آخر 10 مشاركات
الوهم * مميزة ومكتملة * (الكاتـب : hollygogo - )           »          غمد السحاب *مكتملة* (الكاتـب : Aurora - )           »          زوجة لأسباب خاطئة (170) للكاتبة Chantelle Shaw .. كاملة مع الرابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          صبراً يا غازية (3) *مميزة و مكتملة* .. سلسلة إلياذة العاشقين (الكاتـب : كاردينيا الغوازي - )           »          الــــسَــــلام (الكاتـب : دانتِلا - )           »          اخطأت واحببتك *مميزة*& مكتمله* (الكاتـب : Laila Mustafa - )           »          تشعلين نارى (160) للكاتبة : Lynne Graham .. كاملة مع الروابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          [تحميل]نور وظلال (اسرار حياتنا) للكاتبة زهرة سوداء اردنية(جميع الصيغ) (الكاتـب : فيتامين سي - )           »          السجينة الحرة (54) -قلوب غربية-للكاتبةالرائعة: أمل العامري*كاملة&الروابط*مميزة (الكاتـب : Just Faith - )           »          جنتي هي .. صحراءُ قلبِكَ القاحلة (1) * مميزة ومكتملة* .. سلسلة حكايات النشامى (الكاتـب : lolla sweety - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 23-03-22, 08:54 PM   #1

عائشة بوشارب

? العضوٌ??? » 485881
?  التسِجيلٌ » Mar 2021
? مشَارَ?اتْي » 38
?  نُقآطِيْ » عائشة بوشارب is on a distinguished road
افتراضي رواية صمت سيكادا *مكتملة*


الفصل الأول

١٢ مارس/ آذار 1994 كان يومًا من أيام الربيع، فصل السعادة والحب، كما أسميه، لو اجتمعت كلمات الغزل الجميلة لما استطاعت وصفه، لكن ذاك اليوم كان مختلفًا تمام الاختلاف عن الأيام التي نشهدها عادة في هذا الفصل، فلم تشرق شمس الربيع فيه كعادتها بعد أن منعتها الغيوم السوداء من نشر أشعتها الصباحية التي تبث في النفوس السكينة والسلام، حتى زقزقة العصافير كانت بالكاد تسمع في ذلك اليوم الكئيب.
السَاعة تُشير إلى الواحدة والنصف زوالًا، ثلوج كثيفة تتساقط، شوارع تكاد تخلو من المارة، صوت غريب يسمع وسط تساقط الثلوج، الصوت يقترب أكثر فأكثر.
فتحت باب المركز الذي أعمل فيه، كان مركزًا للمرضى النفسيين والمختلين عقليًا، مركز "سيدي مجاهد" القابع في أحد أطراف بلدية "مليانة" في إحدى ولايات الجزائر، ذلك المركز شهد أمرًا عجيبًا.
لم يكن ذلك الصوت سوى بكاء رضيع، وضع في قفة صغيرة وغطي بغطاء أبيض وشال بنفسجي، لمحت فوقه ورقة صغيرة كتب عليها "اعتنِ بي أرجوك".
بكاؤه يرتفع أكثر فأكثر وكأنه يطلب الرحمة أو الشفقة على حاله، حملته سريعًا إلى الداخل وقد كانت حالته مزرية تمامًا، حاجته الماسة إلى الدفء دفعتني إلى حمله سريعًا إلى الداخل دون تفكير، نزعت عنه الغطاء المُبلل ثم غطيته بآخر نظيفًا ودافئًا أمام الموقد، وذهبت سريعًا لتحضير الحليب، اعتنيت بالرضيع جيدًا في ذلك اليوم.
الرضيع كان فتاة في غاية الجمال، "تانيلا" التي ترعرعت وكبرت في وسط غريب.
مضت أيام وأيام، والفتاة الصغيرة تكبر شيئًا فشيئًا، وما زلت أذكر ذلك اليوم جيدًا، حين تعلَّمت المشي، وسط نظراتي ونظرات المرضى النفسيين الذين كانوا في غاية السعادة بها وهي تسقط وتنهض لتخطو خطواتها الأولى.
*****
في يوم مشمس من صيف يوليو/ تموز، وبالضبط اليوم السابع من ذلك الشهر كان نزلاء المركز مجتمعين في ساحته، شكَّل بعضهم دائرة بأجسادهم وجلسوا يحدقون في بعضهم بعضًا في لعبة يخسر فيها من يضحك أولًا، مع أنهم لمْ يكفوا عن الضحك لحظةً واحدة، وفيما جلس أحدهم يحدق في انعكاس صُورته في نافورة الماء المتعطلة، جلس آخر مع قطة مشردة يُمشط شعرها الذي لا يخلو من الحشرات، وأخذ آخرون يتحدثون مع أنفسهم بكلمات غير مفهومة، هكذا كانت غالبيتهم غارقة في عوالمها الداخلية.
في ظل هذا المشهد الغرائبي، جلست الفتاة الصغيرة المنعزلة بمفردها على كرسي، وراحت تراقب المرضى من بعيد وتنظر بين فينة وأخرى إلى ملصق تمسكه بيدها.
اقتربت منها "سهيلة"، إحدى العاملات بالمركز، ابتسمت برقة ثم قالت:
هاه، لماذا تجلس صغيرتي "تانيلا" بمفردها هنا ولا تلعب مع الآخرين؟
أجابتها تانيلا بملل واضح خيّم على ملامح وجهها البريئة:
لأني سئمت اللعب معهم يا خالة سهيلة، فلا يجيدون شيئًا غير الصراخ، كما أنني أريد هذه الآلة بشدة.
تعجبت سهيلة فلم تفهم مقصدها وسألتها بحيرة:
عن أي آلة تتحدثين يا حبيبتي؟
أشارت تانيلا بسبابتها إلى الملصق ثم قالت: هذه الآلة!
ارتسمت ابتسامة ممتلئة بالحب على وجه سهيلة وهي تقول: هذا اسمه حاسوب يا تانيلا، وحينما تكبرين قليلًا وتدرسين وتتفوقين في دراستك وتجدين عملًا لائقًا ستجنين الكثير من النقود، وحينها يمكنك الحصول على العشرات منه، فقط ثقي بنفسك وآمني بأحلامك، حتى لو كانت صغيرة.
ثم وجهت إصبعها نحو أنف تانيلا وقرصتها ممازحة وأكملت قائلة بمرح: مثل أنفك الصغير.
قالت تانيلا وقد علت الابتسامة محياها: أنا أؤمن بأنني سأحقق كل أحلامي يا خالتي سهيلة، وأول ما سأفعله لتحقيق حلمي هو الخروج من هذا المكان الذي أكرهه.
دمعت عينا سهيلة وقد فوجئت بما قالته الصغيرة: لقد كبرتِ يا تانيلا، كبرتِ كثيرًا، ستحققين كل ما تريدينه بفضل الله، آمني بذلك فقط، أعلم أنك ستنجحين يا حلوتي.
وقبل أن تنهي كلامها أتت عاملة أخرى مسرعة تحمل أوراقًا في يديها وهي تنادي على سهيلة، فاستدارت سهيلة إليها متعجبة: ما بكِ يا "مرام" ماذا حدث؟!
أجابتها "مرام" بعدما استرجعت أنفاسها المتقطعة وهي تعطيها الأوراق: اقرئي هذا، إنها أوراق تخص...
في تلك اللحظة ظهر شخصان يسيران نحوهما، رجل يبدو في الخمسينات من عمره، وامرأة تبدو في الأربعينات من عمرها، وقد ارتسمت على وجهيهما ابتسامة لطيفة.
لم تستطع سهيلة كبح مشاعرها في تلك اللحظة، فسالت دموعها على كتف تانيلا التي كانت تحتضنها بقوة وهي تقول: ستحققين اليوم أول أحلامك يا طفلتي الجميلة، فها قد أتى قدرك.
لم تفهم تانيلا ما تلمح إليه سهيلة، وما إن همت بسؤالها حتى وصل الرجل والمرأة.
مرحبا يا تانيلا، أنا "مصطفى" وسأكون صديقك المقرب منذ هذه اللحظة، دعيني أعرّفك على زوجتي الحنون "زينب".
كانت ترتسم على وجه الرجل ابتسامة جميلة ورقيقة تبث في النفس الأمان والطمأنينة.
بعد الانتهاء من إجراءات التبني أخذ الزوجان تانيلا معهما إلى بيتهما الجديد، تحت أنظار المرضى النفسيين وعمال المركز وسهيلة التي اعتنت بها واهتمت بتربيتها.
لم تستطع سهيلة كبح دموعها، بينما كان نزلاء المركز وموظفيه يودعونها، بينما بعض أصحاب الحالات الصعبة لم يكونوا قادرين على إدراك ما يجري.
*****
مرت الأيام، ومع كل يوم تصبح حياة تانيلا أجمل بكثير، فقد سعى الزوجان إلى تعويضها عن كل ما عاشته في الماضي، أما تانيلا عوضتهما عن سنوات الوحدة التي عاشاها دون أبناء.
كانا سعيدان بحياتهما الجديدة التي باتت ملونة بألوان قوس الرحمن، بعد أن كان الأسود والأبيض يخيمان عليها، لم يعوضا تانيلا عن الحب والحنان فحسب، وإنما عن كل شيء تتمناه، فما إن تتحدث عن شيء تشتهيه حتى يكون بين يديها، في البداية كانت تناديهم صديقي وخالتي، ومع مرور الوقت أصبحت تناديهما "أمي، وأبي"، كانا في غاية السعادة بهذا، لقد استحقاها فعلًا؛ فما فعلاه معها لم يفعله أبواها اللذين تركاها على عتبة باب المركز، ومع ذلك كانت دائمًا تتساءل؟ يا ترى من هما والديّ الحقيقيان؟ هل كانت حياتهما قاسية لدرجة أن يضعاني في المركز؟ ربما كانا فقيرين جدًا ولم يستطيعا رعايتي؟ تخاطب نفسها البريئة قائلة: تانيلا، أنت حقًا غبية، هل تعطيهما عذر تركك وحيدة؟ لا يوجد عذر لتركك أبدًا ولكن ربما.
كل هذه الأفكار دارت في ذهنها الصغير طيلة هذه السنوات، كانت دائمة التفكير بهما والتخطيط أنها عندما تكبر ستبحث عنهما، ولكن هل يستحقان هذا؟ تخاطب نفسها قائلة: يجب أن أنساهما وأتخطى هذه الأفكار، يجب أن أكمل حياتي مع والدي الجديدين فهما يستحقان حبي لهما أكثر من أي شخص آخر.
تانيلا، تانيلا.
فجأة انتبهت إلى نداء أمها الذي أفاقها من دوامة أفكارها.
التفتت اتجاه الصوت مجيبة:
نعم يا أمي، هل ناديت علي؟
أجل بنيتي، لماذا لا تذهبين للعب مع الفتيات في الخارج حتى تستمتعي بوقتك قليلًا.
أمالت رأسها وقالت: لا يا أمي، تعلمين أني لا أحب اللعب في الخارج؛ لأن اهتماماتي لا تتوافق مع اهتمامات الفتيات الأخريات ناهيك عن صراخهم المزعج.
ضحكت زينب وهي تهز رأسها متعجبة: أنت مختلفة كثيرًا يا تانيلا، هل تعلمين أنكِ تشبهين شجرة الصنوبر؟
لاحظت زينب علامات الاستفهام التي خيّمت على وجه تانيلا فأكملت:
أشجار الصنوبر يا حلوتي تعطي شعورًا بالعزلة، والراحة، والهدوء، كما أنها جميلة، مثلكِ تمامًا.
تلاشت علامات الاستفهام التي خيمت على وجهها لتحل مكانها ابتسامة مرحة تسر القلب.
*****
عاملها الزوجان بلطف شديد، وأدخلاها المدرسة الابتدائية حين بلغت السادسة من عمرها، تانيلا لم يكن لديها أصدقاء دراسة كبقية التلاميذ، كانت انطوائية وتحب العزلة كثيرًا ولا تتكلم إلا نادرًا، ودائمًا ما تنظر إلى نافذتها هائمة في شرودها، ومع ذلك كانت متفوقة في دروسها، فعل العجوزان ما بوسعهما لجعلها تبتسم وتخرج من عزلتها لكن دون جدوى، كان الغموض هو المسيطر الوحيد على شخصيتها.
مرت الأيام والأعوام، وبلغت صديقتنا تانيلا العاشرة من عمرها، يومها خرجت تانيلا من مدرستها متجهة إلى البيت مطأطئة الرأس تمشي برفق وكأنها خائفة أن تؤذي الأرض بقدميها، لا تبالي بأحد ولا تستمع لأصوات زميلاتها حولها كعادتها.
وصلت إلى المنزل، دفعت الباب وإذ بها ترى وجوهًا لم يسبق لها رؤيتها، أناس كثر طبع الحزن ملامح وجوههم.
المكان مزدحم، ولكن لماذا! ماذا يحدث؟ ما كل هذه الوجوه العابسة، ما الذي يحدث هنا؟ أين أمي؟ وأين أنت يا أبي؟
تلك الوجوه التي لم تتمكن من التعرف إليها، جعلت طوفانًا من الأسئلة ينفجر داخلها، تقدمت ببطء نحو غرفة المعيشة باحثة عن أبيها، وقلبها يخفق بشدة.
تانيلا، تانيلا!
انتشل النداء تانيلا من الأفكار التي كانت تدور كأسطوانة مشروخة في رأسها، لكن لمن هذا الصوت؟! وجهت نظرها باستغراب نحو العجوز التي ارتمت على تانيلا بكامل ثقلها معانقةً إياها وهي تبكي بحرقة، ابتعدت تانيلا عنها بضع خطوات لتتمكن من رؤية وجهها، مهلًا هذه جارتنا ما الذي يحدث هنا وأين أبيِ؟!
لم تكمل كلامها حتى رأت وجهًا كئيبًا يغزو الحزن ملامحه، في حالٍ يرثى له، فكشفت لها عيناها أن "هذا هو والدك لكن لماذا هو هكذا وأين هي أمي؟"
قالت العجوز بصوت خافت في طياته الأسى والحزن: إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد توفيت أمك يا ابنتي.

يتبع..

روابط الفصول

الفصل 1 .. اعلاه
الفصول 2 - 10 .. بالأسفل

الفصول 11 - 20
الفصول 21 - 30
الفصل 31 - الأخير




التعديل الأخير تم بواسطة ebti ; 29-03-22 الساعة 01:58 AM
عائشة بوشارب غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 23-03-22, 09:00 PM   #2

