آخر 10 مشاركات
خائف من الحب (161) للكاتبة : Jennie Lucas .. كاملة مع الروابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          أترقّب هديلك (1) *مميزة ومكتملة* .. سلسلة قوارير العطّار (الكاتـب : كاردينيا الغوازي - )           »          ندوب من الماضي ~زائرة~ || ج2 من وعاد من جديد || للكاتبة: shekinia *كاملة (الكاتـب : shekinia - )           »          طبيب قلبي .. *مميزة ومكتملة* (الكاتـب : lolla sweety - )           »          عرض مغرى (148) للكاتبة Michelle Conder .. كاملة مع الروابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          دموع بلا خطايا (91) للكاتبة: لين جراهام ....كاملة.. (الكاتـب : *ايمي* - )           »          حقد امرأة عاشقة *مميزه ومكتملة* (الكاتـب : قيثارة عشتار - )           »          651 - الجميلة والسجين - Iris Carole - د.م (الكاتـب : الحبــ الكبير - )           »          69– يدان ترتجفان - كاي ثورب – روايات عبير القديمة(حصريا) ( مكتوبة/كاملة )** (الكاتـب : أمل بيضون - )           »          آسف مولاتي (2) *مميزة ومكتملة * .. سلسلة إلياذة العاشقين (الكاتـب : كاردينيا الغوازي - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

Like Tree129Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 22-08-22, 02:14 AM   #21

چورية

? العضوٌ??? » 505085
?  التسِجيلٌ » Jul 2022
? مشَارَ?اتْي » 40
?  نُقآطِيْ » چورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond repute
افتراضي


اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة رودينا رونى مشاهدة المشاركة
الرواية جميلة جدا تسلم ايدك
يسلم عمرك يا جميلة ☺️ نورتني ❤


چورية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 22-08-22, 02:16 AM   #22

چورية

? العضوٌ??? » 505085
?  التسِجيلٌ » Jul 2022
? مشَارَ?اتْي » 40
?  نُقآطِيْ » چورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond repute
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة moony87 مشاهدة المشاركة
السلام عليكم
منذ فترة لم أدخل إلى المنتدى أو تجذبنى رواية لمتابعتها
لكن روايتك ملفتة ومليئة بالحيوية والجمال
تقبل تحيتى وتقديرى لقلمك.
ربي يسعدك كما اسعدني مرورك وتعليقك😍❤
اعذرني في تأخيري في الرد اول مرة ليا في التعامل مع المنتدى 🙈🙈


چورية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 22-08-22, 02:18 AM   #23

چورية

? العضوٌ??? » 505085
?  التسِجيلٌ » Jul 2022
? مشَارَ?اتْي » 40
?  نُقآطِيْ » چورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond repute
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة سارة امينة مشاهدة المشاركة
السلام عليكم
عندي مدة اكثر من عام فقدت الشغف في القراءة لا روايتك انعشت حب القراءة في داخلي بالتوفيق و في انتظار باقي الفصول
ربي يسعدك كما اسعدتني والله ❤😍
اعذرني في تأخيري في الرد اول مرة ليا في التعامل مع المنتدى 🙈🙈


چورية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 22-08-22, 02:19 AM   #24

چورية

? العضوٌ??? » 505085
?  التسِجيلٌ » Jul 2022
? مشَارَ?اتْي » 40
?  نُقآطِيْ » چورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond repute
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة نور محمد مشاهدة المشاركة
بإنتظار الفصل التاسع
نزل حبيبتي، اسعدني مرورك😍
اعذرني في تأخيري في الرد اول مرة ليا في التعامل مع المنتدى 🙈🙈

نور محمد likes this.

چورية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 23-08-22, 08:30 PM   #25

نور محمد

نجم روايتي


? العضوٌ??? » 280078
?  التسِجيلٌ » Dec 2012
? مشَارَ?اتْي » 2,304
?  نُقآطِيْ » نور محمد has a reputation beyond reputeنور محمد has a reputation beyond reputeنور محمد has a reputation beyond reputeنور محمد has a reputation beyond reputeنور محمد has a reputation beyond reputeنور محمد has a reputation beyond reputeنور محمد has a reputation beyond reputeنور محمد has a reputation beyond reputeنور محمد has a reputation beyond reputeنور محمد has a reputation beyond reputeنور محمد has a reputation beyond repute
افتراضي

