آخر 10 مشاركات
جددي فيني حياتي باللقاء *مميزة ومكتملة* (الكاتـب : وديمه العطا - )           »          انتصار الإسباني (48) للكاتبة: Daphne Clair (كاملة+روابط) (الكاتـب : Gege86 - )           »          78 - القرصان - ماري ويبرلي - ع.ق ( كتابة / كاملة )** (الكاتـب : أمل بيضون - )           »          237 - عاصفة الصمت - بيني جوردن (الكاتـب : Fairey Angel - )           »          في قلب الشاعر (5) *مميزة و مكتملة* .. سلسلة للعشق فصول !! (الكاتـب : blue me - )           »          تسألينني عن المذاق ! (4) *مميزة و مكتملة*.. سلسلة قلوب تحكي (الكاتـب : كاردينيا الغوازي - )           »          أهلاً بكِ في جحيمي للكاتبة الفاتنة: عبير قائد (بيـــرو) *كاملة & بالروابط* (الكاتـب : Omima Hisham - )           »          اكليل الصبار ج1- من س اني عشقتك -قلوب أحلام زائرة- بقلمي:زهرة سوداء(مكتملة&الرابط) (الكاتـب : زهرة سوداء - )           »          تائــهــة في عتمتـك (الكاتـب : نسريـن - )           »          22 - ضربة شمس - اليزابيت اولدفيلد - روايات عبير الجديدة (الكاتـب : samahss - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

Like Tree46Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 28-01-16, 10:52 PM   #1

خيااال
 
الصورة الرمزية خيااال

? العضوٌ??? » 360178
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 189
?  نُقآطِيْ » خيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond repute
افتراضي [ابنة السماء] * متميزه *مكتمله



السلام عليكم ورحمة الله وبركاته


ها قد عدت إليكم بروايتي الثانية والتي تعتبر امتداداً للرواية التي سبقتها [على جناح تنين..]
فهي خيالية أيضاً، وتتحدث عن ذات العالم الذي دارت فيه أحداث الرواية الأولى
لكن لهذه الرواية أبطالاً مختلفين وخطاً زمنياً مختلفاً كذلك

هذا غلاف الرواية


الرواية طويلة نوعاً، بخمس وعشرين فصلاً دون فصول إضافية
وتحكي عن فتاة تسعى لأن تثبت نفسها وقدراتها في مجتمع يستنكر أي شأن للمرأة
فهل، وكيف، ستنجح بطلتنا في ذلك؟




فصول الروايه

المقدمة والفصل الاول ... بنفس الصفحة








الفصل الثاني عشر








الفصل السادس عشر



أتمنى لكم المتعة مع أحداث هذه الرواية
ولا تنسوا رؤية الخارطة الخاصة بهذا العالم في الرد الذي يليه


ندى تدى and noor elhuda like this.


التعديل الأخير تم بواسطة um soso ; 21-03-16 الساعة 07:32 AM
خيااال غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 28-01-16, 10:55 PM   #2

خيااال
 
الصورة الرمزية خيااال

? العضوٌ??? » 360178
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 189
?  نُقآطِيْ » خيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond repute
افتراضي

هذه خارطة توضح العالم الذي تدور في أحداث هذه الحكاية
وموقع سهول الأكاشي فيها (وهو الموقع الرئيسي في هذه الرواية)



وهذه خارطة تفصيلية للسهول توضح مواقع أغلب القبائل التي ستظهر في الرواية لفهم أكبر للأحداث



للأسف لم أتمكن من وضع الخارطة بحجم كبير لئلا يستعسر على الجميع رؤية الصورة
ولأن المقدمة طويلة، سأكتفي بوضعها اليوم على أن نبدأ عرض الفصول يومياً منذ الغد بإذن الله تعالى

noor elhuda likes this.

خيااال غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 28-01-16, 11:03 PM   #3

خيااال
 
الصورة الرمزية خيااال

? العضوٌ??? » 360178
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 189
?  نُقآطِيْ » خيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond repute
افتراضي

المقدمة {فتاة وصبي}




ركعت الفتاة الصغيرة ذات الخمسة أعوام وهي مثقلة بمعطفها الصوفي الضخم والغطاء الذي يغطي رأسها حتى حاجبيها.. كانت وسط سهول خضراء شاسعة غمرتها شمس العصر بأشعتها الذهبية التي تنبئ بقرب غروبها وباقتراب الليل الحثيث من تلك المساحات جالباً معه البرد القارس عادة.. رفعت الفتاة الغطاء الذي بدأ ينسلّ على عينيها العسليتين ونظرت للجسد الذي استلقى على الأرض العشبية أمامها بتفحص وفضول كبيرين..
فأمامها، كان الرأس الذي يغطيه شعر أشقر بلون ثلجي يتطاير بنعومة مع النسمة الخفيفة رغم قصره.. ولم يكن يفسد ذلك المنظر إلا الدماء التي خضبت جانباً من رأسه ووجهه الذي غدا بلا معالم.. لكن ذلك لم يرعب الفتاة الصغيرة وهي تمد يداً دقيقة نحو ذلك الشعر وتعبث به متلمسة إياه بدهشة تامة.. كان شعوراً جميلاً استمتعت به بشدة وهي تتلمس الشعر الذي بدا لها بنعومته كخيوط حرير، وتساءلت عن الكيفية التي يمكنها بها الاحتفاظ بهذا الشعر الجميل مدة أطول..
سمعت خطوات تقترب منها وتقف جوارها وصوت رجل يقول "ججي.. ما الذي تفعلينه قرب هذه الجثة؟.."
التفتت إليه الفتاة متسائلة بلهفة واضحة "هل يمكنك أن تصنع لي مخدة من هذه الجمّة الشقراء؟.."
ابتسم الرجل بتعجب وقال "لمَ؟.. ألا تعجبك المخدات المصنوعة من صوف الخراف؟.."
قالت الفتاة وهي تتلمس الشعر من جديد "هذا أكثر نعومة من ذلك الصوف الخشن.. لقد أحببته كثيراً.."
ربت الرجل على رأسها قائلاً "ليس ذلك ممكناً.. هيا، ستعاود القافلة رحلتها الآن.."
نهضت الفتاة وهي تعدل غطاءها الذي انسلّ متساءلة ببراءة "لمَ لا يمكنني ذلك؟.. أهو ملاك؟.."
قال الرجل بابتسامة جانبية "الملاك لا يموت بهذه السهولة وبسيوف البشر يا ججي.."
تلفتت الفتاة حولها نحو ذلك السهل الأخضر الذي افترشت الجثث المتناثرة جزءاً كبيراً منه، وهو منظر اعتادته رغم سنوات عمرها القليلة ولم تعد تتساءل عن سببه ومغزاه.. بل بدا لها منظراً اعتيادياً كما يعتاد الصياد رؤية طريدته الذبيحة ولا يرفّ له جفن لذلك..
ألقت نظرة أخيرة على الشعر الثلجي، ثم تنهدت بأسىً وهي تستدير مغمغمة "سيكون النوم على وسادة من هذا الشعر مريحاً جداً.."
تبعت الرجل الذي سار نحو قافلة متوسطة الحجم مكونة من الخيول والجمال ذات اللون الأسود، والتي كانت تنوء بأحمالها الثقيلة.. كانت البرودة قد تزايدت في هذه السهول وبدا أن الشتاء وشيك والثلج سيغمر المكان في أي لحظة.. ولهذا السبب، فإن تلك القبيلة اضطرت لحمل خيامها الثقيلة على ظهور الجمال ومتاعها على العربات التي تجرها الأحصنة في طريقها نحو الجنوب الأكثر دفئاً من الشمال، يحدوهم الأمل أن تبقى بعض السهول خضراء في هذا الشتاء الطويل ولا تغمرها الثلوج بشكل كامل، مما قد يهدد بالقضاء على ماشيتهم وحيواناتهم وبالتالي تجويع أفراد القبيلة كاملة..
اقتربت ججي من أحد الأحصنة حيث امتطاه رجل يتجاوز الخامسة والخمسين من عمره، بلحية طويلة حمراء خالطها بياض ووجه غزته التجاعيد لعبوسه الدائم.. نظر الرجل للفتاة التي قالت بلهفة "هل أستطيع ركوب الحصان معك يا أبي؟"
لم يتحرك الرجل من موقعه وهو ينظر لها بصمت، ثم قال بهدوء "النساء لا يركبن الأحصنة.. عودي للخلف واصعدي لإحدى العربات مع أمك.."
تساءلت من جديد "لماذا؟"
قطب الرجل شيئاً ما، بينما اقترب منها شاب لا يكاد يتجاوز السابعة عشرة من عمره وقال بحزم "ججي، ألم نتفق على أن تطيعي ما يقال لك؟"
التفتت إليه قائلة بسرعة "أنا لم أعصِ ما يقال لي.. لكني أريد معرفة سبب امتناع النساء عن ركوب هذه الأحصنة يا أخي.."
قال الشاب وهو يدفعها نحو الخلف "لأن هذا يجلب الحظ السيئ.. والآن اصعدي للعربة بسرعة فالقافلة ستبدأ سيرها.."
تنهدت ججي بحسرة وهي تتأمل الموقع الذي بدا لها عالياً على ظهر الحصان الذي يمتطيه أبوها.. ألن يكون المنظر مسلياً ورحباً أكثر من التطلع من خلف الستار الذي يغطي العربة؟.. لم تتمكن من الاعتراض وهي تتأفف بصوتٍ واضح وتسحب خطواتها نحو العربة، بينما انتبه الشاب لرجل يقترب من الأب قائلاً "أيها الزعيم.. هناك فرقة أخرى من الأعداء على مسير عدة ساعات منا.. ولو تركناهم فقد يهاجمون معسكرنا ليلاً كما حاولت هذه الفرقة التي هاجمتنا الآن.."
قطب الزعيم مفكراً وهو يمسد لحيته بينما اقترب الشاب منه قائلاً بحماس "فلنقضِ عليهم الآن.. هذا خيرٌ من انتظار هجومهم علينا.."
قال الزعيم ببطء "هذا حلٌ أفضل بالتأكيد يا سيجان، لكن وجود النسوة والأطفال معنا هي نقطة ضعف كبيرة.. لا ندري ما الذي سيجري أثناء غيابنا عن القافلة.."
تقدم سيجان قائلاً بحماس أكبر "اترك لي أمر هذه الفرقة يا أبي.. سأذهب أنا برفقة عدد من رجالنا وسنتخلص منهم بسرعة، بينما ترحل أنت مع البقية للموقع المحدد لمعسكرنا هذه الليلة.. وعندما نفرغ منهم سنعود إليكم ظافرين بالتأكيد.."
نظر الزعيم لملامح الشاب المتحمسة ويده التي تضغط على سيفه العريض المعلق بحزامه، بينما قال الرجل القريب "ربما كان هذا اقتراحاً جيداً.. ستكون هذه خبرة ملائمة لسيجان فهو في سنٍ مناسبة لقيادة الرجال.."
نظر الزعيم للشاب بنظرة جانبية وشيء من الفخر يتبدّى في ابتسامته، ثم قال بحزم "لا بأس.. خذ ثلاثين رجلاً وتخلص من فرقة الأعداء تلك يا سيجان.. أريدك أن تعود قبل أن يرتفع القمر في السماء هذه الليلة، وأريدك أن تعود ظافراً.."
وقف الشاب باعتداد وقال "سمعاً وطاعة يا أبي.."
وأسرع عائداً لحصانه الذي وقف قريباً، بينما قالت ججي وهي تجلس قرب أمها في تلك العربة الضيقة التي ملأتها صناديق وجرارٌ عدة "لماذا يركب الرجال الأحصنة بينما نجلس نحن في هذه العربات؟"
قالت الأم التي جلست قربها وهي تحمل رضيعة لم تتجاوز تسعة أشهر بين ذراعيها "كما قال لك سيجان.. النساء غير مسموح لهن بركوبها كما الرجال.."
نظرت ججي لأمها قائلة "لماذا؟.. ما الفرق بيننا وبينهم؟"
مسحت الأم على شعر الفتاة الذي تدلّى من تحت غطاء رأسها، وتخللت خصلات شعرها الأحمر الذي تموج تموجات جميلة بأصابعها متأملة ملامح الفتاة الناعمة وعينيها الواسعتين العسليتين وفمها الأحمر الصغير.. ثم تنهدت قائلة "الرجال أكثر قوة وشدة منا، وهم من يتولى حمايتنا والقيام بالأعمال الشاقة كلها، ولذلك هم من يضع القوانين والأعراف في قبيلتنا والقبائل الأخرى.. أما النساء، فهن ضعيفات ومغلوبات على أمرهن.. كل ما يهم الرجال بنا هو جمالنا والأبناء الذين نحملهم في بطوننا، ولا نملك نحن إلا التسليم بالأمر.."
نظرت ججي لأمها التي لم تكن تجاوز الثلاثين بكثير، بجمال ملحوظ وشعر طويل مموج بلون أشقر، وبشرة ناعمة سمراء وعينين وادعتين عسليتين ورموش طويلة.. كانت بالفعل جميلة، لكن هل هذا سبب لكونها تجلب الحظ السيئ؟.. ما الفائدة من هذا الجمال إذاً؟..
خفضت ججي وجهها مدمدمة "أنا لا أريد أن أكون من النساء.. أريد أن أركب على ظهر الحصان كأخي سيجان.."
أمسكت الأم كتف ججي قائلة بحزم "إياك والتفكير بهذا يا ججي.. رجال القبيلة يتعاملون مع هذا الأمر بصرامة شديدة.. لا أريد أن تواجهي عقاباً على مخالفتك الأوامر.."
شعرت ججي بالعربة تبدأ سيرها خلف بقية القافلة، فنظرت جانباً للسهول التي تسير ببطء شديد وغمغمت بضيق "لمَ أنال عقاباً لأنني فتاة حتى لو لم أرغب بأن أكون كذلك؟.."
تنهدت الأم وهي تضمّها لصدرها مغمغمة "هذه هي قوانين الأكاشي يا طفلتي.. وليس علينا سوى الانصياع إليها بتسليم تام.."
لم تعلق ججي وهي ترى سيجان ينطلق على ظهر حصانه متجاوزاً القافلة في الاتجاه المعاكس، ولما رأى ججي لوّح لها بيده بابتسامة واسعة وعدد من الرجال يتبعونه على أحصنتهم.. لاحظت ججي الابتسامة السعيدة على وجه أخيها الفخور، فحسدته بشدة على ما يتمتع به من حرية مقارنة بكل تلك القوانين التي تحكمها كفتاة في هذه القبيلة.. ولصغر سنها، فإنها لم تستوعب بعد ما يعنيه ذاك الحظ السيئ الذي تجلبه معها كفتاة.. كيف يمكنها أن تمنعه من المجيء معها كلما قابلت أباها؟.. كيف يمكنها أن ترسم الابتسامة على وجه أبيها دون أن يدمدم كلما رآها متذكراً الحظ السيئ الذي يأتي معها؟.. هل يرى شيئاً لا تراه هي؟..

