آخر 10 مشاركات
رهينة حمّيته (الكاتـب : فاطمة بنت الوليد - )           »          رواية نبــض خـافت * مميزة ومكتملة * (الكاتـب : سما صافية - )           »          4-البديله - فيوليت وينسبير - ق.ع.ق .... ( كتابة / كاملة)** (الكاتـب : mero_959 - )           »          جددي فيني حياتي باللقاء *مميزة ومكتملة* (الكاتـب : وديمه العطا - )           »          إمرأة لرجل واحد (2) * مميزة و مكتملة * .. سلسلة عندما تعشق القلوب (الكاتـب : lossil - )           »          110 قل..متى ستحبني - اليكس ستيفال ع.ج (كتابة /كاملة )** (الكاتـب : Just Faith - )           »          الفرصة الاخيرة للكاتبة blue me *كاملة* المتسابقة الثانية** (الكاتـب : ميرا جابر - )           »          [ تحميل ] عابرات فـوق السنة النيران ( جميع الصيغ ) (الكاتـب : اسطورة ! - )           »          577 - انتظار ديبورا - بيتي نيلز - ق.ع.د.ن (الكاتـب : Gege86 - )           »          251 - زائر الليل - كيم لورنس (الكاتـب : PEPOO - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء

Like Tree1004Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 10-05-23, 12:09 AM   #1

روز علي
 
الصورة الرمزية روز علي

? العضوٌ??? » 478593
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 712
?  نُقآطِيْ » روز علي is on a distinguished road
افتراضي رواية أسمعُ عواء الهوى


اهلا وسهلا فيكم يا احبائي ♥️♥️
بعد انتهاء رحلة روايتي السابقة "بحر من دموع" شكرا لكل من دعمني وشجعني للنهاية من متابعين وقراء ، ولمن يود ألقاء نظرة عليها او تجرية قراءتها اقدم لكم رابط تحميلها بكل سرور ????????????
https://www.mediafire.com/file/54bn4...?ع...pdf/file

والآن سنبدأ معا بقلب صفحة جديدة وخط بداية رواية جديدة تأخذنا برحلة اخرى شائقة ????♥️ ، اتمنى ان تحظى على إعجابكم ومتابعتكم وتكون عند حسن توقعاتكم لها ♥️♥️

رواية اجتماعية عامة تحمل شريحة من الواقع ولمحة سحرية من الخيال الذي يسلب القلوب لتناسب كل الاذواق والمعايير ????♥️

هناك مقولة شهيرة عن الحب تقول (من الحب ما قتل)
ومهما اختلفت اشعار وكتابات الحب فالحب شامخ وشعوره راسخ مثل القديس او ملكوت الحب...

وما لا تعلمه بأن الحب يندرج تحت مسميين هما الداء والدواء وما يحكمهما قانون الحياة...
ولكن ماذا لو كان المحب ذئباً ؟!

وتلقته رصاصة العشق بقلبه فأدمته بهواها !!
كيف يمكن له ان يعبر عن وجعها ؟
هل بالعواء ام بالنأي بصمت الاموات ؟






"تواقيع الشخصيات"






موعد تنزيلها كل يوم سبت من كل اسبوع انتظرونا دائما بالقرب ♥️

فصول الرواية

المقدمة والفصل 1,2 أسفل الصفحة
الفصل 3
الفصل 4
الفصل 5
الفصل 6
الفصل 7
الفصل 8
الفصل 9
الفصل 10
الفصل 11
الفصل 12
الفصل 13
الفصل 14
الفصل 15
الفصل 16
الفصل 17
الفصل 18
الفصل 19 ج1
الفصل 19 ج2
الفصل العشرون ج1
الفصل العشرون ج2
الفصل 21
الفصل 22
الفصل 23
الفصل 24 ج1
الفصل 24 ج2
الفصل 25
الفصل 26
الفصل 27 ج1
الفصل 27 ج2
الفصل 28 ج1
الفصل 28 ج2







التعديل الأخير تم بواسطة **منى لطيفي (نصر الدين )** ; 16-03-24 الساعة 03:54 PM
روز علي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-05-23, 01:27 AM   #2

روز علي
 
الصورة الرمزية روز علي

? العضوٌ??? » 478593
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 712
?  نُقآطِيْ » روز علي is on a distinguished road
افتراضي

المقدمة........
كانت تركض بأقصى سرعة ممكنة وقدميها تسابقان الريح وكأنهما يستشعران بالخطر المحدق بهما بدون تلقي اي اوامر من العقل المتحكم الذي ترك الإدارة لباقي اطراف جسدها بالاندفاع بلا تردد او وعي بما يسمى بغريزة الحياة...وهي تتجاوز الممرات والأروقة الواحدة تلو الاخرى تحيطها الجدران العالية التي تتشابه كلها مع بعضها وكأنها دائرة مغلقة علقت بها او متاهة لا مخرج منها...بدون اي بصيص ضوء او انوار تضيء طريقها المظلم الحالك بشكل لا تبصر به سوى وقع خطواتها الراكضة التي ما تزال تنطلق بلا اي هدف او تخطيط...وكأنها بهذه الطريقة الوحيدة تنقذ نفسها من الخطر الوشيك وتبعد نفسها المذعورة عنه والمكبلة بمخاوفها التي لم تتركها لدهور مثل قانون حياة تربت عليه منذ نعومة اظافرها .
ما ان لمحت باب المنزل اخيرا المؤدي للخارج حتى انطلقت من فورها بدون تفكير لتحرر نفسها من اسوار المنزل المظلم الذي اصبح يشكل اكبر مخاوفها...ليتلقاها بعدها المجهول الاكثر خطرا وهي تدخل لغابة موحشة برية وكأنها بمنتصف رحلة بغابات افريقيا مليئة بالأشجار العالية والحشائش الكثيفة والطرق الملتوية واصوات الحيوانات ! توقفت تماما عن الحركة عندما تنبهت للخطر الحقيقي الموجود بصوت عواء لذئاب لم تخطئ سماعه ! لتتسارع نبضات قلبها المحصور بأضلعها بمستوى خطر مترافق مع صوت انفاسها الشحيحة التي باتت مسموعة لأذنيها وهي تصم عنها الاصوات الاخرى وكأنها معزوفة الموت الخاصة بها .
اخذ منها الإدراك لحظتين فقط قبل ان تسارع بالركض مجددا بخوف اكبر يحثها قلبها على الاستماع لنداء خوفها والهرب بعيدا جدا حيث المجهول ينتظرها...ولكن ما لم تتوقعه ان تقع قدمها بإحدى الفخاخ وتمسكها مصيدة الحيوانات التي تستخدم للقوارض لتسقطها من بعدها على طولها ارضا بمنتهى القسوة...رفعت وجهها بسرعة وهي تتلقف انفاسها بتعاقب بعد ان كادت تفقدها للأبد بدون ان تمنع الألم من الانتقال من قدمها لسائر اطراف جسدها وكأنها حيوان هارب ألقي القبض عليه .
تجمدت ملامحها الشاحبة برعب حقيقي فليس عواء الذئاب وحده من وجدها بل كذلك صوت الأنفاس العالية اصبحت تشعر بها اقرب لصوت لهاث ذئب متعطش...لتحاول بعدها تحريك قدميها بصعوبة حتى زادت الألم بقدمها المقيدة اضعاف وكأنها تفصلها عن ساقها بدون ان تعبأ بها وبعذابها الذي لا يقارن بعذاب خوفها...توقفت عن المقاومة بلحظة خروج الذئاب لها من بين الاشجار الكثيفة حتى اصبحت تحاوط المكان من حولها ومن جميع الجهات وكأنها الكبش الذي تم اصطياده بمصيدتهم .
بدأت بالأنين بصوت مرتفع وكأنها حيوان يحتضر وهي على وشك فقد انفاسها الاخيرة ونبضاتها الضعيفة امام الرعب الذي تحياه فاق تصوراتها !...فأن تكون نهايتها طعام بين انياب هذه الذئاب المتوحشة الجائعة لهو اسوء مصير من الممكن ان يصادفه بشري مسالم بحياته !
قبضت على اصابع يديها وهي تغطي بهما اذنيها تحجب الاصوات عنها وتخفف وطأة ألم الموت بعزل نفسها عن واقعها ومحيطها...وما هي ألا لحظات حتى اختفت اصوات الذئاب من حولها بشكل مفاجئ بدون ان تشعر برحيلها تاركة صمت فارغ بالمكان...ولكن الراحة لم تستمر طويلا فقد ظهر ذئب آخر وحيد من بين الشجيرات كان ينظر نحوها بقوة يكاد يخترقها وينتزع قلبها من مخبأه وامانه بدون رحمة وكأن بنظرته تلك ألف تعذيب وحكاية...ولا شك بأن يكون هو سبب هروب الذئاب الاخرى الجائعة التي كانت تحاصرها وغادرت بسرعة بحضور شخص اقوى منها !...فهو مختلف عنهم بعدة جوانب ليس بسبب ضخامة حجمه وهيئته المرعبة وحسب بل ايضا بسبب شكل الندبة الواضحة اعلى حاجبه الايسر وتقطع منتصف عينه مثل السيف بدون ان يؤثر على شكلها وكأنه ذئب اعور...ولم تشعر بتلك اللحظات التي قضتها بالجمود بأنه يتقدم نحوها مباشرة بدون ان يحيد بطريقه عنها حتى انتهى به المطاف يقف امامها تماما .
اتسعت حدقتاها الخضراوان بخوف تلبس بها وشل حركة اطرافها لوهلة وقدراتها الاستيعابية قد توقفت عند تلك اللحظة بالذات وكأنها لم تعش شيئا قبلا...وكأنها لم ترى ذاك الرعب الذي اوشكت على الاحتضار بسببه واوصلها لأشد مخاوفها على الإطلاق !...بينما كانت هي تبادله النظر بصمت شديد تتأمل بتركيز تلك العينان الرماديتان الفارغتان الغير متسالمتان النوايا تحملان الكثير من الصقيع والجمود والقسوة بقالب من الوحدة وكأنها غابة مرعبة منسية بمنزل مجهور تعيش بقلبهما .
ارتجفت اطرافها ببرودة ما ان مال رأس الذئب نحوها حتى اصبحت انفاسه الشرسة بقرب اذنها تماما ، لتفيق بعدها على صوت عواء بلغة مختلفة بمزيج بين القسوة والخوف والهوى ولم تفهم من ذاك العواء سوى كلمات محددة يهمسها لها بسرية
"لقد وقعتي بالفخ يا قطة ، وبات الآن قلبكِ اسير الظلام"
ولم تفهم ما كان يقصده بذلك الكلام وفسرته على هواها فهي بالنهاية لا تتقن لغة الذئاب ولا تفهمها ، ولكن ما تعلمه بأن ذاك الحلم المرعب سيتكرر معها مجددا ويعاد عرضه بأشكال عدة قد تتمكن عندها من فهمه بيوم آخر وبحلم آخر ، فهي قصتها مع الذئاب طويلة ولن تنتهي قريبا !


روز علي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-05-23, 01:34 AM   #3

روز علي
 
الصورة الرمزية روز علي

? العضوٌ??? » 478593
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 712
?  نُقآطِيْ » روز علي is on a distinguished road
افتراضي

"يا لهذا الشقاء يصفعني...كلما تهت في الأقاصي...فأتحول إلى اشواك برية...كل مساء طائش...حيث تهرول في يقظتي إيقاعات...تذبح معناي...ها أنا أنتعل حذاء التيه...وأركض بين الغرباء...لهم عادات غربية...يطوفون حول الانكسار...ويعزفون للعشق قصائد"


الفصل الأول.......
ارتفع صوت رنين المنبه بجانب السرير الذي اخترق صمت المكان بصخب عالي وكأنه نقار الخشب لا يتماشى مع حجمه الصغير المكعب ليتبعه بصوت رسالة صوتية محفوظة صادرة من نفس المنبه المبرمج على نظام معين
"حان وقت العمل يا ريس ، استيقظ يا كسول"
تكررت الرسالة الصوتية اكثر من مرة مصرة على تهديد نوم الغارق بسباته العميق الذي استغرق منه الوصول له طول ساعات الليل حتى الساعة الخامسة فجرا ، وهو الآن مضطر لقطع ذاك النوم العصيب والاستيقاظ على صوت المنبه للدخول باليوم الجديد الذي لا يختلف عن سابقه ليجاري مسار الحياة ، ليمد ذراعه بالنهاية جهة المنضدة بجانبه وهو يضرب زر المنبه بأصبع واحد ليوقف صوته المزعج وإلحاحه المستفز المرهق للأعصاب حد الألم ، فبالرغم من انزعاجه من هذه الفكرة بالاستيقاظ باستخدام منبه آلي يحفظ الرسائل الصوتية فلن يستطيع التخلي عنه بحياته بسبب حاجته لهذا النوع من الحوافز لتنتشله من ظلام سباته الذي يسحب إليه بدون إرادة منه .
تجعدت ملامحه بدون ان يفتح عينيه وهو يمدد اطراف جسده بإرهاق النوم وكأنه لم يكتفي بعد من هذه الراحة المؤقتة التي يحصل عليها بنهاية اليوم او بوجه اصح بساعات الفجر ، ليستند بعدها بيديه على جانبيه وهو ينهض ببطء خارج السرير الواسع المغطى بالحرير الاسود ومطرز بخيوط ذهبية وفضية تصنع اشكال هندسية ورسومات فنية حتى استوى جالسا على طرفه لبرهة .
كان يدلك بأصبعيه السبابة والإبهام بين عينيه ينفض الألم المزمن عنهما الذي يرافقه دائما بعد النوم ساعات قليلة ، ليبدأ بعدها مرحلة فتح جفنيه عن حدقتيه القاسيتين وهو يضيقهما بحدود نظره والخطوط حولهما تزداد عمقا وجاذبية تخصهما وحدهما ، وما ان انتهى من مراحل الاستيقاظ حتى رفع معصمه بساعة رقمية متطورة تلتف حوله وهي تشير للساعة الثامنة صباحا وموعد الاستعداد للعمل ، ليضبط بعدها مدة الاستعداد عشر دقائق فقط وهي الفترة الزمنية التي يحتاجها بتجهيز نفسه لليوم قبل ان يباشر المؤقت بالعمل التلقائي .
نهض من فوره وهو يستقيم على طوله ليتجه مباشرة للخزانة التي تغطي الجدار المقابل ليسحب بابها ويخرج منها ملابس الخروج ، لتكون وجهته التالية الحمام المرفق وهو يلتقط بطريقه منشفة بيضاء نظيفة كانت معلقة على الكرسي كما هو مخطط له بكل يوم .
وبغضون سبع دقائق كان يقف امام طاولة الزينة وهو يسرح شعره الكستنائي الغامق للخلف بنعومة وتنظيم ما يزال يحافظ عليه بفوضى حياته الحافلة ، ليلمح بعدها بانعكاس المرآة الخاتم الفضي الثقيل الذي يحتل بنصر يده اليسرى للآن ، ليفك اصابعه عن خصلات شعره ببطء وهو يخفض كفه امام نظره حتى اصبح الخاتم بمدار رؤيته ، وبلحظة واحدة كان يخلع الخاتم عن اصبعه ببساطة قبل ان يلقي به بسلة المهملات الانيقة بجانب الطاولة وبدون ان يعيره اي انتباه وكأنه لا شيء !
قال بعدها بشبح ابتسامة جليدية وهو يعود لمحاكمة نفسه امام المرآة
لم يعد له داعي ، فقد انتهت فائدته برحيل صاحبته" "
عاد لتعديل هندامه وهو يطوي اكمام قميصه ناصع البياض ويدسهم بالزر الذهبي على كل منهما ، ليبتعد بعدها عن المرآة وهو يعود للخزانة ليفتح بابها من جهة اخرى تطل على مجموعة كاملة فخمة من ربطات الاعناق الملونة والمزخرفة بكل الأنواع والاشكال ، ليقع اختياره على ربطة عنق حمراء بلون الياقوت وهو يلفها حول اصابعه الطويلة يتلمس قماشها الناعم وذاكرته تعود لحدث ما مر على ذهنه بلمح البصر ، كانت تتهادى امام عينيه بفستانها الناري وهي تتعلق بذراعيها حول عنقه وكأنها تتأرجح بدلال ولكنها بالواقع كانت تعقد له ربطة العنق الحمراء القانية بخطوات مدروسة مغوية وهي تهمس بأذنه بألحان غربية متلذذة بكل لحظة
"هذه هدية صغيرة مني لك ، اتمنى ان تعجبك وتليق بك ، عيد حب سعيد يا ريس"
عند تلك الكلمات اتسعت ابتسامته الملتوية الجذابة بخطوط عميقة قاسية وهو يكبل خصرها الغض بذراعه ويمسك بيديها حول عنقه بيده الاخرى ، واخذت منه لحظات يتأملها بصمت قبل ان يقربها منه وينقض على انوثتها الطاغية ويتلذذ بفتنتها وهي تزيد الشعلة بضحكاتها الرنانة العالية التي تجيد إثارة الجنس الآخر نحوها بمنتهى الدهاء ، وهو ينجر خلف خطتها بقضاء اليوم معها بعيد الحب الذي يكون بالنسبة لها من الايام المقدسة والمهمة التي يمنع للعمل او لشيء آخر من الانشغال بها ، فهذا هو عالم الغرب واسلوبهم بالحياة والذين يأخذون كل شيء بمتعة ولهو كبيرين وممارسة هذه العادات وتطبيقها من الاساسيات التي تجلب لهم السعادة والمسرة مثل الركائز الثابتة ، وهذه لم تكن العادة الأولى والاخيرة التي يملكونها وتعلمها بطريقتهم بعيش الحياة بفجور وانطلاق كبيرين وكأن لا هموم يحملونها بعالمهم الزائل .
افاق من الذكرى بلحظة وهو ما يزال يتلمس قماش ربطة العنق بأصابعه بشرود وكأنه ادرك ما فقده وخسره بحياته الرتيبة التي تسير على نظام معين قاسي ، ولكنه بالطبع ليس اشتياق لصاحبة الذكرى بالمعنى الحرفي التي كانت مجرد نزوة ومنفعة تربطه بها بل الشغف والحماس هو ما افتقدهما بها وجذبه خارج عالمه الموحش الفارغ ، ما ان انتهى من شريط الذكريات العابر الذي يترك فجوة سامة بالروح حتى رفع ربطة العنق عاليا ليلقي بها على طول ذراعه باتجاه نفس السلة التي تلقتها بسهولة بتسديد محترف مثل كل الاشياء المهملة التي انتهت مدة صلاحيتها بحياته .
اخذ ربطة عنق رمادية فاتحة وهو يغلق الخزانة بيده الاخرى ليعود مجددا باتجاه طاولة الزينة ، وما ان وقف امام انعكاس صورته بالمرآة حتى لف ربطة عنقه الفاخرة وعقدها بطريقة مهنية وهي تحمل ماركة مشهورة لا يبتاع سوى منها ، ليحيد بنظراته قليلا وهو يتابع سقوط الصورة الفتوغرافية الصغيرة عن حافة المرآة التي كانت ملتصقة بها ، ليمد يده بسرعة وهو يمسكها قبل وصولها للأسفل ليعانقها بأصابعه الطويلة ويرفعها امام نظره ، كان يتأمل محتوى الصورة التي تضم امرأة كستنائية الشعر وزرقاء العينان تحتضن بين ذراعيها طفل لم يتجاوز الرابعة من عمره بنفس لون الشعر الكستنائي ولكن الاختلاف بلون العينان الرماديتان الفارغتان اللتان لا تحملان اي شعور بقلبهما لا تتناسبان مع ملامحه الطفولية البريئة وكأنهما مساكن من الوحدة والبرود .
تجمدت ابتسامته على طرف شفتيه بدون شعور وهو يخفض نصف جفنيه بألم على صوت داخلي عميق ما يزال يتردد بروحه بدون رحمة وكأن السنوات لم تمر وكأنه لم يكبر
"لا تخرج منها يا إلياس ، لا تفتح الباب ، ولا تصدر صوتا ، إذا حاولت وعصيت اوامري فأقسم بالله ان اكرهك ولا اكلمك طيلة حياتي حتى مماتي !"
فتح عينيه الرماديتين على اتساعهما ما ان ايقظه صوت منبه ساعته الرقمية يعلن انتهاء العشر دقائق التي خصصها بالاستعداد ليومه ، ليعيد بعدها الصورة لمكانها على حافة المرآة وهو يعدل وضعها بحيث تظهر كاملة وتخفي جزء منها بداخل الحافة لكي لا تقع مجددا ، وهو مستمر بمطالعة الصورة عن كثب من ابتسامة المرأة الفاتنة التي تظهر الإرهاق بوضوح بدون ان تخفي القوة والعنفوان بملامحها المرسومة بعناية...لابتسامة الطفل الصغير الذي ما يزال يتشبث بثياب والدته ويخفي نفسه بأحضانها وكأنه يحتمي بقوتها من العالم .
تنفس بقوة وهو يفصل منبه ساعته الرقمية والتي اصبحت تشير للساعة الثامنة وعشر دقائق كما هو مخطط له ، ليفصل بالمقابل مشاعره الانسانية والشخصية عنه ليتلبس دور مدير الاعمال الصارم المنتظم بحياته والملزم باتباع القوانين والمبادئ بحذافيرها ، التقط الهاتف والساعة وهو يستدير عن المرآة وعن كل شيء حاول كتمانه ودفنه بداخله ، لينطلق من فوره خارج الغرفة بأكملها ونفس الصوت الخفيض يتردد بروحه وكأنها تخاطبه الآن بدون وجود صورة لها فقط طيفها يحكي معه
"عليك ان تكون اقوى ، عليك ألا تهزم ، عليك ان تكون بنظرهم الوحش الكاسر الذي يهاب منه الجميع ، الذي يحسب له ألف حساب وألف ثمن ، ثعلب بدهائه واسد بسطوته ، إذا لم تصبح هكذا فلن يراك احد ، لن يلاحظك احدهم ، ستكون فقط عالة عليهم ، وسرعان ما سيسحقونك بالنهاية تحت اقدامهم القذرة وآثامهم حتى تصبح لا شيء !"
توقف الصوت بلحظة انتهاء درجات السلم وهو يصل لمدخل المنزل الكبير الذي يبعد عنه امتار قليلة وكأن كل شيء يسير وفق نظامه الخاص ، ليوقف برمجة خطواته الواسعة اختراق سمعه صوت النداء من الخلف بنبرة امومية حنونة
"انتظر يا بني"
توقف عن الحركة وهو يستدير للخلف بنفس الملامح الجامدة ليقابل المرأة الكبيرة بالسن التي وصلت له وهي تحمل بين يديها كأس الحليب الابيض الصافي المعتاد عليه كل صباح ، لتقول بلحظة ببشاشة وبابتسامة واسعة تنطق بحنان كبير غير مشروط
"صباح الخير يا إلياس ، لقد اعددت لك كأس الحليب بالأعشاب ، سيفيدك كثيرا بيوم عملك الطويل"
اخفض نظره عن وجهها الباسم الذي لا يفقد بشاشته ليلقي نظرة على السائل الابيض الموجود بين يديها الذي اعتاد على شربه منذ سنوات ، ليزفر انفاسه بقوة وهو يدس يديه بجيبي بنطاله الفاخر قائلا بصوت اجش متهكم
"عمتي وداد ألن نتوقف عن هذه العادة القديمة ؟ لقد تغيرت امور كثيرة بالسنوات الاخيرة من حياتي ، ولكنكِ الشيء الوحيد الشامخ والقديم الذي لا يتغير مهما مرت عليه السنوات ، ألا تعتقدين بأن بعض التجديد سيكون افضل لكِ ؟"
تغضنت زاوية ابتسامتها بحنان زادت خطوط العمر حولها وهي تقول بثقة كبيرة وكأنها اعتادت على استقبال ردة فعله ازاء تصرفاتها التي يراها مبالغ بها
"بنظري هذا افضل لي بكثير ، فالتغيير لا يناسب شخصية تقليدية مثلي اعتادت على خدمة اميرها الصغير وتلبية كل احتياجاته وطلباته ، واعتقد بأنك اكثر شخص بيننا يحتاج لوجود شخص يذكرك بالماضي وما انت عليه اصلا ، لكي لا تجرك متاهات الحياة الشائكة بعيدا عن حقيقتك وتمحي شخصيتك"
تغضن جبينه بوجوم وهو يستمع لمحاضرات مربيته التي اهتمت بتربيته ورعايته وتنميته منذ حادثة وفاة والديه بنفس اليوم ، وبواقع الحال لا يستطيع الغضب عليها او عتابها او لومها لأنها من تحملته بكل مشاكله وعقده النفسية على مدار سنوات طويلة كان على وشك فقدان نفسه بين تلك الفترات التي شهدت على انهياره اكثر من مرة ، وهي كانت الاقرب له من بين الجميع وافضل معين ومسعف له انقذ حياته وحطام واقعه من تدميره والموت تحت ركامه للأبد ، فمن مثلها بالعالم قليلون جدا ولن يستطيع احد الاستمرار معه لهذه النقطة التي وصل بها بحياته الغير منضبطة من كل الجوانب الاجتماعية والعاطفية !
ابتلع ريقه بجهد وهو يدير رأسه جانبا قائلا بتصلب جاف
"هلا تعفيني من هذه المحاضرة وتتركيني ارحل ؟ هكذا سأصل متأخرا على موعد عملي المهم وسأتصف بعدم الانضباط بالمواعيد ! وتعلمين جيدا بأنه غير مسموح بمدير الشركة الاستهتار او التهاون بمواعيد عمله"
حافظت ملامحها على هدوئها الشديد وهي تقدم كأس الحليب امامه قائلة بصوت جاد لا يقبل التهاون
"وانا قلت لك بأنك لن ترحل قبل ان تشرب كأس حليبك كاملا ، يكفي بأنك تفوت وجبات طعام اليوم وتعود للمنزل بوقت متأخر من الليل وتكتفي بالأطعمة السريعة الباردة ، هل تظن بأن هذا سيكون جيد لصحتك ؟"
حرك رأسه بضجر وقد بدأت بإلحاحها المزعج الشبيه بصوت المنبه بغرفته وكل منهما لا يكفان عن الإزعاج حتى يفقدانه اعصابه ، ليهمهم بعدها بوجوم عابس وهو يدلك عنقه بأصابعه بتوتر
"إذاً لن ننتهي من هذه المحنة الامومية !"
مدت كأس الحليب بإصرار اكبر وهي تهمس بتزمت نادرا ما تصل له
"سترحل فقط عندما تشرب الحليب وغير هذا ليس لدي ما اضيفه على كلامي ، والافضل لك سماع الكلمة لتستطيع ان تتخطاني وتصل لعملك على موعده"
رمقها بطرف حدقتيه الرماديتين بصقيع قسوتهما وهو يتنهد بالنهاية بملل بعد ان اكتفى من الجدال بأمر مفروغ منه والوقت ينفذ منه ، ليتناول الكأس منها ببرود وهو يرتشف الحليب بجرعة واحدة طويلة استغرقت منه ثانيتين وكأنه يحسب وقت للشرب كذلك ، ليعيد الكأس لها وهو يمسح ذقنه المهذبة ذات الشعيرات الدقيقة بأصابعه ينظف عنها آثار الحليب .
استدار بعدها بسرعة بدون ان ينطق بكلمة لينطلق خارجا من المنزل وهي تودعه بكلمات حانية لم تخلو من العطف
رافقتك السلامة يا سيد إلياس ، انتبه على نفسك جيدا""
ولكن المقصود بكلامها كان قد غادر المنزل بالفعل بدون ان يعيرها انتباه كعادته عندما يسارع بالذهاب للعمل ينحصر تفكيره بمدار ذاك العمل ، لتتنفس بعدها بحشرجة متعبة وهي تهمس بابتسامة رقيقة اختلطت بالحزن والاسى
"على الاقل تستطيع الاستمرار بعملك بجدية ، وتنسى ما حدث بالأمس وكأنه لم يكن ، فالوقت هو افضل علاج للإنسان"
________________________
"أجد نفسي حزيناً وحيداً أبحث في الطرقات عن الدرب.. أنا مشرّد في العالم، والدرب دربي أنا، أنا غجرية بشرتي بيضاء وعيناي ملونتان ، أنا المشردة بهذا العالم"