رواية جميلة كاتبتنا الحلوة


بإنتظار الفصل القادم بشوق


نور محمد غير متواجد حالياً  
التوقيع
[IMG]6Mv06764[/IMG]
رد مع اقتباس
قديم 30-08-22, 03:02 AM   #26

چورية

? العضوٌ??? » 505085
?  التسِجيلٌ » Jul 2022
? مشَارَ?اتْي » 40
?  نُقآطِيْ » چورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الحادي عشر
فككت قيدي صارخة بأن لي بداية من جديد
ببداية حياة، خاسرة منها مباهجها الزائلة
سارقة منها سعادة أبدية أطفو بها مزدهرة
فقد خسرت في حبك الكثير
خسرت الروح الأبية التي لا قاهر لها
خسرت نظرتي لذاتي متوهجةٍ أصالةٍ وعِزة
فلم أجدني غير لطريقك أخطو بل أعدو سابقة الريح.
فلم أجد لكرامتي حافظ لها، فتنازلت عنها صاغرة
وقيدت نفسي من جديد بيداي تلك المرة
فلعنة الله على حب ختم الفؤاد بالأسود
ولوّن الروح بالرمادي
فلم أعد أعلم أي طريق للصدق أقصر!
فالمتبق مني شظايا روح وقلب وفتات كرامة!
༺༻
عائد من عمل بعد يوم مرهق مشابهة لباقي الأيام في مشقته، فلم يعد لحياته معنى من الأساس بعد فارقته شريكة عمره ضعيفًا منهزمًا، يتلقى التقريع أينما ذهب كما اليوم بعد فشل مجموعتهم وفشله الخاص في الكشف عن المكان الجديد الذي اتخذوا منه أفراد التشكيل مقرهم، حموه كل يوم يقسو عليه ويقف معها بعد أن كان سبب في خسارته لها، خرج من المصعد ووقف حائرًا أمام بابي شقته وشقة والدته واختار في أن يدلف شقته فهو ليس في مزاج يسمح لتقريعٍ من نوع آخر، عندما فتح الباب وجد أنوار الشقة مفتوحة فثار غضبه لأنه لم يسمح لأحد الدخول إلى شقته وملاذ عشقه الأبدي، جيشه وقلعته المشيّدة بتحصين يحتمي به!
دخل ثائرًا يتقفى آثار الذي دخل شقتهم في غيابه ناويًا قتله إن تطلب الأمر، فدائمًا ما كانت ملاذ تكره أن يتطفل أحد على حدود خصوصيتها وليس يخترقها بهذه الوقاحة، لكن مع البحث لم يجد أحد في كل الغرف، بالتأكيد ليس المتطفل أن يكون وقحًا لدرجة أن يدخل غرفة نومهما، دخل سريعًا وكل سيناريوهات الغضب تتشكل أمام عينيه فيما سيفعله مع هذا المخترق خاصة بعد أن تأكد من حركته داخل غرفتهما!
دخوله الثائر أفزع تلك التي أنهت لتوها نظافة الغرفة وتغيير الشرشف، فاستدارت بإنهاك تمسك ببطنها وشعرها يفك عقاله مع دورانها فيتفتح كوردة طويلة الأوراق تدور في رياح قوية، ولم يصدق عيناه وهو يراها أمامه بكل بهائها، تقف ببنطال قطني قصير يتعدى ركبتيها بقليل وبلوزة قطنية تخصه بنصف أكمام، تقف قصيرة... ضعيفة... تائهة... وكأنها تعاتب نفسها لأنها جاءت إلى هنا، لكن ماذا بدل رأيها؟!
"لا تغتري هكذا، فعصرك قد انتهى فإنه لم ولن يبقى غيري له، فأنا ابنة خالته قبل أن أصبح زوجته، أما أنتِ فقد تخلى عنكِ وعن ابنه في النهاية، وظل يرافقني طوال هذه المدّة"
جملة قالتها ناردين في وجهها، لكن للجمل أحيانًا رصاصات تخترق القلب حتى ينزف قطراته الأخيرة، فقد صاحبتها الجملة بعد خروج ناردين وهي تسقط جالسة ناسية حتى حملها الذي جاء بعد طول انتظار! كانت ترى وتسمع بتشوش السيدة التي تجلس معها نهارًا وهي تذهب للمطبخ وتأتيها بكوب مياة تحاول أن تشربها إياه، وتتصل بكارم تخبره بكل ما حدث والذي جاء مسرعًا، وكان حديثهما طويلًا محتدمًا.