عائشة بوشارب

? العضوٌ??? » 485881
?  التسِجيلٌ » Mar 2021
? مشَارَ?اتْي » 38
?  نُقآطِيْ » عائشة بوشارب is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الثاني
الأيام تمضي سريعًا، وتانيلا لم تعد كسابق عهدها فقد ﺗﻐﻴﺮﺕ ﺣﻴﺎﺗﻬﺎ ﻓﻲ ﻟﻤﺢ ﺍﻟﺒﺼﺮ.
ﻛﻞ ﺷﻲء أﺻﺒﺢ معتمًا ﻓﻲ نظرها، ويومًا بعد ﻳﻮﻡ زادت ﻋﺰﻟﺘﻬﺎ ﻭغاصت في انطوﺍﺋﻬﺎ أﻛﺜﺮ ﻓأﻛﺜﺮ، لم تعد ﺗﻐﺎﺩر ﻏﺮﻓﺘﻬﺎ إلا ﻧﺎدرًا، ﺗﺨﺮﺝ للدراسة ﻭ تعود ﻟﺘﻨﻔﺮﺩ بلوحة ﺍﻟﻤﻔﺎﺗﻴﺢ ﻭﺷﺎﺷﺔ ﺍﻟﺤﺎﺳﻮﺏ ﺧﺎﻓﺘﺔ ﺍلإﺿﺎءﺓ.
ﺑﺪأ ﻫﻮﺳﻬﺎ يكبر بعالم ﺍﻟشبكة العنكبوتية، كان هو ﺍﻟﺸﻲء الوحيد الذي ﺗﺴﺘﻤﺘﻊ ﺑﻪ ﺣﻘًا ويؤنس وحدتها.
*****
ﻣﺮﺕ ﺍلأﻳﺎﻡ ﻋﻠﻰ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺤﺎﻝ ﻭﺻﺎﺭﺕ الفتاة الصغيرة ﻣﺮﺍﻫﻘﺔ ﺟﻤﻴﻠﺔ في السابعة عشرة من عمرها، أنوثتها مكتملة تقريبًا.
باتت غاية في الجمال بعينيها الواسعتين العسليتين، وشعرها الفاحم كجناح الغراب الذي يصل إلى خصرها، أما بياض بشرتها فكان يشع كاللؤلؤ ما زادها جمالًا، ناهيك عن رموشها التي تصل إلى حاجبيها.
باتت حلم العديد من شباب المدينة، ومصدر إزعاج لكثير من الفتيات اللواتي يحسدنها على جمالها على الرغم من عدم معرفتهن بها، ولكنها لم تهتم أبدًا بتلك الأشياء التي كانت تعتبرها "ترهات".
هوسها الوحيد ﻛﺎﻥ ﺍﻟﺒﺮﻣﺠﺔ، وكبر ﻣﻌﻬﺎ هذا الهوس إﻟﻰ أﻥ أصبحت خبيرة ﻓﻲ ﺍﻟﺒﺮﻣﺠﻴﺎﺕ.
تجلس ﻋﻠﻰ حاسوبها وأﻧﺎﻣﻠﻬﺎ ﺗتراقص فوق لوحة ﺍﻟﻤﻔﺎﺗﻴﺢ ﻛﺮﺍﻗﺼﺔ ﺑﺎﻟﻴﻪ ﻣﺤﺘﺮﻓﺔ، في لحظة من اللّحظات عبرت ﺑﺨﺎﻃﺮﻫﺎ ذكرى كالحلم، تذكرت تلك العجوز ﺍﻟتي تربت ﻓﻲ حضنها، واﺑﺘﺴﺎﻣﺘها ﺍﻟﺘﻲ لم تحرمها ﻣﻨﻬﺎ
يومًا، كيف لا وقد غمرتها بحنان الأم الذي لم تحظ به من قبل، وعوضتها عن دفء صدر أمها المنسية، فلم تعلو لها ضحكة من يوم غط التراب أمها زينب.
*****
في ليلة من ليالي جانفي/ كانون الثاني الباردة، كانت تانيلا جالسة مع أبيها على طاولة العشاء والصمت يعم المكان كالعادة، ابتسمت بعد أن تذكرت القصة التي اعتاد والدها أن يرويها لها كل ليلة في طفولتها.
فحاولت كسر الصمت بحديثها قائلة: ألن تروي لي تلك القصة اليوم؟
رمقها والدها بنظرات حائرة:
عن أي قصة تتحدثين؟!
هل هناك الكثير من القصص التي رويتها لي في طفولتي حتى تنسي تلك القصة؟ لقد اشتقت إليها، أيمكنك أن ترويَها لي هذه الليلة!؟
ضحك برقة قائلًا: ألن تملي من تلك القصة؟
رفعت حاجبيها ثم هزت رأسها بالنفي، ثم ضمت يديها إلى صدرها بعناد، ورمقته بنظرات الإصرار.
وجه مصطفى عينيه العميقتين الداكنتين الحنونتين إليها مبتسمًا ثم تنهد وقال: حسنًا يا بنتي، منخليهاش في قلبك.
ثم بدأ يسرد القصة:
"كان هناك شابًا طموحًا يصل طموحه وأحلامه عنان السماء، لم تكن أحلامًا تنبع من طفولة أو خرجت من وسادة، بل كانت أحلام شخص يئس من الحياة غير العادلة التي كان يعيشها، ولأنّ تفكيره لم يكن بسيط بتاتًا، كان يسعى إلى إخراج نفسه من دوامة الحياة التي يعيشها ويسعى إلى حياة أفضل، همه الوحيد تحقيق مراده وأحلامه التي آمن بها، كانت شخصيته انطوائيةً نوعًا ما، ولم يكن يملك الكثير من الأصدقاء...
قاطعته تانيلا بابتسامة: مثلي تمامًا.
لا أحد مثلك يا تانيلا، أنت مختلفة جدًا، كما أنك لم تدعي العجوز يكمل القصة.
وأردفت: حسنًا، حسنًا، أعتذر يا أبي، أكمل من فضلك.
أكمل والدها قصته بالقول: لم يكن يملك من الأصدقاء سوى صديقًا واحدًا، ومع ذلك كانت كلمة صداقة ظلمًا في حقه، قد كان أخًا يشاركه الأحلام والطموحات، وبالذات ذلك الحلم حلم التجارة، كان حلمهما منذ الطفولة، ترعرعا وكبرا في وسط مليء بالتّجار وهذا ما زادهما خبرة ومعرفة بأحوال السوق، كان لديهما مكان صغير لبيع الملابس الرخيصة داخل سوق شعبية، كانا يعلمان جيدًا أن أصحاب تلك المنطقة بسطاء لا يستطيعون شراء ملابس فاخرة، وهذا ما ساعدهما في عملية البيع. كانا يتمتعان بروح الدعابة مما جذب الزبائن إليهما، بعد سنوات من المعاناة، والسهر، والنوم في أطراف السوق وسط ظلمة الليل وبرد الشتاء، استطاعا أخيرًا فتح محل وسط السوق، كان محلًا جميلًا لبيع الملابس النسائية، وجاء هذا الاختيار بعد خبرة ودراسة طويلة أكدت لهما أن أكثر الزبائن من النساء فهن يحببن الأناقة والأزياء، وساعدتهما مجددًا روح دعابتهما في جذب المزيد من الزبونات، علاوة على وجهيهما الجميلين وذكائهما في التعامل مع النساء.
مرت الأيام وأصبح محلهما مشهورًا في المنطقة كلها، تأتي إليه النساء من مناطق مجاورة لابتياع أجمل الملابس، تضاعفت أرباحهما تضاعفًا ملحوظًا ففتحا فرعًا آخر في منطقة مجاورة، وازدادت الأرباح ازديادًا كبيرًا، مما زاد من غرور وتكبر الصديق الثاني، لقد صار الحلم قريب المنال.
عم الصمت أرجاء الغرفة للحظات قبل أن يتنهد العجوز ويكمل كلامه، بينما كانت مخيلة تانيلا تسافر مع أحداث القصة.
كان حلمه فتح أكبر شركة للأزياء في الوطن بل في العالم كله.
عاد الصمت ليسود الغرفة من جديد.
خرجت الكلمات بسرعة من تانيلا لتكسر الصمت قائلة: أكمل يا أبي، أرجوك.
ابتسم الأب وهو يقول:
لقد تأخر الوقت يا بنيتي، هيا اذهبي إلى النوم، فغدًا لديك دراسة، وامتحان شهادة البكالوريا على الأبواب، فواظبي على دروسك.
ردت تانيلا بابتسامتها الجميلة:
حسنا يا أبي، سأنام بعد تجهيز مائدة العشاء وغسل الصحون، اذهب إلى غرفتك الآن ونم جيدًا أيها الرجل الوسيم.
ضحك مصطفى ووقف مستندًا على عصاه، ثم سار وهو يتكئ بكل جسده على عصاه مع كل خطوة يخطوها ثم توقف قليلًا ونظر إلى الخلف قائلًا: يا حلوتي، سأكمل لك بقية الحكاية يومًا ما، فلا تنزعجي ولا تتسرعي لأن الصبر هو الطريق نحو الحقيقة.
ردت تانيلا بينما كانت تلملم الأواني: يستحيل أن أنزعج منك يا أبي، أنا متشوقة فقط لمعرفة باقي القصة، والآن هيا اصعد إلى غرفتك وخذ قسطًا من الراحة.
صعد مصطفى إلى غرفته لينام، أما تانيلا فقد كانت تحمل الصحون وهي تائهة في أفكارها، قبل أن تتنهد تنهيدة من أعماق صدرها وتستغفر.
بعد انتهائها من غسل الصحون توجهت إلى غرفتها التي يعمها الهدوء والسكينة، اتجهت مباشرة إلى زاويتها المعتادة التي تضم طاولة خشبية دائرية وكرسيًا صغيرًا أسود، لكن ما زاد المنظر جمالًا ضوء القمر الذي تسلل من شقوق خشب النافذة المهترئ، أخرجت كتبها وبعض أوراقها، نشرتها على الطاولة واضعة يدها اليمنى على خدها وهي تقلب صفحات كتبها، مرت ساعة تقريبًا وهي على الحال نفسه، ثم شعرت بالتعب وبعض الملل فتركت ما بيدها من أوراق واتجهت نحو خزانتها تقلب ثيابها بحثًا عن بيجامتها، أخرجتها ثم وضعت البيجامة على الكرسي وهمت بنزع ثوبها عن جسدها الفاتن.
زاد ذلك الجسد روعة ضوء القمر الذي كان ينشر بريقه فوق جانب من وجهها كأنه يلامس شفتيها بنعومة وينزل شيئًا فشيئًا نحو عنقها، تستدير فينكشف جزءًا من رقبتها وهو يحمل سلسلة زادتها أنوثة ورقة، توقفت قليلًا واضعة القميص من يدها لتمسك بأطراف أصابعها سلسلة كان طولها يسمح لها بالوصول إلى ثدييها الطاغيين بالأنوثة.
جسد الأنثى هو أجمل دولة قد يسافر إليها شاب على الإطلاق، فهل يسافر الشباب من بلد إلى بلد لرؤية مناطقه وأجوائه الطبيعية؟ هراء! إنهم يسافرون بحثًا عن أنثى تكون دولتهم الجديدة التي يقطنون فيها.
تانيلا التي أمسكت السلسلة بأطراف أصابعها غرقت وهي عارية في دوامة من الأفكار، تذكرت في تلك اللحظات أصل السلسلة التي أهدتها إياها سهيلة يوم خروجها من المركز، تذكرت المرضى النفسيين وطيبتهم، تذكرت الأيام التي أمضتها رفقتهم، كانت الذكريات تتسلل إلى عقلها وهي لا تزال ممسكة بالعقد، في لحظة ما تذكرت وعدًا قطعته لسهيلة بأن تزورها.
مرت سنوات كثيرة على فراق المركز، انتبهت تانيلا إلى نفسها فأمسكت بيدها جزءًا من صدرها وغطته ثم التفتت يمينًا ويسارًا وضحكت على حالها.
حدثت نفسها قائلة: ما بك يا أنا! هل أصابك الجنون! لمَ أنتِ عارية؟
أسرعت إلى ارتداء قميصها، فعلق به شعرها الغزير الذي لا يمل منه كتفيها، كشف القميص روعة ونعومة جسدها وكأنه يقول للجاذبية ابتعدي، دعي العالم يرى المعنى الحقيقي للجاذبية، فأدخلت يدها تحت شعرها ممسكة خصلاته برقة محاولة إطلاق سراحه من قميصها الذي تمسك به بشدة، مكملًا صورة الإثارة وطغيان ذلك الجسد المفعم بالأنوثة.
نامت تانيلا تلك الليلة تحت ضوء القمر تتذكر أيام طفولتها الحزينة داخل المركز، لتمر بعدها الأيام وتانيلا حبيسة غرفتها وكتبها لتحقق النجاح في شهادة البكالوريا.
*****
بقي يوم على الامتحان وتانيلا في أتم استعداد له، لم تمضِ ذلك اليوم كعادتها في غرفتها، بل خرجت مع والدها العجوز ليتجولا في شوارع مدينتها ممسكة يد والدها، وبيدها اليمنى مثلجات بنكهة تحبها، تمشي لا مبالية بمن حولها وهي تأسر بجمالها كل العيون التي تقع عليها، أمضت
ذلك اليوم رفقة والدها يتبادلان أطراف الحديث وهما يمشيان في أزقة المدينة وشوارعها.
تطلب تانيلا من والدها الجلوس بعد أن شعرت بأن التعب قد نال منه، فرجلا ذلك المسن لم تعودا قادرتين على حمله كثيرًا كما في السابق، أما تانيلا التي كانت دائمة الاكتئاب سجينة أفكارها السوداء، فقد خرجت ذلك اليوم وأصبحت تلهو كثيرًا، مطلقة لروحها العنان رفقة والدها حتى إن البسمة لم تفارق وجهها.
مضى ذلك اليوم الجميل وعاد كلاهما إلى المنزل في وقت متأخر من الليل، ليناما والبسمة لا تفارق وجهيهما.
*****
حل الصباح سريعًا وأرسلت الشمس خيوطها الذهبية على بقاع الأرض لتطل بأجمل ثيابها، قامت تانيلا كعادتها بواجباتها المنزلية في ذلك الصباح، أحضرت الفطور لوالدها وناولته أدويته، ثم قبّلت جبينه وطلبت منه الدعاء لها بالتوفيق. سارت بخطوات واثقة نحو المدرسة وهي في شوق كبير لخوض امتحان البكالوريا.
وصلت إلى المدرسة الثانوية قبل ربع ساعة من موعد الامتحان، فهذه عادتها أن تصل قبل المواعيد بدقائق، جلست تحت شجرة في ساحة المدرسة وهمّت بمراجعة بعض الدروس، ليقاطعها شاب:
مرحبًا، هل يمكنني الجلوس؟
ردت تانيلا بنبرة عادية دون أن تشيح نظرها عن أوراقها:
نعم، يمكنك ذلك.
مرت دقائق وتانيلا تصب كل تركيزها على أوراقها.
ليعود الشاب من جديد مقاطعًا تركيزها:
آسف على إزعاجك، هل لك بمساعدتي في فهم هذا الدرس، لم أستطع أن أستوعبه.
لم تتردد تانيلا في الإجابة قائلة: حسنًا.
ثم أشاحت نظرها عن أوراقها نحو المتحدث، كان شابًا في غاية البساطة والجمال، ومع ذلك فقد رمقته بنظرة لا مبالية كعادتها وهي تشرح له بنية صافية، فغر الشاب فمه دَهشًا من فهمها الكبير لهذا الدرس على الرغم من صعوبته.
قُرع جرس الدخول إلى قاعة الامتحان، فنهضا في الوقت نفسه وهو يشكرها على مساعدتها معرّفًا بنفسه، لكنها لم تبال باسمه أو حديثه، قائلة: لا عليك، أي شخص كان في مكاني سيفعل الشيء نفسه.
دخلت قاعة الاختبار، فإذ بموقع جلوسهما في القاعة نفسها.
لوح بيده إليها بعد أن انتبه إلى أن القاعة جمعتهما من جديد، وقد بدت السعادة واضحة على محياه لهذه الصدفة: مرحبًا! ها قد التقينا ثانية.
رفعت حاجبها الأيسر ثم أجابت ببرودة ونصف ابتسامة: نعم.
أشاح بوجهه متحدثًا إلى نفسه:
ما بها؟ لماذا هي مغرورة إلى هذا الحد؟!
وقبل أن ينتهي من تساؤلاته نادته تانيلا قائلة: آسفة، لقد نسيت قلمك بحوزتي، خذه الآن قبل أن يبدأ توزيع أوراق الاختبار.
"صمت من فضلكم، سيبدأ الاختبار الآن".
بدأ الاختبار وبدأت صديقتنا تانيلا تقرأ الأسئلة بتمعن شديد.
مرت لحظات وهي تراجع ورقة الامتحان بتمعن شديد دون أن تشيح نظرها عن ورقتها ثانية واحدة، حملت قلمها بيسراها وبدأت من فورها الكتابة على مسودتها، تتوقف للحظات تفكر قليلًا ثم تعيد الكتابة، وهكذا مرة تلو الأخرى تعيد النظر إلى ورقتها بتمعن، تفكر قليلًا ثم تكتب.
"باقي ساعة على انتهاء الوقت الأصلي للامتحان"
عاد صوت الحارس من جديد لتنبيه الطلاب إلى الوقت المتبقي.
أنهت تانيلا الكتابة على المسودة ثم راجعتها جيدًا خشية أن تكون قد نسيت أن تجيب أحد الأسئلة، ثم بدأت تنقل ما في المسودة إلى ورقة الأجوبة.
تنفست الصعداء وارتسمت ابتسامة جميلة على وجهها عندما انتبهت إلى أنها أنهت الامتحان سريعًا وأنه بقي أمامها الكثير من الوقت، لكن الابتسامة تلاشت فجأة عندما شاهدت الشاب والتوتر يطغى على وجهه، فمن الواضح أنه لم يكتب حرفًا واحدًا على ورقته.
نظرت إليه وقد طغت عليها الحيرة، ثم حسمت أمرها وحملت المسودة وضغطت عليها بيدها لتصير شبه كرة صغيرة، أخفتها بسهولة في يدها، طلبت الإذن بالخروج من الحارس ثم نهضت من مكانها ببطء شديد ونظرات الأسى بادية على وجهها.
مرت بجانب الشاب وعيناها مسلطتان على الحراس وضربات قلبها تعلو إلى الدرجة التي باتت تمنعها من التنفس.
وضعت ورقة إجابتها على مكتب الأستاذ وهمت بالخروج، وهكذا انتهى اليوم الأول للامتحان.

يتبع..


عائشة بوشارب غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 23-03-22, 09:01 PM   #3

عائشة بوشارب

? العضوٌ??? » 485881
?  التسِجيلٌ » Mar 2021
? مشَارَ?اتْي » 38
?  نُقآطِيْ » عائشة بوشارب is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الثالث

