آخر 10 مشاركات
رواية واجتاحت ثنايا القلب (1) .. سلسلة ما بين خفقة وإخفاقة (الكاتـب : أسماء رجائي - )           »          عشقكَِ عاصمةُ ضباب * مميزة ومكتملة * (الكاتـب : نورهان عبدالحميد - )           »          125 - الضوء الهارب - جينيث موراي (الكاتـب : حبة رمان - )           »          عندما يعشقون صغاراً (2) *مميزة و مكتملة *.. سلسلة مغتربون في الحب (الكاتـب : bambolina - )           »          وَ بِكَ أَتَهَجَأْ .. أَبْجَدِيَتيِ * مميزة * (الكاتـب : حلمْ يُعآنقْ السمَآء - )           »          73 - شاطئ الجمر - سالي وينتوورث (الكاتـب : فرح - )           »          متزوجات و لكن ...(مميزة و مكتمله) (الكاتـب : سحابه نقيه 1 - )           »          رواية المنتصف المميت (الكاتـب : ضاقت انفاسي - )           »          أحلام بعيــــــدة (11) للكاتبة الرائعة: بيان *كامله & مميزة* (الكاتـب : بيدا - )           »          فَرَاشة أَعلَى الفُرقَاطَة (1) .. سلسلة الفرقاطة * متميزه و مكتملة * (الكاتـب : منال سالم - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

Like Tree129Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 25-07-22, 01:18 AM   #11

چورية

? العضوٌ??? » 505085
?  التسِجيلٌ » Jul 2022
? مشَارَ?اتْي » 40
?  نُقآطِيْ » چورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond repute
افتراضي