هو مصر أن لا تعود لبيتها الآن فطريق عقاب أنس طويل، لكنها أصرت أنها ستعاقبه وتنتقم شر انتقام ستجعله يلتف حول نفسه، واضطر كارم في النهاية بتنفيذ ما تريد.
والآن هي واقفة أمامه تريد نهش وجهه، ولكنها سألت ببرود:
-ما هذه الغوغاء التي فعلتها في الشقة، لقد لوثت منزلي، كما أن لا أحد يدخل بهذه الرعونة دون استئذان.
لم يرد ولم يصدر عنه شيء لمدة طويلة حتى أنها شكت أنه دخل إلى ألة من شمع حولته لتمثال شمعي... جميل رغم كل الارهاق المرتسم على محياه، رغم لحيته النامية... رغم ذبول ملامحه ونحول جسده الذي كان رياضي يومًا... رغم كل غيظها وقهرها وكل ما سببه لها.
تنهيدة طويلة الأمد أصدرها وهمس مشدوهًا:
-هل أنتِ حقًا هنا يا ملاذ؟ في منزلنا وغرفتنا.
صححت له:
-في منزلنا وقد يصبح منزلي، وغرفتي وحدي من الآن حتى تخبرني بقرارك النهائي.
-لم أفهم.
-أنا حاضنة فهذه شقتي بعد الطلاق إن اخترت أن تطلقني، وغرفتي وقد تعود غرفتنا إن اخترت أن تطلق ابنة خالتك... لن أخبرك بالمهلة لكن صدقًا قد أنام استيقظ لأخبرك أن المهلة المحددة قد انتهت.
ابتسم بكسل وارهاق، واقترب بخطوات بطيئة كادت أن تسلب أنفاسها بذات البطء، وكادت تصرخ بألا يقترب أكثر لكنها تعقلت في أخر لحظة وعرفت أن ستكون مفضوحة أن نطقت بحرف الآن، فنبرة صوتها لن تدعمها!
وصل أمامها وحاول مسك كفيها فتراجعت للخلف واستدارت تعطيه ظهرها، وتشغل يدها بمسح غبرة وهمية، فاقترب يهمس بصوت مسموع:
-يكفيني أنكِ الآن هنا، بين جدران بيتنا أمام نظري، يكفي أن آخذ قوتي من نظرتك.
استدارت بقوة وكلماته وما تذكرته وحملته في يديها أشعلت فتيل نار شعواء لو أطلقتها لحرقته، ومدت يدها بدعوة زفاف لأحد أقاربه وقالت:
-دعوة زفاف في عائلتكم، دعوة لك وزوجتك، يا ترى أي زوجة سترافقك؟
-ليس لي زوجة غيركِ يا ملاذي؟
-حقًا!
-وهل لديك شك؟
استدارت وهي تقول بجفاء:
-عمومًا أنا من لا تريد رفقتك.
كم حرقها لسانها لسؤاله هل أتم زواجه بناردين، لكن لن تقل وتذل نفسها هكذا، غير أنها أيًّا كانت إجابته لن تصدقها، ستعرف الصدق بحدسها كأنثى تعرف زوجها كخطوط يديها، لكن لم تمنع نفسها وهي تسأله بسخرية:
-أنت اخبرتني أن لك أسبابك في هذا الزواج، ألن تفصح عنها؟!
-إن أفصحت لكِ ستكون عبارات كاذبة حضرت لها مسبقًا لأخبركِ بها.
ظلت تنظر له طويلًا وداخلها يتشعب الكره والغضب والاشمئزاز لنفسها لما وصلت إليه كرامتها من انحدار بيدها وهمست بنبرة غريبة عليها:
-كل يوم تثبت لي يا أنس إني كنت مجرد مرحلة وستتخطاها يومًا، كم كنت مغفلة عندما صدقت حبك المزيف.
-هل تصفين حبي لك بالزيف؟!
نبرته المتألمة أصابتها بالضحك قهرًا وقالت:
-وأيضًا أنت من تتألم؟!
تلك المرة لم يتحمل نبرتها الساخرة التي طعنته آلاف المرات، لكنه هل له بأن يلومها... هل له حق التألم من الأساس كما قالت؟!
༺༻
أحبك
كلمة في مذاق السكر
تمنيتها كأي فتاة تطرق آذاني من فارس الأحلام
فارس بعيد كل البعد عن زواياك