في طريق عودتها للبيت استوقفها الشاب ونظرات الحيرة بادية على وجهه، شكرها كثيرًا على ما فعلته وهو يعلم أن الحارس لو رآها لأقْصيت من فورها من الامتحان.
لا عليك، لو كان غشًا لما ساعدتك، على الرغم من عدم معرفتي بك جيدًا فإنني علمت عند جلوسنا أنك ذكي، أصلًا كنت تحفظ الدرس بالكامل وصدعتني بتكراره، لذا أنا متأكدة من أن التوتر الشديد هو سبب عجزك عن الكتابة والتركيز داخل الامتحان. وابتسمت نصف ابتسامة وأضافت قائلة: لذلك حاول ألا تتوتر في الغد لأنني لن أقوم بمساعدتك مرة أخرى.
انصرفت تانيلا من أمامه والشوق الكبير لوالدها يدفعها إلى الإسراع إلى البيت، وبينما هي تحث الخطى رأت أمامها قطة صغيرة سوداء تنظر إليها نظرات غريبة، للوهلة الأولى خيل إليها أن القطة تريد إخبارها بشيء أو هذا ما جرى بالفعل.
وصلت تانيلا إلى البيت ووضعت يدها على مقبض الباب ثم أغمضت عينيها بعد أن شعرت وكأن إبرة وخزت قلبها، دخلت البيت ثم توجهت إلى غرفتها، رمت حقيبتها فوق سريرها ودخلت بسرعة إلى غرفة الضيوف.
الغرفة التي لطالما أحب ذلك العجوز الجلوس فيها وحيدًا مع ذكرياته، رأته جالسًا فوق كرسيه الهزاز رافعًا رأسه إلى السقف سارحًا في شيء ما، حتى إنه لم ينتبه لوصولها.
قطعت حبل أفكاره قائلة:
أبي! ما بك أيها الوسيم؟ ألم تشتق إلي؟ يبدو أنك ارتحت من غيابي وحديثي الممل.
رفع حاجبيه دَهشًا من رؤيتها ثم ضحك لحديثها وقال متنحنحًا:
كيف لا أشتاق إلى قرة عيني، طمئنيني كيف صار الأمر يا بنتي؟ كيف كان يومك الأول؟
تقدمت تانيلا نحوه وجلست تحت كرسيه الهزاز ممسكة قدميه تداعبهما بحنان: حسنًا يا أبي، سأسرد لك كل ما جرى.
راحت تحكي له عن كل صغيرة وكبيرة من لقائها بذلك الشاب، وكيف شرحت له الدروس التي لم يستطع استيعابها، حتى قطع حديثها سعال والدها، كان يسعل بطريقة غريبة جعلت قلبها يقفز خوفًا عليه.
ما بك يا أبي، هل أنت على ما يرام؟!
لا عليك يا بنتي، إنها نزلة برد فقط، هيا تابعي حديثك، ماذا جرى بعدها؟
هزت رأسها بالنفي بعد أن سيطر عليها القلق: لا يا أبي، هيا، أريدك أن تأخذ قسطًا من الراحة في غرفتك، تعالى لأساعدك على النهوض، وبعدها سأذهب لأحضّر لك النعناع لعلك تتحسن.
اتكأ مصطفى على عصاه وكتف تانيلا وهو يسير بخطوات قصيرة بطيئة وهو ينظر إليها بنظرات تشي بالكثير.
كيف يمكن لنظرة عين أن تلخص ألف جملة دون أن تنطق بكلمة واحدة؟
وما إن أجلست والدها على سريره، حتى غادرت من فورها إلى المطبخ.
لم يستطع العجوز كتم سعاله فوضع منديلًا على فمه كي لا تسمعه ابنته، فهو لا يريد أن يقلقها خلال الامتحانات، وما إن هدأت نوبة السعال حتى رفع المنديل ليأخذ نفسًا عميقًا فإذ بالمنديل ملطخًا بالدم، ابتسم وراح يحدث نفسه: معك حق أيها الطبيب، لقد عاد المرض ولم يتبق لي الكثير لأعيشه، يجب أن أخبرها الحقيقة قبل أن تصعد روحي إلى السماء ويفوت الأوان.
بعد لحظات أنهت تانيلا تحضير النعناع ومعه وجبة العشاء، فنادت والدها للنزول لتناول الطعام والسهر معًا وتبادل أطراف الحديث كعادتهما.
نزل العجوز بخطوات قصيرة مستندًا في مشيته على عصاه التي هرمت مثله، وجلس إلى طاولة العشاء قبالة تانيلا التي كانت تراودها الشكوك حول حالته الصحية، لكن لم تشأ أن تبوح بقلقها كي لا تؤثر على معنوياته.
مر الوقت وهما يتناولان وجبتهما البسيطة والصمت مطبق على غير عادته، انتبهت تانيلا إلى شروده منذ أن وصلت إلى المنزل فقررت الخروج عن صمتها: ما بك يا أبي، لماذا كل هذا الشرود؟ أهناك شيء يزعجك؟ ألم يعجبك الطعام؟ أخبرني أرجوك ما بك؟
أخرجت أسئلة تانيلا العجوز من شروده وأنسته ما يفكر به، وبابتسامة هادئة قال: لا شيء يا بنتي، لا تعيري اهتمامًا إلى السعال، أنا فقط متعب وأريد النوم قليلًا.
لم يكد ينهي كلامه حتى نهضت تانيلا من فورها واقتربت منه قائلة:
تعال، دعني أساعدك على الصعود إلى غرفتك، لقد تأخر الوقت بالفعل.
صعد العجوز إلى غرفته وهو يتكئ على كتف تانيلا وعيناه لا تفارقانها، كانت نظراته حزينة تخفي الكثير من الأسرار التي لم يستطع البوح بها ولم يعد قادرًا على كتمانها.
تانيلا، يا بنيتي!
لا عليك يا أبي، أنا أحبك، والآن لا ترهق نفسك بالحديث حتى لا تعود نوبة السعال، نم الآن وسنتحدث في الغد بحول الله.
دخلت غرفتها وجسدها يرتعد خوفًا على صحة أبيها ثم أوصدت الباب واتكأت عليه والدموع تغمر عينيها.
أما العجوز مصطفى فقد ظل تلك الليلة محدقًا في سقف غرفته يفكر كيف سيتمكن من إخبارها الحقيقة.
*****
حل الصباح ولم تذق عيناها طعم النوم بعد، نهضت تانيلا كعادتها مبكرًا لتعد وجبة الإفطار ثم وضعتها قرب سرير والدها الذي لا تقوى على العيش من دونه، وطبعت قبلة صغيرة على جبينه تحمل حبًا بحجم العالم.
مر ذلك اليوم ولا جديد فيه، فقد التقت بذلك الشاب وساعدته كعادتها على الرغم من أنها قالت عكس ذلك، وأجابت عن كل الأسئلة بتمعن شديد.
حل الصباح من جديد وجاء معه امتحان جديد.
تانيلا جالسة في مقعدها تنتظر توزيع أوراق الأسئلة فيما تبدو مفعمة بالارتياح، بعد لحظات وزعت الأوراق، مرت ساعتان أنهت تانيلا خلالهما الإجابة عن كل الأسئلة وبدأت تراجع ورقتها.
الساعة تشير إلى الرابعة عصرًا، إنه آخر سؤال في امتحان اللغة العربية.
السؤال كان غريبًا نوعًا ما، فقد توقفت تانيلا كثيرًا عنده دون أن تكتب شيئًا.
يقول السؤال: اكتب نصًا تذكر فيه واجباتك نحو عائلتك ووالديك.
تانيلا تنظر إلى السؤال بشرود حتى إنها لم تشعر بالدمعة التي نزلت على خدها، لم تكن دمعة حزن أو اشتياق، بل كانت دمعة بلا شعور، مر الوقت المتبقي دون أن تكتب حرفًا واحدًا.
كان آخر سؤال في امتحانات البكالوريا وأول سؤال لم تجب عنه.
عند الانتهاء من الامتحان خرج الطلاب وهم في غاية الفرح من التحرر من أعباء الامتحان وكأن حملًا ثقيلًا سقط من على ظهورهم، إلا تانيلا والشاب فقد خيمت الكآبة على وجهيهما، حتى أن الشاب لم يستوقفها كعادته ليسألها كيف سارت الأمور معها.

*****
في العام 2016، لا أذكر تاريخ ذلك اليوم بالتحديد.. هذا ما كتب في المذكرة.
كان لقاءً غريبًا ومفاجئًا نوعًا ما، كعادتي نهضت يومها مبكرًا، كان أسبوعي الثاني في العمل وكادت خطتي تكتمل، كنت أرتدي ملابس العمل أحمل إسفنجة ومعقمات ليستوقفني شاب أسمر قائلًا بنبرة مفعمة بالشك: لقد التقينا ثانية، مرت السنوات سريعًا!
تملكني خوف شديد حينها وبدا عليّ الارتباك، هل اكتشف خطتي يا ترى؟ هل ستكون نهاية كل مخططاتي هنا وبهذه السرعة؟
"مذكرات بقلم تانيلا"
*****

يتبع..


عائشة بوشارب غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 23-03-22, 09:03 PM   #4

عائشة بوشارب

? العضوٌ??? » 485881
?  التسِجيلٌ » Mar 2021
? مشَارَ?اتْي » 38
?  نُقآطِيْ » عائشة بوشارب is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الرابع

عادت تانيلا إلى المنزل محطمة تمامًا، فتحت باب المنزل ودخلت في صمت على غير عادتها، دخلت غرفتها ثم غيرت ملابسها لتأخذ قسطًا من الراحة وما إن جلست حتى قامت من فورها متجهة لغرفة والدها للاطمئنان عليه، استأذنت ثم فتحت باب الغرفة لتجد شخصًا يقف داخلها، خيم الذهول في تلك اللحظة على وجهها.
كان العجوز مستلقيًا على سريره والشحوب يخيم على وجهه وجارهما الطبيب جالسًا أمامه يكشف عن حالته الصحية، لم تستوعب ما يحدث، في لحظة واحدة، لا بل في ثانية واحدة أصبح الكون كله معتمًا في عينيها.
راحت تسأل الطبيب وفي الوقت نفسه والدها بنبرة خوف وتوتر:
ما الذي حصل يا دكتور؟ ما الذي حدث لأبي؟ ماذا هناك يا أبي هل أنت بخير؟ أجبني ما بك؟!
نظر إليها الطبيب ولم يستطع قول شيء، بعدها أشاح نظره عنها والأسف بادٍ على وجهه.
تقدمت تانيلا بضع خطوات إلى أبيها ثم أمسكت بيديه الكبيرتين محاولة جاهدة إخفاء دموعها، فأخذ والدها يطمئنها بصوت خافت: لا تقلقي يا بنيتي، لقد انخفض ضغطي قليلًا، سأستريح الآن وبعد أن أنهض سأكون على ما يرام.
غادر الطبيب الغرفة مومئًا لتانيلا أن توافيه على انفراد كاشفًا لها أن حالة أبيها حرجة بعد أن عاد إليه المرض الخبيث من جديد.
*****
ارتميتُ على السرير والمشاعر المختلطة تتدفق مرة واحدة في روحي مع كل قطرة دم تمشي في عروقي، قلبي يكاد يخرج من صدري، حتى أنفاسي المتقطعة جعلتني أنسى كيف أستنشق الهواء، فالحزن أول من زارني منذ الصغر ولم يغادرني منذ ذلك الحين، من قال إن الألم يجعلك تشعر بأنك على قيد الحياة؟! إنه كاذب! فالألم يشعرك بأنك ميت تصارع الحياة.
احتضنتُ وسادتي وغمرت بها وجهي، بكيت بصمت ساعة متواصلة، جلست أفكر ماذا أفعل كي تعود لأبي عافيته، أو ماذا سأفعل بنفسي إذا قدر الله وأصابه شيء.
أما العجوز فقد منحته إبرة المخدر الذي انساب في جسده نومًا عز عليه في الفترة الأخيرة.
*****
هنا ستنتهي رحلتي في هذا العالم الكئيب والمرعب، في هذه اللحظات أكتب آخر حروفي ببقع الدم المتناثرة حولي التي تداخلت ألوانها وامتزجت بين الأحمر الدموي والأسود القاتم فامتزجت بشكل جميل ومخيف لتزيد من غرابة الغرفة التي أنا وسطها ألفظ آخر أنفاسي.
وسط هذا المشهد، كانت هذه آخر الحروف التي كتبتها تانيلا في مذكرتها، لم تكمل باقي ما كتبته، ربما دهمها الموت فجأة، ربما أنهت أو ملت من الكتابة، وربما انتهت آخر قطرة دم في جسدها.
"مذكرات بقلم تانيلا"
*****
ظلت تانيلا تعتني بوالدها وتقوم بتدليله كطفل صغير، اكتمل المشهد مع عناد والدها المتواصل خاصة عندما تلح عليه أن يجري العملية التي أوصى بها الطبيب، لكنه يستمر بالرفض لأنه يعرف أن نسبة نجاح العملية ضئيلة جدًا وهو يريد أن يكمل ما تبقى من حياته في بيته الدافئ المليء برائحة عطر زوجته المتوفية الذي يعج بذكرياتهما معًا.
بقيت تانيلا تأخذ والدها للتنزه مرتين في الأسبوع، يمرحان معًا ويغيران الجو لعل صحته تتحسن.
خرجت تانيلا من المنزل محتضنة يده لتساعده على المشي متوجهين إلى قبر أمها "زينب" بناء على رغبته، وفي طريقهما اشترى باقة جميلة من الياسمين الذي طالما أحبته.
عند وصولهما وضعت تانيلا الورد فوق القبر وفي عينيها نظرة اشتياق كبيرة، وبعد قراءة الفاتحة ودقائق من الصمت الحزين تنهد العجوز تنهيدة طويلة وقال بنبرة يغمرها الحزن: لقد اشتقنا إليكِ كثيرًا يا جميلتي، اصبري قليلًا، فلم يتبق وقت طويل حتى آتي لأنام بالقرب منك وندردش سويًا كما كنا نفعل دائمًا.
نظرت إليه تانيلا نظرة معاتبة ثم قالت له: لا قدر الله يا أبي، أرجوك لا تقل كلامًا كهذا يؤلم قلبي!! فلا تزال أمامك حياة طويلة لنعيشها سويًا.
لا تقلقي يا حلوتي، لن أذهب إلى أي مكان قبل أن أسعد بنجاحك في البكالوريا.
أمنيتي الوحيدة هي سعادتك وعدم تخييب ظنك.
من النهار الأول الذي رأيتك فيه وأنا فرح يا بنتي، وأتمنى أن تكتمل فرحتي بكِ، وأن أراك ناجحة في حياتك.
إن شاء الله يا أبي.
هيا، فلنذهب إلى البيت، لقد أوشكت الشمس على الغروب كما أنني جائع.
حسنًا يا أبي، أخبرني ما الذي تريده على العشاء لكي نشتريه من البقالة؟
أي شيء تطبخينه بيديك الناعمتين أكون متأكدًا من أنه لذيذًا يا صغيرتي.
*****
وصلا إلى البيت وأخذت تانيلا والدها ليستريح في غرفته، بينما راحت تعد الطعام الذي يحبه.
أصبحت دائمًا تُصعد الوجبات إلى غرفة والدها لكي يأكلا معًا لأنها لم ترد أن يتعب في نزوله إلى المطبخ، وبالتأكيد لن تدعه يتناول طعامه بمفرده، كانت تطعمه بيديها وتحرص دائمًا على إعطائه دواءه في الأوقات التي حددها الطبيب.
*****
مر شهرًا كاملًا وبدا التحسن ظاهرًا على وجه الأب أو هكذا ما كان يبدو عليه الحال، فقد كانت الابتسامة لا تفارق وجهه.
رن الهاتف فتوجهت تانيلا للرد على هذا الاتصال الذي يبدو مهمًا، فلا أحد يتصل الساعة السابعة صباحًا. علت وجه تانيلا الابتسامة وهي تسمع صوت المتصلة، لقد كانت أستاذتها "سلمى" التي لطالما أحبتها لرقتها وطيبة قلبها، والابتسامة التي تعلو ملامحها دومًا وكأنها تبث الطمأنينة بمجرد النظر إليها، فلطالما ساندتها في أصعب ظروفها.
لطالما حدثتها عن أنها تملك قدرة على تحقيق الكثير، وأن ما ينقصها فقط قليل من الثقة بالنفس، وأنها ستفعل شيئًا يؤرخه التاريخ يومًا.
أهلًا أهلًا أستاذتي، سعيدة لسماع صوتك.
أهلا جميلتي، كيف حالك؟
بخير حال الحمد لله، أتمنى أن تكوني كذلك.
بخير حال حلوتي.
أستاذتي، لا أقصد أن أكون وقحة، واتصالك هذا أنا حقًا سعيدة به، ولكن هل هناك سبب لاتصالك في هذا الوقت الباكر؟
ضحكت سلمى: حذقة كعادتك، نعم معك حق، السبب وراء اتصالي بكِ هو أن أعلمك أنه سيتم إعلان نتائج البكالوريا غدًا وأريد من أعماق قلبي أن أتشارك معك لحظة معرفة نتيجتك، لأني واثقة بأنني سأفتخر بك كعادتي، ما رأيك؟
ابتلعت تانيلا ريقها بصعوبة، فقد شعرت بمغص خفيف سببه التوتر، فالبكالوريا من أهم المراحل في حياة أي طالب، فحتى لو كانت واثقة من أدائها إلا أنّ لإعلان النتيجة هيبته.
تانيلا، هل أنت معي؟
مع.. معك أستاذتي!
ما خطبك؟ حتى نبرة صوتك قد تغيرت، إن كنت لا تريدين مجيئي فهذا يعود إليك، كما تشائين يا عزيزتي، فهذا طلب وليس أمرًا.
أرجوكِ، لا تقولي هكذا أستاذة سلمى، ستكون من أفضل لحظات حياتي أن أعرف نتيجتي وأنا معك ولكنكِ تعلمين ذاك الخوف الذي يصيب الجميع قبل معرفتهم بالنتيجة لقد استولى عليّ للحظات.
ردت عليها بنبرة أكثر جدية:
تانيلا، لن تخفقي، أعلم أنّ نجاحك هو توفيق من الله، لكن قدراتك كبيرة وأنا أثق بكِ لأني أعرف طلابي وقدراتهم جيدًا.
"يعطيك الصحة ريحتيني بهدرتك أستاذة، ربي يعيشك".
إن شاء الله جميلتي، إذًا نلتقي غدًا!
أغلقت سماعة الهاتف وهي تبتسم ولو أن التوتر لا يزال يتملكها.
توجهت إلى غرفة أبيها للاطمئنان عليه فوجدته نائمًا كطفل صغير، لم ترد أن تيقظه فسارت باتجاهه حافية وغطته جيدًا وطبعت على جبينه قبلة حنونة.
نزلت تانيلا إﻟﻰ ﻏﺮﻓﺘﻬﺎ ﻣﺘﺠﻬﺔ ﻧﺤﻮ حاسوبها الذي كساه الغبار بعد ﺃﻥ ﺃﻫﻤﻠﺘﻪ مدة ﻃﻮﻳﻠﺔ بسبب اعتنائها بوالدها والامتحانات، ثم جلست على ﺍﻟكرﺳﻲ ﺍﻟﻤﺠﺎﻭﺭ ﻭﻫﻲ ﺗﺘﺄﻣﻞ تفاصيله، أخذت تتحسس لوحة ﺍﻟﻤﻔﺎﺗﻴﺢ مبتسمة وﻛﺄﻧﻬﺎ تنظر إلى صدﻳﻘﻬﺎ ﺍﻟﻮحيد، ﺑﻞ إنّه كذلك ﻓﻼ ﺭﻓﻴﻖ ﻟﻬﺎ غيره، سرحت بذهنها وهي تفكر ﻓﻲ النتيجة.
ﻛﻴﻒ ﻟﻬﺎ ﺃﻥ تنتظر ﺣﺘﻰ الغد ﻛﻲ ﺗﺮﻯ ﻧﺘﻴﺠﺘﻬﺎ وهي غير صبورة؟ ﺃﻓﺎﻗﺖ ﻓﺠﺄﺓ ﻣﻦ ﺷﺮﻭﺩﻫﺎ وﻛﺄﻥ أحدًا ﻣﺎ ﻭﺟﻪ إليها ﺻﻔﻌﺔ ﺑسبب ﺍﻟﻔﻜﺮﺓ ﺍﻟﺠﻬﻨﻤﻴﺔ ﺍﻟﺘﻲ ﺭﺍﻭﺩﺗﻬﺎ، ﺳﺎﺭﻋﺖ إلى تشغيل ﺣﺎﺳﻮﺑﻬﺎ ﻭيداها ترتجفان ﺗﻮﺗﺮﺍً منتظرةً ﺑﺸﻮﻕ ظهور ألوان ﺍﻟﺸﺎﺷﺔ إيذانًا باشتعاله كي ﺗﻨﻔﺬ ﻓﻜﺮﺗﻬﺎ الكارثية.
بدأت أﻭلًا بجمع ﺍﻟﻤﻌﻠﻮﻣﺎﺕ ﻋﻦ ﻤﻮﻗﻊ مدرستها ﺍﻟﺮﺳﻤﻲ، ﺛﻢ استخرجت المعرف ﺍﻟﺨﺎﺹ ﺑﻪ ﺑﻄﺮﻳﻘﺔ يدوية ﻷﻧﻬﺎ ﺗﺴﺘﻤﺘﻊ ﺑﺎﺧﺘﺮﺍﻕ اليدوي كونه ﺃﻓﻀﻞ ﻣﻦ ﺍﻷﺩﻭﺍﺕ الطفولية ﺍﻟﺘﻲ ﻳﺴﺘﻌﻤﻠﻬﺎ ﺍﻟﻤﺒتدﺋوﻦ ﻓﻲ هذﺍ ﺍﻟﻤﺠﺎﻝ، ﻓﻬﻲ ﻋﻠﻰ ﻋﻜﺴﻬﻢ لم ﺗﻜﻦ ﻣﺒتدﺋﺔ ﺑﻞ كانت ﻓﻲ ﻗﻤﺔ الاﺣﺘﺮﺍﻑ، استخرجت ﺟﻤﻴﻊ ﺍﻟﻤﻮﺍﻗﻊ ﺍﻟﻤﻮﺟﻮﺩﺓ ﻋﻠﻰ الجهاز، ثم اكتشفت ﺍﻟﺸﺮﻛﺔ ﺍﻟﻤﺴﺘﻀﻴﻔﺔ لخادم الإنترنت ﺍﻟمستهدف، ﻭأﺧﻴﺮﺍً ﻗﺎﻣﺖ ﺑﻌﻤﻞ عناوين ﻣﻦ اﺳﺘﻀﺎﻓﺔ، وهكذا أصبحت لدﻳﻬﺎ ﻟﻮﺣﺔ ﺍلتحكم ﻛﺎﻣﻠﺔ ﻭطبعًا ﺃﺻﺒﺢ ﺑﺈﻣﻜﺎﻧﻬﺎ ﺭﻓﻊ "الحماية" ﻋن الخادم ﻛﻠﻤﺴﺔ أﺧﻴﺮﺓ للاﺧﺘﺮﺍﻕ ﻭﻳﺼﺒﺢ ﺍﻟﻤﻮﻗﻊ تحت يديها.
لم تكد تمر ربع ساعة حتى تمكنت من اختراقه، فقد كان ذلك أمرًا سهلا بالنسبة لها على الرغم من حمايته المتطورة التي لم يتمكن أحد من تجاوزها من قبل.
تانيلا، ﻳﺎ ﺣﻠﻮﺗﻲ أين أﻧت؟
فجأة انتبهت إلى نداء أبيها ﻣﻦ ﻏﺮﻓﺘﻪ ﺍﻟﻌﻠﻮﻳﺔ، ﻓﺼﻌﺪﺕ ﺇﻟﻴﻪ ﻣﺴﺮﻋﺔ حتى إنها لم تطفئ حاسوبها.
ﺁﺳﻔﺔ ﻳﺎ ﺃﺑﻲ، ﻟﻢ ﺃﻛﻦ أعرف أﻧﻚ اﺳﺘﻴﻘﻈﺖ.
ﺗﻮﺟﻬﺖ ﻧﺤﻮ النافذة لتفتح ﺳﺘﺎﺋﺮﻫﺎ ﻭﻫﻲ ﺗﻤﺎﺯحه ﻗﺎﺋﻠﺔ: لقد أصبحت ﻛﺴﻮلًا ﻳﺎ سيد مصطفى ههههه!
أﺟﺎﺑﻬﺎ ﺿﺎﺣﻜﺎً: ﺍﻟﻠﻪ غالب ﻳﺎ اﺑﻨﺘﻲ، جسدي لم يعد ﻳﻘﻮﻯ ﻋﻠﻰ ﻓﻌﻞ ﺷﻲء ﺳﻮﻯ ﺍﻟﻨﻮﻡ ﻭﺍلاﺳﺘﻤﺘﺎﻉ بالطعام ﺍﻟلذيذ ﺍﻟﺬﻱ تعدينه.
تقدمت تانيلا ﺑﻜﺎﻣﻞ ﺑﻬﺠﺘﻬﺎ ﻧﺎﺣﻴﺘﻪ ﺛﻢ ثبتت ﻭﺳﺎﺩﺗﻴﻦ ﻣﺼﻨﻮﻋﺘﻴﻦ ﻣﻦ القطن ﻭﺭﺍء ظﻬﺮﻩ بالترتيب، ﻭﺍﺿﻌﺔ ﺇﻳﺎﻫﻤﺎ ﻋﻠﻰ ﺷﻜﻞ ﺯﺍﻭﻳﺔ ﻛﻲ تسند ﻛﺘﻔﻴﻪ ﻭﺭﺃﺳﻪ، ﺛﻢ مدت يدها نحو الطاولة ﺍﻟﻤﺠﺎﻭﺭﺓ لتكسب ﻟﻪ ﻛﺄﺳﺎً ﻣﻦ ﺍﻟﻤﺎء ليجرع ﺩﻭﺍءه ﺍﻟﺼﺒﺎحي ثم قالت:
ﺃﺑﻲ، ﺃﺭيد أن أﺧﺒﺭﻙ ﻋﻦ ﻣﻮﺿﻮﻉ مهم.
ﺗﻔﻀﻠﻲ، ﻛﻠﻲ آﺫﺍﻥ مصغية.
ﻓﻲ هذا ﺍﻟﺼﺒﺎﺡ، اتصلت ﺑﻲ ﺃﺳﺘﺎﺫﺗﻲ ﺳﻠﻤﻰ للاطمئنان ﻋﻠﻲ ﻭﺃﺧﺒﺮﺗﻨﻲ أﻧﻪ ﻓﻲ الغد سيتم ﺍﻹﻋﻼﻥ ﻋﻦ ﻧﺘﺎﺋﺞ ﺍﻟﺒﻛﺎﻟﻮﺭﻳﺎ، ﻭﺃﺭﺍﺩﺕ مرافقتي للمدرسة ﻛﻲ ﻧﺮﻯ معًا ﻧﺘﻴﺠﺘﻲ النهائية.
حقًا! عزيزتي هذا خبر رائع، كثر الله خيرها وأنا أيضًا سأرافقك، كم أتوق لمعرفة نتيجتك مع أنني متأكد من أنكِ ستنجحين دون شك يا حلوتي.
صمتت تانيلا قليلًا والتوتر يبدو عليها لتبدأ بعدها دون أن تشعر بقضم أظافرها، أمسك بيدها ووضعها فوق يده الأخرى وهو يربت عليها كي يخفف من توترها، ابتسم بلطف ثم قال:
لا تقلقي بنيتي، أعلم أنكِ خائفة، ولكن سيذهب كل توترك غدًا لأن فرحة نجاحك ستنسيك إياه بإذن الله، فأنا لا أشك في نجاحك أبدًا، وأعلم أن ابنتي تلميذة مجتهدة.
تنهدت تنهيدة خفيفة وكأن حديثه أزال جبلًا كان قابعًا على صدرها ثم قالت بصوت خافت:
إن شاء الله يا أبي، شكرًا لأنك معي، لا أدري ما الذي كان سيحدث لولا وجودك في حياتي!
شردت تانيلا وهي تتذكر اختراقها موقع مدرستها، حيث وجدت الصفحة السرية لنتائج البكالوريا مخبأة بحرص وقد رتبت فيها أسماء الطلاب بحسب الترتيب الهجائي لكن بعد قراءتها اسمها لم يسمح لها كبرياؤها بالغش، أو ربما والدتها زينب لم تسمح لها بعد أن شاهدت طيفها يؤنبها بأنها ابنة صالحة، ولن تفعل مثل هذا الفعل السيئ.