************************

في تلك الليلة، أصرّت ججي على انتظار عودة أخيها رغم إصرار أمها على ذهابها لفراشها اتقاءً للبرد الذي تزايد بشدة.. لكن ججي جلست قرب مدخل الخيمة الواقعة وسط المعسكر المؤقت الذي نصبه الرجال لتلك الليلة، وظلت تنفخ في يديها لتبعث الدفء فيهما وتتطلع لجانب المعسكر بحثاً عن أثر لسيجان وبقية الرجال.. كانت تأمل أن تسمع منه حكايات مثيرة عما جرى له في مهمته تلك، وهي دائماً تستمتع بحكاياته وأحاديثه.. ولم تدرِ متى غزا النعاس عينيها إلا عندما انتبهت وسط الظلمة لتجد أنها على فراشٍ صوفي في جانب تلك الخيمة.. ووجدت أباها يجلس على فراشه بصمت مطرقاً بينما أمها القريبة تهمس "لمَ أنت قلق هكذا؟.. ألست واثقاً من قدرة ابنك على قيادة أولئك الرجال؟"
لم تسمع ججي رداً والنوم يجبرها على إغلاق عينيها لتغرق في أحلامٍ طويلة لن تذكر منها شيئاً كالعادة عندما تستيقظ.. ولم يوقظها فجر ذلك اليوم إلا ثغاء الأغنام التي ربطت في جانب المعسكر وهي تضجّ بالأصوات العالية لإطلاقها كي تتمكن من تحصيل رزقها من السهول الخضراء تلك.. عندها نهضت ججي بكل نشاط وأسرعت ترتدي معطفها الملقى جانباً دون أن تغسل وجهها، وركضت خارجة من الخيمة الخالية وهي بحماس لإطلاق الأغنام بنفسها هذه المرة ومصاحبتها في المراعي القريبة قبل أن تبدأ القافلة سيرها هذا اليوم..
وفي الخارج الذي كان أشد برودة عن الجو داخل الخيمة، لاحظت ججي الضباب المخيِّم على المكان بحيث بدا لها رجال ونساء القافلة كأشباح يسعون بصمت وسط المعسكر.. توقفت ججي عن ركضها لدى رؤيتها شبح أبيها يقف وسط المعسكر بصمت، ثم لاحظت أولئك الرجال الذين تقدموا منه بصمت أيضاً وخطىً وئيدة.. انتاب ججي بعض الفضول وهي تتقدم من موقعهم بحثاً عن سيجان، وعند اقترابها، لاحظت ذلك الجسد الذي أنزله الرجال بشيء من الرفق أرضاً أمام الزعيم.. ومن بين بعض الحشود الذين تجمهروا لرؤية ما جرى، انسلّت ججي بخفة بين الأقدام حتى اقتربت من موقع أولئك الرجال وتقدمت من ذلك الجسد بفضول..
وأمامها، على الأرض العشبية الندية الرطبة، رأت جسد أخيها الطويل يستلقي أرضاً بشكل مشابه للجسد الذي رأته في اليوم السابق.. والفرق هنا أن الدماء لم تكن تغطي رأس أخيها بل عنقه، من موضع ذلك الجرح الذي زيّن العنق في جانبه.. وقفت ججي للحظات تنظر للمنظر بصمت ودهشة، ثم رفعت بصرها فيمن حولها لترى الارتياع والحزن في أعين الرجال والنساء القريبين منها.. ولما دارت ببصرها إلى أبيها رأته ينظر للجسد بصدمة وذهول كبيرين وهو صامت كما كان، بينما قال أحد الرجال الذين أحضروا الجسد "لقد قمنا بهجوم ناحج على تلك الفرقة الصغيرة التي لا تبعد الكثير عن موقعنا، لكنهم فاجؤونا بكمين لم نتوقعه.. لقد اختبأ بعض رجال تلك الفرقة خلف التلال القريبة وأمطرونا بسهامهم قبل أن نتخلص من رفاقهم.. فقدنا رجلين من رجالنا، وأصيب سيجان بضربة غادرة لم يتمكن أحدنا من حمايته منها.."
قال الأب بصوت حاد "كيف يحدث هذا وهو وسطكم؟.. أهكذا تقومون بحماية قائدكم؟.."
لم يجب أحد الرجال وهم يخفضون رؤوسهم بصمت، بينما قال الأب بمرارة واضحة "لقد مات سيجان وهو وسط ثلاثين رجلاً من رجالي الأشداء.. تعساً لكم.. كيف لم تتمكنوا من تجنيبه هذا المصير؟"
بدا الندم واضحاً على وجوه الرجال من حولها، بينما لم تشعر ججي بأي انفعال لمثل هذا المنظر بل ظلت تتأمل ما يدور حولها بصمت.. لم تفهم معنى الموت، ولا تفهم لمَ اختار أخيها بالذات من بين بقية الرجال.. ألأنه الأفضل بينهم؟.. سمعت أبيها يقول لمن حوله من أفراد القبيلة بصوت متحشرج "غادروا.. اتركوني وحيداً.."
أسرع الجميع لتنفيذ قوله بسرعة وصمت وشيء من الإشفاق يتبدى على الوجوه، بينما لاحظت ججي أن أمها كانت تقف في جانب المعسكر وهي تشير لها لتبتعد بدورها.. لم تطِعها ججي هذه المرة مع أنها تدّعي دائماً أنها لا تعصي أمراً من أبويها، بل ركعت قرب رأس أخيها ومسحت بعض التراب الذي غطى ملامحه وهي تناديه ليفتح عينيه.. رأت أباها يتهاوى قرب الجسد وهو يتلمسه بلهفة وجزع واضحين، ثم قال لها بصوت متحشرج "أرأيتِ يا ججي؟.. لقد اختطف الموت أخاك.. اختطف ابني الوحيد ليجعلني مجرداً من أي وريث وأي سند في هذه الحياة.."
تساءلت ججي ببراءة "ربما لأنه يحب أخي كما أحبه أنا.."
نظر لها الأب بمرارة، ورأت ججي دمعتان تسيلان على خديه قبل أن يخفض وجهه قائلاً بحسرة "وا أسفاه على سيجان وعلى شبابه وقوته التي لم يهنأ بهما.. لمَ اختاره الموت من بين البقية؟"
وتشبث بجسد الشاب بقوة وهو يخفي دموعه التي سالت بغزارة، بينما لم تفهم ججي سبب بكائه.. لقد رأت عدداً كبيراً من الأجساد الملقاة غارقة بدمائها منذ وعَت الدنيا.. فلمَ هم يفرحون عندما تكون الأجساد لغرباء عنهم، ويبكوا لمرآها عندما تكون لشخص عزيز عليهم؟.. كانت تملك الكثير من الأسئلة التي تحيرها كالعادة، لكنها لم تجرؤ على طرحها وهي تشهد حزن أبيها العارم.. ثم قالت له "لا تبكِ يا أبي.. لمَ أنت حزين هكذا؟"
وتناولت خوذة سيجان التي سقطت أرضاً قرب رأسه، فوضعتها على رأسها وهي تقول بحماسة "لو رأيت هذا الموت، فسأقتله بالسيف دون تردد.. متى ستمنحني سيفاً مثل سيجان يا أبي؟"
رفع الأب بصره ونظر لججي بألم.. كانت الخوذة أكبر منها وتكاد تغطي عينيها اللامعتين، بينما نهضت ججي وتقدمت من حزام سيجان حيث سيفه المعلق، فسحبته بعسر وحاولت رفعه قائلة "سأقتله دون تردد، وسيعود لنا سيجان كما كان من جديد.. أليس كذلك؟.."
لكنها لم تتمكن من رفع السيف الثقيل وهو يتهاوى أرضاً، فنظرت لأبيها بقلق لئلا ترى الخيبة في عينيه وهي تحاول رفع السيف مجدداً.. ولما رأت أن دموع أبيها لم تتوقف، تركت السيف واقتربت منه فتشبثت بثيابه قائلة بقلق "لمَ البكاء يا أبي؟.. لو لم أتمكن من قتل الموت، ألن يعود لنا سيجان؟.. هل سيبقى هكذا للأبد؟.."
لم يجبها الأب وهو ينهض ماسحاً دموعه بكم ثيابه، ثم استدار مبتعداً عن جسد سيجان مشيراً لأحد رجاله ممن كان يقف جانباً بصمت.. اقترب الرجل مع آخر وحملا جسد سيجان وججي تراقبهما بقلق وعدم فهم.. ثم رأتهما يحملان الجسد خارج المعسكر في موضع بعيد بينما بقيت هي بانتظار جواب من أبيها الذي ابتعد دون أن يتفوه بكلمة.. نظرت حولها للحظة، ثم رفعت مقبض السيف الثقيل وسحبته خلفها وهي تركض خلف أبيها حتى تجاوزته بعسر.. عندها رفعت الخوذة الواسعة عن عينيها وهتفت له "ثق بي يا أبي.. سأفعل أي شيء لاستعادة سيجان.. لن أكون فتاة بعد الآن.. سأكون رجلاً مثل سيجان، وسأستعيد أخي الحبيب من الموت رغم أنفه.. ألن تكون سعيداً عندها يا أبي؟"
نظر لها الأب بنظرة مبهمة، ثم تجاوزها عائداً لخيمته بظهر محني وصمت تام.. ظلت ججي تراقبه بصمت وإحباط، وهي التي كانت تودّ لو يدلّها على موضع ذاك الموت الذي منع أخاها من العودة إليهم كما كان.. بينما تقدمت منها أمها بخطوات سريعة فلطمت السيف من يدها وخلعت الخوذة عن رأسها ورمتها جانباً وهي تقول بتوتر كبير "ما الذي تظنين نفسك فاعلته يا ججي؟.. عودي للخيمة حالاً والتزمي الصمت.. ليس الوقت ملائماً لهذا المزاح.."
لكن ججي استعادت الخوذة وركضت نحو السيف الملقى جانباً وهي تقول باعتراض "لن أفعل ذلك.. يجب أن أستعيد سيجان.. سنرحل بعد قليل ولن يتمكن من اللحاق بنا لو لم يتخلص من الموت.."
قالت الأم بعينين دامعتين وهي تجذب السيف بقوة "لا أحد يعود بعد الموت يا فتاة.. كفي عن هذا القول لئلا يغضب منك أبوك فينتقم منك لما جرى لسيجان.. يكفي أنه يظننا حظاً سيئاً منذ البدء.. ما الذي سأفعله لو سلبك مني أنت أيضاً؟"
تراجعت ججي خطوات وهي تصيح "أنا لست فتاة.. سأكون رجلاً.. سأكون كذلك منذ هذه اللحظة مادام ذلك سيسعد أبي.."
وركضت مبتعدة غير عابئة بصياح الأم الملتاعة.. لمَ يرفض الجميع أن تصبح كالرجال؟.. لمَ لا تملك الخيار بذلك رغم رغبتها الشديدة به؟..

************************

عندما عادت ججي للخيمة عند انتصاف النهار، بعد أن أعجزها جوعها عن الذهاب والبحث عن الموت كما وعدت أباها، سمعت حديثاً هامساً وسط الخيمة وصوت نحيب خافت.. أطلت برأسها بقلق للداخل فرأت أمها تجلس في جانب الخيمة وهي تخفي وجهها بين يديها وتنتحب بشدة، بينما جلست قربها امرأة من نساء القبيلة وهي تقول لها بإلحاح "لم تفعلين هذا بنفسك؟.. ما الذي يجعلك خائفة وحزينة بهذا الشكل منذ الصباح؟"
مسحت الأم دموعها التي لم تكف عن الانهمار بشدة وهي تقول بصوت راجف "أخشى مما سيفعله قادور الآن.. لقد فقد ابنه الوحيد، بعد أن عجزت عن منحه ابناً منذ تزوجني.. والآن، لابد أنه يبغضني ويبغض بناتي بالتأكيد.. لطالما أطلق علينا نعوتاً قاسية.. الحظ السيئ.. النحس.. الشؤم.. كل ما يكرهه الأكاشي في الأنثى قد اجتمع في صدر زوجي منذ أنجبت له ابنتي الكبرى فاتي.. والآن، ها هو قد أصيب بحظ سيئ بالفعل وسيصبّ جام غضبه علينا.."
قالت المرأة مقطبة "لا دخل لك أنت بالأمر.. هو من أرسل سيجان لتلك الغارة متناسياً قلة خبرته وصغر سنه.. لمَ لا تحاولين إنجاب صبي له هذه المرة؟.. لابد أن يحالفك الحظ في المرة القادمة وتحملين في بطنك صبياً يملأ عينه ويغير رأيه بك.."
هزت الأم رأسها بشدة قائلة "لقد حذرني منذ أن أنجبت ابنتي تينا من أن أكرر الحمل من جديد.. أخبرني أنه لن يتردد في إسقاط ما في بطني لو رفضت الانصياع لطلبه.. قال إنه اكتفى بي وببناتي الثلاث، وأن وجود أربع نساء في حياته هو أكثر مما يطيق.. ولولا موت زوجته الأولى وأم سيجان، لكنّا خمس.."
زفرت المرأة وهي لا تدري ما تعلق به على ما قيل، بينما عادت الدموع للانهمار من عيني أم ججي وهي تضيف بصوت متهدج "إنه لم يكتفِ بتزويج فاتي وهي لا تزال بعمر الثالثة عشر، وفوق ذلك زوّجها برجل تجاوز الأربعين من عمره ويملك زوجات ثلاث غيرها.. ما الذي سيفعله بالمسكينة ججي لو غضب عليها هي أيضاً؟.. إنها لا تزال في الخامسة من عمرها.."
قالت المرأة بضيق "أتظنين أنه سيبيع ابنته لزوج وهي في هذه السن؟.. مهما كان كارهاً للمرأة، فإنه لن يفعل هذا بالتأكيد.."
أدارت الأم بصرها جانباً وهي تقول بصوت راجف "لا شيء مستحيل مع قادور.."
انتبهت في تلك اللحظة لوجود ججي تسترق السمع في جانب المكان، فهتفت بها وهي تسارع لمسح دموعها "ججي.. أين اختفيت هذا اليوم كله؟.. لقد بحثت عنك في كل مكان.."
خفضت ججي بصرها وهي واقفة في موقعها بحيرة، بينما اقتربت الأم بعينين منتفختين من البكاء رغم أنها مسحت دموعها، وأمسكت ذراع ججي قائلة "لا تثيري قلقي عليك هكذا في مثل هذه الأوقات.."
رفعت ججي بصرها لأمها متسائلة "أأنت تبكين أيضاً لاختفاء سيجان؟"
أجابت الأم بسرعة "أجل.. كلنا نحب سيجان.. أليس كذلك؟"
فقالت ججي وهي تتبع الأم داخل الخيمة "أنا جائعة.. فور أن أتناول الطعام، سأطلب من أبي أن يدلني على وسيلة لاستعادة سيجان.. لقد اشتقت إليه، ولا أريد أن أرى أبي وأراكِ باكية مرة أخرى.."
نظرت لها الأم بشفتين ترتجفان، بينما قالت ججي متوسلة "هل ستنتظرينني حتى أنهي طعامي يا أمي؟"
ضمّتها الأم بقوة وهي تمنع نفسها من البكاء، ثم نظرت في عينيها قائلة "استمعي إليّ يا ابنتي.. سيرسل أبوك رجالاً أشداء لاستعادة سيجان.. فلا تقلقي لأمره.. عليك ألا تفارقيني أبداً في الأيام القادمة.. أسمعتِ؟"
ظلت ججي تنظر لها باعتراض صريح، فقالت الأم بحزم "ألم يطلب منك سيجان أن تطيعي ما يطلب منك؟.. ما الذي سيقوله عندما يعود فيرى ما فعلته في غيابه؟"
خفضت ججي رأسها مدمدمة "حسناً.. سأطيع ما تطلبينه مني.."
ابتسمت الأم شيئاً ما، ثم جذبتها لتجلس في جانب الخيمة ووضعت أمامها بعض الخبز الطازج وجبن الماعز والعسل، وبينما التهمت ججي طعامها بلهفة، فإن الأم حملت شقيقتها الرضيعة التي بدأ صياحها يتعالى والمرأة تقول "أتتوقعين أن تتمكني من تغيير قدرها بهذه الوسيلة؟"
قالت الأم بمرارة وهي تراقب ملامح طفلتها الرضيعة "هذا كل ما أتمناه وآمله.. ألا يعشن حياة كحياتي، وألا يوصمن بأنهن جالباتٍ للفأل السيئ من رجال القبيلة، رغم أن الفأل السيئ والنحس لا يأتي إلا من سيوفهم وخيولهم التي يعشقونها عشقاً شديداً.."
لم تفهم ججي كلمة مما قالتها أمها، لكنها لم تعبأ بذلك وهي تزدرد طعامها بسرعة وتلاحق.. ربما يشرح لها سيجان الأمر عندما يعود.. كم سيطول به الوقت قبل أن يلحق بهم يا ترى؟..

