونها، كما أني....
أحني رأسي وأقول بصوت خفيض:
- آخر مرة اشتريتُ لها خاتمًا، ركلتني بقدمها مثل الكرة!
يضحك ملء فمه قائلاً:
- لم تخبرني عن هذا!
أتمثّل ضحكته السمجة، وأوضّح:
- هذا كان حُلمًا.
فيلتقطُ الخيط على الفور:
- هل تعرف أني لديّ جهازًا يعمل على تحسين أحلامك من خلال تحسين حالة جسدك الفسيولوجية أثناء النوم؟
نظرتُ له نظرة زاجرة أن:
- هاه؟!
فاستدركَ:
- حسنًا، دعني أعدُّ لك خطة ممتازة تتناسب مع حجمك للإيقاع بهذه الفتاة.
ينشرح صدري:
- حقًا يا جلال؟
لكنّه يرفع إصبعه منبهًّا:
- لكن هذا بشكل مؤقت يكسبك الوقت معها لا أكثر فلا غنى في النهاية عن الذهاب للدكتور نور.
أومئ على الفور:
- الخطّة أولاً، ودع دكتور نور حينما تظلم الدنيا تمامًا!
يقول بتردد:
- حسنًا، دعني أفكر، ولكن، إن استغنينا عن الدكتور نور، فلا غنى عن سرور؛ فإذا استطعنا بمعجزة أن نقنع فتاة حسناء بأن تخرج مع رجل سمين يتبع حِمية، فأية معجزة تجعلها تخرج مع مجنون يلاعب قردًا؟
يقولها، وينظر إلى ساعته، من ثمّ يُعلن:
- سأنصرف أنا!
لكنني أستوقفه، مشيرًا إلى ساقي:
- ماذا عن هذه؟
يطلق عليها نظرة خاطفة مع وخزات من يده:
- هل تؤلمكَ؟ لا، اطمئن، هذا إلتواء كاحل، ارتاح اليوم، وغدًا ستكون بخير.
- بل انتظر، سأرتدي ملابسي على عجل، وتوصلني بسيارتي إلى المقهى.
- هل هذا مفهومك عن الراحة؟ أنا أقول...
أقاطعه:
- بل أنا الذي أقول:
أقول بإن الكسر يستوجب الجبر، كما جبر الخاطر بالضبط، فمن الذي يجبر هذا وتلك؟
تلك التي..
تحيل الكسر جبرًا، إذا مسّته يدها.
تحيل التراب ذهبًا بنقاء سريرتها..
وتحيل الجوع شبعًا، أملاً أن تعجبها!
ثم أنتبه، فأسأل جلالاً:
- أتصدّق يا جلال أنني زال عني شعور الجوع بمجرد التفكير في رؤيتها؟
يلوي فمه امتعاضًا:
- والله أنا لا خبرة لي بأساليب الصبابة هذه! من الأفضل أن تتحرك لأن عندي موعد عمل.
لكنني بقيتُ متصلبًا في مكاني، أتطلع إليه بأعين متسعة، لقد بدا ضعفين في الحجم أو ثلاثة، ثم أدركتُ أنه ليس هو الضخم وإنما المسخ الذي بدا من خلفه، كانت بعينه نظرة ثكلى وغضبى ولائمة من دون داعٍ. يضمم أصابعه السمينة أسفل ذقنه يتوعدني، لكني لستُ خائفًا، نعم، لستُ جائعًا، لو كان ذلك يغضبك، فلتذهب إلى الجحيم، أنا ذاهب للمقهى.
أسرِعُ بنفض الغطاء، وارتداء ملابسي، متحيرًا ما بين أن أخبر جلالاً أو أتكتم، ولكني وقبل أن أغادر، أخبره:
- على فكرة يا جلال، هناك قردًا على كتفيكَ.
لكنه يتلفت خلفه وينفض كتفه بحركة تلقائية ويدفعني للخارج:
- هيّا، لا شيء.
كنتُ أعرف هذا.
~
يُتبَع..


MooNy87 غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 08-03-22, 08:14 PM   #5

MooNy87

مشرفة منتدى عبير واحلام والروايات الرومانسيةومنتدى سلاسل روايات مصرية للجيب وكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية MooNy87

? العضوٌ??? » 22620
?  التسِجيلٌ » Jul 2008
? مشَارَ?اتْي » 47,927
?  مُ?إني » واحة الهدوء
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » MooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   7up
¬» قناتك mbc
?? ??? ~
لا تحزن ان كنت تشكو من آلام فالآخرون يرقدون
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

– الجزء الرابع –
أسرِعُ بنفض الغطاء، وارتداء ملابسي، متحيرًا ما بين أن أخبر جلالاً أو أتكتم، ولكني وقبل أن أغادر، أخبره:
- على فكرة يا جلال، هناك قرد على كتفيكَ.
لكنه يتلفت خلفه وينفض كتفه بحركة تلقائية ويدفعني للخارج:
- هيّا، لا شيء.
كنتُ أعرف هذا.
~
على الدَرَجة الأخيرة للسُّلَّم، وقف البواب متحفزًا ومتربصًا، لا ينقصني هذا المجنون الآخر، فتملقته مُلاطفًا:
- كيف حالكَ أيها الرجل الطيّب؟
لكنّه انقضّ عليّ دُفعةً واحدة، أمسكَ بخناقي صائحًا:
- لماذا تريد قتلي؟ لماذا تغار مني؟ ماذا ينقصكَ أيها البيك الكبير حتى تغار منّي؟
يحول بيننا جلال، محاولاً تهدئته:
- قل لي أنا ماذا حدث يا عم خميس؟ هل يُعقَل أن يحاول قتلك وأنتَ تعرف كم يُحبّكَ؟ ثم لماذا يقتلكَ؟
أجابه بغلظة:
- سله! سله لماذا دفعني من أعلى السلّم بالأمس، ثم لماذا منحني طعامًا مسمومًا لكان أنهى حياتي لولا أن وجدني الجيران وأسعفوني بالمشفى!
شهقتُ بعلو الصوت:
- ماذا! ألم آكل من هذا الطعام أمامكَ بالأمس؟
أمال رأسه مفكرًا للحظة، لكنّه عاد يهز رأسه ويجهر في غباء:
- أنا لستُ المفتش كورومبو! أنتَ دفعتني وسمّمتني وأنا لن أتهمك في القسم، بل سآخذ حقّي بيديّ هاتيْن.
ثم مدّ يديه الطويلتيْن ـ مثل يديّ لص ـ جاذبًا ياقتي، حال بيننا جلال محاولاً تخليصي منه، ومن حسن الحظ أن عمّ خميس يحمل مودة خاصة لجلال، فقد سبق وأن باعه ماكينة إسبريسو بحيث إذا شرب فنجانًا منها زالت الفوارق بينه وبين البكوَات، وتوطدت علاقتهما منذ ذلك الحين.
أقنعه جلال بأنني مريض نفسي وليس على المريض حرج، وها قد جلسنا ثلاثتنا نتناول الإسبريسو على البسْطة، وقد أكدّ لي خميس أنه لم يسمم لي الإسبريسو كما سممتُ له الطعام لأنه أفضل منّي.
آثرتُ الصمتُ بينما يثرثران كصديقيْن قديميْن، واكتفيتُ بأن أرقب القرد الذي يتزحلق على دَرابزين السُّلَّم. يلاحظ جلال حركة عيني المتكررة أعلى السلّم ثم.. **هوووب** أسفل السلّم، فيسألني:
- هل تراه ثانيةً؟
أومئ أن نعم، فيسأل:
- أليس من الأفضل أن تزور الدكتور سرور؟
أجيبه من دون أن أزيح عيني عن القرد:
- إذا كان أحدنا على صواب بخصوص القرد، فلماذا أذهب أنا ولا تذهب أنتَ؟
يومئ من غير اقتناع:
- صدقتَ.
ويتابع الثرثرة.
~
طوال الطريق نلوك الخِطّة التي وضعها جلال للخروج معها، وعلى أعتاب المقهى، أطلب منه أن يتركني ويغادر، ولكنه يبدو وكأنما نسي موعد عمله وأصبح قتيلاً أن يرى المرأة التي أنشد الشعر بها، لكنّي أنا القتيل ألاّ يرى المرأة التي أُنشِد الشعر بها؛ فلستُ أبلَه كي أُسلّمها بيدي إلى مندوب مبيعات يمكنه أن يبيع الهواء.
أخذتُ مفاتيح لورا من يده، ودفعته بعنف إلى بعيد، فوقف يصيح:
- أهذه هي طريقتك في شكري على الخِطة؟
صحتُ بالمثل:
- الشُكر إذا عملَتْ الخِطة يا ظريف!
ثم ضبطتُ هندامي ودخلتُ إلى المقهى مبتهجًا أعرج. ولكن مع الخطوة الأولى زال الإبتهاج وبقي العَرَج، كان المقهى شبه خالٍ كالمعتاد، شبه مُظلِم، شبه كئيب.. ولكي يزول الشك فقد أداروا أغنية يدلل فيها شخص ما بألف سببٍ على مدى وحدته، وكأننا لا نصدّقه، إلى حد أن أسمى نفسه "مستر لونلي". لقد فهمتُ، هذا هو مقهى الوحيدين، الآن تنضم قطع البازل في مكانها، الآن تعود الأمور إلى نصابها، الآن أشعر أنني أفضل؛ إنني في المكان الوحيد بالعالم الذي خُلِق لي، وإنني أنا ـ ليس غيْري ـ "مستر لونلي".
تلمع عين النادل لرؤيتي، ها قد جاء من يؤانس وحدته، ويسألني سؤالاً عابرًا عن ساقي، فأخبره أنني بخير، وأسال سؤالاً مُوجّهًا عمّن يعرف، فيبتسم ابتسامةً حمقاء ويقول:
- لن تأتي.
أعتدل في جلستي، وأسأل باهتمام:
- لماذا تقول هذا؟
يومئ واثقًا:
- أخبركَ: إنها لن تأتي.
- أما أنا فأسألكَ عن مصدر المعلومة.
- راهنّي أولاً.
- على ماذا؟
- على المشاريب، إذا أتتْ، أدفع لكَ المشاريب، أمّا إذا لم تأتِ...
ثم يتوقف من أجل التشويق، فأستحثه:
- ماذا؟
- تغسل لي الصحون.
أرجع برأسي ضاحكًا في سخرية:
- هل تريد من سيّد وحيد مُحترَم مثلي أن يشمّر كمّيه ويغسل صحونًا بالمقهى، أنا الذي كنتُ أدفع الغالي والنفيس في مطاعم لا تجرؤ على دخولها ولو لتغسل الصحون بها، أيعجزني ثمن القهوة الفاحمة التي أشربها عندكم، اذهب، اذهب فاحضر لي فنجانًا.
ذهب يسند قلبه وكأنما مطعونًا في كرامته، وتركني لأًدرك بعد دقيقة مدى فداحة جريمتي، ليس لأن طعنتُ بريئًا في كرامته، ولكن لأنني أحتاج ذلك الأحمق لتنفيذ خطتي.
لذلك حين أحضر القهوة طلبتُ منه أن يجلس ليشرب فنجانًا معي، لكنّه اعتذر لضغط العمل، وهو الأمر الذي أضحكنا معًا، وبعد الرشفة الأولى، قلتُ بطريقة أردتُ لها أن تبدو عابرة:
- أتدري، أنا موافق على أن أراهنكَ.
فقال ساخرًا:
- وهل سيشمّر سيّد مُحترَم كمّيه ويغسل الصحون؟
فقلتُ بحماس لم أنجح في إخفائه:
- أجل، ولكن إذا خسرتَ الرهان لا أريدك أن تدفع لي المشاريب، وإنما تساعدني في تنفيذ خطة لترتيب موعد مع سيدة المطر.
لم يسأل مثلاً: "أية خطة؟"، أو "ما المطلوب؟" وإنما فقط ضحك ملء شدقيه قائلاً:
- سيدة المطر المرسومة بالسنتيمتر تلك تخرج معكَ أنتَ؟
كظمتُ غيظي وقلتُ:
- أريد فرصة معها، بعدها هي التي تقرر وليس أنا أو أنتَ.
نفى برأسه واثقًا:
- لا فرصةً لك، هذه المرأة لا يمكن أن تخرج معكَ!
فقلتُ بحنق:
- ولماذا أنت واثق هكذا؟
قال ببساطة:
- لأن الذين حضروا وحيدين، يجب أن يرحلوا وحيدين!
فقلتُ بغضب:
- يا أخي ماذا ستخسر من التجربة، لربّما قبلَت بخروجتي، ونجحَت الخطّة.
- وهل هذه الخطة تتلخص في أن ترسل لها رسالة أسفل الطبق؟
أهزّ رأسي أن لا، فيتابع:
- إذًا لابد ستعزمها على مشروب، وأقول إنّه منكَ!
أهزّ رأسي كذلك، فيستمر:
- إذًا اليوم هو عيد ميلادكَ، ونقدم لك تورتة كتقليد من الكافيه، لكن أليس بائسًا جدًا أن تحتفل بعيد ميلادك وحدك؟
أومئ موافقًا:
- بالفعل بائس، لكن أتدري ما الذي أكثر بؤسًا منه؟ أن أضطّر أن أحتاج مساعدتك لتنفيذ خطّتي، اذهب، لا أريد شيئًا منكَ!
لمح أُسرة صغيرة تدخل المقهى، فقال ملاطفًا:
- إنمّا أمازحكَ، أوافق على الرهان.
ثم قام لاستقبال الأسرة.. لكني أمسكتُ بمعصمه سائلاً:
- لماذا قلتَ إنها لن تأتي؟
- لأنها قد جاءَتْ بالأمس، وهي لا تأتي ليوميْن متتالييْن.
هتفتُ به:
- لكنكَ قلتَ إنها تأتي مع المطر، وقد أمطرَتْ اليوم.
نظر لي بطرف عينه قائلاً:
- أيُّ مطر؟ تلك النقاط الصغيرة بالكاد؟
غلبني الإنفعال، فارتفع صوتي مؤكدًا:
- لكنّه مطر، يبقى مطرًا! أليس مطرًا؟
أنظر إلى ساقي العرجاء وأصيح:
- أنتَ لا تدري ما الذي حصل لي بسبب المطر، ثم تجيئ وتقول هذا ليس مطرًا!
لكنّه نقّل بصره بيني وبين الزبائن النادرين للمقهى، ومال يحدّثني بصوت خفيض:
- أرجوك، أرجوك يا سيّدي لا تطيّر هؤلاء الزبائن أيضًا! هذا محلّ أكل عيْشي..
ألوي عنقي غضبانًا، وأدع يده.
القهوة العلقم، واللحن المُقبِض، والنادل الأرعن، ولا شيء يُصبّركَ على ذلك سوى نظرة مشحونة من عين باكية لامرأة موصوفة أن تأتي مع المطر، ها قد جاء المطر، ولم تأتِ سيدة المطر..
تلك التي ـ مثل العروس الموهوبة للنيل ـ وهبوها للمطر..
تلك التي تبكي فتشعر أنك تريد أن تجمع دموعها مثل الدُّرر..
تلك التي بعينيها أسرار أدفع عمري وتشي لي بسرّها!
أينها؟ ما الذي حجبها؟
هل استغلَقتْ شرنقتها، أم هو القدر، أم غيوم تخبّئها مثل القمَر؟