استيقظت بفزع من نومها وهي تحاول تنظيم انفاسها المتعاقبة باضطراب وكفها تمسد على مكان قلبها الذي يكاد يخترق جذران صدرها الذي ضاق بها وتقلص ، لتستند بظهرها على خشب السرير بإرهاق وهي ما تزال تنشج بتعب وبلهاث انخفض تدريجيا وانحسر بخلجات صدرها ، وبلحظات كانت ترتاح كليا بعد ان زال تأثير الحلم المروع عنها الذي ما يزال يراودها لهذه اللحظة والسن وهو يختلف ويتغير مع مرور السنوات وكأنها اجزاء وفصول من مسلسل حياتها .
رفعت كفها الاخرى لتمسح رأسها بإنهاك وهي تعيد شعرها الاشعث للخلف بقوة تستعيد تركيزها بالحاضر وبالوقت الحالي ، لتشتت نظراتها حولها باهتزاز لحظي تتأمل محتويات غرفتها الواسعة المترفة التي تبدو خاوية باردة بنظرها وكأنها غابة موحشة لم يصلها ضوء الشمس من سنوات ، وهذه الحقيقة بسبب اغلاق الستائر لنوافذها العالية ولون جدرانها واثاثها الداكن المخملي الذي سيطر على المكان بأسره .
رمشت بعينيها عدة مرات بتشوش وهي تشعر بضيق بمجرى تنفسها لتنهض من فورها عن السرير وتتجه مباشرة للحمام المرفق ، وما ان دخلت حتى وقفت امام صنبور الماء الذهبي الذي ادارته بيد لتقذف الماء بيدها الاخرى على وجهها الجاف الذي اخذ اللون بالرجوع له تدريجيا بحياة ، لتغلق بعدها بلحظات الصنبور بصمت وهي تنزع المنشفة الوردية المنقوشة بورود ذهبية من العلاقة بجانبها لتمسح وجهها بها بهدوء .
تنفست بانتظام اكبر وهي تقبض بأناملها البيضاء على قماش المنشفة القطنية الثقيلة بصراع صامت دائما ما تخوضه ببداية كل يوم جديد ، لتخفض المنشفة عن وجهها بثواني وهي تناظر صورتها بالمرآة الكبيرة ذات الإطار المذهب التي تقابلها دائما تسألها عن حالها وعن اوضاعها ككل يوم فهي التي تجردها من صورتها المصطنعة ومن اقنعتها المزيفة ومن قوتها الداخلية امام العالم ، لتنسى اصلها ونسبها وحياتها وانتمائها امام حقيقتها الواقعية الموجودة امامها واعترفت بها داخل نفسها واستنكرها الجميع ونفاها حتى نفتها كذلك وصدقتها .
رفعت يدها وهي تدس خصلات غرتها الملتصقة بجبينها خلف اذنها تحدق بعينيها الحزينتين بصورتها البائسة بدون اي حياة او تعبير ، لتشيح بوجهها بعيدا قبل ان تعيد المنشفة مكانها وتعاود المشي خارج الحمام بخطوات اكثر تثاقل ، وبلحظة كانت تجلس على طرف السرير وهي تلتقط ابريق الماء الزجاجي من فوق المنضدة لتسكب الماء بالكأس الزجاجية ، قربت حافة الكأس من شفتيها وهي تشرب ببطء شديد ترطب حلقها الجاف وتبرد حرقة صدرها نابعة من قلبها المتقلص من مرأى ذاك الحلم السيء والأسوء على الإطلاق !
احتضنت الكأس بين يديها بحجرها وهي تهمس بخفوت معذب وكأنها ما تزال تعايش حلمها
"لقد كان مجرد حلم ، حلم سيء ، حلم وسيزول ، حلم من وحي خيال عقلي ، اوهام عقلية باطنية ، احلام من ابتداع العقل"
زفرت انفاسها باستغفار وهي تعيد الكأس لمكانها فوق المنضدة بعد ان عادت لها عزيمتها الطبيعية التي تحتاجها بيومها الطويل المرهق ، استقامت بعدها بوقوفها وهي تجر خطواتها وتفك اول زرين من قميص بيجامتها الحريرية بمهمة تجهيز نفسها بانضباط عالي والتزام يفتقر بشدة للنشاط والحيوية .
بعدها بوقت قصير كانت تلف وشاحها الاسود الحريري امام المرآة وهي تنتهي من عقده حول وجهها بإحكام تخفي مفاتنها عن الناظر وعن المحيطين بها ، ولم يكن يوما اقتناعا منها او عن رضا بل كان فرض اجبروه عليها وألزموها به منذ بلغت الثالثة عشر من عمرها حماية لها من العالم وتلافي للمشاكل التي تجلبها فتنتها لعالمهم الشاغل الذي بات يشكل تهديد لها ، ولكنها تعرف علم اليقين بأن مسعاهم مختلف تماما وهو تغيير جذري لجيناتها الجوهرية التي يعرفها الجميع وينكرونها بتغيير خارجها عله يغير داخلها وكأنها هكذا ستكون كما يريدون عندما يشكلونها حسب منظورهم وتنتمي لهم بالكامل !
اخفضت يديها عن وشاحها وهي تحني حدقتاها كذلك لتقع على السوار الملتف حول رسغ يدها اليسرى الذي هو عبارة عن خيط صوفي احمر مضفر يحمي من الحسد والعين الشريرة كما تقول الخرافة القديمة ، وتذكر بأنها لم تصدق يوما تلك الخزعبلات والخرافات القديمة ولم تؤمن بها ولكن ذاك الشخص الذي ربطها لها يحمل معزة غالية على قلبها جعلتها تؤمن بها ولا تخلعها بحياتها قط ، ربما من الأمان الذي يبثه لها بداخلها ! او حاجتها لهذه الحماية بالتشبث بهذه الخرافة للعيش بسلام وطمأنينة ! او ربما ربما برغبة قلبية لكي تبقى صاحبة السوار تعيش بقلبها دائما وللأبد بدون ان تسمح لها بالرحيل عن عالمها...
ضمت رسغها النحيل بأصابعها وهي تتمسك بالخيط الاحمر الملتف حوله بقوة طلبا للحماية والقوة بالثبات ، لتتنهد بعدها بهدوء وهي تخفض يديها على جانبيها بعد ان انتهت من شحن طاقتها امام نفسها وكأنها طاقة خفية تحملها بداخلها بكل يوم لتدوم لنهايته .
اخفضت جفنيها الواسعين على صورتها العاكسة وهي ترسم ابتسامة دافئة اعتلت محياها الباهت كأجمل صباح بيومها وكأنها تلاقت روحها مع روح تحبها بأطياف خيالها ، لتفتح عينيها باللحظة التالية وهي تقتل ابتسامتها بتعبير جامد استغرق منها وهلة قبل ان تستدير وتكمل طريقها خارج غرفتها وهي تنتشل حزام حقيبتها من على الكرسي لتضعه فوق كتفها وتخرج من بوابة عالمها ، وكأنها بوابة زمنية تفصل بين العالمين بمكانين مختلفين ومحيطين متناقضين عليها الاعتياد عليهما ورسم شخصيتها حسب توقيت مكانيهما .
سارت نحو السلالم التي تؤدي للطابق الارضي حيث جميع افراد العائلة مجتمعين حول مائدة الطعام الرئيسية التي عليها حضورها كأبنة مطيعة للعائلة ، تلتزم بقوانين وتقاليد هذا المنزل الكبير وتحترم ساكنيه وهو يجمع افراد عائلة من اكبر واشهر عائلات المجتمع بالقرن الحالي كما القديم والمعاصر ، فهذه العائلة لم تصبح هكذا من لا شيء من كبيرها لصغيرها والتي ابتدأت نفوذها من سنوات وسنوات عندما لم يكن للعالم معنى ولم يكن هناك اهداف ومخططات مستقبلية وكانت الخيول هي التي تجر العربات والمال الوحيد الذي يحصلون عليه من خدمة الرؤوس الكبيرة والتي تصنع المال حتى اصبح هناك فروقات بين طبقة العبيد وطبقة حكام العالم ، ولكن كل شيء تغير وتطور وازدهر بالسنوات المتقدمة بعد النهضة حتى اصبحت الطبقات تتفرع وتتغير والمال بات له مشاريع ومخططات تخدم الصالح العام استثمروها بالعالم وجعلوه مكان افضل عن السابق ، وهذه الطبقة كانت عائلتها ولها الفضل الاكبر بحدوث هذه العولمة حتى تحولت بمرور السنوات لقوة عالمية وسطوة هائلة استحوذت على مراتب مهمة وعالية بالصعيد المالي والصناعي لم يصل لها احد قبلها ولا بعدها .
افاقت من شرودها ما ان ظهرت لها مائدة الطعام التي تحتل وسط البهو الواسع ولم يكن هناك سوى فردين حولها ، من يرى هذا المنزل الكبير الشبيه بالقصر يظن بأن افراد كثيرين يسكنون بداخله ولا يعلمون بأنه لم يتبقى منهم سوى ابنائها الثلاث وهي الرابعة ، وبالطبع كانت هي الابنة الصغرى والعضو المؤنث الوحيد بالعائلة وكما يسمونها بلغتهم الوتر الشاذ والحساس وبنظر المجتمع الشعرة الغربية بين شعوب العرب بعائلة عريقة الجذور .
وقفت بآخر السلم وهي تنظر لذئاب الكايد واللقب الذي اطلق على شباب عائلة الكايد منذ ترأسهم الإدارة بعد وفاة كبيرها مفلح الكايد ، ولم ينقص من مرتبتهم الاجتماعية والإدارية شيئا بعد خسارة كبيرها الذي استحوذ على كل تلك المناصب المهمة واساس ذلك العلو ، فقد اثبتوا حسن إدارتهم وقوتهم بالزعامة والترأس بالمناصب العالية بدون وجود كبير يرشدهم او خبير ينصحهم ، وهذا هو السبب الأول بإطلاق لقب ذئاب عليهم اما اسم الكايد فهي كنية العائلة الشهيرة التي تأخذ الجزء الثاني من هوياتهم كما اخذت جزء من هويتها وشخصها .
تنفست بهدوء وهي تكمل سيرها حيث يجلسان شقيقيها مقابل بعضهما لتتخذ الكرسي بجانب العضو الاكبر الذي كان يعمل على لوحه الالكتروني يتابع الاعمال بمكانه كما يفعل عادةً ، وخاصة بأنه المساعد الايمن والاقرب لشقيقها الكبير بكل اعماله ومهامه الإدارية والمالية وكل ما يختص بالحياة الاجتماعية خارج حدود العائلة ، شردت بنظراتها بمكان الكرسي الفارغ الذي يحتل رأس المائدة والخاص بشقيقها الاكبر واكبر ابن بعائلة الكايد وسبب نجاحها وثباتها للآن وهو يحرز إنجازات وانتصارات ومرابح لم يحلم احد بها ، وها هو غائب عن مائدة الفطور وعن المنزل منذ شهرين كاملين لم تراه بهما ولم تلمحه مطلقا ، وهذا بالطبع بسبب الاعمال والمشاغل والتي دائما ما تأخذ حيز كبير بحياته العملية الحافلة حتى اهمل جوانب كثيرة من حياته الشخصية بسببها .
رفعت رأسها بسرعة وهي تديره نحو الذي قال بعملية جادة بدون ان يبعد نظره عن اللوح الالكتروني
"صباح الخير ، هل ما زلتِ تحلمين بيقظتك ؟"
زمت شفتيها بعبوس ما ان لاحظ شرودها الطويل عنهم بالرغم من انه لم ينظر لها ولكنه يعرف جيدا تقلباتها ويحفظ تصرفاتها كما يحفظ الاعمال بجهازه اللوحي ، لتخفض نظرها لطبقها وهي تمسك بخبز التوست المحمص هامسة بتحفظ دائما ما تلتزمه اتجاه اشقائها
"صباح النور ، اعتذر لقد شردت بأفكاري قليلا"
حرك رأسه بإشارة صامتة بدون تعليق وتعلم بأنه لن يتكلم فهو فقط يتكلم عند الضرورة وكأن الكلام صعب عليه ومضيعة للوقت كما يقول ، لتنقل نظرها تلقائيا لشقيقها الآخر والفرد الثالث الذي يشبهه بصمته وهو مشغول بدراسة الاوراق بين يديه وكأنه مدير اعمال مهم وليس طالب جامعي على وشك الحصول على رسالة الدكتوراه بسنه الصغير الذي لم يتجاوز الخامسة والعشرون يكبرها بثلاث سنوات ، فهي بسنها الاثنان والعشرون بالكاد استطاعت الالتحاق بالجامعة وانهاء ثلاث فصول دراسية بسبب تأخرها بالانضمام للجامعة ونيل الحق بالدخول ، والامر لا يرجع فقط لأسباب دراسية بل كانت اسباب عائلية اكثر منها اكاديمية اثرت على تحصيلها ودخولها للجامعة التي كانت بالنسبة لها حلم بعيد المنال .
ارتسمت ابتسامة باردة على محياها وهي تقضم خبز التوست بطرف اسنانها تشاهد شقيقها المجتهد كحال اقرانه بعائلة الكايد الذين يملكون عقول ذكية فوق الطبيعية تؤهلهم ليكونوا رعاة المستقبل لا شيء يثنيهم عن الوصول لأهدافهم بالعالم ولو كانت اميال تفصلهم عنها ، ولكن المشكلة تكمن بصعوبات حياتهم الاجتماعية خاصة العواطف والحب فهمّ الاسوء بهذه الامور وليس بسبب نقص بمؤهلاتهم بل بسبب النحس الذي يشاركهم بهذه الفصول حتى يأسوا من خوض هذه المواضيع وتجربتها .
كانت تراقب شقيقها (هيثم الكايد) او كما تسميه بلغة الذئاب ذئب الدرماء وتعني الشيء الثابت الذي لا يتغير مهما مرت عليه السنوات والفصول فهو سيبقى كما تركته ، وهو هكذا بالفعل بدراسته وحياته العملية والاجتماعية وبكل شيء وكأنه خط مستقيم لا يميل ولا ينحرف .
نهض (هيثم) من مكانه وهو يجمع اوراقه ويدسها بحقيبة يده المسطحة ليضعها تحت ذراعه ويغادر امام نظراتهما ، ولكن بدون ان ينسى ان يقول قبل مغادرته بهدوء ثابت وبكلمات مختصرة
"انا مغادر ، طاب يومكم"
ابتلعت ريقها تجبر اللقمة على الدخول بحلقها وهي تحملق بالجالس بجانبها والذي نهض كذلك بعدها بثواني وهو يغلق جهازه اللوحي ، ليقول بعدها بجدية وهو يدور حول الكرسي ينوي المغادرة
"اسرعي بتناول فطورك لكي تلحقي بهيثم قبل مغادرته ، فلن اطلب لكِ سيارة خاصة توصلك للجامعة"
هتفت بسرعة وهي تدير رأسها معه توقفه قبل ان يختفي ويفوت الاوان
"حذيفة انتظر"
توقف وهو يوليها ظهره ينتظر امرها الهام بصمت وهي لم تنتظر ان يتكلم وهي تسارع بالنهوض والوقوف امامه بثواني لتضم اصابعها ببعضهما بتوتر تفكر بكيفية مفاتحة الامر ، اخفض عينيه نحوها بأول مرة ينظر لها مباشرة وهو يرفع ساعة معصمه قائلا باستعجال واضح
"لديكِ فقط دقيقتين تتكلمين بهما بطلبك ، وإذا لم تفعلي فلن امهلك المزيد من وقتي المهم"
رفعت رأسها بسرعة وهي تتبرم باستياء من إجحافه بالتعامل معها وكأنها تحجز موعد مسبق عنده ، وهذا هو حال (حذيفة الكايد) او ما يسمونه بلغة الذئاب ذئب السمام ومعناه السريع بعمله ذو اللياقة والخفة البدنية بكل شيء يفعله ، وهكذا يكون هو كل شيء لديه وقت محدد عليه ان ينتهي بأسرع ما يمكن ويمنع التأخير بأي شيء او ستكون عندها العاقبة وخيمة .
فتحت شفتيها عدة مرات وهي تقول بتقطع تحاول تكوين جملة مفيدة من بين المفردات
"انا اريد...اريد طلب...هو يكون...ما اريده...."
قاطع (حذيفة) تلعثمها المثير للشفقة وهو يقول بنفاذ صبر
"قوليها مباشرة يا لورين ، فأنا لا افهم لغة التردد خاصتك ، ولن اقطع عنقك لو قلتي ما لديكِ"
ردت عليه بسرعة وهي تنطق بما يجول بقلبها دفعة واحدة وكأنه اعطاها الضوء الاخضر للكلام
"اريد دفعة زيادة بمصروفي هذا الشهر"
تلبدت ملامحه بهدوء وهو يدير عينيه بعيدا عنها قبل ان يقول بجدية وكأنه درس كلامها بلحظة
"ماذا تريدين بالمال وانتِ لا تذهبين لمكان سوى للجامعة ؟"
عضت على طرف شفتيها وهي تقول بالجواب الذي جهزت له مسبقا
"احتاج لشراء الملخصات والتقارير المطلوبة من الاساتذة ، ومواد جديدة لتجارب مسرحية من اجل الفحص"
رمقها بطرف حدقتيه وهو يقول بتفكير جامد
"والمصروف الذي اعطيكِ إياه يكفي لشراء ملخصاتك ومواد مسرحك بالإضافة لكل شيء تحتاجينه ، ولا اعتقد بأنكِ قد تحتاجي لزيادة بسبب هذا الامر ، وانتِ لستِ بكل هذا الاجتهاد والمثابرة حتى تهتمي لكل ما يطلبونه الاساتذة منكِ"
حدقت به بعينيها الواسعتين باستهجان وهو يكتشف امرها قبل حصولها عليه فهو كالعادة قرأ افكارها بمهارة وخيب آمالها ، لتقول بعدها بتذمر عابس وهي تتلاعب بأصابع يديها
"غير صحيح ، انت فقط تهين قدراتي بالدراسة"
دس يده بجيب بنطاله وهو يقول باتهام واضح وكأنه لم يسمع ما قالت
"لورين هل تذهبين لمكان آخر غير بناء كليتك ؟"
نظرت له بسرعة وهي تقول بخفوت متشنج
"كلا لم افعل"
ردّ عليها بسرعة بصوت مشتد لم يرتفع عن الحد
"لوريييين !"
قالت من فورها وهي تكتف ذراعيها امام صدرها ببؤس
"اخبرتك لم افعل ، لما لا تصدقني ؟"
تنفس بهدوء وهو يشيح بوجهه جانبا يعيد ضبط اعصابه بلمح البصر كما يفعل دائما بكل ما يتخلل بنظامه ويفسده إذا كان بعقله او بقلبه ، ليرفع ساعة معصمه مجددا وقد مضت الدقيقتين بالفعل ليقول بلحظة بجمود قاسي
"ليس هناك زيادة على المصروف اكثر مما اعطيكِ إياه ، وعندما اجد السبب المقنع للزيادة يمكنكِ عندها المطالبة بذلك ، وانتهى النقاش بالموضوع هنا"
انفرجت شفتيها بصدمة وقد غرقت ملامحها بحزنها المرير وهو يرفض طلبها بأسرع مما توقعت فمتى انقبل طلب من طلباتها التي تقابل الرفض دائما ؟
وما ان كانت على وشك الكلام مجددا حتى سبقها الذي اكمل سيره بعيدا عنها وهو يقول بأمر صارم وكأنها لا تتكلم
"اذهبي للجامعة يا لورين ، ولا تضيعي المزيد من الوقت بالتفكير بالتفاهات فقد هدرتِ وقتكِ بلا فائدة"
استاءت ملامحها بحزن وهي تشاهد رحيله ببساطة بدون ان يعيرها انتباه اكثر بعد انتهاء الدقيقتين ، لترفع يدها ذات السوار الاحمر وهي تمسك بها بأصابعها تدوره حول رسغها هامسة بخفوت حزين
كنت اتمنى فقط ان يخيب توقعاتي به ، ولو لمرة واحدة" "
نفضت يديها للأسفل وهي تستدير وتتأفف لترفع حزام حقيبتها عن ظهر الكرسي وتضعه على كتفها ، لتجري بسرعة باتجاه مدخل المنزل وهي تمسك طرف وشاحها وتتمتم بانفعال غاضب بعد ان فقدت الأمل منهم
"ذئاب عديمة الضمير ، بلا رحمة او شفقة !"

يتبع........