************************

مضت أيام عدة والقبيلة لا تبارح موقعها في حداد كبير بعد أن رفض زعيمها الانصياع لنصائح رجاله بسرعة التحرك من هذا الموقع.. وقد قضت ججي أيامها تلك قابعة قرب حدود المعسكر تتطلع للأفق بانتظار الرجال الذين تظن أباها قد أرسلهم لاستعادة سيجان.. ما الذي جعل سيجان يتأخر بهذه الصورة؟.. هل قضى تلك الأيام كلها يتخلص من أعدائهم؟..
بعد تلك الأيام، بدأ الرجال بتفكيك الخيام والاستعداد للتحرك من جديد، وبدأت النسوة بلملمة الأغراض وتعبئتها في الجرار والصناديق التي ستوضع على العربات الخشبية.. راقبت ججي ما يجري بقلق شديد، ولما فرغ أفراد القبيلة من استعداداتهم للرحيل دون أن يظهر أثر من سيجان، فإن ججي القلقة ركضت عائدة نحو موضع خيمة أبيها السابق لتجده يجلس على بساط صوفي فرش أرضاً وهو يحدق في سيف سيجان وخوذته التي وضعت أمامه.. أسرعت ججي إلى أبيها وقالت باضطراب "هل نحن راحلون يا أبي؟"
هز الأب رأسه دون أن ينظر إليها، فقالت ججي بتوسل "ألن ننتظر سيجان؟.. لقد طال رحيله، لكنه سيعود بالتأكيد.. لو رحلنا فقد لا يستدل على موقعنا الجديد ويبقى تائهاً في السهول للأبد.."
زفر الأب بمرارة شديدة، ثم رفع بصره إلى ججي قائلاً "سيجان لن يعود.."
نظرت له بدهشة وصدمة، ثم قالت "ماذا تعني يا أبي؟.. إلى أين رحل؟"
أشار الأب للأعلى مجيباً "رحل للسماء.. ولن تكون عودته ممكنة أبداً.."
بدأت عينا ججي تغرورقان بالدموع وهي تحاول استيعاب ما يقوله، ثم قالت بصوت مرتجف "هل أخذه الموت للسماء؟.. كيف استطاع ذلك؟.. هل يستطيع الموت الطيران؟"
لم يجبها الأب وهو يحمل خوذة سيجان فيضعها على رأسها، ولما رفعت ججي الخوذة عن عينيها رأته يحمل السيف أيضاً ويمد يده به إليها قائلاً "ججي.. أنت ستحلين محل سيجان.. ستكونين الولد الذي لم تنجبه أمك، وستعوضينني عن ابني الذي فقدته بغدر.."
نظرت ججي للسيف بدهشة، ثم هتفت "هل سأصبح رجلاً؟"
أجاب الأب بتأكيد وهو يناولها السيف الثقيل "عليكِ بأن تكوني كذلك.."
حملت ججي السيف بعسر وهي تحاول ألا تسقطه فتخيّب أمل أبيها، ثم نظرت له بتردد متسائلة "وهل سيفرح سيجان لذلك؟.."
ابتسم الأب بمرارة قائلاً "أجل.. سيسعد بذلك جداً.."
عندها تلألأت عينا ججي رغم الدموع وهتفت "إذن سأكون كذلك.. هل ستسمح لي بركوب الخيل؟"
هز الأب رأسه إيجاباً، فقفزت ججي فرحاً لتفاجأ بأن الخوذة قد ارتطمت برأسها بقوة، لكنها احتملت ألمها ولم تظهره أمام أبيها وركضت مبتعدة صائحة "سأخبر أمي بذلك.. ستفرح كثيراً ولن تبكي مجدداً بعد الآن.."
في ذلك اليوم، وعندما بدأت القافلة استعداداتها للمسير وامتطى رجالها ظهور خيولهم، فإن الزعيم قد امتطى ظهر حصانه الأدهم وأردف ججي خلف ظهره لتتسع عيناها بلهفة شديدة وسعادة طاغية وهي تنظر من موقعها العالي لما حولها.. تناست حزنها على سيجان بسرعة وهي تنظر بفرح لما حولها مختبرة هذا الشعور الذي لطالما حلمت به، بينما تقدم أحد الرجال من أبيها قائلاً باعتراض "ما الذي تفعله أيها الزعيم؟.. أنت تخالف قوانين الأكاشي في هذا.."
قال الزعيم بحزم "كلمتي هي القانون في هذه القبيلة.."
قال الرجل باعتراض أشد "إنها فتاة.. وركوبها على ظهر الحصان جالبٌ للحظ السيئ للقبيلة كلها.."
فقال الزعيم بحزم أشد وصوت أعلى ليصل للجميع "إنها ليست فتاة.. لم تعد كذلك منذ اللحظة.. ومنذ اليوم، لن يدعوها أحد باسم فا-ججي (ابنة السماء) بل ستصبح فا-جام (ابن السهول).. منذ اللحظة، هذا هو ابني ووريثي.. ومن يجرؤ على الاعتراض سينال عقابه بيدي.."
نظر أفراد القبيلة لبعضهم البعض بدهشة وصدمة، بينما سالت دموع الأم وهي تجلس في العربة في موقع متأخر من القافلة.. كانت ترى سعادة ججي الواضحة لما حظيت به من امتياز خاص لطالما تمنته.. لكنها لا تدرك ما يسوقها إليه أبوها.. لا تدرك أي مصير يقودها إليه برأيه المجنون ذاك وسط قبائل الأكاشي التي تنكر وتستنكر أي أهمية للمرأة بين رجالها..
وبالنسبة لججي، أعجبها اسمها الجديد بشدة.. فا-جام.. أعجبها أن تكون رجلاً.. تمتلك سيفاً وتمتطي ظهر الحصان دون أن تجد اعتراضاً من أحد.. وخايلها عقلها البسيط أن النظرات التي ألقاها رجال القبيلة نحوها تحمل إعجاباً شديداً بها وبما أصبحت عليه..
لقد نالت أقصى أمانيها.. ولا يمكن أن تكون في تلك اللحظة أكثر سعادة وحبوراً مما هي عليه بالفعل..

************************


خيااال غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 28-01-16, 11:26 PM   #4

Aurora

كاتبة ومصممة في قسم قصص من وحي الأعضاء وعضو في فريق مصممي روايتي وساحرة واحة الأسمر بقلوب أحلام

alkap ~
 
الصورة الرمزية Aurora

? العضوٌ??? » 346573
?  التسِجيلٌ » Jun 2015
? مشَارَ?اتْي » 6,779
?  مُ?إني » الرياض
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Saudi Arabia
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » Aurora has a reputation beyond reputeAurora has a reputation beyond reputeAurora has a reputation beyond reputeAurora has a reputation beyond reputeAurora has a reputation beyond reputeAurora has a reputation beyond reputeAurora has a reputation beyond reputeAurora has a reputation beyond reputeAurora has a reputation beyond reputeAurora has a reputation beyond reputeAurora has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   7up
¬» قناتك mbc
¬» اشجع hilal
?? ??? ~
وأكتبلك من حروفي شعر ..وأغزلك نجوم السما ..وأهديك من عمري عمر ...
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

هلا حبيبتي

الف مبرووووووووووووك
روايتك الثانيه

ان شاء الله تلاقي عليها الإقبال اليعجبك

ونصيحة مني نزلي فصل بالأسبوع
عشان البنات يمديهم يقروا
لو كل يوم رح يتكسلوا ويتجمع عليهم


Aurora غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 29-01-16, 08:36 AM   #5

روح هاربة

نجم روايتي

 
الصورة الرمزية روح هاربة

? العضوٌ??? » 343253
?  التسِجيلٌ » May 2015
? مشَارَ?اتْي » 2,479
?  نُقآطِيْ » روح هاربة has a reputation beyond reputeروح هاربة has a reputation beyond reputeروح هاربة has a reputation beyond reputeروح هاربة has a reputation beyond reputeروح هاربة has a reputation beyond reputeروح هاربة has a reputation beyond reputeروح هاربة has a reputation beyond reputeروح هاربة has a reputation beyond reputeروح هاربة has a reputation beyond reputeروح هاربة has a reputation beyond reputeروح هاربة has a reputation beyond repute
افتراضي

مبروك نزول الرواية الثانية ان شاء الله اعتبريني من ضمن المتابعين

روح هاربة غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 29-01-16, 09:01 AM   #6

خيااال
 
الصورة الرمزية خيااال

? العضوٌ??? » 360178
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 189
?  نُقآطِيْ » خيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond repute
افتراضي

شاكرة لك يا أختي أورورا
ربما كانت نصيحتك في محلها
لكني ملتزمة بنشر الرواية يومياً فهذه عادتي في رواياتي كلها
ولكي لا تتوه الأحداث عن القراء
كما أنها ستستغرق مني ما لا يقل عن عشرين يوماً لعرضها

مرحباً بك من جديد يا عزيزتي روح هاربة
أتمنى أن تروقك مقدمة الرواية
سأنشر الفصل الأول بعد قليل بإذن الله


خيااال غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 29-01-16, 09:39 AM   #7

روح هاربة

نجم روايتي

 
الصورة الرمزية روح هاربة

? العضوٌ??? » 343253
?  التسِجيلٌ » May 2015
? مشَارَ?اتْي » 2,479
?  نُقآطِيْ » روح هاربة has a reputation beyond reputeروح هاربة has a reputation beyond reputeروح هاربة has a reputation beyond reputeروح هاربة has a reputation beyond reputeروح هاربة has a reputation beyond reputeروح هاربة has a reputation beyond reputeروح هاربة has a reputation beyond reputeروح هاربة has a reputation beyond reputeروح هاربة has a reputation beyond reputeروح هاربة has a reputation beyond reputeروح هاربة has a reputation beyond repute
افتراضي

مقدمة كثير رائعة لرواية أروع ..
حي جي تخلت عن كونها فتاة وإرادة التحول لرجل ..بوفاة سجايا ماذا سيحل على ابنة السماء ..
باانتظار الفصل الأول ومعرفة تطورات حياة ابنة السماء تحياتي عزيزتي


روح هاربة غير متواجد حالياً  
التوقيع







رد مع اقتباس
قديم 29-01-16, 11:00 AM   #8

خيااال
 
الصورة الرمزية خيااال

? العضوٌ??? » 360178
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 189
?  نُقآطِيْ » خيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond repute
افتراضي

لا تزال ججي صغيرة لتدرك ما تنتوي فعله
فلا يعدو كونها رجلاً إلا أن تركب الحصان وتحمل السلاح
هذا كل ما تفكر فيه وتتخيل الحصول عليه
لكن هل سيخلو طريقها من الصعاب؟
سعيدة بإعجابك بالمقدمة يا عزيزتي
سأضع الفصل الأول الآن


خيااال غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 29-01-16, 11:08 AM   #9

خيااال
 
الصورة الرمزية خيااال

? العضوٌ??? » 360178
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 189
?  نُقآطِيْ » خيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الأول {ججي ابنة السماء}



في ذلك العالم البعيد، والمكوّن من قارتين عظيمتين تحتلانه بالكامل ويفصل بينهما بحر شاسع، كان البشر على مشارف تغيير كبير في حياتهم سيمتد لأجيالٍ ولعقود عديدة..
كان ذلك العالم يشهد تغييرات كبيرة، وحروباً كثيرة اشتعلت في القارتين الوحيدتين فيه.. القارة العظمى، وقارة الثنايا.. ففي القارة العظمى، كانت مملكة جديدة قد بدأت تتكون وتتوسع بشكل شره ملتهمة القبائل والممالك الأضعف والأصغر والأقل تأثيراً.. وعلى رأس تلك المملكة رجل قوي اسمه فارس بن ظاهر.. ورغم أن فارس لم يكن يتجاوز منتصف العشرين من عمره عندما بدأ تشكيل مملكته تلك قبل عقدٍ ونيف، لكنه تمكن من جمع عدد كبير من الرجال الأوفياء حوله وبدأ توحيد الممالك في مملكة واحدة أطلق عليها اسم (مملكة فارس) والتي سيطلق عليها خلفاؤه اسم (مملكة بني فارس).. لم يكن الملك فارس قد أنشأ عاصمة مُلكه بعد، ولم يكن يستقر في مكان واحد والحروب المتفرقة في أرجاء القارة تشغله بشكل شبه تام.. لكن من يرى نجاحاته المدوية وسرعة انتشار جنوده في الأرض، يجزم بأنه سينشئ مملكة قوية ذات تأثيرٍ في هذا العالم..
وفي قارة الثنايا، كانت هناك مملكة أخرى تسمى (مملكة كشميت) وهي أقدم شيئاً ما رغم أن عمرها لا يتعدّى الخمسين عاماً.. حكمتها عائلة مجهولة الأصل نصّبت نفسها على تلك المملكة ووزعت أمرائها على الولايات التابعة لها.. كانت مملكة كشميت تهتم بالعلوم وبتطوير نفسها وأسلحتها كثيراً، ولا تتردد في التهام الممالك القريبة الضعيفة وتوسيع مساحتها في كل فرصة ممكنة.. وبدا بوضوح أن تطلعاتها التوسعية لن تسكت على ما يجري في القارة العظمى وما قد يعني ذلك من تهديد لها ولأمن حدودها..
وبين هذه وتلك، بدأت الممالك الضعيفة بالتسليم وتقديم ولائها لإحدى المملكتين لكي تسلم من شرها وتستعين بقوتها.. بينما بقيت بعض الممالك الأخرى والقبائل المتفرقة تقاوم بشدة لكيلا تذوب في ذلك الهجوم الذي يدحر ما أمامه دون توقف..
وفي القارة العظمى، وبعد أن أحكم الملك فارس سيطرته على شرق وجنوب القارة، والممالك القريبة التي لم تستسلم له قد أصبحت موالية له بشكل تام، فإنه التفت للأجزاء الشمالية والغربية الأكثر صعوبة بالنسبة لجيوشه.. وذلك بسبب السلسلة الجبلية العظيمة المسماة (جبال الأنهار المائة) بسبب كثرة الأنهار المتدفقة منها.. فقد وقفت تلك السلسلة سداً منيعاً أمام جيوشه، ووقفت القبائل التي تسكنها في وجهه كأشرس عدوٍ واجهه.. ومن تلك القبائل هناك (الهوت) الذين استوطنوا الجزء الشمالي من الجبال منذ عدة عقود ورفضوا الذوبان في المملكة، وهناك سكان السهول الغربية وهي قبائل متفرقة تطلق على نفسها اسم (الأكاشي)..
والأكاشي، الملقبين بذوي القرون بسبب خوذاتهم ذوات القرون البارزة من الجنبين، هم شعب من البدو الرحّل.. انتشروا في تلك السهول منذ أمد طويل واستعمروها مقاومين أي غزو من الممالك القريبة.. لكنهم لم يكونوا بالتطور الكافي لإنشاء المدن وتنظيم حياتهم في مملكة واحدة.. بل كانوا قانعين بالقبائل التي تضمّهم وهم يسعون في تلك السهول تابعين مواشيهم حيث سارت سعياً وراء المراعي الخضراء، وحاملين خيامهم ومتاعهم على ظهور الجمال ليستقروا في الموضع الذي يلائمهم لمدد متفاوتة..
ورغم عدم الانضباط والحرية التي يعيشون فيها، فإن السيطرة عليهم كانت مهمة صعبة وعسيرة على كل من فكر بذلك.. فهم شعبٌ ذو كبرياء اشتهر بالقساوة والخشونة في التعامل مع أعدائهم، كما كان التهامهم لأجزاء من أجساد أعدائهم بدافع الحصول على القوة يمنحهم صيتاً يرعب كل من يفكر في التعدّي عليهم.. ورغم أن الحروب لا تكاد تنقطع بين القبائل المختلفة، لكن الممالك الأخرى عجزت عن استغلال ذلك في اختراق السهول وضمّ تلك القبائل للوائها بأي شكل كان..
ومع انتشار أخبار تقدم جيوش الملك فارس من هذه المناطق محاولة اجتياز السلسلة الجبلية القريبة، إلا أن هذا لم يزعزع ثقة الأكاشي لوهلة واحدة.. فثقتهم بسيوفهم ورجالهم أكبر من أن تهزها شائعات، وجيوشهم غير النظامية قد دحرت الكثير من الجيوش الأكثر تنظيماً وتسليحاً بكثير.. ورغم ذلك، بقي جزء ضئيل من الأكاشي ممن استعمرهم القلق لمثل تلك الأخبار، وراودتهم رغبة كبيرة في إحداث تغيير بين القبائل التي عاشت لأزمانٍ طويلة دون أن تعصف بها أي رياح تجبرها على تغيير حياتها قيد شعره..