مقعدها الفارغ لا تظلله سوى عيني، أراوح النظر ما بين الباب والمقعد، ولكن تقع نظراتي على الطفليْن المصابيْن بفرط حركة، يتجولان بنشاطٍ في المقهى، لا يستجيبان لنداءات الأم أن يعودا للطاولة، فقط تتعالى ضحكاتهما مع النداءات أكثر، لكن مع أول نداء من الأب الحازم، يعودان صاغريْن.
يعجبني الأب، استطاع أن يحصل على طفليْن، كما يمكنني أن أرى أن ثمة آخر في بطن الأم.
ألمح قطرات تتساقط خارج الواجهة الزجاجية.. يهتز قلبي رقصًا، أنادي على النادل وأكاد أرقص فرحًا:
- انظر، إنها تُمطِر، تُمطِر..!
ينظر إلى حيث أشير للحظة، ثم يعود فيربّت على كتفي مواسيًا:
- إنّ التكييف ينقّط.
بل أنا الذي سأُصابُ بالنُّقْطة، لكني إذ أنظر إلى المقعد الفارغ أجد أنه لم يعد فارغًا أكثر، لقد امتلأ حتى آخره ولكافة حوافّه، بقرد سمين جدًّا.
يقف القرد، يشد قامته، يرفع رأسه مثل سيّد مُحترَم، ويتجه إلى مائدة الأسرة، فيختلس لعقات بإصبعه من آيس كريم الأطفال.
لا أردي.. إلى متى يكابد المرء الحزن من دون أن يشتكي، إلى متى يكابد الشوْق دون أن ينفجر، إلى متى يكابد الجوْع دون أن يختطف لقمة من فم طفل؟
ثمّ، هناك تشيز كيك أمام الرجل تسيل على جانبيها طبقة كثيفة من الكراميل، مع بِسْكوتة شيكولاتة كتزيين، هذه ابتلعها القرد على قضمة واحدة، وترك الرجل يختبر عقله ويكذِّب عينيْه، أمّا المرأة الحامل، فلابد لها من مشروب مُغذٍ، وماذا أفضل من ميلك شيك مخفوقًا بالفراولة والموز، وماذا يفضّل القرد بأكثر من الموز؟ ها هو يتناول رشفة، فيغمض عينيه في استمتاع، ثم يشير لي برفع الإبهام أن ممتاز.
هتفتُ:
- يكفي! هذا يكفي! لا أستطيع أن أقاوم أكثر من هذا.
ثم انقضضتُ دُفعةً واحدة على حلوى الأطفال والرجل عجنتتهم في بعضهم وابتلعتهم في قضمتيْن، وأشفعتهم بمشروب المرأة على جرعة واحدة.
صرخ الأطفال في فزع، وشعر الأب بالإرتباك: هل يبدو بطلاً في أعين أطفاله ويضرب عمو الضخم الذي إبتلع طعامهم، أم يكون بطلاً حقيقيًا ويتحلى بالهدوء ليحميهم من عمو الضخم الذي فرّ حديثًا من مستشفى المجانين؟
تكفل النادل بالأمر، فهرع يصرخ بي:
- لماذا؟ لماذا فعلتَ هذا؟ لقد رجوتكَ ألاّ تفسد لي أكل عيْشي!
وراح يدفعني بعيدًا عنهم، ثم استدار إليهم يعتذر وأمر مساعده بتعويضهم فورًا، لكن الأب الحكيم آثر سلامة أطفاله، وأسرع بهم إلى الخارج، لكنه نسي المرأة الحامل خلفه، فخفّت بأسرع ما استطاعت خلفهم، وهو ما ظل بطيئًا فبدت مثل بطريق حامل يركض، إذا ما كان البطريق يحمل! علت ضحكاتي بينما أرقبها على خلفية من موسيقى البطريق الشهيرة في عقلي!
نزلَت الطلبات الجديدة على المائدة الفارغة، فخففتُ إليها وجذبتُ مقعدًا، قال لي النادل ثائرًا:
- أيعجبكَ هذا؟ هذا آخر يوم لكَ بهذا المقهى.
رفع القرد رأسه من أسفل المائدة مختلسًا ضحكاتٍ بصوت أشبه بالزقزقة، قلتُ بفم ممتلئ:
- لماذا؟ أنا سأدفع.
غادَرَ ولا يزال يتحدث:
- إذا رأيتُ وجهكَ ثانيةً فسأجعل صاحب المقهى يُعيّن رجل أمن..
ثم استدار وأكمل:
- بنفس وزنك!
ضحكتُ عاليًا، وقلتُ:
- بنفس وزني؟ فلماذا لا تُعيِّنّني أنا؟!
سمعتُ صوت الزقزقة من جديد، فأدركتُ أن الدعابة راقته، وإن لم أهتم الحقيقة، ولا حتى بغضب النادل،
لكن ما يشغلني حقًّا هو الجوْع..
ملعون الجوْع،
ملعون الشَرَه،
والوحش القابع في أمعائكَ ملعون!
لولاه لما كسبتَ وزنكَ..
لولاه لما خسرتَ نفسكَ..
وما أصبحتُ مثل الكُرَة لولاه..
مثل بالون مثقوب، مثل ثقب أسود، مثل قط ناكر، مثل شيطان كافر، لا يعبد أحدًّا سوى كرشه!
لكن هذا ليس أنا،
هذا هو،
أشعر به..
أنا لستُ بخير..
أنا بحاجة لمساعدة...
لكن القرد يُظهِر رأسه، ويهزّها نفيًا، يدوّي رنين الرسائل فأنظر فإذا بالرسالة من ذات الرقم السرّي:
" أنتَ بحاجة إلى محشٍ."
أنظر للقرد فيومئ موافقًا، وأسمع وسوسةً في أذني اليسرى أن: "كرنب.. محشي كرنب."
أحكُّ أذني، أنفضها عنّي، فتسري في أذني اليمنى أن: "باذنجان.. محشي باذنجان.."
لكنني أنفض رأسي بشدّة، وأهتف:
- لا أحبّه أيها السخيف؛ لا يُقارَن بالكرنب.
أهمُّ أن أغادر، ولكن حسينًا يستوقفني:
- إلى أين؟ الحساب.
أخرجتُ له النقود من محفظتي، فالتقطها في جشع وقال:
- ليس هذا فقط، وإنما ستغسل المواعين أيضًا.
كدتُ أُبعِدَه وأمضي، ولكنّي قدّرتُ أنني لازلتُ أحتاجه لتنفيذ الخِطة، فتبعته مُرغَمًا.
هالتني أطنان المواعين، في مقهى يزوره زبونان! فشمّرتُ ساعدي وعمِلتُ بهمّة، إذ لا أطيق التأخير، فعندي موعد في مطعمي الأثير، مع محشٍ وحمام، وكل ما يدبُّ ويطير!
~
على العكس من المقهى الذي يُشعركَ أنك خارج مصر، فإن المطعم يُشعركَ أنك داخل بيتكَ بالضبط، ربما بيت جدتكَ كذلك..
ورق الحائط على الجدران، الأرائك الخشبية ووسائدها المُزركشة، الشبابيك الخشبية بالقُلّة على الحواف..
تيتة.. هل أنتِ هنا؟
أم أنتِ بالمطبخ تسوّين المحشي؟
لا عَجَب أن أثار هذا المطعم إعجاب جلال، ثم عرّفني إليه ليصير مطعمنا المُقضَّل من أول مرّة، إن أساليب التسويق به تُدّرِّس:
جو حميمي يغريك بالجلوس، ذكريات بالأرجاء تحرّك الحنين، لا ساعات تذكرك بالزمن، لا هواتف تذكرك بالمواعيد، ولا مرايا تذكرك بالحجم.
إنفاق لا يُذكَر على الديكور مقارنةً بالمقهى ذي المداخن التي يمرح فيها بابا نويل، ولكن انظر إلى الأثر: أيهما فارغ وأيهما لا يسمح بدبيب القدَم؟
فقط أنت، والطعام، وأمثالك من عاشقي هذه النِعمة.
ثمّ الطَعْم.. لو أنهم يضعون لنا مُخدّرات بالأكل، لما أدمنّاه بهذا الشكل!
أتطلع حولي وأضحك؛ كل الموائد تحوي رجالاً ونساءً من الوزن الثقيل، كلهم يأكلون بسلام من دون أن يحكم عليهم الآخرون، لأنهم مثل الأولين، سمينون، وحيدون، يأكلون بشَرَهٍ دون أن يرفعوا رؤوسهم عن الصحون، ومثلي كذلك.. بمجرد أن تأتي الصحون.
مهلاً،
أليس هذا جلالاً؟
ومَن هذه الحسناء معه؟
أصيح:
- يا جـــــلال!!
ينتبه، فيبدو عليه الإرتباك على الفور، يستأذن منها ويأتيني فأبادره:
- هل هذا هو موعد العمل؟ وجه جديد هاه؟
يُسكتني بسرعة:
- ششش! يا أخي لماذا تصيح؟ هل أنا أساعدكَ لتخرج مع فتاتكَ، وأنتَ تُفسِد عليّ خروجتي مع فتاتي؟
- لم تخبرني ـ يعني ـ أنكَ غيرتَ الفتاة؟
يعاود إسكاتي بحنَق، وكأنني منبّه الصباح، أمد عنقي من خلفه أطالع الفتاة: سمراء ممشوقة مثل زجاجة الكوكاكولا... أدفعه بقبضتي قائلاً:
- تحتفظَ بوضعكَ يا صديقي، قل لي: هل تعجبكَ؟
- جدًا، لو ترى كيف تنقر الطعام نقرًا مثل العصفورة!
أضحك:
- هنّ تبدأن هكذا، ثم تتحولن إلى الحفّ بالمغرفة من قعر الحلّة، اسألني أنا.
يسألني ساخرًا:
- تتحدث مثل خبير، ومن أين اكتسبتَ خبرتكَ بالنساء يا تُرى؟
يصيبني سؤاله بالكسرة، فأقول:
- هل نسيتَ صديقكَ البطل الرياضي الذي أوقع نصف بنات الجامعة في سابق عهده؟
يربّت على كتفي:
- لم أقصد يا صديقي.
ثم يتذكّر:
- لم تطمئنني على سير الخِطّة، هل أوقعتَ عصفورتكَ؟
- لازالَتْ على الشجرة.
- ماذا؟ لا يمكن أن تفشل خطّتي!
- ليست خِطتكَ، وإنما أنا النحس، إنها لم تأتِ اليوم.
- بسيطة، مصيرها ستأتي، وأين ستذهب من قدَرها؟
يقولها ويضع يده على كتفي مستعدًا للرحيل، ومضيفًا:
- سأذهب كي لا تطير عصفورتي أنا!
وهي اللحظة التي نزلَتْ فيها الأطباق إلى طاولتي، مستحوذةً على كامل اهتمامي، فاكتفيتُ بأن أشرتُ له بيدي أن ليذهب إلى الجحيم! وعكفتُ على الأطباق لم أرفع رأسي عنها... وبرغم اندماجي في الأكل الذي طال توْقي إليْه، إلاّ أني لم أكف أفكّر فيها.. فعصفورته جميلة نعم، لكنها لا تُقارَن بعصفورتي...
تلك التي أوّلها: أن تراها في مقهى،
فتشغل كيانك،
وتأسركَ.
تلك التي آخرها: أن تراها في أحلامكَ،
فتظنّكَ كرة،
وتركلكَ....!
وبين أوّها وآخرها: ضائع أنتَ!
أقلّد جلالاً: بسيطة، بسيطة. أضحك، أشرَق، أقضم، أنهش، أوصل الطعام بالطعام، أحشر مزيدًا من الزاد، أرفع وجهي عن الطاولة إلى خارج المطعم رأسًا.
يناديني جلال من خلف ظهري:
- انتظر، لنرحل معًا!
لا أُجيب، أتابع المسير، إن الذين حضروا وحيدين، يجب أن يرحلوا وحيدين! أخطو شاعرًا بالإتساخ، مُلوّثًا ببواقي الطعام، مُلطّخًا بالعار، بالخزي، بالخذلان، وبالندم، ذلك الذي يعقُب النَهَم.
لقد أكلتَ حتّى الإمتلاء، فلماذا تشعر بالخواء؟
لقد أكلتَ حتّى خشب الطاولات، فلماذا غيْر راض؟
لقد أكلتَ كل ما تتمنى، فهل هذا وجه من تحققت له الأمنيات؟
أجرجر ساقيّ خارج المطعم، ولا أدري إلى أين أزجّ بهما! لقد انقضى اليوم بعد كل الصَخَب، ولا أرغب بالعودة إلى المنزل.
مهما استهلكتُ من وقت، سأذهب بالنهاية إلى البيت الفارغ مثل قلب محبوب قاسٍ، فعلتَ كل شيء لترضيه لكنّه يظل جاحدًا، مثل مقهىً هجره الناس في يوم ماطر، وعصفت به الريح من كل جانب، مثل عربة تسوق رجل ليس مسموح له بإقتناء الحلوى، ولا عنده طفلان يملآن العربة.
مهما استهلكتُ من وقت، لازال لديّ المزيد لممارسة الوحدة، والندم على كَبْس المعدة، وجلد الذات، على خلفية من خيالات عن كيف كانت حبيبتي في حِضني، ثم أنجبت طفليْن من آخر، وكيف كانت الموناليزا تنظر لي، وأنا أخطف حلواها أمام الأشهاد، وكيف كنتُ بطلاً رياضيًا لا أُقاوَم، وتحولتُ إلى كرة يتناقلها الأولاد.
مهما استهلكتُ من وقت، لازال الوقت هو الذي يملك الكلمة العليا، هو الذي يُمسِك بخيوط الدُّمية، ويشكّلني ككائن استهلاكي، مدمن على الأكل، مدمن على الشراء، مدمن على الحياة، مهما استهلكتُ من العمر، لا أرفض دقيقة أخرى.
أحشر جسدي خلف مقوّد السيارة، لا تعاتبيني يا لورا، لا أتحمّل هذا الثِقَل فوق أكتافي أكثر، لا هو يحلَّ عنّي، ولا أطيقه دقيقة أخرى.
لا تغضبي منّي، سأدير الأغنية التي تحبينها خصيصًا من أجلك، أغنية طوني الذي أحبَّ لورا من قلبه، ولم يكف يردد: "اخبروا لورا أنني أحبها"، وذلك ـ كما تعلمين ـ لأنه لم يعد موجودًا ليخبرها بنفسه.
اعذريني، ألّم أستطع أن أمتنع عن الطعام، إنه المتعة الوحيدة الباقية لي، كما لا أتحمل سوْط الندَم على كل مرة حصلتُ فيها على المتعة.
وكوني حنونة عليّ، قولي: وحيد، لم يكن يرغب في أن يذهب إلى بيْت فارغ مثل قبر إذا فُتِح لن ينغلق على لا شيء!
مسكين، أراد أن يحيا ولكن الحياة وضعته بين خياريْن أفضلهما قبيح مِثل وجه القرد: إمّا أن يحيا مع ثِقَل، أو يحيا بلا متعة، فوجد أنه خاسر/خاسر، وهي النتيجة التي كان ليقبلها لو لم يكن هناك خيار ثالث.
قولي: شُجاع، لم يجلس ينتظر الوقت ينقّطه بدقيقة بعد أخرى من عمر مُرّ. لمعَت الفكرة بذهنه مثل لمبة جاز، أو مثل جثّة تحترق بالجاز، أو مثل ضوء في نهاية النَفَق، لا يصله إلاّ من خلال القبر.
ألوي مقوّد لورا بعنف نحو عامود إنارة، تذوي الأضواء بالعامود، بالشارع، بالعالم.. ويشعّ بها جسدي مثل لمبة جاز، مثل جثة تحترق بالجاز، مثل ضوء بنهاية النفق، محفور بقبر، ولا تزال الأغنية تردد:
"لا أحد يعرف ما حدث ذلك اليوم،
كيف انقلبت سيارته وسط النيران،
لكن إذ يسحبوه من الحطام المتجعد،
ومع أنفاسه المحتضرة، سمعوه يقول:
اخبروا لورا أنني أحبها."
~
يُتبَع..