يتبع..


عائشة بوشارب غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 23-03-22, 09:04 PM   #5

عائشة بوشارب

? العضوٌ??? » 485881
?  التسِجيلٌ » Mar 2021
? مشَارَ?اتْي » 38
?  نُقآطِيْ » عائشة بوشارب is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الخامس

ها آنذا مستلقية غير قادرة على النهوض من سريري، كمريض استيقظ من غيبوبة، لا يستطيع تحريك جسده، ليست لدي الجرأة للخطو خارج هذه الغرفة ولا حتى خارج هذا البيت، خائفة من مواجهة ما سيحدث لاحقًا، كطفل صغير متروك داخل قبو مظلم ينتظر أن ينقذ من الجحيم، سيتقرر مصير حياتي المستقبلية بعد ساعات قليلة من هذا اليوم على الرغم من أنه يبدو يومًا عاديًا لبقية الناس.
ساعات معدودة تفصلني عن مصيري، ها أنا أرقب xxxxب الساعة المعلقة على الحائط تارة وساعة هاتفي الرقمية تارة أخرى، اشتد بي الضيق، لماذا لم يأت الصباح؟ لقد تأخر! ألعن نفسي مرارًا وتكرارًا، لماذا لم أرَ النتيجة بعد اختراقي ذلك الموقع الغبي!! لو عرفت نتيجتي لما عشت هذه الدوامة من الصراعات الداخلية التي تغرقني وتحكم الخناق على صدري، آه يا أمي، ليتكِ معي اليوم كي تخففي عني كل هذا التوتر.
لكن لا بأس، لن أحزن مهما كانت النتيجة، سأستمع دائمًا إلى نصيحة أمي العالقة في أذني كالحلق المرصع بالألماس: "لكي تنجح يجب أن تتفوق رغبتك في النجاح على خوفك من الفشل" لذا لن أخاف، سأكون قوية من أجلي، لا بل سأكون أكثر قوة من أجل أبي وأمي.
*****
مرحبا تانيلا أين أنت؟؟ أنا بانتظارك عند باب المدرسة لن أدخل إلا معك!
أهلًا أستاذتي، لقد أوشكنا على الوصول.
قالت موجهة الكلام لوالدها بصوت مضطرب: أبي، أستاذتي اتصلت بي، لكن.. يا أبي نصفي يريد الذهاب والنصف الآخر يأبى.
أجابها وهو يتكلم بصعوبة بسبب سعاله المتواصل قائلًا:
لا تتوتري يا ابنتي، ثقي بربك فلن يخذلك أبدًا.
دهمه السعال قبل أن يكمل حديثه فقالت بصوت مرتجف: أبي، هل أنت واثق من أنك بخير؟ إذا كنت تشعر بالتعب فلنعد إلى المنزل.
لا تقلقي يا ابنتي، أنا بخير، كما أنني أريد أن أفرح بنجاحك، ثقي بأني لن أترككِ وحدك أبدًا.
تأثرت تانيلا من حديثه واغرورقت عيناها بالدموع، طمأنها حديثه وكأنما أعطاها جرعة من الهدوء.
ها هي تصل إلى المدرسة التي استحالت إلى مكان مرعب، تسمرت مكانها بعد رؤيتها الطلبة، البعض يبكي والبعض فرح، وهم مشغولون بين عناق ومواساة وكأنه مشهد من مسرحية فانتازيا.
أخذت أنفاسها تتسارع ويداها ترتعشان وأسنانها تصطك، حتى رأت معلمتها تتقدم نحوها بابتسامة هادئة بثت الطمأنينة في قلبها المرتجف.
أمسك العجوز بيد تانيلا بعدما ألقى التحية على سلمى وتقدموا نحو باب المدرسة المزخرف بالأبيض والأخضر.
*****
"تستمر الحياة في تخييب ظننا وتحطيمنا إلى أشلاء، حتى نتيقن أنها ليست عادلة ولا دائمة، وبعد كل خيبة وكل جرح نستفق وتتفتح أعيننا على حقيقة جديدة"
كيف لا أذكر فرحتي في ذاك اليوم، فتلك كانت آخر فرحة في حياتي، أول شيء رأيته بعد دخولي المدرسة، سبورة كبيرة معلقة على الجدار ثبتت عليها أربع أوراق كتبت عليها أسماء الناجحين مع درجاتهم. لولا أبي لما استطعت أن أتقدم نحوها للاطلاع على نتيجتي.
تقدمي يا ابنتي، لا تخافي، ابحثي عن اسمك في الأوراق، أنت تعرفين أن نظري ضعيف.
إني أنظر يا أبي، لكن الكلمات تتحرك وحدها، لا أستطيع قراءتها جيدًا.
همست الأستاذة محاولة تهدئتي:
حسنًا، لا داعي للقلق، ولماذا أنا هنا إذًا، سوف أبحث عن اسمك هنا، انتظري فقط..
هنا لا يوجد، وهنا كذلك، وليس هنا أيضًا.
استمرت سلمى في البحث وهي تقرأ أسماء الطلبة بتمعن، أما تانيلا فوضعت يدها على قلبها بينما تضغط بالأخرى على أبيها كطفلة صغيرة خائفة من الضياع وسط الزحام.
فجأة صاحت سلمى مبتهجة بفرحة تغمرها وهي تضع إصبعها أسفل الورقة قائلة: انظري يا تانيلا، هنا اسمك، هنا!! يا ربي لقد نجحت يا حبيبتي، تهانيّ الحارة.
تقدمت تانيلا بتأنٍ نحو الورقة وقلبها يخفق بشدة وقد جف حلقها لتقرأ اسمها وتعود البهجة لتسري في جسدها من جديد بعد أن ظنت أنها لن تعود.
اغرورقت عينا تانيلا بالدموع، ثم عانقت والدها وهي تكاد تبكي، في تلك اللحظة استطاعت تانيلا أن ترى كم كان والدها فخورًا بها! ربما لهذا السبب انفجرت بالبكاء مع أن دموعها عزيزة لا تتدفق إلا للشدائد.
نظرت إلى والدها وفي عينيها الكثير من الكلام الذي لم ترد أن تبوح به، كاشتياقها لأمها وكم كانت تتمنى أن تشاركهما فرحة نجاحها! لكنها لم تشأ إحزانه.
لقد فعلتها يا حبيبتي، كنت واثقًا تمام الثقة بأنكِ ستنجحين، وسبحانك ربي كيف تقبلت دعائي، حتى إنك في المرتبة الثانية في المدرسة.
أنا سعيدة جدًا لأن تلميذتي جعلتني أشاركها هذه اللحظة المميزة، بالتأكيد لن أنسى أن أجلب لك هدية قيمة.
تضرج وجه تانيلا خجلًا وهي تقول: لا داعي للهدية يا أستاذتي، مرافقتكِ لي أجمل هدية.
امممم هكذا إذن! حسنًا يا حلوتي، هذا يعني أنه الغداء على حسابي في المطعم الذي أحبه.
*****
سرنا والسعادة تغمرنا وقد كان واضحًا أن سعادة والدي فاقت سعادتنا، ظلّ يلقي علينا جميع النكات التي يعرفها طوال الطريق حتى وصولنا إلى المطعم، لا أنكر أنني كنت سعيدة جدًا كطفلة صغيرة فرحة بثوب العيد، لكن كل تفكيري كان منصبًا على أمي رحمها الله، كنت سأكون أكثر سعادة لو كانت معنا الآن، لكن شاءت قدرة الله والحمد لله على ما شاء.
كان أول ما لمحته قبل دخولنا المطعم ورد الياسمين البيضاء الكبيرة، كم أحب رائحتها المتميزة العطرة التي تبث في النفس الطمأنينة، بالنسبة لي هي أفضل أنواع العطور، لفت نظري التصميم الرائع، فعند دخولك تجد ستائر مزينة بلؤلؤ أسود لامعًا جعله لمعانه وانسجامه مع التصميم يبدو حقيقيًا، حتى لون الطاولات أسود غامق كالشكولاتة الغامقة، المصابيح البيضاء أضافت رونقًا جميلًا، أما الكراسي فقد كانت وثيرة تجعلك تشعر كأنك في منزلك.
رفضتُ أن أجلس بجانب الشرفة على الرغم من المنظر الجميل الذي تطل عليه، فخوفي من المرتفعات منعني من ذلك، لم تمضِ على جلوسنا دقائق قليلة حتى توجه إلينا نادل يبدو في الخمسينات من عمره مقدمًا قائمة الطعام بابتسامة لطيفة، ثم وضع أمامنا جرسًا صغيرا وهو يقول: عندما تقررون أي طبق تريدون تناوله اقرعوا الجرس فحسب، وسآتي في الحال.
أبي طلب حساء السلمون وأستاذتي طلبت المعكرونة الإيطالية بالجبن، أما أنا فطلبت السمك المشوي مع السلطة وحبة من الليمون، كم أحب شكله المقرمش خصوصًا بعدما أعصر الليمون فوقه، حقًا لقد كان لذيذًا بشكل جنوني حتى الأسعار لم تكن باهظة الثمن على الإطلاق، بل كانت مناسبة بالفعل.
شكرًا لكِ كثيرًا يا ابنتي سلمى على الوليمة الرائعة، لن ننسى أبدًا هذا اليوم وكم كنا سعديّن فيه أنا وتانيلا معك، أتمنى لك الرضا لأني أعلم أنه ليست هناك سعادة دائمة لذا تمنيت لك الرضا عن النفس.
كم كلامك جميل ورائع سيد مصطفى! أتمنى لك الشيء ذاته.
هذه أفضل هدية تلقيتها في حياتي على الإطلاق، شكرًا جزيلًا أستاذتي، إنه أفضل يوم في حياتي.
ابتسمت سلمى ابتسامة تشي بالحماسة ثم قالت: لا داعي لشكري، فكم احتجتُ لهذه النزهة، وحقًا قد أراحني الخروج معكما فقد كنت بحاجة ماسة للاستمتاع، والآن هيا أعطني قبلة وداع يا عزيزتي، واعتني بنفسك وبأبيكِ جيدًا.
ردت عليها تانيلا بعدما قبلتها:
بالتأكيد سأفعل أنتِ أيضًا اعتني بنفسك، إلى اللقاء أستاذة.