************************

في وسط سهول الأكاشي، وفي موقع احتلته قبيلة (رأس الرمح) التي كانت من أقوى وأشهر قبائل الأكاشي، انتشرت الخيام كبيرة الحجم في موقع واسع مستغلة انبساط المكان حيث خفتت حدة التلال العشبية مشكلة سهلاً واسعاً يوفر لساكنيه سلاسة في الترحال واتساعاً في المكان.. وفي جانب المخيم استقرت الماشية محاطة بسور خشبي في مساحة كبيرة وأصواتها المختلطة يمكن سماعها من موقع بعيد، بينما كان مربط خيولهم يقع في جانب آخر قريب من جدولٍ صغيرٍ يقطع ذلك الموقع..
وفي خيمة واسعة وسط المخيم، تبدو من فخامتها وزخرفتها أنها خيمة زعيم تلك القبيلة، اجتمع أهم رجال القبيلة حول النار التي أشعلت وسط الخيمة ووضع عليها إبريقٌ معدني للشاي الذي غمرت رائحته المكان.. كان الرجال، وهم لا يقلون عن سبع رجال متفاوتين في الأعمار، يتحلقون حول النار وانتباههم منصبٌّ على قادور الذي جلس قرب زعيمهم كيراد بينما وقف بضع رجال من تابعي قادور خلفاً لمراقبة ما يجري دون التدخل في الحوار الدائر..
وبعد صمت قضاه الرجال في احتساء الشاي الساخن، قال قادور موجهاً حديثه لكيراد بالأخص ولبقية الرجال بالأعم "ما رأيك بما أحمله لك من اقتراحات؟.. أظنني كنت واضحاً في كل ما قدمته لك ولا يدع ذلك لك مجالاً للشك أو الريبة.."
صمت كيراد وهو يحتسي الشاي مفكراً، ثم غمغم "أنت متشائم كثيراً يا قادور.."
نظر له قادور مقطباً، فأضاف كيراد "لا أدري لمَ تحمل همّ ذلك الملك العربي المزعوم.. كيف تتوقع منا أن نتحمس لاقتراحك وهو يخصّ أمراً لا يهمنا البتة؟"
قال قادور باستنكار "كيف تدّعي أن أمر ذلك الملك العربي لا يهمكم البتة؟.. لقد وردتنا عدة أخبار عن محاولاته عبور الجبال التي تفصل سهول الأكاشي عنه بجيوش جرارة.. وكونه فشل في ذلك في المرات السابقة لا يعني أنه سيفشل في كل مرة.."
تساءل كيراد "ما الذي يدعوك للظن أنه سينجح هذه المرة؟"
أجاب قادور "أتظن أن شخصاً فشل في أمر عدة مرات سيبذل المال والجهد لمعاودة المحاولة لو لم يكن يملك وسيلة لتفادي أخطائه السابقة؟.. إنه ليس أحمقاً، ولن يكرر محاولة اجتياز الجبال العصية على الجيوش ما لم يكن يملك وسيلة لتفاديها.."
قال رجل قريب "هذه أوهام.."
نظر له قادور باستياء معلقاً "لماذا تظنني قد قطعت كل هذه المسافة بنفسي ولم أرسل رسولاً لو كنتُ مقتنعاً أن هذه مجرد هواجس وأوهام لا صحة لها يا سات؟.. أنسيت أمر الجواسيس الذين تم القبض عليهم قرب مخيمنا؟.."
غمغم سات بدون انفعال "الجواسيس أمرهم معتاد في هذه الأنحاء منذ زمن، والتصرف الوحيد الملائم لهم هو في قطع رقابهم لحظة القبض عليهم.."
تجاهله قادور والتفت إلى كيراد قائلاً "الوضع أصبح يستدعي منا تحركاً منظماً.. لقد فرغ ذلك العربي من وسط وشرق القارة العظمى.. وقد أصبحت الممالك الجنوبية موالية له.. الآن هو متفرغ لشمال وغرب مملكته ولا يبدو أن طمعه سيقف به عند تلك الجبال العالية.."
صمت الرجال وهم يتبادلون النظرات التي لم يجهل قادور معناها، فقال بإلحاح "لا أطلب منكم الكثير، ولا أتوقع منكم المستحيل.. كل ما أريده، لو وصلتنا أنباء عن قدوم الجيش العربي لهذه السهول، أن نتكاتف ونعمل كقوة واحدة ونتصدى له قبل أن يتجاوز فرسخاً من هذه السهول.. سننتظره عند سفح الجبال وسنردّه على أعقابه بأسرع ما نستطيع.. ولن نتمكن من فعل ذلك ونحن متفرقون هكذا.."
غمغم كيراد "هذا صعب جداً يا قادور.. أنت تطلب منا أن ننضمّ في قبيلة واحدة؟.. لن ترضى أي قبيلة بفعل ذلك.."
قال قادور بسرعة "لا أطلب منكم الاندماج في قبيلة واحدة، بل أن نصبح جيشاً واحداً وكل قبيلة هي لواءٌ منفرد في ذلك الجيش.. وبعد أن ننتهي من هذه الحرب، سيعود كل شيء لما كان عليه.. فما الذي يقلقكم؟"
أجاب المدعو سات "ما يقلقنا أنك تتوقع منا أن نخضع لك بسهولة كي تقودنا في هذه الحرب المزعومة.. انضمامنا لجيشك هي البداية لفرض سيطرتك علينا.. لا تنكر أن هذا ما تهدف إليه.."
قال قادور بحنق "أتظنني رجلاً أحمقاً لأفعل ذلك؟"
فقال سات بابتسامة جانبية "لقد دار هذا بذهني للحظة وأنا أرى تلك الفتاة تمتطي الحصان بجوارك عند قدومكم لمخيّمنا.."
انتفض قادور واقفاً بغضب، لكن كيراد سارع لتهدئته قائلاً "لا تلقِ بالاً لهذا القول يا قادور.. اجلس فمازلنا نتناقش في هذا الأمر.."
جلس قادور بعد لحظة تردد، بينما رمق كيراد سات بنظرة حانقة لم يعبأ لها الأخير.. وبعد صمت قصير، قال قادور بتقطيبة "كل ما أريد معرفته إن كنتم قادرون على تحقيق ما جئتكم لأجله.. هل يمكنكم بذل الرجال والسلاح في هذه الحرب معي لو بدأت بوادرها بالفعل؟.. عندما يحين وقتها، لن يكون هناك مجال للتردد أو التخمين.. ولو فكرتُ بخوضها وحيداً، فلا أظنني بقادرٍ على كسبها رغم ثقتي بقوة ومهارة رجالي.."
قال كيراد "لقد فاجأني طلبك يا قادور، لذلك لستُ واثقاً من استجابتي له.. هذه سابقة لم تحدث في تاريخ الأكاشي كما تعلم، ولا أريد أن أتصرف تصرفاً أندم عليه في المستقبل.."
قال قادور بحنق لم يملكه "كون ذلك أمراً لم يسبق حدوثه لا يعني أنه سيئ بالضرورة.. كيف تخشى الندم في المستقبل بينما أنت متهاون في التصرف الآن؟.. ألن تندم لو وصلت الجيوش إلى السهول وعاثت فيها فساداً؟.."
علق كيراد "عليّ الاقتناع بأن جيوش الملك العربي ستصل لهذه السهول بالفعل.."
فقال قادور بحدة "ستفعل ذلك.. هذا ما أثق به.. كيف يمكنني إقناعكم بذلك؟"
نظر له كيراد بصمت وعدم اقتناع، بينما قال سات بعد صمت "أنت لم تأتنا إلا بكلمات عائمة بلا أي دليل.. فكيف تطلب منا تصديقك؟"
قال قادور بغضب "وهل كلمتي لا تعدّ كافية لتصديقي؟"
لم يعلق سات على ذلك بابتسامة جانبية مما استثار غضب قادور أكثر وهو يقول لكيراد بشدة "وهل الرأي رأيك في هذه القبيلة يا كيراد أم هو رأي السفيه من رجالك؟"
قبل أن يجيب كيراد قال سات بابتسامة ساخرة "نحن هنا لا نتبع رأي شخص واحد، بل نحكّم قراراتنا برأي أرجح رجالنا عقلاً.. ولهذا السبب لا يمكننا ابتلاع ما تقوله بسهولة.."
نظر له قادور بحنق وقد تزايد غضبه لما يلمّح له سات، بينما أضاف سات بسخرية "أتفهّم ذعرك الشديد من تحركات الملك فارس تجاه سهولنا، بالنظر لنسائك اللواتي تخشى عليهن من الاختطاف والاستعباد.. لابد أن وجود ثلاث نساء تحت جناحك دون أن تملك ابناً يعينك على حمايتهن يسبب لك الضيق والقلق الشديد.."
نظر له قادور مقطباً بشدة بينما قال كيراد بحنق "اصمت يا سات.."
أضاف سات وابتسامته تتسع متجاهلاً كيراد "لو كنت راغباً بالتخلص من هذا الهم، يمكنك أن تزوجني إحداهن لترتاح من همّها.. وأنا أرى أن هذه الفتاة المسماة ججي مناسبة تماماً لهذا.. ما رأيك؟.. عليك أن تكون شاكراً لهذا العرض.."
فوجئ بقادور يضمّ قبضته بشدة ويطوحها نحوه بقوة لتضربه على أنفه ضربة قوية وتدفعه للوراء ليسقط أرضاً.. وبينما حاول سات النهوض بسرعة لإنقاذ ما تبعثر من كرامته مع الدماء التي سالت من أنفه، فإن قادور وقف قائلاً بصرامة "لست أخشى على نسائي فأنا أقدر على حمايتهن من أي شخص آخر.. ومن تراه خارج الخيمة ليس فتاة ولم يكن كذلك.. بل هو ابني فا-جام، وهو أكثر رجولة من ابنك الخليع سيسار الذي يقضي لياليه ينفخ في الناي لترقص الفتيات على أنغامه.."
وغادر بخطوات واسعة بينما اعتدل سات واقفاً وهو يضع يده على سيفه بغضب شديد، لكن كيراد استوقفه قائلاً "لا داعي لجرّ العراك أكثر من هذا.. أنت من بدأ بإهانة ضيفنا وأنت من عليه تحمل النتائج.."
فور خروجه، وجد قادور ججي راكعة قرب باب الخيمة وسيف سيجان الطويل ينتصب أمامها.. كانت قامتها لا تتجاوز نصف قامته بعد، وهي التي لم تتعدّ الثالثة عشر من عمرها، وشعرها الأحمر لا يتجاوز أذنيها كما تحرص دائماً على قطعه بخنجر لتمنح نفسها منظراً أقرب للفتية من الفتيات، بينما الخوذة التي كانت تخص سيجان لا تزال واسعة عليها شيئاً ما.. ورغم نظرات بعض رجال هذه القبيلة لها واستهزائهم الواضح بها، فإنها ظلت في موضعها واضعة يدها على السيف الذي يكاد يفوقها طولاً وهي صامتة بانتظار أبيها.. ولما رأته هبّت واقفة وسحبت سيفها من الأرض متسائلة "كيف جرى الأمر يا أبي؟"
دمدم قادور بغيظ وهو يبتعد "فشل الأمر كالعادة.. ونلتُ ما نلته من الاستهزاء بسببك.. لمَ لا يرى الزعماء ورجال القبائل فيّ إلا أنت؟.."
وجمت ججي وهي تتبعه ملاحقة خطواته الواسعة، وتأملت السيف الذي في يدها والغضب يتنامى في صدرها.. لمَ يستهزيء الجميع بها ويسخرون من ثقة أبيها بقدراتها؟.. كيف لها أن تثبت لهم أنها لن تكون أقل من أي رجل من الأكاشي؟.. هل يجب أن تكون أكبر عمراً وأكثر قوة لتكسب احترامهم؟.. أم أن هذا بعيد المنال عنها حقاً؟..
توجه قادور إلى حصانه الأدهم الذي وقف وسط الساحة بقرب بقية رجاله، فامتطاه بينما أسرعت ججي تمتطي فرسها الرمادية التي يشوب لونها نمش بلون غامق بينما يغطي أنفها وأطرافها البياض.. وقبل أن يتحرك قادور، رأى كيراد يتقدم منه قائلاً "لا تغضب يا قادور لما قاله سات.. لابد أنك الآن معتاد على مثل هذا القول من الأكاشي بعد مخالفتك لقوانينهم ورؤيتهم لفتاة تدخل مخيماتهم على ظهر فرس.."
قال قادور بصرامة "ما يجري في مخيمي وبين رجالي لا يخصّ أحداً غيرهم.. وقد أقبل بمثل هذا القول من رجالي لكني لا أقبل به من شخص غريب.."
ثم أضاف بحدة أكبر "كما أن الموضوع الذي أتيت أحدثكم فيه لا يحتمل السخرية والاستهزاء.. أنتم مستسلمون قانعون بالمناوشات التي تدور بينكم وبين القبائل الأخرى لأتفه الأسباب، ولا يهمكم أمر ذلك العربي الذي يتقدم منكم بجيوشه الجرارة.."
قال كيراد بهدوء "كما قلنا لك قبل قليل، الجبال العالية كفيلة بتعطيل جيوشه، وسكان الجبال سيقضون على ما بقي منهم.. فلمَ القلق؟.. لقد خضنا معارك كثيرة، ونحن نعلم بأننا أقدر على صد مثل هذا الهجوم من غيرنا، لو نجح ذلك الجيش بالوصول إلينا حقاً.."
قال قادور بضيق "ستقول هذا حتى نفاجأ بالضربة التي ستسقط على رؤوسنا.."
وأدار حصانه ليغادر المخيم بينما كيراد يقول "لن يحدث ذلك.. ذلك العربي لا يملك تنانين يطير بها ليتجاوز تلك السلسلة الجبلية العسيرة.."
لم يعلق قادور وهو يغادر المخيم تتبعه ججي وعشرة من رجاله.. نظرت ججي لأبيها بقلق وهي تلاحظ الغيظ الشديد الذي يشعر به بعد أن كان متفائلاً بهذا الاجتماع الذي سعى إليه.. ثم تقدمت بفرسها منه وتساءلت بخفوت "ما الذي ستفعله الآن؟"
قال قادور زافراً "سنتوجه إلى قبيلة طاغار.. لازلت بحاجة للحديث معه وهو يملك قبيلة كبيرة وقوية.. لو كسبته في صفي، فلابد أن نحدث بعض التأثير في بقية قبائل الأكاشي الخانعة.."
نظرت ججي للمخيم الذي تركوه، وهي تتذكر قولاً مشابهاً عنه من أبيها لدى قدومهم، لكن آمالهم خابت بأسرع مما توقعوا.. ثم علقت بشيء من التردد "لمَ أنت شديد القلق من هذا الملك العربي في هذا الوقت بالذات؟.. ألم يبدأ ذلك الملك بتكوين مملكته منذ سنواتٍ عدة؟.. ما الذي يثير قلقك لأمره الآن؟"
صمت قادور للحظات حتى ظنت أنه لن يجيبها، ثم غمغم "إنه مجرد هاجس يا جام.. لكنه هاجس قوي يقترب من أن يكون نبوءة.."
لم تعلق ججي على قوله.. لقد كانت تثق بكل ما يقوله أبوها وبكل ما يقرره، ولم تكن بحاجة فعلاً لسبب مقنع لتتبعه في كل ما يتصرف به.. لطالما كانت تفخر بأبيها وتراه أقوى وأصدق حدساً من جميع الرجال، ورأيه لا يجانب الصواب في كل ما يتصرف به كزعيم للقبيلة..