MooNy87 غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 16-03-22, 10:43 PM   #6

MooNy87

مشرفة منتدى عبير واحلام والروايات الرومانسيةومنتدى سلاسل روايات مصرية للجيب وكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية MooNy87

? العضوٌ??? » 22620
?  التسِجيلٌ » Jul 2008
? مشَارَ?اتْي » 47,927
?  مُ?إني » واحة الهدوء
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » MooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   7up
¬» قناتك mbc
?? ??? ~
لا تحزن ان كنت تشكو من آلام فالآخرون يرقدون
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي


– الجزء الخامس–
ألوي مقوّد لورا بعنف نحو عامود إنارة، تذوي الأضواء بالعامود، بالشارع، بالعالم.. ويشعّ بها جسدي مثل لمبة جاز، مثل جثة تحترق بالجاز، مثل ضوء بنهاية النفق، محفور بقبر. ولا تزال الأغنية تردد:
"لا أحد يعرف ما حدث ذلك اليوم،
كيف انقلبت سيارته وسط النيران،
لكن إذ يسحبوه من الحطام المتجعد،
ومع أنفاسه المحتضرة، سمعوه يقول:
اخبروا لورا إنني أحبها."
~
أفتح عيني على القرد الذي ينفطر بالبكاء، وما إن يرى عيني المفتوحة حتى يرقص في موضعه مبتسمًا قابضًا ذراعيه قرب جسده، ومصدرًا أصوات يصعب تفسيرها سوى بأنها صيحات سعادة، أفهم سرّ الإلهام للأغنية الشهيرة "رقصة القرد"، وأرى سعادته في عينيْه، مما ينقل إليّ عدوى الابتسامة.. أدير عيني في المكان بوهن، إنه مشفى، مشفىً أبيض، مشفىً بارد، مشفىً كبير لا ينتظرني به احد سوى هذا القرد الطيّب.
أغمض عيني وأتذكّر ـ آخر ما أذكر ـ لورا المصطكة بعامود إنارة، والكاسيت يصدح بطوني الذي يحب لورا، والقرد.. القرد ينتشلني من أنقاض لورا، وبينما يلتم المارة لا يجرأون على الاقتراب، يسعف القرد قلبي والرئتيْن، وبين الحياة والموت، بين أول النفق وآخره، تتساقط عليّ دموعه فأظنها السماء التي تمطر مؤذنةً بحضورها...
تلك التي لا تفارقني في صحوٍ أو موْتٍ..
تلك التي لا تقابلني في مطر أو قَحْط..
تلك الرسمة في اللوحات، تلك الثيمة في الأغنيات، تلك البطلة في الروايات..
وأنا الذي.. على هامش الحياة، لستُ بطلاً في حياتي، ولن أكون بطلاً في رواية، أما وإن حدث، فإن كاتبي لن يحبّني، لن يجعل لي مشاعر تحس، لن يجعل لي وليفًا أو طفليْن، وسيجعل أمّكَ متوفاة، ولربما لن يمنحكَ حتّى اسمًا، إنّ اسمكَ لا يهمّ، حزنكَ لا يهمّ، وكل ما يهمّ أنّكَ مدّور مثل الكرة، وسيجعل لكَ قردًا!
قردي..
لا يُشبهني سوى القرد..
وقد اختلطَتْ مشاعري تجاهه، وبدأتُ أشعر برابط خفيّ معه، وقد صرنا قرينيْن..
مثل رجل وقرينه،
وظلّه،
وانعكاسه..
مثل توأميْن في القُبح، والبؤس، والبدانة.
مثل الأصل والصورة، خلطهما الساحر عدّة مرات، ثم بسطهما أمامكَ: أيُّهما الأصل، وأيُّهما الصورة؟
أو مثل القرد والقرداتي..
يجدانِ في بعضهما الكفاية؛ يجدان الأُنسَ والرعاية.
أطالعه بطرف عيني بينما يجلس بالركن يهرش شعره مطمئنًا.. إنّه كل ما لي،
حتّى وإن كان ما لي وهمًا،
أو ليس هنالك..
مثل عيْن الأعمى،
أو والد اليتيم،
أو زوج الأرملة..
حتّى وإن لم أعوِّل عليه حقًا،
ولكن هذا ليس ذنبه،
وإنما نصيبي،
وعلى المؤمن الرضا.
~
يأتي جلال يسعى صائحًا:
- يا أخي! لا عمل لكَ إلاّ إثارة قلقنا! ماذا حدث؟
وما إن رأيتُه حتى انهار غلاف الصلابة الذي لفّقته حولي، وأجهشتُ بالبكاء، فالرضا ـ كما سيدة الأمطار ـ بعيد جدًا عن المنال، قلتُ من بين نحيبي:
- إنني لستُ بخير يا جلال، إنني كدتُ أُزهِق روحي، إنني أرى مسخًا، وبدأت أحب المسخ يا جلال.. لستُ بخير، لستُ بخير.. احجز لي موعدًا مع الطبيب النفسي في الحال.
هاله رؤيتي بهذا الشكل، فربّت علىّ مُهدِّئًا:
- حسنًا، حسنًا، إهدأ أنتَ ونم، سأطمئن عليكَ من الأطباء، وصباحًا أحضر لأقلّكَ إلى الطبيب النفسي.
ويبدو أنني ـ من قبل أن يُكمل الجملة ـ كنتُ قد استغرقتُ بالنوم.
~
بالصباح، يدلف جلال برفقة الطبيب متضاحكيْن، وما إن يراني الطبيب حتى يسألني ـ عوضًا عن صحّتي ـ عن جلال:
- ظريف جدًا صديقكَ هذا، هل هو مَرِح دائمًا هكذا؟
ثم يلتفتُ إلى جلال:
- وماذا تعمل يا سيّد جلال؟
- يمكنكَ أن تعتبرني مدير مبيعات.
أصححه:
- بل مندوب مبيعات.
يلتقط الطبيب الخيْط على الفور، ويستخرج من جيْبه قلمًا يبسطه إلى جلال سائلاً:
- جيّد، فهل يمكنكَ أن تبيعني هذا القلم؟
يهز جلال رأسه لا مباليًا:
- إن هذا السؤال قديم، بل أنا أسألكَ: هل يمكنكَ أن تبيع قلمًا لشخص أميّ؟
ينتبه الطبيب مُفكرًا:
- مثيرٌ للاهتمام... وكيف ذاك؟
يقول جلال:
- بسيطة، إذا أمسك الأميّ بالقلم، فكيّف تميّزه عن أعلم العلماء؟
يربّت الطبيب على كتفه ضاحكًا:
- ممتاز! ممتاز!
يُخرج جلال من جيْبه بطاقة ويمنحها للطبيب قائلاً:
- مع الأسف أنا على عجلة الآن، لكن يمكننا أن نعمل "بيزنس" جيّدًا معًا.
يتناولها محاولاً إستبقائه:
- ولماذا العَجلَة، لازال الوقتُ مبكرًا!
ألوي فمي في امتعاض وأقول منبهًا:
- يا دكتور! إنني أنا المريض، ماذا عنّي أنا؟
يشيح بيده قائلاً:
- أنتَ اخرج؛ ليس بكَ شيئًا.
يضحك القرد، ثم يصمت حين أحدجه بنظرة لوْم. وألتَفِت للطبيب قائلاً:
- هكذا فقط؟ لا كشف، لا علاج، لا أدوية؟
- لا تكبّر الموضوع، حادثة بسيطة!
"حتّى أنتَ يا دكتور!".. أكتمها في قلبي
، ولا أنظر إلى القرد الذي يهسهس بالضحك.
~
يقودني جلال إلى سيارته، فأسأله:
- ماذا عن لورا؟
يهزّ رأسه نافيًا، ويبحث في هاتفه عن شيء ما بينما يقول:
- سأرسل لكَ صورتها، أنا لا أصدّق أنكَ خرجتَ منها سالمًا، هل أمّنتَ عليها؟
- لا، هل تعني أنها....
لكنه قاطعني مُشدّدًا على كلماته:
- كم مرة أخبرتكَ أن تفعل؟ وأنت تظنني أتربح منكَ، فهل أنت سعيد الآن؟
لكنني كنتُ في عالم آخر، أتفحص صورة الحطام التي أرسلها لي وأقول:
- راحت لورا؟ قتلتُها بيديّ...! وقد صرتُ وحيدًا تمامًا الآن؟
لكنّه يردد كالعادة:
- بسيطة، بسيطة، غدًا تعوّضها إن شاء الله!
لكنني صرختُ بوجهه:
- من أيــــــــــن؟! وهل أنا مثلكَ أكنز الأموال لآخذها معي إلى القبر؟ إن أقصى ما أفعله أن أدس الطعام في المرئ يدفع الذي بالمعدة يدفع الذي بالأمعاء إلى حيث تعرف أين. إنني أرمي أموالي ـ حرفيًا ـ على الأرض.
يقاطعني منفعلاً:
- ثم تأتي لتصيح بوجهي على فعلتكَ تلكَ! أخبرتكَ عن الدكتور نور ولكنكَ أنت الذي تريد أن تبقى كما أنتَ.
- فقط، قُد في صمت.
وأدرتُ رأسي بائسًا إلى الشبّاك الذي تضبب بالقطرات، لا أظن بأني كنتُ بائسًا إلى حد البكاء، فمن أين جاءت تلك القطرات؟
أدرتُ رأسي إلى جلال مستفهمًا:
- هل ترى ما أراه؟
فضحك وأعمل مسّاحات السيارة:
- إنها تُمطر.. هنيئًا لكَ يا صديقي، أدامَ الله موجة الطقس السيء ـ فوق رؤوسنا ـ لأجلكَ! إن الحظ يهادنك أيها المنحوس، كما وأنه فأل حسن بصلاح الحال!
- يارب يا جلال! يــــــارب!
واستغرقتُ في الدعاء.
~
بعيادة الطبيب النفسيّ، ومنذ الخطوة الأولى، تطالعني مظاهر الفخامة والبهرجة المبالَغ بها من غيْر داعٍ، مَنظَرَة يمكنها أن تصيب الأصحّاء بالإكتئاب، فكيف بالمرضى النفسيين؟! وأشعر أني بحضرة رجل أعمال وليس طبيبًا، أو هو رجل أعمال يستخدم الطب النفسي لغسيل الأموال! على أيّ حال...
اجلسني الدكتور سرور إلى مكتبه، وأصغى إليّ ممسكًا بالقلم وكأنما يدوّن خلفي، لكنّه يتكّ بالقلم أكثر ما يدوّن، ثمّ لما فتح فمه أخيرًا قال:
- نظرية القرد.
- عفوًا؟
ضممتُ معطفي على جسدي! منذ دلفتُ إلى العيادة وأنا أشعر ببرودة لا أعرف سببها، لكني عرفتُ أنها ليست برودة الجو، فقد جئتُ من الأمطار للتو، كما ليست برودة المستشفيات والموت، فقد عدتُ من كلاهما بالفعل.. لكنها برودة ذات شخصية مستقلة بها. فسّر حديثه مُلغِزًا أكثر وقائلاً:
- كيف بدأ القرد؟
- لا أفهمك.
تكّات القلم المزعجة، وتكّات الساعة العالية لا تفارق أذني، فضلاً عن صليل البناديل التي لا يكفّ يضرب أولها، فيتحرك آخرها رادًا الصاع صاعيْن! كيْف يسمعني، أو أسمعه كيْف؟ ثم يدير سيمفونية لبيتهوفن ـ وكأنما ـ للتهدئة! ويقول:
- يجب أن تركّز قليلاً معي، هذا القرد هو أنتَ.
وقبل أن يصعد الدم إلى رأسي، وأكيل له السُّبّة بألف، كان قد أدار مقعده ـ كما في الأفلام ـ للخلف، وقال:
- كيف بدأ قردك الخاص؟ أبدأ بالمقهى حين رأيتَ المرأة الحلوة، أو قالَب الحلوى؟ أبدأ بالمتجر حين قابلتَ حبيبتكَ السابقة، وطفليها؟ أبدأ في ألبوم الصور ليلتها، أم مرآة السيارة، أم بدأ داخل عقلكَ حين تركتَ الحياة تمضي بغير خطّة، ثم أفقتَ فجأة، لتجد الآخرين قد صنعوا حياتهم، وأنت وحدكَ وسط شحمكَ بلا حياة.
أقول بصوت واهن:
- لماذا تصرّون جميعًا أنني بلا حياة؟ إن عندي عملي، وأسرتي، وأصدقائي، و....
يقاطعني:
- لسنا نحن الذين نصرّ، وإنما أنتَ.
أستنكر:
- أنا!
- عقلكَ الباطن. ألم تحدّثه بهذا من خلال مرآتكَ؟ ألم يصوّركَ كالكرة في أحلامكَ؟ ألم يدفعكَ للتخلص من حياتكَ؟ فهو أيضًا الذي دفعكَ لتلفيق قرد.. مقاسكَ بالضبط، حتّى ملامحه الممسوخة تشبه ملامحكَ الضائعة في ثنياتِ شحمك! كما يُشبهكَ في طبْعكَ، يشتهي ذات الأصناف من المأكولات، يعمل على إمدادكَ بالسعرات، يخطف لك الحلويات، ويسمِّم من يجرؤ أن يأخذ طعامكَ، حتّى وإن منحته لكَ بيديْك.
أبتسم بسماجة:
- ولماذا قرد؟ لكنتُ تصورتُ غزالاً أدق، إنّه حتّى يُقال: "القرد بعيْن أمه غزالاً"، أليس كذلك؟
- لأن الإنسان أصله قرد.
أستسخف القوْل:
- أنا أرفض هذا الطرح.
- لترفضَ كما شئتَ، ولكنّ عقلك الباطن يقبله بالحرف.
أهزّ رأسي في إنكار:
- وهل أنا الذي ألقيتُ قشرة الموز أمامي، وكسرتُ ساقي؟