روز علي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-05-23, 01:38 AM   #4

روز علي
 
الصورة الرمزية روز علي

? العضوٌ??? » 478593
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 712
?  نُقآطِيْ » روز علي is on a distinguished road
افتراضي

كانت طول طريق ذهابها للجامعة التي تبعد امتار عن منزل العائلة بسبب وجودها بمدينة اخرى شاردة بالبعيد خلف زجاج نافذتها الضبابية ، وهو اقصى ما استطاعت الوصول له بعالمها المنغلق الذي لا تعرف عنه سوى حدود منزلها وحدود جامعتها التي تقتصر فقط على بناء كليتها وقاعاتها الدراسية ، هكذا كانت منذ طفولتها وصباها ولم يتغير شيء عن السابق بعد مرور كل تلك السنوات ، فبينما كانت ترى ابناء وبنات جيلها يستمتعون بالحياة بترف وانفتاح عالي بدون اي حدود او منطق كانت هي ابعد ما يكون عن تلك الحياة داخل جدران مملكتها وقضبان ابوابها المسورة حولها اينما ذهبت منذ مولدها ، لذا تعتبر هذه الرحلة الطويلة بهدف التعلم وسيلتها الوحيدة للخروج ومتنفسها من واقعها المظلم ومن تراكمات الحياة العسيرة عليها وكأنها تأخذ سلفة وقرض لتعيش القليل من الحياة الطبيعية مثل جميع ابناء طبقتها الثرية .
شددت من ضم يديها بحجرها وهي تلف إبهامها بعقدة الخيط حول رسغها بطريقة تبث بها الثبات والقوة ، لتحيد بنظراتها جانبا وهي تراقب صمته بالقيادة والملتزم به لآخر حد بدون ان يقطعه شيء وكأنه يعزل نفسه بعالم يختلف عن عالمها ، بالحقيقة اعتادت على ان يكون هو سائقها برحلة ذهابهما للجامعة ليس بسبب تماثل وجهتهما ذاتها بل بسبب عدم السماح لرجل غريب بمرافقتها كل هذه الطريق بمفردهما وهذا امر غير جائز بقاموس عائلتها ، وخاصة بعد مشكلة ابن حارس البوابة الذي حاول التقرب منها بطريقة غير مباشرة لم تعرف بالأمر ألا بعد اقصاءه من العمل وعدم رؤيته من حولها مجددا ، وهذا هو الحال مع كل من يدخل حدودها ويتجاوزها ولو على بعد ميل حتى انعزلت بتلك الدائرة التي رسموها حولها بحدود غير مرئية وحجزوها بوسطها .
ادارت وجهها بعيدا وهي تشاهد الطريق المفتوح امامها التي لا تصل لنهاية او لم تظهر نهايتها بعد ، لتسند رأسها للخلف وهي تطوف بمسارات حياتها الشائكة التي اختلطت بالطريق الطويلة امامها ، فهي رغم انها الابنة الوحيدة بالعائلة بين ذكور لن تنسى بأنها الاخت الغير شقيقة لهم من ام مختلفة تماما عنهم غيرت جيناتها الداخلية وفرقتها عنهم ولو وراثيا ، ولم تكن هذه المشكلة الاساسية قط بل يتعلق بأصول والدتها الحقيقية التي هي مزيج عن الغرب والشرق والمسمى الصحيح لها (الغجرية) وكما يطلقون عليهم العرب (النور) التي تنتمي لقبائل غربية من الغجر يعيشون على حدود البلاد وحدود حياة البشر ولا انتماء او نسب او دين ثابت لهم...
تقدمت بجلوسها للأمام ما ان دخلت السيارة بمنعطف حاد وهو يوصل لبوابة الجامعة الخارجية التي بدأت تلوح لها من بعيد ، وهذا يعني بأن الرحلة شارفت على النهاية اخيرا ولم يتبقى لها سوى القليل ، وبالفعل انقضت الدقائق بسرعة وانقشعت المسافة بينهما حتى اصبحت السيارة تدخل حدود الجامعة الكبيرة والافضل على مستوى الجامعات بالبلد .
اصطفت السيارة بالمكان المخصص لها وهو يطفئ المحرك ويخلع حزام الامان ، ليتناول بعدها حقيبته تحت ذراعه وهو يشير بأصبعيه السبابة والوسطى قائلا بجدية كما بكل يوم
"كوني بنفس المكان بتمام الساعة الرابعة عصرا ، لن اضطر للاتصال عليكِ لأنهبك للوقت"
اومأت برأسها بصمت وهي تشيعه بنظراتها بعد ان خرج من السيارة واغلق الباب خلفها ، لتحذو حذوه وهي تخرج من السيارة كذلك وتغلق الباب بعد ان عدلت حزام الحقيبة فوق كتفها ، لتدور حول السيارة بثواني وهي تكمل سيرها خلف شقيقها بدون ان تبعد ناظريها عن الارض وظهره وهي تتنقل بينهما بصمت .
بدأت تجذب الانظار ناحيتهما كما يجذب النحل للعسل فهذا ما يحدث دائما بكل مكان يتواجد به فرد من افراد عائلة الكايد الشهيرة التي لا تربطهم بها سوى المصالح المشتركة والاعمال المهنية ، فهمّ بالنسبة لهم غنائم كبيرة واسعار عالية بسوق الأسهم والعمل وحصاد مجزي لا يفوت ابدا ، ولكن عندما يرتبط الامر بها يصبح الحشد اكبر والعيون اكثر تزايد والتهافت اعلى وكأنها العملة النادرة لكل من يصل لها ويكسب قربها ولو كلاميا ويرجح السبب الاقوى بأنها الطريق الوحيدة للدخول بقلب عائلة الكايد بما انها الابنة الوحيدة لمفلح الكايد ، ولن تستثني جمالها الغربي الذي اخذ يلفت الانظار والانتباه بمرور الوقت مع استمرار نضوجها ونموها وكأنها دوامة سريعة نقلتها لمرتبة اعلى ونطاق اوسع عن السابق...وهذا ما ادركته واستوعبته منذ بلغت الثالثة عشر من عمرها وازدادت الحراسة والقيود حولها وكثفت تضييق سبلها بالحياة حتى زادت الخناق بعالمها اكثر .
تباطأت خطواتها وهي تصل امام بناء كليتها الحديثة لترفع نظرها على صوت الذي غادر بعدها بلحظة وهو يتخذ مسلك آخر
اراكِ لاحقا" "
زمت شفتيها بصمت وهي تراقبه برحيله قبل اختفاءه بين حشد الطلاب وهي تلاحظ النظرات التي لاحقته بضع لحظات قبل ان تجري خلفه ، زفرت انفاسها بهدوء وهي تبعد عينيها عن كل من يشوش ذهنها ويعكر صفوه لتصل بنظرها للتي دفعتها للابتسام رغما عنها نافضة الشحوب عن محياها .
تحركت (لورين) صوبها وهي ما تزال تتبادل النظر معها امام مدخل سلالم المبنى وتلوح لها بيدها بإشارة ترحيب ، لتصعد من فورها درجات السلم قبل ان تنضم لها بمكانها بثواني بدون ان تتخلى تلك عن التلويح بيدها ، وما ان اصبحت امامها حتى بادرت بمصافحتها بمودة وهي تقول بابتسامة محبة
"صباح الخير يا حسناء الكايد ، كيف هو صباحك ؟"
توردت وجنتيها وهي تسحب يدها بهدوء هامسة بضيق خافت
"ألن نتوقف عن هذه الألقاب ؟"
حركت كتفيها باستخفاف وهي تهمس بابتسامة مازحة دائما ما تتحلى بها
"ولماذا تزعجكِ مثل هذه الألقاب ؟ عليها ان تكون مصدر فخر وزهو بالنسبة لكِ ، فأنتِ فعلا تستحقين لقب حسناء الكايد او غربية الكايد"
كورت شفتيها بامتعاض وهي تزيح نظراتها قليلا بدون ان تجادلها اكثر بالأمر لكي لا تفتش عن نقاط اخرى تثبت صحة كلامها ، دفعتها بكتفها بمرح وهي تمسك طرف وشاحها بدلع هامسة بلطافة
"كنت امزح معكِ ، لا تأخذي كل شيء بجدية هكذا"
رمقتها بطرف حدقتيها بصمت بدون ان تجاري مزاحها الذي اعتادته منها بكل مواقفها وتصرفاتها ، تأملتها لوهلة وهي تستذكر لقائها الاول بها وبداية صداقتهما التي كانت بمراسم دخولها الأول للجامعة بوفد الطلاب الجدد ببداية السنة الجديدة ، وقد كانت صديقة لطيفة ومحبوبة للغاية تدخل للقلب مباشرة وتتربع بمكان بداخله بدون استئذان ، وهي احبت رفقتها كثيرا واسعدتها حتى اتخذتها رفيقة مقربة لها بمسيرتها التعليمية بالجامعة لكي لا تقتلها الوحدة والفراغ السائد بحياتها بانعدام العامل الاجتماعي بها ، وكانت هناك اسباب كثيرة قربت بينهما بالفترة الوجيزة التي مضت ولكن اهم عامل مشترك بينهما هو الحجاب الذي تلتزم به مثلها وقلة همّ من يرتدونه بهذا العالم المواكب العصري .
كانت شابة يافعة متوهجة لا تختلف عنها بالحسن سوى بالألوان المبهجة التي تستخدمها بحياتها وملابسها العصرية رغم احتشامها ، تلف وشاح ابيض حريري مطرز بالنقوش الذهبية حول الوجه الابيض المتورد وتملك عينان بنيتان واسعتان تناسبان تقاطيع الملامح الكبيرة والفاتنة ، واما ملابسها فهي دائما انيقة بكل حالاتها منعشة بألوان مفرحة وهي ترتدي قميص ابيض واسع بأكمام منتفخة...اسفلها تنورة واسعة خضراء بلون الفيروز تصل لكاحليها وبحزام معقود حول خصرها بشكل طوق من الورود الصفراء والوريقات الخضراء الصغيرة .
افاقت على يدها التي امسكت برسغها لتسحبها معها جهة ركن من الاركان التي تحاوط البناء والمفضل لديهما يقضيان اوقاتهما هناك حيث يطل على حديقة الكلية وكأنها شرفة مفتوحة ، لتقف بعدها امامها توقفها معها وهي تمسك بيدها بين كفيها هامسة بابتسامة حماسية
"ماذا حدث معكِ بخصوص مخطط خروجنا ؟ هل دبرتي الامر مع شقيقك كما اخبرتك ؟"
سحبت لورين يدها بقوة وهي تضمها مع كفها الاخرى هامسة باستياء خافت
"لا لن استطيع فعلها هذه المرة ! لقد بدأ حذيفة يشك بأمري ويحقق معي ! ولن اسمح لهذا الامر بالانكشاف ، لذا انسي الموضوع تماما...."
قاطعتها صديقتها بسرعة وهي تمسك بذراعها قائلة بابتسامة متزنة
"لا داعي لكل هذا الجزع ، فهو لن يكتشف شيء ، ولن يعلم بأي شيء ما دمنا حريصين بخطواتنا وبما نفعل"
ازاحت ذراعها بعيدا وهي تهمس بوجوم بشفتيها العابستين
"لن اخاطر اكثر بهذا الموضوع ، انا اعتذر"
تأففت بضيق واضح وهي تكتف ذراعيها فوق صدرها هامسة بتذمر حانق بعد ان دمرت آمالها
"يا لخيبة الأمل ! وانا التي كنت متحمسة منذ الصباح للذهاب للتسوق معكِ وشراء الحقيبة التي اتفقنا سابقا على شراء نسخة مزدوجة لكلتينا"
عضت على طرف شفتيها وهي تتحاشى النظر عنها خوفا من انكشاف الجزء الآخر من الحقيقة ، لتمسكها الاخرى متلبسة وهي تقول بنظرات قاتلة من اطراف عينيها بشك
لقد احضرتِ المال صحيح ! ام انكِ لم تحصلي سعرها !""
اخفضت رأسها بإحباط وهي تقر بالحقيقة قائلة بخفوت يائس
"لم يوافق حذيفة على طلبي"
تأوهت بصوت مرتفع مصدوم وهي تضرب بكف على كفها الاخرى لتقول بعدها بانفعال خافت
"هذا لا يصدق فعلا ! هل انتِ حقا ابنة عائلة الكايد الاعلى تصنيف بالثراء بين كل عائلات البلد ام مشردة منبوذة وجدوها امام عتبة منزلهم ؟"
تشنجت ملامحها وقد ضايقتها عبارتها الاخيرة بالفعل ولكنها لا تملك حل سوى تقبل تذمرها وغضبها كما كانت تتوقع وتنتظر منها بصراحتها الزائدة بالتعبير عن رأيها ، لتستدير بعدها توليها ظهرها وهي تسند مرفقيها فوق الحاجز الترابي قائلة ببرود باهت
"اجل هذا ما حدث يا روان ، ولن استطيع الذهاب معكِ لشرائها حتى استطيع جمع ثمنها ، ولن اخرج معكِ بهذه الفترة حتى ينسى حذيفة شكوكه نحوي على الاقل"
لم تراها وهي تشرد بعيدا تفكر بشيء آخر حتى انقبضت يديها على جانبيها بقوة وكأنها تستنكر كلامها الذي يفسد مخططات بعقلها ، لتلتفت بسرعة نحوها وهي تمسك بمرفقها بقوة قائلة بجدية تحثها على تبديل رأيها
"هذا ليس جائز يا لورين ، انتِ بالكاد استطعتِ اخيرا الخروج من قوقعتك القاسية تلك ، والآن تريدين العودة مجددا لسجن نفسكِ بها ! كيف ستجدين نصفك الآخر من العالم وانتِ تبعدين نفسكِ بعالم مغلق عليكِ وحدك ؟ هل تفكرين بقضاء البقية من حياتك تابعة لهؤلاء الذئاب تدفعين ثمن وحدتك بينهم وانتِ تلزمين نفسكِ بقوانينهم المجحفة بحقك ؟"
قبضت على يديها بقوة وهي تقول بهدوء ظاهري بدون ان تظهر اي تأثر بكلامها
"اجل سأبقى هكذا ، وسأستمر بالعيش على هذا النظام ، فهذا هو مكاني الذي انتمي له ولن اغادره حتى يعلن عن انفصاله عني ويلفظني بنفسه"
حركت (روان) رأسها بالنفي وهي تقول باستنكار منفعل
"انتِ لا تدركين حتى معنى ما تقولين ، هل تريدين ترك عيش الحب لكي ترضي هذه الذئاب ؟ هذا غير منطقي بتاتا !"
ابعدت مرفقيها عن الحاجز وهي تستدير نحوها بلحظة لتقول لها بهدوء متحفظ
"انا ليس لدي آمال كبيرة بالحب ، ولا اريدكِ ان تتقمصي دور كيوبيد الحب بحياتي ، فأنا راضية بواقعي وسعيدة به جدا"
صمتت للحظات تحدق بها بعدم تصديق وقبل ان تعاود الكلام سبقتها لورين وهي تقول بنشاط عالي
"لقد اوشكت محاضرة الاستاذ معتصم على البدء ، وإذا لم نسرع بالحضور فلن يدخلنا للقاعة وسيتركنا امام الباب كما حدث بآخر مرة"
هتفت بسرعة وهي تراها تغادر امام عينيها بلمح البصر
ولكن يا لورين....""
ولكنها كانت كمن يكلم نفسه وهي تلمحها تدخل من مدخل البناء القريب منهم بثواني ، لتدس بعدها يدها بجيب تنورتها وهي تخرج هاتفها الذي كان يهتز بيدها تظهر شاشته اسم المتصل بوضوح ، لتتجمد ملامحها بصفحة بيضاء جليدية وهي تغلق الهاتف وتعيده لمكانه قبل ان تلحق بالتي غادرت داخل البناء بدون ان تلقي بالا لاهتزاز الهاتف وإصرار المتصل .
_____________________________
سار بممر خروج المسافرين الخاص بدرجة الطبقات الثرية والشخصيات الهامة وهو يجر خلفه حقيبته المتحركة ذات اللون الاسود الفاحم من الجلد السميك الفاخر ، ليمر بمكتب الاستقبال وهو يستلم منه بطاقة معلوماته وهويته الشخصية وجواز سفره بمهلة ثواني قبل ان يصبح برواق ساحة الانتظار الوسيعة التي تكتظ بمئات المسافرين من كل الجنسيات والألوان والاصول ، وكالعادة لم يتعب نفسه بالنظر للمحيط الدائر حوله والبيئة الحالية التي وصل لها والتعرف على الوجوه ونوع تلك النظرات التي اصبح هو مركز هدفها ، ليتجاهل كل هذا خلف ظهره وهو يصل لبوابة المطار التي ما ان تخطاها حتى توقف بغريزة داخلية يستمتع بالأجواء الباردة وهواء العودة للوطن لبرهة من الوقت .
اخفض نظره وهو يركز اهتمامه بشخص لأول مرة منذ نزوله عن الطائرة والذي كان سائقه الخاص بجانب سيارته السوداء الفارهة ، ليخلع بعدها النظارة السوداء عن عينيه وهو يعلقها بياقة قميصه ليكمل سيره بثبات وهو ينزل الدرجات القليلة امام مدخل المطار ، وما ان اصبح امامه من الطرف الآخر حتى سارع السائق بالتقدم نحوه وهو يقول باحترام شديد
"حمد لله على سلامة عودتك يا سيد الكايد ، لقد نورت البلد بعودتك لها وشرفتنا بقدومك"
رفع كفه وهو يحرك رأسه للأسفل بتحية صامتة اعتاد عليها مع رعاياه وكل من يعمل تحت خدمته ، ليقول بعدها وهو يشير بعينيه فقط بصوت اجش جاد
"المفتاح يا ناصر"
ابتسم السائق له وهو يفهم إشارته بوضوح ليلقي له بمفتاح السيارة من مكانه ليلتقطه الآخر من جهته بلمح البصر ، ليعيد بعدها وضع النظارة فوق عينيه السوداوين الحجريتين وهو يلتف حول السيارة بثواني ، وما ان وصل لبابها حتى ألقى بالحقيبة الجلدية الفاخرة بالكرسي الخلفي بإهمال ، ثم التفت بعدها للباب الامامي وهو يفتحه ثم قال بشبه ابتسامة صلبة حفرت على طرف شفتيه
انتبه على نفسك بطريق العودة""
ليدخل بعدها بلحظة وهو يشغل المحرك بدون ان ينتظر تعليق الذي قال بصوت مرتفع وقور
"رافقتك السلامة يا سيدي"
انطلق بالسيارة بعيدا بطريق الخروج والدخول لمدينة اخرى بسرعة قياسية ليلحق بموعده المهم الأول بجدول اعماله المزدحم ، فهو بطبيعة شخصيته المستقلة لا يسمح لأحد بأن يقود به الطريق أياً يكن بوجهة حياته التي اعتاد ان يديرها ويسيرها كما تبغى نفسه وبأحكامه الخاصة الاستقلالية ، وهذا عائد على طبيعة حياته والبيئة التي ترعرع بها استندت على الاعتماد على النفس وعدم اللجوء للغير بكل شيء رغم علو شأنه واهمية مكانته الاجتماعية بالعالم وقد حدث منذ وفاة والده وكبير عائلة الكايد .
ضغط على زر بسماعة الاذن اللاسلكية ليجيب على الهاتف وهو يقول بهدوء عميق جاد
"انا الآن بطريق الوصول إليكم ، امهلني عشر دقائق وسأكون عندكم على الفور ، إياكم وان تخطو اي خطوة بدوني"
فصل سماعة الهاتف وهو يتمسك بالمقود بكلتا يديه والسيارة تطير بالطريق تقطع المسافات مثل الوحش الكاسر ، وبالفعل بغضون عشر دقائق كان يكتسح الشركة بقوة وهو يسير بسرعة داخل اروقتها متجاهل كل الانظار والتحيات التي توجهت نحوه مباشرة ومنهم من وقف بمكانه احترام وخشية منه ، ولكنه لم يعير احد منهم اهتمام وهو يستقل المصعد الآلي المتجه للطابق الرآسي واعلى طابق بالشركة حيث الإدارة العليا .
سار بالممر الطويل المفروش ببساط احمر فاخر تقبع غرف الإدارة والقيادة بالمكان ولا يتواجد به سوى الشخصيات الرئيسية التي كانت السبب بتأسيس المكان ، وما هي ألا لحظات حتى كان يقتحم الغرفة الرئيسية بدون استئذان وهو يتوقف بلحظة ما ان لمح الواقف خلف المكتب المذهب الفاخر يبادله النظر بنفس القوة والثبات ، ليتنفس بعدها بهدوء وهو يغلق الباب خلفه لبرهة قبل ان يلوج للداخل بخطوات واسعة واثقة اختفى صوتها بين ثنايا السجاد الثقيل العاجي .
ابتسم الواقف بمكانه ينتظر لحظة وصوله وهو يقول بهدوء عميق بترحيب سار
"اهلا وسهلا بعودتك يا سفيان الكايد ، لقد اطلت كثيرا بالغياب ، ولكنك استطعت بالنهاية الوصول على الموعد المحدد وبنفس المدة التي حددتها للرحلة"
وقف امامه بهدوء وهو يخلع النظارة عن عينيه ليضعها هذه المرة فوق سطح المكتب ، ليقول بعدها بلحظة ببديهية وهو يتخلى عن رسمية العمل
"وانا اسعد برؤيتك هنا بانتظاري كما طلبت منك ، فهكذا عليه ان يكون الامر دائما ويسير بعائلة الكايد ، عندما يغيب واحد منها يغطي الآخر على مكانه ويتأكد من عدم السماح للصدع بالتأثير على مركبها ، أليس كذلك يا حذيفة ؟"
اومأ برأسه بصمت بدون ان يتخلى عن ابتسامته الباردة وهو يقول بموافقة مبدئية
"وهل هناك من يتجرأ على مخالفة اقوالك ؟ ما تقوله انت يحدث بالحرف الواحد حتى لو كنت قابع بالنصف الآخر من العالم ! ولكن بما انك قد عدت لموقعك فلم يعد هناك داعي للخوف على المركب بعد الآن"
استدار (سفيان) نحوه بكلتيه وهو يدس يديه بجيبي بنطاله قائلا بجفاء ساخر
"تتكلم وكأنني الشخص الوحيد الذي صنع هذه المملكة بأكملها ! ولم يكن لك اي يد بتلك المشاريع الاستثمارية والاجتماعات الطويلة التي خضناها سويا ، هل نسيت بأنك العضو الأهم من فريق تأسيس هذه الشركة ؟"
ادار وجهه جانبا بدون اي شعور بالفخر بكلامه والذي يصيبه عادة بالتلبد والبرود وهو يقول بعدم اهتمام حقيقي
"ربما تكون على حق بكلامك ، ولكن نشاطاتي واعمالي بالشركة لا تتعدى واجبات مهنية وإلزامية اتجاه عمل عائلتي ، فهذا هو الهدف الوحيد الذي يولد من اجله الاشخاص مثلي"
عقد حاجبيه بضيق وهو يقول بجمود قاسي
"لن اجادلك اكثر بهذا الموضوع ، فالكلام معك بتلك الحالة لا يطاق ابدا !"
ابتسم بدون اي مرح وهو يرفع جهازه اللوحي يعود لدائرة العمل قائلا بعملية جافة
"جيد فهناك ما هو اهم علينا الحديث عنه ، وخاصة بجدول اعمالك الذي تراكم وفسد نظامه بعد رحيلك ، وبخصوص المواعيد التي ما تزال معلقة للآن تنتظر عودتك"
اقترب من حافة المكتب وهو يمسك بالملفات المتراكمة فوقه يتأملها بحذر وبدقة وكأنه يستعيد جو العمل الذي تركه برحلة صفقته خارج البلاد ، ليقول بعدها بصوت خشن جاد مستغرق بتأمل الاوراق
ما هي المواعيد الهامة التي تنتظر وصولي ؟""
ردّ عليه من فوره بدون ان ينتظر ثانيتين وهو يتنقل بالقائمة التي تظهر على لائحته
"موعد السيد رشيد بخصوص ال****ات السكنية بالشمال ، وموعد السيد عرابي بخصوص الاراضي الزراعية بعندليب ، وايضا هناك...."
رفع سفيان رأسه ببطء وهو يجذب نظره وسمعه بآن واحد قبل ان يقول بخفوت حازم
"وماذا ايضا ؟ لما توقفت عند الموعد الاخير ؟ هل هو يخص شخصية هامة ؟"
ادار عينيه بعيدا عنه وهو يقول بصوت شديد الجفاء
"موعدك مع حماك"
تلبدت ملامحه بصمت وهو يقبض بيديه على الاوراق قائلا بلا تعبير محدد
"ماذا يريد ؟"
تنفس بضيق وهو يعلم بأنه لابد له من الخوض بهذا النقاش ليقول بعدها بمهنية عالية
"لقد اصر السيد اشرف على عقد اجتماع معك بغيابك ، واخبرني بأنه بلحظة وصولك للبلد سيكون بانتظارك للاتفاق معك على موعد للاجتماع ، وهذه المرة لن يتجاهل الموضوع...."
قاطعه بصوت صارم وهو يخفض الاوراق من امامه بقوة
"لا تخبره بشيء ، ولن تتواصل معه مجددا ، فهذا الموعد لن يحدد حتى اسمح انا بذلك ، سمعتني ؟"
التفت نحوه بجمود وقد كان يتوقع مثل هذا الرد المسبق منه ، ليقول من فوره بجدية بعد ان ضاق ذرعا من الوضع
"لن يجدي نفعا الهروب من موعده ، فقد تجاهلته كثيرا على مرور الشهور وتجنبت لقائه بكل الطرق ، ألم يحن الوقت الذي تعقد به هذا الاجتماع معه ؟ على الاقل احتراما للقرابة التي تجمع بينكما !"
ضرب بقبضته الحرة على سطح المكتب بقوة وهو يقول بصوت مشتد خشن بدون ان ينظر نحوه
"لا تجادلني بموضوع لا طائل منه ، فأنا الذي احدد وقت ومكان حدوث هذا الاجتماع ، وعندما اجد الوقت مناسبا له سأطلب منك بنفسي عقد ذاك الاجتماع"
قطب جبينه بجمود وهو يشيح بوجهه جانبا قائلا بتهكم واضح
"اعلم بأنه رجل مصالح وانتهازي لأبعد الحدود ، ولكنه رغم كل سلبياته وعيوبه التي يتصف بها بحياته فهو يبقى والد زوجتك المتوفاة ! أليس لديك اعتبار بهذا الشأن ؟"
التفت نحوه بملامح سوداوية وهو يقول بانفعال هادر بعد ان اخرج الوحش الكامن بداخل الذئب
"لا علاقة لك بهذا الشأن يا حذيفة ، هل اسألك انا عن ما تفعله بحياتك الفارغة المملة ؟ مثلما انا احترم خصوصياتك انت ملزم كذلك باحترام خصوصياتي"
غامت ملامحه بصمت بدون اي رد فعل سوى انقباض بيده على جانبه وكأنه اصاب وتر حساس بحياته ، ويستحق ذلك بالتأكيد من اجل ان يحشر نفسه بما لا يعنيه برغبة يائسة بتغيير الوضع السائد بحياة شقيقه الارمل ، ليتنفس بعدها لبرهة قبل ان يقول بهدوء نادم
"لا بأس بذلك ، لقد تعلمت درسي ولن اعيدها مجددا ، هل انت راضي بذلك ؟"
زفر انفاسه باتزان وهو يتمالك اعصابه بلحظات ليقول بعدها بعملية عادت لتقمصه