الفصل الثامن

عاث الحب في قلبي فسادًا
فأتلفه تاركًا له يترنح على حافة جبل تزحزح فجاءة
فسقط من الهاوية في مفترق طرق
أحدهما ممهدًا أخطوه وحدي دون مخاطرة بعشق جديد
ينفذ داخلي متشعبًا ثم يشبعه جفاءً وقسوة
وطريق آخر تقف أنت تتلصص فيه أول خطواتي
فتمدد أواصر قلبك كي تدلني كيف أخطوه،
طريق أحب خوضه بكل جنون
غير آبهه بما قد يحدث لقلبي ويطرحه أرضًا من جديد
لكن هناك في أعماق روحي صوت يصرخ بـ "احذري، فلم يشفَ قلبك من مشقته بعد "
فينتصر الصوت داخلي على إرادة قلبي
فيا رجل كنت أتمنى وجود حبه سابقًا
ارحم علتي، ويكفيك الغزو وشن حروب ضد قلبي
فأنت تملكه بالفعل، لكنه لن يسمح باقترابك
كف عن غزوك فلن تعود إلا خاسر معركتك
رابحًا بفوز قلبي العطش في حبك لكنه لا يرغب في الارتواء!
༺༻
غازلت الشمس خديها نهارًا بأكمله وعادت بعد ذروة حرارتها مباشرةً فكان وجهها متوهجًا بالحمرة البرونزية، فكانت ملامحها يشوبها تَغيّر عميق، وبعد أن نطرت جسمها تنعشه في الماء أصبح حجابها منفوش كريش دجاجه والذي قد يكون مهندم أكثر منه في هذه اللحظة! وقفت تنتظر المصعد الكهربائي ليصل رغم أن رحلة نزوله كانت شاقة على نفسها بعد هذا اليوم العصيب الذي مر عليها وسط فوج سياحي كبير كانت مسؤولة عن رحلته الطويلة في أماكن سياحية عدة، شردت عينيها في صباح اليوم وهي ترى كابوسها الأوحد في الحياة، لا تعلم كيف لها أن تتخلص منه، هذا الذي لا يعرف للرحمة طريق، فلا يرحمها بمطاردته بعد أن تم نقله إلى فرع آخر، لكنها رأته اليوم في أكثر من مكان زارته مع الوفد، ولا يرحم زوجته التي تقطع قلبها ويبدو أنها قد يئست من إصلاحه، ولا يرحم أبناءه الذين يحق لهم الحصول على أب سوي يراعيهم... فزعت فجاءة عندما شعرت بكفين يضربا على كتفيها! كفين صغيرين نعم... لكنهما في ثقل إحدى آلات البناء، قبل أن تستدير عرفت هوية من فعلت ذلك فاستدارت على عقبيها سريعًا ضاربة تسبيح في كتفها، لكن يبدو أن الضربة جاءت قوية بعض الشيء بعد أن أفرغت بها غيظ اليوم بأكمله فقد انحنت تسبيح قليلًا تمسك كتفها متوجعة وقبل أن تقترب منها كان حازم يمسك بها من مرفقها سائلًا:
-هل تأذيت يا تسبيح؟!
وقفت تقى تنظر لهم بتخشب واندهاش قليلًا، وما لبست أن تمالكت نفسها وسحبت تسبيح من ذراعها تبعدها عن "كلبشة" حازم لذراعها الآخر وقالت مستائه:
-هلا ابتعدت عنها من فضلك؟!
نظر حازم لها رافعًا حاجبه بسبب استفزازها له، فسألت بنفس استيائها رغم أنها اجبرته بالفعل على البعد عن صديقتها:
-ماذا؟! لا يحق لك أن تمسكها هكذا حتى وإن كنت ابن عمها الكبير.
همست تسبيح بصوت خافت:
-هل دققتِ لتوك آخر مسمار في نعشك يا "خائبة الرجاء" أنتِ؟!
لم يسمع جملتها إلا تقى التي كانت شبه تحتضنها بين ذراعيها، فأنزلت عينيها تنظر بضيق مرتسم على وجهها وبين حاجبيها، بينما قال حازم ببرود مستفز:
-أنت المتسببة في تألمها في الأساس.
-حتى لو! لا يحق لك!
اعتدلت تسبيح وقالت بوجه محمر:
-لم يحدث شيء أنا بخير.
نظر لها حازم مصدومًا محدثًا نفسه "هل تلك – الجاحدة – هي التي أوصلها للجامعة صباح اليوم" لكنه قال عوضًا مستَفَزًا منهما معًا:
-تبا لكما.
كان صوته يحوي غضبًا وسخطًا رغم خفوته نسبيًّا، لذلك عندما وصل المصعد دخلتا يتمسّكن ببعضهما خوفًا من افتراس وشيك على يد رجل كهف أوهج التصرف! وظلتا هكذا حتى وصل المصعد... فأشار لهما بالخروج أولًا وخرج خلفهما، فتنحنحت تسبيح وقالت بخفوت تنظر بعيدًا عنه:
-أخبرهم أني سأجلس مع تقى قليلًا.
نظر لها ساخطًا لكنه لم يظهر ذلك في قوله:
-حسنًا.
وذهب كل منهم إلى وجهته، فكان حازم قد خاب أمله في أن يجتمعوا معًا حتى وإن كانت جلستهم عائلية بحتة وتأخذ مقعدًا بعيدًا وتتجنبه، هو فقط يريد أن يجمعهم أي مكان حتى وإن كانت غير منتبهة لما يجيش بصدره من كل انفعال يلم به تكون هي بطلته!
بعدما دخلا لشقة تقى قالت تسبيح كمن لا تزال غير مصدقة:
-تقى حازم قال أنه يحبني! هل تصدقي؟
استدارت تقى لها بعد أن كانت تخلع حجابها فكان أحد الدبابيس في يدها، ونظرت لها بهدوء وهمست مستنزفة القوة:
-لا تكوني سخيفة فأنا لا ينقصني بعد هذا النهار.
قالت تسبيح بجدية مشوشة:
-أنا أتكلم بجدية، حازم قال أنه يحبني!
-صدقًا تتحدثين؟!
هزت رأسها كطفلة أضاعت يد والدتها في الزحام وتشعر برهبة تواجدها وحدها في مكان غير مألوف، فقالت تقى بسرعة وهي تسرع تجاه غرفتها:
-انتظرِيني حتى ابدل ملابسي وانتعش قليلًا لأستفيق لما تقولين.
بعد قليل انضمت تقى لتسبيح على نفس الأريكة يتناولن الفشار وبعد انتهاء تسبيح من روايتها كانت عيون تقى شاردة بعيدًا وهي تهمس:
-كان حازم دائمًا غامض منذ الصغر.
-أخيرًا قررت الافصاح عن هويتك الحقيقة يا تقى.
ظهر على ملامح تلك الأخيرة وكأن تم القبض عليها عنوة أو أنها سقطت سهوًا، فهمست تمزح بتوتر:
-أي هوية، أنا تقى منذ أن عرفتني.
ظهر الضيق جليًّا على وجه الأخرى وقالت:
-تقى جميعنا نعرف أنك صديقة الطفولة منذ أول لقاء لنا بكِ، أنتِ من تظنِ بنا الجهل!
همست تقى مبهوتة:
-خالتي زهيرة؟ هل خذلتني فعلًا؟!
فقالت تسبيح تصرخ بها رغم خفوت نبرتها:
-خالتك زُهيرة! هل اخبرتها بهويتك طالبة منها ألا تخبرنا؟ هل تفسيري صحيح؟!
صمتت تقى لا تدري كيف تجيب، فأكملت تسبيح تحاول أن تتبين أي شيء:
-فقط أخبريني لما، متى قام أحد بمضايقتك من بيننا حتى تطلبي ذلك من أمي.
ظلت صامتة طويلًا لا تعرف إجابة، فلم يضايقها أحد لكن تسبيح لن تغلق الحوار عند هذا الحد، فهمست الأخيرة:
-هل ستجعلينني أتخبط بين الاجابات بتيه طويلًا هكذا!
-تسبيح أنا لم أتنكر منكِ... فقط...
-رجاءً لا تكملي، لن أستطيع سماع أي مبرر، لقد انتظرتك كثيرًا تأتِ وتخبريني أنك تقى صديقتي، كم لعبنا بالعرائس وأخذنا منهم صديقات، كم رقصنا وضحكنا وبكينا... لقد كان مشهدنا الأخير هو بكاء الوداع، وعندما جمعتنا الأيام... عذرًا عندما أخبرني فريد بأنكِ جارة لأخي كذبته وقلت له "إن كانت تقى لسألت مروان عني وآتتني زائرة لنحيي أيامنا معًا" وكنا في تحدي دام حتى أتيت أنا لأدرس وخلقت موقف يجعلني آراك عن قريب... لأتفاجأ أني خسرت تحدي معرفة أي شخصية هي صديقتي!
صمتت تتلقى أنفاسها الهاربة وهمست تستكمل:
-لم ترمش عينيكِ وأنتِ تخبرين مروان في حضوري اسمك كاملًا بشأن مصلحة ما... وكأني لن أعرفك... كأنما تعاملين غبية!
أنزلت صديقتها عينيها في حزن أوجع قلبها لكنها رسمت الجفاء ببراعة وهي تراها ترفع أنظارها هامسة:
-هل سأخبركم بأني لم أعد الصديقة الوردية التي ترى الحياة بزهو مفعم بالحيوية!، أم أني بعد أن توفى والداي تخلى عني أخي الكبير ليرضي زوجته! أم عن تحطُم قلبي بعد أن أجببت بصدق صديق طفولتي التي كانت تسلك طريقًا أكثر قربًا للمراهقة، فاعتقدتُ بعقلٍ ساذج أني أتلمس الراحة بعد وفاة أمي!
-لقد عنينا ما هو أفظع يا تقى، لكنك لم تحاولي التعريف عن نفسك رغم أننا ذكرنا أمامك بلدتنا، واسم عائلتنا... واسم الرجل الذي ساعد عمران بعد خروجه من العائلة... والذي لم يكن غير والدك... ومضيتي في تجاهل كل محاولاتنا لنجعلك تفصحين عن هويتكِ لكنك لم تفعلي! هل كنتِ تحاولين التبرأ منا! لا أفهمك.
أغمضت عينيها على دموع قهر، ثم صرخت بتوجع:
-نعم... نعم أتبرأ من كل البلدة بكل قوانينها، بكل أناسها! فلم يسلم أبي من ألسنتهم لأنه تزوج أمي من خارج العائلة، ومن خارج البلدة كلها، رغم مساندة والده له لكنه وأمي لم يسلما من ألسنتهم بعد أن رفض الزواج من ابنة عمه فلم يفعلها بعده أحد، حتى والد إيمان كان يحب أخرى خارج العائلة لكنه تزوج من ابنة عمه، قوانين سجنتنا جميعًا وأحكمت قيودها حول رقابنا فلم يسلم منها أحد... هل أصبحتِ أكثر راحة الآن بإحياء الجروح؟
همست تسبيح بقوة:
-والآن تستنكروا علي رفضي!
-لأنك غير الجميع، لأنك تحبين حازم... وحازم يعشقك، لكنك لا تهتمي لشيء إلا للهرب لمجرد الهروب، واجهي مشاعرك يا تسبيح.
-أحتاجك معي في البلدة يا تقى، سافري معنا.
تهدل كتفيها كما ذراعيها بانهزام وقلة حيلة:
-لا أستطيع، لا استطيع مواجهة من قاموا بمحاربة أبي وأمي حتى الممات.
حاولت كسب موافقتها فهمست:
-يمكنني أن اسامحك عما فعلتِ عندما تأتين معنا، أنا احتاجك.
همست بتخاذل:
-ليس بيدي شيء.
ظلتا تنظران لبعضهما في حديث طال بين عيونهما، واحدة تصرخ بالحاجة للأخرى، والثانية تمسك على لسانها وقلبها للموافقة.
༺༻
دخلت لشقتهم تجر أذيال الخيبة والفشل، لقد خذلتها صديقتها لأول مرة في أول طلب بعد اللقاء، عندما كانوا أطفالًا، إذًا أين الخلل ومتى حدث، سؤالان معروف إجابتهما لكن هذه سخرية القدر أن تمر السنون وتجمع شملهم الأيام بعد فراق وآلم الوداع تخذلها صديقة كان الرباط بينهما متين وصلب فمتى أصبح بهذه الهشاشة والضعف!!
ألقت سلام جاف على التجمع الذي شمل فريد وحازم وإيمان وشقيقها فقط بعد أن ذهبت غرام والأولاد لزيارة جدتها وخالتهم رهف لسفرهم في الغد، جلست مهمومة في المقعد المنفصل بجانب مقعد فريد، فلن تجلس بجانب إيمان الآن يكفي جرعتها من الخذلان التي أسقتها إياها تقى، تنهدت فسألها ابن عمها ساخرًا:
-ما سر هذه التنهيدة طويلة الأمد؟!
-لقد واجهت تقى.
نبرة اليأس التي نطقت بها جملتها جعلته ينظر لها مستفهمًا، فأكملت ترد سؤاله الصامت:
-لم توافق.
تجهم وجهه وشعر باستياء وضيق بين حاجبيه، سائلًا:
-لما؟!
-يبدو أن لم يسلم أحد من الأعراف المهترئة، والتي رغم ذبولها وكثرة التمرد عليها إلا أنها شوهت النفوس دون تفرقة، بل كانت توزع أوجاعها بالتساوي حتى نالت من الجميع.
-هل تكلمتن في أمرك أنت وحازم؟
-نعم، لكن هذا لم يكن سبب جملتي.
أصر ألا يعرف من تسبيح أوجاعها فهو يريد سماعها منها هي ليرى كل آلامها مجرد، ويشاهد كل حركة تصدر عن لغة جسدها ليعرف كيف الدواء وعدد جرعاته!، فسأل الجالسة بجانبه:
-وما رأيها في موضوعك؟
-كرأيكم تمامًا.
ابتسم لها بسمة مغذاها أنك أنت الوحيد التي لا ترى حقيقة الأمر، فهمست من بين أسنانها:
-لا تنظر لي وكأنني العاقة الوحيدة هنا!
زادت بسمته اتساعًا حتى شملت وجهه وتلمس عيناه، وهمس:
-أنت من على رأسها "بطحة"!
-فيما تتهامسان وتبتسمان هكذا!
ازدادت ابتسامة فريد إغاظةً وهمس لتسبيح مجددًا لها كيدًا في صاحب الجملة والذي لم يكن غير حازم:
-كم هو ثقيل أخي الكبير، ولم تأكله الغيرة أبدًا كما يدعي:
ضحكت بملء شدقها، وهمست مستمعة بعدما أخبرها به فريد:
-لقد انجزت مهمتي يا ابن العم، سأدخل غرفتي اتجهز لسفرة الغد.
فوقفت تقول لحازم ردًا على سؤاله:
-إنها أسرار شخصية قليلًا، سأدخل أحضر حقيبة سفري.
وغادرت الجلسة غير مدركة أنها اشعلت فتيل غيرته بأخطر طريقة ممكنة! فما طبيعة الأسرار التي من الممكن أن تجمع شقيقه والأميرة الصغيرة التي هربت للتو من حكاية قديمة الطراز ولكنها ملوكية خاصة وعباءتها تطير خلفها وكأنها تسابقها.
༺༻
بعد قليل تقف تحضر حقيبة السفر الخاصة بها تعرف أنها تواجه الكثير ولم يكن هناك داع لأن تقول لتقى ما قالته، لكنها خاضت معركة اقناعها بسفرها معهم إلى البلدة لأجل فريد رغم أنها شبه أكيدة أنه يحضر لشيء لكنها تجهله، ألقت عبارتها المتوسلة تخبرها بحاجتها إليها حتى تأتي فهي "كانت" متأكدة من موافقة تقى إن أخبرتها ذلك، لكن يبدو أن الجميع تغيّر فإن من لم تغيره الأيام غيرته آلامها بكل دمعة ذرفت دمًا تاركة ندبة بشعة في الفؤاد فتظهر أقبح ما يمكنها في نفوسهم، فتح الباب فجاءة ودخلت رأس إيمان متدلية من شقه، فزعت تسبيح وهي تستديرعلى عقبيها ترى من فتح الباب دون طرقة واحدة تنبهها ليقابلها منظر رأس ابنة عمها لتستدير مرّة أخرى للحقيبة أمامها دون أن تتفوه بحرف، ظلت ترتب وترتب ملابسها بتفاني حتى يئست من أن تتحدث إيمان، فقالت بنبرة مستاءة تحمل عصبية شديدة:
-لقد دخلتِ ونحن على خلاف دون استئذان، وهذا في حد ذاته خرق قوانين خصامنا! لكن هل ستظلين على صمتك كثيرًا؟
-يبدو أن هذه القوانين صارمة جدًا فيما بينكما، يجب عليّ إذًا أن أشكر شقيقتي كثيرًا على خرقها من أجلي!
استدارت بسرعة تنظر متسعة العينين لحازم الذي يبدو أنه ينظر لأمر خارق وممتع، فتألق اللؤلؤ الأسود في عينيه ببريق ساحر جعلها هي الأخرى تبادله الانبهار، تلك العيون ما كانت تنظر إليها سابقًا إلا وكانت هكذا لامعة براقة تكاد تخطف الأنظار إليهما دون كلل أو ملل، لكنها الآن ابعدت نظرتها عنه بصعوبة مجبرة نفسها على التخلص من مشاعر تكاد تكبلها، مدركة خطيئة تلك النظرة في عينيه، فهمست ترتعش من هول موقفهما:
-حازم ما تفعله الآن أنت وإيمان قد... قد يعرضنا جميعًا لغضب مروان وأبي بالتبعية عندما يعلم، أرجوك أخرج قبل أن يعرف مروان، كما أن هذا خطأ جدًا وأنا... أنا لا أقبل به.
تلك الشجاعة التي تتحدث بها، كم دهشت من نفسها بسببها، هل تناولت حبتين شجاعة! لكن حازم كان لا يزال مبهورًا لخصلة شعر هاربة من تحت حجابها والذي بسببه اتفق مع إيمان أن تدخل لها أولًا كي تتأكد من تمام حشمة مظهرها، لكن شقيقته لا تعلم أن تلك الخصلة البرتقالية الأقرب للأحمر الطبيعي الملفوفة حول نفسها حلزونيًّا بملمع نضرتها تحت الضوء الأصفر السحري الذي تحب تسبيح الجلوس فيه مفسرة روعة الشعور الذي يلفها وكأنها على مسرح بالية وتكون عروسته، رغم جهلها لأبسط قوانين هذا الفن الراقص إلا أنها تشعر بسكينة الطفو تحت تلك الإضاءة، سمعها أخيرًا بوضوح تلك المرّة وهي تهمس:
-أرجوك يا حازم أخرج، هذا لا يصح!
تحشرج أنفاسه عندما حاول الحديث جعله يتوقف متنفسًا بعمق، وقال:
-ويصح أن تحرجيني أمام صديقتك، وأمام الجميع بالخارج.
-لم أقل غير الحقيقة.
ثم أنزلت رأسها وهي تعض على شفتيها وخوفها من أن يدخل مروان أو يعرف يستحوذ على عقلها متلفًا أعصابها، بينما هو همس بوضوح وقوة:
-تسبيح أريد جوابًا قاطعًا الآن، هل أنت حقًا مستعدة للخوض في ارتباطٍ وشيك أم لا، هناك من يريد خطبتك من داخل وخارج العائلة غيري الكثير، فإن كنت لا تقبلين بي أخبرني الآن حتى انسحب بعيدًا رافضًا ارتباطنا.
صمت وصمتت تنظر أرضًا وتفرك كفيها بعصبية شديدة، وتعض على شفتيها تستدير يمينًا مرّة وأخرى يسارًا، كل ذلك جعله يترقب جوابها، يموت في انتظار إجابتها في الدقيقة خمسمائة مرّة، وكأنها تتقصد قتله بحركتها المتوترة التي احرقت أعصابه قبلها.
༺༻
بعد صلاة العشاء دخلت رهف منهكة القوى فاستقبلها سيف وماجد فانحنت قليلًا تحتضنهما فهي على كل حال قصيرة القامة قريبة من طولهما، استقامت وقالت بصوت عال في طريقها لغرفتها:
-غرام لا تذهبي إلّا عندما انهي حمامي، أعرف أنك ستسافرين مع زوجك للبلدة وستمكثين هناك لأسبوع وأكثر.
صاحت غرام من المطبخ:
-لا تتأخري فمروان على وشك الوصول في أيةِ لحظة.
-حسنًا.
نظرت الجدة لغرام وقالت بهمس لم يخرج من حيز المطبخ:
-إن كنت تنوين اعلامها فلا تفعلي الآن، انتظري حتى تأتين من السفر حتى لا تنهار ولا تجدك بجانبها فلن تتقبل مآزرتي.
شاركتها غرام الهمس:
-هذا ما انويه واتمنى ألا تفعلها الخالة نجوى خلال سفري.
-لن تسمح لها رهف بالحديث معها بالتأكيد.
اندهشت غرام مما تقوله جدتها، هل هذا "شاغل" جدتها الوحيد؟ هل حقًا لم يشغل ضميرها أنها ظلمت والدة رهف؟ هل من المعقول أن تكون التي تحدثها الآن وتصرفت مثل هذه التصرفات هي ميسون التي أفنت المتبقي من عمرها تغدق عليها ورهف بحنان ودفء وكانت دائمًا نِعم العون لهما، حتى أنها وقفت بقوة الوتد وصلابة الرحى في مواجهة والد عمران بجلاله عندما أصر على زواجها من مروان بعد انتهاء عدتها مباشرةً، ولم تهدأ الحرب بين ميسون والعائلة إلا بعد إعلانها موافقتها على الزواج بعدما زارتها الحاجة زهيرة تخبرها أن لن يوقف تلك الحرب إلا شيئين إما موافقتها أو سيل الدماء! تلبسها الخوف في جلستها أمامها وظهر ذلك في نظرتها الفزعة المشتتة وشحوبها، لكن عندما اكملت زهيرة هدأ روعها بنبرتها التي أضفت على نفسها السلام التي كانت تنشده في ذلك الوقت، ولم تنسى جملتها قط "لقد عاشرتِ عمران يا ابنتي، فإن لم يكن ابني الذي ألده، فهو ابني الذي ربيته وكبرته حتى اشتد عوده وسر نظر الذاهب والغادي، ويعلم الله أني ضممته لحضني كبكري وسندي الأول بعد الله، وأنا أثق كم أغدقك في حنانه الذي يفيض ليملئ الأرض ومن عليها، ومروان يا ابنتي لا يتخير عنه فقد ربيتهم رجالًا ذوي قلوب لينه هينه تشملها الحنان والدفء، وافقي لإيقاف سيل الدماء الذي قد يسفك في طرفة عين!"
رغم أن جملتها الأخيرة لم تزيدها إلا رعبًا لكن زُهيرة دائمًا ما اتصفت بالحكمة، فرغم أنها أقرت واقع يصعب على نفسها تحمله إلا أنها وضعت المسكن في نبرتها ونظرتها وتربيت يدها على كفها بحنو أفقدها توازنها، لكن فليكن كل فقدان توازن بعده جبر، كما جبر الله قلبها بزوج كمروان بعد فقدها لعمران، نعم هي تقف بين حبها لعمران ووفائها له وبين عشق صارخ جرف روحها كما جرفها هي كلها على غفلة من وفائها التي تحاول عدم التخلي عنه بغباء قد يجعلها خاسرة في تعلمها خطوات جديدة مبعثرة نحو أبجديات عشق تتلمس طريقه كطفل يحبو ويحاول السير على قدمين غير مكتملتين النمو!
انتفاضة قوة لقلبها جعلها تنهي ما بيدها لتستند بها للرف الرخامي كي تحمي نفسها من سقوط وشيك، أغمضت عينيها تتذكر اقترابه المتمهل منها ليلة أمس وقبلته على وجنتها لا زالت تشعر بلذتها رغم انهاءها لها بقسوة وغباء لوثوا مشاعر جميلة داخلها قبل أن تكون داخله... انتفاضة أخرى بشعور بلذة لأول مرة تشعر بها، وإن كانت قد عاشت تجربة حب سابقة، لكنه كان حب بُنيَّ على المودة والرحمة والسكن، لكن هذه المشاعر التي تغرقها يومًا بعد يوم كانت سابقة هي أولى في حصولها عليها... ابتسمت وهي عاقدة العزم أن بداية طريقها مع مروان سيبدأ بعد عودتهما من البلدة، ستتخلى عن كل شيء لإسعاد رجل لم يقدم لها شيء غير الحب والتفهم وكل نبضة عشق تحيا بها تجاهه.
دخلت رهف إلى المطبخ وهي تقول بحنو وتربت على كتفها:
-بما شردت هكذا؟!
فتحت عينين محملتين بالعاطفة وهمست ببحة شعورها:
-شردت في رجل هو أكثر رجال بقاع الأرض حنانًا ودفئًا واخلاصًا.
-لا تقولي أنك رضيت عن مروان أخيرًا.
-فليرضى هو عني فقط، بعد ما فعلته به.
ارتفع حاجب رهف بسؤالها:
-تعترفين أنك مذنبة بروح رياضية يا غرام!
-ومتى نكرت ذلك؟!
تنهدت رهف وهمست:
-أقصد تجاه مروان، فكنتِ مذنبة في نظر نفسك تجاه عمران رحمه الله.
همست غرام بخزي:
-هذا ما كنت أريد الحديث عنه معكِ.
صمتت تبتلع غصة كادت تشطر حلقها بشدة قسوتها وأكملت:
-سأذهب لمختص، لكن أريدها امرأة يا رهف.
ابتسمت رهف بسعادة حقيقة من قلبها لابنة عمها، وقالت:
-ستأتين من السفر لتجدي من هي في استقبالك في المركز، وسأكون معك في خطوات علاجك كاملة!
ابتسمت غرام بامتنان شديد ثم احتضنتها تغلق عينيها بحزن وداخلها يهمس وكأنها تحدثها "كنت أتمنى ذلك يا رهف، لكن بعد عودتي سيكون أمامك حرب ستخوضينها ضد نفسك قبل الجميع، لكن هل سأكون بنفس قوة مآزرتك لي! فليعطيني الله قوة أكبر قليلًا لأستطيع الوقوف أمام أي شيء ضد رغبتك"
فصلتا الحضن بينهما فجلست رهف على أحد كراسي طاولة المطبخ تدلك جبهتها بشعور ألم قوي سيفتك برأسها، فجلست غرام بجانبها تشد على كفها الآخر المفرود على الطاولة، وهمست:
-بما تشعرين؟ ولما تجهدين نفسك في العمل هكذا ترفقي بحالك يا رهف، يكفي بنيتك الضعيفة ورفضك للأكل أغلب الوقت.
همست رهف بتعب وألم:
-ليت تعبي يكون من العمل يا غرام... دائما ما كنت أعمل لكن اليوم... اليوم زارتني نجوى.
كانت غرام تنظر لها وعندما سمعت تصريحها الأخير ابتلعت ريقها بصعوبة بالغة، ونظرت للجدة التي وقفت متصلبة مكانها بعدما كانت في طريقها للانضمام إليهما، أما غرام فسألتها بتوجس:
-وماذا قالت؟!
ارتفع كتفي رهف وانزلتها بعلامة عدم الاكتراث وهي تقول:
-لم أعط لها فرصة الحديث كثيرًا، فلم أعلم حتى لما عادت الآن.
شاهدت غرام الجدة وهي تزفر بارتياح غير مسموع وانسحبت تتركهما بمفردهما، ويبدو أن رهف أشتد الحزن على قلبها، وتكالبت عليها الآلام فلم تلحظ حتى نظرات غرام للجدة، تحدثت غرام بعد انسحاب الجدة:
-إذا ماذا قالت؟!
انقبض فك رهف كمن يحاول كبت آلام نازفة وهمست:
-ماذا تتوقعين منها؟! لقد صرخت بأنها أمي مهما حاولت نفي ذلك... وكلام ما إلى ذلك، لا تهتمي فقد تعودت على أنانية الجميع!
-أنانية الجميع!
-نعم، أنانية نور زوجي السابق، أنانية أمي في المطالبة بحقها في بعد أن تخلت عني صغيرة أتعلم وأتخبط في الحياة، أنانية بني آدم جميعًا وإن اختلفت طرقهم!
-ما هذه الكلمات العميقة حد الألم هذه!
-هذه حقيقة مهما أنكرناها.
حل الصمت ضيفًا مزعجًا حتى قاطعته غرام بهمسها:
-ربما يا رهف... ربما نكون نظلم نجوى، ربما لديها أسبابها.
جحظت عين رهف وهي تقول بخفوت خطورته كخطورة مجرم هارب من العدالة:
-لديها أسبابها!!!! أي أسباب تلك التي تجعل أم تتخلىٰ عن ابنتها وحيدتها؟!
صمتت تتنفس بعمق حتى دمعت عينيها رغم كل محاولات تماسكها، وهمست باختناق:
-هل نسيتِ ما مررتُ به يا غرام، هل نسيتِ عندما كنت بأشد الحاجة لحضنها، لبعض الدعم الذي يجعلني أدافع عنها وعني، بدلًا من شعوري بالخزي نحو كلمات طعنتني بقسوة شفرة ثلمة فكان نحرها هو أشد أنواع عذابي!
تهدجت أنفاسها فسحبت بعض الأنفاس السريعة لتهدأ من تلك الغصة التي تملكت من حلقها ورئتيها فيبدو أنهما قل دعمهما لها بالتنفس السليم، ثم اكملت حديثها، بنبرة مشتتة ونظرات أكثر تشتت:
-لقد كنت قد خسرت ابني منذ أيام قليلة بسبب الضرب والإهانة التي كنت أحياها لأنني أرفض خيانة زوجي، وعندما طلبت الطلاق بإصرار في نهاية مشوار تحملته بصعوبة عل أجد الحب الذي كنت أبحث عنه بين القلوب، وقتها ذبحني نور بأكثر الطرق بشاعة، لن أنسى جملته ما حييت "هل ستعيشين هذا الدور كثيرًا فمن هن مثلك لن يصلحن ليكنّ أمهات بحق، فالدم متوارث، فقد تخلت أمك عنكِ كما تخلت عنها أمها"...
بشاعة الجملة رغم مرور أكثر من عام على "اطلاقها" إلا أن اقشعرت لها بدنيهما معًا، وقتها لاقت الجملة صداها في صدر غرام التي كانت تتوجع بنفس وجع ابنة عمها غير وجعها هي، فقد تخلىٰ عنها أبيها! وما يزال يتخلىٰ وكأنها لا ترقى لتكون ابنته، فقد تريده أن يعود بأي حجة مطالبًا بها كما فعلت نجوى وهي ستنسىٰ كل ما مضى وكل آلم هزّ كيانها في سبيل التمرغ في حضنه، الشعور بوجود أبيها مجددًا حتى وإن كان ينظر لها من بعيد منتظر انتهاء أمها من الاعتناء بها.
تتذكر ومضة من الماضي وهي تسأل أمها بحروف مأكول نصفها رغم كبر عمرها، لكن أمها الحبيبة كانت وحدها من تفهمها "هل أبي لا يحبني يا أمي؟"، يومها اجابتها أمها بنفي قاطع رغم يقينها الآن بأن أمها بذلت مجهود عظيم حتى يخرج نفيها صادق هكذا، حتى وإن كلماتها تحوي الصدق "لا يا غرام، لا يا ابنتي لقد أصر والدك على تسميتك باسمك الجميل هذا رغم اعتراض الجميع".
نعم هو أصر على ذلك بالفعل، ولكن ليس حبًا فيها، بل عشقًا وهيامًا بوالدتها الراحلة، فهي كانت ترى والدها يوميًّا كأي ابنة وكانت تفرح لذلك، لكن وفاة والدتها حولت أبيها البشوش والسعيد مع أمها رغم تقبله وجودها على مضض، إلا أن بعد أن رحلت والدتها تحول رضا أبيها المزعوم عنها لـ... لكره رسم بشاعته في نظرات والدها لها وضيق من وجودها في مكان يحتله، وكأنها سبب موت أمها لكن بالنسبة له ليس "كأنها" بل هو يعتبرها بالفعل قاتلة أمها، لكنها كبرت وسنين العمر جعلتها تدرك جيدًا أن أبيها تقبلها لتمسُّك أمها بها!
ورغم كل ذلك ورغم وعيها وادراكها هذه الحقيقة التي أهلكتها سنين كثيرة لكنها في انتظار رجوعه مطالبًا بها كأب أدرك خطاءه جيدًا!.
༺༻
بعد أن تأكد فريد من مروان – بطريقة غير مباشرة – أن حازم وصل للعمل وتأكد أن لن يراه أحد الآن وهو ينتظرها أمام مبنى الxxxx الذي تسكنه مع ابن عمه وعائلته رآها تنزل من عربة النقل الجماعية الخاصة بالشركة التي تعمل بها فاعتدل في جلسته وهو يراها تنظر نحو الطريق الذي يوصلها بدار الرعاية ثم تنهدت وهي تنزل رأسها بضيق وكأنها تريد الذهاب ويمنعها تعب الأيام ثم أكملت طريقها لداخل الشارع كانت تحمل حقيبة ظهر وتمسك بكتفيها شاردة تمامًا عن العالم، وحجابها مفكك وكأنها خارجة من أحد تلك العراك بين النسوة وقد تطاولت عليها إحداهن بالأيدي، كان الإرهاق يرسم ملامحها وحركة قدميها الثقيلتين وكأنها تجرهما ورغم كل ذلك كانت جميلة بطريقة خاصة، شاهدها تدخل للxxxx فقطع الطريق ليصل إليها فهو لم يدخل المآرب بل صف السيارة بجانب الطريق ليراها في رجوعها من العمل، دخل للxxxx فوجدها تستند بكتفها ورأسها على الحائط بجانب باب المصعد، ويبدو أن الارهاق تمكن منها جدًا حتى نست ضغط زر استدعاء المصعد! ظل ينظر إليها قليلًا بحنان، ثم سيطر على نظرته كما فعل مع نبرته:
-ألا تخشين أن يدخل أحد ويراك بمثل هذه الانحناء في دعوة للمشاهدة صريحة فجّة!
انتفضت تقى معتدلة بهلع مع أول حروفها، لكن معنى جملته التي قالها جعلها تقول ببرود مبتسمة:
-لا دخل لك، أنا قادرة على الدفاع عن نفسي.
ابتسم بسخرية وهو يقول بنبرة تقطر هزأً:
-واضح بالطبع.
ثارت هذه المرة وهي تقول محاولة صبغ نبرتها بالقسوة:
-لا أسمح لك.
-لم أطلب منك أن تسمحِ أو لا، لكن جئت لطلب آخر.
صمتت وكأن مجرد صمتها هو اشارة منها أن يقول طلبه "المتغطرسة... النرجسية ... البشعة... لحظة لكنها ليست بشعة بل جميلة بطريقة تفقده أنفاسه!" كان المتكلم أولًا يعدد بسبها هو صوته المتذمر داخله، أما من أوقف تلك السباب هو صوت ضميره أو قلبه... أو كلاهما... لا يعلم، فقال طلبه بصراحة مطلقة:
-لن أطلب منك أن تسافرِ هكذا دون دعوة، لكن إن أتتك دعوة هلا أتيت، من أجلي.
-ولما آت من أجلك؟! منذ متى وأنا أنفذ شيئًا من أجلك؟!
-منذ كنا نلعب معًا... بنين وبنات مالئين دارنا الكبير صخبًا كسوق عكاظ، ولكن ليس شعرًا إنما صراخ وهتاف دون هدف وفكرة!
قبضت على ابتسامة جميلة كادت أن تحسن من منظرها في نظره، وقالت بقوة:
-لقد رميت بكل هذا وراء ظهري وخطيت فوق كل شيء بشق الأنفس! فلا تطلب ما هو أكبر من قدرتي على التحمل.
انقبض كفاه إلى جانبه حتى ابيضت مفاصله ونظر لها وهي تنظر لتأخر المصعد عن الوصول وظل يراقب غباء ملامحها وهي تدرك عدم ضغطها زر الاستدعاء، مظهرها وهي تضرب الزر وكأنه سبب غباءها كاد يفقده مظهر الغضب الذي تحلىٰ به فقال بقوة غضبه قبل أن يفقده:
-الآن فقط أعترف أن تسبيح صدقت عندما أخبرتني أنك لست تقى روحًا وطبعًا!
ارتسم البؤس بأكثر وجوهه لطافة وشفقة على وجهها خاصة بعينها التي ضاقتا عندما ارتفعت وجنتيها السميكتان تحجب نظرة عينيها، فكانت أصدق مثال لـ "فن النكد".
وعندما وصل المصعد بعد ذهابه تاركًا لها بأحزانها الكثيرة دخلته تستقبلها صورتها الكئيبة في المرآة مع تبعثر هندامها الذي واظبت عليه بتفاني في الأيام الماضية وكأن حياتها تقف عليه، فهمست بيأس:
-اكتمل اليوم حقًا... كان المشهد الأكثر بؤسًا الذي يجب أن ينتهي اليوم به!
༺༻
كيف حالك يا حازم؟ لم نركَ منذ زمن يا ولدي.