- لقد قلتَ بأنكَ احتفظتَ لنفسكَ بقليل من الفاكهة، أرجّح أن الموز كان من بينها.
- نعم، ولكن....
تصيبني إجاباته بالدوار، أثبّت رأسي بيديّ، وأسأل:
- وهل أنا الذي سمّمتُ البواب، أيضًا؟ هل تريد أن تجعل منّي قاتلاً؟!
- ولماذا تستغربُ هذا، وقد حاولتَ قتل نفسكَ، فهل ستُبقِى على حياة الغرباء؟
يقشعر بدني، أشعر بالغثيان، ويغزوني رعبًا خالصًا لم أختبره في حياتي الماضية، أن أتصور ـ ولو باحتمال واحد بالمائة ـ أن ما يقوله هو أنا، أسأل بصوت كسيف:
- وهل أنا الذي قتلتُ محبوبتي لورا؟
ينتبه للاسم، فيسأل:
- ومَنْ لورا هذه؟ لم تخبرني عنها.
أقول دون أدنى تردد:
- هذا لأنكَ لا تملك أدنى فكرة عن مشاعر البشر، فكيف بالجمادات؟
ثم أستخرج صورة لورا على الهاتف، وأضعها في وجهه صائحًا:
- انظر، هذه لورا، فهل أنا الذي أخرجتُ نفسي من حطام مُندَكّ بهذا الشكل؟
يقول بتلقائية:
- لقد خرجتَ سليمًا بلا خدش! فمن قال أنكَ كنتَ بالداخل بالأصل؟
هذا جنون! يريد أن يجعل منّي مجنونًا، فما الذي كنتُ أتوقعه من طبيب مجانين؟ إجاباته كلها حاضرة، أفكاره مُرتَّبة، متى استطاع أن يحلل ويفنّد كل هذا، أم أن أحدًا لقّنه!
وفي وسط الضباب، يزورني طيف الفتاة التي أمنّي نفسي بلقائها اليوم، أهدأ لمجرد تصوّرها، وأقول:
- دكتور سرور، هل يمكنني أن أسألكَ سؤالاً؟
- تفضّل.
- كيف يمكنني أن أحب فتاة في جمال القمر، وأنا صورتي عن نفسي أنني قرد؟
- لستَ أنتَ الذي تحبّها.
- فمَنْ؟
- عقلكَ الباطن!
أتحول من الهدوء إلى أقصى الإنفعالات مرددًا:
- عقلكَ الباطن! عقلكَ الباطن! تقولها وكأنما الخبير ببواطن الأمور، وكأن معكَ صكّ الغيْب الخامس! تقولها وأنتَ تعلم أنه لا يُرَى ولا يُمَس، ومهما ذكرتَ عنه فلن يفتح فمه ليقول: "كاذب."!
لم ينفعل ولا مرّة، وإنما منحني نظرة باردة جعلتني أدرك من أين تنبع البرودة بالغرفة، وقال متساخِفًا:
- وهل سأعمل عقلي بالعقل الباطن؟
ثمّ أدار القلم بين إصبعيه بينما يحدّق في عينيّ بثبات للحظات، ثم أشار به تجاهي وقال:
"من الواضح أنك إنسان مثقف ومتعلم، لذلك سأتكلف أن أشرح لكَ نظرية القرد: لستَ وحدكَ الذي عندكَ قرد، بل كلّ منّا له قرده الخاص الذي يعيش بداخله، بعضنا يسيطر على قرده مثل القرداتي، فيسليه ويلاعبه، وبعضنا يعتليه قرده فيفلِّيه ويركبه، بعضنا يصادق قرده فيحرسه مثل ملاك رحيم، بعضنا يتلبسه مثل شيطان رجيم.. بعضنا يجثم قرده على صدره مثل الجاثوم، يكتم أنفاسه ويشل حركته، وبعضنا يحرره قرده مثل طرزان، فيُطلق القوى الكامنة بداخله.
بعضنا يعرف قرده ويتعامل معه، بعضنا يعرف قرده ويتعامى عنه، أمّا أغلبنا فهو يجهل قرده أو أدنى شيء عنه، يعيش ويموت لم ينظر مرّة إلى نفسه نظرة ثاقبة، ليعرف قردها، أو ما بها.
بعضنا يزامن قرده، بعضنا يذوي لصالحه، وبعضنّا يؤقّت قرده، فيستخرجه عند حاجته، في مناسبة إجتماعية صاخبة، أو تملق مدير، أو حسناء تافهة.
بعضنا يكتفي بقرد، بعضنا يُثنّي ويُثلّث، وبعضنا يهوى جمع القرود كما الطوابع، والشاطر مَن يجمع أكثر.
وهناك فصائل من القرود أكثر من أن أحصيها، هناك القردة الثلاثة الحكيمة: الذي لا يسمع، ولا يرى، ولا يتكلم بالشّر، هؤلاء يسكنون رجال الخيْر، هناك قرود الإدارة الخمسة، الذين انهالوا ضربًا على القرد المبدع الذي أراد إزالة العائق وأكل الموزة، هؤلاء يسكنون رجال الروتين والأختام، هناك قرد الفراعنة البابون الذي يسجّل بالقلم عند وزن القلب أمام ماعت، هناك قرد الهندوسية البطل الذي قطع البحور لينقذ زوجة الإله، هناك قرد المُختبَر الذي طالما يقفز في القفص فإن البشر بخير، هناك قرد المكّوك الذي طالما عاد من الفضاء فإن روّاد الفضاء سيعودون، هناك قرد الأسطورة الذي مخلبه يحقق الأمنيات على نحو يجعلك تتمنى لو لم تتمناها من الأصل، هناك عائلة القردة المرعبة: الغوريلا، والياتي، وذو القدم الكبيرة، هؤلاء يتلبسون المجرمين والسفّاحين والقَتَلَة، وهناك قرد التطور المبدع الذي لو تُرِكَ إلى بيانو ملايين الأعوام، لأنتج مقطوعة لبيتهوفن، كالتي تسمعها الآن."
أسمعه بطول بال، وحين ينتهي أخيرًا أسأله سؤال واحد:
- هل هذه نظرية في علم النفس؟
- ليست كل النظريات في الكتب، هذه نظرية من إبداعي المحض.
أضحك ملء فمي ساخرًا:
- عرفتكَ، أنت قرد بيتهوفن.
تضايقه الكلمة، ألمحها في عينه، لكن لا تتغير نبرته:
- أنا لا أفهم لماذا تناهضني! أنا هنا لمساعدتكَ، أضع الحقيقة أمام عينكَ ولترى ـ أو لا ترى ـ ما يُعجِبك! لماذا لا يظهر القرد إلا حين تبدأ الحِمية، ولا يظهر وأنت تحف الطعام بالمطعم؟ لماذا يسعفكَ في حين تبقى المارّة تشاهدكَ؟ لماذا يهتم بأكلكَ؟ هل هو أمكَ؟ أم أن طعامك يُغذِّه، كما أن أنفاسكَ تُحييه، هل تعرف لماذا؟ لأنه أنتَ.
أسأله بذات المنطق:
- ولماذا أخترع قردًا يبقيني على قيْد الحياة، أليس أسهل ألاّ أنتحر من الأصل؟
يلوي عنقه عنّي، كمن ملّ هذا الحديث، ويقول:
- متلازمة منشاوسن! كسب التعاطف، الإضطراب المُفتَعَل! سأمرض وأنتم عالجوني واعلموا كم أني بحاجة للرعاية، سأقتل أحبّائي وأنتم واسوني واعلموا كم أنا بحاجة للتعاطف، سأنتحر، وأنتم انقذوني، واعلموا كم أنكم مقصّرون بحقي، وأنّي قد أرحل في ثانية، فالتمّوا حولي، فأنا مُرهَف، ورقيق، وجميل....
ثم يستدير بحدّة ويواجهني بالقلم في عيني:
- هذا لو افترضنا أنكَ كنتَ بالفعل داخل السيارة.
أسرح مع القلم للحظة، ثم أسأله بهدوء:
- دكتور سرور.. هل يمكنكَ أن تبيعني هذا القلم؟
- عفوًا؟
أستدرك:
- آه، عذرًا، هذا سؤال قديم، لأن السؤال الحديث هو: كيف يمكنكَ أن تبيع رجلاً جاهلاً قلمًا؟ والإجابة هي: مستحيل، لأنه حتى لو أمسكوا الجاهل قلمًا وأجلسوه إلى مكتب وقِرطاسيّة كاملة سيظل جاهلاً، وأنتَ لا تفقه شيئًا عن نفوس بني الآدميين.
ثم أغادر على الفور.
أهذا دكتور سرور هذا؟
هذا دكتور عذابٌ مرير!
~
أنزل أتصل بجلال كي أهينه على إرسالي لهذا، لكن لحسن حظه لا يوجد شبكة بالمصعد، وحين أخرج إلى الشارع أكون قد نسيتُ الأمر، فبهاء الأمطار قد طغى على الكوْن!
رسول العشّاق، سفير الشوْق، من أعالي السماء إلى وجهكَ على الفوْر، هذا حديث عهد بربِّه، وحديث عهد بالعباد، لم يعرف الخداع، لم يجرِ على وجوه منافقين، أو آثمين، أو بؤساء، ولا حسناوات حزينات تعلّقن القلوب بحسنهن الحزين، ثم تختفين، فهل ستأتي اليوم؟
~
أعود للبيْت، في البداية والنهاية كان البيْت، ويبدو أنه كما الموت، شرّ لابد منه، ولكنه لن يبقى خاليًا للأبد، وهذا وعد.
أتحمم، أتأنق، أغسل عني رائحة المستشفيات وأستبدلها بالعطر... ألمح نفسي في المرآة، فأحدّق حينًا، ثم أغضُّ الطرف..
هل أنا قاتل بحق؟
هل أنا مريض نفسيّ؟
هل يَصدُق دكتور عبوس هذا في نهاية الفيلم؟
~
قبل أن أخطو إلى الداخل، يطالعني النادل بتحفز، ويهتف:
- لا! أنتَ ثانيةً لا!
لكنني خطوتُ بشكل عاديّ قائلاً:
- لا تقلق يا صديقي، سأكون مهذبًا اليوم.
- تقول هذا في كل يوم.
- هذه المرة سأتناول المولتن كيك المُفضَّلة، حتى يهدأ القرد ولا يُفسد عليّ الخطّة، وسأُنفِّعكَ، هات لي كل ما تريد، هات كل ما عندكَ، ولكن سريعًا قبل أن تأتي الحلوة.
وأغمز بعيْني فيبادلني الغمزة فيما بدا كالشماتة:
- الحلوة؟! لا، لن تأتي الحلوة.
أنتفض للكلمة:
- ولماذا؟
يسألني:
- أتراهنّي؟
- فقط قُل لي: لماذا؟
- لأن الذين حضروا وحيدين، يجب أن يرحلوا وحيدين يا مستر لونلي.
أهتف منفعلاً:
- يا أخي كفّ عن هذا! ومَنْ الذي أوجّب هذا يا غراب البيْن؟
يقول بشموخ:
- أنا: حُسيْن!
- ومَنْ أنت حتى تضع القوانين؟ عضوًا بالبرلمان؟ في لجنة الخمسين؟ لقمان الحكيم؟
يهز رأسه الأشعث، فتهتز خصلاته المُلتفَّة، ويقول في مراوغة:
- إذًا راهنّي، وأنا أخبركَ لماذا.
أقول في استسلام:
- أراهنكَ، فلماذا؟
- لأنها لا تأتي ليوميْن متتالييْن.
أهزّ رأسي في عدم فهم:
- أعرف، ولكنها لم تأتِ بالأمس، ولذلك فـ....
يقاطعني:
- ألم أخبركَ...؟
يَشدَه فمي:
- بماذا؟
- إنّها حضرَتْ بعد أن غادَرْتَ بالأمس.
يخرج صوتي كالنواح متسائلاً:
- كيف!
يتمثل خفة الظل، فيقلد خطوتها الرشيقة:
- هكذا!
أدفن وجهي في كفّي بينما أقول:
- كيف تخرج من دون علمي!
يتدخل في حديثي إلى نفسي:
- وهل هي زوجتكَ؟
فأبادله التحدّي:
- وهل هي زوجتكَ أنتَ؟ ولماذا لم تخبرني ومعكَ رقمي؟
- وكيف أخبركَ وأنا الذي طردتكَ بالأمس؟
فأتذكر ما فعل بي بالأمس، فيضرب الدمّ برأسي:
- يا ضلاليّ! وأنتَ الذي جعلتني أغسل أطنان المواعين وأنا لا أكاد أقف على ساقي المعطوبة يا عديم القلب! يجب أن تعوّضني عن هذا وترتّب لي موعدًا معها تبعًا للخطّة على أكمل وجه!
- لا بأس، إن جاءَت فإن المواعيد تنتظرُكَ معها، أمّا إن لم تجيئ، فإن المواعين تنتظرُكَ بالحوْض.
أومئ على مَضض، ثم أشيح بوجهي عنه:
- هيّا! اذهب فاحضر كل ما على القائمة بأسرع وقت.
غادَرَ بينما يخفض صوته بالعبارة:
- لا أدري أيّ مقهى هذا الذي يعمل فيه النادل للزبائن مرسال غرام!
فأعلي من صوتي ليسمع:
- هو نفس المقهى الذي يغسل فيه الزبائن للنادل الصحون يا حبّة عيْني! بِلا دَلَع ماسخ!
~
يُنزِل الصحون أمام عيني تزوغ عليها عيني..
ملعون الجوع،
ملعون الجَشَع،
والقرد القابع في أحشائكَ ملعون.
أنقضّ على الصحون أنسفها بمجرد النَظَر.. أيُّها القرد، هذا من أجلكَ أنتَ.
أغوص بالكرسي وأتمنى قيلولة، لكنّي إذ أتطلع إلى الخارج أهبّ، يزغرد قلبي ويتقافز بقفصه.. سيخرقه المُحِبّ!
أنادي النادل وأشير إلى الصحون المتناثرة وأقول:
- ارفعها بسرعة! بسرعة! لقد لمحتها تقترب.. لقد جاءت، جاءت...!
يُتبَع...!!!