"هل هناك اي مواعيد هامة لليوم ؟"
رفع جهازه اللوحي امام نظره وهو يتصفح القائمة مجددا ثم تابع من حيث توقف بصوت ثابت
"هناك موعد هام مع النائب العام عقبة البستوني....."
قاطعه بسرعة بصوت نافذ بأمر
"ألغي الموعد معه ، ولا اريد اي تواصل بيننا"
رفع نظره نحوه وهو يفهم جيدا انقلاب حاله المفاجئ ليقول عندها بوجوم عابس
"هذه الشخصية هامة جدا بالنسبة لنا وخاصة بسوق العمل ، هل انت متأكد من قرارك بقطع التواصل معه ؟"
اسند قبضتيه فوق سطح المكتب وهو يقول بنبرة قاسية جليدية
"قلت لك ألغي موعده ، لماذا ما تزال تناقش بالأمر ؟ هل تحاول إثارة اعصابي الآن ؟"
حرك رأسه بضيق وهو يقول بشبح ابتسامة ساخرة تغلبت عليه
"هل كل هذا الحقد بسبب تقدمه بطلب يد لورين للزواج من ابنه ؟ ام بسبب تقرب ابنه من لورين بالجامعة وعقد صداقة معها ؟ ام هو بسبب صراحة ابنه بالإفصاح عن مشاعره اتجاه لورين امامك مباشرة بدون خجل...."
صرخ فجأة بقوة وهو يستقيم على طوله بتهديد عنيف
"اصمت يا حذيفة ، فقد تجاوزت حدودك بالفعل ، وإذا لم تصمت الآن فلن تتوقع ما ستكون عليه العواقب !"
صمت بالفعل وهو يفهم لغة التهديد الخاصة به التي لا مزاح بها فهو على عكسه تماما بارد الطباع ومتحكم جيد بمشاعره وانفعالاته ولو وصل الامر لأقصى درجات صبره يكبحها بقوة ، ولكن الواقف امامه لا يستطيع فعلها فهو يصل الامر لديه ان يدمر المكان فوق رؤوس اصحابه ويحرق الارض تحته بدون ان يأبه بأحد منهم كما حدث بوقت وفاة زوجته بحادثة سير شنيعة وبكل ما يتعلق بحياة شقيقتهم لورين .
عاد بنظره للجهاز اللوحي بيده وهو يقول بروية يبرد الحريق الذي شب بالمكان
"لقد قلت هذا لأذكرك بأن ما حدث ليس له علاقة بمجال العمل ، فنحن علينا بفصل حياتنا الشخصية عن حياتنا العملية وعدم التداخل بينهما ، ألم يكن هذا كلامك السابق يا سفيان ؟"
ضرب بالأرواق بيده بالهواء والتي تجعدت من قبضته وهو يقول بانفعال مكتوم
"ألا ترى بأنك اصبحت تنقلب كثيرا عليّ ؟ من هو الذي يحرضك ضدي ! لقد اصبحت كائن مستفز للغاية"
ارتسمت ابتسامة باردة على محياه وهو يقول بجدية يكمل مسيرة استفزازه
"لا شيء يحدث من هذا القبيل ، فقط اردت ان اخبرك بأنك تبالغ للغاية بردود افعالك نحو ما يخص حياة لورين ، فهي لم تعد طفلة صغيرة حتى نقيدها عن كل شيء متاح حولها وكأنها تعيش سجينة بيننا !"
اخفض ذراعه للأسفل وهو يدير رأسه بعيدا عنه قبل ان يقول بهدوء حاسم
"هذه الامور لا احد له الحق بالتدخل بها ، فأنا الذي اعرف جيدا ما هو الصالح لها والمضر بها ، لذا توقف عن تقمص شخصية الوصي عليها فلست انت الشقيق الكبير بيننا !"
اشاح بوجهه بدون ان يناقشه اكثر بوجهة نظره التي لن تتغير مهما حاول معه ، ليقول سفيان من فوره وهو يضع الاوراق فوق سطح المكتب بقوة
"إذا كنت قد انتهيت من نقاشاتك الفارغة ، فيمكنك الذهاب وتجهيز غرفة الاجتماعات للبدء بالعمل على مواعيد اليوم ، ولا تنسى ترتيب جدول اعمالي بما يناسبني ويريحني بالعمل"
اومأ برأسه بطاعة تامة وهو يحمل الجهاز اللوحي تحت ذراعه ويسير نحو باب الغرفة مباشرة ، وقبل ان يخرج من المكتب قال برسمية متعمدة
"حمد لله على سلامة عودتك يا كبير الكايد"
رفع نظره نحو باب الغرفة المغلق بعد مغادرته وهو يعلم بأنه لا يفعل شيء او يقول شيء ألا ويكون له سبب غامض ، ليلتف بعدها حول الكرسي الجلدي المصنوع من جلد طبيعي فاخر قبل ان يرتمي جالسا عليه بصمت ، لتتلاعب اصابعه لا إراديا بحلقة الخاتم الفضي بأصبعه البنصر من فرط التوتر وكأنه يحاول استجلاب هدوئه وضبط نفسه بوجوده ، بدون ان يدرك بأن ست سنوات قد مرت على وفاتها ورحيلها مضت بلمح البصر تاركة خلفها قسوة الذكرى وكأنها حدثت بالأمس !
___________________________
ودعت صديقتها بسرعة وجرت من فورها نحو مكان انتظاره عند السيارة قبل ان تتجاوز الساعة الرابعة وتدخل بنوبة غضبه التي هي عبارة عن حرب باردة سوف تستنزف قواها ، وما هي ألا لحظات حتى كانت تقف امامه وهي تلهث بصدر متسارع وتسند يدها على ركبتها ، لترفع بعدها كفها الطليقة وهي تلوح بها هامسة ببحة متعبة
"لقد وصلت"
حدق بها للحظات فقط قبل ان يجتازها بصمت ويدور حول السيارة ليستقر بالنهاية بمكانه خلف المقود ، رفعت وجهها المضطرب وهي ترمق جانب السيارة التي دخل منها هامسة ترجو بإرهاق
"يارب سهل طريق رحلتي للمنزل"
فتحت الباب بجانبها ودخلت منه بصمت وهي تحتضن حقيبتها بين ذراعيها بقوة وتضعها فوق ساقيها ، لتنتفض بعدها برعشة خاطفة ما ان قال بنبرته الجادة بثبات وهو يتنازل بالكلام
ضعي حزام الامان""
نظرت له بعينيها الواسعتين اللتين اشرقتا بسعادة نادرة فهذا يعني بأنها ليست ملزمة بخوض حربه الباردة وحصلت على سلامتها ، لتضع من فورها حزام الامان حولها وهو ينطلق بالسيارة خارج حدود جامعتها التي قضت بها نصف يومها برحلتها التعليمية ومتنفسها الوحيد بالحياة .
زمت شفتيها بامتقاع وهي تدس يدها بجيب خارجي صغير بحقيبتها ، لتخرج منه مجموعة اوراق مقصوصة عبارة عن رسائل وبطاقات مكتوبة بخط اليد من اشخاص مختلفين قابلتهم لليوم ، لتحيد بعينيها الخضراوين جانبا وهي تهمس بخفوت متردد محرج لا يتعدى الهمس
"لقد وصلتني اليوم مجموعة رسائل جديدة موجهة نحوك ، ولا اعلم ماذا افعل بها الآن"
ساد الصمت بينهما للحظات قصيرة قبل ان يتنازل بالرد بجفاء واضح
"ولم تلقي بها بعد !"
شدت شفتيها بعبوس وهي تقبض بيدها على الرسائل تتحسر من طريقة تعامله مع اصحابها الذين ما يزالون يحملون الأمل نحوه ، لتقول بعدها بصوت مغتاظ وهي تحدق بأسى بتلك الرسائل الكتابية
"لم استطع فعلها ، لقد فكرت بمشاعر اصحابها وما ستكون ردة فعلهم لو تخلصت من رسائلهم بمثل هذه القسوة ، لذا لم اجرؤ على ان اكون بكل هذه القسوة اتجاه مشاعرهم !"
اوقف السيارة بشكل مفاجئ وهو يختطف الرسائل الكتابية منها بدون ان تدرك قبل ان يلقي بهن من النافذة بجواره ليبعثرها الهواء حول السيارة مثل الطيارات الورقية ، كانت تتابع بعينيها الكسيرتين انتشار القصاصات الصغيرة مع مشاعر كل فتاة كتبت بكل حب املا بوصولها لصاحب القلب الجليدي الذي لا يعرف للحب طريق ولا يعطيه مساحة بحياته ، وترجح السبب دائما لتجارب اشقائها الكبار بالحب والارتباط دفعه ليعيد التفكير مئة مرة قبل الخوض بهذه الحروب العاطفية التي سجلت فشل افراد عائلتها بامتياز فهو بالنسبة له مناقشة اطروحة الدكتوراه مع وزراء التعليم العالي اسهل بكثير من الفوز بقلب فتاة ، وهذه النظرية هي السائدة بحياتها كذلك وآمنت بها منذ كانت بالثالثة عشر من عمرها لا تفقه شيئا بالحب .
تراجعت بظهرها للخلف وهي تتأمل الطريق الفسيح امامها بعد ان داست عجلات السيارة فوق قصاصات احلام الفتيات المتفرقة بالطريق ، لتتنهد بأسى لوهلة وهي تضم قبضتيها امام حقيبتها هامسة بوجوم حزين
"ما كان عليك رميها بهذا الشكل"
ردّ عليها بلحظة ببرود قاسي بدون ان يأبه بمشاعرها التي تمزقت مع قصاصات الاوراق
"توقفي عن استلام الرسائل منهن ، لن انبهك دائما بكل مرة"
غامت ملامحها الحزينة بكآبة وهي تشيح بوجهها بعيدا قبل ان تتكئ بجبينها على زجاج النافذة الباردة وتغمغم بسكون
"سأتوقف عن فعلها لكي لا اجرح المزيد من قلوب الفتيات الحالمات"
ساد الصمت بعدها ثقيلا كاتما على كليهما بقية الطريق المتجه بهما للمدينة حيث يقطن منزل عائلتها معلنا عن نهاية مغامراتها لليوم ، او هذا ما كانت تظنه فما ان باتت السيارة داخل اسوار حديقة المنزل الخارجية حتى لمحت سيارات فارهة متوقفة عند مدخل منزلها ! وبالحقيقة هما سيارتين متطابقتين تعرفت عليهما من فورها فواحدة منهما لشقيقها الاكبر الذي يبدو عاد من سفره من وقت قصير ، والثانية كانت خاصة بقريبتها الوحيدة التي تلازم بزيارة منزلهم بين الفترة والاخرى وهي عمتها شقيقة والدها ، وقد انقطعت بالزيارة عنهم فترة طويلة بسبب غياب ابن العائلة الكبير عن المنزل ، ويبدو بأنها لم تدخر الفرصة بالعودة للزيارة بأسرع مما توقعت وعودة التواصل العائلي بينهما ما ان عاد الاخير من السفر ! هذا إذا سمتها زيارة عائلية طبيعية ودية وليست زيارة انتقادات وتعليقات لاذعة لن تستطيع الافلات من رماحها او الخروج من تحت لسانها الذي لا يعرف الرحمة مطلقا ! وخاصة معها هي دون عن كل الافراد بالعائلة وهي تميزها عنهم بكل شيء إذا كان بالمعاملة او الاهتمام او الحب...
انتبهت بأنها وحدها بالسيارة بعد خروج شقيقها منها بدون ان تلحظ وهي مستغرقة بأفكارها التي ضاعت بها ، لتتحامل بعدها على نفسها وهي تخرج من الباب بجانبها وتتمتم ببؤس متقبلة مصيرها
"لا مفر من المواجهة"
وبلحظات كانت تدخل من باب المنزل خلف شقيقها وقبل ان تبحث عنها سبقها صوتها المجلجل بالأرجاء وهي تقول بنبرتها المتعالية الحادة مثل الوتد وكأن السنوات لا تغيرها بل تزيدها بأسا وشراسة
"ما معنى كل هذا العصيان والعناد بأمر يصب بمصلحتك قبل كل شيء ؟ هل انا عدوتك حتى تجافيني وتعاملني بهذه الطريقة ؟ كل ما اردته منك هو التفكير بحياتك قليلا التي تضيع من اجل الآخرين ، انت ايضا تستحق العيش مثل كل البشر الطبيعيين وتأسس عائلة متكاملة وتتزوج بمن تليق بك وبنسبك ، هل قلت شيئاً خاطئا يا ترى ؟ هل هناك ضرر او سوء بما اقول واخبرك به منذ سنوات ؟ أليس كل هذا من اجل مصلحتك وتعظيم لسلالتك وسلالة اجدادك التي انقطعت قبل ان تبدأ حتى ! ماذا ؟"
وقفت لورين بجانب شقيقها ببداية البهو الواسع على مرأى المشهد امامهما والذي يعاد ويتكرر دائما بكل زيارة لعمتهم بحضور ابن كبير العائلة والذي يكون متنفس لغضبها بكثير من الاشياء واهمها انقطاع سلالته وسلالة مفلح الكايد والذي لن يستمر سوى من خلاله كما ترى ، لتنتفض بمكانها برجفة خاطفة على قصف صوتها المدوي وهي واقفة فوق رأسه بإصرار بعدم التراجع عن قرارها وابداء رأيها بأسلوب حياته بكل صراحة وازدراء
"هل انت سعيد بنظام هذه الحياة التي تعيشها ؟ لا اهداف ولا هموم ولا اولاد ولا مشاعر ! ألا ترى بأن عمرك يضيع هباءً بدون ان تنجز شيء ؟ ما فائدة كل هذه النجاحات والإنجازات والشارات وليس هناك وريث يستلمها من بعدك ! ألا تدرك بأن سنواتك المعدودة تذهب بلا معنى او بالأصح بلا هدف او تخطيط للمستقبل ! لن اعيش طويلا معك اذكرك بهذا الكلام حتى تدرك ما اعني ! كل ما اريده هو رؤية احفاد شقيقي مفلح الكايد ، هل اطلب منك مهمة مستحيلة حتى تستكثر هذا الطلب علينا ؟"
كانت تتنفس بسرعة وهي تهتز بمعنى الكلمة مكتفة ذراعيها فوق صدرها تحافظ على اتزانها وصرامتها ، واما هو فلم يكن يعير كلامها اي انتباه وهو منكب على الحاسب المحمول فوق ساقيه يعطيه كل تركيزه وشغله الشاغل وكأنها لا تكلمه بنفس الموضوع منذ ساعات ، لتأخذ انفاسها بضيق واضح لوهلة وهي تتابع بجمود حجري تجرد من المشاعر بعد ان فاق غضبها الحد الاقصى من تجاهله
"سنة بعد سنة وانت ما تزال تهيم بمكانك على نفس الحال ، هل كل هذا وفاء واخلاص لها ؟ لقد مرت ست سنوات على موتها ومع ذلك ما تزال مسجون بقضبانها مثل المجذوب ! ماذا سيفيدك البقاء على رثائها ؟ هل تظن بأنها ستعود للحياة بهذه الطريقة المثيرة للشفقة بعزل نفسك عن الفتيات وعالم الارتباط ؟ انها حتى لم تنجب لك الحفيد الموقر وولي العهد لهذه العائلة قبل موتها ! يكفي بأنك كنت ترفض فكرة الزواج عليها وهي بذمتك لتجلب حفيد للعائلة والآن لا تريد الزواج بعدها وهي تحت التراب وانت فوق الارض تتحسر على ذكراها وكأنك مت معها....."
"توقفي"
قاطع هدر كلامها القاسي وهي تهز جبل الجليد الجالس امامها بعد محاولات حثيثة بإثارة اعصابه بشتى الطرق ، بينما كان الاثنان المشاهدان ينتظران ردة فعله على كلامها الاخير والتي تتبع كلمة قفي فقد تخطت المنطقة المحظورة بالنسبة له والتي لا يسمح لأحد بالقرب منها او تجاوزها ، ليقف بعدها على طوله بإشارة خطرة بعد ان ترك الحاسب جانبا وهو يحدق بها بعيون جامدة مهددة تخيف اعتى الرجال بمجال عمله وترديه قتيلا ، ليقول بعد ان استغرق لحظة بالصمت بهدوء جاد يخالف ما يفيض بداخله وتحكم به بصعوبة
"إذا كنتِ قد انتهيتِ من موشحك فأسمحي لي بالمغادرة لأكمل اعمالي ، فقد غبت فترة طويلة عن البلد وبسبب ذلك تراكم الكثير عليّ واحتاج لإعادة ترتيبه وتصفيته ، وشكرا جزيلا لكِ عن السؤال عني"
تجهمت ملامحها بوضوح فهو يوصل لها رسالة مجازها بأنه لا يأبه لكل ما قالت واتعبت حبالها الصوتية عليه ، لتدير عينيها الغاضبتين بعيدا عنه قبل ان تنتبه لأول مرة للفردين الجديدين المنضمين لهما ولم تدري عنهما ألا الآن ، وما ان تغيرت تعابير ملامحها القاسية وهي على وشك الكلام حتى سبقها هيثم وهو يقول مغادرا المكان وجهته السلالم
"لن ازعجكم بوجودي اكثر ، لذا سأصعد لغرفتي لارتاح من القيادة الطويلة لساعات بين المدن"
وبدون ان ينتظر تعليق منهم كان يغادر بالفعل صاعدا السلالم بلمح البصر وهو يخرج نفسه من الحرب الكلامية بكل سلاسة وامان ، ليترك خلفه التي كانت فاغرة شفتيها تراقب ابتعاده بأسى بعد ان بقيت وحدها بوجه المدفع الآن بدون سبيل للفرار من نار البارود ، لترتجف مفاصلها بوجل ما ان نادتها صاحبة الصوت الثقيل الصارم بتهديد مبطن
"ابنة الغجرية"
ابتلعت ريقها برهبة وهي تعيد نظراتها نحوها بخوف دائما ما ينتابها منذ طفولتها نحو تلك المرأة المتسلطة التي تتفنن بتعذيبها بكل مرة وكأنها نكرة او حشرة غير مرغوب بها امامها ، ومن نطق اسمها بذلك اللقب الشهير الذي تتعمد مناداتها به دائما عرفت بأن الكلام المجهز لها والذي يلي ذاك اللقب سيكون قاسيا بأضعاف الكلام الذي توجه لشقيقها من لحظات .
بدأت بعدها بالتقدم نحوها بخطوات واثقة قوية تناسب مقامها وتاريخ عائلتها فقط بالنظر لملامحها الأرستقراطية المحفورة بمعالم واضحة دقيقة وكأنها خارطة بلاد تعلم جيدا بأصل من تقف امامها ، وملابسها الثقيلة ذات الطراز الشرقي القديم التي تحافظ على تراثها الاصلي لعائلتها من قماش كتان حريري بلون الخمري الغامق وتزينها نقوش حمراء وبنية بلون الحناء على اكمامها واطرافها وياقتها ، فهذا ما يليق بابنة عائلة الكايد الوحيدة (شهيرة الكايد) التي ما تزال تحافظ على رونقها وسطوتها وشموخها رغم كل الظروف والمصائب المحيطة بها وكأنها لا تناهز منتصف الخمسين من العمر واكثر ! وبالواقع ترى بأنهم همّ الذين يكبرون بالعمر ويشيخون وليس هي وكأنها تستخدم تعاويذ واسحار لكي تحفظ بها صحتها وعمرها الشامخ القاسي وهي تذكرها دوما بالإمبراطورة من العصر الفيكتوري القديم !
افاقت لورين وهي تجدها امامها تماما تتأملها من رأسها حتى اخمص قدميها بنظرات تخصها لها وحدها بدون اي مودة حقيقية فيها وبكل مرة تتواجه معها وجها لوجه ، لترفع يدها تلقائيا بترحاب تنوي مصافحتها وهي تهمس بابتسامة طفيفة
"مرحبا عمتي ، شرفتنا بزيارتك"
تجاهلت يدها الممدودة وهي تنظر لها بازدراء وكأنها تنفر من فكرة مصافحتها فقط بدون ان تخفي ردّات فعلها التي تصيبها دوما بمقتل ، لتقبض على يدها الفارغة وهي تخفضها جانبا بهدوء بدون اي شعور سوى بالحزن الكئيب يكتوي بقلبها المحترق ، لتفيق مجددا على صوتها وهي تبادر بالكلام بجفاء وبرسمية بالغة
"كيف حال جامعتك ؟ ألا زلتِ تداومين على مسيرة الدراسة بها ؟"
اومأت برأسها للأسفل وهي تضم يديها معا هامسة بأدب
"اجل كل شيء على افضل ما يرام يا عمتي"
ضيقت عينيها السوداوين القاسيتين وهي تكتف ذراعيها بجمود قائلة بانفعال مكتوم خرج عن سيطرتها
"اجل انا ارى ذلك بوضوح ، تعيشين حياتك بالهناء والعسل ولا تتسائلين عن اي هموم او مشاكل ! بعد كل ما تسببتِ به من مشاكل وحروب تتجرأين على قول ذلك لي واظهار الاريحية بحياتك ! لما يتوجب عليكِ انتِ ان تكوني سعيدة ومرفهة ؟ لماذا ما تزالين تعيشين بكنف هذه العائلة العريقة التي قدمت الكثير لكِ انتِ ولأمك الغجرية ؟ وانتما فقط مجرد لاجئتين حقيرتين قذرتين تسلطتا بحياة شقيقي....."
"كفى يا عمتي !"
قاطعها سفيان بصوت اعلى هذه المرة وبنبرة اقوى وبملامح تحولت للرخام الحجري فقد بالغت بردة فعلها هذه المرة وتخطت جميع المحظورات ، بينما كانت لورين تلتزم الصمت التام والأدب امام كل هذه الاتهامات القاتلة التي ألفتها وعايشتها منذ كانت طفلة وعت بحياتها على هذه الحقائق ولم تنكرها يوما ، ولكن ما تدركه جيدا ويهمها بأن والدها هو مفلح الكايد ودمائهما واحدة وهذا هو الأهم بالنسبة لها ويعطيها الحق بكل شيء وهو بالعيش بكنفه .
ارتفع صوته مجددا وهو يقول بصوت جهوري قوي يفشل اي محاولة لها بالكلام والتمادي اكثر
"هلا توقفتِ عن هذا رجاءً !"
ولكن التي استدارت نحوه لم تستسلم وهي توجه كلامها له واصبع الاتهام نحو التي باتت خلفها صارخة بكل قهر وحقد
"ولما تريد مني التوقف الآن بعد ان التزمت بحديثي معك الصمت وانت تتجاهل كل كلمة اقولها لك ؟! الآن فقط اصبح لديك لسان تتكلم به وترد عليّ بالكلام ! لا اقسم بالله لن اتوقف عند هذا الحد بعد ان اوصلتني لهذه الحالة من عصيانك ونكران جميلك ، هل تثور عليّ فقط من اجل ابنة الغجرية التي ضحكت والدتها على والدك واجبرته على الزواج منها بذلك السن وبحيلة حقيرة بهدف النزوة ؟ هل نسيت ما حدث وفعلت تلك المنحلة اخلاقيا قبل صدور قرار طردها من عائلتنا ومن منزلنا ؟ ولكن ماذا فعلتم انتم بالمقابل من اجل والدكم ؟ ما زلتم تستقبلونها بمنزله وتهتمون بها وترعونها بدل ان ترسلوها خلف والدتها !....."
صمتت بسبب القبضة التي ضربت على سطح الطاولة بقوة وهو يقول بجمود مهدد يكاد يفقد الذرة الاخيرة من صبره
"لا تتابعي اكثر !"
صمتت للحظتين فقط وهي تنفض ذراعيها للأسفل بانفعال قبل ان تتابع كلامها بغضب اكبر وبكراهية لونت نبرة صوتها
"لم تكتفي والدتها الغجرية بما فعلته بمفلح الكايد ، بل ايضا ابنتها فعلت نفس الشيء مع ابني ! لقد لعبت بعقله وسحرته بمفاتنها حتى اصبح كالمجنون بها ! ولا نعلم للآن متى سيفيق من هذه اللعنة ويدرك بالفخ الذي وقع به بمنتهى السذاجة بشباك تلك الغجرية....."
شهقت لورين بدون صوت ما ان اخترق الاجواء صوت تحطم المزهرية التي تحولت لشظايا على الارض الملساء بعد ان ضربها بقوة وتناثرت قطعها حول الطاولة ، بينما كانت شهيرة تنظر له بصلابة بدون ان يرف لها جفن وهو يواجهها بنظرات مستعرة تكاد تحرق المكان ومن فيه ليقول بعدها بصوت خشن شرس
"لا اريد سماع اي شيء عن هذا الموضوع ، وإذا ذكرتي اسم او سيرة ذاك الشخص امامي مجددا فسوف انسى تماما القرابة التي تجمع بيننا ! فهمتي يا عمتي ؟"
قبضت بيديها على جانبيها وهي تبادله النظرات بندها بدون اي مهابة او اهتزاز وكأنها تكلمه بصمت عن رأيها به ، لتقول بعدها بفتور بارد يناقض كل ما قالته سابقا
انت حالة ميؤوس منها فعلا ، وخيبة امل بالنسبة لعائلتك""
وبعد التعقيب الاخير كانت تغادر من امامهم وهي تشق طريقها نحو مدخل المنزل الذي جاءت منه تحقق انتصار جديد بحربها الكلامية والتأثير بهم ، لترفع لورين رأسها بارتجاف وهي تراقب الذي امسك بحاسوبه تحت ذراعه وتحرك من مكانه يدوس على الزجاج المهمش بحذائه الطويل القاسي ، وما ان سار بمحاذاتها حتى ربت بكفه الحرة على كتفها وهو يقول بصوت خشن خفيض
لا تهتمي لكل ما قالت ، فالكلام معها لا يجدي""
غادر بعد تلك الكلمات القصيرة وهو يسحب دعمه وصوته معه حتى اختلى المكان ألا منها ، هكذا هو (سفيان الكايد) او كما تسميه ذئب الاوس ويعني التعويض والإعطاء وما يفعله اتجاه قطيعه وهو ما ينطبق على صفات شقيقها الكبير ، فهو لطالما كان يدعمها كلاميا بين الحين والآخر ويوقف الكلام المنتشر عنها الذي قد يضر بسمعتها ويؤذي مشاعرها الاسيرة وكل شيء مرتبط بأصل والدتها الذي هو اكبر لعنة بحياتها ، زفرت انفاسها بتشنج دفعة واحدة وكأنها كانت تخنق نفسها طول فترة كلامها معها حتى امتنعت عن التنفس تماما ، لتستدير من فورها وهي تجري صاعدة السلالم بتعثر تكاد لا ترى امامها من تشوش الصورة بعينيها التي احتشدت بالدموع الغزيرة الثابتة تمسكها بصعوبة .
وما ان اصبحت بداخل حصنها وعالمها الآخر الآمن حتى انهارت على خشب باب غرفتها بصمت ، وهي تنزلق بالنهاية جالسة ودموعها الغزيرة تتسابق بالسقوط على وجنتيها الشاحبتين بفيضان اخترق السد ، لتخلع من فورها حجابها من حول شعرها وهي تشعر به بدأ يخنقها ويضيق حصار تنفس رئتيها ، لينزل على كتفيها مع انسدال شعرها الاسود الكثيف بإهمال وهي تضم ركبتيها لصدرها وتأن ببكاء مكتوم مذبوح تحول لاهتزاز قاتل خرج عن سيطرتها ، بينما يديها تغطيان اذنيها عن سماع صوت الانفاس العالية والسخونة تلهبها تكاد تكون واقعية لا تضاهي صوت القبلات على طول عنقها وجانب وجهها حرقت روحها قبل خارجها وانهار ثباتها المزعوم...