يتبع..


عائشة بوشارب غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 23-03-22, 09:07 PM   #6

عائشة بوشارب

? العضوٌ??? » 485881
?  التسِجيلٌ » Mar 2021
? مشَارَ?اتْي » 38
?  نُقآطِيْ » عائشة بوشارب is on a distinguished road
افتراضي

الفصل السادس

بعد مضي أسبوعين على نجاحها في البكالوريا أتت تدق بابي الساعة الثالثة فجرًا، ما بث في نفسي الخوف، كانت حالتها مزرية وقد أكدت نبرة صوتها المرتعدة وعيناها المغرورقتان بالدموع مخاوفي...
طلبت أن أرافقها إلى منزلها لأن وضع والدها بات متدهورًا، فطلبت منها بضع دقائق لأستبدل ملابسي!
أرجوك، أسرع ربي يخليك، أنقذه، لا تدعه يموت، أتوسل إليك!!
حسنًا، اهدئي، لا تخافي، أنا قادم.
لو لم تخبرني بالحال الذي كان عليه لأنبني ضميري، لست أقول إن موته شيء مفرح، فلم يكن موت أحدهم مفرحًا مع أنني قابلت الموت كثيرًا! لكن على الأقل لم يكن تأخري سبب وفاته، كان يعرف أنه سيموت، ولكنه حذرني من كشف ذلك لابنته المسكينة، قطعت وعدًا والتزمت به، فهذه كانت رغبته.
*****
تانيلا، انهضي يا ابنتي، أفيقي.
فتحت عينيها ببطء وهي تفركهما.
لماذا لم تنامي في غرفتك يا ابنتي! ستؤلمين ظهرك. قالها والقلق يطغى على ملامحه.
نهضت بروية من على الكرسي ثم تثاءبت قائلة: لم أستطع الذهاب وتركك وحدك، فحتى لو ذهبت إلى غرفتي لم أكن لأستطيع النوم، لأن بالي سيبقى مشغولًا عليك.
ابتسم بدفء قائلًا: يا لك من ابنة صالحة، لطالما علمت أنك مختلفة تمام الاختلاف عن كل من عرفتهم في حياتي.
بادلته الابتسامة، ثم ساعدته على الجلوس، وسكبت له الماء وناولته أدويته وهي تقول بمرحٍ: هيا أبي، عزيزي، اشرب دواءك يا شطور كي أنزل للمطبخ وأعد لك الطعام الذي تحبه.
ابتسم قائلًا: حسنًا أستاذتي الصغيرة سأفعل.
*****
في وقت لاحق من ذلك اليوم، كانت تانيلا في المطبخ الصغير تقطع البصل شرائح صغيرة، بينما كان والدها في غرفته يناجي ربه، ويحاول النهوض من سريره بصعوبة وهو يقاوم السعال الذي دهمه فجأة، تقدم نحو خزانة الملابس محاولًا الوصول إلى ظهرها بصعوبة فائقة، وبعدما تمكن من جلب مفتاح صغير ذهبي توجه نحو طاولته الصغيرة ثم فتح درجها السفلي وأخرج صندوقًا خشبيًا صغيرًا يملأه الغبار، من الواضح أنه لم يستعمل منذ زمن، جلس فوق سريره ونظرات الحسرة مسلطة إلى الصندوق، مسحه بيديه الكبيرتين ليتطاير الغبار من حوله ثم فتحه وهو يحاول مقاومة سعاله المستمر. وضع يده على قلبه مغمضًا عينيه من شدة الألم الذي اجتاحه، أخرج من الصندوق عقدًا أنثويًا رقيقًا فضيًا يتوسطه عقيق أحمر مزخرف، ظل يتحسسه حتى سقطت على خده دمعة حارقة ثم قال والشرود يسيطر عليه:
لقد حان الوقت.
أفاق من شروده عندما سمع خطوات تانيلا المتقدمة نحوه، راح يمسح الدموع التي انسابت من عينيه وهو يخبئ الصندوق بسرعة تحت وسادته قبل أن تدخل تانيلا بثوان.
فتحت تانيلا الباب وهي تحمل بيديها الطعام قائلة: أبي حبيبي، حساء الخضار الذي تحبه.
بدأ يضحك من طريقة تقديمها الاستعراضية للحساء ومع ذلك فقد كان الارتباك باديًا عليه: آه، ما ألذ هذه الرائحة الطيبة!
جلست إلى جانبه وراحت تطعمه كطفل صغير، لكنه لم يقو على المواصلة فقال بصوت منهك.
"صحيتِ، لقد شبعت يا بنتي".
ردت عليه بنبرة إصرار: أرجوك يا أبي، لم يتبق الكثير حتى ينتهي الصحن.
حسنًا، حسنًا، أيتها العنيدة، ملعقة واحدة لا أكثر!
أومأت إليه بابتسامة عذبة ثم قالت:
بل ملعقتان!
تبادلا نظرات التحدي ثم انطلقا في عاصفة من الضحك، وبعد أن أرغمته على إنهاء حسائه. شرد من جديد ثم قال بنبرة حزينة: تانيلا، أريد إخبارك بشيء مهم.
حسنًا يا أبي، سأغسل الصحون ثم آتي لندردش.
أمسك بيدها قائلًا:
كلا، إنه شيء مهم لا يمكنه الانتظار.
جلست أمام والدها والاستغراب بادٍ على وجهها، تنتظر أن يخبرها بالشيء المهم الذي لا يمكنه الانتظار.
طال صمته وهو يفكر من أين يبدأ حتى قاطعه فضولها: أنا مستعدة لسماعك إن كنت جاهزًا يا أبي.
أخرج الصندوق الخشبي من تحت وسادته وسط دهشتها: من أين لك هذا الصندوق يا أبي؟
نظر إليها من دون أن يجيب ثم قال:
هل تذكرين تلك القصة التي لطالما رويتها لكِ عن صديقين كانا كالإخوة وكافحا ليعيشا حياتهما بشكل مثالي؟
ردت عليه بنبرة حماسية: بالتأكيد أتذكرها يا أبي وما زلتُ أنتظر منك أن تكملها؛ لكن ما دخل القصة بموضوعنا؟
أجابها وهو يكافح سعاله: سأروي لكِ نهايتها هذه المرة.
لطالما تشوقت لمعرفة نهاية القصة، لكن حالتك لا تبدو بخير يا أبي، أشعر بأنك لست على ما يرام فلا داعي أن تتعب نفسك الآن، فما زالت أمامنا أيام كثيرة ويمكنك أن ترويها لي عندما تتحسن.
لا يا ابنتي، يكفي تأجيلًا، وأصغي لما سأقوله، لقد انتظرت سنوات طويلة لأجد اللحظة المناسبة، لكن الوقت نفد.
حسنًا كما تريد، لكن أولًا أخبرني ما قصة الصندوق؟ وما الذي يوجد بداخله؟
ستفهمين بعد قليل.
ابتلع ريقه بصعوبة وراح يروي:
كما تعلمين أن "جميل" وصديقه قد أصبح لديهما محلان لبيع الملابس بعدما تعبا كثيرًا وقد بات كل شيء رائعًا، ما عدا جميل، فقد تغيرت طباعه وبات مغرورًا، طائشًا، ومبذرًا ينفق معظم نقوده على الفتيات، واستئجار السيارات الفخمة وإيهامهن أنها ملكه حتى يتمكن من امتلاكهن، وفي كل مرة يقع فيها يطلب المساعدة من صديقه ويستعير منه النقود مع أنه لا يردها له أبدًا.
صمت قليلًا وهو يشيح بنظره نحو الحائط شاردًا في مخيلته.
لقد كنت أنا يا تانيلا. أنا ذلك الصديق، لم أيأس من جميل فقد كان أخ بالنسبة لي، ظللت متمسكًا به محاولًا أن أعيده إلى طبيعته التي عرفته بها لكنه أبى، لم أستسلم، كافحت كثيرًا من أجلنا، ولولا اجتهادي لما حققنا الحلم أو حتى نصفه.
عاد لشروده مجددًا ومعه دهمه شعور غريب بعدم القدرة على التنفس.
حاولتُ بشدة إنقاذه وإنقاذ نفسي، وأخيرًا بعد تعب طويل ونضال شاق تمكنّا من فتح شركة صغيرة.
توقف لحظة ثم ابتسم فرحًا وبدا منفعلًا، وقد اكتسى وجهه بحمرة قانية وهو يقول: لم أصدق، لقد تحقق نصف حلمنا أخيرًا!! كنت سعيدًا بشدة.
عادت ملامح الحزن لتطبع ختمًا أبديًا على وجهه وهو يقول:
لكن فرحتي لم تدم طويلًا بسبب مصلحة الضرائب، لم يكفني المال آنذاك فقد كنت تزوجت مؤخرًا بأمكِ زينب رحمها الله ونصف المال الذي ادخرته استأجرت به منزلنا، أما النصف الآخر فأخذه جميل عندما كان محتاجًا، لم أرَ أنها مشكلة فقد كنت معتمدًا على جميل بما أننا أصدقاء، فيمكنه إقراضي بعض المال للخروج من مشكلتي، فهذا ما نفعله لمساعدة بعضنا، صحيح؟ لم يدهشني رفضه إقراضي المال على الرغم من أنه لم يرجع لي نقودي، بل ما أدهشني هو طلبه!
استخرج المنديل من جيبه مجففًا جبينه الذي كان يقطر عرقًا، ثم أكمل: طلب مني أن أكتب جميع أسهمي في تلك الشركة باسمه لكي يتحمل دفع الضرائب وحده، لم أفكر أبدًا بأنه سيخدعني ويسرق الشركة وفكرتي كذلك، لكن للأسف هذا ما حدث يا صغيرتي.
ردت تانيلا بغيظ وعصبية:
يا ربي! كم هو وقح هذا الرجل! كيف يمكنه أن يفعل بك هذا؟ كيف يجرؤ؟
قاطعها قائلًا: لم أكمل بعد يا ابنتي، يجب أن تكوني صبورة وقوية لسماع القادم، تمالكي نفسك.
بدا الحزن والتوتر على وجهه وكأنه سيفجر قنبلة نووية في قلب صغيرته.
يا تانيلا، لا أعلم كيف سأخبرك بهذا، صدقيني هذا صعب جدًا عليّ، وسيكون أصعب عليك، لكن أريدك أن تعلمي أني لطالما أحببتك، ومهما كان الكلام الذي سأقوله صعبًا عليك فإياكِ أن تشكي في حبي لك أو حب أمك رحمها الله لك.
لاذت تانيلا بالصمت مسلطة عينيها على مشاعر الحيرة والخوف والتوتر وهي تحيط بوالدها.
أكمل حديثه وقد أشاح ببصره عنها خشية أن تهزمه عيناها كما هزمته في كل مرة فكر في البوح لها بالسر.
بعد استيلائه على الشركة، غير فيها كل شيء حتى اسمها، وأصبح شخصًا آخر تمامًا، فقد أعماه الطمع، وبات منحطًا إلى الدرجة التي أخرجته من عباءة الإنسانية، فقد ظن أن كل ما في الحياة يُشترى بالمال، بعد أربع سنوات أقام جميل علاقة غير شرعية مع خادمته التي أحبته بكل صدق، خاصة أنه أوهمها أنه سيتزوجها ويجعلها سعيدة فقط لينال مراده منها، وبعد أشهر قليلة حملت المسكينة، لكنه لم يقبل بحملها إطلاقًا، فكل ما يهمه كان كلام الناس حيال كيفية زواج رجل أعمال مهم مثله بخادمة مسكينة! صحيح لقد أصبح رجل أعمال مهمًا لأنه سرق فكرتي وجهدي وتعبي، لقد جعلت منه شخصًا مهمًا ودون ضمير في الوقت نفسه.
كان اسمها "آسيا". لم تقو على العيش مع فضيحة كهذه، فكما تعلمين شرف الفقير أغلى من حياته، لا يُشترى ولا يباع، لم يكن لديها أحد لِيقف إلى جانبها ويساندها لا سيما أنها يتيمة، على الرغم من توسلاتها له، رفض أن يتزوجها، المسكينة كانت ترغب في إنجاب هذا المولود، وكل ما أرادته من هذه الحياة عائلة سعيدة تعوضها حنان أمها الذي فقدته، لكن جميل كان رافضًا تمامًا فكرة الزواج من خادمته، وكل ما استطاع تقديمه هو السماح لها بالمكوث في بيته كخادمة إلى يوم الإنجاب.
صمت قليلًا ليسترد أنفاسه دون أن يستطيع أن ينظر في عيني ابنته:
في ليلة مرعبة من ليالي مارس/ آذار تجرأت أخيرًا على القتال من أجل حلمي، وأول خطوة أردت فعلها هي مقاضاة جميل على سرقته فكرتي وأسهمي في الشركة، أؤمن بأن الصداقة الحقيقية نادرة، قد تكون بين الأب وابنته، الأم وولدها، لكن بعد ما مررت به، أدركت أن الصداقة بين الغرباء ليست سوى مصلحة أو طمع أو جشع، لديها مسميات كثيرة وكلها سيئة، أما من يقول إن الناس تتغير، فأقول له: الناس لا تتغير، بل تكشف عن حقيقتها مع مرور الزمن.
ذهبت إلى بيته الكبير ذي الطوابق الثلاثة، وفي يدي ورقة جلبتها من المحامي كي أخبره أننا سنلتقي في المحكمة يوم غد، أخبرني المحامي أنه يمكنه أن يرسلها إليه من دون حاجة لذهابي، ولكنني رفضت، أردت مواجهته لكي أرى مدى تغيره!
صمت والغضب يسيطر عليه ثم واصل:
أتذكر أنني وجدت باب الحديقة شبه مغلق، فدفعته ودخلت مترددًا، توقفت قليلًا لأتنفس وأستجمع أفكاري وكل ما خطر ببالي هو تشجيع زوجتي الحنون، كان المنزل جميلًا جدًا، لم يسبق لي أن رأيت منزلًا بمثل هذا الجمال، إلا أنه كان بيتًا مرعبًا وقد أصابني بقشعريرة شعرت بأنها تجري في جسدي خصوصًا بعدما سمعت أنينًا وصراخًا يعلو ويختفي، أخذت أقترب من مصدر الصوت، وفجأة سمعت صوت خطوات من خلفي. لا أعلم لماذا أحسست بهذا الكم من الخوف، ربما لأني لم أعتد أن أدخل بيتًا دون استئذان، يا إلهي، قلبي انتفض حتى كاد يتزحزح من مكانه لكن فضولي قد هزم خوفي، فاختبأت في أول غرفة وجدتها أمامي محاولًا معرفة مصدر الصراخ! انحنيت قليلًا وأخرجت رأسي ببطء حتى رأيته يقف هناك، نعم إنه جميل! كان التوتر باديًا على ملامحه وهو يغدو جيئة وذهابًا ويشد رأسه بيديه وكأن رأسه يكاد ينفجر.
فجأة توقف صراخها، وإذ بصوت رضيع يبكي، خرج الطبيب من الغرفة قائلًا: ألف مبروك سيد جميل، إنها فتاة، يجب أن أذهب الآن، لا تنس أن تنقل زوجتك للعيادة غدًا لتلقي المزيد من العلاج لأن مناعتها ضعيفة جدًا.
اختبأتُ مجددًا كي لا يراني الطبيب وهو يغادر، فوجئت من أن جميل لم يفكر حتى في الاطمئنان على الرضيعة، نسيت لمَ أتيت في الأصل! ومع ذلك لم أستطع الذهاب، شيء ما منعني، ربما تلك المسكينة المتروكة في الغرفة دون حول أو قوة، تأكدت من مغادرة جميل المنزل، فتوجهت لغرفة "آسيا" لكي أطمئن على حالها، فتحت باب غرفتها خائفًا خشية أن يأتي جميل، استجمعت كامل قوتي ودخلت ببطء. ويا الله، لا أستطيع نسيان هذا المشهد، كانت آسيا تحمل رضيعها بين يديها والدموع تغطي خديها، خيل إليّ أنها ستصرخ في وجهي. لكنها حين رأتني رفعت عينيها ببطء ثم نادتني بصعوبة طالبة مني التقدم نحوها، حين قابلتها كان وجهها مبتسمًا، تقدمت قليلًا لأرى وجه ابنتها، لقد كانت تشبهها تمامًا، جميلة مثل أمها وبريئة مثلها، خرجت الكلمات من شفتيها بصعوبة وهي تنظر إلى صغيرتها بحنان، وكان أول وآخر ما قالته هو: "تانيلا".
كانت الصدمة بادية على وجه تانيلا، صدمة امتزج فيها الغضب بالحزن والأسى والشفقة، صدمة جعلت الدموع تتوقف دون أن تدري إلى أين تذهب، كل هذا والأب لا يستطيع أن ينظر في عيني ابنته.
كان الأب يبدو مخدرًا وهو يستعيد تلك اللحظات، وكأنها تحدث أمامه الآن، إلى الدرجة التي دفعته إلى أن يشير بيده إلى جانب السرير وهو يقول: كانت علبة دواء فارغة بجانبها وهي تحتضر بالمعنى الحرفي!! لم أفعل شيئًا لأنني حتى لو فعلت لم أكن لأقدر على إنقاذها، لن يساعدني لا المكان ولا الزمان، تأملتها فقط حتى لفظت أنفاسها الأخيرة، ما أصعب أن ترى روحًا نقية تعذب أمامك! كيف يكون حالك عندما تتعرض لصدمة يستحيل محوها من قاموسك!
ضحك ضحكة هستيرية وهو يصرخ: الانتقام، الانتقام، كلمة العدالة لا تنطبق إلا على المساكين فقط، إنها عدالة الموت والفقر والعذاب، أما معدومي الضمير فلا ينطبق عليهم إلا كلمة الحقارة، لقد انتحرت المسكينة خشية أن يقتلها جميل ربما بعد أن حطم نفسيتها طوال فترة الحمل، لم أستطع إنقاذها، كنت مصدومًا، حاولت إيقاظها دون جدوى، كان الأوان قد فات، صمتت للحظة بعد أن توقفت عن مناداتها. نظرت إلى الرضيعة المسكينة وهي تبكي وكأنها شعرت بأمها والمصيبة التي وقعت، فجأة سمعت جميل قادمًا نحو الغرفة وهو يسأل الخدم بعصبية ما هذا الصراخ، فقفزت من نافذة الغرفة دون تفكير تاركًا تلك الرضيعة مع الوحش في ذلك البيت المرعب.
رفع حاجبيه ثم طأطأ رأسه ثم قال بصوت حذر: انتظرت ساعتين أراقب المكان من شاحنتي الصغيرة محاولًا استيعاب ما حدث، أردت أن أنقذ الرضيعة من هذا الوحش، ومع ازدياد حيرتي لم أجد سوى السجائر فأخذت أنفث السجائر حتى أنهيت العلبة دون أن أدري، حتى رأيت سيارات الشرطة تنتشر أمام المنزل وفي محيطه، ناهيك عن سيارة الإسعاف التي أيقظت النائمين بصفيرها، لمحت المسعفين ينقلون جثة آسيا في كيس أسود إلى سيارة الإسعاف دون أن يرافقها أحد، كنت متجمدًا وكأني أشاهد فيلمًا سينمائيًا من أفلام الرعب والدراما، في ذاك اليوم رأيت الخوف مرتسمًا على وجوه الجيران بعد أن شعروا بأن ملك الموت كان في حيهم قبل ساعات.
شرد في مخيلته مجددًا ثم انتفض فجأة وهو يقول: لقد خرج المجرم ووجهه مبلل بالعرق المتصبب من جبينه واتجه نحو سائقه الذي كان يقف أمام مدخل البيت، استيقظ فضولي، فنزلت من شاحنتي وتسللت نحوهما إلى أن اختبأت وراء جذع شجرة وارفة الظلال، ومن بين الضوضاء فهمت أنه سيخرج في الصباح الباكر مع سائقه، في تلك اللحظات خطر في بالي زوجتي التي تنتظر نتيجة لقائي بجميل، عدت أدراجي لأهاتفها وأخبرها أنني لم أقابله وأنني سأضطر إلى المبيت في مدينة أخرى لأن تاجرًا قرر أن يسدد دينًا كان قد اقترضه مني.
تسمرت داخل شاحنتي حتى طلوع الشمس، لم يغمض لي جفن.
انتبه فجأة إلى السلسلة، فقال ويده ترتجف:
كانت هذه السلسلة في يدِ آسيا، كانت تحاول أن تضعها على عنق ابنتها قبل أن يدهمها الموت.
عادت القصة الحبيسة في صدره تندفع من جديد فكيف تصبر وقد ذاقت طعم حريتها لأول مرة! أعادته القصة إلى الشاحنة وأنسته أن السلسلة بين يديه:
رأيت جميل يخرج من المنزل حاملًا الرضيعة، في تلك اللحظة كان سائقه يخرج السيارة من المرأب، وما إن انطلقت السيارة، حتى شرعت في ملاحقتها عن بعد إلى أن توقفت أمام مستشفى الأمراض النفسية.
نزل السائق ليفتح باب السيارة لسيده لكنه لم ينزل، بل أعطاه الرضيعة وأومأ برأسه مشيرًا إلى باب الملجأ دون أن ينطق بكلمة، نفذ السائق أوامر سيده دون أن يرف له جفن، كأنها قطعة قماش.
لمعت في رأسه فكرة: الآن فهمت لماذا انتحرت "آسيا"، بسبب خوفها من هذا الوحش، حتى إلقاء الرضيعة على الرغم من عظم الجريمة لا يقارن بإلقائها بهذه الطريقة أمام مستشفى مجانين.
عادت القصة للاندفاع من جديد:
غادر جميل وكلبه المطيع تاركين الرضيعة للمجهول، وما إن غادرا حتى وجدت نفسي أركض نحوها، تاركا إياها بمفردها في ذلك البرد القارس الذي لا يستطيع تحمله رجل بالغ فما بالك برضيعة لم يمض على ولادتها 24 ساعة، كشفت عن وجهها، كانت نائمة، كملاك، لم أتمالك نفسي فصرت أبكي كطفل صغير، نزعت شالي وغطيتها. بقيت متسمرًا والأفكار تدور في رأسي، قررت ألا أتركها ولكن إلى أين وما موقف زوجتي؟ هل أستطيع أن أعيلها وأنا مفلس مهدد بالطرد من بيتي؟ تركت ورقة صغيرة كتبت فيها "اعتني بي أرجوك "تانيلا".
وأخيرًا، سمحت القصة الحبيسة لسجانها بالتحرك، لم يكن يدرك أن هذه القصة استولت على لا وعيه، وما إن تحرر من قيودها حتى وجه نظره إلى ابنته والخوف عليها يطغى على كل ذرة فيه.
كانت تانيلا ساكنة دون حراك فقد تدفق عليها نهر جارف من الصدمات جعلها تنسى أين هي!
وببساطته وطيبته التي جعلت منه أضحوكة لعدوه، ضم ابنته إلى صدره وهو يبكي:
أعتذر لأني تركتك على باب الملجأ ولم أصطحبك في ذلك اليوم إلى بيتك، أعتذر لأني تأخرت في تبنيك، أعتذر لأني لم أخبرك الحقيقة، أعتذر...
وضعت تانيلا يدها على فمه وحضنته بقوة، وهي تبكي بحرقة، ومع بكائها كان صدره يتقطع لكنه لم يكن يدري كيف يتصرف، كيف ينقذها وينقذ نفسه من هذا الألم! حتى جاء المنقذ، كان المنقذ هذه المرة هو الإرهاق والإعياء اللذين أصابا تانيلا من شدة بكائها فغطت في نوم عميق وهي تحتضن والدها الحقيقي.
جاهد الأب حتى لا ييقظها فلم يحرك ساكنًا.
نهضت تانيلا بعد ساعات ومن دون أن ترفع رأسها، قبّلت يد والدها، ثم قالت: أبي حبيبي، أبي حبيبي، هل تسمعني يا أبي، مهما حدث أنت أبي وستبقى أبي.
عم الصمت الغرفة، فعادت لتقول:
أأنت غاضب لأني بكيت يا أبي! أعتذر إليك، أنت أبي، ومن تملك أبًا مثلك عليها ألا تحزن أبدًا.
بقي الصمت سيد الموقف ومعه عم هدوء مخيف، وما إن أزاحت جسدها لترفع رأسها حتى مال والدها إلى الخلف وعيناه شاخصتان نحو سقف الغرفة، فراحت تهزه بقوة قائلة:
أبي، أرجوك، أجبني يا أبي، لا تصمت لا تعاقبني هكذا، استيقظ!! هيا استيقظ يا أبي!! أرجووووووك!