MooNy87 غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 22-03-22, 07:44 PM   #7

MooNy87

مشرفة منتدى عبير واحلام والروايات الرومانسيةومنتدى سلاسل روايات مصرية للجيب وكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية MooNy87

? العضوٌ??? » 22620
?  التسِجيلٌ » Jul 2008
? مشَارَ?اتْي » 47,927
?  مُ?إني » واحة الهدوء
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » MooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   7up
¬» قناتك mbc
?? ??? ~
لا تحزن ان كنت تشكو من آلام فالآخرون يرقدون
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

– الجزء السادس –
يُنزِل الصحون أمام عيني تزوغ عليها عيني..
ملعون الجوع،
ملعون الجَشَع،
والقرد القابع في أحشائكَ ملعون.
أنقضّ على الصحون أنسفها بمجرد النَظَر.. أيُّها القرد، هذا من أجلكَ أنتَ.
أغوص بالكرسي وأتمنى قيلولة، لكنّي إذ أتطلع إلى الخارج أهبّ، يزغرد قلبي ويتقافز بقفصه.. سيخرقه المُحِبّ!
أنادي النادل وأشير إلى الصحون المتناثرة وأقول:
- ارفعها بسرعة! بسرعة! لقد لمحتها تقترب.. لقد جاءت، جاءت...!
يقول آسفًا:
- جاءت؟! يا ابن المحظوظة!
فأنظر له نظرة ظفر وأقول:
- أنتَ الآن رهن خدمتي؟
يحني رأسه ويقول في أسى:
- رهن خدمتكَ؟ وما الجديد؟ طوال عمري أخدم الجميع، ولم أحظَ بجديد.. لا كلمة عرفان، ولا بقشيش مُحتَرَم، ولا حتى ابتسامة على سبيل الصدَقة! أمّا أنا، فقد لُوِح فمي لكُثَر الإبتسامات الزائفة، وانحنى ظهري لكُثر التحيّات اللازمة، حتّى لقد كدتُ أنسى اسمي لكُثَر ما نادَوْني: "بِس-بِس"!
قلتُ:
- ليسَ هذا وقته يا بِس-بِس!
ثم استدركتُ بسرعة:
- يا سِحس! سٍحس! لقد تاثرتُ حتّى لقد تخيلتُ الكمان يعزف في الخلفية، ويبدو أن قرد متلازمة التعاطف الخاص بكَ قد ألحّ عليكَ!
يفتح فمه في بلاهة:
- ماذا؟
- منشاوْسن.. متلازمة منشاوْسن أيها الجاهل!
يردد مستنكرًا:
- سوْسن؟! ومَن سوْسن هذه؟!
تدخل عصفورتي إلى المقهى، فيرفرف قلبي في قفصه مثل عصفور حبيس.. تتخذ مقعدها بقربي، ولكن ليسَ بما يكفي، أريدها أقرب من هذا.. أريدها بحِضني.. لماذا هناك مقاعد كثيرة بالمقهى؟ لماذا ليس هناك سوى مقعديْن فقط، حول طاولة واحدة، بمنتصف الكوْن؟
أنتبه والنادل لازال يطنطن بالكلام.. فأعلي صوتي باتجاهها قائلاً:
- تعالَ.. تعالَ يا حسيْن، ساعدني على الذهاب للحمّام، فقد وقعَتْ لي حادثة، وعدتُ من المشفى للتوْ.
يكتم ضحكة، ويهمس لي:
- متلازمة التعاطف.. سوْسن، هاه؟ سلِّم لي على سوْسن!
أهمس:
- اخرس!
ثم أتابع الحديث بينما أتسنّد عليه:
- لقد كدتُ أفقد حياتي في ثانية، وكان من الممكن ألاّ أكون هنا اليوم، كما لويتُ ساقي وأنا أركض بالأمس، هل تعرف لماذا؟ لأني لا أحتملُ أن أبقى سمينًا.. أنا إنسان ـ في قلبي ـ رشيق!
يتركني دُفعةً واحدةً ويقول:
- يكفي! لقد صرنا بعيديْن، هل هذه هي الخطّة؟ لو هي فأنا أخبركَ أنها فاشلة سَلَفًا!
أعاجله:
- صهِ! اتفل من فمكَ! بالطبع لا، وهل أنا الذي وضعتُ الخطّة؟ وإنما جلال الحلاّل.. سأُفهِمكَ كل شيء.
~
عدتُ لمائدتي الوحيدة وسط موائد قليلة نصف فارغة ونصف مشغولة..
وهناك امرأة تبدو وكأنما بكت وانقطعَتْ أنفاسها من البكاء، ثم مسحَتْ دموعها وتعاملَتْ على أن البكاء ليس له آثار تظهر على الوجه، فجاءَتْ تمرح بالأمطار، وتطلب حلوى وكابتشينو!
أو ربما ظنّت بأن الأمطار كفيلة بتمويه الأمر.
ما الذي تخفيه من سرّ؟!
يأتي النادل متحفزًا، ثم يغمز لي غمزة، ويتقدم نحوها سائلاً، بينما أُرهِف السمع:
- سيّدتي، هل أنتِ وحدكِ؟
تجيب بعَجَب:
- أجل.
فيسألها:
- وكيف ستحضرين الحفل وحدكِ؟ هذا الحفل للثنائيات فقط.
- حفل؟ أيُّ حفل؟
- حفل رأس السنة.
تكرر خلفه:
- رأس السنة؟ في فبراير؟
ينتبه:
- فبراير؟ إنه حفل الفلانتاين..
تستنكر:
- فلانتاين؟
فيعاجلها:
- فلانتاين وفبراير وثنائيات.. إن الأمر منطقيّ، أليس كذلك؟
لكنها تهزّ رأسها نفيًا:
- تقليد غريب جدًا.. كما أننا بالكاد في بداية الشهر!
يبادرها:
- هذا تقليدنا كل سنة، ألا تتابعين صفحاتنا على التواصل الاجتماعي؟ هل تسمحين لي بإضافتكِ؟
ثم يبسط يده لكي تناوله هاتفها، فيختلس نظرات إلى مُفضّلاتها قبل أن يعيد الهاتف.. تلتقطه وحقيبتها وتقول بينما تهمّ بالمغادرة:
- لا بأس، سأحضر في وقت آخر.
لكنّه يستوقفها:
- وهل ستفوّتين حفل روبـ....
يتعثر، ولكنه يعيد المحاولة:
- روبـ.....
فتسأله:
- مَنْ؟
يفسّر:
- مطربكِ المفضّل، ذلك الـ روبـ...
تساعده:
- روبّي ويليامز؟
يصيح في انتصار:
- أجـــل! هذا هو!
تسأل متعجبةً:
- وكيف عرفتَ أنه مطربي المفضل؟
يرتبك، لكنّه يتصرّف:
- كل الفتيات تحبّه، لستِ وحدكِ.
تنتقل إلى السؤال التالي:
- وهل روبّي ويليامز سيغنّي هنا؟
ولسان حالها أن: "في مقهاكم الحقير هذا"، فيؤكد لها:
- نعم، ويمكنكِ أن تحضري الحفل مجانًا، باستثناء مشكلة واحدة.
- الثنائيات، أليس كذلك؟
- بلى، ولكنّ عندي أيضًا حلّها.
- وما هو؟
وهنا أشار إليّ ـ على فجأة ـ فتمثلّتُ النظر إلى الجانب الآخر، بينما أذني معهما إذ يقول:
- هذا السيّد المحترَم، إنه وحده كذلك، لماذا لا تحضرانِ معًا؟
لكنها أصيبت بنوبة ذعر، وراحت تردد:
- هذا السيّد الذي خطف الحلوى الخاصة بي، وركضَ بها يُطارِد نفسه كما يُطارِد القطّ ذيْله؟ لا، لا، جِد لي أي شخص آخر، شخص من النوع الآمن..
وبدأت تتحدث عن روّاد آخرين، ألمحها بطرف عيني تشير إلى هنا وهناك قائلة:
- أرى هذا يجلس وحده، وذاك أيضًا وحيد...
لكنّ النادل يجيبها:
- هذا ينتظرُ زوجته، وذاك سيرحل بعد قليل..
فقالت متباسطة:
- أي شخص.. أي شخص آخر سيفي بالغرض، ماذا عنكَ أنتَ؟
وهنا حدجتُ النادل بنظرة حادة في عينيْه مباشرة، فبادلني النظرة بتردد دون أن ينطق لثوانٍ طويلة أوقعَتْ قلبي، ثمّ قال أخيرًا:
- ولكنّي يا سيّدتي لا أستطيع ترك العمل، إن هذا السيّد رزين جدًا، علّه تلك الليلة مرّ بأزمة أو نوْبة ما، لكنّها مرّت، وهو الآن أليف جدًا، أنتِ قلتِ بنفسكِ: "قطّة"، انظري إليه كيف يبدو كقطّة سيامية؟!
نظرَتْ لي متشككة، فنظرت لها بعيون مُسبَلَة، مثل قطّ ناعس شرب الحليب واستعد للنوم بجوار المدفأة، قالت آسفةً:
- موافقة.
تتسع إبتسامتي الخبيثة مثل قطّ حصل على فأر في المصيدة.
~
أجلسَنا إلى مائدة بمواجهة منصّة صغيرة، وأدار لنا أغنية "تمايلي"، في حين تضرب الأمطار زجاج النوافذ بقوّة، تضفي تأثيرًا دراميًا على الأغنية.
الأجواء شاعرية، ومعي المرأة التي أحبّ، وصوت المغنّي الذي توفّى منذ عشرات الأعوام ينطلق من أعماق نفسي، متحدّيًا قوانين الفيزياء والأحياء والأموات، وطالبًا بشدّة أن: "ارقصي معي، اجعليني أتمايل، مثل محيط كسلان يحضِن الشاطئ، احضنيني بشدّة، اجعليني أتمايل أكثر!"
ولكنّي جالس إلى المائدة وكأنما مربوط إلى رجل الكرسي! أخشى أن تطلبني للرقص فأنتهي بتدليك الركبة! هناك متع كثيرة بالحياة تخسرها كلها إلى الأكل! أهزّ رأسي مع الأغنية وأقول: "يا سلام!"..
أنظر لها بطرف عيْني، وأبحث عن عبارة لكسر الجليد، فأقول:
- وحيدة في الفلانتاين، هاه!
تنظر لي بحدّة، وتبادلني التهمة:
- أنتَ أيضًا وحيد.
- أنا سمين، أمّا أنتِ..
تقاطعني متحفزة:
- أنا ماذا؟
أتراجع في مقعدي:
أنتِ التي تُجهِد عقلي بالتفكير ـ مجرد التفكير ـ في طريقة لتكون لي.
أنتِ التي توجع قلبي بالتفكير ـ مجرد التفكير ـ في ألا تكون لي.
أنتِ التي أحتاج خطّة في كفاءة المعجزة لتكون لي.
لكنّي لا أقول شيئًا من هذا، فقط أتمنى لو لم أفتح فمي في بادئ الأمر، دقيقة من الصمت ثم أقول:
- إذًا، أنتِ تحبّين روبّي ويليامز..
- أحبّ فنّه، أمّا أسلوب حياته فيثير الغثيان؛ من المحزن أن تخسر كل شيء إلى المخدّرات.
أشعر بغصّة، فأسلّك حلقي قائلاً:
- لم نسمع دفاعه بعد، لربما أن المخدرات هي الشيء الوحيد المتبقي له!
فتقول متعجبةً:
- لا أفهم ما الذي تدافع عنه، وكيف تبرر لمدمن مخدّرات؟
فأتمنى للمرة الثانية ألَّم أفتح فمي، وإن اضطررتُ لفتحه، فلا أقول أشياءً غبيّة، أما وقد سُحِبتُ من لساني فلا أملك إلاّ التمادي علّ مبرراتي ـ بمعجزة ـ تصبح مُقنِعة، فأقول:
- أنا لم أبرر للمخدرات بحدّ ذاتها، ولكن لكل منا المخدرات الخاصة به، شيئًا يلهيه عن مأساته، ويسبب له المتعة ويجد فيه العزاء، حتى وإن كان شيئًا ضارًا يمتص حيواتنا ويُذوي أرواحنا، ولكنّه لذيذ وآسر ومُغوٍ، يجعلنا نفعل ذلك ونحن مُسلٍّمين، فهل تفهمين؟
تهز رأسها نفيًا:
- أنا لا أقبل أن أُسلِّم نفسي إلى ما يُذوي روحي حتّى وإن كان مُغويًا.
- فلماذا تُسلِمين نفسكِ للبكاء؟
ترفع نظرها إليّ أن: "كيفَ عرفتَ؟"، لكنّي أقول على الفوْر:
- لا تغيّري الموضوع.
فتكتم ضحكة، وبالرغم من أنها تكتمها، لكنّي ـ ولأول مرّة ـ أشعر بالنجاح، ترتفع روحي المعنوية، إنني يمكنني أن أُبلي جيّدًا إذا ما أخذتُ الفرصة، بصرف النظر عن الجوع، أو الكرش، أو جيش من القِردَة... كما يمكنني ـ إذا فتحتُ فمي ـ ألاّ أقول "أشياءً غبية"، وهذا يُذكّرني بالأغنية فأسألها:
- بالمناسبة، هل تعرفين أغنيته التي غنّاها مع نيكول كيدمان؟
- "شيئًا ما غبيًّا"؟ نعم، جميلة، وإن كانت نيكول كيدمان بعيدة جدًا عن مستواه.
ومع روحي التي ارتفعَتْ بالفعل، فلن تعيدها عباراتها المُحبِطَة، فقلتُ متحدّيًا:
- صحيح، ومع ذلك فقد غنّت معه.
ثم أبدأ بالدندنة:
"I know I stand in line
Until you think you have the time
To spend an evening with me
And if we go some place to dance
I know that there's a chance
You won't be leaving with me
Then afterwards we drop into a quiet little place
And have a drink or two
And then I go and spoil it all
By saying somethin' stupid like:"...
قالت معي:
"I love you.."
وإلتقت عينانا على نظرة عرفتُ أنها لن تفارق خيالاتي لليالٍ تالية.. وعرِفَت هي أنها قد قالت شيئًا غبيًا ربمّا..
حكّت يديها في إرتباكٍ وقالت:
- لقد تأخروا جدًا، متى يبدأ الحفل؟
فتمثلتُ الحَميّة، وهتفتُ بالنادل:
- يا حسيْن! لقد انتظرنا طويلاً! متى يبدأ الحفل؟
لكنّه نظر لي طويلاً، عاجزًا عن الرد، فسألتُ:
- ألم تسمع؟
- بلى.
- فمتى يبدأ الحفل؟
أطلق زفيرًا وقال:
- مع الأسف، لقد لُغيَ.
صححته:
- تأجل، ربما تقصد تأجل.
- أجل، تأجل، فقد تأجلَتْ طيّارة روبـ....
ساعَدَتْه:
- روبي ويليامز.
أومأ شاكرًا لها، واستأذن، فاستأذَنَت على إثره، لكنّي استوقفتها:
- اسمحي لي أن أعوّضكِ عن هذه الأمسيّة، وعن قالب المولتن كيك كذلك، وأدعوكِ إلى العشاء بالخارج.
لكنّها بدَت متحفظة، تُفتّش في أعذارها:
- لا أظن، لا يمكنني أن أتأخر، ربما في مرة تالية.
- فهل تعدينني؟
- لا أعرف.. لا أضمن الظروف، ربما في المستقبل.
لكنّي سأستميت من أجل الفرصة، فرحتُ أردد:
- أرجوكِ، إنني أتعذّب منذ رأيتُ الحلوة..
أستدرك:
- منذ.. منذ.. أكلتُ الحلوى، ويجب أن أتخلص من هذا الذنب.
- أسامحكَ.
- ولكن... الله لن يسامحني إذا لم أرد الديْن، لا أنام بالليْل، عديني أن تخلّصيني من الذنب، عديني....
قاطَعَتْني:
- حسنًا..
فصمتُّ مترقبًا، فأطلقَتْ زفيرًا وقالت:
- حسنًا، أعدكَ، فهل تتركني أغادر الآن؟
قلتُ ببساطة:
- تفضّلي، وهل أمسكتُكِ؟
منحَتْني ضحكة أخرى تُضاف إلى مقتنياتي الثمينة اليوم، وصرتُ أغنى رجل بالكوْن.
~
رفعتُ الهاتف على جلال:
- آلو، جلال! خطّتكَ نجحَتْ أيّها الحلال! ولكَ عندي عزيمة بمطعمنا الأثير!
- لا، اعفيني أنا، ألا يُفترَض بكَ أن تكف عن الذهاب للمطاعم، وتبدأ في الذهاب للدكتور نور؟
لكنّي نفيتُ بحماس:
- ثــانيةً! لا، ألا يكفي الدكتور سرور؟
فانحرى يدافع عنه:
- لقد تحاملتَ على الرجل وما قال إلاّ كلامًا علميًا.
- علميًا؟ أيُّ علم؟ لقد شعرتُ بأنني في جبلاية القرود وليس عيادة طبّ! دعكَ من هذا العكّ!
فاستمر مدافعًا:
- بل نظرية القرد نظرية سليمة ودرسناها بالإدارة، هناك قوانين أساسية: القرد له صاحب واحد، صاحب القرد هو أقل مستوى إداري يرعاه، إمّا تُطعِم القرد أو تُحيله إلى من يُطعِمه أو تقتله، لا تأخذ قرود الآخرين، ولكي يستقيم المعنى فكل ما عليكَ أن تستبدل كل كلمة قرد بكلمة "مُهمّة".
- يا أخي ما لي أنا وقرودكما معًا، ألا يكفيني قردي الخاص بي؟ ثمّ إني إنسان سعيد اليوم، لا أريد إلاّ أن أحتفل بنجاحي.
لكنّه بدا مصممًا:
- يا عزيزي هذا نجاح زائف، أنا الذي وضعتُ الخطّة وأنا أعرف ما أقول، هذا النجاح سينقلب فشلاً أسوأ من ذي قبل، إذا لم تفقد الوزن.
- لكنك تعرف يا جلال، إنه لا يتركني أتبع حِمية، وإن الخطّة لم تنجح اليوم لولا أطعمتُ القرد..
- يا أخي ألا تكف تردد القرد! ألم أخبركَ إنّ الدكتور نور عندَه الحل؟ ألا تستحق معشوقة أمطاركَ تلكَ أن تجرّب الحل؟
أفكّر حينًا ثم أزفر في استسلام:
- حسنًا، أعرف أني أفعل بالنهاية ما تريده بالضبط، حدد لي موعدًا.
وأُغلِق الخط، وهي نفس اللحظة التي تصلني فيها رسالة:
"إذا حاولتَ قتلي فلن أكون طيّب القلب."
أترك الهاتف متلفظًا من غيْر فهم: وكأنكَ كنتَ من قبل!
~
أجلس أمام الدكتور نور أواسي نفسي على المحاولة، ولماذا لا؟ الحقيقة إن الجانب المظلم من حياتي بحاجة إلى الإنارة، لكنّي إذ أنظر للسقف أشعر بالحيرة: إن لم تأتِ من هنا، فمن أين تأتي تلك الإضاءة؟
يرفع نظره ويسألني:
- ما هي مسألتكَ؟
أشير إلى جسدي وأقول:
- ألا ترى الحجم؟
يقول بعدم فهم:
- ما لَه الحجم؟
أقول في ملل:
- أريد أن أخسّ.
- ولماذا لا تخسّ؟
أقول بنفاذ صبر:
- ظننتُ أن جلالاً أعطاكَ فكرة.
- هو قال كلامًا غامضًا، عن قرد يمنعكَ من فقد الوزن.
أومئ موافقًا:
- صحيح.
- لكن، ألا ترى أن حكاية القرد هذه عسيرة على الفهم؟
يثير حفيظتي التي كانت على الحافة أساسًا، فأرد له الكيْل:
- مهلاً، فقد أخبرني جلال إنّك تعالج بالخزعبلات.
- عفوًا؟
- بالسحر.
يصححني:
- بالطاقة.
أقول كأنما أجاريه بحديث الأطفال ذاك:
- بالطاقة، ليكن بالطاقة، وهل هذه التي يسيرة على الفهم؟
توقعتُ نوعًا من الدفاع عن الطاقة، أو ذكر شيئًا عن الشاكرات، أو الحضارات القديمة، أو حتى الإبر الصينية، لكنّه بدا من النوع الذي لا يُدافع، فقط قال:
- وإذا كنتَ لا تؤمن بالطاقة، فلماذا حضرتَ إليّ؟
- همم.. ضربة موفّقَة، لأنني شخص يائس بالطبع.
- إذا أوصلكَ يأسكَ إلى هنا، فأنتَ في المكان المناسب بالضبط.
أقول مؤكدًا:
- بالفعل، هيّا امنحني أقراصًا، أو فوّارًا أذيبه في الماء، أو أي وهم آخر، لأغادر بسرعة!
ينظر لي بثبات ويقول:
- وما العيبُ في الوهم؟ إن البلاسيبو يعمل فعلاً، وهناك علاجًا بالوهم اسأل عنه أيّ طالب طبّ. ثمّ إن الجوْع نفسه وهمًا، هناك جوع نفسي، جوع عاطفي، هناك جوع الفرح وجوع الحزن، جوع الخروج وجوع البقاء بالبيْت، جوع الصحو وجوع منتصف الليل.. فلماذا لا نعالج الوهم بالوهم، ولا يفلّ الحديد إلاّ الحديد، وداوني بالتي كانت هي الداء!
ما شاء الله.. نصّاب حلو الحديث، لكنّي لن أجاريه في حديثه، فقط أقول:
- أنا أفضّل علاجًا حقيقيًا على وهميًا.
يهز رأسه في أسف:
- برغم تقدم الطب، لازالت السمنة من المعضلات التي لم يجد الطبّ حلاً لها.
أهمّ بالقيام قائلاً:
- عظيم، أرجو أن تعيد لي الكشف طالما لا يوجد حلّ.
لكنّه يُكمِل بذات الثبات:
- إلاّ عندي أنا.
ألتفتُ سائلاً:
- وما هو؟
وعوضًا عن أن يجيب، بادلني السؤال بسؤال:
- اسمح لي أن أسألكَ: لماذا لم تتغلًّب على القرد؟
أقول بسخافة:
- لو استطعتُ التغلّب عليه فلِم أُخرِب بيتي بثمن كشفكَ؟ ويا ليْته كان بفائدة!
يكرر بثبات:
- أسألكَ لماذا؟
أجلس، بينما أقول بأسف:
- لأن إرادته أقوى من إرادتي، بل كأنها هي إرادتي، إرادة متمكنة من روحي ودمي، إنني أراه مثل كيان خارجي، لكنّي أشعر أن مكانه ليس بالخارج، وإنما بداخلي، كما يطل لي أحيانًا بالمرآة، أراه في عينيّ مثل وحش حبيس، يتخذ شكل القرد على سبيل التجمل، لأن حقيقته أبشع من ذلك.
انتظرني حتّى أنهيتُ حديثي وقال:
- فماذا لو منحتكَ شيئًا يحبس طاقته؟
أقول كالمُنوَّم:
- سيكون رائعًا..
ثم أنتبه فأقول:
- أرى أنك بدأت تتحدث عن القرد كواقعٍ.
لكنّه يبرر:
- أخبرتُكَ: إن كان حقًّا فالعلاج حقًّا، وإن كان وهمًا فالعلاج وهمًا!
أضحك من براعة هذا النصّاب، وأومئ:
- موافق! ما هذا الشيء؟ امنحني إيّاه فورًا.
يقاطعني:
- ولكن أولاً..
- ماذا؟
- يجب أن تستمع إلى سياسة الاستخدام.
- أستمع.
يعددّ:
- هذا بمجرد اقتنائه لا يمكن الرجوع فيه، هذا ملكية خاصة تداوله أو ورّثه، وهذا يختزل وزنكَ إلى النصف في يوْميْن...
أفرك يديّ ببعضهما في حماس قائلاً:
- ناولني إيّاه..
لكنّه يضيف:
- و....
- وماذا أيضًا؟
- ومثل أي علاج، فإن له أثارًا جانبيةً، ربما بعض الهلاوس، ربما كوابيس، أو لو شئتَ فقل إن القرد لا يتقبّله بشكل جيّد.
أصيح على الفور:
- أعلى ما في خيْله فليركبه، أنا مستعد.
يبتسم ويتراجع في مقعده قائلاً:
- اسمح لي أن أقول لكَ أنت شخص شجاع، قليلون هم المستعدون لأن يغيّروا من أنفسهم، ودعني أذكّركَ بأن عليكَ أن تبدأ بشراء ملابس جديدة، لأن دولابكَ لن يناسبكَ خلال يوميْن.
- لتذهب المقاسات الخاصة غير مأسوف عليها، لَمْ تخبرني ما هذا الشيء؟
- إنه سوار.
أردد خلفه:
- سوار، سوار.. حتّى وإن كان حلقًا، سأرتديه أيضًا.
لكنّه قال بلمعة عجيبة في عينيْه:
- ولكنّه سوار، يمكنه أن يمتص الأرواح داخله.
أصابتني العبارة بقشعريرة، ألجمت لساني للحظة، لكنها لم تثنيني عن القرار.. رفع حاجبه وقال:
- هل ستدفع الآن؟
- أليس مشمولاً بالكشف؟
- كيف؟
أهزُّ رأسي في تفهم:
- لا بأس، كم ثمنه؟
- سأرى سعر اليوم، يترواح بين بضعة مئات من الألف!
هتفتُ في جَزَعٍ:
- ماذا! كيف!
قال بهدوئه الذي يشلّ:
- هذا هو السعر.
ضربتُ على المكتب في عنف:
- هذا نصب! هذه سرقة مُحققَة! لقد قلتُ منذ البداية بإنكَ بائع وهم! ومن أين لي ببضعة مئات من الألف؟ هل أبيع كليتي؟ أم أسرق بنكًا؟ عتبي ليس عليكَ، عتبي على جلال.
أتركه وأغادر في الحال.
~
هذا هو أنتَ،
رضيتَ أو نقمتَ،
هذا هو أنتَ...
مشكلاتكَ بلا حلّ،
أو ثمن حلّها مئات ألف!
بسهولة تخسر الحبّ،
بصعوبة تخسر الكِرش،
تفشل في جذب الحظ،
تنجح في جذب القرد،
تجد العَظْم في الكِرشة،
ولسانك حُرِق من الشوربة،
ولو ربحتَ اليانصيب لقالوا لكَ:
اختلط علينا الستّة بالتسعة!
~
يُتبع