************************

في تلك الليلة، خيّم قادور ورجاله بعد مغيب الشمس في طريقهم إلى قبيلة طاغار.. كان مخيمهم بسيطاً عبارة عن نار أشعلت في الوسط وكل رجل يفرش فراشه على الأرض العشبية في جانب من النار متدفئاً بدفئها الضعيف في مواجهة برد تلك الليلة وكل ليلة تمر على هذه السهول.. وفي جانب المكان قرب بعض الأشجار، تم ربط الخيول ووضع المتاع القليل الذي يملكونه في رحلتهم الطويلة هذه، والتي بدأت منذ عشرة أيامٍ خَلَت..
انشغل بعض من الرجال في إيقاد النار وتهيئة بعض الطعام لعشائهم، بينما فضّلت ججي الرحيل على ظهر فرسها بحثاً عن طريدة لعشائهم مع تناقص مؤونتهم التي جهزوها لهذه الرحلة التي استطالت.. وخلال ساعة على الأكثر، كانت قد عادت لموقع المخيم حاملة زوجين من الأرانب بيدٍ وقد علقت قوسها على كتفها وهي تمسك لجام الفرس باليد الأخرى.. وخلال لحظات، كانت قد ربطت الفرس قرب إحدى الأشجار وقبعت في موضع منفصل عن البقية وهي تقوم بتحضير الأرنبين للشواء.. وببعض الخبرة التي اكتسبتها من الممارسة، قامت بسلخ الجلد عن لحم الأرنب وفصلت الرأس وأطراف الأقدام ثم شقت البطن واستخرجت أحشاءه وكل ما لا يؤكل منه.. ثم عادت بالأرنبين إلى النار وركزتهما في خشبتين طويلتين قرب اللهب لشوائهما وانتظرت قربهما بصبر وصمت..
انتبهت ججي في صمتها ذاك لصوت أحد رجال القبيلة وهو يقول لأبيها "ما الذي سنفعله الآن؟.. هذه هي القبيلة الثالثة التي نلجأ إليها، ونحن نواجَه بالرفض في كل مرة دون أن تختلف النتائج.. ألا ترى أن جهودنا يائسة وغير مجدية؟"
قال قادور "وما الذي يمكنني فعله يا ريجاد؟.. هل أجبرهم على إطاعتي بالسيف؟!"
قال ريجاد "السبب الرئيسي لرفضهم لنا هو عدم اقتناعهم بكلامك بسبب تصرفك مع ججي.."
حدجه قادور بنظرة قاسية، فاستدرك ريجاد قائلاً "إنهم يستنكرون هذا الأمر، ويظنون بعقلك الظنون.. لمَ لا تتنازل عن هذه الفكرة وتجد بديلاً آخر؟.."
قطب قادور بصمت، فتشجع ريجاد ليكمل "لو زوجت ابنتك من رجل قوي تختاره أنت، فسيكون لك بمثابة الابن الذي تسعى إليه.. أليس هذا أفضل من التحايل للحصول على ابن من فتاة ضعيفة؟.."
فوجئ بقادور يدفع مقبض سيفه في كتفه بقوة حتى أسقطه خلفاً قائلاً بغضب "أخبرتك أنني لا أملك ابنة اسمها ججي.. وجام خيرٌ من أي رجل من رجال القبيلة، فلا تكرر هذا القول أمامي مرة أخرى.."
صمت ريجاد وهو يسلّم بالأمر ويتراجع لئلا يثير قادور أكثر من هذا.. بينما شعرت ججي بالأنظار منصبة على رأسها بحنق شديد وهو أمر اعتادته على كل حال.. ما الغريب في أن تكون ابناً ورجلاً؟.. هي الآن، بعد كل تلك السنين، أدركت الفارق الجسدي بين الرجل والمرأة.. وأدركت أنها في أعماقها ستظل امرأة مهما حاولت تقليد الرجال.. لكن هذا زادها إصراراً على اكتساب قوة كقواهم ومهارة كمهاراتهم، وعلى اقتناص الفرصة التي منحها لها أبوها لتتحكم في مصيرها ومستقبلها بشكل لا تتمكن نساء الأكاشي كلهن من تحقيقه.. فهل تتراجع عن هذا؟.. محال.. وألف محالٍ بالتأكيد.. إنها لم تخُض كل ما خاضته ولم تتحمل قسوة أبيها سنواتٍ طوال لتستسلم الآن وتقنع بكونها مجرد امرأة يضمّها رجال الأكاشي لنسائهم.. وكما قالت أمها منذ سنوات، لا يهتم الأكاشي إلا بما تحمله النساء في بطونهن، وهو الأبناء بالتحديد دون البنات.. فهل تقنع بأن تكون كما كانت أمها وكما أصبحت أختها فاتي التي تزوجت من زعيم قبيلة أخرى وأصبحت مجرد امرأة أخرى من نساء مخيمه؟..
استلقت ججي جانباً دون عشاء، بعد أن منحت ما اصطادته لأبيها ولمن رغب به من الرجال، وقد أفقدها هذا الحديث شهيتها.. افترشت فراشاً خفيفاً تحمله معها عادة وأسندت رأسها لذراعيها وهي تحدق في القمر المنير فوقها والنجوم التي تلتمع شيئاً ما وسط سواد السماء.. ورغماً عنها، جالت بذهنها ذكريات ما جرى لها منذ ذلك اليوم الذي أعلنها قادور ابناً له، وغيّر اسمها إلى فا-جام..
في تلك الأوقات، لم تكن ججي ذات الخمسة أعوام تستوعب ما زجّها فيه أبوها، زعيم قبيلة الأكاشي الملقبة (أبناء الذئاب).. كانت تستمتع بترحالها على ظهر حصان أبيها الأدهم كما كانت تحلم دائماً.. وفي آخر النهار، عندما يخيّم الأكاشي في أحد المواقع، فإن أباها يعهد بها إلى مينار لتعليمها ركوب الحصان وحيدة دون معاونة.. كان الحصان ضخماً مقارنة بها، وشكّت لوهلة أنه لن يطيعها وهي تجذب اللجام بيدها الدقيقة، لكن الأمر رغم صعوبته كان تحديـاً كبيراً استمتعـت هي به.. ومينـار، الذي كان رجلاً مقرّباً من أبيها رغم أنه يصغـره بعشر سنوات أو أكثر ولا يتجاوز عمره الأربعين إلا بقليـل، كان رغم قسوته الظاهرة رفيقاً بها ومتفانياً في تعليمها.. ولم يكن يعكر صفوها إلا السبّات الغاضبة التي يلقيها الرجال على مسامعها بعيداً عن مسمع أبيها.. فكان مينار يحثها أن تتجاهل الأمر وألا تذكر شيئاً من ذلك لأبيها أو حتى أمها..
ورغم عدم فهمها لمغزى ما يطلبه مينار، إلا أنها لم يسعها إلا إطاعته بصمت والالتزام بتعليماته.. رغم الغضب الواضح من رجال الأكاشي في القبيلة، إلا أن مينار لم يظهر ضيقاً بقرار أبيها ولم يتفوه بكلمة تسيء إليها طوال الوقت الذي أمضوه في رحلتهم نحو مخيمهم الشتوي..
وبعد عشرة أيام، وصلت القبيلة للموضع الذي سينصبون فيه خيامهم ويستقرون فيه طوال شهور الشتاء الطويلة.. كان ذلك الموضع قريبٌ من البحر جنوبي السهول حيث تنتهي تلك التلال السلسة بمنحدر حاد يطل على البحر الذي يضرب الصخور بأمواجه بقوة.. لم يكن للبحر أي أهمية لدى الأكاشي، ولم يعبؤوا قط بتلك المسطحات المائية الشاسعة وما تحويه من خيرات.. كان اهتمامهم منصبّاً على الرعي، وباستخدام ما تنتجه ماشيتهم يقومون بمبادلتها بكل ما يحتاجونه مع أصحاب المزارع في بعض القرى والمدن القليلة في شمال أو غرب هذه السهول..
بعد وصولهم لموضع المخيم الشتوي، انشغلت ججي مع أمها وبقية الأكاشي في إعداد المخيم الذي استمر لعدة أيام.. بدأت الخِيَم بالانتصاب وبدأ بعض الرجال بصنع سياج يضمّ ماشيتهم في جانب الموقع.. ورغم أنه يسمّى مخيّماً، لكن تلك المنازل الصغيرة المتنقلة كانت أبعد من أن تكون خيمة عادية، فقد كانت واسعة بشكل دائري، وقد دعّمت بعدد من الأعمدة الخشبية الطويلة التي حملت القماش السميك الذي يكّون جدران الخيمة.. وفي منتصف السقف الدائري، تم صنع فتحة كمنفذٍ للدخان الناشئ عن النار التي يتم اشعالها وسط الخيمة، تعلوها بمسافة قصيرة قطعة قماشية دائرية لمنع الأمطار من النفاذ لقلب الخيمة.. وعلى المدخل، يثبت بابٌ خشبي بحيث يجعل الخيمة أقرب لمنزل منها لخيمة عادية بسيطة.. وفي الخيمة الدائرية التي تكون واسعة لضمّ عائلة كاملة، فإن عدداً كبيراً من السجاجيد تفرش لتغطية الأرضية ما عدا منطقة في الوسط تترك لتحتلها النار التي تقوم بتدفئة الأسرة ولطبخ الطعام وصنع أنواعٍ من المشروبات العشبية الدافئة.. وفي جانب المكان يتم فرش الفراش الصوفي الذي يستخدم لنوم أفراد الأسرة، بينما يتم جمعه وطيّه في الصباح لمنح الخيمة اتساعاً أكبر في النهار.. كما توضع بضع صناديق خشبية في جانب آخر تحوي أغراض العائلة البسيطة عادة..
كان الموقع الذي اختارته القبيلة يحوي نبع ماء عذب سيؤمن لها ما تحتاجه حتى تقرر مغادرة المكان عائدة للشمال في الصيف، بينما بقيت السهول خضراء رغم اشتداد البرودة مانحة الرجال بعض الأمل بأن تبقى على هذا الحال طوال الشتاء هذه السنة.. كانت ججي في بعض الأوقات تخرج مع بعض الصبية مستمتعة باستكشاف الموقع الجديد الذي يضمّ مخيمهم، وقد تناست قرارها بأن تصبح رجلاً بأسرع مما توقعت.. فكانت تمضي الساعات برفقة الصبية يذرعون المنحدر الصخري، حتى عثروا على موقعٍ يميل بهم ليلتقي بالبحر مكوناً شاطئاً ضيقاً تغزوه الصخور التي تقف صامدة أمام الأمواج القوية.. لم تكن ججي تقدر على إخفاء لهفتها وهي ترى البحر للمرة الأولى، فهي لا تذكر رؤيته في السنوات السابقة لصغر سنها، وقد قضت أياماً طويلة مع الصبية في استكشاف الشاطئ والبحر والبحث عن الكنوز التي يحويها بقلبه.. لكنهم سرعان ما فضّلوا البقاء على الشاطئ بعد أن كاد يبتلعهم بأمواجه، حتى أيقنوا بوجود وحشٍ ضخم في قلبه يسحبهم من سيقانهم لو فكروا في خوض مياه ذلك البحر الهائج..
وبعد تلك الأيام، وجدت ججي في الفجر يداً تهزها وصوت أمها تقول بتوتر "ججي.. استيقظي من النوم.."
فركت ججي عينيها وهي ترفع رأسها عن الفراش ناعسة، فقالت الأم "أبوك يطلبك حالاً.. أسرعي لئلا تستثيري غضبه.."
نهضت ججي دون ممانعة وغسلت وجهها بالماء الذي وضع قريباً من النار لتدفئته.. كانت الخيمة الخاصة بهم واسعة وأكبر حجماً من بقية الخيام، وقد اعتنت الأم بترتيب الصناديق الخشبية التي تحوي متاعهم القليل في جانب بينما وضعت وسائد مغطاة بقماش من الصوف بألوان زاهية قرب النيران التي أشعلت وسط الخيمة للتدفئة.. وغطت الأرضية بالسجاجيد المشغولة يدوياً، فيما احتل جانب الخيمة بعض الفرش والمخدات التي يبسطونها ليلاً للنوم عليها..
جلست ججي قرب النار ناعسة والأم تناولها كوباً من حليب الأغنام الدافئ المحلّى بالعسل، بينما جلس قادور قريباً وهو يتأمل النار بصمت.. ثم التفت إلى ججي قائلاً "منذ اليوم، سيبدأ مينار تعليمك استخدام السيف يا جام، بالإضافة لركوب الحصان.. عليك أن تجتهد معه وتثبت مهارتك أمامه وأمام القبيلة كاملها.."
طار النعاس من عيني ججي وهي تقول بلهفة "هل سيتمرن الصبية معي أيضاً؟.."
قال قادور هازاً رأسه "لا.. مينار سيتولى تدريبك أنت فقط.. وهو الأقدر على ذلك من بين رجال القبيلة كلهم.. فلا تخيّب ظني بك.."
هزت ججي رأسها بحماس، ولما سمعت صوت مينار أسرعت خارجة من الخيمة ركضاً وهي تسحب سيف سيجان خلفها وترتدي خوذته الواسعة على رأسها.. وفي جانب الخيمة، وقفت أم ججي بتوتر شديد وهي تراقب ما يجري.. ودّت الاعتراض على كل ما تراه، لكن هل سيسمع شخص ما قولها لو تفوهت به؟.. إن رأي المرأة لا يعتدّ به، واعتراضها يجلب السخط والاستنكار بين أفراد القبيلة..
بعد بعض الصمت، قال قادور "حركاتك العصبية هذه تعكر مزاجي.. ما الأمر؟"
نظرت له بتوتر شديد، ثم قالت وهي تدير وجهها جانباً "هل يجب أن تفعل هذا مع ججي حقاً؟.. لماذا تصرّ على تلك الفكرة المجنونة؟"
قال قادور دون أن يبدو عليه أي ضيق "الفكرة المجنونة لا تأتي إلا من مجنون.. فهل ترينني كذلك؟"
قالت بوجه محتقن "لا.. لم أعنِ ذلك مطلقاً.."
فقال قادور "ثم إنني نهيتكِ مراتٍ عدة عن مناداته بذاك الاسم يا ستينا.. إنه الآن فا-جام.. وهو ابني، وليس فتاة أبداً.."
خفضت ستينا بصرها باستياء شديد، ولما نهض مغادراً الغيمة غمغمت محاولة كبت غضبها "كم يوماً تظن رجال القبيلة سيصمتون على ما يرونه؟.. لو حلت بنا أي كارثة، فسيعدّون ذلك شؤماً جلبه جام عليهم، وسيقتلونه دون الرجوع إليك.. أهذا ما تبغيه حقاً؟"
قال قادور وهو ينظر لها بنظرة حادة "رجال القبيلة لا يمكنهم الاعتراض بكلمة في حضوري، ولن يمسّوا جام بأي أذىً خشية مني.."
ثم استدار مغادراً وهو يضيف "كوني شاكرة لأنني رفعت من شأن أحد أطفالك، ولو كنتُ أصغر سناً وأقل هموماً مما أنا فيه الآن، لما ترددت في الزواج من أخرى تنجب لي الابن الذي لم تتمكني من إنجابه أنتِ.."
احتقن وجه ستينا بشدة وهي تجلس قرب طفلتها الرضيعة في جانب الخيمة.. هل يعايرها بإنجابها للبنات؟.. وهل كانت تختار إنجابهم حقاً؟.. لو كان الأمر بيدها، لما أنجبت إلا الصبية.. ليس رغبة منها في علو المكانة والحصول على حظوة لدى زوجها، بل لتجنّب بناتها هذا المصير الذي لا يسعدها بأي حال، ولا تختلف فيه أي فتاة من فتيات الأكاشي.. فما سيكون مصير ججي وهي تتخذ طريقاً لم تتخذه فتاة غيرها قط؟.. ما النهاية المأساوية لمثل هذا الجنون الذي يصرّ عليه قادور ويسعى إليه؟..