يتبع..


عائشة بوشارب غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 24-03-22, 08:14 PM   #7

عائشة بوشارب

? العضوٌ??? » 485881
?  التسِجيلٌ » Mar 2021
? مشَارَ?اتْي » 38
?  نُقآطِيْ » عائشة بوشارب is on a distinguished road
افتراضي

الفصل السابع
خرجت من الغرفة راكضة بسرعة فتعثرت ليرتطم جسدها بالأرض بقوة، لكنها نهضت دون أن تفكر في تفقد موضع الارتطام، توجهت مباشرة إلى منزل جارها الطبيب لتدق بابه بكامل قوتها، ما أحدث ضجة هزت سكون الليل.
*****
ماذا لو كان هذا كله حلمًا؟ كيف يعقل أن يختفي أبي كلمح البصر؟ ماذا لو أنه لم يكن موجودًا في حياتي! نعم هذا منطقي لا يوجد تفسير آخر، ربما أنا الوحيدة التي على قيد الحياة في هذا العالم وكل من حولي مجرد صور ليس لها وجود! لماذا لا تجيبني الجدران؟ بالأمس فقط كنت تصرخين بوجهي لمنعي من فعل الأشياء التي تبرد قلبي، حتى أنك كنتِ تتآمرين مع ضميري ضدي! أين اختفت عيناك اللا مرئيتان اللتان كانتا توبخاني دون أن تنطق عندما أرتكب خطأ؟ حتى أنك كنت تؤنسي وحدتي فأين أنت الآن؟
آخر ما تبقى لي منه رائحته الزكية الملتصقة بثيابه التي أصبحت مدمنة عليها، وزوايا المنزل التي تحمل كل ذكرى سعيدة مررنا بها معًا، بات الاشتياق يخنقني وروحي الحزينة تحوم حول المنزل باحثة عن روحه لعلها تتواصل معه وتأخذني إليه.
*****

جثت على الأرض أمام والديها واغرورقت عيناها بدموع تساقطت على خديها الورديين كطفلة صغيرة، غير مكترثة بتراب المقبرة الذي لطخ ثيابها، راحت تحاول بكامل جهدها إخراج الكلمات الحبيسة فخانتها، انهارت باكية وهي تمسح شاهد قبر أبيها بيديها قائلة:
أنت الآن نائم مع حبيبتك زينب كما طلبت في وصيتك، وكم تمنيت لو أنك طلبت فيها وجودي إلى جانبكما، صدقني يا أبي، كل ما أريده الآن هو أن أنام بجانبكما ثلاثتنا، فنحن طيبون لا ننتمي لهذا العالم السيئ، لكن ليس قبل أن أحقق حلمك.
مسحت تانيلا دموعها بصمت، ورتبت الزهور على قبر والدتها، زحفت إلى أن توسطت قبريهما ألقت بجسدها بعد أن تمزق قلبها حزنًا ثم قالت وهي تهذي: أنت السبب الوحيد الذي أبقاني حية بعدما توفيت أمي، والآن ليس لدي سبب كافٍ لأعيش من أجله، لم أكن أريد الكثير من هذه الدنيا، آمالي وأحلامي تحطمت، لكن، لا تشغل بالك عليّ، إني أبكي فقط لأنني سعيدة فأنا أعلم بداخلي أنه لم يتبق لي الكثير حتى نجتمع مجددًا، انتظراني كما فعلتما دائمًا، سأعتني بنفسي جيدًا تمامًا كما تحبان.
غمرتها ضحكة ممزوجة بالدموع ثم أضافت:
وسأطفئ الأنوار كي لا ترتفع فاتورة الكهرباء.
تدفقت الدموع من عينيها بغزارة لكن البكاء هذه المرة لم يرحها، هيهات، البكاء لم يعد يجدي! ربما تحتاج إلى الصراخ، أو إلى صفعة تيقظها وتعيدها إلى الحياة من جديد، جاهدت لتنقذ نفسها من الغرق في بحر الحزن.
*****
باتت تانيلا تخشى النظر إلى انعكاس صورتها في المرآة، لأنها صارت تكشف عن وجه لم تعرفه من قبل، وجه ملأه الحقد والحزن والغضب والوحدة والألم، والانتقام اللذيذ.
كل ما شغل بالها هو الانتقام من الذي دمر حياتها وقضى عليها بعد أن سلب منها طفولتها، وها هو ذا ثانية يسلب ما تبقى من مستقبلها، أرادت تحطيمه، حتى خطرت ببالها فكرة تعطي لحياتها معنى، تمسكت بها على الرغم من أنها تخالف كل ما تربت عليه، فشرعت في الإعداد لها دون تردد، بدأت ببرمجة صفحة مزورة تمهيدًا لإرسالها إلى ضحايا مواقع التسوق، ليفاجئوا بتنبيه من المواقع يدعوهم إلى تدوين معلومات حساباتهم البنكية دون أن يشككوا في شيء، وبهذا تتمكن من جمع النقود التي احتاجتها لتنفيذ خطتها.
مرت ثلاثة أيام بلياليها ولم تنم صديقتنا سوى سويعات قليلة، تمكنت خلالها من سرقة 700 دولار، وعلى الرغم من أنه لم يكن المبلغ الذي رغبت في جمعه إلا أنه كافيًا نوعًا ما للشروع بالجزء التالي من الخطة.
بات الانتقام همها الوحيد، وأن تذيق هذا المجرم مرارة خطيئة غيرت مسارها، هل القدر من فعل بها هذا؟؟ هل حقًا خلقت لتكون حياتها بهذا الشكل؟!
تناقضات كثيرة تدور في عقلها الصغير الذي لم يستطع استيعاب كل هذه الصدمات، فأصبح الانتقام ملاذها الوحيد.
لم يعد لحياتها طعم بعد أن وجدت نفسها محاطة بالحزن وشاشة حاسوبها التي لا تبادلها الإحساس، عينٌ تدمع وأصابع ترتجف قهرًا، قلبٌ منكسر وعقلٌ صغير لم يستوعب معنى الوحدة والفقد والموت، أما الشاشة فلم تحرك ساكنًا وهي تنتظر أن تعزف أناملها لحنًا مشفرًا.
توقفتْ الدموع وحل ضجيج لوحة المفاتيح، ها هي تانيلا تقوم بما لم تفعله من قبل، تخاطر بجرأة كبيرة وتضغط على الأمر الأخير الذي سيغير الكثير من الأحداث، ربما ليس في عالمها لكن في حياة الآخرين.
غفت تانيلا على لوحة المفاتيح التي باتت صديقتها الوحيدة.
*****
استفاقت تانيلا ببطء على صوت منبه ذو رنة ضعيفة تبدو ملائمة لطرازه القديم، وبعينين نصف مغمضتين نظرت حولها لتجد نفسها نائمة في غرفة أبيها محتضنة وسادته التي تحمل رائحة عطره، نظرت إلى الساعة لتجدها الثامنة صباحًا فنهضت تغتسل وتغير ثيابها السوداء بثياب أكثر بهجة لتبدو جميلة.
"لأن هذا اليوم مهم بالنسبة لي".
وأضافت: أقف الآن بالقرب من حلمك يا أبي.. "شركة جميل الجزائري للتصميم". عند دخولي أحسست بأنني خارج البلاد، إذا كانت هذه مجرد شركة فكيف ستكون الجنة! السقف مرتفع جدًا، أما الأرض فلامعة لدرجة تمكنني من رؤية انعكاس وجهي الشاحب وعيناي اللتان أحاطتهما هالتان سوداوان، لم أنته من وصفه بعد، يجب أن ترى هذا بعينيك إنه لا يصدق يبدو كالحلم!
يوجد مركز تجاري كبير مزين بأدوات زينة لم أر مثيلًا لها في حياتي، تَحف جنباته المطاعم الفخمة ومحال الملابس الفاخرة، تجولتُ قليلًا محاولة عدم جذب الانتباه ولكني لم أستطع اكتشافه أكثر لأن الوقت لم يكن لصالحي، وكان قد قارب نصف يومي على الانتهاء ووجب عليّ إكمال مهمتي، كان هدفي خداع أحد الموظفين للحصول على معلومات مهمة عن الشركة، أو الحسابات الإلكترونية لعملائها لكي أستخدمها ضدهم، لأتمكن من القضاء على الشركة بأكملها! لكن الموظف الغبي كان حريصًا جدًا بحيث لم أستطع أن أظفر بكلمة واحدة تفيدني!!
*****
خرجت مسرعة من الشركة والعصبية الشديدة تتملكها، ثم توقفت لحظة وأخذت تحدث نفسها: "يجب ألا أفقد الأمل، إنها محاولتي الأولى فقط، لا يزال لدي العديد من الطرق".
لم تكمل كلامها حتى رأت مجموعة من الموظفين أمام مدخل الشركة، وفي المقدمة منهم رجل قصير ذو لحية بيضاء يوجه الموظفين بيديه كقائد فرقة موسيقية، كان يرتدي طقمًا مميزًا جعله يبدو كقبطان سفينة، وما إن انتهى من توجيه الموظفين البسطاء حتى توقفت سيارة فارهة فأدركت أن مسؤولًا كبيرًا قد جاء للتسوق.
ترجل السائق من السيارة بطقمه المرتب ليفتح الباب، كانت نظرات الموظفين وأنا معهم مرتكزة نحو السيارة، وهم ينتظرون نزوله للترحيب به، وضع رجله اليمنى على الأرض فرأيت حذاءه اللامع، وما إن وقف حتى لفت نظري رجل يرتدي بذلة فاخرة، ينظر إلى ساعته بملل، وكأنه لا يرى أمامه أحدًا، تقدم "القبطان" نحوه والابتسامة المصطنعة بحرفية تكسو وجهه.
"إنه هو! جميل"
تجمدت في مكانها، لم تستطع تحريك أي شيء، أحست وكأن روحها تلاشت، لم تستطع أن تشيح نظرها بعيدًا عنه، كيف ذلك وهو الوحش الذي قتلها وقتل أمها وملأ قلب أبيها حزنًا؟! سيطرت على عقلها فكرة واحدة وحسب.
"أستطيع أن أذهب إليه وأقتله الآن بيدي وأنهي كل شيء! لكن لا؛ لن أفعل! لأن خطتي ستفشل هكذا، سأعذبه ببطء ليموت على نار هادئة، مهلًا ما هذا؟ لمَ ينظر نحوي؟ يا ترى هل سمع ضجيج أفكاري؟ ألهذا السبب ينظر ناحيتي؟ إذا استطعت أن تقرأ أفكاري فأريدك أن تعلم أن نهايتك ستكون على يدي، أوه لا، هل شعرت فجأة بأن ابنتك البيولوجية تقف مباشرة نحوك!!"
بسط يديه عاليًا ناحية تانيلا وعلت وجهه ابتسامة عريضة تدعو للاحتضان، وكأنه يخبرها بابتسامته أنه يريد معانقتها، "لكن ما به، لمَ فعل هكذا، ما الذي يحدث بحق الجحيم!"
تساؤلات كثيرة هبت على رأسها كالرياح في ثوان قليلة فقط، حتى مر من أمامها شاب لم تتمكن من رؤية وجهه، فقد ذهب راكضًا إلى جميل معانقًا إياه بسعادة قائلًا بأعلى صوته: "أبي اشتقت إليك!"
أخ!، لدي أخ؟!