MooNy87 غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 30-03-22, 12:22 AM   #8

MooNy87

مشرفة منتدى عبير واحلام والروايات الرومانسيةومنتدى سلاسل روايات مصرية للجيب وكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية MooNy87

? العضوٌ??? » 22620
?  التسِجيلٌ » Jul 2008
? مشَارَ?اتْي » 47,927
?  مُ?إني » واحة الهدوء
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » MooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   7up
¬» قناتك mbc
?? ??? ~
لا تحزن ان كنت تشكو من آلام فالآخرون يرقدون
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي


- الجزء السابع-
هذا هو أنتَ،
رضيتَ أو نقمتَ،
هذا هو أنتَ...
مشكلاتكَ بلا حلّ،
أو ثمن حلّها مئات ألف!
بسهولة تخسر الحبّ،
بصعوبة تخسر الكِرش،
تفشل في جذب الحظ،
تنجح في جذب القرد،
تجد العَظْم في الكِرشة،
ولسانك حُرِق من الشوربة،
ولو ربحتَ اليانصيب لقالوا لكَ:
اختلط علينا الستّة بالتسعة!
~
يبادرني جلال بالاتصال، وما إن أفتح الخط حتى يسبقني بالصوْت:
- ما الذي فعلتَه، أيها المجنون؟ ألا تستطيع أن تساعد نفسكَ مرّة؟ هل استحليتَ البقاء في خانة المظلوم، حتّى إذا جاءكَ الفرَج قلتَ: "لا، أريد أن أبقى في الخانة التي أعرفها، خانة المحطّمين والبائسين والثكالى، الذين يستحقون التعاطف لما وصلوا إليه!
- انتبه لكلامك يا جلال! إنّكَ تعيد كلام غريبيْ الأطوار اللذيْن أرسلتني لهما!
يزفر ويقول:
- لأن هذه هي الحقيقة، ما المشكلة في أن تخسر بعض المال، وتكسب نفسك؟ يا أخي أنتَ إن خرج عليكَ لصٌّ تقول: "خذ كل شيء، ودعني أعيش"!
- المشكلة أني لا أملك هذا المبلغ يا جلال، لأني لستُ مندوب مبيعات للصوص مثلكَ!
قلتُها ثم كتمتُ فمي.. ما أوقح صدق الإنسان حين يكون غاضبًا! لكنّه قال:
- لن أغضب منكَ برغم هذا، ما بيننا أكبر من ذلك، وما تحدّثتُ إلاّ من خوفي عليكَ، من الأفضل لكَ أن تدبّر هذا المبلغ، يمكنكَ أن تبيع ميراث والدتك، يمكنكَ أن تقترض من البنك، كما يمكنني أن أدبّرَ لكَ ما أقدر عليه، لكن لا تدع حياتكَ تُفلِت من بين يديكَ.
نطَق بالحق، ولكن لم أخبره بذلك، فقط أغلقتُ الخط.
~
أفتح الحاسب، وأحاول أن أدسّ رأسي في العمل، ولكنّ عقلي في اتجاه آخر يعمل:
هل أبيع الإرث، أم أبيع أثاث البيْت، وما أدراني أن هذا السوار يعمل؟
تصلني رسالة:
"أرى أنك بدأت تفكر في بيع إرثكَ من أجل إرتداء سوار مثل النساء، هل تظن أن أمّكَ كانت لتسعد بذاك؟"
يرن الهاتف، إنه النادل، يرقص قلبي وكأنني أحبّه، فينطلق قائلاً:
- لقد رأيتُها اليوم.
أكرر خلفه:
- رأيتَها؟
- تؤكد على موعدكَ معها.
- موعدي؟
- بعد يوميْن.
أصيح في غير تصديق:
- يوميْن؟!!
لكنّه يُفيقني:
- وما أنتَ؟ صدى صوت؟
- بل ما أنتَ؟ بلا قلب؟ ألا تقدّر اللحظة التي طالما تطلعتُ لها بشوْق. احجزها عندها، لا تدعها تُفلِت، أنا قادمٌ على الفوْر!
يقول في بلادة:
- ومَنْ هي؟ القهوة؟
- أية قهوة يا بني آدم؟ سيدة الأمطار! الأمطــــار!
يقول متعجبًا:
- ولماذا تشدّد على الكلمة هكذا؟ وهل أمطرَت اليوْم؟
أنتبه لأول مرة لمسألة الأمطار، فأقول متلعثمًا:
- لــ.. لا أظن.
- فلماذا تتوقع أن سيدة الأمطار قد حضرَت إذًا؟
أقول بغيْظ:
- أنا لم أتوقع، أنتَ الذي قلتَ.
يقول مستدركًا:
- أنا لم أقل حضرَتْ، أقول رأيتُها، رأيتُها في الفنجـــان يا ثخين الجسم والعقل!
أكظم غيْظي، وقبل أن أكسر الهاتف، أغلق الخط.. لكنني انتبهتُ، ماذا لو أن البشارة حق، لقد وعدتني، وهي من النوع الذي يفي بالوعد.. وإن قابلتني فهل ستكون بداية القصة أم تنتهي حيث البدء، ويُحال عنائي إلى لا شيء! إن قضية السوار لم تعد رفاهية، وإنما مسألة حياة أو موت.
أتصل بجلال أن يجهز السوار بأسرع وقت، وسيكون عليه أن يجد مشتريًا لأثاث البيْت، وذهب المرحومة، وبِذْلاتي التي لن تناسبني خلال يوميْن.
~
يحلو لي أن أقيم حفل توديع السمنة، مثل حفل توديع العزوبية، غير أني لن أُحضِر راقصة تعرٍّ، وإنما سأتخلص أنا من ملابسي قطعة قطعة، وأمنحها لـ جلال ليجدَ لها مشتريًا، ثم تناولتُ مخزونًا من الأطعمة المشتهاة من مطعمي المفضّل، وبعد هذا الفاصل اللذيذ طَعمًا، كان عليّ أن أنام ـ آخر الليل ـ على البلاط، ممتلئ المعدة، خالي الوِفاض، ولكنّ بالي مرتاح، أحلم بموعدي مع فتاة الأحلام.
ها أنا جالس بصحبتها في مطعم فخم، مرتديًا بذلة لا تتسع لحجمي لولا مرونة الأحلام، فقد صارت ـ في حُلمي ـ وكأنما فُصِّلَتْ عليّ.
المقاس مثاليّ، والطعام شهي، والفتاة قد كفَّتْ عن البكاء، وأشرق وجهها بابتسامة أنارت الجزء المظلم من روحي بإضاءة متصلة مباشرة بالسماء.
لكنّي يساورني القلق، وقد بدأتُ أشعر بالإختناق في البذلة، ليس نقص سعة في الياقة ولا الأساور، وإنما في الجيْب! هل يمكنني دفع حساب هذا المطعم الفخم؟
تحضر الفاتورة، أتحسس جيْبي، أعدّ نقودي، أميل على النادل أخبره:
- سوف أتصل بصديق يساعدني.
لكنّه يردّ بحسم:
- لقد استنفذتَ وسائل مساعدتكَ.
تسمع الفتاة جانبًا من الحوار، فتقول مُغاضبَةً:
- هل دَعوْتني وأنت خالي الجيْب؟
فأقول مراوغًا:
- ماذا لو أنني ربحتُ المليون جنيهًا، ألم أكن لآكل أكثر، وأسمن أكثر، ولصرتُ كالكرة تقذفينها بقدمكِ؟
يبدأ النادل في التململ:
- ماذا ستفعل؟
لا أدري ما أقول من الإرتباك، لكنني أعرض أن أغسل الصحون على استحياء.. ذلك العرض الذي لم ينفع معه، لا أدرِ لِمَ، بالرغم من أنه ينفع في أماكن أخرى! يستدعي زملاءه أو حرّاس شخصيين، يتوافدون لا أدري من أيْن، كما ويقودوني لا أدري لأيْن!
أهتف وأصيح:
- يمكنني أن أغسل الصحون بشكل جيّد، يمكنني أن أجعلها تلمع، حتّى اسألوا حسيْنًا!
لكنّهم يفضّلون الصمت على قول السوء، غيْر أني أفضّل الشتيمة على الصمت المنذر بألف كارثة، أستحثّهم:
- أجيبوا! انطقوا! إلى أين تأخذونني؟
يستمرون في سحبي، بينما يقول النادل:
- إلى حيث تدفع الحساب.
لم يُفسّر، وأنا لم أفهم، فعدتُ أستنطقه:
- أإلى القسم؟
- بل إلى المشفى.
أصيح في جزع:
- لماذا؟ كيف سأدفع الحساب بالمشفى؟ كيف.
فيقول في بساطة:
- تبيع كليتكَ.
أتملص وأتفلت بيما أصرخ بصوت أشبه بالنساء:
- كليتي! لا! لا! لا!!!!
أصحو ولازلتُ أردد:
- لا!
~
أهبّ فزِعًا، أتربع على الأرض دقيقة وأفكّر:
"منطقيّ جدًا، إذا لم تزركَ الكوابيس بعد كل ما تناولتَ من أطعمة دسِمة، فما معنى الكوابيس أصلاً"؟
يتصل جلال فألتقط الخط على الفور، يخبرني إنه سيرسل السوار مع عامل توصيل، لكن الفكرة تصيبني بذبحة صدرية:
- ماذا! هل جُننتَ يا جلال! ألا تعلم أنني دفعتُ به دمّ قلبي، هيّا، احضره بنفسك، اسرِع.
ثم أغلقتُ الخطّ قبل أن يتملص.
~
أتناول المُغلَّف وأدفع الباب بوجه جلال قائلاً:
- عذرًا لا أعرف أين أُضيِّفكَ، أنتَ لستَ غريبًا!
تسقط ابتسامته بينما يقول:
- أيّ خدمة!
ينغلق الباب، وأحمل المُغلَّف أضعه بمنتصف الغرفة برهبة وأجلس أمامه.
تنبعث طاقة غريبة منه تتخطى غلافه وجلدي وتتوجه مباشرة إلى عمودي الفقري تصيبني بالقشعريرة، وتزيح كل الموجودات من حولنا، فضلاً عن أن الشقة بالفعل فارغة، لكنّها تزيح الجدران والمباني وحدود الكوْن ومثائله من الأكوان المشابهة، وتُثبّتني في موضعي بلا حراك، وإن كنتُ أنا لا أتحرك، فلابد أن العالم هو الذي من حولي يدور...
وحدي وإيّاه مُعلَّقان في الفراغ بلا خيوط، وحدي وإيّاه والفراغ، أحدنا ثابت والآخر يدور..
وبذهني تعصف الأغنية:
"دائري...
مثل دائرة في لولب،
مثل عجلة ضمن عجلة،
بلا نهاية ولا بداية،
على بكرة دائمة الدوران،
مثل كرة ثلج أسفل جبل،
أو بالون احتفالات
مثل سير متحرك تحوّل
ليدور في حلقات حول القمر
مثل ساعة ممسوحة xxxxبها
تمحو الدقائق عن وجهها
والعالم أشبه بتفّاحة،
تلفّ بصمت في الفضاء،
مثلها مثل الدوائر التي تجدها،
في طواحين أفكارك!".
أسقط على الأرض التي لم أكن قد تركتها.. أنتَ الذي بعتُ كل ما أملك من أجله، فهل ستكون على قدر المسئولية؟
أمد يدًا مرتعشة أتفحص الغلاف، إنه معقود كما لو أنه هدية عيد ميلاد، عيد ميلادي الجديد، تملأني الطاقة بالتفاؤل، أسارع بفكّ الشريط، أرفع السوار الذي يتلألأ بالأحجار الكريمة تضوّي انعكاساتها في عينيّ، لا أستطيع الانتظار أكثر من لحظة، قبل أن أرتديه بمعصمي.
أشعر أنني لم أرتدِه، وإنما ارتديتُ جسدي القديم! أرى نفسي في الكلية أرتدي الميدالية والجمهور يصفّقون، أرى حبيبتي السابقة تهدد ـ في لحظة الوداع ـ إنها ستقطع شرايينها، أرى جلالاً يسألني أيُّ تمارين لعبتُها كي أرسم الـ "6 Pack"! أرى نفسي، الذي أعرفني، وليس الذي يحبسني في داخله، يمتص أنفاسي، يطرد أحبّائي، ويسرق عمري.
إنني مبتهج، إنني متفائل، لكن غضب مكتوم ينمو بداخلي أجهل مصدره، هناك فرحة بقلبي، هناك غُصّة بحلقي، أنا سعيد، لكنني أبكي، أنا خائف، هل هذا شعور حقيقي أم زائف؟ لماذا لا أسيطر عن إنفعالاتي، أو بالأحرى، لماذا انفعالاتي لا تُعبّر عنّي؟
أشعر فورانًا يشتعل في رأسي ويسير في عروقي تنبض به شراييني نبضًا له أزيز، يتعالى هديره مثل مثقاب كهربائي يخترق معصمي من حيث السوار بالذات!
أشعر بالحرارة ترتفع بجسدي، أتعرق من غير داعٍ، يخرج عرقي ملتهبًا يلسع جلدي من الخارج، كما تشويه الدماء المغلية التي تجري بالعروق، تصدر لها فقاعات، أذهب في حُمّى لحظات ثم أُفيق على صوت غاضب لا يكف يوسوس بأذني:
"حذّرتُكَ، نبّهتُكَ، واستنفذتَ فرصكَ، لم يبقَ من أساليب التحذير سوى قتلكَ!"
هل أنا ممسوس؟ هل أنا ملبوس؟ اظهر أيها الذي تتلبسني، اخرج واجهني... لكنني أضعف من أن أقول..
أريد أن أُغمض عيني، أريد أن أستسلم للنوم، لكنني أشعر أنني إن استسلمتُ سيكون نومًا بغير صحو.
أشتدّ على عودي، أتحامل على نفسي، وأصلب قامتي إلى المطبخ، سأصنع فنجانًا من القهوة يساعدني على مقاومة الموت، لكنّي لن أضيف أية قطرة من السكّر، فلا أطيق إماعة الذوْق.
القهوة الفائرة ليست مُستحبَّة، لذلك سأعمل على أن أراقبها جيّدًا، رائحتها النفّاذة وحدها كفيلة بتجديد الطاقة أفضل من أي سوار للطاقة، وفي اللحظة المناسبة بالضبط رفعتُ الكنكة، وصببتُ السائل الساخن على.. يدي!
صرختُ من الألم، وفغرتُ فاهي من البلاهة.. ما الذي حدث للتو؟!
أسرعتُ بوضع يدي أسفل ماء الصنبور، لكنّني أدرتُ مقبض المياه الساخنة عوضًا عن الباردة، كما ولسبب غامض، جرت يدي على هريسة الشطّة عوضًا عن مرهم الحروق!
قدّرتُ أن هذا ليس يوم المطبخ الخاص بي، وأنه خيْر ما أفعل ليدي، أن أتركها لحالها، وأرتمي في الركن! ليس فقط أنني ألتقط أنفاسي بصعوبة، بل وألفظها بذات العسر! إنني أشعر بخوار الطاقة، لقد نفذت طاقتي بالفعل! ولأول مرة أفكّر: سوار الطاقة هذا، مَنْ الذي سيسحب طاقته بالضبط؟
وبآخر ذرات من الطاقة تبقّت لي، رفعتُ إصبعي وأدرتُ الرقم، وهتفتُ:
- يا جلال! إنني أموت، إنني في السكرات، كما أن روحي عالقة لا تخرج بيسر! ما الأمر؟!
قال بنبرة بديهية، وكأنما يتحدث عن حقيقة كونية:
- من الضروري أن يسحب الطاقة الفاسدة، كي يعيد ضخّها على نظافة، كالذي يهدم ليعيد البناء، وإذا أردتَ أن تولَد من جديد، أليس من الضروري أن تموت أولاً؟
- طبعًا، طبعًا، أموت.. نعم..
ثم انفجرتُ صارخًا:
- ولماذا لم تخبرني يا أخي؟
- وفيمَ تهمّك هذه الفنيّات، هل أنت خبير بالطاقة، أنتَ حتّى لا تؤمن بها!
أكرر خلفه:
- لا أومن بها؟ بعد أن سرتُ معكَ كل هذا الطريق تقول لي "لا أؤمن بها"! أقول لكَ: "روحي علِقَتْ لا هي بقيَتْ ولا خرجَتْ"، ثم تقول لي: "فنّيات"؟!
ثم وجدتُ أنني استهلكتُ عليْه طاقة شحيحة هذه الأيام، فأغلقتُ الخط!
لا طاقة عندي، ولا عقلاً ليفهم، ولا أملك حتّى رفاهية الشك فيما يقول. ليس إلاّ أن أأمل أنه يفهم ما يقول.
ثم وفي اللحظة التالية أشعر اندفاعًا للدماء برأسي، أشعر بسيّالات من الطاقة لا أدري ما أفعل بها! وكأن المغنية الغربية تغنّي لي وحدي: "إنني على قيد الحياة!"
أشعر بالرشاقة بالفعل، أشعر بالخفّة، أشعر أنني نحيل، وحلو! ولا أدري إن كان هذا تأثير الوهم!
أهرع إلى مرآة الحمام، الوحيدة التي لم تذهب مع العفش! لا أجد فرقًا في الجسم! أنعت نفسي بالأبله، ماذا توقعتَ؟
لكنّي وقبل أن أرفع عيني عن المرآة، وقعَتْ عيْني على وجهي: إن أنفي تُجدَع، عيني تجحظ، ابتسامتي تُحفَر من الأذن للأذن، هذا ليس وجهي، هذا وجه القرد!
يصيبني الصرع، أصرخ في هيستيريا، ثم أنتبه لما قد يتلبسني وأنا أصرخ في الحمّام، لكنني أُذكّر نفسي:
- أنا لن أُلبَس، أنا ملبوس بالفعل، ملبوس!
لكن الصوت بأذني يصححني:
- أنتَ لستَ ملبوسًا، بل أنتَ لابسًا، السوار، اخلعه على الفور!
أدرك أن هذا السوار فيه حمايتي، وأنني لو لم أتلبسه لكان وضعي أسوأ من قتيل مُحتمَل، وهو قتيل محتوم، بل سيقولون: "مُنتَحر"، سيقولون: "له سابقة"، وسيضبطون على مقاسي الفِعل! لكن الرأس! كيف أحيا برأس قرد؟!
أحاول إزاحته عن جسدي! أدفعه بكلتا يديّ، لكنّه مُسمَّر إلى الجِذع، ألخلخه أولاً، أؤرجحه يمينًا ويسارًا، ولازلتُ أصرخ بجنون، ولكنّ صوتي في أذني ضحك هيستيري بصوت القرد!
لا! لا! لا! هذا الرأس لا يجب أن يبقى فوق كتفيّ، سأقلعه مهما تكبّدتُ، ولكنّه وبرغم الخلخلة لم يتزحزح، فقررتُ أن أغرقه بالمرحاض، ولمّا عَلِمَ بنيّتي تجاهه ركض منّي، هرّب إلى الخارج، وأجراني خلفه مثل الكلب، أتخبط بالجدران، لا أكفّ عن اللف!
إلى الصالة، إلى النوْم، إلى المطبخ، وهناك حيثُ قررتُ أن هذا هو يوم المطبخ الخاص بي، وسأجعله ينجح تحت أي ظرف؛ إلتقطتُ السكّين، وهممتُ بجزّ العنق.
ولكنّي وقبل أن أفعل، وقعَتْ عيْني على إنعاكسي بالنصل، هذا أنا الذي عَرِفتُ! هذا أنا الذي إليه اشتقتُ، وقع النصل من يدي، وأسرعتُ باحتضان رأسي بذراعيّ، وسقطتُ.
أخفيتُ وجهي بيديّ، ونشجتُ.. ذكّرتُ نفسي أن: اصمد.. اصمد ليوميْن، قال لكَ إنّ له أعراضًا جانبية، قال إنها تزول بعد يوميْن.
ومع زفرة نهاية البكاء، شعرتُ أنني أفضل، تطلعتُ حولي فبدا الجوّ مستقرًا، لماذا لا أُلهي نفسي بالعمل، علّني حتّى أن أتحصّل على أية نقود بعد ما قد حصل! فتحتُ الحاسب، ولكنّي عوضًا عن العمل وجدتُ أني أرسل رسائل إزدراء لأصحاب العمل، ورسائل مشينة للزميلات، ورسائل إعجاب بالبدينات، ورسائل تنمر للنحيفات، كمّا وأرسلتُ طلب إضافة لحساب فتاة المطَر، وعلمتُ أن اسمها سَحَر، وكان هذا أفضل ما فعلتُ!
ولكن، كيف جرؤتُ؟
نظرتُ إلى يدي، فهالني التشوّه الذي حلّ بها، والشعر الذي استطال على ظهرها، وأظافرها التي تقلّصَتْ كمخالب قرد!
بزغت الفكرة في رأسي، لكنّي أحجمتها على الفوْر، لا! لا! لن أقطع اليد، لن أقطع اليد.
لكن الرسالة التي وصلتني لم توافقني الرأي، كانت تقول:
"عدّ على أصابعكَ يوميْن، هذا إن بقيَت لديكَ أصابع!"
أغلقتُ الحاسب على الفوْر، فكّرتُ بالخروج ولكنّي لم أجرؤ على مواجهة العالم كقرد، كما أفضّل أن أحتفظ بالنقود الباقية ليوم عزيمة سحر، وقد أقنعتُ نفسي أن النوْبة قد إنتهَتْ، أو أوشكَتْ، كما ومَا أدراني إن خرجتُ ألاّ يخرج معي القرد؟
فكيف أُمضّي الوقت؟
من الأفضل ألاّ أدق مسمار الساعة المؤجل منذ اشتريتُ الساعة، كي لا ينتهي بعيْني، كما أنه ليس الوقت المناسب لأبدل اللمبة المحترقة، وأمت مصعوقًا بالكهرباء، وبالتأكيد، لن أنظف الحائط من المسامير بعد بيْع اللوحات، لأني لا أريد أن أنتهي قالعًا ضرسي، ما إن أمسك بالكمّاشة.
وبرغم حذَري سلفًا، لكنّ هذا لم يُجْدِ نفعًا، فبمجرد التفكير في الفكرة، جرت يدي على الكمّاشة، واقتلعَتْ ضرسًا.
غرقتُ في الدماء الساخنة مثل الحِمم، وبعد الصدمة والعجْز والفزع، كان آخر ما شعرتُ به هو الألم.
كيف أن سَلْب الإرادة ينتزع من الإنسان آدميته، ويُحيله إلى حيوان ربما، أو بالتحديد قرد.
أيهما أصعب ـ فرضًا: أن تُمسَخ ضفدعًا، أم تُمسَخ قردًا؟
أيّهما أسهل ـ جَدَلاً: أن تنجح قصة حب بين جميلة ووَحش، أم جميلة وقرد؟
أيّهما أقرب وَقعًا: أن يجلس قرد إلى بيانو مليون عامٍ فيُنتِج مقطوعة لبيتهوفن، أم يجلس إلى حسناء بالمقهى فيثير إعجابها؟!
أفيق على الدماء المتدفقة من ثقب بفمي، مثل بالوعة في فيلم رعب، أبتلعها مثل مصاص دماء يتلذذ بالدم، أتحسّر مثل أمير مُسِخ قردًا، مِن ثَمّ استحال وَحشًا، مثل مذءوب في تمام البدر!
أهتف بعلو الصوت:
- أين أنتَ؟ لن نلعب الغميضة طوال الليْل! اظهر نفسكَ، أرني وجهكَ، ودعنا ـ لمرة ولآخر العمر ـ نحسم الأمر.
أسمع زقزقات ضحكه، ولا أراه، أتلفّتُ حولي، أعرف أنّه بالقُرْب، ولكي أعرف مكانه، احتجتُ أن أفكّر كقرد، نظرتُ لأعلى، فناولني دفعةً بقدمه أطاحتني أرضًا، ثم قفز بكامل ثقلَه عليّ من فوق النَجَفة إلى الأرض...
أهبّ في وضع الإستعداد على الفور، تدوّي عبارة جلال في أذني من غير إذْن: "القرد إمّا تطعمه، أو تحيله لمن يطعمه، أو تقتله."، تتكرر الكلمة الأخيرة وتبقى ترن: "تقتله، تقتله، تقتله، تقتله، تقتله،..............."
ألطمه يمنة ويسرة بينما أردد:
- سأقتله، سأقتله، سأقتله....
لكنّ ضربة لم تصبه، ولم تنجح الضربات إلاّ في أن أبدد طاقتي وأشحن غضبه، وأشتت انتباهي عن ضربته القادمة، لكمة أسقطتني أرضًا، وانهال عليّ باللكمات مثل طلقات رصاص لا تترك أثرًا للحياة بعدها.
إنني مُجهَد بالكامل اليوم! إنني جريح، أو مريض، أو ميّت بالفعل! دعني أنام، وسأفعل لكَ ما تريد بالغد. هكذا يتصرف المصارعون بالحَلَبة حين يتخلون عن الحرب، والمجد، والثأر، ويستسلمون للخصم، ولسان حالهم: "خذ كل شيء، فقط دعني أنام اليوم"!
نظر لي للحظة، وكأنما يقرر إن كان سيقبل الصفقة، ثم انهالَ عليّ بذراعيْه لطمًا مرّة بعد مرّة، ولسان حاله أن: "لا، ليس اليوم."
تحيّاتي لكَ، إن المغلوب يُخبِركَ بأن الروح الرياضية ليست ما تتحلى به.
يُتبع


MooNy87 غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 10-04-22, 01:34 AM   #9

MooNy87

مشرفة منتدى عبير واحلام والروايات الرومانسيةومنتدى سلاسل روايات مصرية للجيب وكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية MooNy87

? العضوٌ??? » 22620
?  التسِجيلٌ » Jul 2008
? مشَارَ?اتْي » 47,927
?  مُ?إني » واحة الهدوء
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » MooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   7up
¬» قناتك mbc
?? ??? ~
لا تحزن ان كنت تشكو من آلام فالآخرون يرقدون
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