يتبع........


روز علي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-05-23, 01:40 AM   #5

روز علي
 
الصورة الرمزية روز علي

? العضوٌ??? » 478593
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 712
?  نُقآطِيْ » روز علي is on a distinguished road
افتراضي

بعد ان حل الليل ستاره دخل لغرفته الخاصة به والوحيدة المعترف بها بهذا المنزل الكبير الموحش بفراغ ساكنيه وظلام اروقته وبرودة جدرانه وكأنه منزل مسكون يقطن به الاشباح اكثر من الاحياء ، وهذا إذا استثنى المربية الملازمة له طيلة مسيرة حياته وبعض الخدم بالأرجاء الذين يتغيرون بين الحين والآخر حسب الحاجة ، وقد تأقلم بالفعل بهذا الروتين اليومي والاسلوب الثابت بالحياة واصبح يستهويه بشدة ويميل له اكثر من الصخب وتنوع المشاعر بحياة الناس الآخرين الذين يملكون عائلات كبيرة ممتدة وافراد كُثر ، فهذه الحياة التي اختارها عقله وقاد نفسه إليها منذ اعوام طويلة صقلت شخصيته ومشاعره بدون ان يمانع مرور بعض العابرين من منعطفات حياته واستضافتهم لديه مدة قصيرة من الوقت وهمّ يتركون انطباعات مختلفة خلفت فجوات بداخله علمته بأنه اجاد بالفعل اختيار طريقه الذي كان عين الصواب .
اغلق باب الغرفة وهو يدخل بخطوات كسولة ويمسك بطرف سترته على كتفه بإهمال ، ليلقي بها بعدها على السرير الواسع البارد وهو يفك ربطة عنقه بارتخاء والتي ضاقت عليه طول اليوم بعد ان وصل لنهاية طريقه وسجل صمود جديد آخر .
التفت بوجهه بدافع غريزي جذبه ليشرد بباب الخزانة المغلق بإحكام بلا شعور حتى غرق عقله بتلك الدوامة مجددا ، ليسمع صوت تخبطات خفيضة تصدر من داخل الخزانة وكأنه بشري حي يستغيث ويطلب المساعدة بالخروج بعد حبسه بها لمدة طويلة اكثر مما يحتمل ، لتتحرك خطواته بتلقائية بحتة تسير بطريقها نحو الخزانة ذات الباب الموصد وهو يقترب من مصدر الصوت الذي بدأ يتضح ويقترن بأصوات تمتمات صغيرة باكية لا تعلو عن الحد
"امي اين ذهبتِ وتركتني ؟ لا تتركيني وحدي ! انا اخاف من الظلام ! الظلام هنا مخيف ، المكان بارد ، اشعر بالتعب والجوع ، ارجوكِ عودي ، عودي ، عودي"
تسمر امام باب الخزانة الذي اصبح لا يفصل بينهما سوى بضعة سنتمترات صغيرة وهو لا يقوى على التحرك اكثر يكاد يفقد آخر ما تبقى من رشد عقله ولم يعد للمنطق مكان به ، ليرفع ذراعه ببطء شديد اقرب للخوف اخذت وقتا اكثر مما يتطلب الوضع قبل ان ينهي الصراع الداخلي بلحظة ويمسك بمقبض الباب بقوة ، ابتلع ريقه برهبة والعرق يتصبب بجبينه وتحت ثيابه واصابعه ترتجف باحتكاك بمشاعر لم يسبق ان مرت عليه منذ مدة طويلة بل منذ قرون وكأنه يعود الطفل الخائف الشريد من ظلال الوحدة وظلام العالم الموحش ، ليرتفع صوت الخبطات بوتيرة اعلى اصمت اذنيه بمستوى خطير وصوت البكاء الصغير يتلاعب بشعيراته الدقيقة بخبث ويقصف بقلبه بدوى الحرب وكأن جيوش تعيش بداخله وتفتك بعقله
امي ، امييييي ، امييييي""
سحب الباب المتحرك بأقصى قوة حتى صدمت نهايته بخشبه الاملس القاسي ينهي كل هذا الصراخ الداخلي بلحظة واحدة ختمت الكثير على آلامه ، ليتنفس بعدها بلهاث عالي وهو يقابل الفراغ المظلم امامه وبعض القمصان الانيقة معلقة بزاويتها ، لترتمي يده ذاتها على جانبه بسكون بعد ان توقف الضجيج المدوي من حوله وارتاحت اعصابه من كل هذا الصراع .
مسح بيديه على وجهه المتعرق الساخن وهو يتحكم بأعصابه بمهارة متمرسة ويعيد برودها لحالته الطبيعية ، ليتخلل خصلات شعره بأصابعه الطويلة يرجعهن للخلف بتمرد وتهذيب قسري ينفس بها عن كربه ، ابتعد من امام الخزانة وهو يدور قليلا بمكانه بضياع لوهلة قبل ان يصل لدرج بطاولة الزينة وهو يفتحه بقوة ويخرج منه سكين مذهب ذو نصل حاد سميك رسمت عليه احافير وخطوط عريضة شكلت ما يشبه افعى الكوبرا وكأنها رمز عائلي من عصر الامراء .
قبض بيده على طرف نصل السكين ببطء مرتعش وهو يراقب ما يفعله بعينين رماديتين ساكنتين ، ولم يعي بأن ذاكرته الخائنة عادت سنوات للوراء بحقبة زمنية مختلفة سحبته لها عنوة رغم مقاومته إياها ، ليتحول بلحظة لطفل لم يتجاوز عمر الحادية عشر يلعب بمكعبات البناء بين يديه ولعبته المفضلة التي يجيدها اكثر شيء ، لتقتحم خلوته التي دخلت لغرفته بمداهمة وهي تجري نحوه بأقصى سرعة وعباءتها الطويلة تمسح اطرافها الارض حولها ، وما ان وقفت امامه بصمت لوهلة حتى رفع رأسه الصغير نحوها وهو ينظر لها ببراءة ما يزال يتحلى بها بين نزاعات وخلافات عائلية امتدت منذ ولادته لهذه اللحظة .
كانت ملامحها شاحبة حتى الموت وتلهث بأنفاس مضطربة شحيحة وهي تحدق به بعينيها الزرقاوين الحارقتين بدموع حبيسة زادتهما فتنة آسرة وتلف وشاح اسود فوضوي فوق شعرها الكستنائي المهمل على كتفيها بعد ان تمرد من تحت وشاحها ، ليخرج بعدها عن صمته وهو يقول بصوته المهذب يرفقها بابتسامة طفولية
"ماذا هناك يا امي ؟"
لم تجيب على سؤاله فقد كانت تنحني امامه بلمح البصر وهي تعانقه بين ذراعيها لتحمله عاليا تنتشله من عالم لعبته التي لم ينهي بناء مكعباتها بعد ، وقبل ان يدرك ما يجري كانت تضعه بداخل خزانة كبيرة خالية من الثياب وهي تمسك بجانبيها تنوي غلقها عليه ، ليمسك بذراعها بتشبث بكلتا يديه وهو يهمس بوجل شديد يوشك على البكاء
"اين ستذهبين يا امي ؟ ولما تتركيني هنا ؟ لا تحبسيني بداخلها وتعاقبيني بدون سبب ارجوكِ ، ارجوكِ"
نفضت ذراعها بعيدا بقسوة لتمسك هي بذراعيه النحيلين بقوة هامسة امام وجهه ببأس شديد زاد الدموع بعينيها احتراقا
"ليس لدينا حل آخر ، ولا املك اي حيلة ، فأنت عليك ان تنجو ، عليك ان تعيش من اجلي ، ولكي نستطيع فعلها على والدتك بالتضحية بنفسها ، وانت لن يصيبك سوء ولن يصلك اي ضرر ، سمعتني ستعيش مهما كلف الامر !"
حرك رأسه بضياع وهو يهمس بنشيج باكي برجاء بدون ان يفهم حرف من كلامها
"امي ، امي...."
ابعدت يديها عن ذراعيه وهي تبتعد قليلا امام عينيه قبل ان تعود مجددا وهي تحمل بيدها سكين مذهب كانت تخيفه به سابقا وتعلمه كيفية استخدامه ، لتضعه بلحظة بكفه الصغيرة وهي تقبض عليها بيديها هامسة بصلابة تنقله عهدة السكين له
"هذه السكين ستبقى معك دائما ، ستدافع عنك بها ، ستقاتل المجرمين والمنحطين بها ، ستعلي شأنك ومقامك بها ، ستظهر الحقيقة وتقطع ألسنة الناس بها ، ولكل من يسيء لك ولوالدتك ، هل كلامي مفهوم ؟"
اومأ برأسه برهبة وخوف والدموع ترسم خطوط وسيول على خديه وملامحه يحاول مجاراة كلامها بقدر استيعابه ، لتترك بعدها كفه القابضة على السكين وهي تمسك بجانبي باب الخزانة للحظة فقط قبل ان تغلقها امام عينيه مرة وللأبد .
اتسعت عينيه فجأة ما ان اخترق طنين ذكرياته رنين هاتفه الموجود بجيب بنطاله يهتز بصخب ، ليتوقف بعدها عن الرنين للحظات ويعود الصمت يلون عالمه من جديد ، اخفض نظره ببطء وهو يفلت يده عن نصل السكين بعد ان تركت جرح غائر بباطنها وبقع دماء على نصلها الحاد ، ليقبض على يده الجريحة بقوة وكأنه يعصر الدماء بداخلها ويزيد الوجع الذي لا يوازي وجع دواخله التي تتعذب منذ سنوات .
عقد حاجبيه بضيق ما ان وصلت رسالة سريعة لهاتفه بعد الرنين المتواصل ، ليعيد بعدها السكين بداخل الدرج ويغلق عليه ببساطة بدون مسح الدماء عنه ، ليتحرك جهة السرير بلحظة ويجلس على طرفه ليأخذ منديل من المنضدة الجانبية وهو يربط كفه المصابة به ويوقف نزيف الدماء ، اخرج بعدها هاتفه من جيب بنطاله بيده السليمة وهو يفتحه ويقرأ محتوى الرسالة التي كانت مرسلة من رقم مجهول
(السلام عليكم ، لن اطيل بالكلام معك فقد اردت ان اخبرك بأن وقت عودتك قد حان ، ولم يعد هناك مبرر يمنعك من العودة للبلد ، فلا تنسى من تكون وما هي كنيتك الاصلية ، ولا اعتقد بأنك بهذه السذاجة حتى لا تفهم مقصدي وما ألمح إليه ! سأكون بانتظار عودتك فلا تتأخر)
غامت ملامحه بصمت بدون اي تعبير يكسوها وكأنها حالة جمود وتلبد اصابته فجأة ، ليستلقي بعدها على ظهره فوق السرير وهو يريح ذراعه فوق عينيه بصمت تام ، واصابعه ما تزال تتحسس باطنها ومكان الجرح فوق المنديل بشرود سبح ببحاره بعيدا ، وكل ما يفكر به حاليا هي نقطة العودة التي عليه السباحة نحوها وانهاء كل هذه الحروب التي شبت بعالمه منذ طفولته المشردة وهو يقاتل خيالات الماضي ويبحث عن الطريق الصحيح بها .
__________________________
مشت الطفلة الصغيرة بخطوات رقيقة فوق العشب الاخضر اليانع تكاد قدميها الصغيرتان بحذائيها الفضيان تغوصان بالتربة الخصبة ، بينما شعرها الاسود القصير يعانق وجهها المدور الصغير بحنية وترتفع بعض خصلاته المهذبة لتداعب خديها الورديين الفاتحين بلطف شبيه بملمس الورد الجوري ، وهي تمسك بين يديها الناعمتين زهور بيضاء جميلة تفوح منها رائحة عطرة زكية اقتطفت الآن .
وقفت بعدها بمنتصف طريقها ما ان ابتعدت عن المساحة الزراعية الخضراء ودخلت بأرض جرداء معزولة وكأنه النصف الآخر من العالم ، لتتسارع انفاسها القصيرة بصوت مسموع والخوف يتكمن من قلبها الصغير الذي بات كأرنب مذعور ، لتستدير بعدها للخلف ببطء شديد وثوبها الاسود القصير يدور مع حركتها مثل راقصة باليه داخل صندوق لعبة ، وما ان رفعت عينيها الخضراوين الهلاليتين حتى اصطدمتا بالكائن البشري الواقف على بعد خطوات منها طوله لا يفوق طولها سوى بسنتمترات قصيرة وجحمه اقرب لجحم فتى صغير بداخل جسد نحيل جدا ، ولكن ما يخيفها اكثر شيء ويثير رعبها هي عينيه الرماديتين الموحشتين الغير مستقرتين ولا يحملان اي امان او راحة بداخلهما ، تحدقان بها بصمت شديد الوطأة يكاد يدمي قلبها الصغير المذعور وكأنها تقابل صغير الذئب او واحد من اسلافه !
تجمد جسدها الصغير بمكانه ما ان اخذت خطواته بالاقتراب منها بثبات شديد قاسي ، وما هي ألا لحظات خاطفة حتى كان يقف امامها تماما لا شيء يفصل بينهما وهو ما يزال على نفس تحديقه المخيف الغير مباشر نحوها ، وقبل ان تبادر بالحركة التالية كان ينتشل الزهور البيضاء من بين احضانها بقسوة ليرمي بهن ارضا بالمساحة الفارغة بينهما بكل كراهية وحقد وكأنه ينفس عن غضبه بتلك الزهرات المسكينات .
افلتت شهقة من بين شفتيها الصغيرتين الزهريتين ما ان بدأ بدهس ازهارها البيضاء بقدمه الطائشة بقوة حتى اتصلت بتلك الارض تحتها ، وبدون ان تنتظر ثانية اخرى كانت ترتمي فوق الازهار وتحت قدمه التي كادت تدهسها وهي تفرد ذراعيها حولها وكأنها تعانقها وتحميها من الانسحاق ، ليتوقف بعدها العالم عن الضجيج والصخب للحظات ما عدا صوت انفاسهما الصغيرة المتفرقة قبل ان ترفع عينيها الدامعتين عاليا وهي تمد معها ذراعها امام جبينها تحمي نفسها من هجومه التالي ، بينما كان الواقف امامها قد تجمد عن الحركة تماما وتوارت شراسته خلف عينيه المسكونتين وقدمه تهوى ارضا ولكن بعيدا عنها هذه المرة ، لتخفض بعدها ذراعها الصغيرة عن جبينها ببطء وهي تتخلى عن حذرها للمرة الأولى بدون ان توقف صراع النظرات المشتتة بينهما والخوف اسير حولهما ، افاقت بعدها على كلمة واحدة بهمس خفيض خرجت من الفتى الصغير امامها بكل برودة
"منبوذة"
رفعت رأسها عن الوسادة التي كانت تدفن نفسها بها وهي تخرج نفسها من اسوار كابوسها لعالم الواقع ، لتقلب نفسها على ظهرها وهي تحدق بالسقف المزخرف فوقها تستعيد وعيها بشكل تدريجي بعيدا عن تلك الكوابيس التي لا تنفك تلاحقها بكل ليلة تشوش عليها ذهنها ، لتمسح بعدها جبينها بظاهر يدها ثم خديها الموردين ثم جانب عنقها تبرد الحرارة بجلدها من تأثير كابوسها الجديد ولكن اقل رعبا عن السابق وهي تستشعر بواقعيته بكل مرة يزور منامها .
نهضت عن السرير بهدوء وهي ترفع يدها وتحرك الخيط الاحمر المقدس برسغها الايسر تتأكد من ثباته بمكانه فهي تؤمن بأنه سيحميها من الشر دائما ويبعد عنها كل ما يضرها وكما تقول الخرافة ، تماسكت للحظات تضبط نفسها وإعدادات شخصيتها بعد ما محت احداث زيارة عمتها البارحة التي لم تكن سوى عارضة بحياتها ، لتكمل نهوضها من سريرها بنشاط وهي تباشر من فورها بتجهيز نفسها برتابة اعتادت عليها .
وصلت السلالم بسرعة بعد ان انتهت من فقرة تجهيز نفسها وهي تحمل الحقيبة فوق كتفها وتجري فوق الدرجات ، لتصل بعدها بثواني لمكان مائدة الفطور حيث الثلاث افراد من عائلتها مجتمعين بعد ان اكتمل عددهم بعودة شقيقها من السفر وترأسه مكانه بالمائدة ، وقفت خلف الكرسي وهي تمسك بظهره قائلة بابتسامة مهذبة بأسلوبها الخاص الذي يتكيّف بالجو سريعا
"صباح الخير ، سعيدة بوجودك بيننا يا سفيان"
رفع رأسه عن الملف بيده وهو يقول بحاجب واحد بتركيز غير متهاون
"صباح النور يا اميرة ، هل كل هذا نوم ؟"
زمت شفتيها بإحراج وهي تخفض نظرها هامسة بوجوم مرتبك
"لقد استغرقت بالنوم بدون ان انتبه للوقت"
ردّ عليها ببديهية وهو يحيد بنظراته للجالس بجانبه
"هل هكذا كان الحال بغيابي ؟ ام انها اول مرة !"
تجاهل حذيفة التلميح نحوه وهو يركز اهتمامه بجهازه اللوحي بيده لتجيبه الواقفة بجانبه نيابة عنه بدفاع
"لا هذه اول مرة تحدث معي اقسم لك"
اعاد نظره للملف بيده وهو يقول بجدية هادئة ولكنها حازمة بذات الوقت
"لا بأس إذا كانت اول مرة ، ولكن بالمرة القادمة اريد انضباط اكثر بمواعيد حضور المائدة وعدم النوم اكثر من الساعة التاسعة صباحا ، هل كلامي مفهوم ؟"
كورت شفتيها بامتعاض داخلي وهي تتلقى توبيخ كالأطفال بسبب تأخرها عشر دقائق عن موعد الفطور المقدس بالنسبة له فوتت بداية الجلسة ، لتهمس بعدها بخفوت ما ان لاحظت بأنها طالت بالصمت اكثر مما ينبغي
"مفهوم"
قال بعدها ببرود جليدي بدون ان ينظر لها
"اجلسي وتناولي فطورك بسرعة لكي لا تتأخري على جامعتك وتأخري هيثم معكِ"
اخفضت رأسها وهي تجلس على الكرسي برضوخ تام فهي مهما اظهرت تمرد لن تستطيع مجابهة شقيقها سفيان التي تكون كلمته دائما بالمنزل هي الآمر الناهي ومن يعصيها سيكون حسابه عسيرا ، فهي بالنسبة لها التعامل مع اشقائها الآخرين اسهل بكثير من التعامل معه ونقاشه الذي لن يربحك شيئا إذا لم يكن يخدم صالح الجميع .
قامت بسرعة من مكانها بلحظة مغادرة هيثم الطاولة امام نظراتهم بصمته المعتاد ، لتقول من فورها وهي تلوح بيدها بعجلة
"اراكما لاحقا ، إلى اللقاء"
ما ان استدارت على عقبيها حتى اوقفها صوت سفيان الجاد بنبرته الفولاذية
"لورين تعالي إلى هنا قليلا"
ابتلعت ريقها بوجل وهي تفهم جيدا معنى تلك النبرة التي تأتي دائما بوقت الجدية والكلام الخاص بها وحدها ، لتستدير بعدها على مضض وهي تمشي نحوه عدة خطوات قبل ان تقف بأدب هامسة بعدم حماس
"نعم يا سفيان"
التفت بجسده نحوها بدون ان يتزحزح من مكانه وهو يحدق بها لبرهة من وشاحها الاسود الملتف حول رأسها حتى اخمص قدميها قبل ان يقول بهدوء جاد متسلط
"كيف هي احوالكِ بالجامعة ؟ وهل هناك اي جديد يدعو للاهتمام تريدين اطلاعي عليه ؟"
حركت رأسها بالنفي بدون تفكير وهي تهمس بابتسامة رقيقة بصدق
"كلا كل شيء على افضل ما يرام ، ولو كان هناك اي شيء قد حدث كنت اطلعت حذيفة عليه قبلا"
عقد حاجبيه بجمود وكأنه يحاول تصديقها بالفعل ولحسن الحظ بأن شقيقها سفيان هو الاقل خبرة بفهمها بل الاسوء بمحاولة كشف كذبها من صدقها بعكس شقيقها حذيفة الذي يصعب اخفاء شيء عنه وتنتهي احيانا بكشف الحقيقة كاملة امامه ، عادت بعدها للنظر له ما ان قال بخشونة حازمة
"اتمنى ان تكوني صادقة بكلامك ، لأنني إذا علمت عكس ذلك وبأن هناك امور تحدث من وراء ظهري فلن ارحمكِ ، ولست وحدكِ ستكونين الملامة بل غيرك ايضا سيشاركك باللوم"