************************

أمضت ججي أياماً طويلة في جانب بعيد من المخيّم مع مينار الذي لم يتوانَ عن تدريبها بكل حزم وصرامة.. رغم أنها لم تتجاوز الخامسة من عمرها، لكنها كانت تخوض ذات التدريبات التي يخوضها الصبية في العاشرة.. أما من هم في عمرها، فمن يتدرب منهم لا يحظى إلا بسيف خشبي خفيف حتى يقوى ساعده ويصبح قادراً على حمل السيوف الحديدية الثقيلة.. وجلّهم يبقى طليقاً يركض في المراعي خلف الأغنام أو يساعد والديه في أعمالهما دون أي شاغل..
أما ججي، فقد أجبرها مينار على استخدام سيف سيجان الذي يفوقها طولاً وبثقل لا تكاد معه ترفعه لأكثر من ثوانٍ عدة.. ظل يجبرها على رفعه والإبقاء عليه عالياً قدر الإمكان، ويستمر هذا التمرين لعدة ساعات مع فترات راحة قصيرة.. ولما تتذمر ججي وتبكي متألمة من تشنج ذراعيها الضعيفتين، كان مينار يخبرها بحزم أن التذمر والبكاء لن يفيدانها، وتضطر لخوض عقوبة مجددة بحمل السيف لساعة أو اثنتين من جديد.. لم تعلم ججي الهدف من هذا التمرين التافه، كل ما يهمها هو التلويح بالسيف الثقيل وضرب أعدائها الوهميين في مقتل.. فكان مينار يعلق وهو يتخلل لحيته الطويلة الشقراء بأصابعه "ستفعل يا جام.. ستفعل ذلك بالتأكيد لو أطعت كل ما أطلبه منك.. فلن يرضى قادور بأقل من ذلك منك.."
رفعت ججي السيف بذراعين ترتجفان وهي تقول بتذمر "متى ستسمح لي بقتال أعداءٍ حقيقيين؟"
ابتسم مينار بجانب فمه مجيباً "عندما يتجاوز طولك طولي.."
نظرت لمينار وهي تقيس طوله بعينيها، ثم زفرت وهي ترفع السيف بذراعٍ متعبة لتفاجأ به يسقط على رأسها فيضرب الخوذة التي تحمي رأسها بقوة، وبينما انحنت وهي تضع يدها على رأسها بألم، فإن مينار علق قائلاً "ألن تكفّ عن هذا العبث؟.. ما يزال أمامك بضع ساعات من التدريب المكثف، فلا تشغلني بأسئلتك العديدة هذه.."
لم تدرك ججي ما فائدة ذلك التدريب الذي أمضت شهوراً طويلة تقوم به، ولم تنتبه أن ساعدها أصبح أقوى ولو بشكل بسيط وأنها أصبحت أكثر قدرة على إبقاء السيف عالياً لبضع دقائق.. ومع ذلك، أصرّ مينار على الاستمرار في هذا التمرين بالإضافة لتمارين ركوب الخيل.. وبينما يتراكض الصبية عابثين في جوانب المخيم، فإن ججي تحمل سيفها عالياً بتعب وهي تكتم تذمراتها وتأوهاتها لئلا تحصل على عقوبة مضاعفة.. وفي كل ليلة، عندما تعود منهكة لتتناول عشاءها البسيط وتستلقي على فراشها في نومٍ أقرب للغيبوبة، فإن أمها تدلك ذراعيها وساقيها بمزيج الزيوت المهدئة وهي تدمدم بعيداً عن مسامع زوجها "ما الذي يظن ذلك الرجل أنه سيحققه مع فتاة في مثل عمرك؟.. إنه يهذي، وسيصبح عما قريب مثار سخرية جميع زعماء القبائل الأخرى.."
غمغمت ججي من بين عينيها المغلقتين "أنا لست فتاة.."
فقالت الأم بعصبية "ولستِ رجلاً كذلك.. كفاك أحلاماً بلهاء يا ابنتي.."
لكن ججي كانت قد غرقت في نومٍ عميق لن تستيقظ منه إلا فجر اليوم التالي لتبدأ نهارها بامتطاء ظهر أحد الأحصنة في جولة طويلة قبل أن تعود لتدريبات السيف المكثفة.. وبعد أن مضت شهور الشتاء القاسية، حيث غطّت طبقة من الثلج الخفيف السهول حولهم إلا مناطق قليلة فقط، وبعد أن تيبست يدا ججي وهي تمارس تمارينها في تلك البرودة القارسة، فإن مينار قادها في أحد الأيام قبل مغيب الشمس بقليل نحو مربط الخيول الواقع جنوبي المخيم حيث يحتفظ قادور بمجموعة من الخيول التي تخصه معزولة عما يملكه بقية رجال القبيلة.. وفي جانب المكان، وجدت ججي بعض المِهار الوليدة وهي تسعى خبباً في المكان وتصهل بأصواتها الضعيفة..
وقفت ججي تتأمل المِهار، بينما اقترب مينار من البوابة الخشبية القصيرة التي تحجز الموقع عن بقية الخيول، ففتحه وقال لها "منذ اليوم، ستختار أحد تلك المِهار ليكون خاصاً بك.. لقد أوصى قادور بأن تختار مهراً وتتولي العناية به بنفسك منذ اليوم وحتى تتمكن من امتطائه عندما يشتدّ عوده.."
تلألأت عينا ججي بانفعال وأسرعت تتبع مينار الذي أغلق البوابة الخشبية خلفه.. وقفت ججي وسط الموقع تتأمل المِهار بفضول وحماس وهي تراقبها وتتأمل ملامحها الانسيابية وعرفها القصير وألوانها المتباينة.. تقدمت خطوات في المكان وهي تقلب بصرها يميناً ويساراً، وكلما حاولت التقدم من أحد تلك المهار وجدت بعضها يتراجع خطوات مبتعداً عنها وبعضها يفرّ هارباً لعدم اعتياده عليها.. وأخيراً، استرعى انتباهها مهرة جميلة وصغيرة مقارنة بالآخرين، بلون رمادي مبقع كنمش يغزو جسدها كله، وغمّست أطرافها بلون أبيض، بينما غطت أنفها بقعة بيضاء حتى ما بين عينيها.. وعلى عنقها، انتصب عرفها القصير أشهب اللون بشكل استرعى انتباه ججي بشدة وهي تقترب بحـذر من المهرة التي تراجعت خطوة وهي ترمق ججي بعينين سوداوين جميلتين..
اقتربت ججي من المهرة وربتت على أنفها بلطف، ومسحت جانب عنقها وعرفها بشغف شديد بينما بدأت المهرة تتجاوب معها بشيء من التردد.. أخيراً، التفتت ججي لمينار الذي كان يراقبها عن كثب وقالت بلهفة "هل أستطيع الحصول على هذه؟"
أجابها مينار "طبعاً.."
فقالت ججي بحماس "إذن ستكون هذه ملكي.. سأسميها الغبراء.. ألا يليق بها هذا الاسم؟"
هز مينار رأسه مبتسماً، ثم اقترب من المهرة ومسح على رأسها وعنقها قائلاً لججي "عليك أن تعتني بها منذ اليوم، وتواضب على ذلك بشكل يومي دون أي تقاعس.. وبعد أن يشتدّ عود المهرة، سيمكنك امتطاؤها ومرافقتها في تدريباتك اليومية.."
تألق وجه ججي بسعادة وهي تراقب المهرة الصغيرة، وهمست وهي تمسح على أنفها "سنكون معاً دائماً يا مهرتي.. أليس هذا خبراً سعيداً؟"
فقال مينار "تعالَ معي.. سأريك ما عليك فعله كل يوم.. ولن أكون معك لأراقبك، لذلك عليك أن تهتم بهذه المهرة وحيداً كل صباح ومساء منذ اليوم.."
لم تعترض ججي وهي تتبعه بلهفة.. هذا على الأقل أمر ستستمتع بالقيام به ولن تتوانى عنه في أي يوم.. وهذا يضيف بعض المتعة لتدريباتها وأعمالها اليومية التي تتكرر بشكل مضجر..

************************

اطلانتس likes this.

خيااال غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 30-01-16, 09:34 AM   #10

خيااال
 
الصورة الرمزية خيااال

? العضوٌ??? » 360178
?  التسِجيلٌ » Dec 2015
? مشَارَ?اتْي » 189
?  نُقآطِيْ » خيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond reputeخيااال has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الثاني {مبلغ الرجال}



مضت عدة سنوات على ججي وهي في تدريباتها اليومية الصارمة، وتقضي آخر ساعات النهار في التجوال على ظهر فرسها في التلال القريبة بحرية كبيرة بعد أن أصبحت أكثر مهارة في امتطائها واكتسبت ثقة مينار بها وبقدراتها.. وكلما ازدادت ججي اقتراباً من هدفها ونيل رضا أبيها عنها، ازدادت أمها حسرةً واكتسبت نظراتها مرارة رغم صمتها التام.. لم تجرؤ على الاعتراض منذ فعلت ذلك في المرة الأولى ولاقت رداً قاسياً من قادور، واكتفت بأن انشغلت بصغيرتها تينا التي سرعان ما أصبحت في الثامنة من عمرها وصارت تعاونها في أعمالها رغم صغر سنها.. وبينما فقدت ستينا ابنتها فاتي بعد زواجها ورحيلها لقبيلة أخرى مع زوجها، فإنها فقدت ابنتها الثانية أيضاً التي أصبحت بين ليلة وضحاها ابناً لم تنجبه قط..
كانت ستينا واثقة أن الأيام لن تطول بججي قبل أن تتملل من هذه التمارين القاسية وهذه الحياة الرتيبة، وستسعى عندها للتحرر من تلك القيود التي لا تناسب فتاة بعمرها.. لكن إصرار ججي ومثابرتها قد سببا لها قلقاً في البدء ثم ذعراً بعد ذلك.. بدا لها بوضوح أن ابنتها أكثر عناداً من أبيها، وأنها لن تتنازل عن هدفها أبداً ولن تتوانى عن تحقيق طموح أبيها المجنون بتحويلها لنسخة مشوهة من سيجان..
وفي يوم من الأيام، مع انتهاء النهار واقتراب الليل بشكل حثيث، وجدت ججي أباها يقتادها عبر المخيّم لجانب منه، حيث وضعت الماشية في سياج خاص بها بعد أن عادت من المراعي القريبة.. كانت ججي قد بلغت الثالثة عشر من العمر، وأصبحت طويلة كأبيها ونحيفة كأمها، لكنها لم تمتلك نعومتها وضعفها بل أصبحت أقوى ساعداً من كثير من الصبية الذين يماثلونها في العمر والذين بدؤوا تمارينهم في تلك السنة.. وأصبحت تقدر على حمل سيف سيجان بسهولة والتطويح به بدقة وثبات دون أن يسقط من يدها أو يخطئ هدفه بسبب اندفاعه القوي.. كما أنها تمتطي ظهر فرسها الغبراء كأفضل ما يكون وتعدو بها قاطعة التلال القريبة ولمسافات طويلة دون تعب.. وبعد إتقانها كل هذا، بدأ مينار تعليمها استخدام القوس والسهام ورمي الرمح وغيرها من المهارات التي يتقنها رجال الأكاشي إتقاناً تاماً..
وفي ذلك اليوم، تبعت ججي أباها بصمت بعد أن أنهت تدريباتها اليومية، وقرب موضع الماشية وجدته يناولها خنجراً متوسط الحجم في إشارة صامتة.. تناولت ججي الخنجر للحظة بصمت ونظرت إلى أبيها بشيء من الدهشة ثم نظرت تجاه الماعز الذي يتراكض في سياجه بكل نشاط.. فقالت بشيء من التردد "أأنت واثق من مقدرتي على هذا؟"
قال قادور بحسم "بالطبع.. إن لم تفعل، فأنت لا تستحق كل ما حصلت عليه.."
خفق قلبها بقوة لهذا القول.. هل فشلها يعني أنه سيجردها من كل ما منحها من مميزات؟.. ترعبها مثل تلك الفكرة أكثر مما يطلب منها فعله الآن..
تقدمت من البوابة الخشبية ودخلت متطلعة حولها، حتى وقع اختيارها على معزٍ صغير والذي بدا لعينيها مناسباً.. فاقتربت منه وجذبته من قرنه القصير وهو يضرب بأقدامه الأرض محتجاً ويدير رأسه محاولاً الإفلات من قبضتها.. لكنها لم تسمح له بالإفلات وهي تغادر به ذلك السياج مغلقة الباب خلفها.. وفي جانب بعيد، وبشيء من التردد، أجبرت الماعز على الاستلقاء أرضاً وهي تضع ركبتها على جسده لئلا يقاومها بينما أطلق ثغاءً حاداً وهو يركل بقدميه محاولاً الإفلات..
نظرت ججي للخنجر في يدها التي بدأت ترتجف، ونظرت لعنق الماعز بصمت وقادور يقف قربها.. فقال لها بلهجة آمرة "افعل هذا.."
شدّت ججي يدها على الخنجر وقربته من عنق الماعز، لكن عندما سمعت صوته المذعور وجف قلبها لذلك وأبعدت الخنجر وارتجافة يدها تزداد.. فصاح قادور بحدة "افعل هذا لو كنت رجلاً.."
لم تكن ججي تستنكر رؤية الماشية وهي تذبح وتسلخ، لكنها لم تفعله قط.. لم تواجه هذا الموقف بنفسها قط، وصوت الماعز ومقاومته يؤلمان قلبها ويزيدان الرجفة في يديها وهي تكاد ترفع ركبتها وتفلته من أسره.. لكن صيحة غاضبة من أبيها جعلتها تتجاوز ترددها في لحظة وهي تمسك رأسه بيدٍ وتدفع الخنجر نحو عنقه فتحزّه بأسرع وأقوى ما تملك.. بدأ الجسد الصغير تحتها بالانتفاض والدماء تغرقها، وبدأت الرؤية تغيم في عيني ججي وهي تشعر بالدموع تتجمع في عينيها وتسيل على وجنتيها.. لكنها لم تقدر على مسحها وهي منشغلة بما تفعله حتى تمكنت من إحداث جرح عميق وطولي في العنق، وظلت تمسك الجسد الذي انتفض انتفاضات قوية حتى همد تماماً ودموعها تتساقط عليه دون توقف..
لم يعلق قادور على دموع ججي التي حاولت كتمها قدر استطاعتها، ولما سكن جسد الماعز، قال لججي بهدوء "استخرج قلبه.."
نظرت له بعدم فهم، فقال لها بإصرار "افعل ما آمرك به.."
عادت ججي باضطراب إلى الجسد الصغير، فبدأت بشق صدره بشكل عشوائي بحثاً عن قلبه وهي تمسح دموعها بكم قميصها.. ولما عثرت عليه، قطعت العروق التي تتشبث به بإصرار، واستخرجته بيدٍ دامية ترتجف.. عندها قال لها قادور بصرامة "والآن، لكي تصبح رجلاً حقاً، عليك التهام هذا القلب حتى آخر قطعة.."
نظرت له ججي بصدمة كبيرة.. فهي رغم معرفتها بطقوس البلوغ التي يقوم بها فتية الأكاشي عادة، فإنها لم ترَ ذلك قط.. ولم تجربه قط بالطبع.. نظرت ليدها التي ترتجف والدماء تغرقها، ثم غمغمت بصوت حاولت تمالك رجفته "ألا يقوم الفتية بهذه الطقوس في الخامسة عشر من العمر؟"
فقال قادور بحزم "لكنك لست كأي فتىً آخر ولن تكون.. أنا أريدك أن تكون الأفضل.. أن تكون الأقوى والأشدّ بينهم.. لو قمت بذات التدريبات والطقوس التي يقوم بها بقية الفتية، فسيتضح الفرق بينك وبينهم بسرعة كبيرة.. لكنني سعيت لأن تبدأ باكراً، وتتقن كل ما يتقنه الفتية قبل أن يغادر أحدهم حضن أمه.. وبهذا، ستكون الأكثر تفوقاً بينهم بلا منازع.."
قربت ججي القطعـة الدامية من فمها، ولما شمّت رائحة الدماء القوية منها، غالبها غثيان شديد وهي عاجزة عن التصرف.. لو لم تنفّذ ما يطلبه أبوها، فلا تدري بمَ سيعاقبها جزاء عصيانها الأوامر، وربما يعْدِل عن فكرة جعلها رجلاً بالكامل، وهي لن تطيق أن تصبح مجرد فتاة..
تذكرت فرسها الجميلة الغبراء، وتذكرت الشعور الذي تتلهف عليه كل صباح بامتطائها والركض لمسافات طويلة وبكل حرية.. هل تتنازل عن هذا لتركب العربات الضيقة البطيئة مع بقية النسوة؟..
كان هذا التفكير جزءاً من الدافع الذي دفعها لإطاعة أبيها وهي تدفع القطعة الدامية في فمها، فاقتطعت قطعة بأسنانها وسارعت لابتلاعها وهي تقاوم الغثيان الشديد الذي شعرت به.. وإزاء النظرات الراضية التي حلّت محلّ الضيق السابق في وجه قادور، فإن ججي تشجعت أكثر وهي تقتطع قطعة أخرى فأخرى وتزدرد ما تقطع بسرعة ودون تردد.. وللدهشة انقضى الأمر بأسرع مما توقعت وهي ترى يدها خالية إلا من الدماء اللزجة والرائحة المنفرة.. لكن فرحة ججي بإنجازها لم تكتمل وهي تجد دموعها تسيل على خديها أغزر من السابق..
ابتسم قادور راضياً وقال مربتاً على كتف ججي "الآن، أصبحت رجلاً يا جام.. الآن أنا فخور بك أشد ما أكون.."
ابتسمت ججي ابتسامة مرتجفة، بينما قال قادور قبل أن يغادر "أكمل عملك بسلخ جلد هذا الماعز وإحضاره للمخيم.. سيكون هذا عشاؤنا لليلة.."
لم تملك ججي الاعتراض رغم أنها كانت تود الهرب من هذا المكان كله.. استاءت للضعف والتهاوي الذي شعرت به.. كيف ستقاتل أعداء أبيها إذا كانت تبكي لذبح معْزٍ صغير والتهام قلبه؟.. أليست رجلاً؟.. أليست من الأكاشي الأقوياء؟..
استمرت في عملها بصمت بعد رحيل أبيها رغم عدم خبرتها، وكادت تجرح نفسها عدة مرات حتى نجحت في جرح يدها اليسرى بين الإبهام والسبابة.. لكنها تجاهلت ذلك الجرح وذاك الألم وهي تستمر في عملها، حتى شعرت بمينار يقترب منها.. لم تلتفت إليه وهي مستمرة بما تقوم به وهو يركع قربها يراقب ما تفعله ويرشدها بكلمات بسيطة.. ثم قال لها مع مرأى الدموع التي أغرقت وجهها "لا داعي لكل هذا الذعر يا جام.. كنتَ ستمر بهذا عاجلاً أم آجلاً مادمت تنتمي للأكاشي، ومادمت قد عزمتَ على أن تصبح ما أنت عليه الآن.."
لم تعلق وهي تمسح ما سال من دموعها بكمها الملوث بالدماء، بينما أضاف مينار "رغم أن الوقت أبكر من المعتاد، لكن قادور يثق من أنك ستقدر عليه، ويثق أن هذا سيجعلك أقوى وأشدّ قلباً.."
غمغمت ججي محاولة تمالك نفسها "لا تقلق يا مينار.. أنا بخير.."
ربت مينار على رأسها بابتسامة راضية، ثم عاونها على التخلص من الأحشاء وتنظيف الجلد تمهيداً لتجفيفه ودبغه، وبعدها استخدامه في صناعة سرجٍ خاص لها بدل سرجها القديم الذي أصبح بالياً..
كانت ججي أقوى مما يتوقع الجميع، ورغم سنّها الصغيرة وقسوة ما يتطلبه منها ما تسعى إليه، لكنها كانت مثابرة وحريصة على عدم تخييب ظن أبيها بها.. كانت تسعى لتعويضه عن فقد سيجان، ولتنال كل المميزات التي حظيَ بها أخوها الفقيد في حياته، والتي لطالما حسدته عليها..