- الجزء الثامن والأخير-
نظر لي للحظة، وكأنما يقرر إن كان سيقبل الصفقة، ثم انهالَ عليّ بذراعيْه لطمًا مرّة بعد مرّة، ولسان حاله أن: "لا، ليس اليوم."
تحيّاتي لكَ، إن المغلوب يُخبِركَ بأن الروح الرياضية ليست ما تتحلى به.
~
رأيتُ فيما يرى النائم، حين ينام محمومًا مخذولاً خاسرًا كل معاركه، أنني أستاذ في الجامعة مرموق ممشوق لي مهابة، كما أنني خبير بنظرية القرد. هززتُ القاعة بالصوت المجلجل وقلتُ:
- هكذا أكون قد أثبتُّ لكم بأن الإنسان أصله قرد.
يرفع أحد الطلاب يده، فإذا به قردًا، تتسع نظرتي إلى المدرج فإذا بكل الطلاب من القرود، أتمالك نفسي ألاّ تهتز هيْبتي، وأشير إلى القرد أن يتحدّث، فيرتفع صوته بانفعال:
- خطأّ! كل ما تقوله جهل! لقد بنى داروين نظريته على حلقة مفقودة، وبعد كل هذه الأعوام لازالت مفقودة، وأنا أعترض على نسبتنا للإنسان!
يلتهب المدرج بالصيحات المؤيدة:
- أنا أيضًا أعترض!
- وأنا!
- وأنا!
أسارع بتهدئتهم قبل أن تستحيل إلى مظاهرة، فألجأ إلى حيلة يستخدمها كل المحاضرين، أهتف:
- مسألة! مَنْ منكم الأذكى ليجيب المسألة؟
ينصتون في تحفّز، فأسأل:
- إذا كان من غير الممكن أن يتطور القرد إلى إنسان، فهل من الممكن أن ينحدر الإنسان إلى قرد؟
يصيحون متسائلين:
- كيف! كيف!
- فكّروا قليلاً!
لكنّهم يزومون زومًا عاليًا، فأدرك أنه قد مضى وقتُ التعقل، ولم يبقَ غير دقائق لأغيّر المصير، فأجيب:
- عن طريق السَخْط!
ينظرون لبعضهم في عدم فهم، فأسرع بالتفسير:
- ألم يسخَط الله ـ في قرآنه ـ أصحاب السَبْت، أم أنكم غير مؤمنين؟
تستثيرهم الكلمة من غير قصد، فيقف القرد الثائر صائحًا:
- أتستخفّ بنا؟
ثم يستدير يستحثهم على النيْل منّي، فيقفزون فوق مقاعدهم قبل أن ينهي جملته وكأنما يتطلعون لهذه اللحظة منذ سنين، أسارع بالقول:
- فهِمتُ، فهمتُ، أنتم لا تؤمنون بنظرية التطور، ومع ذلك أنتم ملحدون.
يصححني القرد الثائر:
- نحن لا مؤمنون ولا ملحدون، نحن غير مكلّفين.
ثم يستدير صائحًا:
- هجـــــــــــــــوم!!!
تندفع جحافل القرود تجاهي، تتخطى مدرجاتها ومنصّتي، وتعتليني فترديني أرضًا، تنهال عليّ عضًّا وركلاً ولكمًا، حتى يستحيل الحلم أحمر.
~
أفتح عيني، أعبّ الهواء، أحمد الله أن كان حلمًا، أنا في أمان.. أهدأ، تقر عيني، أنام..
أرى فيما يرى الحالم، حين ينام مطمئنًا إلى أمن زائف، أنني خائف، وبرغم أن حلمي قد استحال حقيقة، وتزوجتُ الحبيبة، إلاّ أني وفي اليوم المنتظر، ليلة دخلتي على سَحَر، وحين انغلق الباب علينا اثنيْنا، كان ثالثنا القرد.
حاولتُ أن ألاطفها، حاولتُ أن أغازلها، لكنّها كانت تنفر منّي في كل مرة، وتردد:
- ابتعد عنّي، أراكَ قردًا!
فأشرتُ إلى القرد بالركن وقلتُ:
- ليس أنا يا حبيبتي، بل هو القرد.
لكنها بغباء تصرّ:
- بل أنتَ القرد.
منحتها عذرًا، قلتُ أن ربما عُمِل لها عمَلاً، من جارة بغيضة، أو مُعجَب مُحّب، فأطلتُ الصبر، لكنها داوَمَت على القول:
- أراكَ قردًا!
نفذ صبري، علا صوتي:
- اسمعي يا بنتُ أنتِ! إن لم تتعلمي كيف تتحدثي مع زوجكِ، فسأذبح لكِ القطّ!
واستخرجتُ قطًّا بمجرد القول، وسكّينًا لا أدري من أين! فقالت وقد انتقلَتْ السكين إلى يدها على الفور:
- إذا كنتَ ستذبح القطّ، فأنا سأذبح القرد!
قلتُ بغير اهتمام:
- فلتذبحيه، لا يهمّ!
لكنّها عوضًا عن أن تركض خلفه، ركضَت نحوي، فأسرعتُ بالركض:
- ماذا تفعلين يا حبيبتي؟ إنّه هناك القرد!
- بل أنتَ القرد.
- بل هو القرد.
قالت بحقد:
- بل أنتَ أنتَ أنتَ القرد!
غرسَتْ السكّين في حلقي، وانفجر الدّم.
~
فتحتُ عيني وحشرجتُ، ثم وحين استوعبتُ، حمدتُ الله على الدم، فالدم يُبطِل الحلم، وقد أجهدني الحُلم، واحتجتُ للراحة بالنوْم.
رأيتُ فيما يرى الواهم، العاشم بسوار غاشم، أنني سائح جائل في بلاد الله، رشيق مهما ابتلعتُ من أصناف الطعام، خبير بمأكولات لا يستسيغها المدللون: ضفادع، صراصير، أخطبوط حيّ يعلق بالحلق، سآكله طالما يأكله السكّان المحليّون.
جلستُ إلى مائدة مع أصدقائي الصينين، يحكون كيف أن الحكمة تنتقل من مخ القرد إلى مخ الفرد، إذا ما تناول مخ القرد، فبدا قولاً حكيمًا بالفعل، رفعتُ يديّ إلى النادل وطلبتُ:
- مخ قرد.
- ولكنّه لا يأتي وحده يا سيدي.
- وما يأتي معه؟
- بقية القرد.
وجاء مجموعة من النُّدَّل يجرّون قردًا، ضعيفًا وهزيلاً ويزقزق من الخوف، ووضعوه في تجويف خاص بمنتصف المائدة، بحيث يظهر رأسه فقط على السطح، وناولوني وأصدقائي مطارق حديدية، وطلبوا منّا أن نقوم بالأمر.
لكنني استنكفتُ! ليس هذا الذي طلبتُ! لكنّ أصدقائي استساغوا الأمر، فإن للحكمة ثمن، وثمنها هو الدم.
رفعوا مطارقهم وهووا بها فوق رأس القرد، أدرتُ رأسي وغضضتُ بصري عن مقتل القرد، وإن كان صريخه يشي بالأمر، لا أدري لِمَ لا يموت سريعًا، لا أدري لِمَ لا يُخلّصني من الصوت! لكنّي حين فتحتُ عيني فهمت، فلم أكن من بين الجلوس إلى المائدة، وكنتُ أنا الذي بالوسَط..!
طَرقة بعد طَرقة، عذاب ليس بَعده بَعْد! لا أموت من أول ضربة، ولا يكفّون عن الضرب..
ثغرة بعد ثغرة، وإن العَظْمَة صلبة، وكأنما أشحذها بالطعام طوال عمري لمثل هذا اليوم!
صرخة بعد صرخة، وماذا ينفعكم مُخّي، لو أني أتحلى بالحكمة، لما وقعتُ في هذا الفخ!
قضمة بعد قضمة، يتناولون الدماء بالحكمة، من لُبّ أغبى مُخّ!
~
أصحو، لكن..
هل صحوتُ بالضبط؟
أفتح عيني لكنّها كالمنغلقة بالضبط، أحرّك ذراعي لكنّها إمّا مشلولة أو تعاكسني بالعِند، أفتح فمي لأصرخ أو أنعق بالصوْت، لكنّه موصد بقُفل! وعلى صدري يقبع ثِقَل قرد!
هل أنا مِتّ؟!
أكافح من غير بُدّ، أجاهد حتى ينزاح الثقل، وتعود الأمور إلى طبيعتها، أحرك ذراعي، أفتح عيني، أفغر فمي فأتأوّه:
- آه، الجاثوم!
ظاهرة شائعة، خدعة من المخ، تُرعب لكنّها لا تضّر.
أتطلع حولي فأجد أنّي في موضعي على الأرض، وقد فقدتُ قدرًا من الدماء، حتّى الكوابيس الدامية التي رأيتها إنما هي ناتجة عن الدماء التي نزفتُها وقد انعكسَت على الحُلم! ترى! كل شيء له تفسير علمّي، كل الأمور تحت السيطرة، فلتطمئن، ولتعد إلى النوم.
لا! أنفض نفسي، ألم تكتفِ من النوم، والدّم، والموت؟ أدسّ قدمي في الحذاء وأهرع إلى الخارج، فقد اكتفيتُ من الضرب كذلك!
~
أخطو إلى الشارع نصف المظلم قبل الشروق، فأدرك أن اليوم الأول قد مرّ، وبقي يوم آخر للصمود.. نصف نائم نصف عائش وبالكامل طريح مثل عصفور جريح، فتزفّني العصافير بالشقشقات: "ها هو المغلوب! ها هو مَعَرّة العصافير!"، ولتقريب الشعور فإنه يختلف تمامًا عن الأيام التي تنزل فيها متحممًا متعطرًا وقد تناولتَ الفطور.
أسير دون أن أحصي الخطوات، ولربما قطعتُ سورًا بعد سور، هناك وجع في رأسي، هناك دموع في عيني، وقلبي مكسور.. كل ما بي يئن، يشتكي، وحدها قدمي التي تمضي وكأنما تفر من مصير مجهول، وإن أقصى أنواع الخوف هو الخوف من المجهول.
تتغيّر عليّ الشوارع والوجوه، ولربما الفصول، ألمح طفلاً يعبر الطريق السريع دون أن تتورع عنه السيارات، هذا غير معقول!
أسارع بتنبيههم بيدي، بصيحات صاخبة، ثمّ ـ حين احتدم الأمر ـ وجدتُ أني أركض لإنقاذ حياة الصغير!
توقفَتْ سيارة الميكروباص بفرملة عالية، إرتج لها قلبي والركّاب والسيارات التالية، وأعتقد أنهم ألحقوا ببعضهم بعض الخدوش، لكنّ الطفل في حِضني كان بخير، وشعرتُ بأنني جسور.
نزل سائق الميكروباص مشتعلاً بالغضب، يقلّده بقيّة السائقين، إن لم يفعلوا هذا لا يكونوا شرقيين، وصبّوا على رأسي أنعاتًا سوقية، لا تليق ببطل مغوار!
رفعتُ رأسي بينهم وقلتُ بشمَمْ:
- لقد أنقذتُ حياة طفل!
- طفل! وأين هذا الطفل؟!
كشفتُ عن الطفل في حضني وقلتُ:
- ها هو!
وإذ يتبدى القرد في حضني أجفلتُ، وأبعدته عنّي بحركة تلقائية، بينما أصحح:
- بل قرد، قرد!
وبينما يضحك البعض، فالبعض الآخر لا يملك حسًا فكاهيًا، وعلى سبيل إخلاء الذمة، سألوني آخر سؤال:
- هل هو طفل، أم قرد؟!
وفي دفاعي أجبتُ:
- ولنفترض أنه قردًا، أنتركه ليمت؟ أليس روحًا؟ أليسوا أقاربنا؟ أوليس الإنسان أصله قردًا؟!!
إلى هنا كان قد فاض بهم الكيْل، وتوقف السُّباب متحولاً إلى فِعل، وتكالبَتْ الأيدي عليّ، تستحثها أبواق السيارات المتذمرة أن فلتضربوه بسرعة وتفسحوا الطريق لنا، ومع ضرباتهم على وجهي انسالَتْ قطرة، ومع خبرتي بالدماء استطعتُ أن أميّز إنها ليست من هؤلاء، ومن موضعي على أرض الله وتحت السماء، استطعتُ أن أرى السحب المشحونة تقطر مطرًا، وأدركتُ أن حقًّا مع العُسر يُسرًا!
شكرًا لله الذي لا يترككَ في الظلام من غير بصيص نور، ثُمّ وشكرًا للدكتور نور، وإلاّ فكيف بدا القرد ـ في حِضني ـ أضعف بما لا يقل عن النصف؟ كيف استطعتُ المسير طريق طويل دون أن أشكي من سِمنَة أو رُكبة أو أي شكوى سوى البنطال الذي يسقط أمسكه من الخَصر؟ إنني لستُ مغلوبًا، وإنما منتصر، وإنني أنا أغلب منصورًا!
وفي اللحظة التي أدركتُ فيها هذه الحقيقة نفضّتهم عني بقوّة، بإذنكم، عندي موعد بالمقهى، وخففتُ أركض مثل عصفور تزّفه العصافير:
"ها هو الحبّيب! ها هو روميو العصافير!"
~
أركض لا أتوقف عن الركض إلاّ على مائدتها بالمقهى، أستند إلى حواف الطاولة يتدلى نصفي الأعلى تجاهها لاهثًا، تجفل وتهبّ من مائدتها، فأطمئنها:
- لا تخافي، إنّه أنا!
- ومَنْ أنتَ؟
- ألا تعرفينني؟
فتتفحص حينًا في وجهي، ثمّ تقول:
- كأنني أعرفكَ!
تنفرج ملامحي بابتسامة بلهاء! هذا أحلى إنكارًا مرّ عليّ، هذا الإنكار موسيقى في أذنيّ، نعم، تبدلتُ، نعم ابتعدتُ كثيرًا عن وزني السابق، واقتربتُ من تحقيق الحلم. أستحثّها:
- دققي في العيْن، إنها الشيء الوحيد الذي لا يتغير بنا مهما تغير الوزن!
تقول على الفور:
- أنتَ فتى الحلوى، أليس كذلك؟
أومئ فَرِحًا! أنا الفتى الذي يخطف الحلوى ويركض! انظري كيف صرتُ! تتسع أعينها انبهارًا بينما تقول:
- ولكن، كيف؟! لا يوجد حِمية تفعل ذلك! هل هي جراحة؟
أفكر حينًا، ثم أومئ موافقًا:
- لندعها تكن!
تعود فتسأل:
- وما هذه الكدمات على وجهك، هل أنتَ بخير؟
أومئ بابتسامة عريضة:
- لم أكن بخير مثل الآن، إنني بخير.
تهز رأسها في عَجَب، ثم تجلس مشيرةً لي بالجلوس، تكاد تتناول قطعة من حلواها، ولكن تتصلب يدها قبل أن تمسّها، وتمررها لي قائلةً:
- هي لكَ.
أحني رأسي خجلاً، لكم يفعل الرجل من أفعال مُخجِلة، حين يتلبسه قرد! أحاول ـ بيأس ـ أن أصلّح الأمر، فأقول:
- إنما جئتُ لأذكركِ بوعدكِ، متى نتناول العشاء معًا؟
قالت بتلقائية:
- أيّ وقت! هل يناسبكَ اليوم؟
لا أتمالك نفسي:
- يناسبني؟ بالتأكيد يناسبني، أنا جاهز منذ الأمس!
إنّ تحقق الأحلام لهو أمر يخضّ! بلى، مستعد. لم أنم بالليل ولكنني تيقظتُ! على لحم بطني لكنني شبعتُ، مضروبًا ضربًا مبرّحًا، لكنني بخير! بخير!
يظهر القرد الموتور من خلفها، لا يكاد يخفيه جسدها، أفكر لحظة فيما يمكنه أن يفعل بها، وأخشى عليها مما قد ينالها، أقف مستعجلاً الرحيل وأقول:
- تعرفي، لقد تذكرتُ موعدًا مهمًا اليوم، فهل يمكننا أن نأجل الموعد للغد؟
لكنها قررت أنني لو سأتمنع، فإن التمنّع يليق أكثر بها، رجعت برأسها للوراء وقالت:
- لا أظن، فعندي موعد بالغد.
لكنني أقبلتُ عليها بجذعي راجيًا:
- أرجوكِ، فأنا أتطلع لهذا الموعد بشوق!
بدا عليها الإرتباك، ومن دون أن تقول، فأنا أعلم أنها لا تفهم شيئًا، لكنّها ستشكرني فيما بعد.. أكرر:
- أرجوكِ، أرجوكِ.
- حسنًا، في الغد.
كان القرد قد دسّ إصبعه بالحلوى، واستعدّ ليلطخ بها وجهها، فأسرعتُ أستحثها:
- قولي رقمكِ بسرعة لنرتب اللقاء، بسرعة، بسرعة..
بدأَتْ في سرد الأرقام، وبين الرقم والذي يليه تشعر بوخز على وجهها، فتمسح بيدها موضع الوخز، فتخرج يدها ملوثة بالحلوى، أسارع بأخذ الرقم، وأتركها في حيرتها وأمضي، يتبعني قردي.
~
خطوات على البُعد، يرن هاتفي فإذا به حسينًا، يهتف:
- عندي خبر مؤسف، محبوبتكَ مشغولة ومن الأفضل لكَ أن تصرف نظركَ عنها، لقد جاءت وجالَسَتْ شخصًا آخر، وفي أقل من خمس دقائق حادثها وضاحكها وأخذ رقمها، وأنتَ الذي بقيْتَ عمرًا تضع خططًا لكي ترى وجهها، عذرًا يا خائب، حظًّا أوفر في المرة القادمة.
أستنكر عبارته:
- حظًّا أوفر في المرة القادمة؟ وهل طلعتَ لي في كيس شيبسي؟ إغلق الخط يا حُسيْن، لقد استغنيتُ عن خدماتكَ، هذا كان أنا أيها الأحمق، أنا.
ثم أُغلِق الخطّ مستمتعًا بالصدمة التي ـ ولابد ـ ارتسمَتْ على وجهه.
~
أستلقي متطلعًا لإنتهاء اليوم الثاني واستعادة نفسي، فلا أستطيع النوم من تدفق الأدرينالين، أشاهد القرد الهزيل ملقً في الركن على بطنه مع نظرة كسيرة، بينما يتوهج السوار بشعاع لافت، فأقدّر أنه لم يعد من خوف منه، ومع إنتصاف الليل، أقوم فأستخرج بذلاتي المحفوظة في أكياس لم تُمَسّ منذ خمسة أعوام، فأتفاجأ بأنها تتلبسني كأنما فُصِّلَتْ لجسدي اليوم!
يدوّي صفير الرسائل فإذا بها كلمة واحدة:
"قاتل"!
أتطلع إلى القرد الشاحب، فأشيح ببصري عنه..
ثم تتوالى الرسائل:
"لماذا تقتلني وأنا صديقكَ الوحيد؟ بل أنا أنتَ"
"لقد أنقذتُ حياتكَ، فهل هذا جزاء الإحسان الذي أسديْتُ؟"
"هل أدمنتَ على قتل أحبّائكَ كما قتلتَ لورا؟"
"أنا الوحيد الذي يقْبَلكَ كما أنتَ، فلا تظن أن فقدي سيجعل الحسناء تَقْبل بكَ!"
أخرج لساني وأقول بتحدٍّ:
- لا شأن لكَ!
لحظات ثم تصل الرسالة الأخيرة:
"إذًا، لاقيني في مكاننا المعتاد لأودّعكَ بالغد!"
دعك من أني لا أعرف مكاننا المعتاد، ولكنّي أيضًا لا أريد أن أعرف، أدير ظهري له، وأقول بينما أعقد الكرافات استكمالاً للأناقة:
- كان بودّي ولكن جدولي مشحون للغد، كما لا أظن أنك ستعيش لترى الغدّ!
~
صحوتُ شاعرًا بشعور جديد، مثل مشلول مشى، أو ميّت صحا، لا يبقَ سوى أن أصرخ كمولود جديد، صراخًا يهزّ الكوْن أن: أنا هنا! بعد طول ما كنتُ نُسِيتُ!