قالها عمه وهم يجتمعان وحدهما بعد وصوله وشقيقه وابن عمه وكارم الذي جاء بشقيقته واخبروا الجميع أنه صديقهم وعندما علم من أي بلد هم وهو يريد زيارتها وأصروا أن يأتي معهم في هذه الزيارة، انطلت الكذبة على الجميع عدا الحاجة زُهيرة التي ظهر عدم تصديقها لهم في نظراتها نحوهم، جاءت إيمان لتسلم فهمست بخجل "كيف حالك يا دكتور" فاشتد الدهاء في عينين زهيرة فأمسكت بيد إيمان تسحبها معها داخل المطبخ لتحضير الفطور، وقد تفرّق الباقية بعد تناولهم له فأخذ مروان على عاتقه توصيل كارم وشقيقته لجناح في الملحق المبني للاستضافة وفريد ذهب ليعرف ما هو طعام الغذاء تاركًا له ساحة الانفراد بعمه، فقال يرد على تحيته بعد صمتهم قليلًا بعد ذهاب الجميع:
-بخير حال يا عمي، لكنك تعلم الظروف التي جعلتني أترك هذه البلدة دون تفكير في العودة مجددًا، لكننا نأتي من فترة للأخرى، نسأل عن الأهل والأحباب.
تنهد عمه وتحدّث بقسوة:
-إن كانت إيمان هي ما تجبرك على عدم المجيء فلا تأتي بها، لكن تعال أنت وفريد مع مروان ترونا ونراكم وتعودا مجددًا لأخوتكما.
احتدت النظرة في عين حازم وقال بقوة:
-وأنا لن أعامل شقيقتي بمثل هذه المعاملة، فهي لم تذنب في شيء حتى أعاملها هكذا، وإن لم تأتِ هي قبلي مستقبلين لها بحفاوة لن آت.
ضرب كبير العائلة بعصاه الأرض وقال غاضبًا:
-إن كان أحد غيرك من تكلم بمثل هذه النبرة معي يا ولد ما كنت إلا فاصلًا رأسه، ثانيًّا إن شقيقتك هذه هي من جلبت لنا جميعًا فضيحة نحاول رأبها حتى الآن.
صرخ حازم قائلًا:
-شقيقتي وإن جلبت فضيحة ستكون لي وليس لنا فأنت أول من طالب بدمها، لا .. إيمان لم تجلب الفضائح، بل قوانينكم هي من جعلت منه عدائي تجاهنا، فأنت أول من وشى به إلى جدي قديمًا أنه يحب أخرى ويريد الزواج منها، فقد جعلت أعرافكم منا كرجال قطيع من الهمج يطالب بحق ليس حقه، وتشعر نساءنا كسبية حرب تُهدى كوسام لرجلها، حتى وإن كان هذا الرجل ناسك في حبها!
ثم ترك عمه خلفه ينظر في أثره مضيقًا نظره ليس غموض أو خبثًا، بل بملامح عجوز حاول قدر استطاعته السير على نهج أبيه فلم ينجح كنجاحه، بينما ذهب نحو سياج ساحة اطلاق النار التي تعلموا فيها جميعًا كيفية الامساك بسلاح طلق ناري، شرد يوم وقف أمام عمران هنا عند حائط التصويب بعد أن لكمه بقسوة صارخًا:
-كيف لك أن ترفض شقيقتي يا عمران؟... يا أخي؟!
ابتسم عمران وقتها وهمس بحزن بطيء:
-أعرف ألا يجب قول ذلك لك أنت خاصة... لكن من بين كل هذه العائلة أنت ومروان أقربهم، لكن لن أزرع الكره بين أفراد عائلتي، لم يتبقْ غيرك ليسمع ألم قلبي! فأنا لم أرفض إيمان ولن أفعلها ما حييت بل هي من فعلت، وكان عليّ الانسحاب قبل أن ينالها غضب الجميع، ويتم زواجنا اكراهًا فنعيش معًا حتى يأتي اليوم الذي ستكرهني به.
همس حازم للهواء أمامه:
-ليتني أستطيع العودة بالزمن لهذا الوقت، لأجبرها قبل الجميع على الزواج بك يا أخي، موافقًا هذه القوانين التي أرفضها وأبغضها، ورغم تشدقي بهذا منذ قليل في وجه عمي، سامحني يا ابن العم فلم استمع جيدًا لأوجاعك، فكلنا نحاسب على ذنبك الآن!
ثم شردت عينيه بعيدًا مجددًا وسرعان ما ضرب السياج الخشبي بعنف... ثم فكر هامسًا بغضب:
-تبًا لي!
-كنت اتساءل للتو من قاده مصيره ليغضب وحش بقلب حجري! لكن بعد سماع سبتك الأخيرة فهمت أن غضبك أنت سببه هذه المرّة.
التفت حازم لشوق المبتسمة إحدى بنات عمومته، فقال مُرحِبًا:
-مرحبًا يا شوق، كيف حالك؟!
قالت بدلال مستمتعة بوجودهما وحدهما هنا:
-لن اجاوبك فأنت لم تسأل عني، عندما وصلت، بل انتظرت حتى آتي أنا وأسأل.
نظر لها طويلًا ولم يرد فإن فعل ستخرج من هنا نحو عمته باكية، وهو لا ينقصه هذا الفرط من الدلال الآن، ورغم تجاهله لها قالت تحسه على الاسترسال معها فهي تحبه منذ الصغر ويتمناه قلبها المراهق:
-كنت أسير في طريقي استنشق هواء الصباح، فرأيتك واقفًا فجئت أسلم عليك، لكنك مشغول البال على حد اعتقادي يا ابن خالي.
-نعم مشغول البال...
كان يريد اكمال "ولا أود الرفقة" لكن ظهور تسبيح من العدم وهي تقول بغضب يخرج من محجريها ترشق شوق به، ورغم ذلك قالت بدلال لم يراه في تسبيح من قبل:
-بالطبع سيكون مشغول البال يا حبيبتي، فهو لا يعرف طريقة يفاتح بها أبي ليطلبني منه.
نظرت لها شوق بصدمة وحولت عينيها الذي انطفأ بريقهما إلى حازم تسأله:
-حقًا؟
-ما قلت الأدب هذه؟!
خرجت العبارة المُهينة من فم تسبيح، فزمجر حازم متوعدًا:
-تسبيح؟!
-ماذا؟!
قالتها وهي تسأله بعينيها "ألا يحق لي"، لكنه تجاهلها وهو يجاوب شوق مبتسمًا والتي كانت لا تزال تنتظر جاوبه:
-نعم سأتقدم لتسبيح يا شوق، العقبة لك عندما تكبرين يا صغيرة.
دمعت عينيها باحمرار وهمست:
-مبارك...
ثم انسحبت تسير ببطء لكن بصغر سنوات عمرها هذه لم تستطع رسم الكبرياء، فأطلقت قدميها للرياح، وكان حازم يتابع خطواتها حتى هرعت في سرعة واختفت، تنهد محولًا نظرته أمامه لتستقبله نظرات تسبيح وهي مكتفة ذراعيها أمامها وتنظر له بغضب، وعندما انتبه لوجودها أخيرًا أنزلت ذراعيها وقالت تقلده حتي بتنهديه:
-نعم مشغول البال.
ثم قالت بغضب:
-لمَّا لم تطلب مواساتها أيضًا؟!
ظل ينظر لها طويلًا بصمت لا يصدق أن تلك التي أمامه تسبيح، تتحدث بانطلاق تطالب بحقها بقوة ولا تتراجع عنه بخوف وكأن الزمن عاد لأيام نمو رجولته الفتية وطفولتها بوجه محمر في بياضه والأكثر احمرارًا هما خديها الناضجين، تنفس يملئ صدره بالهواء، وابتسم يجاوبها مشعلًا غيرتها كما تفعل دائمًا معه وإن كانت هي الغير منتبهة وهو المخطط، والمعادلة غير عادلة:
-لقد قطع طلبي دخيلة على وقفتنا.
ازدادت الاشتعال في نظرتها، لكنها همست وهي ترفع رأسها بكبرياء وتستدير:
-حسنًا، دعني ارسلها لك!
أمسكها من معصمها وأدارها وهي تصرخ:
-دع يدك عني، لا أسمح لك.
لكنه لم يتركها بل امسك بأعلى مرفقها فكانت قريبة... قريبة جدًا وهو يهمس أمام عينيها:
-دخيلة أقرب لجنية ساحرة خرجت ليلًا تتحسس الخطى واضعة هدفها نصب عينيها فأصابت قلبي الوله في نظرة من عينيها.
انفراج شفتيها وهي تنظر له بانبهار طفولي، وكأنها مراهقة يأخذها العشق على حين غرة، جعل قلبه ينتعش بعدما كان يتحضر بذكريات يحاول مداواتها، رمشت بعينيها وهي تسأله بغباء:
-وشوق؟!
-ابنة عمتي، ماذا تنتظرين أن أعاملها؟
دمعت عينيها وهي تهمس:
-لكنها تحبك!
-وهل هذا يهم؟
-يؤلمني.
رغم طريقة الهمس الذي سلكها الاثنين إلا أن تلك الكلمة تردد صدى آلمها في صدره، فلم تكن فرحته صافية بغيرتها، لذلك همس:
-بعيد الشر ليتني أنا.
مع آخر حروفه وجد عمته والدت شوق تسير في الممر الطويل وعينيها عليهما فترك مرفقها وابتعد ولم تفهم حركته الخشنة بعض الشيء إلا باقتراب عمتهم، والتي قالت بقسوة لتسبيح:
-يبدو أن اصرارك على الذهاب للجامعة في المدينة كان له أثر كبير على اخلاقك يا ابنة اخي.
صرخ حازم بعمته والشر يتطاير من عينيه:
-عمتي! إن علم عمي أبو عمران بما قلتِه توًا لن يمرر هذا أبدًا، ثم أني طلبت يد تسبيح من عمي منذ قليل وكنت اخبرها ذلك الآن، أي أنها في حكم خطيبتي الآن!
-خطيبتك وليس زوجتك يا ابن اخي!
قالت تسبيح بهدوء:
-إن كان سفري في المدينة أثر على أخلاقي لأن أقف أتحدث مع خطيبي، فما الذي أثر على أخلاق شوق يا ترى؟!
صرخت عمتها:
-اخرسي!
-لا لن أخرس، فأنا خطيبة لحازم منذ مولدي طبقًا للقوانين ونحن كنا نتحدث كأي خاطبين، لكن ما تفسير شوق لسبب وجودها مع خطيبي وأيضًا تطلب منه تأكيد على اخباري لها بأنه سيطلب يدي؟!
كان حازم ينظر لتسبيح بقوة حتى تصمت، فهما مخطئان في وقفتهم رغم كل ما تقوله، وحدث ما يخشاه وعمته تقول:
-إذًا لنخبر أخي بما رأيت ونعرف وجهت نظره.
قوة تسبيح وهي تقول:
-ونخبره بما فعلته شوق ونرى.
لكن حازم صرخ عقله يسبها "يا غبية!"، فهو حتى لم يطلبها من والدها، لكن عمته بالفعل خشيت من تهديد تسبيح، فأخيها رغم أنه ليس له حكم على ابنتها إلا أنها قد تخسره إن كان الوضع يشمل "تسبيح"، انسحاب عمته وهي تنظر لتسبيح بقسوة ادهشه وهو ينظر لتسبيح التي قالت:
-ماذا؟ لم يكن أمامي غير هذا.
احتدت نظرته وهو يقول بقوة:
-لكنها عمتك، وكما أن لديها حق فيما قالت.
-وأين كان هذا الحق عندما تسللت لغرفتي بمساعدة شقيقتك؟!
صرخ في وجهها بقوة:
-كان هذا لأحصل على موافقتك، كنت مضطرًا.
صرخته جعلتها تتقهقر خطوة للخلف وتغمض عينيها وهي تعود برأسها للخلف، وهذا ما أوقف ثورته، لكن لم يصلح من الأمر، فقد انطلقت تسبيح تجري بعد أن شعرت أنها في حيز آمن، فأغمض عينيه وهو يضرب الحصى الصغيرة بقدمه، لمَّا لم يسيطر على انفعاله في وجهها هكذا، لكن ماذا يفعل فعندما ذكّرته بتلك الليلة وما أقدم عليه حتى ارتفع غضبه ليس عليها، انما عليه هو!
عندما سألها إن كانت حقًا جاهزة للخوض في ارتباطهم أجابت بـ "نعم" تكاد تكون مطموسة من شدة خجلها، فسألها مجددًا:
-هل أطلبك من والدك في سفرتنا؟!
-حسنًا.
كانت هذه الـ "حسنًا" بخدين حمراوين بشدة ورآهما رغم تفانيها في خفض وجهها والذي جعل خصلتها تترنح فزادت فتنته بها فاقترب كمغيب مسلوب الارادة فارتفع وجهها سائلة بصمت مرسوم على ملامحها، فجاءتها الاجابة بأبعد ما قد تورد على ذهنها، وهو ينحني يحتويها بين ضلوعه وليس ذراعيه وهو يهمس بجنون:
-لا أصدق، لا أصدق... هل وافقتي حقًا؟!
فتح الباب بسرعة وطلت منه وصرخت بهلع وخفوت، وسرعان ما دخلت وهي تغلق الباب خلفها، فاستفاق حازم وهي تسلب روحه عندما خلصت تسبيح بسهولة، فهو عندما فاق لما يفعل ابتعد كالملسوع وظل يرمش حتى همست إيمان بقسوة وهي تحتضن تسبيح المرتعشة بانتفاض قوي:
-أخرج من هنا، أخرج... ماذا تنتظر؟!
خرج يومها وهو مهموم ولم يرتَح إلا عندما اختلى بإيمان التي أخبرته يومها أنها لم تتركها إلا عندما ولجت للفراش ونامت.
"أنا آسف"
جملة من كلمتين لم يملك غيرها كان يرسلها لها مرارًا وتكرارًا، وكأنها دواء وصفه طبيب فكان يرسلها عندما يولى إلى الفراش وعندما يفتح عينيه، وكانت تراه كلما أرسلها ولكنها لا ترد وتبرد من احساسه المشتعل بالذنب تجاهها كلما يتذكر جسدها الهش في انتفاضته في حضن شقيقته، لكن ماذا كان بيده أن يفعل لقد انتابه شعور نهم كشعور المن والعطف بعد سنين عجاف فاقترب ينتشل نصبه الذي مُنع عنه، إلا أنه مساء اليوم أرسل لها نفس جملته مصاحبة بجملة غاضبة بعد تجاهلها وكانت جملته هي "لن يغير تجاهلك هذا من قولك نعم سأتكلم مع عمي وأطلب يديكِ"، رأتها ولم ترد وقتها أرسل سؤاله كله تهذيب "هل أطلب يدكِ؟"... لم يرَ بسمتها الباكية، لكن رأى رسالتها التي تكونت من ثلاث حروف عذبته وهو يتذكر قولها لنعم مشابهه تلاها دمار، حاول مراسلتها ثانية بكل الأحوال لكنها قد قررت عدم مراسلته مجددًا، وعندما آتى صباح اليوم كان يبحث عنها حتى أخبرته دون أن يسأل أنها في غرفة والدتها نائمة، فهي لا تنام منذ وصولهم إلا فجرًا حتى تكون شبعت من أبيها صباحًا ومن أمها طوال الليل... ألا تريد الشبع منه هو أيضًا! هذا آخر ما فكر به قبل أن يعود ادراجه نحو الدار.
༺༻
دلفت لغرفتها تستند للباب بكفيها وظهرها مرجعة رأسها للخلف ومغمضة العينين بتعب بعد أن تخلصت من تحقيق زهيرة وبعده قائمة طويلة في توبيخها، فزُهيرة لم تتركها إلا معترفة بحقيقة وجود الطبيب وشقيقته، فأخبرتها في جملة غاضبة "هو طلبني للزواج وطلبت منه الحضور لهنا ليتعرف علينا وطبيعتنا، لكن لم أعلم أنه سيأتي بشقيقته كرجل شرقي يحصل على وسام في تحطيم أي امرأة تقترب من دائرته أو تنضم إليها".
بعدها لم تلاحق على عبارات زُهيرة التي كانت ترشقها بالواحدة تلو الأخرى "ماذا تريدين بعد يا إيمان أن يقتلك عمك ونرتاح جميعًا، لقد أرهقت شقيقيك على حد السواء"
"متى أصبحت قاسية حد الحجارة هكذا؟ حتى الحجارة تلين يا ابنتي"
"ألم ترِ نظرات شقيقك الهاربة من نظراتي، رجل بطول وعرض جبل وقف كما الطود العظيم في وجه الجميع لا تهتز له شعرة وهو يستمع لعبارات تقصم الظهر، وتسود لها الجبين في عرض شقيقته وتحمل كل ذلك، لتأت شقيقته بكل عجرفة وقسوة تلطخ ما قام ببنائه بعيدًا، أتساءل هل تنتقمين من إخوتكِ؟"
"هل كنتِ ستفعلين كذلك إن كان والدك يحيا بيننا الآن، لقد كان يلقى حتفه"
وعندما ارتسم الآلم على ملامحها قالت تزيد وجعها "نعم هذه عبارة مشابهة لما سمعتيه يومًا، ورغم قسوتها التي تهلك روحك إلا أنها صادقة في شفافيتها"
وفي عبارة أخرى ذبحتها من الوريد للوريد "لن يقبل بكِ الطبيب بعدما عرضتيه لمثل هذه الأقاويل..."
قاطعتها وهي تهمس بتجبر "سأكون الفائزة فلن أحصل على رجل يفكر بعقل مُظلم"
وقتها برقت عينا زهيرة وهي تهمس كمن يبث سمومه "لا يا إيمان لن تكوني غير الخاسرة، فأنا لا اخطأ في قراءة معدن انسان قط، وسيكون رحيم إن لم يقوم بشن حرب ضدكِ لفض سرّك هناك انتقامًا لما عرضته له، فقد كان يمكنك الرفض معلنة أسبابك لكنك لم تدخري جهدًا في إيلامنا"
"أنا يا خالتي أنا؟!"
لكن زُهيرة لم تتأثر ولم تتراجع بسماع نبرتها المكسورة بل أكملت "سيعاقبك الله يا إيمان عما تفعلي فأدعيه أن يكون عقابه رحيمًا".
فتحت عينان حمراوين مخضبتين بشعور من طُعن غدرًا، لكنها هي من أعطت الشفرة ليد طاعنها فلم يرحم ضعفها واستسلامها، كانت يومًا تمشي تفاخرًا بتربيتها التي يشيد بها الجميع، لكن بعد أن سلب منها سمعتها متشرد بأنياب لم ترحم عزتها وكرامتها التي كانت تحيا بهما، مسحت دمعتان سالتا كل واحدة منهما على خديها بطيئتين كأنما يشقا أخدودان من الآلام التي شوهت روحها بعمق حتى الرمق الأخير، جرت قدميها للحمام الغرفة حتى تتجهز لليلة الحناء.
༺༻
جلست تنتظر خروجه من حمام الغرفة فعندما دخلت تلحق به كما أشارت لها حماتها بترك ما بيدها والذهاب خلف زوجها، فوجدته يُخرِج ملابسه من الدولاب والتي قامت بتنظيمها مع ملابسها والأطفال منذ وصولهم قبله، لكنه عندما التفت ووجدها واقفة مبتسمة، وهمست:
-كيف الحال؟ اشتقتُ لكْ... لم نبتعد من قبل كل هذه المسافة،
لم يجب سؤالها عن حاله ولا ترحيبها باشتياقها له رغم انقباض عضلة فكه وتألق نظرته لثانية أو اثنتين، لكنه قال بجمود:
-بل ابتعادنا، فقد كنت آتي إلى هنا في الأيام التي كنت أغيبها عن البيت.
-لم أكن أعرف.
همست بها بخزي، فقال بقسوة:
-ومنذ متى وأنتِ تهتمي لمعرفة أمر يخصني؟!
نحرتها عبارته لأنها صادقة دون نقص ولو واحد من عشرة بالمئة، واكتفت بمراقبة انسحابه إلى الحمام دون أن تتفوه بحرف، كانت تنتظر انفرادهم وحدهم لتخبره كم وقعت في حب لهجته التي تحدث بها مع والده وأهل البلد، رغم أنهم يمزحون فيما بينه وتسبيح وأبناء عمه لكن أنها المرة الأولى التي تراه وتسمع الجدية في صوته وهو يتحدث بها.
فتح باب الحمام وخرج اقترب من الفراش وتجنبها مهملًا وجودها، فهمست بصوت يكاد يكون مسموعًا:
-هل تحتاج إلى شيء؟ أحضر لك كوب الشاي الذي تحبه.
حافظ على بروده وهو يخبرها:
-لا، أريد النوم، اخرجي من فضلك ولا توقظيني إلا على وقت الفرح.
أومأت بصمت الخزي الذي يحتل كيانها وانسحبت بصمت بعد أن أغلقت الإضاءة لتغرق الغرفة في الظلام وينام قرير العين.
༺༻
انتشر العباءة ذات التطريز القديم والألوان المشبعة اللذان يحكيان طراز هذه البلدة والتي تباع في السوق السياحي نحو المعابد والمعالم السياحية الشهيرة هنا، لكنهم يلبسوه كنظام متوارث في حفل الحناء التقليدي لبلدتهم، رغم قربهم الشديد للمنطقة السياحية إلا أن المسافة القليلة الفاصلة بينهما مكنتهم بإقامة ليلة الحناء على مدار السنين كما يجب أن تقام غير خاشيين من تطفل السائحين على ليالي أفراحهم كما يحدث مع الباقية الذين يقطنون داخل تلك المنطقة فيضطرون بتقليص العادات فترتدي النساء العباءات السمراء وإن كانت مطرزة، أما هم فكانوا يرتدون هذه العباءة الملونة بألوان البهجة وقفت أمام المرآة في بهو الملحق بعد أن أعطت شقيقة الطبيب التي تحمل من الأسماء أغربها إحدى العباءات ذات القماش الملون ولفاف الرأس بنفس لون وقماش العباءة الذي يتدلى منه الدلايات الذهبية التي تلف دائرة الرأس، كانت تقف بعباءة فضفاضة ترجع لوالدتها وتلف حجاب طويل حتى يداري شعرها التي فردت بالحرارة، والذي أهلك ذراعيها بسبب كثافته، فكانت تحافظ على تعب ساعات قضتها في فرد شعرها من حلقاته الحلزونية، كانت زينة وجهها خفيفة فلم تخفِ نمشها المنتشر على أنفها وخديها، وكانت سُمرة الأحجار الكريمة في عينيها وهاجة، وفي سوادهما المناقض لبياض بشرتها سحر يخطف كل من ينظر لها أول نظرة كانت مدركة ذلك بإحساسها كأنثى وما أكد إحساسها عندما فتح لها الطبيب باب الجناح وقال مسحورًا بها:
-سبحان من أبدع في خلقك يا صغيرة.
رغم أن نظرته لها لم تكن خادشه أو بها ما يدل عن سوء نية، كانت نظرة تحمل عاطفة أبوية أو أخوية، إلا أن جملته المداعبة – والتي تبدو وكأنما أفلتت من بين شفتيه في غفلة منه – جعلتها تحمر خجلًا كما الآن وهي تتذكرها، نظرت في ساعة معصمها وهي تزفر فقد تأخرت المدعوة ملاذ وهي تود اللحاق بالحفل من أوله، "هل أخوات الأطباء يشبهونهم في تأخيرهم!"، سؤال ومض في عقلها بسخافة من مللها الذي وصل ذروته، لم تمر دقيقة أخرى وسعمت صوت قدمين رقيقين في نزول الدرج فعلمت أنها من تنتظرها، فترقبت ظهورها وابتسمت باتساع وهي تقول بنبرة متألقة:
-مقياس العباءة ناسبك، كما ألوانها.
سألتها ملاذ بابتسامة مهزوزة:
-هل أبدو جميلة حقًا؟
-فائقة الروعة!
الحقول الخضراء المرويّة بالتنقيط في عينيها كانت تتألق مع لون عباءتها الزيتوني المشبع حتى توهج في عينيها، كان لجمالها سحره وإن كان يختلف عن سحرها هي، لكنهما تشابها في بساطة المظهر وزينة الوجه، تحركت تسبيح تجاهها تسحب يديها وهي تقول:
-أسرعِ يا فتاة فقد يفوتنا بداية الحفل.
سارت معها ملاذ وهي تحكم حجابها حول وجهها تداري شعرها.
عندما دخلتا الحفل أخذتها تسبيح نحو غرفة صغيرة في الدور الأرضي ليخلعا عنهما الحجاب ويلبسون القلنسوة ذات الدلايات، كان شعر تسبيح بعد فرده طويلًا يسافر بلدان ويتخطى محيطات واسعة، كان كستار يلفها من ظهرها الجانبين حتى كفيها وذراعيها مفرودتان بعد أن قسمته من المنتصف، أما ملاذ بشعرها الأسود اللامع الملفوف بكعكة "الصحافية الأنيقة" وخصلات قصيرة تظلل جبهتها حتى الحاجبين ومن الجانبين نزلتا خصلتين طويلتين حتى أسفل الخدين، كانت رائعة كأميرة هاربة من قصر عثماني وقلنسوتها يغلب على لون قماشها الأصفر الذهبي كما دلايتها اللامعة فكانت كأميرة مزينة ليخطفها أميرها على صهوة جواده، وقفت كل من هما تنظر للأخرى مبهورة من جمالها، حتى وإن زين بعض الحزن نظرات ملاذ التي همست بابتسامة أظهرت حزنها زيادة:
-يجب عليَّ النظر على وجهك طوال فترة حملي، علّ ابني أو ابنتي تشبهك في روعتك يا تسبيح.
ضحكت تسبيح محرجة وقالت:
-لم أملك حلاوة عينيك وصفاء ملامحك يا ملاذ... كما أنني أسمع أن الطفل يأتي للطرف المحبوب أكثر بين الزوجين.
-لا طفلي أي كان جنسه لن يشبه ابيه إن شاء الله.
لم تعرف تسبيح ما هو مقصد ملاذ فإن معنى الجملة أنها تحب زوجها أكثر مما يفعل هو، لكن لما تتمنى ألا يشبه، ضحكت بقوة وهي تسألها بغباء لا تدرك أي منطقة ألغام تدخلها:
-هل لمجرد خلاف أزواج عابر تتمني ألا تشبه أولادك أبيها، أم أن بشاعة ملامحه هي من تجعلك ترفضين أن تورث أبناءكم ملامحه.
دمعت عينا ملاذ رغم قولها بقوة:
-بل بشاعة روحه.
انتفض رأس تسبيح للخلف من هول الطريقة التي نطقت بها ملاذ حروفها، لكنها حاولت الابتسام قائلة:
-واضح أنه خلاف، لكن ليس عابر كما يبدو.
لم تجاوبها ولم تتجاوب مع مزحتها، بل ظلت على صمتها لكن تنفسها ازداد غضبًا، فحاولت تسبيح اخراجها من هذه الحالة فهمست ضاحكة ظنًا منها أنها تخفف عن مشاعرها:
-عندما يتزوج أخيكِ بابنة عمي المتعنتة سوف نتفق عليها، ستعيشين دور الحماة "القاسية" وسأساعدك على ذلك.
رفعت ملاذ كفها تسند به رأسها الذي مال مع صدع صوت بكاءها المنفجر فجاءة، مما جعل تسبيح تقفز مكانها وهي تتلفت حولها بفزع وقالت:
-ماذا فعلت أنا؟
اقتربت منها وهي تربط فوق كتفها تحاول مواساتها فهمست:
-إذًا سأجعلك تخرجين كل مشاعرك في إيمان لا تقلقي.
ظلت ملاذ تصدر صوت بكاء كصوت سيارة اسعاف ذاهبة وآتية تغيط سكان المنطقة، فقالت تسبيح كمن توشك هي الأخرى على البكاء:
-والله لو بيدي لجعلتك تبكين للصباح، لكن إن رأتك أمي وأنت تبكين هكذا لن تنتظر تفسير وتأخذ رأسي تضعه في دلو ماء ساخن ليسهل عملية نتف شعري المتفاخرة به هذا على حد قولها.
هذه المرة توقف صوت بكاءها وهي تضحك بين كفيها، لكن عندما ابعدت كفيها عن وجهها لم تظهر دموع بكاء، ورغم البؤس المرتسم على ملامحها لقالت أنها استغفلتها خلال الدقائق الماضية تمثل البكاء، أي بشر هؤلاء الذي يبكون دون دموع! هل يوجد عائلة أكثر منهم جنونًا!
بعد قليل في الحفل بين النسوة رقصت تسبيح أمام إيمان رقصة شعبية اشتهرت بها معظم بلدان الصعيد وشاركتهم العروس التي كانت تبدو من نفس عمر تسبيح تقريبًا، كانت حركتهما منسجمة بسلاسة فشكلا ثنائي خطف أنظار الجميع، وجعلت الحماسة تشتعل في صوت المرأة التي تولت الغناء على الطبل فكان فلكلور راقص خطف نظر غرام التي وقفت بجانب حماتها على وجه الخصوص فكانت تتابع الرقص بعيون مفتوحة على وسعهما، وفك تدلى من كثرة تركيزها في الخطوات تحاول حفظها، ولم تلحظ تلك الضاحكة بسخرية في الصف المقابل بين فتيات البلدة على منظر العته الذي يعتلي ملامحها، لكن قد لاحظتها زهيرة التي لكزت زوجة ابنها في خصرها بطريقة غير ملحوظة، لكن تلك التي تتابع كل سكنات غرام لاحظتها فنظرت لها وابتسمت استهزاءً ترسل رسالة مكتملة الحروف والمعاني، فجزت زهيرة على أسنانها وهي تبتسم لها باصفرار.
بعد قليل وقفت النساء بعدما لبسن عباءتهن في الشرفتين الأرضيتين يشاهد مراسم عقد القران، كانت العروس سعادتها قد تجعلها تحلق بعيدًا عن هذا الصخب وكل هذا الجمع مع عريسها وحبيبها، أطلقت تسبيح زغرودة عالية وهي تكلل فمها بيدها بعد أن أتم الشيخ عقد القران، زغرودة اشتهر بها أهالي الجنوب عامة، وبعدها ارتفعت الزغاريد بين النساء وكأنهم ينتظرن من تبتدأ... بينما انطلق الطلق الناري في السماء فكان يصم الآذان، وتابعت تسبيح تلك الطلقات المدوية وهي تتفجر من الأسلحة في احتفال خاص بالرجال، اعتلى كل من مروان والعريس صهوة جواد، وظل يرقصا بهم فشاركهم الرقصة فريد بعدما جاء يعتلي جوادًا ويمسك بزمام الآخر يسلمه لحازم في دعوة لانضمامه لهم، لم يفكر حازم كثيرًا وهو يمسك بلجام الحصان، شكل الثلاث شبان دائرة ثلاثية حول العريس فوق جواده، ودقت الطبول حماسة، وعليا صوت المزمار، وارتفع صخب تهليل الرجال والشباب الذين جاءوا منضمين للدائرة حتى اتسعت.
كانت عينيها لا تراقب ولا ترى غير زوجها التي علت الضحكة والفرحة الحقيقية وجهه، زوجها وحبيبها مروان الذي ستبدأ معه طريق جديد سيكون شاق في محاولات لإصلاح ما أفسدته، ورغم سير أفكارها في طريق يملئه الحزن إلا أن الابتسامة لم تفارق شفتيها وقلبها يصرخ قارئًا للمعوذتين تحمي فرحته وسعادته التي تشبه في انطلاقها انطلاقه عندما يمازح الصغيرين ماجد وسيف في شقاوة، شقاوة تماثل ما يفعله الآن وهو يحاول مناكفة حازم ابن عمه فيرد مناكفته، وكان حال تسبيح مختلف قليلًا فقد رأت هذا التوهج والانطلاق التي يتحرك بهما حازم والابتسامة تزين شفتيها فيبدو أن تلك الزيارة أعادة روح الشباب والعنفوان المنطلق من نظراته وحركاته.
بعد انتهاء الحفل ولم يتبق إلا من النساء سوى الأقارب، انسحبت تسبيح بهدوء تسلك طريقها نحو منطقة التدريب على الرماية واطلاق النار واستقرت عند نقطة لقائهما في الصباح، تتذكر كلماته وابتسامته لها هنا وضربت عقلها أخر ذكرى بينهما وهو يصرخ بها وخافت هي أن يبطش بها فتراجعت مهرولة نحو غرفتها في الدار تبكي بفيض الفرحة والسعادة المنقوصتين دائمًا، تراجع شرودها على صوت ملاذ المنادي لها من أول الطريق الممهد نحو المنطقة فاستدارت تستقبلها وهي تقول:
-ألم تخشِ التجول ليلًا حتى وإن كان داخل دارنا؟!
-كنت اتبعك لكنك ترفقين بقدمك العجلات المسرعة.
قهقهت تسبيح بقوة وهي تقول مقلدة جملة شهيرة محرفة قليلًا:
-وهذا لا يعني أنكِ رقيقة أكثر من اللازم، أو تتبعين نصائح النساء في الخطي ببطء حتى وإن كنتِ في بداية الحمل، لا ..لا أنا التي تلحق العجلات في قدميها!
ضحكت ملاذ وهي تقول:
-يا بنت يا تسبيح... هل كل أحاديثك هكذا؟ لا جدية مطلقًا؟؟
-ماذا أخذنا من الجدية يا عيوني؟!
انهت جملتها بضرب ظهر كفها بكفها الآخر وتتمصص بشفتيها في لوحة لامرأة عجوز أهلكتها سنون العمر بحنكة أبعد ما تكون تسبيح عنها، ضحكت ملاذ بقوة وحاولت اخراج كلماتها صحيحة من بين ضحكاتها:
-مشكلة أنت يا تسبيح، هنيئًا لمن يفوز بك.
ابتسمت تسبيح وهي تتخيل هذا الهنيء الذي تكاد تراه وهو واقف مختبأ خلفها وراء أحد الأبواب، فقالت واثقة من سماعه لحديثهم:
-فليقدر مجهوداتي فقط!
-من هذا؟!
سألت ملاذ بغباء فأجابتها ببساطة:
-الذي سيفوز بي بالطبع.
سألتها بخبث:
-هل هو معروف الهوية؟!
-لا، لم يعرف بعد.
قالت بتشفي وهي تدرك بالمرجل المشتعل خلفها، بينما اكتفت ملاذ بابتسامة، وهمست:
-ربنا يقدر لك خير رجال الأرض زوجًا.
-آه، فلتكثري من هذا الدعاء فلم يظهر غير خائب الرجاء من ضمنهم.
ضحكت ملاذ وهي تقول:
-أشعر بالغباء من جملك هذه، صدقًا!
رنت ضحكت تسبيح وهي تتذكر عبارة من أحد الأفلام لتقولها وسط ضحكتها التي شقت سكون الليل بصدها الذي تردد:
-كلهم يخبروني بذلك، أنا موهوب.
ابتسمت ملاذ وهي تقول:
-ضحكتك رائعة يا تسبيح.
وفي روعتها سحرت ذلك المشتعل من كلمات، وغرق حتى أذنيه في ضحكتها الرنانة، وسمع ملاذ وهي تخبرها:
-سأذهب للنوم فأنا أشعر بالإرهاق فيبدو أن السفر هد قوتي.
أومأت لها تسبيح وهي تقول:
-حسنًا، تصبحين على خير.
وبعد ذهابها وقفت شاردة تنظر في الفراغ تنتظر خروجه والافصاح عن وجوده، وبالفعل اقترب وعرفت ذلك من رائحة عطره التي انعش حواسها، وابتسمت عندما همس باسمها ولم تستدير، فهمس:
-آسف.
لم ترد أيضًا فأستطرد:
-لا أعلم إلى متى سأظل أرددها هكذا!
طال صمته ويأس من ردها، لكنه سمع همسها:
-إلى أن تكف عن تصرفات رجل الكهف البدائي التي تحيا بها.
ابتسم وشجعته سخريتها من الاقتراب حتى وقف بجانبها وقال:
-لا أعلم كيف أسيطر على هذا المزاج الذي أفقد به أعصابي، لكن مهما ارتفع صوتي وصرخت وكسرت لن أمسك بسوء يا تسبيح، إلا أنتِ... إلا أنتِ يا هدية القدر التي طال وقت استلامها!
نظرت له بصدمة، فتلاقت القوى المتلاحمة بين اللؤلؤ الأسمر الساطع والأحجار الكريمة الناعمة رغم سوادها الليلي، فهمس:
-ما أجملك!
لمحت توهج عينيها في الظلام كما توهجت من قبل ليلة أن قالت "نعم"، فأنزلت نظرها خجلًا تفكر في طريقة للهرب من تلك النظرة حتى لا يحدث ما حدث من قبل ليلتها، واعطتها مفتاح هروبها عندما همس سألًا:
-لم يظهر بعد من سيهنأ بكِ؟ كما أنني خائب الرجاء؟!
اقترب خطوة مهددة فاطلقت قدميها للرياح ولم تتوقف إلا على عتبة مدخل الدار.
༺༻
انتهى الفصل الثامن.
قراءة سعيدة.
دمتم بخير.