رمقت الجالس بجانبها بقلق وهو يلتزم الصمت وكأنه غير مقصود بكلامه ولم يشمله معها ، لتقول بسرعة بابتسامة مزيفة بمرونة
"لا تقلق عليّ يا شقيقي ، كل شيء سيكون تحت السيطرة ، هل تأمرني بشيء آخر قبل مغادرتي ؟"
امال برأسه جانبا وكأنه يستغرق بالتفكير بشيء آخر بعيد قبل ان يقول بهدوء وهو يوجه نظره نحوها بقوة نفذت بأعماقها
"لما ما تزالين ترتدين السواد ؟ ألم ينتهي حدادك ؟"
شحبت ملامحها بلحظة خاطفة وهي تخفض نظراتها بانكسار تمكن منها لوهلة ، لتستعيد بعدها رباطة جأشها بسرعة وهي تعانق بأصابعها الخيط الاحمر برسغها هامسة بخفوت باهت فقدت معالم الحياة
لا انا فقط سعيدة هكذا ، وقد تجاوزت الامر بالفعل""
صمت للحظات قصيرة ارهقت مشاعرها ليقول بعدها ببرود مفاجئ وهو يرحمها اخيرا
يمكنكِ الذهاب ، رافقتك السلامة""
زفرت انفاسها براحة لحظية وهي تومئ برأسها وتتراجع للخلف بتهذيب قبل ان تستدير بسرعة وتتابع طريقها خارج المنزل ، ليقطع الصمت بعدها صوت الفرد الصامت الذي تكلم لأول مرة
لقد بالغت بقسوتك معها على غير عادتك""
التفت بوجهه نحوه بملامح باردة وهو يقول بنزق
"هذا ليس من شأنك"
لم يجادله ولم يتكلم بعدها وهو يرمقه بطرف عينيه الباردتين المستفزتين بجيناته وكأنه يخرجه عن اعصابه بمجرد النظر لهما ، ليشيح بوجهه بعيدا عنه وهو يضع الملف جانبا قائلا بجمود قاسي
"اعلم بأنك تخفي شيئاً عني يخصها ، ولكني لن اتكلم اكثر ، بل سأكتشف الامر بنفسي واتركها تحدث من تلقاء نفسها"
ردّ عليه حذيفة بشبح ابتسامة باردة
"انت تحمل الموضوع اكبر من حجمه"
تجمدت ملامحه وهو يرفع قبضتيه امام جبينه ويسند مرفقيه فوق سطح المائدة ، ليقول بعدها بلحظات بخفوت مشتد يغير دفة الحديث
"سوف يعود اليوم"
توقفت اصابعه عن الحركة وهو يسرق انتباهه هذه المرة بجدية الموضوع المتكلم عنه ، ليحيد بنظراته نحوه وهو يقول بحيرة جادة ولو لم يتخلى عن بروده
"من هو الذي سيعود ؟"
ضرب جبينه بقبضتيه بحركة طفيفة وهو يقول ببأس شديد يبوح بالاسم المجهول الذي لم يسمع منذ سنوات
"إلياس عارف الكايد"
______________________________
سحبتها من ذراعها بسرعة وهي تتجه بها خارج القاعة وخارج الكلية بأكملها بثواني هاتفة بنبرة انتصار
"واخيرا حصلنا على حريتنا التي لا تحدث سوى مرة كل فصلين بالعام ، وهذه فرصتنا الوحيدة لعيش الرفاهية والحياة الحرة التي نطمح لها"
توترت ملامحها وهي تجاري خطواتها الراكضة هامسة بعبوس حائر
"إلى اين نحن ذاهبون الآن ؟"
ردت عليها بحماس وهي تلوح بقبضتها بسعادة وكأنها نجحت بأكبر مخطط بحياتها
"سنذهب لنستمتع بوقتنا خارج حدود الجامعة ، فقد خططت للكثير من اجل الوصول لهذا اليوم ، لقد سمعت بأن هناك مطعم شهير للأكلات الآسيوية قد افتتح بالقرب من هنا....."
اوقفت اندفاعها الحماسي وهي تسحب ذراعها بقوة هامسة بتمنع خافت
"لا اعتقد بأنها ستكون فكرة جيدة"
استدارت نحوها بجسدها وهي تمسك خصرها بيديها بآن واحد قائلة بحدة مبالغة
"ومتى ستحين لنا مثل تلك الفرصة مجددا ؟ او نحظى بهذا اليوم مرة اخرى ؟ لقد تغيب الاستاذ مراد عن المحاضرة وترك لنا وقت اضافي لنستخدمه بقضاء حريتنا اخيرا ، وبدل ان تستغلي هذا الوضع لصالحنا ما تزالين تعيشين بالتردد بالقرار مجددا ! وإذا انتظرنا اكثر فلن نخرج من هذا العالم بحياتنا حتى موعد تخرجنا !"
زمت شفتيها بوجوم وهي تشتت نظراتها بعيدا هامسة بعدم راحة واستقرار
"ولكني لست مرتاحة لهذا الوضع....."
قاطعتها بقوة اكبر وهي تمسك بذراعيها وتهزها منهما وكأن حياتها معلقة بهذا القرار
"ليس هناك لكن بعد الآن ! وليس لديكِ مبرر كي ترفضي هذه الفرصة ، ولا تقولي اشقائي او عائلتي او سمعتي ، فمن المفترض ان تغادري بعد المحاضرة التي ألتغت من يومك واخلت وقت اضافي لكلينا ! ولن يكتشف احد ذهابك وانتقالك من مكان لمكان آخر إذا كان داخل الجامعة او خارجها المهم هو عدم الاخلال بمواعيد مغادرتك ، أليس ما اقوله هو الصحيح ؟"
اومأت برأسها باهتزاز وهي ترفع يديها امامها مثل المدانة هامسة بتروي رقيق
"حسنا يا عزيزتي روان ، انتِ محقة هذا هو الصحيح ، واعتذر على افساد مخططك بسبب ترددي بقراراتي"
لانت ملامحها ببسمة مشرقة وهي تخفف من تكبيل ذراعيها بوضع المتهم لتتحول من فورها للنقيض وهي تربت على كتفيها بود وتقول بابتهاج متملق
"لا بأس يا صديقتي اللطيفة ، المهم هو الثبات على الطريق التي تجدها عين الصواب واقناع الطرف الآخر بذلك ، وهذه مهمتي الأولى والاسمى التي وجدت بها من اجلك"
مالت طرف ابتسامتها برقة وهي تهمس باستغراب
"ماذا تعنين بكلامك ؟"
حركت رأسها بعدم مبالاة وهي تزيح يديها عنها لتمسك بيدها هذه المرة قائلة بسرور
"لا تهتمي لكل ما اقول ، وهيا بنا نحقق مخطط اليوم الذي لن يتكرر مجددا"
ولم تدع لها الفرصة للتعليق اكثر فقد كانت تتابع سحبها بموافقتها او بدونها للمكان الذي قررت قضاء وقت محاضرتهما الملغية به باستغلال الفرص المتاحة لهما ، وكما قالت حدث وهما يجلسان بطاولة مستديرة تعلوها ملاءة مزركشة بالزخف الملون والصدف البحري بقلب المطعم الذي كان افتتاحه قبل ايام ، لتتنهد بعدها بيأس وهي تضع قبضتها تحت وجنتها وتتمتم بتبرم طفيف
"اتمنى فقط ان يمر هذا اليوم على خير ، فلا ينقصني تحمل المزيد من المصائب ، وخاصة حديث سفيان بالصباح ، ستكون مصيبة كبرى لو علم بأي شيء !"
نطقت الجالسة امامها بابتسام منشرح متجاهلة تجهم ملامح صديقتها الواضح وسماعها حديثها
"توقفي عن الهمس مع نفسكِ مثل المخبولة ، واستمتعي بالأجواء الحرة بهذا المكان ، فنحن لم نغادر اسوار الجامعة منذ مدة طويلة وقد اشتقت كثيرا لهذه الحياة ، ألا تشعرين بما اشعر به ؟"
تنقلت بنظراتها بالمكان المكتظ بالبشر والزوار المحبين لهذا النوع من الاكلات الغربية والاصناف الآسيوية التي لا يجدونها سوى بهذه المطاعم وندرة جدا من يصنعها ويروج لها ، لتنتهي بنظرها نحوها وهي تهمس بخفوت مشتد لا يتضمن السعادة
"اشعر فقط بالخوف والمصير الاسود الذي ينتظرني لو اكتشف امري"
تأففت بنفاذ صبر وهي تخرج هاتفها من حقيبتها وتصور الارجاء من حولها هامسة ببرود
"لا فائدة ترجى من الحديث معكِ ، فأنتِ عيش السعادة عندك حق غير جائز بقاموسك ! وكل املي ان تفرجي عن نفسكِ قليلا وتحرريها من ظلمك"
لوت شفتيها بصمت وهي تخفض نظرها للأسفل تتمعن بشكل الملاءة المزركشة واصابعها تتلاعب بأصدافها الجميلة ، لترفع نظرها فجأة ما ان وجهت الاخرى كاميرا هاتفها بوجهها وهي تهتف بتشدق
"ابتسمي قليلا للكاميرا يا عدوة السعادة ، من يراكِ يظن بأنني قد اختطفتكِ واجلستكِ هنا قسرا ! انتِ تهينني بتصرفك بدون ان تعرفي !"
اشاحت لورين بوجهها جانبا وهي تهمس بتملق
"أليس هذا ما حدث ؟"
تجاهلت تعليقها وهي تدور بالكاميرا بأرجاء المكان بدون ان تأبه بها تصور كل شيء تقع عينها عليه ، حتى جاء النادل لطاولتهما يستعد لأخذ طلباتهما ويدونها على الدفتر الخاص به ، وما ان انتهت صديقتها من طلب وجباتها بالقائمة وهي تطلب تفس الشيء لها بدون الاخذ برأيها حتى غادر النادل من فوره وهو يعدهما بتجهيز طعامهما بغضون دقائق فقط .
انتفضت بمكانها بلحظة ما ان شهقت صديقتها بحماس عالي وهذا يعني بأنها قد التقطت برحلة تصويرها شيء مثير للاهتمام للغاية ، لتلوح بيدها الاخرى لها هامسة بسعادة بالغة وعينيها تلمعان بالانبهار
"انظري ماذا وجدت هنا ، هناك رجل مثير للاهتمام بشكل لا يوصف بالطاولة المقابلة لنا ! قنبلة رجولة وجمال ! يستحق ان يخزن بألبومي الخاص بندرة الرجال الاستثنائيين بالعالم ! لو فقط يسمح لي ان اجري له جلسة تصوير كاملة"
عضت لورين على طرف شفتيها بتأنيب وهي تهمس من بينهما بضيق واضح بدون ان ينتابها الفضول حول ما تنظر له
"اخفضي صوتكِ كي لا يسمعك احد ، وألا ستتسببين لنا بفضيحة ليس لها مخرج ! ألم تقلعي عن هذه العادة بتصوير الناس بدون إذنهم ؟"
ردت عليها بعدم انتباه وهي تستمر بتوجيه الكاميرا ناحية الطاولة المقصودة
"انا لا اؤذي احد بهذا التصرف ولا اسيء إليه ، وعليه ان يكون ممتن لي بأنني احتفظ بصوره بمكان خاص بقلب هاتفي فهذا إطراء له بحد ذاته"
حركت رأسها بيأس فلن يجدي الكلام بشيء ما دام الامر عالق برأسها ويمتعها بطريقة غريبة ، ليسرق نظرها النادل الذي وصل لطاولتهما مجددا وهو يضع لهما كؤوس العصير والماء وبعض المقبلات المبدئية ، لتضطر بعدها لشكره بامتنان وإحراج بسبب تصرفات الاخرى المشغولة بتصوير الإحداثيات بهاتفها قبل ان يغادر من عندهما بصمت .
نظرت لها بامتعاض وقبل ان تعقب بشيء سبقتها التي صرخت بحماس مفرط وهي تمسك وجنتها بحياء
"يا إلهي ! هل رأيتِ ذلك يا لورين ؟ لقد ارسل لي الشاب غمزة بعينه بمواجهة الكاميرا ! وهذا يعني بأنه كان يعرف بمراقبتي له مسبقا ، اشعر بالإحراج الشديد من الموقف"
عقدت حاجبيها السوداوين الرقيقين بضيق وهي تمسك بكأس العصير المخلوط بعدة نكهات لتشرب منه بصمت ، وبلحظة كانت تهز يدها بقوة حتى سكبت بعض القطرات على اعلى قميصها الاسود بوضوح ، لتعيد الكأس فوق الطاولة بحذر على صوت صديقتها التي قالت بندم شديد
"اعتذر يا لورين ، لم اقصد حقا فعلها ، لقد بالغت بحماسي قليلا"
حركت رأسها بابتسامة هادئة وهي تنهض عن الكرسي قائلة بنبرة متزنة
"لا بأس لم يحدث شيء ، سأذهب لمسحها بدورة المياه ، لن اتأخر عنكِ"
اومأت برأسها وهي تهمس بحرج بعد ان استدارت عنها
"انا آسفة حقا"
ابتعدت لورين عن الطاولة وهي تجتاز مجمع الطاولات الاخرى بصالة المطعم الفخمة ويدها تستقر فوق صدرها تحجب مكان البقع ، وبلحظات كانت تقف امام الواجهة الخاصة بالطلبات القريب من الصالة وهي تقول للشاب الذي يعمل هناك
"لو سمحت اين مكان دورة المياه ؟"
استدار الشاب نحوها وهو يحمل صينية عليها اطباق خاصة بطلبات طاولة للزوار بالخارج ، ليقول بعدها بأدب وملامحه تتلون بالإحراج
"اعتذر منكِ يا آنسة ، ولكن دورة المياه الآن مغلقة بسبب إصلاحات عاجلة بإمدادات المياه"
عبست ملامحها بإحباط وهي تخفض نظرها لكفها المفرودة فوق صدرها لا تعلم ما تفعله بهذه الورطة ، لتقول بعدها وهي تعود بنظرها للشاب بحياء خافت تكاد تدخل تحت الارض من موقفها المخزي
"هل لديك بعض المناديل الورقية ؟"
تنفست الصعداء ما ان قال بابتسامة مهذبة يشير بيده الحرة للمكان خلفه
"بلى لدينا الكثير من المناديل بالداخل ، ويمكنكِ اخذ ما تشائين منها وبقدر ما تريدين"
اومأت برأسها بابتسامة ممتنة وهي تهمس برقة
"شكرا لك"
سارع الشاب بالكلام وهو يخرج من خلف الواجهة قائلا باستعجال وطريقه للصالة
"عن إذنكِ فأنا مضطر ان اوصل هذه الطلبية بشكل عاجل ، يمكنكِ انتِ الدخول واخذ ما تريدين من المناديل ، انها موجودة على رف التوابل"
فغرت شفتيها بدهشة وهي تشاهد ظهره بعد ان غادر وتركها تتخبط بينها وبين نفسها ، لتعزم امرها بظرف لحظة وهي تلتف حول الواجهة وتتجه مباشرة للرفوف الموجودة خلفها ، وصلت لعلبة المناديل فوق الرف وهي تخرج منها عدة مناديل نظيفة لتمسح بها اعلى قميصها برفق حتى بدأت البقع تختفي عنه تدريجيا .
انتفضت داخليا بدون اي حركة ما ان قصف صوت رجولي مرتخي بنبرة عميقة خلفها
"هل هناك احد يعمل هنا ؟"
ابتلعت ريقها بوجل ومفاصلها تتجمد عن الحركة تماما حتى قبضت اناملها الرقيقة على المنديل بقوة تحجزه بقبضتها ، لتنتفض بصورة اسوء ما ان توجه الكلام لها هذه المرة بصورة خاصة وهو يتابع بنبرته العميقة ذاتها
"انتِ هناك ! هل ستبقين ساكنة بمكانكِ هكذا ام ستساعدينني ؟"
تسارعت انفاسها الاسيرة وهي تشعر بقلبها قد تضخم من الألم والخوف وكأنها تعايش كابوس من كوابيسها المروعة بواقعها ، بدون ان تقدر على التفكير بمهرب من هذه الورطة تضمن خلاصها بأقل الاضرار وسلامتها قبلا ، لتعض بعدها على طرف شفتيها حتى كادت تدميها ما ان عاود الصوت خلفها بالكلام بارتفاع خشن وكأنها تسمعه بحلمها
"يا ذات الوشاح الاسود ، هل تتعمدين تجاهلي ؟ ما هذه الوقاحة....."
توقف اخيرا عن الكلام ما ان جاء العامل الحقيقي بالمكان وهو يجيبه قائلا باحترام بعد ان انقذ الموقف
"اعتذر على التأخر عنك يا سيدي ، هل من خدمة اقدمها لك ؟"
تسللت الراحة لملامحها وقلبها لوهلة وهي ترخي قبضتها على المنديل ببطء تحرره من صراعه ، لتسمع صوته مجددا بدون صورته وهو يكلم العامل وعينيه تخترقان ظهرها
من تلك الفتاة هناك ؟""
ردّ عليه العامل بسرعة بتوضيح
"انها من رواد المطعم ، ودخلت فقط لأخذ المناديل"
تنفست باضطراب اكبر ما ان قال الرجل الغامض صاحب الصوت الخشن بنبرة اقوى
"اريد كأس عصير بليمون لو سمحت"
ما ان سمعت صوت خطوات العامل تقترب منها حتى افرجت عن نفسها بسرعة وكأنها تستغل فرصتها المتاحة بالهروب وهي تستدير بلحظة وتسير بطريقها المحفوظ خارج المكان بدون النظر لأحد ، ولم تكن تتوقع ما حدث وذاك الغريب يعيق طريقها ببساطة ما ان مرت بمحاذاته حتى شعرت بيد قاسية تشب بذراعها وتعيدها خطوة للخلف تمنعها من الابتعاد اكثر ، لتتوقف انفاسها بحلقها للأبد تكاد تموت فقط من تلامس اصابع قبضته على ذراعها من تحت قماش قميصها الحريري الرقيق ، وقبل ان تدرك وضعها الحالي كان يقول بجانبها بصوت اصبح اقرب اكثر وضرب اذنها بسعير حارق وكأنه همس الليل الذي ينتهي بكوابيسها
"اعتذر منكِ حقا على اساءة الفهم ، لقد ظننتكِ بالبداية عاملة هنا ، اتمنى ان تسامحيني على هفوتي يا ذات الوشاح الاسود"
فتحت فاها الصغير بانفعال وهي تسحب ذراعها بكل قوة من مخالب قبضته حتى ضربت جانبها ، وبدون ادنى انتظار منها كانت تسير بعيدا اقرب للجري وهي تدخل للصالة بلمح البصر لم يلمح منها سوى طرف وشاحها المتدلي على كتفها وملابسها السوداء ، ليقول بعدها للعامل الموجود بمكانه يشاهد العرض امامه بملامح مصدومة
"هل اخطئت بالتصرف ؟ فقد بدت عدوانية جدا معي"
حرك الشاب رأسه بعدم تصديق وهو يقول بنبرة مستاءة يتخلل بها بعض الحياء
"بالطبع اخطئت بالتصرف ، فما فعلته يعتبر تحرش غير مباشر حتى لو كان بدافع نبيل وبنية سليمة ، هل تظن نفسك تعيش بالغرب تفعل ما تشاء وبالوقت الذي ترغب به ؟"
التوت ابتسامته بلا معنى وهو يصيب بكلامه ليضيق بعدها عينيه الرماديتين بقسوة قائلا بشرود
"انت على حق بكلامك فالوضع هنا لا يشبه هناك ابدا"
بينما وصلت لورين لطاولتها السابقة وهي تمسك حقيبتها وهاتفها امام عيون صديقتها المصدومة ، لتقول بعدها بخفوت جاد لم يخفى الاضطراب به
"عليّ الذهاب بسرعة ، فقد تلقيت اتصال من شقيقي هيثم...وتوجب عليّ المغادرة ، اراكِ لاحقا"
غادرت بسرعة وهي تعدل حزام حقيبتها فوق كتفها وتتجاوز الناس من حولها حتى خرجت من باب المطعم ، لتقول بعدها التي عادت بنظرها لهاتفها وهي تنفض طرف وشاحها عن كتفها
"لم ينتهي وقت المحاضرة بعد ، وتقول بأن شقيقها قد اتصل بها الآن ! يا لها من بائسة لا تجيد الكذب !"
افاقت على صوت خطوات تقترب من طاولتها وهي ترفع عينيها عن هاتفها بنفس لحظة وصوله ، وما ان تلاقت النظرات بينهما وهي تخفي فمها الفاغر خلف هاتفها حتى غمز لها مجددا بعينه الرمادية الآسرة جعلتها تتجمد بمكانها لوقت اطول ، ليكمل طريقه بعيدا عن طاولتها وهو يتابع خطواته باتزان واثق وبطريقة مدروسة بسرقة النظرات والإعجابات من كل شيء مؤنث يحوم بمجاله ، ولم يسمع تلك المبهورة التي وقعت بشباكه وهي تقول من خلفه بافتتان واضح
"يا إلهي ! كيف سأستطيع مقاومة كل هذا الجمال والكمال ؟ صاحب اجمل عينان غريبتان بالكون ، لقد اضعت عليكِ الكثير من جماليات الحياة يا لورين"