************************

في تلك الليلة، أقام قادور احتفالاً كبيراً في المخيم وأمر بالعديد من الماشية التي تخصه بأن تذبح وتشوى لإطعام القبيلة كلها.. كان هذا إعلاناً واضحاً لبلوغ ججي مبلغ الرجال، رغم صغر سنها عن السن المفترضة لمثل هذا وبتجاهل تام لكونها فتاة، ورغم سعادة قادور فإن الاستياء قد بدا بوضوح على كل رجلٍ من رجال القبيلة وشبابها وفِتْيتها.. لكن مع تدافع الصبية والنساء للاحتفال متجاهلين السبب الذي أقيم له، فإن بقية الرجال قد أرغموا على تجاهل ما يسبب لهم الضيق وانغمسوا في مثل تلك الاحتفالات التي نادراً ما تقام في مخيمهم وما تجلبه من سعادة وحبور بين أفراد القبيلة كلها لسببٍ أو لآخر..
ورغم أصداء الاحتفال العالية، فإن ججي بدت ببؤسٍ واضح وغمٍّ أوضح لم يغِب عن عيني ستينا التي انزوت في خيمتها رافضة المشاركة في ذلك الاحتفال.. ولما دخلت ججي الخيمة بحثاً عن ملابس تستبدل بها ملابسها الغارقة بالدماء، فإن ستينا قالت لها بصوت جاف وعصبية واضحة "هل أنتِ سعيدة لما أنتِ عليه الآن؟"
نظرت لها ججي بقلق، ثم اقتربت منها قائلة "لمَ أنتِ حزينة دائماً يا أماه؟.. ما الذي يزعجك فيما أفعله؟"
قالت ستينا بحنق "ما الذي يزعجني؟.. كل ما تفعلينه طوال النهار والليل.. حياتك كلها لا تعجبني يا ججي.."
ثم أدارت وجهها جانباً قائلة بغضب "لقد تجاوزت عن الأمر في البدء لأنكِ كنت صغيرة، وأنا لم أكن أستطيع معارضة قادور بشكل صريح.. لكنك الآن كبيرة بما يكفي لتدركي ما تفعلينه، ولتصححي هذا الخطأ العظيم.."
قالت ججي مقطبة "وما الخطأ فيما أفعله؟.. أنا لا أفهمك يا أمي.. أليس هذا أفضل مما لو كنتُ فتاة؟"
صاحت ستينا "أفضل؟.. أهذا ما ترينه حقاً أيتها البلهاء؟"
تزيد الغضب في صدر ججي لصياح أمها، فقالت بحدة بدورها "أجل.. أنا أراه أفضل بالتأكيد.. أليس هذا ما تمنيتِه طويلاً؟.. أتظنين أنني لا أدرك حسرتك لأنك لم تنجبي إلا إناثاً؟.. ألم تتحدثي أمام إحدى النسوة عن حزنك لما سيؤول إليه حال بناتك ورغبتك ألا يصبح حالهن مثلك؟.."
أخِذَت ستينا بقول ججي وهي تتراجع بظهرها للوراء وتنظر لثورتها بعينين متسعتين، بينما قالت ججي بحنق "كيف تريدين مني أن أسعى لأصبح ما تكرهينه أنت؟.. لقد فكرت طويلاً بكل ما أراه، وكل ما أسمعه.. أنا لست صغيرة كما تؤكدين أنتِ، وأدرك ما أسعى إليه بكل تأكيد.."
ونظرت لأمها بنظرة حازمة وهي تقول "كل ما أريده ألا أصير ما أصبحتِ عليه أنتِ وفاتي.."
نظرت إليها ستينا بمرارة وقالت بصوت متهدج "أنا لم أعنِ ما فهمته، ولست أكره وجودكن في حياتي أبداً يا ججي.."
ثم تشبثت بثياب ججي وهي تقول بصوت مرير "أنتِ سعيدة بما أنت عليه لأنك صغيرة، ولأنك بحماية أبيك وهو زعيم هذه القبيلة.. لكن الأمور لن تدوم هكذا لوقت طويل.. أتدركين ما سيحدث لو مات أبوك؟.. أتظنين أن رجال القبيلة عندها سيصمتون لما تفعلينه وهو وصمة عارٍ عليهم؟.. أتظنين أنهم سيسمحون لك بالاستمرار بهذه المهزلة بعد أن تصبحي امرأة يافعة وبعد أن تتناقل القبائل أخبارك بسخرية وهزء من رجال هذه القبيلة؟.."
وتدافعت الدموع من عينيها وهي تقول بحرقة "سيقتلونك يا ججي.. سيقتلونك دون رحمة في اللحظة التي ستفقدين فيها حماية أبيك.."
مدت ججي يدها ومسحت الدموع عن وجنتي أمها، ثم قالت بحزم "لا تحزني يا أمي ولا تقلقي.. لن أسمح بذلك أبداً.. ولن أتنازل عن كل ما حصلت عليه حتى الآن.."
أبعدتها ستينا بحزن عميق وقالت "افعلي ما تشائين يا فتاة.. لا سلطة لي عليك بعد الآن.."
زفرت ججي وهي تتطلع لظهر أمها المنحني، ثم استدارت وأنهت استبدال ملابسها ثم خرجت من الخيمة بصمت.. لم تكن بها أي رغبة للاحتفال في هذا اليوم بالذات، لكنها لم تشأ إغضاب أبيها أو تخييب ظنه.. فلتمضِ هذه الليلة على خير، والصباح كفيلٌ بأن يغسل خلافات الليلة التي تسبقه كلها..
ووسط المخيم، استطاعت ججي أن ترى النار العظيمة التي أشعلت وسطه والاستعدادات التي يقوم بها أفراد القبيلة للاحتفال بذبح الخراف وإعدادها للشوي وإعداد بعض الأطعمة والشراب الملائمة لهذا الاحتفال.. بينما جلس الزعيم مع الرجال الأكبر سناً في موقع قريب من النيران وعلى فراشٍ عريض فرش أرضاً وصفّت عليه الوسائد المريحة..
كانت الاحتفالات في المعتاد تضمّ بضع ألعاب يقوم بها الشبان على ظهور خيولهم في جانب مفتوح من المخيم، أو استعراض مهاراتهم في رمي الرمح، ورقصات حول النار تتنافس فيها الفتيات في إظهار رشاقتهن وقدّهن النحيل.. وفي هذه المرة، أرغمت ججي على المشاركة في لعبة رمي الكرة التي يقوم بها الشبان عادة ما بين الرابعة عشر والعشرين.. ورغم أنها تتلهف عادة للمشاركة في تلك المسابقات التي تبدو لها ممتعة، لكنها لم تكن تشعر بأي سعادة في هذا اليوم لهذه التجربة..
كانت تلك اللعبة تضمّ خمسة عشر شاباً في المعتاد، وتتمحور حول كرة من جلد الأغنام المدبوغ مخاطة بخيوط سميكة ومعبأة برمل لتتشكل بشكلها الكروي.. وعلى من يتمكن من اختطاف الكرة أن يرميها نحو أقرب منافس بقوة ويحاول إسقاطه من على ظهر حصانه، أما المستهدف فعليه أن يتفادى الضربة والسقوط بالتالي، أو يحاول التقاطها ويردها نحو غريمه بأقوى ما يملك.. والفائز من يتمكن من البقاء على ظهر حصانه للنهاية، ويُسقِط أكبر عددٍ من منافسيه.. ولا تنتهي اللعبة إلا بسقوط الجميع ووجود فائز واحد.. ولو طال اللعب لساعات لمهارة المشاركين في تفادي الهزيمة، يتمّ فضّ اللعبة بعد أن يستبدّ بالشباب الملل والتعب الشديد ليعودوا للنار مشاركين في التهام ما تمّ شيّه من لحوم واحتساء اللبن المختمر حاذق الطعم..
عندما تشكّل الفريق الذي سيشارك في اللعبة، فإن ججي كانت قد أحضرت فرسها الغبراء وبدأت امتطاءها استعداداً للمشاركة في هذه اللعبة.. ولما وضعت قدمها على الرِكاب ورفعت ساقها الأخرى لترفع نفسها فوق السرج، فوجئت في تلك اللحظة بشاب من الشباب المشاركين في اللعبة يدفع رمحه من الجانب الخشبي في كتفها بقوة حتى أسقطها من على ظهر الفرس بشكل أثار ضحك بقية الرجال.. التفت قادور الذي لم يرَ ما جرى لججي ورمقها بنظرة حانقة ظناً منه أنها قد تعثرت وسقطت بنفسها.. بينما نهضت ججي بسرعة ونفضت ملابسها بصمت دون أن تنطق بكلمة أو تظهر ضيقها.. وأسرعت تمتطي ظهر الفرس دون أن يحاول الرجال عرقلتها مع نظرات قادور المصوّبة تجاههم..
التزمت ججي الصمت ولم تعلق على ما جري متّبعة نصيحة مينار الدائمة لها بتجاهل إساءات بقية رجال القبيلة لها.. فكما وضّح لها مينار لاحقاً، لو أسرعت بالشكوى لأبيها عما يجري لها، فستظهر بمظهر الضعيف أمامه، وستكتسب كراهية مضاعفة من الرجال لو تدخل في أمورها.. وهذا ما لا تريده بأي حال في هذه الأوقات.. وفي الواقع، كانت معتادة على تصرفات الرجال نحوها منذ بدأت بتنفيذ طلبات أبيها ومنذ أعلنها ابناً له.. كان الغضب الذي يعمي عيونهم ويوغر صدورهم نحوها مفهوماً، فهم لا يقبلون بفتاة تمتطي ظهور الأحصنة مثلهم وتملك سيفاً مثلهم.. فكيف يمكنهم أن يقبلوا بأمر مثل هذا ليس له سابقة في تاريخ الأكاشي الذي يعتزّون به؟..
كانت في أوقات كثيرة تفاجأ بمجموعة من القاذورات تسقط على رأسها دون سبب، أو بمياه صقيعية تنسكب عليها في وقت مبكر من النهار.. وبينما وجدت سرجها ممزقاً شر تمزيق في أوقات كثيرة حتى أصبحت تحتفظ به في جانب خيمة أبيها، فإنها تجاهلت كل ما تمر به بصمت تام دون أن يعلم امرؤٌ بما يجري لها عدا مينار.. فهو الوحيد الذي يلاحظ ما تمر به ويعاونها بصمت على تجديد سرجها البالي وعلى تفادي أي مضايقات أخرى.. لكنه لم يقم ولا لمرة بالتحدث مع قادور أو مع الرجال عن هذا الأمر مفضلاً تركه لججي لتتدبر أمورها بنفسها.. وعلى كل حال، اعتبر مينار هذا خبرة ملائمة لججي لتنتبه لما يحاك لها وتستدرك أي مقالب قد تدبر ضدها..
بعد أن امتطت ظهر الفرس من جديد، جذبت ججي لجامها وركضت تابعة مجموعة الشباب تلك وهي تتلفت حولها حتى رأت ذلك الرجل الذي حمل الكرة ورماها عالياً وسط اللاعبين.. وسرعان ما اختطف أمهر اللاعبين الكرة من بين البقية، وكما توقع مينار الذي يراقب اللعبة من جانب المكان، وجّه ذلك اللاعب كرته بضربة قوية خاطفة نحو ججي أصابتها في رأسها وكادت تسقطها.. لكنها تشبثت باللجام والسرج بقوة واعتدلت متناسية الألم الذي ينبض في رأسها وهي تتلفت حولها بحثاً عن الكرة.. لكن شاباً آخر كان قد تناول الكرة قبل سقوطها ووجّهها في ضربة جديدة نحو ججي التي تفادتها هذه المرة وهي تدفع الغبراء للركض بعيداً عن ذلك الموقع حيث بقية اللاعبين يحيطون بها.. وبينما سقط أحد اللاعبين بضربة من آخر، وبعد أن أدارت ججي الغبراء مواجهة البقية، فوجئت بالكرة تنقذف نحو وجهها بقوة أصابتها بضربة على أنفها كانت من العنف بحيث أسقطتها أرضاً.. أصاب ججي دوارٌ عنيف وهي تعتدل جالسة بينما اللاعبون يركضون بخيولهم خلف الكرة التي سقطت خلفها.. وبينما تجاوزها بعضهم سعياً وراء الكرة، فوجئت ججي بأحد الشبان وهو يندفع نحوها بحصانه ويوقفه بحدة جاذباً لجامه بشدة.. رفع الحصان قائمتيه الأماميتين مطلقاً صهيلاً عالياً وعينا ججي تتسعان بذهول وهي ترى حوافر الحصان واضحة وقريبة منها.. ولو هوت تلك الحوافر عليها، فقد تدوسها مسببة لها إصابات خطيرة وربما تتسبب في قتلها مع حجم الحصان الكبير مقارنة بجسدها الضعيف..
ولما هوت الحوافر نحوها، والشاب على ظهره يبتسم ابتسامة متشفية، وجدت ججي يداً تجذبها من عنق قميصها فتبعدها عن ذلك الموقع الذي ارتطمت به الحوافر بقوة مثيرة الغبار بشدة.. بينما أوقفها مينار الذي سحبها وهو يقول للشاب القريب بغضب "ألن تكفّ عن هذه الألاعيب الخبيثة؟.."
قال الشاب بسخرية "لمَ تدافع عنها؟.. ألم تصبح (رجلاً) كما يقول الزعيم؟"
لم يعلق مينار وهو يسحب ججي خلفه ويجذب لجام فرسها لتبتعد عن موقع اللعبة التي استمرت وصوت الضحكات الهازئة يصل لسمع ججي بوضوح.. كان الدوار يُعشي عينيها والدماء تسيل من أنفها بسبب الضربة السابقة وهي تتبع مينار بوجه شاحب، عندما وجدا قادور يقف أمامهما قائلاً لمينار بصرامة "ما الذي تفعله؟.. لماذا تتدخل في لعبة يلعبها الشباب في كل احتفال دون أي مقاطعة من الرجال الأكبر سناً؟"
صمت مينار للحظة ملاحظاً الغضب في عيني قادور، ثم قال موازناً كلماته "هذه تجربة جام الأولى، وهو لم يعتد على اللعبة العنيفة هذه.. خشيت أن تدهسه الحوافر فلا يغدو قادراً على ممارسة تمارينه لوقت طويل.."
قال قادور بغضب "هذا لا معنى له.. كان على جام أن يتحمل مسؤولية أخطائه وتصرفاته.. تصرفك هذا يوحي للجميع أن جام ضعيفٌ لا يقوى على الدفاع عن نفسه.."
صمت مينار دون تعليق، بينما قال قادور بحنق أشد "أنا وكّلتك لتدريب جام، ولم أخوّلك وصياً عليه.. تصرفك هذا يجعلني متشككاً في قراري بشدة.."
قلبت ججي بصرها بينهما وهي قلقة من غضب أبيها وما قد ينتج عنه.. وخشيت أن يقوم باستبعاد مينار من تدريبها وهو أمر ستكرهه بشدة، لذا أسرعت بالوقوف أمام أبيها محنية رأسها وهي تقول "اعذرني يا أبي.. لن أكرر هذا الخطأ مرة أخرى.. لن أجد أفضل من مينار لتدريبي والعناية بي، لذلك أرجوك لا تلُمه على ما فعله.."
نظر لها قادور بضيق شديد، ثم استدار قائلاً "سنرى بشأن ذلك.."
وابتعد عائداً لموقعه السابق، بينما وضع مينار يده على رأس ججي قائلاً "لم يكن هناك داعٍ للاعتذار.. قادور ما كان ليفعل ما تخشاه أبداً.."
وابتعد تاركاً ججي واقفة في موقعها والأصوات الصادرة عن القبيلة التي لم تتوقف عن احتفالاتها يصيبها بصداعٍ شديد وكآبة أشد..
جلست ججي جانباً تتطلع لرقص الفتيات حول النار وضحك الرجال وأحاديثهم في جانب المكان.. خايلها أن تلك الضحكات مصوبة نحوها، وأن ابتسامات الفتيات هي سخرية منها، ولم يبتعد عنها هذا الشعور وهي تدير عينيها جانباً وكأنها تهرب من النظرات المختلسة نحوها بينما جلس مينار قربها صامتاً يحتسي شراباً دافئاً.. فقالت ججي بعد لحظات بصوت متهدج "أنا آسفة لغضب أبي الذي وجّهه نحوك يا مينار.."
قال مينار بهدوء "أنتَ لست فتاة.. فلا تتحدث كذلك.."
استدركت وهي تخفض وجهها قائلة "آسفٌ لذلك يا مينار.. لقد غضب أبي منك بسببي.."
قال مينار ببساطة "لا يهمني ذلك.. ما يهمني أنك بخير، فلا أريد تأجيل التمرينات القادمة بسبب إصابات في جسدك.."
فسألت ججي بشيء من المرارة "لمَ يكرهني رجال قبيلتي بهذه الصورة؟.. ما الذي فعلته لهم؟"
أجاب مينار "إنهم لا يرونك إلا كفتاة، وقوانين الأكاشي صارمة في هذا الأمر كما تعلم.. ما فعله قادور بإعلانك ابناً سابقة لم تحدث من قبل، وهذا يثير غضب وكره الرجال للمخالفة الصريحة لكل ما اعتادوه.. ولأنهم لا يقدرون على الاعتراض بشكل واضح أمام قادور، فهم يصبّون غضبهم عليك وأنت الطرف الأضعف حالياً.."
فقالت بهتاف "لكني لا أريد أن أكون ضعيفاً.."
ابتسم مينار قائلاً "لن تكون كذلك لو أطعتني.."
نظرت له ججي بفضول، ثم تساءلت "لطالما دار في ذهني تساؤلٌ عجيب.. لماذا وافقت على طلب أبي الذي يعده الجميع جنوناً؟.. أنت لا تظهر غضبك من وجودي وتعاونني كثيراً.. فما السر؟"
قال مينار "لأنني لا أستطيع أن أعصي طلباً لقادور.. وأثق به كثيراً رغم جنون طلبه.."
ونظر لججي مضيفاً "ثم إنني أصبحت أتطلع لرؤية ما ستصبح عليه بعد عشر سنوات من الآن.. ولا أظنه سيخيّب ظني بتاتاً.."
ثم عقب وهو ينظر للنار من جديد "إلا إن قررت أنك سئمت في يوم من الأيام وقررت العودة لكونك فتاة.."
هتفت ججي بإخلاص "لن أتمنى ذلك بتاتاً.. ولمَ قد أفعل ذلك؟.."
ابتسم مينار وربت على رأسها قائلاً "أنا أثق بذلك يا جام.."
عادت ججي ببصرها للنار البعيدة وللفتيات الراقصات حولها، ثم غمغمت بوجوم "لمَ قد أتمنى العودة كفتاة؟.. ما الميزة التي قد أجنيها من البقاء في ظل رجل آخر والارتكان لحياة هادئة بين عويل الأطفال وأعمال لا تنتهي دون أن أملك اختيار ذلك؟.. أنا لن أكون امرأة في يوم من الأيام.."
لم يعلق مينار وهو يحتسي شرابه.. ليس المهم ما تريده ججي وما تسعى إليه.. المهم ما سيفعله الرجال في الأيام القادمة، وهو لن يكون أكثر رحمة ورفقاً مما مضى.. ولو كانت ججي قد واجهت مضايقات من بضع فتية عابثين، فما الذي ستفعله عندما تواجه غضب رجالٍ أكبر سناً وأكثر قوة؟.. إنه يترك أمر هذا للأيام ليرى ما سيحل بججي عندها.. وما ستقرره بنفسها في ذلك الوقت..