لا تخبرني مرآة الحمام النصفية عن مظهر بقية جسدي، لكن فيْض الثقة الذي حلّ بي يغنيني عن رأي المرآة. هذا أنا الذي أعرفه، هذا أنا الذي أستحقه، ولا أحد يستحق ما كنتُ عليه.
أنظر إلى الساعة فتنتقل دقّاتها إلى قلبي الوليد، ويستحيل إلى قلب مراهق على أعتاب مدرسة بنات، إذا ما دقّ جرس انصرافها فانتقلَتْ الدقات إلى قلبه الصغير.
أرفع الهاتف وأتصل بها، من أنا؟ أنا حبيبها، ومتى الموْعد؟ قبل بدء الزمان، وأين المكان؟ في عالَم الذّر، حيث إلتقَتْ أرواحنا في بادئ الأمر، فتعارفنا وتآلفنا ثم نسينا كطبع الإنسان، فسرتُ تائهًا أبحث عنها في كل مكان!
~
تتقدم نحو المطعم، وتتلفت حولها، تبحث عنّي ربما، لا تعرف أني أمامها...
بصمت، وشرود أطالع حسنها..
تلك التي تضوّي عينها مثل فجر حقيق، بعد ليل طويل، آن أوانها.
تلك التي تتدثر في فستان طويل، يعصف به الريح، فتتبدى ساقها!
تلك التي تنساب ساقاها كجوهرتيْن مصبوبتيْن في قالِب يذكّرني بحذاء سندريللا!
أرفع الورود وأتقدم لها، تعرفني بقلبها لا بعينها، يهالها ما ترى، وأسجّل إعجابي بما أرى:
- تزدادين حسنًا.
- أمّا أنتَ فتخسر وزنًا، أتخاوي جنًّا؟
أصححها في تواضع:
- قردًا، أخاوي قردًا..
تتبسم في عَجَب:
- فقدتَ كل شيء إلاّ خفة ظلّكَ.
- فقدتُ كل شيء وكسبتكِ..
تسأل بخجل:
- هل لي أن أفهم، هل هذا موعد غرامي، أم صديقان يتناولان العشاء معًا؟
- ماذا لو أنّه غراميّ؟
- سأستدير عائدة.
- إذًا هما صديقان يتناولان العشاء معًا، أمّا في قلبي الذي لا يملك أحد السيطرة عليه، فهو غراميّ.
تدخل إلى المطعم البسيط، فيتحول بخطوتها إلى أسطورة من كتب السحر، أو ألف ليلة وليلة، ويكتسي رِقّة لم ألمحها قبلاً، وهو مطعمي القديم، وأنا زبونه الأزليّ.. غراميّ، قلبي يخبرني إنه غراميّ.
تجلس فتتطلع بانبهار إلى الأرابيسك، الفخّار، والسجّاد اليدوي، وتقول:
- أحببتُ اختياركَ، الفلكور والأصالة، وقيمة العمل اليدويّ المصنوع ببث الروح والخاطر والأمنيات.. كلّ نسيج مغزول أو قطعة فخار أو شقفة موزاييك خلفها حكاية ورجفة يد ودمعة عين لها تقديرها، وبالنسبة لي، هذا هو المكان المثاليّ.
ويخبرني قلبي إنه غراميّ، بكل ثقة هو غراميّ، فأسكته، وأُسرع بالتقاط الخيْط قائلاً:
- بمناسبة دموع العين...
وأتعثر في بقية الجملة، فتستحثني:
- ماذا؟
- أسأل... أقصد، ما الذي كان يبكيكِ في المقهى؟
تزيح خصلات شعرها وتقول:
- هل تريدني أن أخبر أسراري لمن لا أعرف حتّى اسمه!
أخبط رأسي أن فاتتني هذه، وأسارع بالقول:
- صدَقْتِ، إن اسمي...
تقاطعني بحزم:
- لا أريد أن أعرف، لقد حضرنا غريبيْن، وسنرحل غريبيْن، إنما أنا هنا لأسدد ديْنًا، لأن وعد الحرّ ديْن.
تجرحني الكلمة، تصيبني بالصدمة، لم أتصوّر بعد كل هذه الرحلة لأثير إعجابها، ألاّ تطيق الجلوس معي إلاّ لسداد الديْن. تراجعتُ بمقعدي للوراء وقلتُ:
- إن كان الأمر هكذا، فلا ديْن عليكِ لي، أنتِ حُرّة.
تردَدَتْ للحظة، ثم قامت ترفع أطراف ثوبها وتمضي ـ قبل انتصاف الليل ـ مثل سندريللا!
أحني رأسي، ما أسوأ أن تكون مغلوبًا حتّى وأنت منتصر!.. تضيئ شاشة هاتفي برسالة:
"قلتُ لكَ، بي أو بدوني لن تقبلَ بكَ!"
قلتُ بحديث نفسي: "صدَقْتَ"، ولكنّي حين رفعتُ رأسي وجدتها عائدة، فاستأنسَتْ روحي بعودتها وتهلل وجهي، بادَرَتْني بالقوْل:
- ولنفترض أن اسمكَ زيْدًا أو عمرو، ففيمَ تهمّ الأسماء؟
- لا أهمية لها إلاّ النداء.
- فسأناديكَ: "صديقي"..
أقول بإندفاع بينما أشير لها أن تجلس:
- جميل، جميل جدًا، صديقان يتناولان العشاء معًا، أنا صديقكِ وأنتِ صديقتي.
بينما أُخفي في نفسي أنها حبيبتي، وهذا موعد غراميّ، لتقل ما حلا لها أن تقول، ولكنّه غراميّ. أقول في حماس:
- والآن، هيّا لنأكل، سأطلب لكِ شيئًا يُغذِّكِ، أرأيتِ كم أنتِ نحيلة؟ إنكِ مثل خِلّة الأسنان!
تضحك لائمة:
- أهكذا؟ وأنتَ ألن تأكل؟
- أنا شبعان.
تنظر لي بعدم تصديق، فأضيف:
- سآخذ حساءً معكِ أو شيء ما.
تنزل المائدة الشهية، يتوسطها طبق ترحيبي من المطعم، فأعجَبُ لبُعْد الذِكرى:
- ياه! هذا الطبق قدّموه لي في المرة الأولى، ولم أره على القائمة منذ ذلك الحين، ويبدو أنه ـ حصري ـ للعملاء الحلوين.
تبتسم مصححةً:
- تقصد العملاء الجدد.
أومئ مشيرًا لها أن تتناوله، لكنها تسأل:
- وما هذا؟
- هذا نوع من المحاشي الممزوجة بالمشاوي لا تدري كيف! هذا شيء لن تفهميه إلاّ بالتذوّق، تفضّلي.. تفضّلي!
تتذوق بتحفظ، ثم تشهق إعجابًا:
- هذا بديع!
أشمّر ذراعي وأناولها المزيد، لكنّها تَلمَح السوار، فتشير بطرف عينها وتقول:
- لا تبدوَ من الطراز الذي يرتدي الأساور، ويفتح أزرار القميص حتى المنتصف، كي يُعجِب الفتيات!
فأخفض كُمّ الجاكيت وأقول في إرتباك:
- إنّه للحظ..
أصحح:
- بل هو من النوع العلاجيّ..
أستدرك:
- إنه ذِكرى من المرحومة والدتي!
لكنها تُسكِتني:
- لستَ مضطرًا للتبرير يا صديقي، هذه هي مزية الصداقة على الموعد الغراميّ.
ثم تشير إلى الحساء وتقول:
- لماذا لا تشاركني الطعام أو تتناول حساءكَ؟
شعرتُ بالأسف أن أكدتُ لها ظنّها بخصوص الصداقة، وإن بقيتُ على يقيني بأنه غراميّ، بالتأكيد غراميّ. أتناول الملعقة، وقبل أن أرشف تصلني الرسالة:
"قابلني في الحمّام."
أتجاهلها، وأبدأ بالرشف من الحساء، فتتوالى الرسائل على هاتفي تدفع أولاها آخرها، من غير توقف عن الطنين:
"قابلني في الحمّام."
"قابلني في الحمّام."
"قابلني في الحمّام."
"قابلني في الحمّام."
"قابلني في الحمّام."
"قابلني في الحمّام."
"قابلني في الحمّام."
"قابلني في الحمّام."
"قابلني في الحمّام."
"قابلني في الحمّام."
"قابلني في الحمّام."
فسألتني في إنزعاج:
- هل هناك أمر طارئ؟ يمكننا أن ننهي الموعد، ونلتقي مرّة أخرى.
فأسكتُّ الصوتُ، وقلبتُ الهاتف، قائلاً بابتسامة تخفي القَلَق:
- أيعني هذا أنكِ تريدين لقائي مرة ثانية؟
هزَّتْ كتفيها أن: "حقًا هذا ما فهمتَ؟"، وأشارَتْ إلى حسائي أن استمر!
تابعتُ الإحتساء مُفعَمًا بأفكار مضطربة، ألم يمت بعد؟ ألم ينقضي بإنقضاء الأمس؟ وأين هو إن كان حيًّا؟! لا يظهر بالقُرب!
يضيق صدري بالفكرة، يختنق حلقي بالرشفة، أشرَق، أسعل، تنضح عيني بالدمعة.. أسعل حتى لأكاد أسعل أنفاسي الأخيرة، وروحي الوحيدة، ونبضاتي المضطربة!
ألمح إضطرابها، وخوفها عليّ، فيدق قلبي بأنه غراميّ، أراهنكَ بعمري أنه غراميّ.
تفور أمعائي لافظةً ما بها، أتمالك نفسي ألاّ أقيئ أمامها، أستأذنها وأُهرَع إلى الحمّام مُرغَمًا!
~
في طريقي إلى الحمّام، ألمح وجهًا مألوفًا إلى حد ما، وإن لم أألف جسده، إنها فتاة جلال الجديدة، السمراء الممشوقة، زجاجة الكوكاكولا، وقد استحالَتْ إلى الحجم العائلي!
تاهت ملامحها الجميلة وسط طبقات الشحوم، ولم يمنعها هذا من الإنكفاء على الصحون! ما الذي يضعونه بمأكولات هذا المطعم؟ ويحوّل الأصحّاء إلى بدناء مسحورين مسلوبي الإرادة أمام الطعام، وفي لمح البصر؟!
وجلال، إنّه هناك.. لكنّه ليس على طاولتها، إنّه على طاولة نور وسرور، مجتمعون يتهامسون مثل رجال العصابات، أمّا جلال، فبدا كالرجل الثالث!
ميّزني بسهولة، فهو صديق العمر منذ الطفولة، رفع يده مُلوِّحًا، منعتُ نفسي من القيئ، وأسرعتُ إلى الحمّام.
أدفع الباب وأستفرغ في المرحاض، كتلاً من اللحم، كتلاً من الدّم، ونسيجًا من الخيْط كما لو يخرج من كُمّ حاوٍ، يثير الاستغراب!
أنتهي فأشعر بالخواء، أشعر بالنشاط، أخرج من الكابينة أدبّ في قوّة، أرجّ الجدران!
الحمّام خالٍ، فأين الذي سألاقيه في الحمّام؟! أخطو بحذر، أدفع أبواب الكبائن فإذا بها فارغة، ألتفت، فإذا به هناك.. في المرآة!
لازال مُشوَّهًا كما هو، لازال مسخًا كما يقول الكتاب، ما فرق شيئًا غيْر أن صار نحيلاً مثل فتلة، تتدلّى فوق كتفيّ كما لو نُسِّلَت من البذلة.. ماذا تريد؟
ينظر لي من خلال المرآة ويوسوس في أذني:
- هل أنتَ سعيد الآن؟
أجبتُ بثقة:
- بالطبع، سعيد لأنني قتلتُكَ واستعدتُ نفسي!
ضحك بضعف:
- ولكن فاتكَ شيئًا.. أنني لا أموتُ أيّها الغبيّ!
صحتُ بجَزَع:
- كيف لا تموت! وما أنتَ؟!
ضحك مراوغًا:
- أنا القرد!
- أنتَ جِنّ، أنتَ سِحْر! أنتَ عملاً مأكولاً عُمِلَ لي!
- وهل تؤمن بالسِحر، أم تؤمن بالعلم؟!
أُمسِك برأسي وأصيح بنفاذ صبر:
- إذًا ما أنتَ؟ هل أنتَ جرثومة، هل فِطر، هل طُفيْل! هل خلّقوكَ معمليًا كحرب كيميائية كي يبيدوا البشر، هل مِن المفترض أن تقتلني وتنتشر؟
قال ساخرًا:
- هوّن عليكَ، إنني كل شيء! أنا تتويج العِلمَ والسِحر! إنني طاقة، والطاقة لا تُفنى ولا تُستحدث من العدم، ولكن تنتقل من جسد عائل لعائل جديد، أنا أسكنكَ، وكل ما أفعل أن أوسوس لكَ بالأكل، مهما ابتعلتَ من الطعام لا تشبع بعد، لأنني أنا الذي ابتلعتُ. لم أكن لأقتلكَ، وفي أي سياسة تسويقية أن تقتل العميل!
- عميل! لأي شيء؟ ولصالح مَن؟
صاح على الفور:
- صاحب المحّل بالطبع! تخيّل كمّ الجنيهات التي ربحها من ورودكَ عليه كل يوم، من إشتهائك لأصنافه من الطعام، وإدمانك عليه على الدوام، إنه "بيزنس".. تجارة، ربح وخسارة.
ثم يستدرك:
- لكن خذها منّي كلمة، حتى في خسارته رابح! فلكي تتخلص مني ستدفع له مبلغًا خياليًا، ثمّ أيضًا لا يرميني في المرحاض، بل يستفيد منّي في عائل جديد!
أقول بحسم:
- لكنّي لن أسمح لكم بإيذاء شخص جديد! سأبلغ عنكم الشرطة، والنيابة، والصحّة، والرقابة، وأعلى القيادات! سأشمّع المكان، وأطلب تعويضًا، وأتأكد من أن يُسجنون لعمر مديد..
يقول بلا مبالاة:
- لا أظنّ، أنتَ بنفسكَ تراني بعينكَ وتكاد لا تصدّق، فكيف ستقنع أحدًا غيركَ!
أصيح بانفعال:
- مَن المستفيد؟ مَن؟ هل هو نور؟ سرور؟
فيضيف بذات النبرة:
- جلال؟ أو ثلاثتهم ما بين المُخترِع، والمُسوِّق، ورأس المال!
أحني رأسي في انكسار، وأعيد خلفه:
- جلال!
يدخل جلال إلى الحمّام، فيطالعني بنظرة دهشة، ويقول:
- ما الذي حدث؟ لم تبادلني التلويح واندفعتَ إلى الحمّام، هل أنتَ بخير؟!
أطالعه بغير تصديق، ولا أجيب، فيقول مُعجَبًا:
- أرى أن السوار يعمل جيدًا، وقد استعدتَ جسدك القديم سريعًا، هل اقتنعتَ الآن أنني أرشدكَ الصواب يا صديقي؟
أردد خلفه من غيْر وعي:
- صديقي...؟
فيقول بغير فهم:
- ما بكَ اليوْم؟!
أسأل لائمًا:
- أنتَ يا جلال! أنتَ؟!
- أنا ماذا؟
يقترب، ينظر في المرآة، ولربما رأى القرد، لأنه استدار يقول:
- هل عرفتَ؟
ثمّ أحنى رأسه وقال:
- ما أنا إلاّ ترس في ساقية، تدور من أجل المال، ومَن منّا لا يسعى من أجل المال؟ أنا لم أخترع الساقية، ولا أملك المال لإدارتها.. وإنما.. ثمّة ساحر وعالِم مجنون مولَع بالطاقة، ابتكر وصفة، هذه الوصفة بلا قيمة من غير رجل أعمال يصنّعها وينتِجها ويوفّرها في الأسواق، وهذا المُنتَج بلا قيمة من غير مندوب مبيعات شاطر يسوّقه للعملاء تسويق مباشر.
- بهذه البساطة؟ وكلّ هذا الإيذاء؟
- إذا شعرتَ بالإيذاء، فإن لدينا أيضًا الترياق! هذه شطحة في أساليب التسويق، اكتساح للأسواق، نبتلع السوق وحدنا، لا منافس لنا، وهذه هي التجارة، والتجارة مثل الرياضة، ربح وخسارة، وأنتَ رياضيّ سابق، حتّى وإن نالكَ حظّ عاثر، فإن الحظّ الطيّب صار حليفكَ، قهرتَ قردَك، صرتَ رشيقًا، كما قد نلتَ فتاتكَ!
أسأله مثبّتًا عينيّ في عينيه:
- والصداقة؟!
أمالَ رأسه قائلاً:
- الصداقة ليست وظيفتي، المبيعات هي التي تطعم أسرتي.
فهززتُ رأسي في أسف:
- خسارة!
فرفع رأسه بصَلَف:
- لا، ليست خسارة، إنها أربح تجارة، أنا أعرف أنكَ دفعتَ أموالاً طائلة، وأنا سأعوّضها لكَ، يمكننا أن نعمل "بيزنس" معًا، بصفتكَ بطلاً رياضيًا فإن دعايتكَ للمطعم ستكون لصالحنا، وسنعتبرُكَ رابعنا، وتستعيد أموالكَ في زمن يسير، وفوقها الكثير، هذه صفقة مدهشة، هذه تجارة رابحة، بدأَتْ وراجَتْ لم تكلّفنا شيئًا بأكثر من طبق ترحيبي!
تصعقني الكلمة مثل سلك كهرباء، أدفعه وأركض نحو الخارج، فيشيّعني بصوته عاليًا:
- سامحني يا صديقي!
لا أتوقف لأجيب، أسارع نحو سَحَر التي جلسَت على أطراف مقعدها تهزّ بساقيها في قلق، وتنظر بإتجاه الحمّام، وعلى كتفيها، انتقل قرد هزيل مثل تنسيل بالفستان، يرقبني بتحدٍ وزهو، يرقبني بنصر، حاول كما شئت، افرح كما شئت، فإني أنا المنتصر!
ما إن تراني حتى تهبّ من مقعدها هاتفةً:
- طمئنني عليكَ، هل أنتَ بخير؟
أخلع السوار على الفور أضعه في معصمها، فيتألق بضوء أخّاذ وكأنما يستقي وهجه من القرد الذي يذبل متألمًا في صمت. وأقودها من يدها مباشرةً للخارج، تدرك بفطنتها أن ثمة خطر، فتتبعني دون أن تشغلني بالأسئلة.
ويكفيني الصور التي تتوارد على رأسي ترتسم أمام عيني مثل شريط سينمائيّ، والإحساس بالغباء الذي أقسي من الندم يجلد خيالي، كيف لم أفهم! كيف لم أنتبه حين دعاني جلال لأول مرة إلى المطعم، ثم اعتذر عن الأكل لتعب بالمعدة!
كيف لم أشك بمئات المرات التي قابلته بها صدفة في المطعم مع وجوه جديدة، تتحول لاحقًا إلى وجوه مألوفة بشحوم جديدة!
كيف لم أرْتَبْ بإتفّاق جلال ونور وسرور على أن يجعلوا منّي مجنونًا بالإجماع وكأنما يقرأون من ورقة واحدة!
ثم: "اطعم القرد، أو جد من يطعمه، أو اقتله!"، كان يمنحني الكتالوج، وكنتُ أنا بليد الفهم.
أنظر إلى المرأة التي تتبعني بثقة، دون أن تفتح فمها مستفهمة، تتردد الجملة في خاطري بصفاء نَفس:
"أسامحكَ، أسامحكَ يا جلال إكرامًا لها، وقد وضعتَ الخطّة لأتعرف بها..
تلك التي كانت بعيدة جدًا عن منالي، ثم انتقلَتْ ـ في لحظة ـ إلى ذراعيّ!
تشهق وتتعثر في السير، فأتوقف وأُمسِك بذراعيها، ينزوي القرد، وينطفئ الوهج، وتشعر لسعة من البرد يقشعر لها بدنها، فأضمّها في صدري، وأُقفِل عليها...
ولكنها وقبل أن تختفي بحضني ألمح بعينها نظرة..
نظرة تقول بإنه غراميّ،
قلتُ لكَ ألف مرّة: إنّه غراميّ.
~
(تمت)


MooNy87 غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:06 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.