چورية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 26-07-22, 10:35 AM   #12

رودينا رونى

? العضوٌ??? » 497934
?  التسِجيلٌ » Jan 2022
? مشَارَ?اتْي » 61
?  نُقآطِيْ » رودينا رونى is on a distinguished road
افتراضي

الرواية جميلة جدا تسلم ايدك

رودينا رونى غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-07-22, 12:05 AM   #13

أميرة صبحى

? العضوٌ??? » 479964
?  التسِجيلٌ » Oct 2020
? مشَارَ?اتْي » 95
?  نُقآطِيْ » أميرة صبحى is on a distinguished road
افتراضي

🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹🌹

أميرة صبحى غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 28-07-22, 10:10 PM   #14

MooNy87

مشرفة منتدى عبير واحلام والروايات الرومانسيةومنتدى سلاسل روايات مصرية للجيب وكاتبة في قسم قصص من وحي الأعضاء

 
الصورة الرمزية MooNy87

? العضوٌ??? » 22620
?  التسِجيلٌ » Jul 2008
? مشَارَ?اتْي » 47,927
?  مُ?إني » واحة الهدوء
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
?  نُقآطِيْ » MooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond reputeMooNy87 has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   7up
¬» قناتك mbc
?? ??? ~
لا تحزن ان كنت تشكو من آلام فالآخرون يرقدون
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

السلام عليكم
منذ فترة لم أدخل إلى المنتدى أو تجذبنى رواية لمتابعتها
لكن روايتك ملفتة ومليئة بالحيوية والجمال
تقبل تحيتى وتقديرى لقلمك.


MooNy87 غير متواجد حالياً  
التوقيع
رد مع اقتباس
قديم 29-07-22, 12:11 AM   #15

دانه عبد

? العضوٌ??? » 478587
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 513
?  نُقآطِيْ » دانه عبد is on a distinguished road
افتراضي

💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚💚
چورية likes this.

دانه عبد غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 31-07-22, 06:54 PM   #16

سارة امينة
alkap ~
 
الصورة الرمزية سارة امينة

? العضوٌ??? » 302466
?  التسِجيلٌ » Aug 2013
? مشَارَ?اتْي » 1,345
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Algeria
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » سارة امينة has a reputation beyond reputeسارة امينة has a reputation beyond reputeسارة امينة has a reputation beyond reputeسارة امينة has a reputation beyond reputeسارة امينة has a reputation beyond reputeسارة امينة has a reputation beyond reputeسارة امينة has a reputation beyond reputeسارة امينة has a reputation beyond reputeسارة امينة has a reputation beyond reputeسارة امينة has a reputation beyond reputeسارة امينة has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   fanta
¬» قناتك mbc
?? ??? ~
انا امرأة .. نصف وزني كبريـــــاء... والنصـــف الآخــــر شمـــــوخ ... ســــاذجٌ أنــــت إن اعتقـــدتَ أنّـــك ملكتنــــي... فمفاتيــــح قلبـــي بيــدي... أنــا من أعـــطاك اياهـــا ... وأنـــا من يستردهــــا ... فلســـت ممـــن يرضيــــن بأنصــاف الحل
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

السلام عليكم
عندي مدة اكثر من عام فقدت الشغف في القراءة لا روايتك انعشت حب القراءة في داخلي بالتوفيق و في انتظار باقي الفصول

چورية likes this.

سارة امينة غير متواجد حالياً  
التوقيع
ليس ثمة سفينة كالكتاب، تنقلنا بعيداً بعيداً😍
رد مع اقتباس
قديم 01-08-22, 06:10 PM   #17

نور محمد

نجم روايتي


? العضوٌ??? » 280078
?  التسِجيلٌ » Dec 2012
? مشَارَ?اتْي » 2,304
?  نُقآطِيْ » نور محمد has a reputation beyond reputeنور محمد has a reputation beyond reputeنور محمد has a reputation beyond reputeنور محمد has a reputation beyond reputeنور محمد has a reputation beyond reputeنور محمد has a reputation beyond reputeنور محمد has a reputation beyond reputeنور محمد has a reputation beyond reputeنور محمد has a reputation beyond reputeنور محمد has a reputation beyond reputeنور محمد has a reputation beyond repute
افتراضي

بإنتظار الفصل التاسع

نور محمد غير متواجد حالياً  
التوقيع
[IMG]6Mv06764[/IMG]
رد مع اقتباس
قديم 02-08-22, 11:34 PM   #18