يتبع.........


روز علي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 10-05-23, 01:44 AM   #6

روز علي
 
الصورة الرمزية روز علي

? العضوٌ??? » 478593
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 712
?  نُقآطِيْ » روز علي is on a distinguished road
افتراضي

شردت بنظراتها بلا حياة او تعبير بالطريق بجوارها وهي تريح جبينها على زجاج نافذتها الباردة ، لا تعلم بالضبط ما لذي اصابها هناك وبتلك اللحظات التي تلت الحادثة بالمطعم ! يبدو بأن كل شيء ينقلب للأسوء بحالتها الغير سوية التي تضطرب وتتغير ما ان تلامس رجل غريب ! وقد ظنت بأنها قد تخطت الوضع منذ سنوات وبدأت تتأقلم بالفعل بالمجتمع حولها ومع كلا الجنسين وخاصة منذ التحاقها بالجامعة الاكبر بالوسط العربي ، ولكن كل شيء قد باء بالفشل ما ان تعرضت لموقف واحد عابر دمر كل ثبات وشموخ تلك السنوات العصيبة وكأنها هضبة رمال عالية تهدمت بنفخة هواء ، وليس هذا وحسب بل تداخل كابوسها اليومي بالواقع وشعورها به حي امامها تكاد تجسده بعقلها وكأنها كانت تعيش بمنام ارسلها للجنون الحتمي ! فهذه الاحداث والمشاعر لم تمر عليها منذ مدة طويلة جدا حتى بعد كل تلك السنوات ما تزال تعيش بقلب تلك الزوبعة التي لم تجد الخلاص منها لهذه اللحظة وتوابعها ترافقها بحاضرها ، عندما كانت بداية قصتها بين مراحل مراهقتها الأولى وهي مجرد طفلة بالثالثة عشر من عمرها حكم عليها بالزواج والختم عليها والحجة هي حمايتها وحجبها عن الغريب بدون ان يعلم احد بأن الخوف كان من القريب الذي تدمرت على يديه....
افاقت من صراعها الصامت على الصوت المنادي بجوارها يوقظها من قسوة احلامها قائلا بصرامة جادة
لورين هل انتِ هنا ؟""
شحبت ملامحها بلحظة خاطفة وهي تلتفت نحوه هامسة بخفوت متشنج تحاول اخفاء خوفها من افكارها
"نعم ، عن ماذا كنت تكلمني ؟"
رفع حاجبيه ببرود لبرهة قبل ان يدير وجهه بعيدا وهو يخلع حزام الامان عنه قائلا ببساطة
"سلامتكِ"
احنت حدقتاها بحزن ما ان خرج من السيارة ببساطة بدون ان يتساءل اكثر او يعطيها الفرصة للتبرير ، فهذا طبع شقيقها هيثم إذا لم تتكلم لن يتكلم وإذا صمت للأبد لن يتعب نفسه بالتفكير عن سبب صمتك بل سيتجاهلك ببساطة وكأنك لم تكن .
تنفست بوجوم عابس وهي تخرج من السيارة وتنفض دائرة افكارها الكئيبة عنها ولو لبعض الوقت ، ولكن تلك اللحظات قد مضت اسرع مما تصورت وهي تقف امام مدخل المنزل بتجمد وكأن قشعريرة بعثت لعظامها ونخرت عامودها الفقري ، لتستدير بعدها بتردد وهي تعيد مشهد بحلم البارحة بين استدارة جسدها وتجمدها بمكانها ومقابلتها العينان اللتان كانتا تثقبان ظهرها من الخلف بقوة استشعرت وجودهما قبل وصولهما ، ولم تشعر كم من الزمن انقضى عليها وهي على هذه الحال تحاول استيعاب مدى واقعية هذا الحلم وإذا كان جزء جديد من كابوس تجسد من افكارها عنه !
رمشت بعينيها الواسعتين عدة مرات بمحاولة يائسة لمسح ما تراه حتى ادركت بالنهاية بأنها واقع حقيقي وليس وهم ينسجه خيالها المتعب ! وبأنه رجل حقيقي يقف امامها بشحمه ولحمه وبأناقة غربية تناسب الشخصيات الهامة بالعالم الآخر ! وهذا لا شيء امام الاحتمال الاكبر والأسوء وبأنه واحد منهم كذلك ينتمي لمملكة الذئاب العظيمة التي تعيش بقلبها ! وكل المؤشرات الحيوية والشكلية تثبت لها ذلك بالدليل القاطع من بذلته السوداء الفاخرة التي تلتف حول جسد مثالي منحوت بالتساوي بين الأضلاع والزوايا...ونظرة عينيه الثاقبتين بلونهما الرمادي الفولاذي والموحشتين بقسوة الصقيع الذي يسكن البيوت الفارغة...حتى تعابير ملامحه الأرستقراطية التي تتصف بالتعالي والزهو بحركة ارتفاع الحاجب وتصلب الابتسامة فوق شقين من شفتين قاسيتين تظهر الجينات الوراثية التي تناقلت تلك الصفات جيل بعد جيل .
زفرت انفاسها بشهقة مفاجئة وهي ترفع يدها لصدرها وجسدها يرتجف بردة فعل متأخرة ما ان نطق التمثال الواقف امامها بعبارة واحدة بنبرة صوته المرتخية بخشونة
"يا ذات الوشاح الاسود"
قبضت بأناملها على صدرها المتخبط بارتياع وهي تنشج وتنازع بأنفاسها بمعنى الكلمة ، بينما كان المقابل لها يتأملها بتركيز لم تدركه او تعيره انتباه وهي تجذبه بحركتها العفوية بقبضتها المستكينة على صدرها الذي يعلو وينخفض بكل ثانية ، ولم يعلم إذا كان صدمة من مقابلتها له مرتين لليوم ام هو خوف من سبب وجوده امامها بهذا المكان ! ولكن ما يهمه هي الصدفة التي جمعته بها مجددا وجعلته يراها بصورة مختلفة تماما واقرب عن السابق ، فهذه الفاتنة السوداء تحمل اغواء وجمال خاص لا يراه سوى صاحب النظرة الخبيرة ومن يمتلك سجل كامل بالفتيات واشكالهن بالصنف والنوع إذا كان غربي او شرقي بسبب الممارسة والاعتياد .
ومع ذلك فهي تصنيف مختلف عنهن تحمل طابع استثنائي يدمج الغربي مع الشرقي بمزيج الاغرب على الإطلاق...فليس جمالها وحده من يحدد اختلافها بل جيناتها وهالاتها الخارجية التي ترسم ملامحها البيضاء المتشربة بدماء الغرب وتقاسيمها المحفورة بدقة عالية...عينيها الهلاليتين الخضراوين مرسومتين بخطوط دقيقة وكأنهما اقتباس عن قطط فرعونية وبحافتهما السفلية خطين سوداوين متوازيين اشبه بامرأة هندية...واما ملابسها السوداء الانيقة فلم تكن اقل جمالا منها وهي تتشح بها من رأسها حتى اخمص قدميها بدون ان تظهر تفصيل واحد منها...ترتدي قميص اسود حريري بياقة مثلثة تعلوه سترة شيفون قصيرة تصل لنهاية صدرها بدون اكمام وبأطراف وحواف بيضاء...وتنورة سوداء طويلة تناسب الطقم بجيوب مائلة على حوافها شيفون ابيض مطرز واطرافها السفلية كذلك من نفس الشيفون الناعم .
عاد من رحلة التأمل لوجهها وتحديدا شفتيها الصغيرتين الناطقتين برجفة واضحة غير مدركة سيطرتها التي حاوطت المكان
"كيف وجدتني ؟"
ارتفع حاجبيه ببطء شديد وقبل ان ينطق بحرف سبقه الصوت من بعيد والذي ظهر من داخل المنزل
"اهلا وسهلا بضيفنا ، لقد شرفت مكانك وارضك يا ابن عارف الكايد"
صمت تماما بملامح باهتة بدون تعبير عكس التي استدارت من فورها للخلف وهي تراقب الذي سار نحوهما بخطوات واسعة واثقة حتى وصل إليهما ، تنقل بنظره بينهما لوهلة قبل ان يتوقف على صاحب النظرة الجليدية الذي خصه بالترحيب وهو يقول بشبه ابتسامة جادة
"لماذا لم تخبرني بلحظة نزول طائرتك بالمطار ؟ لكنت ارسلت لك احدهم ليرحب بك ويرشدك بالمكان ، فأنت ما تزال مواطن جديد بالبلد ولا تعرف شيئا عنها"
رفع عينيه نحوه بهدوء بدون ان يرسم تعبير محدد عليهما يبث بهما الحياة قبل ان يقول بابتسامة جانبية عميقة
"لا تقلق بشأني يا سفيان الكايد ، فكما استطعت التأقلم بين بلدان الغرب لسنوات طويلة لن يكون صعبا عليّ التكيف هنا ، فهذه بلد الاجداد والآباء كما تقول صحيح ؟"
اومأ برأسه بهدوء وهو يقابله بنظرات ثاقبة بصمت شديد وكأنه تحدي الجينات الاقوى بينهما ، لتنزع لورين نفسها من بينهما بلحظة وهي تضع نفسها بجانب سفيان تكاد تلاصقه وعينيها تناظره من بعيد بحذر ، ليخفض نظره نحوها حيث تتلصص عيون القطة نحوه تحتاط بالحذر وكأنه سينقض عليها بأية لحظة ، قال سفيان بعدها بجمود وهو يدرك التواصل المريب الذي حدث بينهما قبل مجيئه
"هذه لورين مفلح الكايد الابنة الصغرى لمفلح الكايد ، وشقيقتنا الوحيدة"
تغضنت زاوية ابتسامته بخطين دقيقين وهو يقول بعمق شديد بدون ان يترك اسر نظراتها
"ابنة عمي الوحيدة"
اتسعت حدقتيها الخضراوين بجزع وهي تدرك اخيرا الرباط الذي يجمع بينهما ولم تخطئ به فهو حقا واحد من افراد هذه العائلة التي تعاني من شتات وشذوذ داخل افرعها ، انتبهت لصوت سفيان وهو يشير لها بذراعه للأمام يعرف عن هوية الواقف امامهما
"هذا يكون إلياس عارف ، ابن عمك عارف الكايد ، وهو العم الوحيد بعائلتنا"
ابتلعت ريقها بارتباك وهي تقع بمصيدة نظراته المسلطة نحوها وكأنه ينتظر رد فعلها التالي ، ليبادر إلياس بالترحيب اولاً وهو يمد يده لها قائلا بخفوت اجش واثق
"اهلا وسهلا بكِ يا ابنة عمي الوحيدة ، اتمنى ان تديم اواصر المحبة بيننا ونكون اصدقاء واقارب جيدين مع بعضنا"
حدقت بيده الممدودة برهبة وهي تلتصق بشقيقها اكثر وتمسك بيدها سترته من جهة ذراعه تستمد منه العون ، ليتدخل بعدها الذي التقط اشارتها وهو يمسك بيده بدلا عنها ويقول باتزان رسمي
"عذرا منك ولكنها لا تصافح الرجال"
تلبدت ملامحه بضبابية وهو يحدق بقبضته الممسكة بيده قائلا بتهكم
"ولكنني لست رجل غريب عن العائلة !"
ردّ عليه بعملية وهو يشدد بيده على كفه بتلقائية
"ولكنك تبقى خارج حدود عائلتها ، وخاصة بأنك كنت مغترب عنا لسنوات طويلة لم تظهر بها بالبلد قط"
اعتلت ابتسامة باردة محياه وهو يسحب يده من قبضته بقوة ليحرك كتفه باستخفاف قائلا ببديهية
لا بأس إذا كانت هذه رغبتها""
حاد سفيان بنظراته جانبا وهو يقول بصوت حازم بأمر
"اذهبي للداخل يا لورين"
انتفضت برعشة خاطفة وهي تفلت قماش سترته ببطء ثم استدارت توليهما ظهرها لتتابع بسرعة سيرها للداخل ، بينما كانت ما تزال العينين القانصتين تتابعان رحيلها بصمت تأخذ سوادها معها الذي تحكم بإعدادات مزاجه ويومه ، ليفيق بعدها على صوت سفيان وهو يتحرك امامه للداخل قائلا بخشونة جادة
"هيا تعال لنرحب بك بالداخل ، فلا يجوز استقبال ابن العم عارف الكايد عند الباب"
ضاقت عيناه الرماديتان وهو يتابع مغادرته بصقيع داخلي لبرهة قبل ان يرسم ابتسامة باهتة على محياه ، ليشد بعدها خطواته وهو يلحق به داخل المنزل هامسا بخفوت اجش قاسي
"يبدو بأنني قد اصبت بقرار العودة"

نهاية الفصل بانتظار انطباعاتكم الأولية بفارغ الصبر ♥️♥️


روز علي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 11-05-23, 01:14 PM   #7

mansou

? العضوٌ??? » 397343
?  التسِجيلٌ » Apr 2017
? مشَارَ?اتْي » 3,016
?  مُ?إني » عند احبابي
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Algeria
?  نُقآطِيْ » mansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond reputemansou has a reputation beyond repute
?? ??? ~
«ربّ تَقَبَّلْ تَوْبَتِي، وَاغْسِلْ حَوْبَتي، وَأجِبْ دَعْوَتي، وَثَبِّتْ حُجَّتِي.»
افتراضي

مبروك نزول روايتك الحديدة موفقة فيها يارب
استمتعت كثيرا بقراءة الفصل وفي انتظار الفصل القادم
متشوقة كثيرا للاحداث القادمة وماتحمله لنا من احداث

روز علي likes this.

mansou غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 13-05-23, 01:17 AM   #8

روز علي
 
الصورة الرمزية روز علي

? العضوٌ??? » 478593
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 712
?  نُقآطِيْ » روز علي is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة mansou مشاهدة المشاركة
مبروك نزول روايتك الحديدة موفقة فيها يارب
استمتعت كثيرا بقراءة الفصل وفي انتظار الفصل القادم
متشوقة كثيرا للاحداث القادمة وماتحمله لنا من احداث

شكرا على مشاركتك يا عزيزتي واتمنى ان اكون دائما عند حسن ظنك ♥️

mansou likes this.

روز علي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 13-05-23, 07:20 PM   #9

حميدة حميدة

? العضوٌ??? » 471793
?  التسِجيلٌ » May 2020
? مشَارَ?اتْي » 533
?  نُقآطِيْ » حميدة حميدة is on a distinguished road
افتراضي

بالتوفيق حبيبتي بداية موفقة بانتظار المزيد من التشويق
روز علي likes this.

حميدة حميدة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 14-05-23, 02:07 AM   #10

روز علي
 
الصورة الرمزية روز علي

? العضوٌ??? » 478593
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 712
?  نُقآطِيْ » روز علي is on a distinguished road
افتراضي

فتاة حسناء صافية الروح ونقية الجسد
ملاك طاهر نزل على الأرض
طفلة ساذجة اطهر من الزهر
تحمل قلباً انقى من الجوهر
تجهل الشر والغدر
اساء الزمان إليها كثيرا
واقتاد لها ذئبا شريرا
اخطئ الجميع بفهمها
فانتهى بها المطاف ملامة
نظروا إليها الناس باحتقار
فما كان لها ذنب غير ان من ولدتها من الغجر