يتبع..


عائشة بوشارب غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-03-22, 03:04 PM   #8

عائشة بوشارب

? العضوٌ??? » 485881
?  التسِجيلٌ » Mar 2021
? مشَارَ?اتْي » 38
?  نُقآطِيْ » عائشة بوشارب is on a distinguished road
افتراضي

الفصل الثامن

وصلتْ إلى المنزل الساعة الرابعة والنصف مساء وقد تورمت قدميها من ارتداء الحذاء العالي الذي لم تعتد ارتداءه فترة طويلة، ألقت حقيبتها على أقرب مقعد، وتوجهت إلى غرفتها وألقت جسدها على سريرها فشعرت براحة شديدة، كان البيت باردًا للغاية مع أن الجو معتدل، قالت في نفسها: ربما كان الفراغ هو الموت، لذلك بات البيت دون حياة، مظلمًا مع أن أنواره مضاءة، باردًا مع أن الجو دافئ، حتى الوجود فيه يشعرني بعدم الاستقرار وكأني لم أعش هنا يومًا، الأسوأ من كل الذي يحدث حينما يمر شريط ذكرياتي الجميلة التي قضيتها هنا وقد باتت الآن مجرد ذكريات حزينة. فالذكريات مؤلمة وإن كانت سعيدة.
ثم توقفت فجأة ورفعت رأسها إلى السماء: شكرًا لك يا الله لأنك تنصت إلي، فلم يعد لدي أحد غيرك.
فجأة جاء المنقذ من مكان لا يخطر على بال.
أيقظتني عصافير بطني الصارخة جوعًا، فراح عقلي يفكر في طريقة لإسكاتها، لم يتبق لي مال كاف لأشتري به الطعام، الدولارات التي جمعتها صرفتها على الأداة اللعينة التي اشتريتها من "الديب ويب" لكن خطتي لم تنجح بسبب ذاك الموظف الغبي!! جسدي مرهق وعالق في تلك اللحظة التي رأيت فيها أخي، هل فعلًا يستحق كلمة أخي؟ يا ترى هل يشبهني؟ هل هو شرير مثل والده أم هو طيب مثلي؟ أنا طيبة أليس كذلك؟ يبدو أنني أصبت بالجنون، دعيكِ من كل هذه التفاهات يا تانيلا يجب ألا تفكري كالبشر، اقتلي مشاعرك، ربما أستطيع أن أقتل مشاعري الحزينة لكن شعوري بالجوع لا يموت، يا إلهي كم أنا جائعة.
كان الجوع طيبًا فقد أنقذها من دوامة التفكير التي غرقت فيها، أخذت تبحث بين بقايا الطعام حتى وجدت ما يسد رمقها.
جلست على كرسيها الوثير الذي اختارته خصيصًا لمهمتها فلم ترد أن يؤخر خطتها أي شيء حتى لو كانت جلسة غير مريحة، لأن مهمتها الآتية قد تتطلب وقتًا طويلًا، قامت بإعادة تزويد جهازها بالأنظمة التي تبقي الشرطة المعلوماتية بعيدة عن تقفي عنوان "الجهاز اللاسلكي" الخاص بها، وراحت تشاهد مقاطع الرعب الحقيقية داخل الغرفة الحمراء الدموية التي تعد من أخطر المواقع الموجودة في الإنترنت المظلم الذي يعد الجزء الكبير من الإنترنت العميق حيث تكمن الحقيقة، من إحدى مميزاته أنه لا يظهر في محركات البحث التقليدية، كونه يحتاج لبرمجيات خاصة للدخول إليه والمهمة منها التي تستخدم لإخفاء الهوية، وهو المكان الأنسب لجميع أنواع النفوس المريضة وما أكثرها.
*****
استيقظتْ في صباح اليوم التالي بصعوبة، وفتحت عينيها بتكاسل شديد، وأخذت تتأوه بسبب التشنج الذي أصاب ظهرها، ذهبت لتغتسل بماء ينعش روحها ثم ارتدت ملابس جديدة، سرّحت شعرها الطويل ورفعته ثم ثبتته بدبابيس، جلست على الأريكة في غرفة المعيشة ممسكة برأسها بين يديها، حتى ذهب تفكيرها فجأة في اتجاه آخر، قامت من مكانها بكامل سرعتها وأخذت حقيبة يدها الصفراء معها إلى مغامرتها التالية.
*****
بينما الجميع منشغلون بأشيائهم الخاصة في هذه الشركة الكبيرة كانت تانيلا تسعى لتحقيق انتقامها، جالسة في صالة الاستقبال منتظرة دورها للدخول إلى تلك الغرفة التي ستكون جزءًا كبيرًا من انتقامها، سافرت بها التصورات والخيالات لتشكل في عقلها أفكارًا سلبيةً جعلتها متوترة، أرادت أن تجمع شتات أفكارها لتركز على المرحلة القادمة، فتنهدت بعمق وقالت محدثة نفسها:
"أنت قوية يمكنك فعلها".
لم تكمل حديثها المشجع، فإذ بها ترى السكرتيرة قادمة نحوها وبيدها دفتر صغير تنظر خلاله وتنادي على اسمها المدون عليه قائلة:
"الآنسة تانيلا، أنت التالية".
ها أنا ذا ثانية في هذه الشركة التي قدر الله أن أزورها مجددًا وقد تكون زيارتي لها هذه المرة طويلة.
هل لديك خبرة في التنظيف؟
أدركت تانيلا خطورة السؤال بعد أن تذكرت الطابور الذي ينتظر دوره في الخارج، فقررت قول الحقيقة كما قال الشهير محمد علي كلاي "إن أسلوبي في المزاح هو أن أقول الحقيقة فهي أطرف نكتة في العالم".
كلا، أنا هنا في مهمة سرية خطرة، في الحقيقة سأعمل هنا حتى أستولي على الشركة وأصبح رئيستها.
تسمرت مديرة الموظفين بعد سماعها الإجابة وعلت وجهها ملامح الجدية. قبل أن تضحك وهي تقول بحماسة:
لقد أعجبت بخفة دمك يا فتاة!
وأضافت بنبرة مفعمة بالشك:
يا إلهي على أساس أنكِ توقعت مني تصديقها!!
ردت تانيلا بثقة: في الحقيقة هذه أول مرة سأعمل بها لكني أعدك أن أكون جيدة في التنظيف، فمنزلي بعد وفاة والداي يقع كله على عاتقي.
رمقتها مديرة الموظفين "فاطمة" بنظرة شفقة، ثم ردت عليها بابتسامة تعلو وجهها البشوش: آه منك يا ابنتي، أتعلمين أنك تشبهين ابنة أختي كثيرًا، صريحة، جميلة، ووقحة أيضًا.
ابتسمت دون أن تنبس ببنت شفة، فهي لا تعرف كيف تجيب على الإطراء.
حسنًا إذن، مبارك، ستباشرين عملك غدًا.
غدًا؟ حقًا!
ردت فاطمة بمزاح ممزوج بالقليل من بهارات التهديد: نعم عزيزتي، إلا إذا كنت تريدين مني استبدالك بشخص آخر!
توترت تانيلا فأردفت قائلة بسرعة كبيرة: سأكون موجودة صباحًا، أنا حقًا أشكرك.
همت بمغادرة الغرفة، ثم توقفت:
سيدة فاطمة، ليس لدي شيء لأفعله اليوم هل يمكنني البدء الآن؟
نظرت إليها فاطمة من أسفل نظارتها الطبية وهي تقول: لم أر يوما شخصًا متحمسًا للتنظيف، على بركة الله إذن، تعالي معي سأريك الطريق.
أخذتها فاطمة لتريها المكان، ومن ثم أعطتها طقمًا جميلًا كالذي ترتديه الخادمات، مع ربطة عنق صغيرة أضافت إليه لمسة لطيفة.
*****
تعرفت في يومي الأول على فتاة بدت مرحة لكنها ثرثارة جدا، اسمها "شيماء" خديها منتفخان كالبطيخ، سألتني العديد من الأسئلة إلا أنني لم أجبها على أي منها، كل ما قمت به هو الإيماء برأسي، لم أرد أن تقترب مني كثيرًا فالاحتياط واجب.
لم يحدث أي جديد سوى أنني عملت كثيرًا حتى أصبت بالإرهاق، قبل خروجي من الشركة اضطررت لسؤال زميلتي "شيماء" عن الراتب لأني نسيت هذا الأمر كليًا، لولا حاجتي له لما سألتها، فيكفيني التقرب خطوة من انتقامي الكبير، فوجدتها فرصة لطرح المزيد من الأسئلة المتطفلة، إلا أنني استغللت ذكائي بتوجيهها إلى موضوع آخر.
*****
عدت إلى منزل لأتفاجأ بجارتنا "حكيمة" تقف عند باب البيت ممسكة بقدر صغير فربتت على كتفها: أهلا خالتي "حكيمة" خيرًا ما الذي أتى بك؟
استدارت الجارة وقد اكتسى وجهها بعلامات الارتياح قائلة: أخيرًا أتيتِ يا ابنتي، لقد خشيت أن يكون قد أصابكِ مكروه.
علت وجهها ابتسامة دافئة وأضافت: كما أنني أحضرت لكِ بعض الشوربة، هيا أمسكي بسرعة إنها ساخنة.
مدت تانيلا يدها بتردد يمتزج بالخجل: حقًا، لا أعرف كيف أشكرك! صدقوا الجيران عندما قالوا عنك دواء لكل داء.
في الصباح الباكر دقت تانيلا باب الجارة التي فتحته بابتسامة بشوشة، فبادرتها تانيلا بابتسامة مماثلة ثم أعطتها القدر الفارغ مضيفة إليه كيسًا من الكعك الطازج، كما درجت العادة في الجزائر.

يتبع..


عائشة بوشارب غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-03-22, 03:04 PM   #9

عائشة بوشارب

? العضوٌ??? » 485881
?  التسِجيلٌ » Mar 2021
? مشَارَ?اتْي » 38
?  نُقآطِيْ » عائشة بوشارب is on a distinguished road
افتراضي