چورية

? العضوٌ??? » 505085
?  التسِجيلٌ » Jul 2022
? مشَارَ?اتْي » 40
?  نُقآطِيْ » چورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل التاسع
خطوط المتاهات الورقية لا نخشاها
ولا نخشى من السير فيها بشجاعة
فكل زواياها الظاهر منها وما بطن
تكون تحت أنظارنا بتجلي
أما متاهات الحب بكل درجاته القوية في تجريفها
نسير بين خطوطها نتلمس فيها الطريق كمن فقد البصر حديثًا
فنتمهل ونتروى، ونخطو بتقهقر وكأن شعلة النور في نهاية ظلام
ما هي إلا بركان على وشك الانفجار
والصوت الذي ينادي من بعيد وكأنه يأتي من الشق الآخر من الأرض
ما هو إلا دقات ناقوس خطر متناثر في الأركان
أو غارة تنبأ عن بداية حرب وشيكة ستحدث الصدع في دواخلنا
فمهلًا بفؤادي بين قبضتيك
فثقته في مرآتك عمياء ضريرة البصر!
༺༻
وقفت في مدخل الدار تلهث أنفاس هرولتها وهي ترى والدها بكل هيبته وقوته المحتفظ بهما رغم مرور السنين متحديًّا المرض المُهلِك بعد وفاة أخيها الأكبر، نظرتها له كانت تصرخ بكل تباهي تملكه "هذا الرجل العظيم أبي"، لولاه فلن يدخر الجميع جهد في كسرها وإذلالها انتظرت حتى ابتعد أحد أبناء عمومتها الذي كان يقف معه والدها فرأته يعدل من عباءته بلون الرمل القادح تحت حرارة الشمس، تلك العباءة التي يمتلك منها العديد بكل ألوان الأرض تقريبًا، إنه لا يتخلى عنها أبدًا، كان يرفعها على أكتافه في مظهر يزيده هيبه فوق هيبته، عادت نظراتها تصرخ من جديد "هذا أبي".
اقتربت منه بتهادي بينما حازم كان يدخل من الباب ورآها تتأبط ذراع أبيها وهي تهمس بدلال شبت عليه فكاد أن يفسدها:
-ما كل هذه الوسامة الرائعة التي تبهر أنظارنا بها يا حاج، ألا تترك لشباب العائلة ولو قدر قليل؟!
ضحك عمه يحتضن رأسها بيده يقربها له مقبلًا جبينها وهو يقول:
-لن تتغيري أبدًا يا تسبيح ولا يتغير هذا الغنج الذي تنالين به كل ما تريدين، ونحن نعرف ونتنازل صاغرين لهذا الدلال.
همست متذمرة وهي تضرب بقدميها أرضًا:
-أبي! أنا أقول الصدق! ولا أريد شيئًا.
-أصدقك.
قالها والدها على مضض، وبدأ يسير إلى الداخل فقالت:
-إلى أين؟!
قال والدها بصبر يكتم ضحكته:
-سأدخل لأرحب بعماتك وزوجات أعمامك اللائي أتين من السفر قبل الحناء بقليل، هل تحتاجين لشيء؟
-نعم.
صمتت وظل والدها على صمته منتظرًا استكمالها، بينما حازم يضحك على طريقة عمه في استفزازها، وبالفعل قد نجح فلم تسلم الأرض من ضربة قدمها مرة أخرى وهي تقول:
-أريد أن أسافر في رحلة مع دفعتي بعد امتحانات العام لأحد المدن الساحلية لإقامة حفل التخرج والمرح قليلًا في الأيام التي تسبق يوم الحفل!
-تقصدين مبيت؟!
أسرعت تبرر مقصدها:
-لكن ليس وحدي معي صديقتين في نفس الغرفة يا أبي، أي لا داعي للقلق والخوف.
-بالطبع لن توافق يا عمي أليس كذلك؟!
كان هذا سؤال حازم بنبرة صارمة قوية، ظل عمه ينظر له بغموض قليلًا لكنه قال في النهاية يؤيده:
-بلى، هذا مرفوض!
-لا يوجد قلق أو خوف، إنما منذ متى وفتياتنا تسافر وحدها، إن فعلتِ فيجب أن نرتدي أوشحتكن.
نبرته الصارمة في قسوتها جعلت نظرتها تتعلق بعينيه، ظلت نظرته المحتدة بظلامها الذي ضلت فيه الطريق إلى حنانه وغزله الذي يغدقها بهما منذ اعترافه بحبها، حولت نظرتها لأبيها وهمست بتخاذل:
-كنت أريد أن اتسلم درع التخرج معهم، وأن تحضر الحفل يا أبي.
ربط والدها على رأسها وقال:
-يمكنك السفر معنا يوم الحفل وتتسلمي درعك.
أومأت برأسها، وابتسمت باهتزاز وغمغمت بنبرة كسيرة:
-حسنًا، سأصعد لغرفتي، تصبحان على خير.
انسحبت بهدوء وعين حازم ترشق ظهرها بسهامها السوداء، ورغم أنها تشعر بنظرته إلا أنها سارت مرفوعة الرأس أبية.
بعدما صعدت إلى الطابق الذي يوجد بها غرفتها مع أمها مرّت على غرفة شوق ووالدتها، فرأتها من شق الباب وهي تقف في نافذة الغرفة تتحدث على الهاتف ويبدو أنها تستمع للطرف الآخر، أرادت استكمال طريقها لكن صوت شوق ارتفع قليلًا وهي تقول:
-سأخرج في صورة ساحرة، وسأخطف نظره... سأثبت لحازم أني لست صغيرة، بل أنا المرأة التي تستحقه.
رنين الأواني هي ما تسمعه الآن، ومطارق غير محبذة تحدث آلام في رأسها.
قديمًا عندما كانت صغيرة نسبيًّا وتسمع أن ابنة من أحد العائلات أوقعت بخطيب ابنة عمها، كانت تفكر أن هذا لن يحدث داخل عائلتها، فهم تربوا على الحب والترابط ولا يتدخل بينهم شجار به دواخل سوداء وخبيثة، تخشبها في مكانها هكذا اشعرها بالخوف من أن تستدير شوق، أصدرت أمر شديد اللهجة لعقلها حتى تتحرك لكن فجعت مما سمعته للتو وكأنها شُلت كل أجهزتها الحيوية، حاولت وجاهدت حتى تحرك قدميها واستمرت تتحرك بآلية حتى دخلت غرفتها ووقفت أمام المرآة، عقلها يتحدث في حديث نفسي مهلك على روحها "هل من كانت تتحدث فعلًا شوق الصغيرة! إنها لم تتجاوز عامها الخامس عشر حتى لتفكر هكذا! لكن لما تفكر في نيل حازم منها، إنها لأحد أبناء عمومتهم في الفرع البعيد قليلًا، إذًا ما الخلل؟ هل عندما أحبت حازم أحبته بفعل الغيرة التي كانت تمتاز بها شوق معظم الوقت تجاهها"
أوقفت حديث نفسها، بسؤال نفسي يصرخ بها "عندما أحبت حازم؟! هل أحبت حازم من الأساس؟!"
تخبطت أكثر وهي تحاول تفسير ما تمر به، هل أحبت حازم بالفعل أم أنه مجرد انجذاب بديهي للاهتمام التي تحتاجه أي أنثى، أم هو حنين لأيام طفولتها وهي تتمسح به وتشكو له أحزانها فيثور غضبه مفرغًا لمن أحزنها، أم أنها تحبه بالفعل وكانت غير مدركة لذلك كما يقولون، شعور التخبط التي أصبحت تحيا به جعلها تشعر بآلام رأسها تشتد فانسحبت نحو الخزانة تخرج إحدى منامتها وتبدل ملابسها وتولى إلى الفراش، وهي تشعر بإرهاق كل تخبطها وسهرها وأحزانها تتكالب عليها، أقفلت الأضواء وارخت جفونها على كل شيء، وتمنت حلم وردي ينسيها كل ما تعيشه هذه الأيام ولو لساعات قليلة.
༺༻
دخل للجناح وهو يسند شقيقته التي تشعر بتقلصات في المعدة بعد أن كان يلتقط لها العديد من الصور لا يعلم ماذا حدث لها فجاءة لتشعر بتقلصات بطنها تنهال عليها فجاءة غير متحملة الوجع، يحاول الهروب من جمل سمعها تتردد كثيرًا قبل أن يعلو صوت الزمر الذي ملء الجو صخبًا وبهجة، انتظر أخته على الاريكة في الصالة الخارجية بعد أن ادخلها الغرفة وجهز لها ملابسها البيتية المريحة وتركها لترتديها بدلًا من ملابس الحناء، جلس يحاول تفسير العبارات التي سمعها.
"لقد عاد حازم بشقيقته بعد أن هرب من الفضيحة التي ارتكبتها"
"لا أعلم يا أخي هذه العائلة تحمل من الدماء أبردها"
"نعم، حتى كبيرهم كنت أنتظر منه أن يقتلها أو يدفنها وهي على قيد الحياة"
كلها عبارات لا تقال إلا في موقف واحد واضح المعالم، ولو ترك لنفسه التفسير لفواجع ترسم نفسها بسوء ظن يتملك منه، كما أن تلك العبارات لم يسمع بها من قبل إلا من التلفاز في مسلسلات قديمة الطراز، لا يصدق أن مثل هذه القضايا والمشكلات ما زالت توجد على أرض الواقع، فالفتيات أصبحت أكثر نضجًا وتفتحًا وتفهم كل ألاعيب اشباه الرجال، ولا توجد فتاة لا تفهم دوافع أولئك الذين لا تحركهم غير رغباتهم، اندهش من مسار تفكيره الذي سيطر على صوت العقل الذي يصرخ به منافيًّا هذه الأفكار فالأمر ليس فقط الشك في من أرادها زوجة بتوثيق مزيل بإمضاء عقله وقلبه معًا، فالأمر هنا قذف محصنات أيضًا، كيف سولت له نفسه بمثل هذا التفكير؟... هل لمدى هول معان الجمل، أم لأن ما هيأته له إيمان نفسها هو ما جعل أفكاره تنحدر لهذا!
طرقة بسيطة على باب الجناح اخرجته من فقاعة التفكير التي حبسته داخلها، استقام ليفتح الباب ليجد الغفير الذي كان يقف على بوابة المنزل للحراسة مع زملاءه، جاء بطلبه لدواء معين يخفف من آلام شقيقته وآمن على حملها الحديث، أخذه منه ودخل يطرق باب غرفة شقيقته ونادى:
-ملاذ، هل أدخل؟
سمع همستها الضعيفة وهي تسمح له بالدخول فدلف ليراها استلقت على الفراش تحاول تحمل الألم، ناولها قرص الدواء وهو يجلس بجانبها هامسًا:
-خذي هذا سيسكن الألم قليلًا، وستكونين بخير.
نظرت له وهي تقول ممسده بطنها:
-وطفلي.
-لا تقلقي الدواء آمن.
تناولته بالفعل وظل بجانبها حتى غفت تنهد وهو يهمس:
-لم أعد أعرف التصرف الصحيح يا ملاذ، هل أبعدك عن أنس بكل حقارته التي لم تظهر إلا الآن، أم اسعى لأعيدك له... فبعدك عنه رغم معرفتك بزواجه لا زال يؤثر بالسلب على صحتك ومعدتك... حتى أن فرحتك بطفلك الذي ينمو بداخلك لم تؤثر على خوفك من خسرانه!
تنهد مرة أخرى وشعر بالاختناق فخرج لصالة الاستقبال ومنها إلى الشرفة، ورآها تجلس على حجرةٍ قصيرة أمام حوض مزروع بالنبات الأخضر تداعب أوراقه الصغيرة، جذبت بصره من أول وهلة حيث أنه عندما يخرج لهذا الهواء كان ينظر لهذا الحوض نظرًا لبهاء خضرته النضرة التي تُسر الناظر إليها، ظل ينظر إلى جلستها الشاردة قليلًا ثم ضرب بكل موازين العقل عرض الحائط، فلم يعد قادرًا على التحليل وحده فنسى وجوده في بلد صغيرة إن حدث فيها شيء لا يخفى عن أهلها ويظل تتناقله الألسن في تحريف حتى تصيبه البشاعة.
وصل عند جلستها الحزينة وسمعها ترتل لحن حزين تنعي به شباب فتاة سلبت منها كل مباهج الحياة، ظل يسمع شجى صوتها حتى سمع نهنه أنفاسها وسط غناءها، فتنحنح ينبها لوجوده لم تلتف على الفور بل رفعت كفيها تكفكف بهما دموعها، كما توقع لم تكن نهنهتها إلا لبكائها، مما جعله يقطب جبينه وسأل دون مراعاة لكونها تداري ضعفها:
-هل لي أن أعرف لما تبكين؟ ولما جئت هنا بالضبط؟ هل لأسمع ما سمعت؟
-ماذا سمعت؟
كانت قد استدارت إليه وتنظر له بقوة، كانت حمرة البكاء تسري بكثافة عبر الخيوط الدقيقة داخل حدقتيها، فهمس مسحورًا بلون العسل الذي قدح في توهج حمرتها:
-لما تبكين؟
-لم ابك، بعض التحسس ليس أكثر.
ابتسم باستهجان لكنه لم يعلق، وهي أعادت سؤالها:
-لم تخبرني بما سمعته!
القسوة في عيناه لم ترها من قبل، ولم تتوقعها فملامحه رغم قوتها ورزانتها إلا أنها تفيض بالحنان وشيء من الطفولة النقية حتى الثلج، ورغم ذلك شعرت بالخوف إيذاء نظرته المحتدة وهو يقول:
-جمل كلها لا تصب إلا في فكرة واحدة.
كتفت ذراعيها ورفعت رأسها بإباء، وكأنها تعلو وترتفع عما يقوله، وسألت:
-ألا وهي؟!
-لا أعتقد أنك ستحبين سماع ذلك.
-قل واترك لي الحكم.
فقد آخر ذرة في تعقله أمام استفزازها وهو يقول بغضب:
-كلها جمل تمس أخلاقك وأنك حطتِ من قدر الجميع، وهناك من يريد لك القتل، القتل وليس الموت وكأنها مسألة شرف.
-ولما وكأنها، لا تكن لطيف هكذا يا حضرة الطبيب، فأنا لدي فكرة عما سمعته جيدًا... وبعض اللطف يصيب بالقتل أحيانًا بسهام الشفقة.
غضبه يتفاقم وهي لا تراعي قدرته على التحمل التي بدأت بالنفاذ:
-أنا لا أشفق عليكِ، أنتِ أخطأت التفسير... أنا أريد أن أفهم ماذا يحدث، ولما طلبتي وجودي هنا؟
تراجعت خطوة للخلف بسبب هجومه، لكنها تماسكت وهمست:
-يمكننا أن نتحدث في المدينة فهنا لن ينفع الحديث.
-لن يسرني ما سأسمعه على ما يبدو، هل هم صادقين فيما قالوه!
عادت لبرودها وهي تسأل:
-ماذا تعتقد؟
ضحك سخرية:
-لن يسرك ما أعتقد بكل تأكيد.
يعلم أنه جرحها وظهر ذلك في عينيها التي ظهر الكسرة الحزن بهما، لكن ما لا يعلم معناه هو نظرتها خلفه ثم ارتفع كتفيها في كبر وارتفع أنفها بقوة واحتدت نظرتها ولم تنطق بحرف وهي تتخطاه ترفع عباءتها وكأنها تحتمي من دنس، كاد يبطش بها لكن عندما استدار ليلقيها بجملة قاسية رآها تتخطى شخص آخر وهي تزيد من خطوتها ثقة وكبريائها وعزة، فعلم أنها لم تفعل ذلك إلا لهذا الشخص، لكن لما؟! لما كل هذه التعقيدات التي تحدث، لما تشغل بالها بكل هذا... وكأنها ترد على ادعاءاتهم... لما لا تخطو بهدوء وصمت متجاهلة بإعلاء كل كلامهم... لم يحيا يومًا في حياته في صراعات كهذه ولا ينوي العيش مستقبلًا... فهل حقًا لن تكون الزوجة التي طالب بها فؤاده بكل ذرات كيانه.
كان لا يزال على وقفته الساهمة في سراب خطواتها، فلم يلحظ هذا الذي يقترب متفحصًا إياه، انتبه له عندما سأله:
-من أنت ولما كنت تقف مع ابنة عمي؟
اراد استفزازه بقوة فأجابه:
-هل تقصد إيمان شقيقة الضابط حازم؟
-هل تعرف حازم؟ لهجتك كلهجة أهل المدينة، ما هي صلتك بهم حتى يعرضوا عليك حضور زفاف عائلي؟!
اغتاظ من طريقته وشعر بالإحراج الشديد وكل هذا من تحت رأسها، لكنه قال:
-ما أعلمه عن أهل الجنوب أنهم لا يسألون زائر عن سبب زيارته، أما عن صلتي بهم يمكنك سؤالهم.
ثم استدار تاركًا له خلفه يتفاقم غيظه.
༺༻
وخفقات القلب إذا دوت تصم آذان العقل عن حقيقة محبوبه.
كما هو حاله معها، فقسوته معها ليلة أمس جعلته يرقد طوال الليل على جمر مشتعل وهو يسمع هسيس بكاءها، ثم اتصالها بابنة عمها وسمع همسة واحدة مفهومة كادت أن تفتك بدقاته الصاخبة في تلك المضخة المستعصية عليه هو أولًا، فهمستها لم يعرف هل يقيم الأفراح ذات الكهارب المضيئة، أم أن يحزن لطريقة نطقها فكانت تقولها بانهيار باكي:
-أنا... أحبه.
يعلم أنه المقصود وطرب الموسيقي التي عزف بها القلب على أوتار حبها والشوق إليها يضني على راحته، ورغم كل هذا تحامل على نفسه ولجم ذلك الاحساس المفترس داخله بأن يَفِذُ من مضجعه ليغدقها بكل معان الحب التي يعرفها والجاهل بها، لكن كرامته أبت الانصياع هذه المرّة إكرامًا لماء قلبه الذي لم تدخر جهدًا في تفتيت كل دقه وهمسه ونظرة، يلقيها بها ويلفها في دائرة محكومة العشق، لكن عندما شعر بها تستلقي وتأكد من عمق نومها بانتظام أنفاسها قام من مرقده يحمل مقعد صغير وقربه من الفراش من جهة وجهها، وظل يراقب تنفسها المنتظم وبقايا الكحل الذي لطخ حول عينيها قليلًا، رفع كفه يريد أن يمر اصبعه على وجنتها لكن فكر أنها قد لا تسمعه ولا تشعر بصوت تحركه في الغرفة لأنها تخلع سماعتها أثناء نومها، لكن يمكنها أن تشعر بإصبعه فقد تكون من ذوات رهف النوم المستشعرين بأقل حركة! فضم قبضته منهزمًا شاعرًا بالخيبة، وظل ينظر إليها طويلًا، حتى خرج منها تنهدًا كشهقة باكية نظرًا لبكائها قبل النوم، فسبب ذلك انفراجًا صغيرًا لشفتيها قادرًا على إغواء قديس! فأغمض عينيه يحاول كبت مشاعره، لكنه انهزم في معركة لجم ذاته فاقترب متمهلًا مسحورًا، حتى شعر بأنفاسها على وجهه فلم يفعل غير أنه مال يطبع قبلة فوق شفتيها في نعومة الفراشات ورغم ذلك كانت قادرة على ايقاظها محمومة من سباتها إن كانت ممن يرهفون الشعور بما حولهم أثناء النوم، ثقيلة في نومها كما ثقلها في فهم حبه ومشاعرها!
ظل يراقبها طوال الليل منتصرًا أخيرًا على لجة مشاعره القوية تجاهها والتي إذا ترك نفسه على سجيتها معها فلم تكن حتى الآن زوجته صوريًا فقط! لم يترك النظر لوجهها وكأن النظر له وحده عبادة حتى آذان الفجر فانسحب متوضئا يلبي الفريضة، وظل بعد الصلاة يدعي لها ولعلاقتهما وتيسير أمورهما معًا، فلم يعد في قلب حيز لتحمل خذلان جديد، خاصة إن كان خذلان منها هي! وعندما انتهى من صلاته ولى إلى فراشه الأرضي، يأخذ قسطًا من النوم فما ساعد في سهره هو قيلولته القليلة بعد وصوله أمس، فنام ملئ عينيه وجفون أرهقتها كثرة السهر!
༺༻
كانت طوال الليل يأتيها الكوابيس بالزمرة، فكانت بين طيات الأحلام ترى وأخرى بين الواقع تحاول التشبث به، فكانت وهي داخل الحلم تدرك جديدًا أنه ما هو إلا كابوس متجسدًا في إحدى صفحات الماضي.
واحدًا وهي جالسة في انتظار فاروق في إحدى الأماكن التي اعتاد على مقابلتها فيها، وعندما انتهت جلستهما كانت بمشاجرة وقد أهانها على الملأ، وذهب تاركًا لها تبك بقهر.
وآخر عندما عادت من المشفى بعد أن حجزت فيها لأيام عدة كانت تمر وضغط دمها في هبوط مستمر مع رفضها للطعام، فكانت تحيا على المصل المغذي، فعندما خطت داخل دار العائلة الكبير، قابلها عمها بأن صفعها بقسوة جعلتها ترتمي أسفل أقدام الواقفين بعد أن رفضت أن يسند قوامها الهذيل أحد، نافضة عنها الضعف والهوان ورغم انها رفضت الخروج من المشفى إلا بعد أن تسترد عافيتها، إلا أن جسدها ما زال ضعيفًا لا يتحمل قوة الصفعة.
وآخر يوم الزفاف، وأخيرًا لم يحدث لكنها تتمنى حدوثه وهو أن يخرج أمامها فاروق ذليل... كسير، يطلب عفوها فتمطره بعبارات أقسى من الحجر، وأشد حدة من الشفرة.
كل تلك الكوابيس جعلتها تفيق بمزاج عكر، وجسد يأن ألمًا وكأنها كانت تحيا داخل كوابيسها، نزلت للحديقة تجلس تحت شمس الشتاء الدفيئة علها تنشط من خمول عظام جسدها، حتى شعرت بأقدام غاضبة تنهب الأرض خلفها، نظرت من فوق كتفها لتجد ابن عمها غفران الذي وقف يتجسس على وقفتها وكارم ليلة أمس لتستدير تجلس كمن تفخر بنفسها، استدار غفران حول الأريكة التي تحتلها ووقف أمامها يسألها بغضب:
-من هذا الذي كنت تقفين معه؟ ما صلته بكم؟
اصطنعت الدهشة قليلًا مفكرة، ثم همست ببرود كمن تذكرت:
-آه، نعم الذي كنت تتلصص علينا أمس.
ارتبك قليلًا ثم قال:
-كان يجب أن أفعل، كانت وقفتكم مريبة تحت جناح الليل وكأنكم على موعد غرام!
هبت واقفة تصرخ:
-لا تتعدى حدودك معي يا غفران، حتى لا أقلل من قدرك.
-وهل لم تفعلِ يا ابنة عمي؟
قالت وهي ما زالت تتمسك بقوتها:
-لا لم أفعل بالطبع، إن كنت تحسب رفضي الزواج منك تقليل من شأنك... فاحذر يا ابن العم فأنت بذلك ستخسر الكبرياء والعزة المتوارثة داخلنا.
همس غفران بصوت حزين:
-لما يا إيمان؟ لما لا ترتضِ بي زوجًا، فأنا أسامحك على كل ما فعلت مسبقًا!
-لأنك سامحتني على شيء لم أفعل يا غفران، أفهمت الآن... أنا لا أترضي بك لأنك تصدق ما يقولون! أما أنا فلم أفعل.
-أنا أغفر لك حتى إن فعلت.
-أنا أريد زوجًا متيقن من براءتي.
-لا أحد يصدر أفعال يحفها الشك، ثم يطلب من الناس تصديقه!
تنهدت وقالت:
-لن تلتقي طرق سيرنا يا غفران.
ثم انسحبت تاركة له ينظر في حيز كانت تحتله، وفي طريقها استدارت تخبره:
-كما إني لا أكون زوجة أولى أو ثانية، أنا إيمان الباشا يا غفران... كرر اسمي كثيرًا حتى تدرك انك لا تناسبني ولا أنا اناسبك.
واستدارت مرّة أخرى في طريقها نحو الدار، في طريقها لدخول سمعت صوت فريد يناديها، فوقفت في انتظاره ترى الغضب يلون ملامحه، متشكلًا في خطواته، حتى وصل إليها واخبرها بغضب:
-لقد ترك الطبيب البلدة دون اعلام أحد، وعندما اتصل حازم به للاطمئنان أخبره أن شقيقته شعرت بتوعك ليلة أمس، واشتدت آلامها مع بزوغ الشمس فسافر بها، نرجو سعادتك على حساب كرامتنا يا إيمان وزيدي أنت في دهسها.
كان الغضب والازدراء واضح في حروفه ونبرته الهامسة، والتي رغم خفوتها كان يسمعها حازم ويرى كل ما يفعله فريد، ولأول مرّة لم يوقف فريد ولم يعلق بشيء، ثم انسحب نحو غرفهم الخاصة في الطابق الثاني وشيعته بنظرتها، وأدركت أنها لم تخسر مجرد زوج حقيقي يحميها من التعاسة ومآسي الحياة، بل خسرت مكانتها في قلب أخيها، بل خسرت أخيها... وقد تكون خسارتها للأبد... بئس البلاد بلدتهم... وبئس زيارة تلك!
༺༻
وفي الصباح عندما استيقظت وجثت بجانبه أرضًا تحاول ايقاظه لكنه كان ينقلب إلى الجانب الآخر يحجب وجهه وعينيه بأحد الوسائد، فابتسمت بحب وفكرت أن تتركه قليلًا يتنعم في نومه، لذلك وقفت تجهز ملابسها متجهة نحو حمام الغرفة لتنتعش بحمام دافئ جاهلة بما يختزنه لها القدر!
خرجت من الحمام لتجد مروان قد استيقظ من نومه، لكنه يبدو غاضبًا في جلسته على طرف الفراش وجهه شديد الصرامة رغم أنه يخفضه فاقتربت تسأله بهمس:
-ماذا حدث؟!
ارتفع وجهه الذي ارتسم عليه كل علامات الاجرام الوحشي وقال:
-كيف لك أنت تتركيني نائمًا أرضًا هكذا وتدخلين للحمام دون غلق باب الغرفة بالمزلاج.
ما حدث؟ ما حدث؟! لقد عرفت ما حدث! وهو أشد كوابيسها قسوة، حاولت اخراج صوتها أكثر من مرّة محاولة معرفة تفاصيلًا، لكن صوتها خذلها كخذلان لسانها، ابتلعت ريقها أكثر من مرًة، حتى خرج صوتها ذاهب الأنفاس:
-من... من عرف؟
-أمي يا غرام... أمي... ولم أجد من الكلمات ما أعبر به، لما لم تغلقين الباب... لما؟!
كان انتهاؤه بأداة الاستفهام كزمجرة غاضبة رغم خفوتها، لتنتفض خارجيًّا قبل الداخل، وهمست:
-لم أفكر بأن خالتي ستأتي في هذا التوقيت...
ثم جحظت عينيها بذعر وقامت بلطم خديها بأصابعها سأله برعب:
-هل ستسألني وتعنفني؟ يا ألهي ماذا سأفعل؟
نظر لها بغضب ثم استقام يزيحها عن طريقه ودخل إلى الحمام، وتركها تموت خوفًا وتوترًا.
༺༻
بعد أن تغلّبَ النوم على جفونها هازمًا إياها، بعد أن امتازت غيظًا وغضبًا بسبب حازم وحديثه عن سفرها وحدها، ثم الحزن الذي سكن قلبها على ما تفعله شوق بنفسها، ويمكن القول أنها خشيت فقدانه فهي ليست بارعة في مسألة إمالة قلب أحد، فستكون خسارتها عن جدارة بدون جهد إن حاولت المنافسة بهذا الصدد.
زاد غيظها وتفاقم فهبّت تنهب الغرفة ذهابًا وإيابًا تفكر في كيف تُفشِل خططها في استمالة قلب حازم، ومضت الفكرة في رأسها كومضة بقعة ضوء في ظلمة قاع المحيط، فنظرت لهاتفها كمن يترصد أحدهم وانتشلته بقوة تطلب رقم بعينه، ورفعته على أذنها تسمع الرنين بصبر نافذ، حتى جاء صوت الطرف الآخر:
-هل تأتين إلى بلدة "..." في الجنوب خلال ثلاث ساعات؟!
-هل جننتِ يا تسبيح؟ كيف سآتي في هذا الوقت القياسي إلا من خلال الطيران؟ هل سأجد طائرة الآن؟!
-حسنًا، سأغلق لتعرفِ هل ستجدين طائرة تأتين على متنها أم أتصرف.
ثم أغلقت الهاتف على صوت المتحدثة وهي تقول:
-تصرفِ إذ...
ظلت الدقائق التالية من بعد ذلك تمر ببطء، حتى ارتفع صوت رنين الهاتف فأسرعت ترد:
-اخبريني أنكِ وجدت تذكرة.
ظلت على الطرف الآخر صامتة، حتى صرخت تسبيح مجددًا:
-ستظلين على صمتك كثيرًا.
وسرعان ما أتها الرد يسري البهجة في جميع أوصالها، مما جعلها تصرخ مبتهجة وهي تلقي بالهاتف على الفراش وترقص صارخة:
-أجل... أجل... أجل.
ولم يوقفها غير ضرب اصبعها الصغير في طرف الفراش فتحول رقصها لنوع آخر كانتفاض حبات الذرة فوق النار، وهي تمسك بقدمها المصابة وتزفر محاولة تحمل الآلام.
༺༻
بعد خروج مروان من الغرفة بدقائق معدودة، سمعت صوت طرق الباب ثم انفتح دون انتظار إذن ودلفت منه زهيرة وهي تنظر إليها بغضب، فأغمضت عينيها وهي تقول محاولة الدفاع:
-سأخبرك بكل شيء، ولكن يجب أن تعلمي يا خالتي أننا... أقصد أنني أحاول تفعيل زواجنا.
إن ما لم تتوقعه هو ازدياد غضب زهيرة وليس العكس، بعدما اقتربت تمسك بأعلى ذراعيها وهي تنفضها وكأنها تقوم برّج زجاجة لمزج سوائلها، وهمست كمن هي على وشك قتلها:
-تفعيل ماذا؟! وأنا التي تحسبكما على خلاف!...
ازدادت سرعت تنفسها برعب بينما زهيرة تكمل افراغ غضبها:
-هل حقًا ما أسمعه؟ هل تحريمين ابني حقوقه منذ أربعة سنين زواج؟!!!!
ظلت تتنفس وتكتم بكائها بشقاء جندي في ساحة قتال، مما استفز غضب زهيرة أكثر فصرخت:
-انطقي!
انفجرت شهقاتها من هول ما اوقعت به نفسها، وانسابت خيوط بكاءها كسرعة غزل الفراش لحرير مسكنها، فقالت زهيرة بصرامة:
-كفِ عن البكاء، أنا لم أفعل شيء بعد.
حاولت كتم بكاءها فخرج كشهقات متقطعة وينفلت منها أحيانًا صوت كصوت فأرة تنوح خلف طعامها، مما اضطر زهيرة لقول:
-إن لم تصمتِ الآن فلا تلومي إلا نفسك عندما أخرج من هنا عازمة على زواجه من أخرى... وللمعرفة هي موجودة ورهن الاشارة للزواج منه حتى لو زوجة ثانية ومنافستك... فهي تراكِ خصم يستهان به أو غير موجود من الأساس.
ارتفع صوت بكائها أكثر وهي ترفع وجهها للسقف وتغمض عينيها وتفتح فمها على أقصى اتساعه! في حيلة صدأت من كثرة طيها عبر الزمان في ذاكرتها منذ الطفولة، فلم تتأثر زهيرة بها وهي تقول:
-حسنًا، هديل تستحق أن تكون زوجة ابني، على الأقل ستسعده.
واستدارت في طريقها للخروج، فصرخة غرام بجزع:
-لا يا خالتي أرجوك.
-ستكفين عن البكاء.
أومأت بسرعة موافقة وهي تقول شاهقة:
-انتظريني فقط بضع دقائق سأدخل للحمام وأستعيد رباط جأشي.
-إن تأخرتِ سأذهب أخطب هديل.
أرادت سؤالها من هديل، لكنها قالت بارتباك:
-لا، لن اتأخر.
وذهبت نحو باب الحمام، ثم وقفت على عتبته وهمست برجاء:
-لا تخرجي.
جحظت عين زهيرة قاصدة ارهابها، فدخلت متعثرة في طرف البساط.
بالفعل لم تستغرق الكثير وخرجت تجلس بجانب زهيرة التي عاجلتها بسؤالها:
-أريد موجز مفصلًا لطبيعية الحياة بينك وبين ابني من بداية زواجكما حتى اليوم، وكيف وافق بصورية زواجكما حتى الآن؟!
-هو لم يوافق، وأنا لم أطلب... كل ما حدث أننا اتفقنا على العيش في حياة هادئة كأخوة يسندون بعضهم في مواقف الحياة الصعبة، وأنا قلت له يا خالتي إنه إن أراد الزواج سأكون راضية، أقسم قلت له ذلك.
رفعت سبابتها أمام شفتيها بينما تطوي باقي أصابعها، وكان قسمها يملأه الأمانة والإخلاص مما جعل الحاجة زهيرة تربط على صدرها عدة ربطات في حسرة صامتة، لكنها لم تتحمل الصمت أكثر وهي تصرخ بخفوت وغضب مغتاظ:
-يا خائبة الرجاء، يا ذات الدماء الباردة... بل يا عديمة الدماء، آه يا ابني من أين وقعت على رأس هذه المنكوبة!.
همست ببكاء متذمر:
-خالتي!
-خالتي!... وهل جعلت بها خالتي؟! لقد أعميتها يا غرام... كسرت قلب صغيري يا مائعة الصوت!
-ماذا فعلت لأكسر قلبه؟ لقد أخبرتك للتو أني سمحت له بالزواج بأخرى، لكن من الصغير؟
-ولكِ عين للاستنكار يا جاحدة القلب؟
انزلت غرام عينيها بحزن تقدر ما تقصده زهيرة، فهمست:
-لا تقلقِ يا خالتي، كان هذا في بداية زواجنا، فلم يكن وقتها قد نشأت بيننا المشاعر بعد، كان كل منا هائم في اصلاح فراغ تركه عمران في قلوبنا، لكن صدقًا يا خالتي لم أقلها بعد، حتى إني عندما كان يغيب عن المنزل كنت أتخيله سيعود يخبرني بأنه التقى بعروس تسعده، بروح شبابها يشبه شباب انطلاقِه بدل من روحي التي قاربت على الشيخ والعجز.
لوت زُهيرة شفتيها ذات اليمن وذات اليسار في حركة شعبية أصيلة التراس واعقبتها بقولها:
-يا بائسة يا غبية يا كتلة من النباهة المحكمة في صندوق، يا من يأس الجميع في وصف مدى البله المصابة به! ماذا أقول... ماذا أقول في حظ ابني؟! روحك التي تشبيهيها بالعجز يهيم ابني بها ولهٍ وتيهٍ، لكن حظ قلبه أوقعه في بهيمة.
-خالتي!
-لا خالتي... ولا عمتي يا كبوة على حياة ابني البائس.
-لا تقولِ عنه بائس.
رسمت زهيرة فمها مفتوحًا ومضمومًا أيضًا، ولسانها يتخلله اعوجاج وقالت تهز كتفيها بتشنج وتضم السبابة والابهام في حركة متوارثة:
-لا تقولِ عنه بائس.
ثم اعتدلت في جلستها تعدد على أصابعها وتقسم بغلظ الأيمان:
-والله يا غرام إن لم تجتذبِ زوجك، وتحافظين عليه وتقدرين قيمته جيدًا، لأزوجه هديل تسعده بعد أن أضعك تحت ساقي كما نطعم الإوز في حلقه، ولكن لن اطعمك بل سأنتف شعرك وأسلخ جلدك!
ارتفعت يد غرام لوجهها وفوق حجابها تلقائيًّا بخوف، ثم سألت متذكرة:
-من هديل؟!
-ابنة عمه التي كانت له منذ الطفولة قبل أن يتزوجك.
همست غرام مبهوتة:
-هل هي موجودة هنا؟
-نعم، ماذا ستفعلين حيال ذلك؟
-من هي؟
نظرت لها ميسون تحاول سبر ما تفكر به، فقالت تشعلها أكثر:
-تلك التي صدمتك في كتفك وانت تحملين أكواب الشراب الأحمر قاصدة تلطيخ ثوبك، لكن نحمد الله أنك لست مائعة الجسد والبنية كصوتك، وتفاديت الأمر جعلت اغاظتها منك تزداد وتصل عنان السماء.
رأت زهيرة شعلة غيرتها تزداد توهجًا فعلمت أنها أحرزت هدف!
༺༻
بعد خروج زُهيرة، هبت واقفة تحاول اللحاق بكارثة قد تحط فوق رأسها مدمرة بقية حياتها التي على المحك إلى الأبد، وهي لن تتهاون في حماية زواجها وزوجها، الذي نمى حبه داخلها وبدأ يرعى ويداوم على الحفاظ على هذا الحب كسقا ماهر في سقياه للعشق حتى ارتوت، فهل ستسمح لأي هديل أو غيرها بالاقتراب، فقد أصبح ملكيتها الخاصة وما تملكه تدافع عنه بشراسة! إلا إذا كان هو يميل لحب أخرى بعد أن مل منها!... لا، لا يهم ستفعل كل شيء لتسترد حبها في قلبه، حتى وإن اضطرت لنهش وجه غريمتها بأظافرها أو انتشال قلبها حية وترى عذابها!
عندما نزلت للطابق الأرضي سألت إحدى المساعدات في المنزل عن وجود مروان، فأخبرتها أنه في ساحة تدريب الإطلاق الناري اندهشت من الاسم، لكنها فكرت أنها بالطبع ليست ساحة بالمعنى المتعارف عليه في وسعه، لذلك سألتها الطريق وأخبرتها... لتسير ترى الطريق تحاول تذكر الوصف، "هل هذا هو الممر الحجري الذي كانت تقصده؟!" كان سؤالها الداخلي تزامن مع وصولها لهذا الممر الذي بني بالحجارة بلون طحين الشوفان وتناثرت قطع الحجارة على جانبيه بشكل فني هندسي مذهل، خطت أول خطواتها في الممر وهي تتلفت حولها باندهاش كان الممر طويل... طويل ويبدو أنه إلى ما لا نهاية، وصلت لسور الساحة المنشودة فكان يبدو أن الطريق مسدود آخره، لكان صوت الضحكات العالية من جهة اليمن انبهتها عن وجود باب الساحة... عفوًا بوابتها، دخلت إليها فوجدت كل من تسبيح ومروان و... هديل، ترتيبًا فكان وقوفه بين اثنتين كان يصعب على عقلها تصديقه حتى وإن كانت إحداهن شقيقته، لكن ما أحدثته الحاجة زهيرة داخلها كمن أشعل عود ثقاب جانب كومة من القش الغارق في مادة مساعدة على الاشتعال، كانت تعرف أنها مقبلةُ على فعل حماقة ستندم عليها لباقي عمرها، فكان يجب عليها الاستدارة من حيث ما أتت، رفضت كل ما يمليه العقل واقتربت مدركة أنها من الممكن أن تنهش وجه هديل فعًلا وليس مجازًا، همست تقول:
-مرحبًا!
إن كانت تعلم أنه يحب كل أوشحتها بهذا اللون ودرجاته فلن تدركه هكذا بعد أن شبّ بينهما مثل هذا النقاش المحتد الذي ارتفع به غضبه حتى تغير الجو بذبذباته، فكان رؤيتها الآن بهذه الاطلالة الساحرة في حد ذاتها دواء لكل غضبه المشتعل! آه لو أدركت لمدى تأثره بها، وسطلتها على كل كيانه، تنهد وهو يرى تسبيح تهتف ببهجة وهي تقترب منها:
-مرحبًا، تعالِ يا غرام وأري هديل قدرتك فهي تعتقد أنك ضعيفة!
إن لم تقل لها حموتها ما قالته لما فهمت إلى ما تشير له تسبيح، لذلك أجابت بما يتناقض مع نبرة الكروان الرقيق في صوتها:
-لما؟! ألم ترَ قدرتي ليلة أمس...
كانت تنظر في عين تلك الهديل بقوة، ثم تصنعت اللامبالاة وقالت:
-على كلٍ لأريها جانب آخر من قدرتي!
ابتسمت تسبيح بشامتة وهي تنظر لأبنة عمها من تحت جفونها المسبلة، وهمست داخلها "يبدو أن أمي أشعلت فتيل الغيرة داخلك بقوة حقًا يا غرام، صدقتِ الوعد يا زهيرة"، وطال نظرها نحو الباب وهي ترى أمها متجسدة خلف الباب، دخلت غرام بثقة غير معهودة، ووقفت بجانب مروان من ناحية هديل، ثم تأبطت ذراعه فرفع حاجبيه بدهشة، لكنها لم تعر دهشته اهتمام فلديها هدف أسمى! وسعت إليه وهي تستدير نصف استدارة لهديل التي بهتت بأرض وهي تهمس:
-وإن كنت لا تطيقين الانتظار...
عادت بنظرها وكلها لمروان وتعلقت انظارهما هناك وهي تكمل:
-فأكثر من يعرف كل قدرة أملكها هو حبيب روحي وزوجي.
رغم أنه مدرك جيدًا لهذه اللعبة فيبدو أن والدته لم تدخر معلومة أنه وهديل كانا في حكم الخُطابين، ورغم أنه متحفظًا في اثارة غيرتها حتى لا يحدث خلل في علاقتها بالعائلة يكفي أنهم لا يتقبلوها لكونها سبب خروج عمران من العائلة بعد أن تزوجها عن حب تاركًا ابنة عمه خلفه! عاصيًا لكل تلك القيود، إلا أن شعوره بالفرحة العارمة لتلك النظرة الوحشية في انوثتها وهي تخبر هديل بنبرة وكأنها تخبر العالم أجمع ليس هديل فقط أنها زوجتها وأنه لها وحدها وهو أكثر من راضي بهذا التصريح، لكنه يخشى السعادة فمجرد أن يطالب بها زوجة شرعًا أمام الله حتى تبتعد عشرات الخطوات، لكنه ابتسم لعينيها وهي تهمس له فقط:
-كما يعرف كل ضعفي.
أما السيدة زهيرة اكتفت كفاية من السماع، وهي تعود أدراجها نحو المنزل هامسة:
-والله أنك لست قليلة يا غرام، حفيدة ميسون حقًا.
وفي طريقها للخروج من الممر قابلت في طريقها حازم والذي سأل بسخرية:
-أي متعوس كنت تراقبين تصرفه، لكن لحظة...
صمت ينظر لتعابيرها وأكمل:
-لكن يبدو أنه لم يضحْ متعوس، فيبدو فخرك به ظاهرًا للعيان!
ابتسمت زهيرة وقالت تشاكسه:
-اطمئن على ابني وزوجته، والعقبة عندما أطمئن على ابنتي وزوجها!
-أي ابنة، وأي زوج؟
ظهر الشر في صوته كما ملامحه لكنها اشاحت برأسها وكفها وهي تغمغم تاركة له:
-تسبيح وزوجها هو نصيبها.
لاحقها صوته وهو يخبرها:
-فلتفكروا فقط أيتها العمة في تزويجها من غيري، لأهدم البلد بمن عليها!
وقفت تضحك واستدارت تخبره:
-تكون خير ما فعلت يا ولدي!
ابتسم بعد استدارتها لأنه مدركًا أن زهيرة أكثر شوقًا منه لزواجه من ابنتها! ثم دخل للساحة مستعدًا لإلقاء الطلقات في مسابقة محترفه بينه وبين مروان بعد اتفاقهم على إحياء الأمجاد القديمة، دخل غافلًا عن حرب تحدي دائرة في الأجواء لأنه ببساطة ركز نظرته على مالكة الفؤاد الساهمة في البعيد، لكنها عات من شرودها على صوت دخول إحدى المساعدات في داراهم وهي تخبرها وهي تقول:
-سيدة تسبيح، سيدة تسبيح.
رفعت تسبيح عينيها وتقول:
ماذا يا مهجة؟
قالت مهجة:
-هناك سيدة تسأل عنك؟!
-هل وصلت بهذه السرعة؟!
ثم نظرت لساعة يديها وصرخت:
-لقد تأخرت أيضًا! سأذهب أنا الآن.
وخرجت مع مهجة نحو الدار تحلق بسعادة!
فما سرها يا ترى، ولم تنتبه لوجوده أيضًا!
༺༻
رسالة طويلة تلقتها منذ أيام قليلة لكنها حفظتها لوقت يكون فيه عقلها متيقظ وفي حالة جيدة كالآن تمامًا بعد استيقاظها من النوم في يوم العطلة، كانت في بداية الرسالة تشعر بالملل وتريد حذفها ثم اتسعت عينيها بسخرية وانقلبت السخرية لدهشة مبهوتة وانتهت بدموع القهر، وكان نص الرسالة من القسوة بأن عادته ثانية ربما اخطأت التفسير!
"مرحبًا يا رهف الغالية، أما بعد،
يمكنك حذف الرسالة ولكن أرجو منكِ استكمال قراءتها للنهاية علكِ تلمسين الصدق بين حروفي، ابنتي أنا لم ابتعد عنكِ بإرادتي كما كل قرار في حياتي بعد أن اقترن اسمي بأبيكِ، لم يكن ذلك بسببه أكيد كان كل شيء سيء حدث وما زال يحدث سببه ميسون جدتكِ، جدتكِ لم ترني يومًا إلا غاوية أوقعت في حبائلها زوجًا "بلْه" لكن ليشهد على كلامي هذا، أبوك كان شديد الذكاء ويعرف عن يقين في معادن الناس كافة، فلم يخبرني عن شخص يومًا إلا وقد صدق كلامه، ولم يكن يومًا "بلْه"... لكن جدتك يا ابنتي لم ترَ نفسها يومًا مخطئة، بل كان كل من يعارض فكرها وكلامها يكون إما بليهًا أو معتوهًا، لذلك عندما عارض أبوك كلمتها لأول مرًة وأصر على الزواج مني بعد قصة حب هو من أوقعني بها خلال أيام دراستنا في الجامعة، ولمّا حان الوقت ليتقدم لي وعَرِفَت جدتكِ بأني منقطعة النسب لم يشفع لي عندها إني قد تربيت بين أسرة لعبت دورًا كبيرًا في حياتي، حيث أبي وأمي اللذان أخذوا رعايتي وتربيتي على عاتقهم ، حتى انهيت تعليمي كاملًا كما أبنائهم الشرعيين، وبعد أن تم زواجي بأبيكِ لم أسلم منها لكن والدك كان يحميني بوجوده وعندما يخرج كنت أنال نصيبي من التقريع على كل شيء وأي شيء مهما بلغ صغره! وعندما توفى الله والدك زاد كل هجومها شراسة، فتزوجت أول من تقدم لي وكنت أعمل في شركة كمديرة تنظيمية بين الشركة والمصانع والاتفاقيات، فكان قد سبق وأعجب بشخصي العملي وثنى على ما أنجزه من مهام وطلبيات، يشهد الله أنه لم يلمح لي في حياة والدك انه كان يحمل لي مشاعر خاصة، لكن عندما سألت نفى ذلك وظلت علاقتنا متوترة بعد أن سألته في ذلك، لأنه اعتبر السؤال في حد ذاته اهانة، حاولت بعد مدة من الزواج ضمك لحضني كما اتفقت مع جدتكِ، لكنها رفضت ونخست وعدها وهي تخبرني أن حضانتي لكِ بطلت يوم زواجي، لم أجد في الرجل ما يجعلني أطلب الطلاق حتى اضمن حضانتك، بل ساعدني بكل نفوذه وفلوسه حتى استعيدك لكننا فشلنا أمام تجبر جدتك، فقد أوصت كل أصدقاء جدك في الشرطة كي يعرقلوا تجارته وحياته كاملة حتى نتنازل عن القضية التي رفعتها، والله يا ابنتي لم يخبرني لأعلم من الغرباء، وقتها تنازلت عن حضانتك لأن زوجي لم يستحق ما فعلته جدتك!، لقد أخبرت غرام بذلك ووعدتني أنها ستحل الأمر بعد أن تأكدت من الحقيقة الكاملة، لكن سفرها المفاجئ جعلني أتخذ هذه الخطوة، لأني لم أعد على ثقة بأي شخص، لذلك كوني رحيمة بقلب أمك العطش لأن يحتضنك"
ما هذا الشعور بالقهر والحزن العميق والسخرية من كذبة حياتها، لقد كانت تفتح الرسالة على أنها طلب مساعدة من أم لطفلها، فأقبلت تفتحها بكل سعادة تملكها لكل مساعدة تستطيع تقديمها، لكنها لم تكن تعلم انها عندما تفتحها ستكون هي من بحاجة للمساعدة هكذا!
انهيار... انهيار تام ويأس بعدم انتهاء آلامها، وشعور بالعجز في البدء من جديد هذا ما تشعره تمامًا، هي من برعت في خلق بداية جديدة للكثير من البشر بمختلف أعمارهم بعد أن لقوا حتفهم وما يزالون يتنفسون ويرزقون، هي من لونت النهاية السوداء وجعلتها حياة تدب بها الصخب والضجيج من جديد غير قادرة على فعل ذلك مع نفسها ليس لعدم كفاءة أو أنها لا تريد... لكن وكأن الحياة ومن عليها يستنكروا عليها العيش سعيدة أو مجرد متأقلمة مع آلمها.
أغمضت عينيها مقررة الاتصال بغرام لتفهم وتتأكد مما يحدث! ارتفع الرنين حتى فتح الخط من الجهة الأخرى ووصلها الصوت المشاكس:
-أتعلمين يا رهف، لقد أقدمت على خطوة تجاه مروان، ويبدو أنني لست بحاجة لتدخل أي إنسان.
لم تهتم لما تقول بل سألت بعنف:
-هل كنتِ تعلمين حقًا؟!
-ماذا؟
-هل كنتِ تعلمين؟!
رغم أنها شبه متيقنة مما تقصد، لكنها سألت تقطع شكها بيقين الواقع:
-أعلم ماذا بالضبط؟
-أن ميسون هي سبب ابعاد أمي عني.
صمتت في معنى واضح وقد تم وصوله لرهف بما لا فيه شك، فصرخت رهف صرخة وحشية لحيوان يتعرض للذبح بشفرة ثلمه:
-أنسي وجودي يا ابنة عمي، أنسي وجودي كما سأنساكِ، فأنا لم يعد بي طاقة لاحتمل خذلان جديد.
واغلقت الخط على شهقت ابنة عمها!
༺༻
وقفت غرام تنظر للهاتف المغلق في يدها بقهر، وسمعت صوت ضحكت هديل الصاخبة فاستدارت تنظر خلفها لتجد مروان ينظر لها ضاحكًا وهي تقف مائلة محاولة اجتذاب انظاره لها بعيدًا عن زوجته!
وعند النظر إلى صورتها تقف تعتصر الهاتف في يديها، ودموع قهرها تجري مدرارًا، فكانت اللوحة أشد أنواع البؤس والقهر والجروح الغائرة وقد فسد سيل دمائها واحتنقت بخطوطها البشعة.
شعر مروان بغيابها عن الظهور وهديل بهذا القرب والانفتاح معه، بحث عنها بعينيه حتى وجدها على حالها ذاك، فأمال وجهه في استفهام، فخرجت من الساحة بعنفوان وهي ترفع رأسها بكرامة، وكأنه أهدر دماء تلك الأخيرة!
وما انسحابها إلا شعور فادح بالخسارة، غادرت في عاصفة؟ نعم... لكن لا تضاهي ما تشعره وهي خاسرة لابنة عمها داعمتها وقوتها التي تنبع من الداخل!
وقفت تلتقط أنفاسها بغضب فأمسكت بالهاتف تضرب شاشته ورفعته على أذنها، وعند لحظة فتح الخط صرخت في نجوى:
-هل أنت مرتاحة الآن؟ هل ارتحتِ عندما شبيتِ بيننا العداوة يا نجوى؟ لقد كنت ناوية مساعدتك صدقًا! هل تظنين أنك قادرة على الاقتراب منها بدوني، أحب أن اخبرك أن طريقك الوحيد نحو رهف أنت من ضللتِه!
ثم أغلقت الهاتف وهي تنفجر في البكاء بعويل عال، في هذه الأثناء كان قد وصل إليها مروان وقد قطع المسافة الفاصلة بينها في خطوات واسعة عندما رأى انهيارها، احتضن وجهها بين كفيه وهو يسألها وعيناه تدور على صفحة وجهها بقلق علّه يعرف جواب سؤال لم يسأله بعد:
-ماذا حدث؟ ماذا حدث؟ لما كل هذا؟
-إنّ رهف منهارة الآن وأنا السبب، أنا سبب أوجاعها الآن بعد أن كانت كل دعمي! أشعر أني بشعة واستحق الموت، أنا لا استطيع الحفاظ على ما أحبهم...
صمتت تشهق بقوة عدة شهقات متتالية وكأن الغصات التي تحاول بلعها تأبى ذلك، وهو ظل يتألم معها شاعرًا بروحه تسلب ببطء فهمس:
-هلا تماسكتِ حتى نصعد غرفتنا؟
أومأت وهي ما زالت تشهق، فصعب الحال على قلبه الذي انفطر على ما آل إليه حالها فقام بضمها، فتشبثت بقميصه تبكي وتغرق قميصه، همس مجددًا في أذنها:
-ابكِ القدر التي تشائين، لكن لا تجعليني أتألم هكذا بانهيارك الوشيك.
تشبثت بقميصه أكثر وزادت من دفن رأسها بين ضلوعه، فشدد من ضمها إليه علّه يحمل هو أوجاعها عنها، لكن يتوجع بالفعل وليس بيده أن يوقف آلامها.
توقفت عن البكاء وظلت شهقاتها الخفيضة، تفلت من بين شفتيها، فقال يعد جملته:
-أريد أن نصعد لغرفتنا لكن لن ينفع وأنت بهذا الحال.
فابتعدت ببطء تكفكف دموعها وهي تومئ ووجهها أضحى ينضج بحمرة التفاح، عندما تأكد من سلامة منظرها أمسك كفها وهو يسير بها نحو الدار، ثم إلى السلم وانتهى بهم الحال في غرفتهم، جلس على طرف الفراش وأجلسها بجانبه يسألها:
-هل لي أن أعرف ما أوصلكِ لهذه الحالة؟
دمعت عينيها وهي تومئ هامسة:
-لقد خسرت رهف، وكسرت ثقتها بي.
-أوضحي يا غرام فلم يعد بي أعصاب لتحليل ألغاز.
نظرت له وهمست:
-هل ستتفهمني؟!
ابتسم بحنان وملّس على وجهها بحركة عفوية يقوم بها مع تسبيح وعندما فعل سحب يده بسرعة حتى لا تصده ويصيبه الغضب ويحوّل بكاءها لانهيار حقيقي، وفهمت هي ذلك دون أن يشرح وشعرت بالأسف، ولكنها لن تتراجع في كسب زوجها، فهمست بوجنتين مخضبتين:
-هلا ضممتني، كما كنت تفعل بالأسفل أحتاج لذلك رجاءً.
هل ترجوه فعلًا ليضمها!!! نعم كان يفعل ذلك وكانت تبادله الحضن بتشبث جعل عشقه في لحظة يسير في أوردته، لم تكن غافلة عن تصلبه دهشة من طلبها، لذلك كانت هي البادئة بأن اقتربت منه ورمت بثقل رأسها على صدره وكفها ترتاح مفردة في نفس المكان الرحب في استقبالها، لم يستغرق الأمر منه لحظتين ليرفع ذراعاه ليحاوطها.
وبدأت هي تسرد ما حدث وتسبب بانهيارها هذا، وانتهت بقولها:
-والله كنت سأعود وأخبرها، لكن نجوى لم تصبر، كانت حركتها خبيثة للغاية في إحداث الوقيعة بيننا.
تكلم أخيرًا منذ أن بدأت روايتها، وقال:
-ولما لا تقولي أنكِ تأخرتِ عليها ورأت أنها تتحرك هي؟ وهذا بالتأكيد ما حدث، فمن أين لها أن تعرف أنكِ لم تتكلمي مع رهف.
-كان اتفاقنا على أن اخبرها بردة فعل رهف عندما اعلمها بما حدث.
فقال مجددًا مصرًا على رأيه:
-لقد تأخرتِ بالفعل عليها يا غرام ولم تخبريها بسفرك بالتأكيد، فلم تستطع صبرًا أكثر من ذلك.
-لا أعلم.
وظلت هكذا بين ذراعيه تتنعم بالحنان الذي يشع منه دون جهد، ثم طلبت:
-هلا استلقينا قليلًا.
أومأ واقفًا وقال:
-حسنًا عودي أنت للخلف، وأنا سأجلس على الاريكة هنا بجانبك.
-لما لا تستلق بجانبي؟
دهشته خشبت قدميه متيبسةً أرضًا، فعادت للخلف بعد أن خلعت حذائها ومدت له يديها، فسلمها يده منضمًا لها وعادت لوضعيتها السابقة مع اختلاف استلقائهما، وظل هكذا حتى شعر بانتظام أنفاسها، ولا يعرف كيف يصمت تلك المضخة في يساره تحت وجنتها!
༺༻
في حفل الزفاف، داخل قاعة رقيقة صغيرة نسبيًّا بسبب حضور بعض من فروع العائلة البعيدة حضر حفل الحناء وغادر، فأهم مظاهر الاحتفال هنا ليلة الحناء وليس ليلة الزفاف كما المدينة، سيكون حفلًا رقيقًا غير مميزًا بشيء في خلال ساعة سيكون أتلتقط الصور لكل أفراد العائلة مع العروسين، أما عن التميز في الحفلات هنا يكون في عقد القران وحفل الحناء المنقسم، قديمًا كان مظاهر الاحتفال تظل أيامٍ وليالٍ أما حديثًا اقتصرت على ليلتين واحدة لدى العروس وأخرى لدى العريس، ولم يقم بذلك التراث القديم غير عمه في زفاف إيمان الغير مكتمل... زفر بغضب أفكاره التي لا تخوى إلا هي، يحاول الاطمئنان عليها من فريد يخشى انهيارها، رغمًا عنه يشعر بالذنب تجاهها فهو كان شبه متيقن بأن فاروق لم يَكِنَ لشقيقته غير البغض، ولم يحبها قط، لكن ثقتها به هي من كانت تلجم من شعوره هذا، لذلك يحمل ذنب كل ما تعرضت له إيمان ويعيش به راضيًا!
التفت يزفر علّ تخرج كل ذكرياته مع زفرته، ومع التفاته رأى جنية ساحرة بفستان أسود يضوي بقطع من كرستال شديدة اللمعان، بوشاح أحمر دافئ يلتف حول وجهها... وجهها الذي لم يعد بملامحه، فقد غططت كثرة الأصباغ، فبدت كامرأة ناضجة شديدة الإغواء والبهاء، دون أن يكلفها ذلك شيء! يكفي أن تنظر تلك التي يملأها التباهي، يريد الصارخ بها بأن "كفى تغاويًا بحالها، فكم قلب سرقت، وكم مشاعر حرقت... كما حاله!"
༺༻
وعلى الصعيد الآخر وقف فريد ناظرًا لهذا المشهد بهزل وسخرية ويقول ضاحكًا بصوت مسموع:
-حان وقت الاستماع بدق عنقك يا تسبيح.
لكن لم يحسب حساب تلك التي دخلت القاعة خلف ابنة عمه وبجانبها على ما يبدو زوجة أخيها، وخلفها أخيها متجهم الوجه!
༺༻
انتهى الفصل التاسع.
قراءة سعيدة.
دمتم بود.