الفصل الثاني..........
دارت حول نفسها بجنون وهي تتخبط بأفكارها التي حبست بقضبانها وسورتها بمخاوفها القديمة الراسخة بحياتها مثل الشجرة تفرعت وامتدت لسنوات ، لتتنفس بعدها بنشيج مشحون بطاقة مؤلمة مثل حشرجة ساكنة بقلبها اليتيم لا تعرف كيفية نفضها وتنفيسها بالطريقة الصحيحة ، فمن قال بأنها تعافت بالكامل او تخطت كل ما حصل معها بالماضي ! كل ما فعلته هي بأنها تناست بحيلة خدعت بها عقلها واقسمت على روحها بالتجاهل واوصدت على قلبها بمئة قفل وباب ! وهذا لا يعني بالمعنى الحرفي بأنها حقا قد تجاوزت وتعافت كما ينظر الجميع لها ويظن بها...انها فقط تكابر وتجازف وتعيش كما يفعل الآخرين لكي تستمر بهذه الطريق التي كتب لها المضي بها مثل الكنية التي كتبت باسمها بدون اختيارها .
توقفت عن الدوران وهي تنتهي جالسة على طرف السرير بإرهاق داخلي اجهد قدراتها الفكرية والبدنية ، لتغرس اصابعها النحيلة بخصلات شعرها الفوضوية وهي تجردها من نعومتها بفركها بعنف وكأنها تنزع كل تلك الافكار عن عقلها قسرا ، لتتوقف تدريجيا وهي تخفض يديها عن شعرها ببطء حتى استقرتا على عنقها الظاهرة من ياقة قميص بيجامتها الواسعة ، وعادت مجددا تفكر بذاك الرجل الجديد بعائلة ذئاب الكايد والذي ظنت بأنه لن يظهر له اثر ولن يكون له وجود بحياتها وهو ابن عمها الغائب عن العائلة منذ ولادتها بل بالأصح منذ زواج والديه واستقرارهما خارج البلد....فهي كل ما تعرفه عنه تفاصيل صغيرة مختصرة والخطوط الاساسية العريضة التي يعرفها الجميع عن قصته الاكثر من مأساوية !...والتي لا تقارن بقصتها فهي موت والدها لم يكن امام عينيها ولم يكن بسن يسمح لها بفهم الامور !...فقد كانت بالسادسة من عمرها عندما توفي والدها...واما هو فقد توفي والديه بنفس اليوم وامام عينيه بحادثة مقتلهما من قبل عصابة غير معروفة ومجهولة الاصل داهمت منزلهما الآمن وسببت به كل تلك الكوارث...وليست هنا تكمن مشكلتها الحقيقية بل بمعرفته بتواجدها بذاك المطعم الذي خرجت له بدون علم احد وبتهور سيكلفها الكثير عندما يكشف حقيقتها وينطق لسانه بها...
رفعت رأسها بانتباه ما ان سمعت طرق خافت على باب غرفتها وهي تستنفر كل حواسها بحذر شديد ، لتتنحنح بعدها بصوت متشنج وهي تهمس بهدوء ظاهري
"نعم تفضل"
ظهرت الخادمة من خلف الباب وهي تقول بأدب
"لقد اصبحت مائدة العشاء جاهزة يا آنستي ، هذا إذا رغبتي بحضورها"
اتسعت حدقتيها الخضراوين وهي تدرك الوقت الطويل الذي استغرقته بالتفكير منذ عودتها من الجامعة وحجز نفسها بغرفتها ، لتقول بسرعة وهي تخفض يديها عن عنقها بابتسامة مرهقة
"اجل بالطبع ، سأنزل بعد قليل"
اومأت الخادمة برأسها وهي تغادر من الغرفة بصمت وتغلق الباب خلفها ، لتزفر انفاسها بهدوء وهي تنهض عن طرف السرير لتتجه امام طاولة الزينة ومقابل المرآة تماما ، لتتأمل شعرها المشعث بعدم اهتمام وملامحها التي تظهر خطوط دقيقة جدا حول عيناها الخضراوان وشفاهها الزهرية بإرهاق واضح عليها ، لتمسك برباط مطاطي رفيع وهي ترفع يديها وتعقد شعرها به على شكل ذيل حصان مهمل لكي تكبح جموحه وتسهل الحركة عليها .
ابتسمت برضا وهي تترك ذيل حصانها منسدل على كتفها بنعومة بعد ان كان فوضى عارمة ، لتضع بعدها دبوس شعر فضي بحبيبات اللؤلؤ تمسك به غرتها الطويلة على جانبها برقة ، وكم بدت بتلك الصورة اصغر عمرا وشكلا وكأنها لم تتجاوز الثالثة عشر من عمرها والحقيقة بأنها لم تتجاوز تلك السن بعد لا فكريا ولا شكليا وكأنها تذكرها دائما بما حدث بدون ان تدع لها الفرصة بالنسيان !
نفضت كل شيء عن ذهنها وهي تخرج مباشرة من الغرفة بأكملها وتتجه للممر المؤدي للسلالم بطابقها ، وما ان نزلت الدرجات حتى تسمرت بمنتصفهن لوهلة وكأن الزمن قد توقف عند تلك اللحظة الفاصلة ، فلم تكن عائلتها وحدها مجتمعة حول الطاولة بل هناك فرد رابع جديد انضم لها بدون ان تعرف ويجلس حول المائدة وكأنه واحد منهم ! لتعلق انفاسها بحنجرتها بتجمد ما ان ركزت تلك العينان الرماديتان عليها والوحيدتان اللتان انتبهتا لوجودها من بينهم واقفة من بعيد بدون الإتيان بخطوة...وبحركة واحدة من كفها التي ارتفعت لشعرها ادركت بأنها بدون وشاح فوق رأسها وهي تخرج هكذا امام مرأى عينين غريبتين سمحت لهما بالتجسس على جسدها والمرور عليه سرا وبحرية مطلقة ! وما هي ألا ثواني حتى لاذت بالفرار بأقصى سرعة وهي تصعد الدرجات ركضا عائدة من حيث جاءت قبل ان يعرف احد آخر بوجودها !
اتسعت ابتسامته بغموض ساحر وهو يشرد بأثرها مكان اختفاءها فوق السلالم ، ولا يعلم ما نوع تلك الصدفة الغريبة التي تجعلها اسيرة نظراته دوما لثالث مرة لليوم ! وبكل مرة يكتشف شيء جديد عنها يوسع نطاق إدراكه حولها ويفتح عينيه على اشياء اخرى تثير اهتمامه وتستحق المجازفة من اجلها ، فمن يتوقع ان تكون تلك الغربية الصغيرة اجمل بمئات المرات بشعرها الاسود الفاحم المجموع بذيل حصان على كتفها بوداعة اظهرت براءة مرهقة بشكل لا يوصف ! فيبدو بأن فكرة حجابها صائبة بحقها لكي لا تكون تلك المفاتن اثمان تدفعها بحياتها عندما تسحب المد نحوها وتغرق تحته !
استعاد تركيزه للجالس بجانبه ما ان قال له بجدية هادئة وهو يتفحص استمارات ونماذج ورقية بين يديه
"ستقضي هذه الليلة بمنزلنا بما ان منزلك لم يتجهز بعد بالكامل ، وقد طلبت من الشركة التابعة لنا ان ترسل عمال البناء والصيانة لمنزلك لكي ينهوا كامل الإصلاحات والتجهيزات بداخله بغضون يومين ، يعني بمساء الغد بإذن الله سيكون جاهزا للانتقال له ومؤهل للعيش به ، وسأتأكد من انضمامك لفريق العمل بشركاتنا الحديثة لكي تترأس الإدارة بها ، وإذا كان لديك اي اعتراض بهذا الخصوص يمكنك اخباري به وسيتم اخذه بعين الاعتبار !"
حرك عينيه ببطء نحوه وهو يقول بشبح ابتسامة بدون اي مرح
"لقد فعلت كل ما يلزم ويطلب منك ، ولا اعتقد بأنه بقي لدي شيء اضيفه عليك ، وقد احسنت حقا بضيافتك وقمت بالواجب على اكمل ما يكن ، وقلبي الآن صافي تماما نحوك ولا يحمل اي ضغينة ضدك ، لذا اهنئك حقا على هذا الاستقبال يا ابن عمي الكبير"
حدق به بجمود وهو يضع الاوراق امامه قائلا بخشونة
"هلا توقفت عن استخدام هذه الرسمية بالتكلم معي ! فأنا لم ارغمك على المجيئ إلي واستضافتك بمنزلي ! بل انت من اتيت إلي بقدميك وطلبت مني الدخول لحياتنا واعادتك لمكانك الطبيعي بالعائلة ، أليس كذلك يا ابن عارف ؟"
ادار (إلياس) رأسه بعيدا وهو يقول بخفوت مشتد خاوي
"ولكنك انت من شجعتني للعودة بصورة شخصية ودفعتني لذلك ، وانا قد استجبت للنداء بإخلاص وعدت إليكم ، فكما قلت لم يعد هناك مبرر منطقي لهربي اكثر ، واشتقت كثيرا للانتماء لهذه العائلة والتعرف عليها"
زفر انفاسه بهدوء وهو يضم قبضتيه فوق الاوراق قائلا بنبرته الجافة بعملية يستخدمها فقط عند المواقف الجدية
"متى قررت الذهاب للتسليم على عائلة عمتك ؟ فأنت للآن لا احد يعلم بوجودك هنا بالبلد غيرنا نحن ، ويتوجب عليك الإعلان عن عودتك بأقرب فرصة"
بهتت ابتسامته بوجوم حتى اظلمت ملامحه قبل ان يقول بقتامة خافتة لا تحمل اي ودّ او اشتياق
"سأفعل عندما تحين الفرصة عاجلا ام آجلا ، لا تقلق بهذا الشأن ، فأنا لم انسى احد من عائلتي قط"
رمقه بطرف عينيه الجامدتين وهو يقول بتصلب خافت
"ولكنك على ما يبدو نسيت بأن عمتك مقامها عالي بما انها كبيرة عائلتنا وقريبتنا الوحيدة المتبقية لنا بعد موت كلا من شقيقيها ، هذا بالنسبة لنا نحن ابناء مفلح الكايد ، واما انت فلديك خالك الوحيد زوج عمتك شهيرة والذي يكون كذلك ابن عم لمفلح وعارف الكايد ، هذا يعني بأن الاثنين يخصانك انت بالذات بصورة شخصية اكثر منا"
غامت ملامحه بالسحب الضبابية وهو يرجع بظهره للخلف يستند على ظهر الكرسي ، ليقول بعدها بجفاء بارد يصوب نظره بالبعيد
"هلا توقفنا عن التعمق بهذه المواضيع ! فأنا لم ارجع من الغربة لكي اقضي وقتي افكر بالآخرين وبمواقعهم بحياتي ، يكفي ان تضعني بالمكان الصحيح والذي يرقى بابن عارف الكايد"
تنهد سفيان بوجوم وهو يبعد قبضتيه ليمسك بالأوراق من جديد ويقول بتساؤل جاف
اين وضعت السيدة وداد ؟ فأنا لم ارها برفقتك عند مجيئك !""
ردّ عليه ببساطة وهو يلوح بيده جانبا
"لقد كانت برفقتي عند نزولي من الطائرة ، وبعدها وضعتها عند عائلتها واقاربها الذين يقطنون هنا ، واعطيتها إجازة طويلة الامد لكي تقضيها مع عائلتها وتكون بينهم فهي لم تراهم منذ مدة طويلة وستكون مشتاقة لهم جدا...."
تجمدت يده بالهواء وهو يلمح التي اصبحت بمنتصف درجات السلم تنزلها باتزان وثبات ، ولكن هذه المرة تلف وشاح اسود حول وجهها الدائري وترتدي ثوب قطني طويل بأكمام طويلة وياقة مغلقة وبالتأكيد لا تقارن بشكل بيجامتها السوداء الحريرية التي اظهرت منحنيات وتفاصيل جسدها بعناية وإسراف اكبر .
ما ان وصلت عند مائدة الطعام التي يجلسون حولها حتى تجاهلت وجوده تماما وهي توجه حديثها لشقيقها الكبير قائلة بخفوت مهذب
"هل استطيع تناول العشاء بغرفتي ؟ فأنا لا اشعر بنفسي بخير"
نظر لها بهدوء وهو يومئ برأسه بالإيجاب وقد فهمت إشارته تلك بسرعة ، لتستدير بعدها بلحظة تتحكم بنفسها بصعوبة كي لا تراه او تلمحه وهي تسير من فورها باتجاه السلالم باندفاع غير واعي ، ليخفض إلياس يده بصمت ويشبكها مع يده الاخرى وهو يتأمل رحيلها الصامت الجاف وكأنها تخاصمه تلك الهرة الصغيرة !
اخترق الصوت بجانبه افكاره التأملية وهو يقول بابتسامة جادة
"هيا تناول طعامك قبل ان يبرد يا إلياس ، فأنت بالتأكيد لم تتناول شيئا منذ وصولك للبلد ، واراهن بأنك قد اشتقت للطعام العربي المعدّ بالمطبخ الشرقي"
اخفض نظره لطبقه وهو يتأمله بعدم اهتمام قبل ان يرفع ملعقة من الحساء الساخن وهو يشربه على مهل ، لتتغضن ملامحه بانزعاج واضح وهو يقول لهم باستنكار عابس
"كيف لكم ان تتذوقوا من هذا الطعام الذي بلا نكهة او لون ؟ اعتقد بأنني سأحتاج للكثير من الوقت للاعتياد على الحياة هنا"
______________________________
تنفست بهدوء وهي تخرج من الحمام المرفق وتمسح يديها بالمنشفة القطنية الناعمة ، لتلقي بها فوق ذراع الكرسي بجوارها وهي تتبعه بجسدها والذي ارتمى جالسا عليه ، لتمسك بيدها تلقائيا بأصابع يدها الاخرى وهي تلتف حول معصمها وللمفاجأة كانت فارغة من اي سوار ! لتنتفض للأمام بسرعة وهي ترفع يدها تتمعن برسغها الابيض الفارغ الذي ترك علامة لخيط رفيع يخص سوار بدون وجود سوار !
تسارعت انفاسها بخوف وهي تتجول بنظرها حولها تحاول استرجاع احداث يومها لتعرف المكان الذي اضاعت به السوار المرابط لحياتها ونفسها ، نهضت عن الكرسي بسرعة حتى اهتز من خلفها بحركة طفيفة وهي تدور بالغرفة تتخبط بكل مكان علها تجده بزواياها ، وعندما يأست حملت نفسها واتجهت من فورها لباب غرفتها والخيار الوحيد المتبقي لها هو البحث خارجها ، قبل ان تتسمر كفها على مقبض الباب باستيعاب وهي تستعيد وعيها بثانية ما ان كانت سترتكب نفس الغلطة مجددا ، لترجع عدة خطوات للخلف بلمح البصر ثم امسكت بوشاحها المعلق بشماعة الملابس الجلدية لتلبسه حول وجهها بعشوائية عفوية وكأنها ترفع العتب عن نفسها بحال وجدته بالأرجاء خارجا ، فهي لم تعد تستبعد شيء بعد كل ما حدث معها اليوم اثبتت حقيقة العجائب السبعة التي تعايشها منذ مولدها !
سارت بالممر المظلم بخطوات صامتة وهي تتلفت حولها بكل ثانية بحيطة وخوف وكأنها تنفذ عملية هروب مصيرية بجنح الظلام ، نزلت السلالم المعتمة ببطء وهي تحاول الاستدلال بطريقها الذي لا ينيره سوى اضواء القمر المخترقة النوافذ العالية ، وما ان اصبحت ببهو المنزل الواسع حتى اضاءت مصباح هاتفها وهي تسلطه بكل مكان حولها بمهمة البحث العصيبة ، لتلاحظ بعدها ضوء اقوى يخترق المكان ويبدد الظلام حولها لتلتفت من فورها للخلف وتشاهد باب المنزل المفتوح على مصرعيه وعلى غير العادة فهو مغلق دائما بوقت الليل بعد العشاء ويفتح بالنهار الباكر ! إذاً ما لذي جعله يفتح بهذا الوقت تحديدا إذا لم يكن هناك احد خارج المنزل ؟ ام قد يكون هناك احد بالفعل قد خرج من المنزل !
نفضت رأسها بقوة وهي تستعيذ من الشيطان قبل ان تمشي بخطوات حذرة اتجاه باب المنزل الذي بات قريبا منها ، فإذا لم تجد ذاك السوار بداخل المنزل سيكون امام مدخله فهي ان لم تخنها ذاكرتها تذكر جيدا بأنها قد تسمرت هناك بعض الوقت عند لقاءها بابن العم المجهول واستقبال سفيان له .
وقفت بمكانها ما ان اصبحت خارج المنزل والباب خلفها وكأنها تخطت الحدود المسموحة لها بحياتها بتلك العائلة ، تجولت بعينيها الخضراوين حولها لبرهة حتى التقطته اخيرا سوارها الاحمر المقدس ، لتجثو بسرعة بالقرب منه وهي تمسك به بأصابعها الرقيقة لتضمه لصدرها بلحظة وتهمس بنشيج باكي ضعيف
"الحمد لله ، لقد ظننت نفسي قد اضعتك ، لقد كدت افقد اغلى ما املك بحياتي !"
مسحت اطراف عينيها بأصابعها وهي تلف الخيط الاحمر حول رسغها وتربط العقدة التي انحلت واسقطت السوار ، لترتعش بعدها مفاصلها بذعر ليس بسبب الهواء البارد بالخارج بل بسبب صوت الخطوات القادمة من خلفها تستشعر اقترابها بسرعة دقات قلبها العالية ، وما هي ألا ثواني صمت سادت بالمكان حتى جاء صوته ببرودة الاجواء حولها بهمس يتسلل للقب خلسة ويرعب اركانه
"يا لها من مفاجأة ! ماذا تفعل الهرة الصغيرة خارج قصرها ؟"
غرزت اسنانها الصغيرة بطرف شفتيها تسكت ارتعاش جسدها الملسوع وقلبها الذي يكاد يقتلها بقسوة ما تعايشه ، لترفع رأسها بسرعة ما ان تغيرت نبرته مع تقدم خطواته اكثر
"هل انتِ بخير ؟ هل تعانين من مشكلة ؟....."
صمت بصدمة ما ان استدارت نحوه باندفاع وهي ما تزال مستلقية ارضا تكاد تنكمش حول نفسها ويعانقها وشاح رأسها الذي انسدل على جانبيها مثل الستار الاسود ، توقف على بعد خطوتين منها وكأنه يحمي نفسه منها وهو يدس يديه بجيبي بنطاله ثم قال بخفوت واجم
"هل تتسللين دائما خارج المنزل بمنتصف الليل ؟ هذا التصرف لا يليق ابدا بابنة محترمة من عائلة الكايد ، ألم يعلمك احد اصول الانتماء لهذه العائلة !"
ابتلعت ريقها بصعوبة تتقبل إهانته بصمت وهي تمسك طرف وشاحها المتدلي على كتفها بإهمال يحتضن الارض تحتها ، ليميل بعدها بجسده نحوها وهو يريح يديه فوق ركبتيه ثم قال لها بابتسامة غامضة لم تتبينها من الظلام السائد عليها
"لما تصمتين دائما بحضوري ؟ اسمعيني صوتكِ لمرة ! تكلمي معي كما تتكلمين مع اشقائك ، هل انا مختلف عنهم بشيء ؟ ألست ابن عمكِ الوحيد ؟"
اتسعت حدقتيها الخضراوين بالظلام بخوف وهي تتشبث بيدها الاخرى بالأرض خلفها كي لا تنزلق مغشيا عليها وكل اطرافها قد تيبست عن الحركة تماما ، لتختنق شهقتها بحلقها ما ان تمادى ودنى اكثر منها حتى بات وجهه بنفس مستوى وجهها وهو يهمس بخفوت اجش حار
"هل ما تزالين لستِ بخير ؟ فقد قلتِ امام شقيقك بأنكِ لستِ بخير ، هل انتِ متوعكة ؟"
انتفضت تزحف للخلف ما ان امتدت يده تلامس وجهها البارد وهي تصنع بينهما مسافة امتار ، ليرتفع حاجبيه ببطء مستهجن وهو يرفع يده بجانب رأسه قائلا باستنكار ساخر
"لا تقلقي فأنا لا اؤكل البشر ! واتبع حمية نحوهم"
عقدت حاجبيها الصغيرين بوجوم وهي لا تشاركه دعابته التي لم تكن بمحلها بذلك الوضع ، انفرجت شفتيها بانفعال ما ان برقت عينيه الرماديتين باتساع موحش تضاهيان ضوء القمر وهو يتابع الهمس بعمق اكثر
"ولكنني لا امانع ان خالفت طبيعتي مرة وفتحت المجال لاستقبال اصناف جديدة من البشر"
اخذت لحظتين استيعاب بصمت قبل ان تقفز واقفة على طولها بعنف وهي تدرك المعنى الخفي من كلامه ، لتهمس بوجه محتقن وهي تستل نفسها هاربة من امامه
زير نساء !""
تسمرت بعد خطوتين بشهقة عالية ما ان طار الوشاح عن رأسها وسحب للخلف بقوة ، لتلتفت بوجه شاحب للخلف وهي تحدق بالوشاح الملقى ارضا وطرفه مندس تحت حذائه الجلدي الطويل والسبب الأول بنزعه عن رأسها ، لتزفر انفاسها بلوعة وهي تشعر بنفسها مجردة تماما الآن بدون ان تستطيع وقاية نفسها من نظراته التي اخترقتها بطلقة رصاصة قاتلة ، رمشت بعينيها بدموع خفية ترقرقت بهما وحرقت جفنيها للحظات قبل ان تنسحب اخيرا وتهرب بسرعة بما تبقى لديها من كرامة واعتزاز بالنفس .
سكنت ملامحه الجامدة وهو يراقب ظلها المرافق لها داخل باب المنزل المفتوح بعد ان جردها من غطاء رأسها ، ليخفض نظره بهدوء للوشاح الاسود القابع تحت سطوة قدمه بخنوع ، لينحني بعدها على جذعه ويمسك بالوشاح الرقيق وهو يرفعه امام نظره بصمت تام ، قربه من وجهه قليلا حتى بات طرفه يلامس انفه وشفتيه بعبث يستطيع استنشاق رائحة البلسم بداخله بوضوح التي تتخلل بهواء الليل البارد .
التوت طرف ابتسامته بسخرية وهو يهمس بشرود خشن وقبضته تحجز الوشاح بين اصابعه الفولاذية بقوة
"لقد تبين بأنها تملك لسان ، لسان وقح مثل الشهد !"
____________________________
صباح اليوم التالي.....
"برنامجنا سيكون كالآتي سنذهب بالبداية للشركة التي حددنا موقعك بها من بين شركاتنا حديثة البناء ، وسيتم عقد اجتماع إداري مع المؤسسين وابناء تلك الطبقة الذين سيحتلون المناصب الهامة بفريقك والادوار الثانوية الاخرى ، وعليك بتعريف نفسك امام الإدارة والتصريح عن مؤهلاتك وخبراتك العلمية والعملية واخذ موافقتهم بشكل رسمي ، وإذا لم نمر بتلك المراحل وتثبت نفسك بالشكل الصحيح فلن يتم قبولك بينهم بأي شكل ولن يساعدك اي احد ، ويمنع منعا باتا استخدام الواسطة والمحسوبية فمن اساسيات النجاح هنا النجاح بجهدك وتعبك فقط مهما اخذ منك الطريق وقتا وجهدا لتحقيقه !"
كان الرد الوحيد الذي صدر عن الجالس بجانبه حول المائدة هي تمتمة غير واضحة
"همممم"
رمقه بطرف عينيه بجمود وهو يقول بنبرة حادة
"هل سمعت كلمة مما قلت الآن ؟ ام تحتاج لترجمة توضيحية على كلامي !"
التوت ابتسامته باستهزاء وكأنه يمازحه قبل ان يقول بهدوء جاد بدون النظر له
"بلى لقد سمعتك جيدا ، فأنا بعد كل شيء ما ازال اجيد لغتي العربية بطلاقة رغم كل سنواتي بالغربة"
تجاهل تعليقه الاخير الذي لا يخدم مصالحه بشيء وهو يرفع كوب قهوته بهدوء ليقول بعدها بصيغة رسمية
"كما اخبرتك سوف نقصد الشركة الموجودة بالجنوب ونكون هناك عند الساعة الحادية عشرة تماما ، وهو موعد الاجتماع الذي سيقام على شرفك ويتم النقاش به عن منصبك هناك ، ولن نستطيع التأخر دقيقة واحدة فما ان ننتهي من كل هذه الإجراءات عليّ العودة لمكاني بالشركة التي اعمل بها ، فكما تعلم لقد كنت مشغول بتسوية صفقة خارج البلد لمدة شهرين وعدت حديثا منها ، لذا برنامجي مكتظ بمواعيد العمل المهمة والتي لن استطيع تجاهلها لأقضي طول نهاري عليك !"
تلاعب بالملعقة بين اصابعه وعينيه الفارغتين تتابعان ما يفعله بعدم اهتمام حقيقي ، لتتوقف حركة اصابعه لبرهة وترتفع عينيه تلقائيا ما ان انجذب نحو شيء اكثر اهتماما وصوت خطواتها المتسللة ترسم طريقها على درجات السلالم بحذر ، فهي لا تدرك بأن بها شيء من الاغواء العفوي الغير موجود سوى بنوعيات معينة من الإناث يولد كجزء فيهن ولا دخل للعوامل التعليمية او البيئية بما يحوّل بهن ويجعلهن اكثر الإناث طلبا وجاذبية ! ما عدا شيء لفت انتباهه سريعا وهو عرج طفيف بخطوات قدمها اليمنى لا تتناسق مع خطوات قدمها اليسرى وكأنها تصارع لكي تنتظم خطواتهما معا ! ويدها التي ترافقها طول مسيرتها بإمساك حاجز السلم تستمد القوة والعزيمة منه وكأنه صمام الامان بالنسبة لها !
كانت تنزل درجات السلم بصمت وهي تدرك نظراته المسلطة عليها والتي تتحاشى النظر لها بكل تعنت وكبرياء استعادته بليلة وضحاها ، بينما الجالس بمكانه يتابعها بكل اهتمام وحرية وابتسامة خفيفة تزين شفتيه وكأنه يستقبل كل عنادها وحزنها وخصامها بنهم وحب كبيرين وبدون اي ندم او حرج بعد ما حدث بالأمس ، وهو ما دفعها للجنون وتصاعد الدماء لوجهها القاني حد الانفجار وهي تستشيط غضبا بمعنى الكلمة .
لينتهي كل هذا ما ان وصلت للكرسي امام المائدة وهي تهمس بخفوت لطيف متعمدة ألا يصل له صوتها
"صباح الخير"
تلاشت ثقتها بنفسها بلحظة ما ان سمعت صوته المرتخي يهمس بخفوت اجش
"صباح النور يا حسناء"
نظرت لشقيقها الساكن بمكانه وهو مشغول بقراءة الاوراق بيده لم يسمع على ما يبدو كلامه او تجاهله ببساطة ولم يعيره اهتماما ، لتجلس على الكرسي بصمت وهي تعلق حزام حقيبتها على طرفه وتثبت نظراتها على الطبق امامها تدعو ان تنتهي هذه الفقرة من اليوم بأسرع ما يمكن ، لتفيق بعدها على صوت سفيان وهو يقول بهدوء عميق
"كيف تشعرين اليوم ؟"
اومأت لورين برأسها بهدوء وهي تهمس بابتسامة رقيقة
"الحمد لله افضل بكثير"
زمت شفتيها بارتجاف ما ان سمعت صوته للمرة الثانية يقول باهتمام مريب
"سلامتكِ يا ابنة عمي"
امسكت بخبز التوست ودست نصفها بفمها تلهي نفسها عن سماعه وهي تمثل الصمم على نفسها ، ولكن هذا الوضع لم يتغير وهو يتابع كلامه للمرة الثالثة قائلا بجدية وكأنه يهوى الحديث معها ومجادلتها رغم ممانعتها
"كم عمركِ الآن يا لورين ؟"
اخرجت التوست من فمها وهي تهمس بوجه محتقن بخفوت مستاء
"اثنان وعشرون عاما"
اخذ لحظات صمت يتأملها بدون ان تعرف بما يدور على ملامحه بسبب تجاهلها مواجهة نظراته مباشرة ، ليقول بعدها بلحظات باستفسار حائر
"ولماذا ما تزالين طالبة بالجامعة ؟ ألا تدخلون الجامعة بسن الثامنة عشر حسب القانون عندكم ؟ وتنتهي بحد اقصى بثلاث سنوات ونصف ! ام انكِ تقدمين دراسات عليا كما يفعل هيثم !"
شدت على يديها معا بتوتر استبد بها وهي تواجه اسوء موقف تتعرض له بحياتها قبل ان تهمس بشحوب باهت
"لقد دخلت الجامعة بسن متأخرة قليلا ، فقد فوت اختبارات الثانوية العامة لثلاث مرات وفقدت الفرصة لدخول الجامعة لثلاث سنوات ، وعند سن العشرين سمح لي بدخول الجامعة والالتحاق بها بمنتصف الفصل الدراسي مع الوفد الجديد ، وانا الآن قد انتهيت من ثلاث فصول دراسية تقريبا"
كان يومئ برأسه بصمت بدون ان تراه وهو يقلب كلامها بعقله بثواني ، قبل ان يقول مجددا ببساطة بدون ان يكتفي من حلقة الاستجواب
"وما هي نوع دراستك ؟"
ردت عليه من فورها بعدم حماس
"ادرس بقسم المسرح والموسيقى"
غزت ملامحه ابتسامة باهتة مجردة من المشاعر وهو يقول بهدوء ساخر
"هل هذه كل الإمكانيات التي يجيدوها نساء الغجر ؟"
رفعت رأسها بشكل مفاجئ نحوه وكأنها وقعت بالمصيدة بمنتهى السهولة وهي تتلاقى مع عينيه المترصدتين لها باتصال شرس ، لتحرر اسر انفاسها بارتجاف وهي تحني عيناها الهلاليتان بحزن عميق اذاب نظراته الجليدية وسحق غروره بثانية واحدة لم تكلف نفسها عناء الرد وكأنها اجادت الرد عليه باستخدام اغوائها فقط !
قطعت الاتصال بينهما ما ان ادارت وجهها ناحية شقيقها والذي تدخل بالنقاش قائلا بصوت خشن قاسي
"هيثم خذ لورين معك واذهبا للجامعة ، لكي لا تتأخرا اكثر على موعد وصولكما لها"
تحرك هيثم بصمت وهو ينهض عن المائدة ويغادر بعيدا باتجاه مدخل المنزل ، لتتبعه التي تحركت بصمت وهي تهمس بآخر كلماتها قبل ان تختفي خلف شقيقها
"اراكما لاحقا"
تجمدت ابتسامته وهو يفهم من آخر كلامها بأنها تخص اشقائها فقط بوداعها القصير وهي تخرجه من الصورة بقسوة فيبدو بأنه قد بالغ بإهانتها وجرح قلبها الصغير ، قال سفيان بعدها وهو يوجه كلامه لشقيقه الآخر الملتزم بالصمت بدون ان يشاركهما بالحديث
"يمكنك الذهاب لمقر العمل يا حذيفة وانتظاري هناك حتى مجيئي ، فأنا سوف استغرق بعض الوقت برفقة إلياس بوضعه بمكان عمله الجديد ، لذا اهتم بكل شيء بغيابي"
نهض حذيفة عن الكرسي وهو يقول بعملية رسمية
"سأفعل ذلك لا تقلق ، والآن عذرا منكما ، وبالتوفيق بعملك الجديد يا إلياس"
ردّ عليه إلياس وهو يبتسم بفتور
"ولك ايضا يا حذيفة"
ما ان غادر كذلك من امامهما حتى رجع إلياس بظهره للخلف وهو يقول بابتسامة جانبية بمغزى
"ما كان عليك إرسالها بهذه السرعة ، لقد كنت فقط استجوبها بشكل طبيعي جدا ، ولم اقصد ان اهينها بأي شكل"
وجه نظراته نحوه بصلابة وهو يقول بجفاء قاسي يحمل وعيد بباطنه
"انتبه جيدا لكلامك وتصرفاتك ، فأنا لن امرر لك بكل مرة ما تفعله مرور الكرام ، عليك توجيه تركيزك بعملك بهذه العائلة وإثبات وجودك بها فقط لا غير"
قطب جبينه بجمود لبرهة قبل ان يقول بشبه ابتسامة باردة
"هناك شيء لا افهمه هنا ، كيف تستطيع ارسالها للجامعة واختلاطها بذاك العالم الواسع ببساطة ؟ افهم جيدا سبب تأخرها بدخول الجامعة وعدم رغبتكم بالتحاقها بالتعليم العالي ، ولكن ما لذي غير رأيكم هكذا حتى سمحتم لها بإكمال تعليمها مجددا ! قد تكون قد نسيت ولكنها تبقى ابنة امرأة غجرية من عشيرة بلا نسب او اصل ! والدماء والجينات دائما تحكم بالإنسان وبتصرفاته حتى يسير على هواها ويخضعه لها ، لذا ثقتك الكبيرة بها بلا معنى او هدف ، فأنت تثق بالشخص الخطأ...."
ضرب بقبضته على سطح الطاولة حتى اهتزت الموائد فوقها لوهلة ليتبعها بالقول بتصلب بدون اي انفعال
"ليس لديك الحق بمحاسبتي على اي قرار اتخذه بشأن عائلتي ، ولكي اذكرك لورين تملك دماء ونسب مفلح الكايد ، ولا يهم اسم من انجبتها ومن تكون اصلا فما يهم بأنها فرد يملك حقوق بالعائلة وجزء منها ! فهي ابنة الزعيم مفلح الكايد صاحب الدماء العريقة وتربية اشقائها الذئاب"
تجمدت عينيه الرماديتين بلحظة ما ان تابع الأول كلامه بغضب اكبر وكأنه ينتقم منه على كل كلمة قالها بحقهما
"ولا تحاول مجددا تشبيهها بنسائك الاجنبيات ، فهي لا تشبههن بشيء قطعا ! لا بالشكل ولا بالداخل ولا بالأصل"
ضاقت عيناه بوحشية للحظة فقط استطاع ان يستجمع نفسه بها بعد ان انتقم منه شر انتقام بسبب إهانة شقيقته ، قبل ان يرسم ابتسامة ساخرة على محياه وهو يقول بمرح مزيف
"لقد رددت لي الإهانة بصورة مضاعفة ، فقد استطعت بذكاء ان تدور بالكلام بعيدا عنها ليتوجه نحو حياتي الشخصية وتصوب الطلقة عليّ ، لينتهي بي المطاف انا الملام والمذنب هنا ، هل لديك يا ترى عداوة مع حياتي !"
تلبدت ملامحه وهو يضم قبضتيه فوق سطح الطاولة قائلا بعدم تهاون
"العداوة الوحيدة التي اشعر بها هي طريقتك بخلط حياتك هناك بالحياة هنا ، متناسي تماما بأن الحياة هنا تختلف تماما عن حياتك بالخارج ، ولا يوجد اي وجه شبه بينهما !"
اشاح بوجهه بعيدا بدون اي تعليق قبل ان يستغل فرصة انفتاح الموضوع وهو يقول بجدية ارتسمت على ملامحه وصوته
هل انفصلت حقا عن تلك الامريكية ؟""
ساد الصمت من جهته ثقيلا للحظات قبل ان يجيبه بهدوء فاتر
"بلى لقد انفصلت عنها قبل شهرين من الآن ، بعد زواج دام لثلاث سنوات"
عقد حاجبيه بتفكير وهو يقول باستغراب
"وما هو السبب ؟"
اختفت ابتسامته تماما وهو يحرك كتفه باستهانة قائلا بتعبير غامض
"لقد هجرتني اولاً بعدها طلبت مني الانفصال عنها ، وانا نفذت لها ما تريده بكل رحابة صدر"
ارتفع حاجب واحد بدهشة وهو يقول باستنكار واجم
"غير معقول ما يحدث معك ! الأولى خانتك ، والثانية هجرتك ، هل تجازف هكذا بكل مرة فقط لتحصل على جنسية البلاد الموجود بها ؟"
تجمدت ملامحه بقسوة وهو يحدق بالفراغ امامه بوجوم خاوي ليهمس بعدها بنبرة باردة خالية من المشاعر
"لقد حكم عليّ منذ سنوات ان ادور بلدان الغرب مثل التائه عن دياره ، ومن عادتي بأني لا احب العيش بأرض بدون الانتماء لها والحصول على جنسيتها رسميا لكي لا يطلب مني بعدها الترحيل عنها او هجرها ، والهدف من تلك الزيجتين لم يكن من اولويات تأسيس عائلة او رعاية اطفال او كتابة اسمي بجانب هوياتهم ، بل كان الأهم من كل هذا هو الحصول على حق العيش مثلهم والاعتراف بي فرد جدير بالثقة ويعتمد عليه بينهم ، وقد كسبت مرابح كثيرة من هذه المجازفات فقد استطعت الالتحاق بجامعاتهم والحصول على مناصب هامة بالسياسة والإدارة والتجنيد بمعسكراتهم ، رغم كل الجوانب السلبية بطرق العيش الصعبة ولكن الجوانب الإيجابية تطغى عليها"
حرك عينيه بعيدا بعدم اهتمام وهو يقول بهدوء جاف
"كل هذه المعلومات لا تهمني فهذه حياتك انت ولا شأن لي بها ، فكل شخص يختار طريق حياته الذي يريد سلكه والعيش بطريقته ، ولكن الجيد بأنك قد عدت بالنهاية عن تلك الطريق وعدت إلى ارضك واصلك الحقيقي ، وتخليت عن جنسياتك المتعددة واسم ريس المكتوب بهوياتك المزيفة"
رمقه بطرف عينيه الخاويتين وهو يقول بشبح ابتسامة ساخرة
"لن تفهم شيء مما اعانيه ، فأنت قد اكتفيت بامرأة واحدة لم تغيرها حتى بعد رحيلها عن العالم ، ويبدو بأنك ستبقى هكذا عازف عن النساء وممنوع عن ملذات الحياة لما تبقى من شبابك وعمرك !"
احتدت ملامحه بلحظة وهو ينهض عن الكرسي بقوة حتى اصدر صوت احتكاك مزعج بالأرض ليلتقط بعدها الاوراق من فوق الطاولة قائلا بنبرة العمل الإلزامية
"هيا بنا لنغادر قبل ان نتأخر على موعد الاجتماع ، فلا اريد ان اضيع المزيد من وقتي بنقاشات شخصية لا طائل منها ، وإذا تأخرنا بالوصول بسببك فلا تحلم بالانضمام لفريق عمل الشركة ولن اساعدك بشيء حينها"
غادر بعدها امام عينيه باتجاه باب المنزل بعد ان انتهى من تهديده الكلامي ، لينهض الآخر عن الكرسي وهو يلتقط قطعة توست ويكمل قضمها بطريقه للخارج فقد وجد اخيرا شيء يحبه بهذا المكان غير النساء والقهوة .

يتبع........


روز علي غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:18 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.