************************

في اليوم التالي، وبينما كانت ججي تحمل سرجها متجهة للموضع الذي تنتظرها فيه الغبراء، وبعد أن تجاوزت صفّ الخيام القريبة من خيمة الزعيم، فوجئت بقدم تركل ظهرها بقوة وتسقطها على وجهها سقطة عنيفة.. تمالكت ججي نفسها وهي تنظر خلفها، فرأت عدداً من الفتية ممن لا يتجاوز عمر أكبرهم أربعة عشر عاماً وهم يقتربون محيطين بها بابتسامات هازئة.. حاولت ججي الوقوف لتتلقى ركلة من آخر أسقطتها أرضاً من جديد، فرفعت رأسها وهي تقول بحنق "ما الذي تبغونه مني؟"
أجاب أكبرهم سناً بسخرية "لا شيء.. أتينا لرؤية الفتاة التي سبقتنا في اختبار الرجولة.."
قالت ججي بحنق "أهذا ما يغضبكم؟.. ألأنني حصلت على ما لم تحصلوا عليه بعد؟"
قال الفتى بابتسامة ساخرة حاول إخفاء غضبه الواضح بها "استكمالاً لاحتفالات الليلة الماضية، نريد اختبار رجولتك المزعومة.."
فقالت بحدة "أنا لستُ أقل مهارة وخبرة من أي فتىً منكم، فلماذا تقومون بتحقيري بهذه الصورة؟.. لا تعتبروني فتاة ضعيفة أبداً.."
قال الفتى ضاحكاً "إذن أنتِ تعترفين أنك فتاة.."
لم يكن هذا ما عَنَتْه، ولم يكن هذا ما تريدهم الانتباه إليه في جملتها، وهذا أثار حنقها بشدة.. فقفزت على ذلك الفتى رغم أنه بضعف طولها وأسقطته أرضاً وهي تقبع على صدره، ثم وجهت له لكمة قوية بغلٍّ شديد بعد كل تلك الإهانات والمعاملة السيئة التي تحمّلتها سنواتٍ طوال.. ولم يكن الأمر يزداد هوناً مع مضيّ الوقت..
وجدت يداً تجذبها من شعرها القصير لتقف، ورغم ألمها الشديد، لم تتوانَ عن ركل الفتى الذي تحتها بقدمها في فكه بقوة، ثم استدارت ودفعت الآخر بجسدها بشدة.. وبعد أن أفلتها الثاني وهو يسقط، أسرعت تركله في بطنه بينما تقدم منها اثنان وحاولا إيقافها.. فأمسك أحدهما بذراعيها من الخلف، بينما وجّه لها الثاني لكمة قوية أتبعها بأخرى حتى سال الدم من أنفها.. ولما همّ بأن يلكمها مرة ثالثة، أوقفه أحد رفاقه وهو يهمس "مينار قادم.."
تجمد الفتية بشيء من القلق وهم يرون مينار يتقدم من موقعهم، وتوقعوا أن يثور غاضباً في وجوههم لما يفعلونه، لكنه سار بصمت حتى حمل سرج ججي الذي سقط أرضاً، ثم ابتعد به وهو يقول "لا كسور يا شباب.."
وغادر بصمت بينما الفتية ينظرون لبعضهم البعض بتعجب، ثم قال الفتى الذي يواجه ججي بسخرية "يبدو أنه تخلى عنك أخيراً بعد أن عنّفه الزعيم بسببك البارحة.."
وجد ججي تركل بطنه بقوة وهي تصيح بغضب "من قال لك أنني بحاجة للمعاونة؟.."
وأرجعت رأسها للوراء بقوة لتضرب الفتى الذي يمسك بها على أنفه، فصاح متألماً وهو يتخلى عنها ويمسك أنفه.. فاندفعت ججي بعد أن تحررت نحو الفتى الآخر وهي تطوح قبضتها بقوة، بينما اندفع بقية الفتية نحوها محاصرينها دون أن تملك فراراً من حصارهم..
وبعد وقت طويل، رأى مينار ججي تسحب قدميها نحوه بتعب واضح والدماء تسيل من أنفها وهي تمسحه بكم قميصها.. ولما وصلت لموقع مينار الذي كان يعتني بحصانه، زفر وهو يقول بضيق "ما الذي فعلوه بك؟.."
رفعت ججي يدها تلمس جرحاً سطحياً في خدها وغمغمت "بعد أن قاومتهم بشدة، حاول أحدهم إصابتي بخنجره بكل خسّة.. ولولا أن منعه أحد الفتية لكان أصابني بجرح أكبر.."
بحث مينار عن قماشٍ نظيف لتنظيف جرحها، فغسله بالماء وبدأ تنظيف الجرح قائلاً "من حسن الحظ أن الجرح سطحي.."
ثم ناولها القماش لتنظف الدماء التي سالت من أنفها، وعاد للاعتناء بحصانه ووضع السرج على ظهره.. فغمغمت ججي وهي تجلس جانباً بتعب "هل خشيتَ من غضب أبي لو تدخلت في ذاك العراك؟.."
تساءل مينار "وهل أنت غاضب لأنني لم أتدخل؟.."
هزت رأسها نفياً وعلقت "أريد أن أنهي أموري بنفسي.. لا أريد أن يعدّوني ضعيفاً بعد الآن.."
فقال مينار "ولهذا لم أتدخل.. وليس خوفاً من أبيك.."
ابتسمت ججي ابتسامة مشوهة مع الورم الذي بدأ يتكون في جانب وجهها.. في كل مرة يجد مينار وقتاً للحديث معها، تشعر ججي أن تعبها وحزنها لمعاملة الآخرين لها تتضاءل وشيء من الأمل يغزو نفسها.. إنه رغم قسوته عليها يشجعها، ويبثّ فيها بعض الأمل بأن ما تفعله لن يكون بلا طائل.. وأنها يمكن أن تصبح أفضل ببعض المثابرة والحماس، وهذا جلّ ما كانت بحاجة إليه في مثل هذه الأوقات..

************************

مع حلول تلك الليلة، اضطرت ججي للعودة لمنزلها بعد أن حاولت إلهاء نفسها والبقاء خارجاً أكثر وقت ممكن.. رغم أن أبويها كانت لهما شكوكهما بما تحصل عليه من مضايقات من شباب القبيلة، لكن ما جرى اليوم لا يمكن أن يغفلا عنه مع آثاره الواضحة على وجهها.. وهكذا، وقفت ججي أمام أبيها بوجه متورم وكدمة واضحة على عينها وجرحٍ في خدها.. نظر لها قادور بصمت دون تعليق وإن لمحت نظرة غير راضية في عينيه، بينما قالت أمها بارتياع "ما الذي جرى؟.. كيف أصبِت بهذا الجرح؟.. من الذي فعل ذلك؟"
وأسرعت لتنظيف الجرح الذي عادت الدماء تسيل منه بعد أن أهملته ججي طوال ساعات ذلك النهار، بينما قال قادور بصرامة "من الذي فعل بك ذلك؟"
قالت ججي بشيء من التردد "هو مجرد خلاف مع بعض الفتية في المخيم، وقد حاول أحدهم إنهاءه باستخدام خنجره.."
قالت ستينا باستياء "أي صبي يرفع خنجره في وجه.........."
ابتلعت الكلمة التي كانت ستقولها مشيرة لججي بأنها فتاة، وقد أدركت أن قادور لن يفوّت الكلمة بتاتاً.. بينما قال قادور "ولمن كانت الغلبة؟"
نظرت له ججي بقلق وصمت، فقطب متسائلاً من جديد "لمن كانت الغلبة يا جام؟"
زفرت ججي، ثم قالت بضيق "لم أتغلب عليهم.. فقد كانوا أكثر عدداً مني......"
ضرب قادور بيده على ركبته باستياء، فأسرعت ججي تقول "لو كان الأمر بالقوة أو المهارة، لتغلبت عليهم.. لكن لم يكن الأمر عادلاً وهم يفوقونني عدداً ولا يتوانون عن العراك بكل خسّة.."
قال قادور باستياء بالغ "أنت لم تبلغ مبلغ الرجال بعد.."
تشجعت ستينا من بين ضيقها لتقول بجرأة وحدة "هل تسخر منها؟.. أم من نفسك؟.. من ينظر لفتاة لم تتجاوز الثالثة عشر ويطالبها بأن تكون رجلاً؟.."
قالت ججي بحنق "أمي....."
بينما هدر قادور "اصمتي.. لا شأن لكِ فيما يخص جام.. اهتمي بأمر ابنتك تينا واحفظي لسانك لسلامتك.."
أحجمت ستينا عن قول المزيد، فيما قال قادور وهو ينهض "ما جرى دلّني أن وقتاً طويلاً سيمر قبل أن تصل لما أريده لك وأنا لا أملك الصبر الكافي لذلك.. لذا، سأدفعك بقوة أكبر لأحصل على نتائج أسرع.."
نظرت له ججي بعدم فهم، بينما تساءلت ستينا بقلب مقبوض "ما الذي تعنيه؟"
قال بجفاء "لا شأن لك.. اصمتي وسترين ما سيجري.."
وغادر المكان، بينما وقفت ججي مترددة فيما عليها فعله.. فأمسكت ستينا كتفيها قائلة بصوت مرتجف "ججي.. ارفضي ما سيطلبه منك أبوك.. أرجوك.. أعلني أنكِ ما عدتِ راغبة بأن تكوني كالرجال.."
قالت ججي بضيق "أمي.. حتى متى ستحاولين إقناعي بذلك؟"
قالت ستينا بصوت متهدج "لأنني أخشى عليك يا ابنتي.. أخشى مما ستصبحين عليه، وأخشى من المصير الذي ينتظرك.. لمَ لا تفهمين ذلك؟"
قالت ججي بحزم يتجاوز سنوات عمرها "مهما جرى لي، فسأسلك هذا الطريق لنهايته.. أريد أن أكون هكذا يا أمي، وأريدك أن تقتنعي أنني لن أكون شيئاً يخالف هذا أبداً.."
نظرت لها ستينا بمرارة وهي تتخلى عن كتفها، ثم تنهدت وهي تخفض رأسها قائلة "يؤلم قلبي ما تمرين به يا ججي.. لكن كيف أقنعك بسوء ما تسعين إليه؟.."
قالت ججي بلهجة قاطعة "لن تتمكني من ذلك يا أمي.."
ثم أضافت "ولا تنادِني باسم ججي أبداً.."
نظرت لها ستينا بغمّ شديد، ثم أدارت بصرها جانباً دون أن تعلن موافقتها على ذلك.. كيف يمكنها أن تعلن عن إلغاء هوية ابنتها والإقرار بهذه الحياة المشوهة التي تعيشها؟.. هذا ما لا يطيقه قلب الأم بتاتاً، حتى لو كان البديل أسوأ من هذا بمراحل..

************************

noor elhuda likes this.

خيااال غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 05:51 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.