چورية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-08-22, 01:57 PM   #19

رودينا رونى

? العضوٌ??? » 497934
?  التسِجيلٌ » Jan 2022
? مشَارَ?اتْي » 61
?  نُقآطِيْ » رودينا رونى is on a distinguished road
افتراضي

لية الفصل مزلش بقاله كتير

رودينا رونى غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 22-08-22, 02:06 AM   #20

چورية

? العضوٌ??? » 505085
?  التسِجيلٌ » Jul 2022
? مشَارَ?اتْي » 40
?  نُقآطِيْ » چورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل العاشر

عصفت رياح العشق بنسمات الربيع في نعومته
نعومة تنافس لمس زهوره المتفتحة حديثًا
وهي!
هي كانت امرأة الربيع بكل ألوانه وبهجته
أيا امرأتًا غوت الفؤاد بحسنها
فوقع صريع صبابة العشق بين يديكِ منهزمًا
كيف ارتضيتِ من الحب غير قلبي عاشقًا؟!
تغنيتِ ودورتِ به راقصةٍ، أتحسبينه حكاية؟!
كست الحسن والشاطر؟!
فكنتِ مرادفًا للحسن ذاته
لكنه كان شاطرًا لطريق الحب الواصل بين قلبكْ وفؤادي
فؤادي الذي يحيا متيمًا بسطوِ تغنجك
وعند التلاقي أجبتِ قاتلة لنبضي الوله في فلكِ دُجاكِ
أحرام على قلبي النبض في حضرة العشق؟
أم كان نصيبي من الحب خطيئة الوقوع في دوامة الغدرِ؟
غدرٌ أصاب قلبي وروحي... وكلي!
فتهالكتُ بأرضي ولم أعرف كيف أصبو من جديد
أي عذابًا ارتضيتُه في حق كرامةٍ حسبتها مصانة؟
فلم يسلك قلبي طريقًا ممهدًا نحو حبٍ صافٍ!
بل كان مُغمّسًا في شوائبه العطنة، وتجرعته راضية بالذل حتى الرمق الأخير
والطريق... كان أشبه بشفرة حادة أسير فوقها
لأصيب بجرحٍ غائرٍ، حتى تمزقتُ
فلم أعد صالحةً للوقوعِ في هواك مجددًا
ولا لغيركَ سبيل في احياء الهيام مشعلًا الفؤاد توهجًا
فلا تكن مجحفًا في حقي هكذا
فمن تلكْ التي لا تميل لنفحةِ حبٍ بعد سنين عجاف!
فقد تخبطتُ... وكم تخبطتُ في دروبٍ حالكةً ولمّا رسوت في النهاية
رسوت على ضفة الحب، وإن كانت متشربةً بالزيف ما يهلك الروح!
فلا أهلًا بكَ على الفؤادِ ضيفًا
ولا مرحبٌ بهواك وإن بلغ من الصدق الإيمان!
فأنا الآن الكافرة بكل صفاء مشاعرك.
༺༻
منذ مجيئهما من البلدة في الصباح الباكر وشقيقته في المشفى تتلقى أنواع العلاجات والمصل ذو الفيتامينات المعقدة، هذه هي ملاذ منذ ميلادها ونفسيتها تؤثر على بدنها، هذه المرة اشتدّ ألم معدتها عليها، الآن هي نائمة لكن بنظرته لها الآن وكل ملامحها تنطق ألمًا قاسيًا، لم يخبر والده حتى الآن بوصولهما وأخبره في آخر مكالمة أنه لن يتصل بهما مجددًا اليوم لأنهم في الزفاف ولن يسمعوا هواتفهم، ويحمد الله أن والدهما لم ينتبه لنبرته المشتتة، يريد مشورة أحد فلم يعد يعرف كيف التصرف كان يود عقاب أنس شر عقاب بحرمانه منها ومن طفله، لكن حالة ملاذ كل دقيقة تسوء زيادة.
انفتح باب الغرفة على مصرعيه فجاءة وأعقبه دخول همجي من أنس وهو بحالة وحشية شعره أشعث ولحيته غير مهندمة، اقترب من الفراش التي ترقد به ملاذ ومال عليها نحو وجهها وحاوطه بين كفيه وركن جبهته لجبهتها يتنفس بصعوبة لكنه ضاحكًا كمشرد ذهب عقله، وهمس مبتهجًا وكأنها تسمعه:
-ملاذ! مهما افترقت دروبنا سيجمعنا ابننا، بل هو جمعنا حقًا!
كان يهذي كمجنون مبتهجًا بتيه، ظل يلتقط أنفاسه هناك على صفحة وجهها الشاحبة، وهو يردد بكلمات غير مترابطة:
-ابننا يا ملاذي، ابننا كم للكملة طعم حقيقي في مذاق الحلوى لم أصدق الطبيبة عندما اخبرتني ظننا منها اني على علم، كم بدوت أخرق وأنا استجوبها حتى أصل لحقيقة أنه أنتِ، وأنا أتشبث بأمل أن أسمكِ غير متداول، كم بدوت غير واثقًا بكلام الطبيبة لأني كنت متخيلًا بتعنت أنكِ ستخبريني فرحة، سعيدة ..
استفاق كارم من دهشته أخيرًا، واقترب منه يبعده عنها وهو يصرخ:
-لما أتيت إلى هنا؟ لسنا بحاجة لك وللدقة ملاذ ليست بحاجة لك.
التفت له أنس بعيون حمراء وهمس بفحيح مرعب:
-ملاذ زوجتي، وبحملها لن يستطيع أحد ابعادي عنها حتى هي.
ثم صرخ بتجبر:
-أنت من أجبرتها ألا تخبرني، ملاذ لا تفعل بي هذا وحدها!
-كم كنت بلهاء وأنا أعطيك كل هذا الحق فِي! كم أصبحت مضمونة في قبضة يداك؟!
كانت نبرتها في غاية الوهن وهي تتحدث مما جعل الاثنان يلتفتان اليها، وأول من وصل لها كان أنس وهو يخبرها ممسكًا بكفها:
-ليتكِ هكذا يا ملاذ، أنتِ لا تعرفين ما أعيشه بدونك.
ظلت تنظر له قليلًا، ثم حولت نظرها نحو شقيقها في الخلف وهو بادلها النظر لا يعرف ماذا يفعل حقًا، يشعر بتشوش يلفه ويأثر على تفكيره.
قال أنس بقوة وكأن ما سيقوله غير قابل للنقاش:
-ستخرجين من هنا على بيتنا ولا لأي مكان آخر.
نظرت له بقوة وقالت بقوة موازية:
-لن أقبل بغير الطلاق.
صرخ بها:
-لن اطلقك يا ملاذ، لم أفعلها مسبقًا ولن أفعلها الآن وأنتِ تحملين ابننا.
-ستفعلها يا أنس عندما تيأس ستفعلها.
كان ينوي الحديث مجددًا، لكن كارم وقف بجسده بينهما يحجبها عنه ويخبره وهو يرفع حاجبيه:
-يكفي...
لم يتزحزح أنس فدفعه كارم بقوة في كتفه صارخًا:
-قلت يكفي دعها، يكفيها ما تمر به، ألا يكفيك ما فعته بها حتى الآن، أخرج.
صرخ أنس بوحشية:
-لن أخرج وأتركها، لن أترك زوجتيييي.
انفتح الباب مجددًا، ودخل أحد الأطباء وهو يقول بغضب:
-نحن في مشفى، ما هذا يا دكتور كارم هل أنا من سأخبرك بالقواعد.
فقال كارم منزعجًا:
-اطلب الأمن يا دكتور ليجبروه على الخروج من المشفى كلها، لا يريد الخروج ووجوده يزعج شقيقتي المريضة.
صرخ أنس بوحشية وقسوة:
-فليفعلها أحد وأنا أهدها فوق رؤوسكم جميعًا!
اقترب كارم منه فاقدًا كل تعقله وصوابه، وأمسك بمقدمة قميصه وصرخ به:
-تهدم ماذا فوق رؤوس من؟؟؟
نظر له أنس صامتًا وصمت كارم تبعية، وظلا يتناطحان بعيونهم، إلى أن سمعوا صوت نهنهت بكاء ملاذ وكان كارم الاقرب فوصل لها فتشبثت بصدره وقالت من بين شهقاتها:
-أريد أبي يا كارم، أريد الخروج من هنا والمكوث في حضنه بقيّت عمري، وكم أخطأت عندما ارضيت غيره حبيبًا... رجاءً أخرجني.
ابتسم كارم بحنان رغم أنه يعلم تلك الحيلة بتلك النبرة، هذه حيلتها دائمًا في الضغط على أنس في أي أمر تحتاجه، لكن ما يعكر ابتسامته المشاكسة أن هذه المرة الضغط حقيقي والتجاءها لهذه الحيلة بهذا التوقيت يخبره شيء واحد فقط، أن ملاذ وقلبها في يدا أنس، والذي بدوره استدار يخرج من الغرفة بعد سماع جملتها، فخرج وراءه الطبيب وأغلق الباب فنظر كارم للباب المغلق، هامسًا داخله "وأيقنت أنكما قلبًا بجسدين متفقين".
وظل شاردًا في الباب الموصد وهو يفكر
"وهل لي أن أحظى بهذا الحب بينكما؟"
وعند هذه الخاطرة ارتسم وجهها بجماله الصبوح في خياله، كم يتمنى أن يصبح هو وإيمان زوجين يفهمون بعضهما ومرتبطين ببعضهما كما شقيقته وأنس.
أما أنس عندما خرج من الغرفة كان غريب الملامح كرجل احتل العجز والكبر ملامحه، وكل بهجته التي دخل بها لهذه الغرفة تسربت منه خفية بجملتها التي ذبحته من الوريد للوريد، لم تكن أول مرة يسمعها منها، لكن أن يسمعها الآن بهذا الانكسار والضعف فلقما صداهما في فؤاده الذي نبضه بقهر وذل في حضرة ضعفها، وكأنه هو من سلبت كرامته، لو تعلم كيف يحيا أيامه بعيدًا عنها في قهر، والله وحده من يعلم قهر الرجال، لا يعلم كيف يتصرف هو يسير في دائرة محكمة يحاول الخلاص منها بكل الطرق لكن وكأنما الخلاص ليس نهاية الطريق، الظلمة تحاوط روحه ولا فكاك منها إلا بها... بملاذ، فكانت دائمًا مفتاح انارته في كل نفق مظلم، وكانت شعلة النور المنتشرة في نهاية المطاف، لكن ببعدها عنه ورفضها قربه وحبه، الذي ان تخطى فؤاده خارجًا عن حدود صدره لأهلك العشاق كافة، فأيا امرأتًا غزت قلبي وروحي منذ أن تعرف قلبي طريق الحب، فوقوعه صريع هواكِ لم يكن سهلًا أو يسير.
༺༻
كان الهزل في عينيه مرسومًا رغم أنه استعد بكل حواسه ليقترب إن فقد حازم أعصابه وفلت منه زمام الأمور، خاصة وأن تسبيح لم تكتف بزينة وجه صارخة فقط، بل كانت كل خطواتها تقطر دلالًا وتفاخرًا وشيء آخر خجل من وصف ابنة عمه به، لكن كل استعداداته ذهبت في رياح خماسية ضربت بكل اتزانه وهو يرى معذبة فؤاده تدلف خلف تسبيح في رزانة وخلها دخل شقيقها وزوجته تتأبط ذراعه!
اتساع عينيه رأته من كل تلك المسافة، وكأن بتأخرها كاد أن ييأس من حضورها، لكنها عندما اخبرها شقيقها أنه جاءه دعوة لحضور زفاف إحدى كريمات عائلة الباشا مع اتصال خاص من أبي عمران، جعلها توافقه المجيء فهكذا أصبحت الدعوة عائلية، وبهذا سيكون اعتراف حقيقي كونهم ضمن العائلة والبلدة حتى وإن كانت والدتهم ليست من بينهم.
اقتراب حازم من تسبيح بخطوات تضرب الأرض فيبدو كمن هو على وشك قتلها هو ما جذب نظرها بعيدًا عن فريد، حازم كانت ملامحه خطرة حد الإجرام وكانت تخشى حقًا على تسبيح، بالطبع ليس من بطش حازم باليد هذا ليس طبعه مهما احتدت ملامحه لكن حازم يعرف بطش اللسان عن جدارة يمكنه الضرب بكلمة تعرف كيف سبيلها للوجع حتى يتقيح الجرح، لذلك ابتسمت واقتربت خطوة تقف أمام تسبيح وتلك الحركة البسيطة أشعلت الحرائق في نظرته وقلبه! الكل يفهم تعابيره إلا امرأة وقع في هواها ألف مرة ومرة... يفهمها... يتنفسها... يهواها بكل طريقة وجدت في العشق منذ أزل، كم يتوجع! لعدم فهمها له لعدم تجنبها ما يوجعه، استفاق من افكاره ليد تقى الممدودة ترحب به، فرفع يده اليسرى يمسح بها على آخر شعره وصولًا لعنقه بإحراج، بينما يمد يمنته للسلام هامسًا لكنها سمعته:
-مرحبْ يا تقى أنرتِ، أقصد العقبة لك.
ابتسمت بشحوب وهمست:
-شكرًا لك، ولك أيضًا.
-أتمنى!
قالها وهو ينظر لتلك التي تقف في الخلف كمن هي على وشك فقدان الوعي من شدة خوفها، لكن قوله نزل على قلبها يهدّأ من روعها فابتسمت له بسمتها الرائقة، لكن ليس تمامًا كأنها تفقد مذاق السكاكر بكثرة زينتها التي أخفت الكثير من حلوّها وبهاء اشراقها.
دوى لحن حديث صخب رغم رومانسيتيه قليلًا اتبعه غناء جماعي لكلمات قديمة نسبيًّا لفرقة حديثة الطراز سورية، فاشرأبت الأعناق نحو الرجل المسئول عن موسيقى الحفل، وكانت تقى من ضمن من اشرأبت أعناقهم فلمحت نزول فريد من المكان المخصص لذلك، والتقت نظراتهما هناك، وأشار بسبابته تجاهاها ففهمت أنه هو من اخبر الرجل بتشغيل الأغنية ويهديها لها.
اقترب من الحاجة زهيرة وهو يحتضنها بذراعه ويرقص في سعادة ويحرك سبابة كفه الآخر نحو تقى عند مقطع بعينه...
"خلصن بنات الحارة طاير.. طاير.. طاير، يا يُما چوزني والله الجااالب حاير"
تكرر المقطع فاتسعت عينا تقى وانتشرت الحمرة على وجهها وبدأت تتلفت حولها وكأنها تبحث عن مخرج.
بينما الحاجة زهيرة ذات الدهاء فهمت ما يقصده، الحقيقة أن الجميع أضحى يفهم! لكن زهيرة كان لها نصيب الأسد بالراحة على ولدها الصغير، والآن أولادها جميعًا أضحوا يعرفون طريقهم جيدًا عدا عاقتها الوحيدة إيمان، وعلى خاطرتها نظرت للاتجاه البعيد وهي تراها تقف وحيدة في زاوية غير مرئية كمنبوذة مشردة، وكم نغزها قلبها على ذلك! فحاولت النظر لفريد الراقص في حبور وربطت على صدره وتشير نحو إيمان في وقفتها الحزينة، فمال على رأسها يقبله ثم حرك رأسه في رفض واستكمل رقصه بسعادة منقوصة!
༺༻
اقترب حازم من جلسة تسبيح وتقى على إحدى الطاولات، وجلس بجانبها يرحب بتقى:
-أنرتِ البلدة يا تقى والله.
ابتسمت بخجل وقالت:
-إنها تنير بك وبأناسِها.
ساد الصمت قليلًا فقالت تقى وهي تقف:
-سأبحث عن أخي، في الأرجاء وأعود.
وقفت تسبيح سريعًا وخرج صوتها مبحوحًا كمن يستغيث:
-سآتي معك.
-لا.
كانت هذه اللا صادرة عنه الذي بدوره تنحنح وهمس:
-أريد الحديث معكِ.
فنظرت لهما تقى وهي تبتعد وترى تسبيح تفرك يديها بعصبية من شدة توترها، فأشارت لحازم بأن كل شيء بهدوء، فابتسم لها وشكل ابهامه كسكين وأشار على رقبته، فضحكت برقة واستدارت تكمل طريقها.
ظل ينظر إليها وإلى شكلها الجديد كم هي قِبْلة للنظر في كل وضع كانت، كانت مغوية كامرأة ساحرة في جمالها وتغنجها الواضح للعيان، كم يود اخفاءها عن الزمان والمكان والأرض كافة فتصبح لعينيه وحده أصالة الجمال، كم تمنى أن تكون زوجته في تلك اللحظة ليصبح له الكلمة الأولى في عودتها للمنزل وعدم خروجها مجددًا، همس أخيرًا لمسامعها:
-لما كل تلك الزينة، ولما كل هذه الأفعال الفاضحة؟!
لا تعرف كيف تخلت عن خوفها وتوترها منه وصرخت بكبت وغل:
-أنا أفعالي فاضحة؟! وماذا عن أفعالك أنت وحبيبة القلب شوق أفعالكم سكاكر؟! أنا لا أصدق أنها بالفعل نجحت في مسعاها بأن تجعلك تراها كامرأة تليق بك أكثر مني، لقد كنت تراقصها... وتقول على أفعالي أنا الفاضحة!.
كتم ابتسامته جيدًا لكنه لم يستطع كتم ضربات قلبه المدوية، وهمس بفحيح لتلملم لسانها المنطلق بالسباب هذا:
-كيف تتهميني بأني أنظر لابنة عمتي تلك النظرة الدنيئة؟! أنا أكبرها بأكثر من اثنى عشر عامًا، بما تهذين أنت؟!
-كنت تراقصها أم لا.
برقت عينيه وصرخ:
-ألا تسمعين أقول لك أني أكبرها بالكثير؟!
رفعت كتفها بلامبالاة وقالت:
-أنت الذي ترى فرق السن، لكن هي لا.
-وأنا الذي يخصك لا هي.
صرخت بقوة تناطحه:
-حسنًا سأرقص مع ابراهيم عند عودتنا للقاهرة.
-تسبييييح!؟
قالت بنبرة مصطنعة في براءتها:
-ماذا؟ أنا التي تخصك!.
مسح على وجهه بكفيه سريعًا وقال:
-حسنًا سأعتبر كل كلامك نابعًا من غيرتك منها.
رفعت أحد حاجبيها وسألت استهجانًا:
-أغار ممن؟!
-اعتقد أن ردة فعلي لن تعجبك إن اعتبرتها غير ذلك.
وقفت وضربت على المنضدة أمامها وصوت طرقتها تشتت مع صوت الأغاني الصاخب وصرخت بوحشية:
-أنا أغار عليك أنت وليس منها!
ثم غادرت وتركته يبتسم في بلهٍ شديد.
༺༻
وقف الحاج أبو عمران في شرفة غرفة مكتبه الأرضية بعد انتهاء الزفاف عندما دخل عليه فريد مهللًا:
-والله يا حاج لا أعرف كيف نرد جميلك هذا؟! لقد وعدتني وأوفيت وعدك.
-والله يا ابن أخي هذا أقل ما أقوم به؟
قال جملته وهو يُعدل من عباءته فوق كتفيه بحركة طاووسيه للإشادة بما فعل، فابتسم فريد في حبور واقترب من عمه قائلًا:
-ينقص فقط أن توافق لتأتي وتطلبها لي زوجة يا عماه.
-ومن تلك التي ترفض فريد سليل عائلة الباشا.
أظلمت ملامح فريد قليلًا، وهو يهمس داخله:
"ليتها ترفضني لأني سليل العائلة، وتقبل قلب يحفظها من كل فكرها"
༺༻
دخلت غرام من باب الجناح تغلي وتزبد مما فعلته هديل، حركات في منتهى الابتذال في كسب عطف رجل وليس عاطفته ولكن في حالة مروان قد تكون كسبت الاثنان معًا الخطأ عليها هي فقط ومن يلومه بعد أن حرمته زوجته من كل ما حل له الله، ولا تعرف هل مساعدته لها كانت من شعوره كابن عم لها أم أنه شعر بالعاطفة نحوها، يا الله كم صبرت وتحكمت في انفعالاتها حتى ذهب طفليها في ثبات عميق، لا تعلم كيف سيطرت على أعصابها كلما تتذكر مشهد مروان وهو يحاول اسناد هديل من كتفها بعد أن كسر كعب حذائها، وهي بدورها لم تكتفِ بإسناده لها بل طوقت عنقه بذراعها.
دخلت غرفتها وزوجها ولم تجده وكانت هذه الطامة الكبرى على أعصابها، هل تنزل وتبحث عنه وتطلب منه الصعود معها لأي حجة كانت، لا... لن تكون بلهاء مجددًا.
ذهبت نحو الخزانة وأخرجت غلالة للنوم كانت قد اشترتها لها حماتها لتجذب بها زوجها، لكنها أهملتها وقد تمسكت بأن يكون هذا في مسكنهم، لكن للضرورة أحكامها التي تعيق ترتيب الأحداث كما خطط لها، دلفت للحمام تهدأ نفسها تحت المياة الدفيئة، وخرجت تلبس الغلالة وكانت تظهر أكثر مما تخفي وقفت أمام المرآة تجفف شعرها وتمشطه حتى انتهت، وبدأت في ارتداء سماعتها ونظرت في ساعة الحائط، لقد استغرقت أكثر من ساعة ونصف، ولم يصعد بعد ماذا يفعل؟ هل هو معها؟ وماذا يفعلون؟
لن تقف مكتفة الأيدي هكذا كثيرًا، انتشلت هاتفها انتشالًا وطلبت رقمه، فتح الخط ووصلها صوت... صوت غريمتها "هديل"! وهذا ما أشعلها في وقفتها وهمست بفحيح وهي مقدمة على أسوأ فعلة على مر حياتها:
-ماذا تفعلين مع زوجي؟؟؟ وما صفتك لتردين على هاتفه؟؟؟
لا تعلم كيف ظهر صوت مروان وهو يهمس استهزاءً وقسوة ويبدو أنه استمع لما قالته:
-آه زوجك الخائن على ما يبدو، أما صفتها لترد فأنا من طلبت منها ذلك حتى لا تقلقِ انتظارًا في الرد.
ثم أغلق الخط دون أي اضافة، أو انتظار لردها مما جعلها تشهق وتنظر بدهشة للهاتف وهمست بصعوبة:
-هل مروان أغلق الهاتف في وجهي؟؟ هل فعل حقًا؟!
༺༻
. عندما خرجت من قاعة الاجتماع الشبابية التي جمعتهم بخطوات غاضبة بعد أن لمّح أمام الجميع أنها تخصه، لحق بها سريعًا ونادى عليها فوقفت بعصبية وصرخت:
-ماذا تريد؟ يكفي ما تفعله... ماذا ترييييد؟!
-أريد الزواج منكِ... بسيطة ولكنكِ من تحاولين التهرب.
-أنا لا أهرب أنت لا تعرف شيء ولا تعرف بما مررت به بعد تركت هذه البلدة.
ابتسم بحزن وهمس:
-ليتني أعرف، لأعلم كيف السبيل في مداواة هذا الجرح في نفسك.
-لكن ما تود معرفته لن يسعدك صدقًا.
-دعي سعادتي لي، فأنا أعرف طريقها جيدًا.
استفاق من شروده في شرفة غرفته، وهو يقبض على السياج المعدني المذهب تحت يده وهو يرى ابتسامتها وهي تخبره:
-لك هذا.
منظر عينيها الجميلتين في اتساعهما لم يغادر مخيلته بعد ألقاءها لعبارات تصيب كخنجر مسموم يصيب أي امرأة في كرامتها، حتى وإن كان منذ قليل يزهو ويرقص احتفالًا بمجيئها لكنها سبب كل هذا، كيف لها أن تخبره بكل تبجح عن علاقتها بهذا الذي يطاردها من مكان لآخر، وكلما تذكرها وهي ترمي كلماتها بكل كبرياء تفور مشاعره كرجل طُعن توًا:
-هل ستقبل بي بعدما كنت لغيرك الحب والدفء، هل سترضى بامرأة استُخدمت كخنجر ينغرز في قلب امرأة غيرها، هل سترضى ببقايا انثى استهلكتها الحياة في مداراتها حتى الرمق الأخير، فأضحت كافرة بكل النوايا الصافية للحب.
همس وقتها محاولًا الحفاظ على هدوء ملامحه:
-يكفي هذا، لا تزيدي.
وقتها صرخت:
-لا أنا لم أكتفي بعد، أنت لم تسمع كل شيء، لقد تلاعب بي تحت مسمى العشق والأسوأ أنه لا يزال يراني أحبه من كثرت ما أغدقت عليه بمشاعري التي انجرفت خلفها ضاربة بكل احترامي وذاتي عرض الحائط وشيعت كل تعب والديّ في أن يجعلوا مني أنثى عفيفة تعلو وتزهر بأخلاقها مع تشيعي لجثمانهما، لقد فقدت كل تعقل اتصفت به يومًا في خضم أن بقيت وحدي!
-ماذا فعلتِ بالضبط تقى؟
-يكفي أن أقول لك أني سقطت من نظر نفسي، أقولها بكلِ أسف.
استدار ينفث لهبًا، وصرخ وهو لا يزال على وضعيته:
-كان خطأ أن تخبريني كل ذلك.
-أنت طلبتني زوجة، وأنا أردتُ أخبارك بماضيّ، وثورتي على القدر في تشيع جثمان والدي وعلى قوانينكم التي جعلتني وحدي أتلقى انهزامي.
-لم تكُنِ ملزمة بإخباري يا تقى، فقد أخطأتِ فأنا ابن هذه الأرض ورغم اعتراضي على قوانينها، إلا أنها بلدتي التي شبّ عودي بها، ودماء أناسها الحارة تجري داخلي، فأنا لست متحضر لأسمع من امرأة اخترتها بكل كياني كل ذلك عن حياتها مسبقًا وأصفق لها، فأي امرأة كانت لتتحدث عن حياتها أمام رجل يريدها زوجة لدفنها وهي على قيد الحياة لفسقها!
استفاق من ذكرى يتذكر ملامحها ووجهها المتراجع وكأن هناك من صفعها، والغريب أنها ظلت واقفة مكانها حتى تركها مصدومة خلفه مغادرًا.
༺༻
عندما صعد للجناح كان الوقت قبيل الفجر، لم يكن يعلم أن من تحدى العائلة كلها لأجلها ولأجل رفع مكانتها ستحط من مكانته هكذا، يعلم أنه طلب من هديل فتح الخط فقط ولم يطلب أن ترد ويعلم أن نواياها غير بريئة بالمرة في الرد على غرام كما تزعم أنها كانت تريد ألقاء السلام بعدما ذهبا سريعًا بعد انتهاء الحفل، ولولا وصولهم وقد صف السيارة انتشل الهاتف منها وخرج من السيارة وابتعد عن مسامع هديل ما الذي كانت تنوي فعله، لكنه كان يريد الثقة من غرام، خاصة وإنها تتحدث مع واحدة كان قد تركها وأصر على فسخ خطبتهما لأجلها، كيف كان سيبدو إن كانت هديل من سمعت ما سمعه، كيف سمح لها بأن يصل بها الحال كمن أمن العقاب لتسيء التصرف هكذا؟ غضبه دائمًا حليم كما طباعه، ولم تصدق مقولة "اتق شر الحليم إذا غضب" معه.