الفصل التاسع

لا شيء جديدًا أو مميزًا يستحق الذكر اليوم، لم يأت "جميل" للشركة ولا حتى ابنه الغريب الذي لم أر وجهه حتى، "استمتع جيدا فأيامك الممتعة على وشك الانتهاء." هذا ما قالته بينها وبين نفسها.
أومأ أحد الزبائن بإشارة من رأسه مناديًا إياها، لكنها لم تنتبه إليه فانهماكها في العمل أفقدها تركيزها. أكملت حديثها بينها وبين نفسها شاردة كأنها تسترجع ذكرى بعيدة، وفي آخر لحظة أيقظها صوتًا عاليًا ليجذبها من قاع الشرود الذي كانت تغرق فيه، فذهبت مسرعة نحوه ملبية طلبه قبل أن ينتبه المدير ويوبخها فهو مشهور بطباعه الحادّة.
اجتهدت بالعمل كما لم يفعل أحد من قبل حتى استنفذت طاقتها خوفًا من أن يتم طردها قبل أن تنفذ خطتها، واستغلت الثرثارة شيماء كي تغطي عنها بينما تذهب للتعرف إلى زوايا الشركة لعلها تجد ثغرة تمكنها من تنفيذ خطتها بطريقة مختصرة.
تخطو خطواتها الواسعة بحذر وكلها ثقة بنجاح مخططها، تراقب الأجواء كالأسد الذي يراقب فريسته قبل الانقضاض عليها، يخنقها ازدحام الموظفين وطاقاتهم السلبية المنتشرة في المكان التي اختلطت بالهواء، فتهرب بكل سرعتها نحو أول منعطف لتجد نفسها تقف عند باب المركز التجاري، تتوقف برهة لتستنشق بعض الهواء النقي لعل أزيز بطنها يهدأ، ثلاث تنهيدات كانت كفيلة بتحقيق أمنيتها لتجعلها حقيقة.
وأخيرًا وجدته!!
*****
أنهيتُ دوامي وتوجهت إلى البيت مستمتعة بقطرات المطر الصافية التي كانت تطرق كتفي قطرةً قطرة، جالبة معها جميع روائح الطبيعة التي أحبها، التراب والأزهار، كم أحب المطر عندما لا يكون متوقعًا وممزوجًا بغروب الشمس ليزيد من جمال غروبها، الهدوء الذي سيطر على الشارع ساعدني على فرز أفكاري، بالطبع كيف لم يخطر ببالي "الصراف الآلي"، فمن الطبيعي وجوده مع توافر المركز التجارية داخل الشركة، إنه ورقة حظي!! يمكنني استخراج معلومات الموظفين لعلي أجد ثغرة تساعدني في الاستيلاء على الشركة مثل حساب البنك الخاص بالشركة، لكن لا أظنهم بهذا الغباء حتى يدخلوا معلومات مهمة كهذه إلى الصراف الآلي، ومع ذلك لا مانع من المحاولة! لكن لاتزال تنقصني الأداة التي ستمكنني من استخراج المعلومات التي بداخله فمن دونها لا يسعني فعل شيء.
أسرعت إلى المنزل فور أن لمعت في ذهني فكرة بدت لي معقولة، دخلت منهكة القوى أكاد لا أقوى على تغيير ملابسي ولم تكن لدي رغبة في الأكل، توجهت مباشرة لغرفتي فجلست أمام صديقي الوحيد الذي يفهمني أكثر مما أفهم نفسي، انتظرت اشتعال ابتسامته الزرقاء، ومن ثم دخلت إلى نظامي المفضل "الكالي لينكس" ثم دخلت إلى متصفح الـ "tor" بعدما طبعت كلمة السر، بعدها جلبت روابط الديب ويب للدردشة كي أبحث عمن لديه تلك الأداة، فالتفاوض هو الحل الوحيد الذي تبقى لي، ولم أكن بحاجة إلى دعوة من أحد للدخول إلى هناك لأني امتلكت معظم كلمات المرور للمواقع السرية والمحظورة بعدما نجحت في تحدٍ قديم تحت اسمي المستعار "سيكادا".
لطالما كنت من محبي حشرة السيكادا التي يخشاها الكل، فرغم صغر حجمها فإنها ذات عقل انتقامي خطير وتمتلك من الصبر ما لا يملكه راشد، بوسعها التخطيط لسنوات طويلة دون كلل، وفي اللحظة التي تجدها مناسبة تنقض على عدوها دون شفقة.
أدخل إلى الديب ويب وأتعمق أكثر، هذا الموقع ذو الواجهة الصفراء كتابته تشير إلى أنه روسي، لطالما أثارت إعجابي الحماية القوية التي يتمتع بها، ولن أقول أنني شعرت بالحزن من أجل مالكيه عندما تم اختراقه، فلا بد من أن المخترق أذكى من الذي صممه وجعله بهذه الحماية، حاولت التحدث مع أربعة أشخاص، لكن لم يفهم منهم أحد ما قلته، فهم لا يجيدون إلا اللغة الروسية، ولحسن الحظ أو "سوئه" اسم الأداة وحده كان كفيلًا بأن أحصل على إجابة واحدة "no!".
لا بأس لن أستسلم، فخروجي من موقع واحد خالية الوفاض لا يعني أنني فشلت، سأواصل البحث حتى أجدها فلطالما آمنت بمقولة أبي رحمه الله "ولأن أردت من الزمان مراتعًا، فاعمل على صد الشواغل كلها"
*****
مرت ساعة كاملة دون أي نتيجة، تطرق بأصابعها فوق الطاولة وتتنهد بعمق مغمضة عينيها، موقع أخير وفرصة أخيرة، متأكدة من أنه سيكون السبب في إيصالها للأداة لكن ليس قبل أيام بحجمه الكبير، أخذت تشرب الماء علها تبعد عنها الفكرة التي واتتها لكن دون فائدة، فقد اتخذت قرارها منذ الوهلة الأولى التي وقعت بها عيناها على واجهة الموقع.
لم تمر نصف ساعة حتى وصلتها رسالة في الخاص من مجهول الهوية، لكن تغلب عليها النوم وجرها معه إلى ظلامه.
استفاقت تانيلا لتجد نفسها نائمة على الكرسي كعادتها، اعتدلت في جلوسها بصعوبة مع بعض الشعور بالألم في الظهر حتى وجدت حاسوبها مضاء فتذكرت أنها نسيت إطفاءه، فركت عينيها لكي تصحو من النوم ثم مدت يديها نحو الحاسوب لإطفائه قبل ذهابها للعمل حتى لمحت الرسالة التي وصلتها ليلة أمس من ذلك المجهول الذي كان اسمه المستعار "كازانوفا" فعلمت أنها بخصوص الأداة، فرحت كثيرًا لأن الفكرة التي خطرت ببالها ليلة أمس لم تخب ظنها فقد حثتها على اختراق الموقع وتغيير عنوانه إلى اسم الأداة مع اسمها المستعار، قاصدة بهذا أن كل من يمتلكها يحادثها فورًا، وها قد حدث ما تمنت حدوثه.
دون وعي منها طبعت على لوحة المفاتيح كلمة "hi" مرحبة به وراجية أن يكون متقنًا للإنجليزية، لم تمر دقيقتان حتى رد عليها متسائلًا باللغة نفسها: "هل تبحث الأداة؟"
فطارت فرحة بفهمه اللغة دون اضطرارها للجوء إلى الترجمة فأجابته:
"yeah i need it"
"الأداة معي.. لكن لا يوجد شيء دون مقابل".
أخذا يتحدثان مباشرة بدون رسميات وكأنه هو الآخر كان ينتظر أحدًا ما كي يستغله لمصلحته.
ردت عليه قائلة: حاليًا لا أمتلك المال الكافي لأدفعه لك خصوصًا أنها باهظة الثمن، لكن بإمكاني أن أخترق لك أي موقع أو أي شيء تريده مهما كانت صعوبته.
يبدو أننا سنتفق لأني لست بحاجة لنقودك صديقي! أريد منك مقابل آخر.
ابتسمت ابتسامة تشي بالحماس ثم كتبت له باستغراب: إذن ما الذي تحتاجه مقابلها؟!
أريدك أن تدخلني للغرفة الحمراء.
ستون ثانية مرت دون أن تجيبه بكلمة، راحت تفكر في طلبه الغريب والخطر، فكرت قليلًا واحتارت كثيرًا ثم ردت: هذا مستحيل، ما تطلبه مستحيل!!
وأخيرًا أجبت! ظننتك قمت بحظري.
اطلب شيئًا آخر.
لقد قلت طلبي، لن تحصل على الأداة إن لم توافق عليه.
أجننت؟! هل تريد من تلك العصابة أن تعلنني فتاة خائنة؟ ثم ماذا؟! يقومون بإطلاق رصاصة وسط رأسي مثلما يفعلون مع كل خائن؟
فتاة خائنة؟ مهلا لحظة هل أنت فتاة؟
مالت زاوية فمها بضحكة ساخرة ثم كتبت: لا أظن أن هناك شابًا يطلق على نفسه اسم "سيكادا"
رد ضاحكًا: ولا أعتقد أيضًا أن هناك أنثى تسمي نفسها تيمنًا بحشرة.
لا يهمني ظنك، ولست هنا لأدردش معك في خصوصياتي، كل ما أحتاج إليه هو تلك الأداة التي بحوزتك وسأدفع مقابلها بعد أيام قليلة، أو حتى يمكنني أن أخترق لك أي شيء تريده كما قلت لك سابقًا.
شبكت يديها ثم تنهدت وتمنت أن يوافق على طلبها وتنتهي هذه اللعبة، مرت ثوان فكان رده: لا.
انسي الأمر لن أعطيك أي شيء، عندما تقررين إدخالي للغرفة الحمراء يمكنك محادثتي، وداعًا.
*****
توجهتْ للعمل متخلية عن عقلها مع طلبه الصعب حدوثه، شاردة الذهن طيلة اليوم مفكرة في عرض "كازانوفا" غير مكترثة بالعمل ولا مدير العمل، لمحت الثرثارة "شيماء" علامات الشرود التي بدت على وجهها فاستغلت الفرصة لفتح حديث معها بقولها: ما الخطب يا تانيلا؟ هل تشعرين بالمرض؟
استفاقت تانيلا من شرودها وردت دون مشاعر: أهلًا، لا أبدًا أنا بخير حال، شكرًا على سؤالك.
لا تعاندي يا فتاة، اسمعي، إذا كنتِ تشعرين بالمرض سأقوم بالتغطية عليك ويمكنك الذهاب إلى المنزل لترتاحي.
عادت تانيلا إلى بيتها منهكة من التعب، سخنت عشاءها ثم توجهت إلى غرفتها ووضعت الصحن فوق طاولة حاسوبها لتأكل رفقة صديقها الوحيد، راحت تحادثه كعادتها "هل أقبل عرضه يا ترى؟"
تنهدت وراحت تردد وراء كل لقمة تأكلها "نعم، لا.. نعم.. لا.." حتى أنهت طعامها وتوصلت إلى الحل الذي لا يوجد حل آخر غيره.
فتحت غرفة الدردشة الخاصة به، تنظر إليها صامتة وألف كلمة تجول بخلدها لكنها لم تكن مفيدة لكتابة جملة تعبر عما يخطر ببالها، وفجأة ظهرت النقاط الثلاث التي تبين أنه يكتب رسالة، فأقفلت الغرفة بسرعة قبل أن يلاحظ أنها كانت تنتظر منه أن يراسلها.
هل فكرت بعرضي يا جميلة؟
قضمت أظفارها ثم جلست باعتدال وراحت تكتب: أجل لقد فكرت جيدًا وما زلت مصرة على قراري، فلتطلب شيئًا آخر!
حسنًا إذًا، لا داعي لأن يضيع أحد منا وقت الآخر، دمتِ سالمة.
لعنته داخل قلبها ثم كتبت بسرعة: انتظر، رجاء لا تغادر!!
انظري لا داعي للخوف، صدقيني لن يتمكنوا من إيذائك، كل ما عليك فعله هو إدخالي هناك وأقسم لك أنني لن أذكر اسمك، كل ما سأقوم به هو استخراج بعض المعلومات التي أحتاجها.
كان الشك يدب داخلها تجاهه وعلى الرغم من ذلك جعلها كلامه تتردد فيما إذا كانت ستثق به وتعطيه مراده، أم تبتعد وتخسر الأداة وانتقامها معها!
هل أبدو لك غبية كي أثق بشخص تحدثت معه بضع كلمات فقط؟ ثم لماذا أنت متأكد من أنهم لن يستطيعوا إيذائي مثلما فعلو مع الآخرين؟
فلنكن صريحين، لا يوجد لديك حل آخر غيري لذا فنحن متساويان، كما أنني لست مجنونًا كي أشي بك بعد أن تساعديني على الدخول إلى هناك، هيا أعطيني فرصة كي أجعلك تثقين بي!
هل أنت جاسوس متخفٍ أم تاجر مخدرات؟ وبالمناسبة كسب ثقتي ليست بالأمر السهل.
هههههههههههه، يبدو أنك تكثرين من مشاهدة الأفلام، لا هذا ولا ذاك يا عنيدة، ما رأيك أن أرسل الأداة إليك كبداية، وبعدها تدخليني إلى الغرفة الحمراء، سأقوم بإعطائك كلمة سر الأداة كي تتمكني من استعمالها ونكون قد ضربنا عصفورين بحجر واحد!!
فكر في طلب آخر غيره رجاء.
لقد أخبرتني البارحة أنك تستطيعين اختراق أي نظام.
هذا صحيح، لماذا؟!
إذًا هل تستطيعين اختراق بنك يقع بالجزائر من أجلي؟!
أصابها الذهول من طلبه، فتوقفت عن طباعة الأحرف برهة، لم تشك للحظة بأنه عربي، فطيلة الوقت كانا يتحدثان باللغة الإنجليزية، غيرت اللغة من ثم طبعت بالأحرف العربية قائلة: أنت عربي؟؟
فسألها بالعربية: يا لمواهبك المتعددة، أتتحدثين العربية أيضًا!!
لم تجبني بعد، هل أنت عربي؟ جزائري صحيح؟
مع الأسف هذا صحيح، ماذا عنك؟
فركت جبينها ثم كتبت بسخرية:
إن أخبرتك هل ستعطيني تلك الأداة؟
أجابها ضاحكًا: هل أبدو أحمق لهذه الدرجة؟ أنت تحلمين!!
وأنا جزائرية مثلك، كما أنني أفتخر بأصلي على عكسك.
سعيد لسماع هذا، أقصد لقراءة هذا.
استفزني كلام الأحمق المدعو "كازانوفا"، سأخترقه على الرغم من أنني مرهقة، لكن هذا سيضع سخريته عند حدها.
حاولت استخراج البروتوكول الخاص به، لكني لم أستطع فحمايته كانت قوية، رحت أفكر في كيفية تمكنه من حمايته بهذا الشكل العبقري "ربما يكون محترفا أكثر مني وقد نكون متساويان في عبقريتنا" لم تكمل حديثها حتى وصل إشعار الأمان إلى جهازها منذرًا بأن أحدًا ما حاول اختراقها لكنه لم ينجح.
توجهت مسرعة لغرفة الدردشة الخاصة به وكتبت بسرعة: ما الذي تحاول فعله يا ذكي!
ماذا؟ كيف علمتِ؟!
دعك من المحاولة، فهذا صعب عليك يا طفل الاختراق!!
حسنًا لن أعتذر إليك لأن هذا ما نفعله أصلًا، أليس كذلك؟ وحتى أكون صريحًا معك، بدأت أشعر بالخوف منك، هل أنتِ حقا فتاة؟!
أجل إن كنت تقصد "فتاة بمئة رجل" سأكون صريحة معك أيضًا، أستطيع اختراقك في ثوان معدودة لكنني لن أضيع وقتي الثمين.
صحيح وكأنني سأصدق هذا، لو كنت حقًا تستطيعين اختراقي كما تدعين لفعلتِ ذلك البارحة وأخذتي الأداة بنفسك.
هذا مدهش، لم أكن أعلم أنك تفكر أو أنك تمتلك عقلًا من الأساس!
أنت حقًا....
قطبت حاجبيها منتظرة بشوق قراءة التتمة، فتغلب الشوق على صبرها فكتبت: مختلفة؟؟
كنت سأقول وقحة لكنك مختلفة أيضًا!
"لم الجميع ينعتني بالوقحة هذه الفترة هل انتهت كلمات المدح من قواميسهم!" فكرت مطولًا ووجدت أن أنسب حل هو خداعه بالتقرب منه وأخذ حاجتها لأنه أحمق ويسهل خداعه كما أنه مسلٍ قليلًا.
شكرًا على إطرائك، هل بإمكاني أن أسال عن حاجتك إلى الغرفة الحمراء بهذه الشدة؟
لا يمكنني إخبارك، فأنا أيضا لا أثق بكِ.
زفرت زفرة طويلة وبلعت غيظها، فوصلتها رسالته: كيف أصبحت مخترقة؟ ولماذا؟ ومن الذي قام بتدريسك؟
ابتسمت فرحة بأسئلته ووجدتها فرصة لتنال مرادها، فردت قائلة: قواعد اللعبة لا تسير هكذا يا عزيزي؟ سؤال مقابل سؤال ما رأيك؟!
حسنا آنسة "مستغلة الفرص" بشرط ألا أجيبك على السؤال الذي طرحته علي.
أثارت رسالته حماسها فهي محبة للألغاز، فرقعت أصابعها استعدادًا للعبة وطبعت أول سؤال خطر ببالها:
أول سؤال لك هو، كم عمرك الحقيقي؟
قد يبدو سؤالها عاديًا لكنه كان سؤالًا ذكيًا، فأول مدخل للتوغل في عقل إنسان هو تحديد فئته العمرية.
تعلمين أن المعلومات الشخصية غير مسموح البوح بها هنا.
زمت شفتيها وكأنها تناولت جرعة من الخل، لكن حلت مكان الإحباط فرحة بعدما رأت رسالته التالية: لكن مع ذلك سأجيبك لأنك تبدين لطيفة "قليلًا" عمري يتراوح بين العشرين والثلاثين.
أجابته مازحة: مممممممممممم حقا! اعتقدتك في الأربعينات لأنك ممل، إنه دورك.
ما الذي ستفعلينه بتلك الأداة؟
سؤالك جعل حماقتك تختفي وجعلك تبدو جذابًا "قليلا"، رغم أنك قلت لا مزيد من الكلام عن الأداة لكنني لست جبانة مثلك، لذا سأجيبك، فلنقل إنني سأقوم بتسوية حسابات قديمة، ولا يمكنني البوح أكثر من هذا فقد قلت الكثير.
تقصدين جذابًا لدرجة أنه يمكنك ممارسة الحب معي؟
يا لك من وغد وقح!! من بين كل ما قلته ركزت على تلك الكلمة المزيفة!! سأخلد للنوم، لا وداع لك.
ضحك كازانوفا قائلًا: هذا صحيح، اهربي يا سندريلا على أساس أنك لستِ جبانة.
استمرت تلعنه بينها وبين نفسها، من ثم ارتدت بيجامتها وارتمت فوق سريرها المريح حتى رأت نفسها في مرآة الخزانة المجاورة لها، فأخذت تتحسس خديها المحمرين خجلًا ثم شردت بخيالها لحظة، ثم هزت رأسها يمينًا وشمالًا مغمضة عينيها بقوة قائلة موبخة نفسها: ما بكِ يا تانيلا! لا تكوني غبية وتفكري في مثل هذه الأشياء، أستغفر الله.
*****

يتبع..


عائشة بوشارب غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-03-22, 07:44 PM   #10

عائشة بوشارب

? العضوٌ??? » 485881
?  التسِجيلٌ » Mar 2021
? مشَارَ?اتْي » 38
?  نُقآطِيْ » عائشة بوشارب is on a distinguished road
افتراضي

الفصل العاشر

مرت الأيام بسرعة وانتهى أسبوع كامل ولم يتغير شيء في حياة تانيلا، سوى أن التفكير بات يسيطر على عقلها، لذا وأخيرًا سلمت أمرها لله.
لقد قررت، هنيئًا لك انتصرت على عقلي!
طبعت تلك الكلمات متحسسة لوحة المفاتيح بالحرف الواحد ثم فركت جبينها، كأن داء الشقيقة سيدهمها وضغطت على زر الإرسال.
انظروا من عاد، مهلًا! ما الذي تقصدينه بكلامك؟
سوف أعطيك مواقع الدخول للغرفة الحمراء.
حقًا؟! هل أنت جدية!! أم تحاولين خداعي!
أنا جدية لا يوجد خداع بالموضوع، أقسم لك.
ما الذي جعلك تغيرين رأيك فجأة؟
لا شيء، فقط ليس لدي وقت كاف.
حسنًا، من يبدأ أولا؟
تنفست بعمق حتى توزع الأوكسجين في كامل جسدها ثم كتبت له:
سأبدأ أولًا، وإن فكرت للحظة بخداعي سأقوم بالإعلان عن أمرك في الحال ولن يهمني ما الذي سيحدث لك لاحقًا، فهمت؟
أعلم أنني غبي لكن ليس إلى تلك الدرجة، لذا لا تقلقي.
ضحكت على الرغم من أن الضحك فارقها منذ زمن، وواصلت النظر لرسائلهما، نسخت روابط الموقع ثم قامت بلصقها في مربع الدردشة وأغلقت عينيها قائلة "فليكن ما يكون" ثم ضغطت على زر الإرسال، وفي اللحظة نفسها تحصلت على الأداة بنجاح.
كازانوفا: أشكركِ حقًا وأتمنى ألا تفعلي شيئًا يؤذيك أو يؤذي غيرك بتلك الأداة.
ضحكت باستهزاء ثم قالت: لا تقلق سأفعل بها شيئًا جيدًا، جيدًا جدًا.
نقلت الأداة إلى قرص تخزين إلكتروني أسود ثم خبأته في حقيبتها وتأكدت من إغلاق الحاسوب، وتوجهت إلى عملها مبتهجة مع حقيبتها الأنيقة.
*****
استمرت بالعمل ومراقبة الصراف الآلي وتلبية طلبات الزبائن في آن واحد كي لا ينكشف أمرها، حتى مضت الساعات وذهبت الشمس لتحل معها غيوم العشية، غادر الجميع وبقيت رئيسة الخدم، فانتظرت خروجها إلا أنها استوقفتني منادية إياها بنبرة تملأها الحيرة:
تانيلا؟ لماذا لا تزالين هنا؟ هل حدثت مشكلة بالعمل؟
لا أبدًا سيدتي، أردت أن أبقى لدوام إضافي كي أستغل وقتي جيدًا لا أكثر.
يا للروعة! لو كانت شركتنا تمتلك اثنتين منك لتضاعفت الأرباح بسرعة، سأقوم بتوصية الحراس ألا يقفلوا الشركة إلى أن يتأكدوا من خروجك، كي لا تضطري للنوم فوق الطاولات.
ضحكت تانيلا التي نادرًا ما تضحك ثم ودعتها بابتسامة.
*****
تتبعتها بنظراتي حتى تأكدت من خروجها وتأكدت أيضًا من أن لا أحد هناك غير حارسين كانا يمازحان صديقهما الشرطي الذي كان يتباهى بشارته، وكأنهم في مسرح كوميدي علت أصوات ضحكاتهم كلما تردد صداها في الأجواء.
رميت المنشفة من يدي ودخلت مسرعة للغرفة الخاصة بمقتنيات الموظفين الشخصية، جلبت حقيبتي الصغيرة وتمشيت بكل حرص في رواق الشركة متوجهة نحو الصراف الآلي وعيناي تتفحصان كاميرات المراقبة المنتشرة، ولسوء حظي كانت الكاميرات من النوع الفاخر الذي يحوي عدسات رؤية الليلية، خطوت خطواتي بهدوء تام ورأسي يدور يمينًا ويسارًا كالروبوت كي لا تلتقطني الكاميرات، فتخيلت نفسي كـ"جيمس بوند" تمامًا لكن أكثر جاذبية منه.
*****
وقفت تانيلا أمام الصراف الآلي ثم تلامسته وراحت ترمقه بإمعان، وبسرعة البرق قبل أن تدور الكاميرا ناحيتها جثت على ركبتيها مسندة ظهرها إلى الجدار بحذر شديد، وبدأت تنفذ خطتها بأن فتحت حقيبتها وهي ترتعد خشية أن يراها أحد الحراس!! استخرجت قرص التخزين الصغير وراحت تدخله في ثقب الآلة، مسحت بأصابعها قطرات العرق المتصبب من جبينها، ثم فكت الشيفرة بالأداة الذكية ومن بعدها نقلت المعلومات إلى القرص، عجبًا رغم حجمه الصغير غير أنه يستطيع تخزين كمية هائلة من المعلومات" أسرعي قليلًا رجاء لا أمتلك الكثير من الوقت"
راحت تحادث الآلة بهمسات تكاد تكون غير مسموعة لأذنها وبتوتر شديد وضعت يدها على قلبها الذي كان يخفق بعنف وأحست بهدوء مخيف كالهدوء الذي يسبق العاصفة، وباستغراق شديد سمعت صوتًا بالقرب منها لزجاج يتكسر فتجمد الدم في عروقها ليأخذها إلى ذكريات لم يكن وقتها المناسب للحضور » استفيقي!! «.
نزلت دمعة على خدّها وبنزولها عادت إلى وعيها وكأنها استفاقت من غيبوبة طويلة الأمد، ازدادت ضربات قلبها وتسارعت معها أنفاسها، راحت تنظر في جميع زوايا المكان وقد قاربت عملية التحميل على الانتهاء، سبعون بالمائة.. ثمانون بالمائة.. تسعون.. وفجأة..
وسط كل ذلك الرعب أحاطت خاصرتها يدان كبيرتان منعتاها من الحركة، ولما أوشكت على الصراخ غطت اليد المجهولة فمها، فتوسعت حدقتا عينيها وكاد قلبها يتوقف.

يتبع..


عائشة بوشارب غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

الكلمات الدلالية (Tags)
مكتملة, رواية, صمت سيكادا, كاملة

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 08:13 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.