دخل لغرفتهما فوجد الإضاءة لم تغلق بعد فابتسم بسخرية فقد تكون تلحفت بغطاء السرير ونامت قريرة العين، لكن بعدما دخل ووجد السرير فارغًا، دار بصره سريعًا في الغرفة ولم يستغرق البحث كثيرًا وفقد كانت متكورة على الأريكة في وضع الجنين، لحظة! ترتدي غلالة نوم وإن صح لفظ "ترتدي"، اقترب بتمهل حتى جلس على طرف الأريكة، فوجدها مغمضة عينيها والوسادة تحت رأسها متشربة دموعها، ويصدر عنها شهقات متقطعة وكأنها كانت تبك قهرًا، اقترب برأسه يتذوق ملوحة الدموع على خديها، ويبدو أنها لم تدخل مرحلة النوم العميق بعد فعندما ابتعد عنها وأصبح وجهه مقابل لوجهها رأى عينيها مفتوحتان تنظر له فبادلها النظر، وابتعد عنها هامسًا:
-آسف.
لم تسمعه لأن سماعتها قد سقطت أثناء نومها فوقفت تعدل من وضعها، ثم اقتربت منه تسأله بهمس:
-لماذا تأخرت؟
-لا يهم.
همست بخجل مضاعف لصده لها فوق خجلها من المنامة الكاشفة التي ترديها:
-كيف لا يهم وأنا انتظرتك كثيرًا؟ ما رأيك في منامتي؟
وتحاملت على خجلها واستدارت حول نفسها تريه الغلالة التي لا تدع شيء للمخيلة.
ورغم تأثره بمظهرها الخاطف لفؤاده وروحه، وتألقت عيناه لآية النظر لها ولجمالها إلا أنه حافظ على صلابة ملامحه وقال:
-ماذا بها؟
همست بإحباط:
-ألم تعجبك؟!
رفع حاجبه وهمس باستهزاء وسخرية أوجعتها:
-لما هل أنا من سيرتديها؟
رغم توجعها قالت ببعض الحماسة:
-بل أنا ارتديتها لك أنت.
فصرخ بها فاقدًا صبره:
-وأنا لست من حديد لأراك بهذا المنظر ولا أتأثر، اذهبي للنوم يا غرام.
همست بصوت متداعي متراجع كثيرًا لا تعلم كيف تصيغ حروفها:
-أنا... لقد... ارتديت تلك المنامة لأجلك... لا تقول أنك لا تفهم كلامي.
برقت عينيها من هول ما نطقت وظللت فمها بكفيها، لقد أرادت أن تخبره أنها تريد المضي قدمًا نحوه، لكنها لم توضع في مثل هذا الموقف من قبل، فيبدو أنها بدلًا من الفوز بزوجها خسرته، لكن ملامحه لم تدل على ذلك قط وهو يتحدث:
-هل ما فهمته صحيح؟!
استعاد وجهها لون الخجل وابتسم فمها بتلاعب وهي تومئ برأسها وتعض على شفتيها وتنزل رأسها أرضًا في خجل، معه تستعيد نفسها بخجل فتاة لم تتعرض لزواج من قبل!
هي لن تتراجع مروان زوجها وكيانها ومستقبلها ويكفيها الساعات الماضية في بكاء وصراخ كبتته في وسادة الأريكة الوحيدة هنا، ظلت تنظر للأرض ولم تصدر عنه حركة أو صوت غير صوت تنفسه العالي وأنفاسها الثائرة، فرفعت أنظارها له ووجدته ينظر لها كمن يعاني ثقل، فهمست بتراجع وتخبط:
-إن كنت لا تريد فيمكنك إخباري، لكن لا تضغط على أعصابي أكثر.
-لما؟!
-أعلم أنني الأنثى التي لا ترضيك... بل لا ترضي أي أحد...
لم تعرف ماذا حدث بالضبط بهذه السرعة، ولكن تلك لم تكن قبلة بل كانت كطوفان كاسح، استمر لوقت لم تقدر على حسابه بين تيه مشاعرها وابتعد عنها مديرًا لها ظهره دون سابق إنذار، يتنفس كعاصفة مع تزايد أنفاسها خلفه وهي تحاول تنظيم أنفاسها ومحاولة فهم أي خطأ اقترفته ليبتعد بدون مقدمات هكذا!
تكلم ومازال مديرًا ظهره بعد أن حاول السيطرة على هياج مشاعره التي فرطت من عقالها:
-أعتقد إني أثبت لكِ الآن إلى أي مدى ترضيني كامرأة بكافة نساء الأرض، لكن يجب أن نتحدث قليلًا.
ارتسم البله على ملامحها في سؤال مندهش، ورغم أنه لم ير ملامحها بعد إلا أنه فسر:
-لقد تحملت جميع أخطاءك يا غرام، وارتضيت بكل شروطك الضمنية التي لم تجهري بها، تحملت الكثير في سبيل كسب رضاكِ وحبك ولكن يبدو أن كل تحملي أوصل لك بطريقة أو بأخرى أن قد أقبل الإهانة بصدر رحب، بل مرحبًا بها...
قاطعته بجزع:
-ليقبض الله روحي قبل أن أفكر بهذا، لا عاش ولا كان من يهينك يا مروان... إن فكرت أن أهين أحد لن يكون أنت يا من أكرمتني وكرمتني، وأحبتني لو طوفت الأرض كلها لن أجد من يفعل معي ما فعلت أنت... وأنا في نهاية المطاف سلمتُ بأن لا حب غير حبك يا قلبي الذي دق بصخب لأول مرة يا روحي التي طافت في مدارك فلم يعد لي الفكاك، فأنا سلمتُ بأن أحبك وأهيم بك وأريد أن أطوف الأرض كافة جاهرة بحبك الذي تسلل بكل شريان يمنحني الحياة... أنا أحبك يا مروان ولن يملي عيناي غيرك رجل... يا رجل بكل الرجال... وحبي أمنحه لك مرارًا ومرارًا... حتى تزهق آخر أنفاسي.
كان قد استدار لها منذ بدأت حديثها ومع كل دعوة للموت يصرخ كيانه كله "بعيد الشر، ليته أنا"، وأراد مقاطعتها كثيرًا يثبت لها أنها أهانته بالفعل لما كانت تنوي اسماعه لهديل، ومع كل كلمة تقولها في اعتراف انتظره طويلًا كان يقترب منها ومع آخر جملتها صرخت روح بأن "بعيد الشر، ليته أنا" ولكنه كان من يوقف كلامها وانفاسهما معًا
༺༻
وإن كانت تعلم أنها عندما ستحب بكل كيانها هكذا، لم تكن لتطرق لقلبها الوقوع في هذا الفخ المسمى بالحب، لم يضيع من مخيلتها أبدًا ارتفاع كف حازم نحو شوق في حركة أمير يدعو أميرته للرقص، لكن تغنجها وهي تضع يدها بدلال في يده ونظرتها التي تنضح بالفسوق، ثم انحنائها ببراءة طفولية حقيقية منتصرة تمسك بيدها الفستان من أسفل قليلًا وتثني ركبتها ترد تحيته بلباقة تنقصها الأنوثة الحقيقية، وهذا ما جعل حازم يقهقه عاليًا وهو يرجع رأسه للخلف ثم انضما في رقصة يشاركا بها العروسين اللذان ابتسما لهما ودار بينهما حوار، يبدو أنه ازعج شوق، وهي علمت لما انزعجت وهو لأن حازم لا يكف عن ندائها بالصغيرة!
فابتسمت بشماتة لشوق، ولكن لم تدم شماتتها طويلًا فقد ناداها هي الأخرى بالصغيرة، وهذا ما زاد من ثورتها وجنونها وجعلها تقول ما قالت غير مهتمة بأي اعتبارات أخرى.
اضاءت شاشة هاتفها مع اهتزازه فوصلتها رسالته:
'لم أكن أعرف أنك تغارين عليّ وليس منها '
لم ترد لتصلها رسالته الأخرى بعصبية:
'لكن هذا لم يعطِك الحق لقول ما تفضلت به'
رسالة ثالثة تمحو عصبية جملته السابقة:
'لا داعي لانكماشك خوفًا، فلا أحد يحق له تخطي الحدود معي غيركِ'
'لكن لا تستغلين ذلك فقد أنقلب في توي لشخص يشبه الرجل الأخضر المتضخم'
مع تلك الرسالة تنازلت وردت:
'أنت متضخم بالفعل، ينقصك اللون الأخضر، ليتك أصلًا في وسامته وهو غير متضخم'
ارتفع حاجبه في الجانب الآخر وهو مستلقي نصف استلقاءة وحاول اقناع نفسه أنها تتغزل بشخصية غير واقعية، لكنه للأسف شخصية واقعية ومن لحم ودم وكيان، فأرسل لها:
'هل ستتغزلين في شخص آخر أمامي'
وصلته رسالتها وفار دمه بقراءتها:
'حسنًا، لن اتغزل به أمامك سأرسل له مغازلتي بالإنجليزية كما تعودت'
جلست تنتظر رسالته بفارغ الصبر لترى إلى أي مدى ستصل غيرته، لكن لم تحسب حساب اتصاله، حاولت تجاهل الاتصال ولكنها اجابت حتى لا تصاب بلعنة عصبيته، وفتحت الخط دون حديث ووصلتها أنفاسه الحارقة قبل أن يسأل:
-هل تفعلين حقًا؟!
-أفعل ماذا؟!
اجابها بغضب:
-أنكِ تراسلين هذا الممثل؟!
إن كانت أخرى مكانها لكذبت لتنجو، لكنها تسبيح فأجابت بصراحة مطلقة:
-كنت أفعل في مرحلة ما من عمري، لكني بالطبع لم أعد أفعل... لست هوجاء الفكر لهذه الدرجة.
لم يجاوبها أو يسألها شيء فقط زادت وتيرة تنفسه، ثم أُغلق الخط، فهمست:
-فلتتلظىٰ بما عانيت منه طوال الحفل.
لكنها لم تدرك ما ينتظرها في الصباح!
༺༻
صوت الهاتف في أذنها هو ما أيقظها فقطبت جبينها لتتذكر ما حدث ليلة أمس في تكليل حبها وزواجها بتلاقيهم أخيرًا وأصبحا زوجين شرعًا وقانونًا، ورفعت نفسها من حضن زوجها، وارتفعت يدها تحافظ على وضع السماعة صحيحًا وتذكرت ضيقه الذي لم يستمر كثيرًا من رفضها لخلعه سماعتها وهي تهمس:
-أريد أن أكون بكل حواسي.
اعتدلت تمسك بهاتفها لتفتح الاتصال وترد على ميسون وهي تربط رباط مآزرها وتنسحب من الفراش:
-صباح الخير يا جدتي.
لكن ميسون لم تكن بحال لتبادل التحية وهي تقول:
-أدركيني يا غرام، رهف لم تعد للمنزل منذ أمس.
ارتفع صوتها في سؤالها:
-كيف هذا؟!
استدارت لترى هل أزعجت مروان، ثم كررت بهمس:
-كيف هذا؟ هل جنت هذه أما ماذا؟
-غرام أخبريها أن تعود ولن اضايقها مطلقًا... أنا أعلم إنها عرفت الحقيقة فقد استمعت لحديثكم، لكنها لم تواجهني وانتظرتها ليلة أمس تعود حتى أشرقت الشمس ولم تعد فاتصلت بك لتصلي إليها، لأنها لا تجيب كل اتصالاتي.
أجابت غرام بتوتر وأعصابها على المحك:
-لا أعلم يا جدتي، لكن يبدو أن رهف أعلنت مقاطعتنا معًا، فهي لم ترد على اتصالاتي أنا أيضًا منذ محادثتنا الأخيرة، لكن سأعود قريبًا لأعرف أين هي.
أغلقت الهاتف وهي تتنهد هامسة:
-يبدو أن التعاسة مرادفة لحياتي، لن يكتب لي السعادة صافية مطلقًا.
لم تحسب حساب ذراعين قويين دافئين يتوقانها من الخلف، فابتسمت بخجل وهو يطبع قبلة ناعمة على نعومة خدها، وهمس:
-يمكنني الغضب جديًّا لسماع مثل هذه جملة بعد ليلة أمس!
ازداد خجلها وهي تستدير هامسة وهي تنظر لأصابعها التي تتلاعب بهما بخجل:
-آسفة لم أقصد، لكن مشكلة رهف تتعقد زيادة.
ثم رفعت عينيها مشدوهة وأكملت بنبرة أكثر دهشة:
-هل تصدق أن رهف بكل عقلها ورزانتها لم تعد للبيت منذ أول أمس.
ضحك قليلًا وهو يقول:
-من يعاشرك حبيبتي يصيبه كل أنواع الجنون، إن لم يفقد عقله دفعه واحدة.
ضربته على صدره بكفها وحاولت الابتعاد لكنه جذبها مرة أخرى لحضنه وعيونه تلمع بكل درجات العشق التي تعلمها وأضنته في انتظار جودها، فهمست بغضب:
-ابتعد عني، أنت تسخر مني.
ابتسم وهمس لعينيها:
-لأرى نظرة الغضب التي تتوهج في عينيكِ تلك، فلم أرها غير مرة واحدة، أتذكريها؟!
هزت رأسها وملامحها تحاول التذكر، وهو من ذكرها:
-عندما أمسكتني بالجرم يوم تعطل المصعد، فساعدت جارتنا ذوقًا مني، لأرى نظرتك الغضب يُشعِلها.
أنزلت رأسها هامسة:
-لم يكن غضب فقط، كنت أشعر بالغيرة ولم أكن أعرف ترجمة هذا الغضب الذي كاد أن يضعني على حافة الجنون، لكن الآن استطيع جيدًا ترجمة كل ما أمر به تجاهك.
تألقت نظرته وهو يقول:
-يمكنني الاعتراف بأسرار كتلك عمليًّا.
-لا يا مروان، سنتأخر على الفطور وستضطر خالتي زهيرة للصعود لتوقظنا وستعرف حينها ما نفعل!
وقف يسألها بخبث:
-وماذا نفعل نحن يا ترى؟
همست بخجل وهي تتجنب النظر له:
-أنت تعرف.
ارتسم المرح والخبث اللذيذ في نظرته وهمس بهزل:
-أريد التأكد.
جزت أسنانها وتوسعت عينيها وهي تحذره:
-مروان.
فضحك سعيدًا بتجاوبها أخيرًا، وقال وهو يقترب منها:
-صدقيني أن خالتك زهيرة ستفرح بما نفعل، وستداري علينا أيضًا.
وبعدها غاب معها في حياة تخصهم ويمتلكونها معًا ووحدهما.
༺༻
عندما استيقظت صباحًا نزلت لقاعة الطعام الخاصة بالعائلة كلها، وكان الجميع قد تجمع في انتظار والدها، وعدم وجود مروان لم يجعلها تفكر مرتين لغياب حازم، لكن دخول حازم مع والدها وجلس الجميع حول الطعام وقبل الشروع في الأكل، قال والدها:
-سأخبركم جميعًا قبل ذهابكم إلى أعمالك والسفر مجددًا، لقد طلب حازم يد تسبيح وأنا أعطته كلمتي بالموافقة وسيتم عقد القران بعد يومين، وهذا لأن تسبيح وحازم في مدينة واحدة ويتردد عليهم باستمرار بكونهم عائلة واحدة في مدينة بعيدة.
همست تسبيح بنبرة متقطعة:
-و... أحم ماذا... عن رأيي؟
ابتسم والدها وهو يطلب منها ويمد يده تجاهها:
-تعالي يا تسبيح.
وقفت وخطت تجاهه واستراح كفها بيده فجذبها قليلًا تجاهه، وملس خدها وسألها:
-وهل لكِ رأيًا غير رأي أبوكِ يا تسبيح؟!
أنزلت رأسها بخجل وقالت:
-لا يا أبي.
-وأنا يا ابنتي إن أثق في موافقتك لما كنت أعطيته مباركتي.
ابتسمت بخجل وامسكت بكف والدها تقبّله وهو بدوره رفع كفه الآخر يطبب رأسها بحنان وفخر، ثم عادت لمكانها بجانب إيمان التي مالت على أذنها تسخر:
-وماذا عن رأيي يا أبي؟!
نظرت لها تسبيح وهمست رافعة حاجبًا لها:
-ألم نكن في مقاطعة؟!
فقالت إيمان بإغاظة وهي تراقص حاجبيها:
-هذا قبل أن تكوني زوجة أخي.
همست باستنكار:
-ليس بعد!
-يبدو أن المدينة أنستك قوانيننا حقًا مثلما قالت عمتي.
-عمتك لم تقل ذلك، بل قالت أنها أفسدت أخلاقي.
قالتها وملامحها مستنفرة، ثم تذكرت أنه لم يكن هناك غير اربعتهم، فهمست مضيقة عينيها:
-هل كنتِ تراقبينا؟!
-بل أنتم من اخترقتم خلوتي في مكاني المفضل!
ثم تذكرت ما حدث وهروبها ولا تذكر ماذا حدث بعد انصراف عمتها وشوق، فتلون وجهها بالحمرة، ولكن مقاطعة زهيرة لهما من الخلف هي ما أوقفت استرسالهما وهي تقول:
-فلتنتهوا من الأكل سريعًا فوراءنا الكثير من التجهيزات، بعد أن اصدر أبو عمران قراره.
وابتعدت وهي تحذرهما بنظراتها فوضعت كلا منهما وجهها في طبقها وشرعا في تناول الطعام، اهتز الهاتف داخل بنطالها الفضفاض فأخرجته وقرأت رسالته التي كتبت بأصابع متوترة:
'خلافاتنا لن توقِف ارتباطنا يا تسبيح، وسنختلف كثيرًا في القادم ولكن سيحق لي اخراس كل اعتراضاتك'
ارتفع حاجبها كما رأسها وهي تنظر له بغضب، فرفع كتفه بلامبالاة، فأنزلت رأسها تضرب شاشة الهاتف لتكتب رسالتها:
'بكلمة واحدة سأوقف كل ذلك'
فأرسل:
'زيدي من أخطاءك أكثر'
فردت عليه:
'ماذا؟ هل ستعاقبني؟!'
رفعت بصرها لترى انفعال وجهه وهو يكتب رسالته لها، لكن لم يكتب بل أعاد نفس حركة كتفه في ارتفاع وانخفاض لامباليين.
༺༻
دخولها مبنى القوات وما زالت تحتفظ بنظارتها الشمسية على عينيها تداري بها آثار قلة النوم والبكاء حتى أدمت عينيها، من المفترض أن تقابل مرضها، ولن تتخلى عن تلك النظارة، وستتحجج بأن عينيها مرهقه والضوء يؤذيها.
لم تسقط يوم حتى وإن تعثرت، وستظل بقوتها تلك حتى تنتهي رحلة حياتها.
توالت جلساتها مع المرضى واحد تلو الآخر، ووجدت نفسها تندمج معهم ناسية كل آلامها كما هي دائمًا.
دائمًا ما كانت تجد نفسها بين مرضها وهي تضعهم على أول طريق لبداية جديدة بحياة ترسم بفرش جديدة وألوان أشد جذبًا عن استخدامهم لألوان قديمة تقليدية في قولبة نقع فيها بنفس راضية مسلمين بقواعد المجتمع الأكثر انتشارًا.
دخلت للواء عصمت وبعد أن تمنى لها الشفاء لأجل عينيها تأكدت أن الجدة لم تستغيث به حتى الآن، وتحمد الله على ذلك حتى تعود لقوقعتها من جديد حتى موعد قدومها لهنا مرّة أخرى تكون قد استعدت للمواجهة بقوة.
لكن ما لم تحسبه هو اتصال الجدة بعصمت متذكرة مواعيدها داخل القوات، بعد خروجها مباشرةً، ودخول تيم لمفاتحة عصمت بأنه يرد طلبها من واليها، لكن عصمت فاجئه بطلبه وهو ما زال يتحدث على الهاتف:
-تيم أريدك أن تتبع خطوات رهف وتخبرني بمكان استقرارها دون أن تراك.
وقف تيم والتساؤل يشكل ملامحه،
بسرعة يا تيم ألحق بها.
استدار سريعًا يلحق بها وكاد أن يُحلّق وليس يجري فقط ليتتبع خطواتها، واستقل سيارته وسار خلف سيارة الأجرة التي استقلتها، لم يحتج لجهد كبير لذلك فهو يطارد ويستمر في المطاردة لوقت أطول، ليت كل التتبع كتتبعها، صفراء الشعر كالعروس بربي، فلونه قدح لون توهج سنابل القمح، ولكنه يزيد لمعه ورونق، تلك الرهف لا يعرف كيف دخلت إلى قلبه محتلة كيانه وفكره في خضم لم يقابلها غير عدة مرات تُعد على أصابع اليد الواحدة، وكل مرة لا تتعدى الثواني المعدودة، حقًا أن قلوبنا بيد الخالق يقلبها حيثما يشاء وقتما يشاء، وهذه الجملة المعترف بها في قاموسه، لكن الحب من النظرة الأولى لم يكن ضمن الجمل المنطقية التي يعترف بها!
انحدرت السيارة لطريقٍ صحراويٍّ فقطب وهو لم يعد يفهم شيء، ثم نزولها من السيّارة فنزل السائق بدوره ويبدو أنه معترض على وقفه هنا أكثر وهي تحاول اقناعه، بماذا تفكر هذه إن الرجل يخشاها وهذا ظهر أكثر عندما رأى سيارته وهو يصفها فأسرع السائق نحو عجلة القيادة وانطلق بالسيارة خائفٍ من أن يكونا تشكيل عصابيًّا، وحاول تيم اعتراض طريقه لينقده حقه، لكن يبدو أن السائق اعتبر اعتراضه لطريقه أنه يريد خطفه مثلًا! لذلك ابتعد عن طريقه فالخوف المرتسم على وجه الرجل كان شديد لدرجة أنه خشي عليه من أن يصاب بأزمة قلبية.
استدار لرهف التي كانت قد تكتفت بذراعين ملفوفين حول بعضهما أمام صدرها، فاقترب بخطواته، وسألها بغضب:
-كيف لكِ أن تأتي إلى هنا وحدكِ، ألا تخشين من أن يفعل بكِ شيء؟!
ارتفع حاجبًا خطيرًا وهي ترد سؤاله بسؤال آخر:
-من سمح لك بمراقبتي؟!
-السؤال الصحيح، من أمرني بمراقبتك؟! ويبدو أنه على علم بتهورك.
همست ببطء وحزن وكأنها تسلم راياتها:
-جدتي... لا مفر!
-لا ليست جدتك، أنا لا أعرفها أصلًا، أنه سيادة اللواء.
ابتسمت بسخرية ويأس:
-إذًا هي جدتي بالفعل.
راقب يأسها وهمس يحاول بثها الأمان لعلها تخبره عما تمر به:
-كيف تأتين في سيارة أجرة إلى تلك المنطقة يا رهف، كيف كنتِ ستحمين نفسك؟
-لا تقلق، أنا معتادة على حماية نفسي جيدًا.
التوت شفتيه بسخرية وسألها:
-كيف؟!
فتحت حقيبتها وأخرجت الصاعق اليدوي من حقيبتها، وهمست:
-هذا يمكنني استخدامه، لكني لا استخدمه إلا إن كان الشخص ذا خطورة ستفشل كل تدريبات الدفاع عن النفس التي اتعلمها.
ازدادت سخريته وهو يقول:
-نعم بالطبع يمكن استخدامه ليفقد الشخص وعيه لدقائق تكون جريتِ في البراح، ويصل لكِ بسيارته في ثوانِ، حقًا أبهرتني بدفاعك!
تنهدت وهمست:
-ماذا تريد الآن؟ يمكنك الاتصال باللواء واخباره بأني ابات لياليَّ في غرفتي داخل الدار.
-هل تباتين خارج منزلك؟! هل أنتِ معتوهة؟!
-أوشكت على ذلك.
نبرتها اليائسة والحزن في صوتها جعله يسألها:
-لما؟!
-لأني اكتشفت أن حياتي كلها ما هي إلا كذبة... الحب كذبة... زواجي كذبة... بعدي عن حضن أمي كذبة... حنان جدتي كذبة... حتى الحقيقة الوحيدة في حياتي خسرتها... فلم يعد لحياتي معنى غير الكذب.
-لا أفهم لكننا جميعًا نعيش في الكذب، أما أنتِ فمحظوظة بامتلاكك حقيقة واحدة حتى وإن خسرتها!
أغمضت عينيها على الدموع فسالت افاضة، وأخبرته بخفوت:
-الحقيقة الوحيدة في حياتي وخسرتها، كانت تتمثل في "ابني".
༺༻
بعد أن خرجت من المشفى واستقرت في بيت والدها وأنس كل يوم يرسل لها الكثير من الرسائل التي تجعلها تطفو وتزدهر، وكأنهما خطابين وهي تتدلل في ردها وخصامها، كانت هذه الخدعة التي تحاول أن تسعد بها، والآن على ذكره وصلتها رسالته:
'مرحبًا، كيف حال صغيري؟! هل يعذب أمه؟! أخبريني لأعاقبه.'
ابتسمت هي تتخيل أن يتشاجر طفلها مع أنس حتى يترك أمه كما كان يفعل كارم كما يحكي لهما والدها، أو أن تتشاجر هي وطفلتها لتجلسا بجانب بعضهما كما كانت تفعل مع أمها رحمها الله، مسدت على بطنها داعية الله بأن تستقر حياتها مع أنس قبل قدوم طفلها حتى لا يرى صراعها مع والده.
رّن جرس الباب وكانت وحدها مع السيدة التي تنظف المنزل، فأنزلت قدميها تلبس خفها المنزلي، واقتربت من الباب لتكون قريبة للسيدة المسنة فتوفر عليها الحركة قليلًا إن استدعى الأمر اخبارها، لكن مجرد ما فتحت السيدة الباب أزاحت كتفها يد أنثوية، وامرأة يافعة بشعر أحمر تدلف، فطوقت بطنها تحمي ابنها تلقائيًّا، واستهدفت قبضة الخوف قلبها، دخلت ناردين تخلع نظارتها الشميسة بتعالٍ، وقالت مبتسمة ببهجة مزيفة:
-مرحبًا بغريمتي! اشتقت إليك.
ارتفع أحد حاجبي ملاذ وهي تسألها ساخرة:
-حقًا! إذًا لما لا أشتاق إليك... آسفة لأن الشعور غير متبادل.
ابتسمت غير شاعرة بالإهانة، وهمست:
-أنا لن أغضب أو أحزن منكِ... فيكفي أنك تركتِ لي زوجي كل هذه المدة لأهنأ بشهر عسلي كاملًا متكاملًا...
صمتت تتابع انفعالاتها، ثم أكملت:
-أم أنك كبرتِ على اسعاده غريمتي؟ أم أن الحمل هو ما يؤثر على لياقتك في اسعاده... على كلٍ يجب أن أكون شاكرة!
بهتت ملامح ملاذ وهي تسألها:
-من أخبركِ بحملي؟!
حركت ناردين رأسها ببديهية وأجابتها بسؤال معروف إجابته:
-برأيك من؟!
༺༻
انتهى الفصل العاشر
قراءة سعيدة


چورية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 12:35 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.