تخبط في طرق الحكايات بين الصديقات
فلم أجد فيك حب الصبا الأهوج الذي يهذي به الشبان والذي
كنت أنتظره بل أبحث عنه
لكن يوم ناداني زئير العشق في صوتك
هيام كهيام الرجال الأشداء قولًا وفعلًا
فسلمت في هواك بكل حصوني
ونزعت أسلحتي وأطرت بها بأمد ذراعي
ودخلت إلى قلعتك متهادية على بساط ممتد على طريق مزدان بمشاعل الهوىٰ
فكل الرفق بقلبي الذي مال وخنع بين يديك طواعية
يا ملكًا ألبسني تاجه ونسيَ بأن قلبي يحتاج تتويجًا آخر
༺༻
تفرق الجمع على موعد قريب لحضور عقد القران هي تخشى اقتراب ذلك اليوم بشدة، وتحتاج أن يقترب بشدة توازي الأولى... هذا الانفصام في التفكير يضغط على أعصابها، هي أصبحت موقنة بشكل أو بآخر أنها تُكِن مشاعر لحازم قد تكون قوية قليلًا، ولا تعرف كيف كانت غافلة عنها، لكنها ما زالت تخشى غضبه خاصة عندما يكونا وحدهما، لكن إلى الآن هي أدركت كيف تتعامل مع موجات غضبه ف أكثر من موقف، منها واحدًا كان وحدهما تحت جناح الليل، لكن هل كل مرة ستتصرف بشقاوة لتقلب الغضب لصالحها أم أن طبعها الناري قد يتدخل ويحتدم الأمر ووقتها لا تعلم كيفية التصرف إن بطش بها.
دخلت مكتب والدها تجلس على كرسيه خلف المكتب الخشبي الأنيق، فتحت أحد أدراجه وقد قصدته بعينه، ولم يخب ظنها فقد وجدت ما جاءت مشتاقة لرؤيته، صورة تجمع شباب العائلة أجمعهم، وأخرى تحتوى على أبناء عمها المقربين، وهي و أخواتها.
كان الشباب واقفين خلفها وإيمان وهى جالستان على أريكة رخامية تنظران لبعضهما بطارف عينيهما بإغاظة، والشباب تتشابك أذرعتهم في تكاتف، حازم على أحد الأطراف مبتسمًا جزئيًا والطرف الآخر احتله عمران ضاحك الوجه ببشاشة، وفي المنتصف فريد ومروان ضاحكين الوجه بشدة، يومها كان يتهامسان وضحكا لتخرج الصورة والضحكة تملئ وجههما، ظلت عيناها غير مستقرة وكانت تطوف على وجوههم جميعًا، حتى استقرت على وجه عمران... استقرت حتى طالت نظرتها ودمعت عيناها وشردت في ليلة من الماضي...
كانت تحتل حضن أمها التي تمشط شعرها بيدها الاثنتين تهيمان في يوم زيارتهما لعمران في بيته وسط أولاده، همست تسبيح:
-هل تصدقين أن كل تلك السنين مرت وعمران ليس بيننا، لقد أصبح أب لطفلين... أمي هل تصدقين أنا أصبحت "عمتو الحرباءة" دون أن أدري.
كان همسها في البداية خاصة بعدم وجود والدها ما جعل زهيرة مطمئنة، لكن صرختها المتحمسة في النهاية جعلت أمها تكتم فمها بكفها وما زاد الخوف في قلبهما معًا دخول والدها سائلًا:
-أنتِ حرباءة بالفطرة يا تسبيح، لكن منْ مِن أبناء عمومتك قد أنجب لتكونين عمة.
توترا معًا، ونظرت تسبيح لأمها، التي كانت قد فكرت في مخرج وقالت:
-لا يا حاج يبدو أن تسبيح نسيت لقبها وكانت تستغرب قولها من إحدى...
رنين هاتف المنزل في ساعة كتلك، زاد من انقباض صدر زهيرة الذي كان يمتلكها منذ الصباح، ورفعت يدها لصدرها تدلكه فاقتربت منها تسبيح تسألها:
-ماذا يا أمي، هل ألم صدرك لا زال مستمرًا؟!
لكن صوت أبا عمران الذي صرخ في الهاتف عيناه أصابهما الاهتزاز في اتساع لا يصدق ما يسمع:
-ماذا تقول أنت؟ تأكد من الاسم يا ولدي.
استمع قليلًا، وعندما تحدث مرة أخرى كان صوته متهدج بأنفاس هاربة وشهقات بكاء رجل هزمته الحياة ووجهت له شر طعنة:
-لا نقول إلا ما يرضي الله، وإنا لله وإنا إليه راجعون.
صرخت زهيرة صرخة شقت سكون الليل وهي تتهاوى على الأريكة خلفها:
-يا عمرااااان... يا ولدييييييي.
أما تسبيح فحاولت اسناد أمها التي فقدت الوعي، وهي تتخيل أنّ والدتها يهيأ لها، لكن سؤال مروان لأبيهم ليفهم ما يحدث جعلها تصعق، وتضرب وجنتيها وهي تسمع إجابة أبيها:
-أخوك... أخوك يا مروان رحل عن الحياة، رحل قبل أن يسامحني!
تخشّب مروان مكانه واستفاق على لطم تسبيح لخديها واقترب منها يمسك كفيها يصرخ بها وهو يهزها كلها:
-ماذا تفعلين أنتِ؟ اجعليه يرحل بسلام، لم يستحق منكِ هذا.
همست ودموعها تجري بفيضان غير مسيطرة عليها:
-لقد مات... عمران مات تاركًا طفليه...
-تمالكِ يا تسبيح يكفي أمنا.
نظرت بتيه لأمها المتهاوية على الأريكة، ثم هزت رأسها هزات لم تعيها، فاستدار لأمه يحملها واخبر تسبيح بالاتصال بالطبيب، ومن أبيه أن يخبر حازم وفريد..
استفاقت من اجترار ذاكرتها بقوة وهي تفكر أن أمها أضحت ملازمة للفراش أكثر من سنة ونصف، فلم تحضر عرس إيمان الذي لم يكتمل، ولم تترك الفراش إلا مرة واحدة عندما عادت إيمان من المشفى وصفتها أبي عمران، ووصلها حديث والدها وإيمان وحازم "بالتأكيد أبني علم بما عمله عريسك الذي انتقم لنفسه ولابني، وأنا الذي أصريت على حفظ حقك واقامة الحناء عشرة ليال اكرامًا لكِ حتى بعد وفاته"
خاصة أن إيمان لم تصمت وردت له عبارة كانت سبب في فتح باب الحرائق في وجهها:
-لو كان يعلم أنكم ستأتون به كذبيحة معلقة لما فعل ذلك، لكن يبدو أنه شك في نخوتك يا عمي فلم تقدر غير على الفتاة"
وقتها كان حازم من صفعها صارخًا:
-هل المرض أثر على رجاحة عقلك؟
لكن أبا عمران لم يكتفي بذلك بل صرخ:
-واضح أننا فشلنا في تربيتك، يا عديمة التربية والأخلاق.
-أنا من ربيت أولادي كلهم يا حاج، ولم أقصر في حق واحد منهم.
كانت تلك عبارة زهيرة التي ولأول مرة تعترض على قول قاله زوجها، فلم يرحم ما تمر به من حالة مرضية ونفسية وصرخ وهو يضرب الأرض بعصاه:
-يبدو أنكِ أخذت نصيبها من التربية وابنك الآخر مروان الذي يعصي كلمتي وقمتِ بتوزعه على باقي الأبناء.
ثم غادر الغرفة بعاصفة تجرف من يقف أمامها، ورغم ذلك عندما تأزم الوضع بينه وبين جدة غرام التي كانت رافضة الزواج من مروان، وحاولت اقناع مروان بالزواج بهديل ثم الزواج بغرام، لكنه كان رافضًا رفض قطعي لهذا.
رفعت تسبيح يديها تكفكف دمعها تزامنًا مع دخول حازم للمكتب قائلًا:
-هل استيقظت يا عمي؟ لقد...
بتر كلامه وهو يراها تمسح دمعها لكنه لم يدرك ذلك، فاستدار سريعًا يغلق الباب خلفه وكل ما يفكر به هو أن أخيرًا اجتمعا وحدهما، فقد أصدر أبو عمران قرار بعدم خلوتهما بعد أن طلبها منه، التفت لها مجددًا يهمس:
-أخيرًا رأيتك وحدنا، فواضح أنّ قرار عمي جاء على هواكِ ولأول مره اراكي ملتزمه بالقرارات التي تفرض عليكِ
ابتسمت قليلًا وقالت وقد تحشرج صوتها أثر البكاء:
-نعم، وإن أمسك بنا أحد سأقر بالحقيقة، فليس كل مرة سأغطي على أفعالك.
رغم أن ما ذكرته أوجعه ففي كل مرة تذكر تلك الليلة، يتذكر رجفتها بين ذراعي شقيقته بعد أن نزعتها من بين ضلوعه، لكن آثار البكاء بتلك الحمرة المظللة حدقتيها لم يخف عن عينيه المتربصتين بها، ارتجاف يدها المفرودة على سطح المكتب... كل ذلك جعله يقترب يسألها بجزع:
-ماذا حدث لماذا تبكين؟
مع اقترابه لاحظ بنظرة أخرى ليدها أنها كانت مفرودة فعلًا لكن ليس على سطح المكتب مباشرة، أنما هناك صورة تجمعهم فأدرك ما حدث دون أن تتفوه بحرف، فهمس:
-رحمه الله عمران لم يكره في حياته قدر كآبتكِ!
ابتسمت مجددًا لكن تلك المرة ودموعها تعود فيضانها، وهمست بشهقات متقطعة:
-نعم... صدقت، لقد أخبرني يومًا أنه سيخفي هذا الأمر عن عريسي حتى يتم الزفاف، ثم يخبره بأمر كآبتي، أو يتركه يكتشفها وحده.
-هل قال هذا حقًا، هل كان ينوي تزويجك لغيري أم ماذا؟!
ابتسمت تلك المرة بأكثر ألم وهمست:
-كان يرضي رغبتي في عدم الزواج بك، فأنا أرفضك منذ زمن.
ارتفع حاجبًا شريرًا من قبل حازم، فأسرعت قائلة:
-في هذه الفترة كنت أعتبرك أخي كمروان تمامًا.
ظل حاجبه مرفوعًا، فتوترت وهي تتململ في وقفتها وهمست:
-ماذا الآن؟ ماذا قلت؟!
-هل قولك أنك تعتبريني أخاكِ هذا يصلح من موقفك؟!
فقالت ترمي كلامها:
-قلت لك كنت... أي هذا منذ زمن مضى.
صرخت عندما اقترب غاضبًا وعادت للخلف هامسة:
-تعقّل فقد أصرخ ويأتي كل من في المنزل.
-حسنًا يكون أفضل ليروكِ معلقة وأدور بك الضرب!
وقفت مكانها تفقد كل الصورة الهزيلة الضاحكة، فهمس بسؤالها:
-ماذا؟! لما توقفتِ؟!
-هل حقًا قد تفعلها يومًا؟
-ما هي التي أفعلها؟!
-أن تضربني أو تهينني.
جدية ملامحها أكد له ما كان يخشاه وهو أن تكون تسبيح لا تزال تهابه، عيناها اللؤلؤية السمراء في حالكتهما ولمعتها، طُفيَّ البهجة منهما، فهمس:
-ما لم أرتضه لإيمان لن أرضاه لكِ.
-لكنك صفعتها ذات يوم!
-كانت تستحق فقد أخطأت يومها في حقي، وكأنها سبتني جهرًا... لكن بعدها إيمان أخطأت في الكثير ولم أتعرض لها.
همست وارتجاف شفتيها أصبح ظاهرًا:
-لكني أكثر خطأً من إيمان، كما أن طباعي قد تفوق كل تصرفات إيمان.
قبض عينيها وهو يهمس بسؤال كالنصل في قلبه:
-هل هذا تراجع؟!
-لا، لكن إذا حدث وفعلت ذلك أنا لن أقبل بمثل هذه المعاملة يا حازم، وقد أكرهك... وأنا لا أريد لذلك أن يحدث.
شحب وجهه وظلل الحزن عيناه وهمس:
-تكرهيني، وطاوعك قلبك على قولها.
-آسفة يا حازم، لكن اكتشفت بعد كل هذه السنون الذي مضيتها في حياتي أني لم أفهمني يومًا، وأني لست أهوى من الحب معانيه ما يجعلني أتقبل الاهانة، أو أن أضحي في سبيل بقاء قلبي يحيى بجانب من يحب.
ظل ينظر لها طويلًا وقال:
-يمكنني الآن تركك وحدك، وأنهي تلك الخطب قبل تمامها في سبيل كرامتي التي اهدرتها لتوك، أو أنّ مشاعري تتغير تجاهك... وأكرهك.
كلمة الكره الأخيرة خرجت ثقيلة بلسانه وغام كيانه بمشاعر ازدادت توهجًا من منبع النبض بإسمها، لكن لم تمس عينيه وهو يسألها بقسوة وجفاء:
-حددي موقفك الآن يا تسبيح، ماذا تريدين... هل تريدين المضي قدمًا في هذه العلاقة أم تريدي انتهاءها.
توترت وهي تفرك كفيها هامسة محاولة صبغ نبرتها بمرح:
-بالطبع لا أريد انتهاءها، أنا فقط أطلعك على مخاوفي.
-حسنًا، هل تريدين اضافة المزيد؟
-لا.
كانت تلك الـ "لا" متلاشية مع الرياح، فهمس وهو يستدير خارجًا:
-حسنًا.
عاودت الجلوس على مقعد والدها وهي تفكر بما قالته، نعم أخطأت... لم يصدر عن حازم ما يجعلها ترشقه بسهام مسمومة متماثلة في كلماتها، لكن كان يجب أن يتفهمها، أن يتلمس في صغرها... خوفها منه الذي ما يزال يتشعب داخلها.
༺༻
أن تستباح كرامتك
أن تهلك روحك في مدارات الحب
المغنى على لسان كل عاشق
أن تفيق على من استل نقاطك الضعيفة
مشهرًا منها سلاحًا في وجهك
بعد أن كنت قد عريت كل عورات الضعف داخلك أمامه
بعد أن كشفت فداحة كل شعور كنت ترزح تحت وطأته يومًا
بعد أن أفضيت بكل شعور اختزنته لمن يملك فؤادك
وتسلمه كل مفاتيح قلبك كنت قد اخفيته عن الجميع
ويخذلك... يخذلك بكل خذلان يكسر كل قواك
ويكون سبب خسارتكما معًا
أمن يفعل كل ذلك يسمى حبيب؟!
༺༻
كانت صدمات رهف المتتالية أودت بكل قدراتها على الاحتمال وخاصة فقدانها لإبنها فتهاوى جسدها أرضًا وأطلقت العنان لعدة صرخات شعر تيم خلال صدورهم عنها وكأن حنجرته هو من أصابها الشروخ، سمعها تهذي كمن تلقى الجرح حديثًا، وكأنها فقدت طفلها الآن، لكن كلماتها لم تكن تنعي بها طفلها، بل كانت بها استنجاد وكأنها تشعر بالطعن، حيث هذت:
-ماذا فعلت لأستحق ذلك منهم، بما أخطأت ليحدث معي كل ذلك؟ كيف استطاعوا خداعي هكذا؟ كيف لهم أن يسيروا حياتي هكذا ثم يسلبون مني حق العيش بحقيقة واضحة وكاملة، بمن ألوذ، ممن أطلب العون... أشعر وكأن الكون اجتمع بضمان موافقة من الأقربين، لقد أصابني خنجر الأقربين... من أصدق الآن؟ لقد فقدت الثقة حتى في ذاتي، فكيف أثق بأي شخص الآن؟
كلها كلمات وجدت من الألم صداها في صدره يتردد بشعور يثير حمايته، شعور كمن يريد احتضانها ليس احتضان عاطفة أو شفقة إنما حماية أو امتصاص آلامها كلها داخله علّه لا يرى كل هذا الانكسار، شعوره يزداد ضراوة ولا يعرف إن استمر هذيانها المنكسر هذا كيف سيسيطر عليه، شعور لم يشعره تجاه أي أنثى من قبل حتى مع زوجته السابقة، كان يشعر بالخوف عليها والغيرة كأي رجل اقترن باسمه زوجة، لكن لم يشعر معها بهذا الانجراف في المشاعر، لم يتحول من رجل خلق للحرب والمطاردة لرجل تثير فيه أنثى كل مشاعر الحماية والشغف، هو لم يكن يومًا رجل ذا عواطف تزلزل كيانه، مهما ادّعى لأي أنثى أنه مغرم حتى أذناه، هي وحدها بكل قوتها ونظرتها المزلزلة لكل قوة وشجاعة داخلية تحلى بها يومًا مصدرًا كذبًا بأنه الوله العاشق حتى النخاع، لكن معها هو لا يصدر شيء هي تسلب منه كل ما يشعر دون مجهود مبذول من جهتها، أو حتى برضاه!
انتهى كل هذيانها أخيرًا، فجلس بجانبها أرضًا، وهمس:
-أنا قادرًا على العودة للواء وأخبره أني لم ألحق بكِ وأضعتك إن أردتِ.
نظرت له بأمل، فوجد نفسه يهرب بعينيه وهو يكمل:
-لكن هل ستقبلين بأن أؤمن لكِ مكان، وإن لم أجد ستباتين في شقتي.
اتسعت عيناها وصرخت:
-كيف سولت لك نفسك بأن تعرض عرض كهذا؟!
-بالتأكيد سأكون خارجه يا رهف.
-بالتأكيد جننت، أنت مجنون بالفعل منذ أن تعرفت بك!
ثم هبت واقفة وتنفض عنها الغبار صارخة:
-أخرج من هنا، لا أريد رؤيتك.
نظر لها بدهشة رافعًا حاجبيه وتلفت حوله ينظر في الأرض الصفراء الرحبة ثم عاد ببصره نحوها، فشعرت بالحرج، وقالت بهمس:
-بالطبع ستأخذني لعمي عصمت.
فتح كفيه سائلًا:
-ماذا برأيك؟!
أومأت برأسها وهمست:
-حسنًا، لنعود.
ظلت مغلقة عينيها طوال الطريق تجتر ذاكرتها بعذاب وتفتح عينيها بفزع، لتغلقهما مجددًا وتفتحهما جزعًا من ذكرى أخرى، ذكرى ضرب بلكمة أصابت وجنتها بجرح ظل يلازمها لشهور وألزمها البيت حتى ذهب أثره، وأخرى لطبق من الزجاج طار في الهواء غضبًا واستقر داخلًا عظمة أنفها وتسبب في كسر أدى لأجرائها جراحة لمداوة كسرها، حتى استسلمت للنوم، عندما أوقف السيارة استدار موقظًا اياها سريعًا لوجودهم داخل حيهما، فتحركت فزعة وهي تحمي بطنها صارخة:
-ابنيييي.
ظلت تستوعب أين هي، وما حدث ويبدو أن ذكرياتها لم تتركها تهنأ بالنوم وطاردتها في كوابيسها، وعندما استوعبت دمعت عينيها قليلًا تمسح عنها الضعف وتستدير هامسة:
-حسنًا، هيا لتسلمنــ...
بترت كلماتها وهي تجد نفسها أمام دار الرعاية التي تديرها، واستدارت وعيونها تسأله دون كلام، فأجابها:
-لقد أخبرت حضرة اللواء بأني أضاعتك في زحمة الطريق، أي لا مجال لأعادتك له.
انهى كلامه مبتسمًا، وقالت بعرفان وشكر نابع من أعماقها:
-شكرًا لك، شكرًا لك... لا أعرف كيف أشكرك؟
-سأطالب بشكري ورد الجميل قريبًا.
قالت بحرارة:
-فقط أطلب ما تريد، فأنا سأظل ممتنه لوقوفك بجانبي طوال العمر.
في داخله صوت صرخ فجاءة:
"بل أنا الذي أريدك أن تظلي بجواري طوال العمر، وسأحصل على ما أريد".
لكنه عوضًا قال:
-لنا شكر قريب، والآن هيا انزلي فهناك تقريعًا لم اتلاقاه بعد.
فهمت أي تقريع وممن فهمست بخجل:
-آسفة لتعرضك لهذا.
ثم خرجت تشيعها نظراته وقلبه يهفو خلفها... وأشواقه تصارع للقاء جديد رغم انتهاء موعدهم توًا.
༺༻
مظاهر الفرح منتشرة، والسعادة تكلل وجوه الجميع عدى القليل فالصغيرة تسبيح مدللة الجميع تزف لسيد رجال العائلة شموخ وعزة، وحدها من تعاني وهي تجلس بجانب أمها وتشعر بفتور حازم نحوها في الأيام الماضية، يلقي لها تحية جافة كما أنه توقف عن مراسلتها ليلًا، تهليل النساء بوصول الشيخ جعلها تبتسم سعادة مشوبة ببعض القلق، أنه عقد قرانها على ابن عمها الذي زلزل كيانها باعتراف ناري بعد حادث طريق!
نداء النسوة لها ورافقتها بعض الشابات للدخول الى مجلس الرجال لإتمام عقد القران، كان الشيخ يجلس أمام مكبر الصوت ينهي مقدمته في إجلال، وحينما انتهى بدأت المراسم بإمضائها وقول الشيخ في مكبر الصوت:
-بالرفاء والبنين إن شاء الله.
أطلقت الأعيرة النارية، واستقبل خروجها علو زغاريد النسوة في بهجة وسعادة، مع استقبال حضن أمها مباركة وسعادتها كانت كغنيمة ربحتها فاغترفت منها نصيبها من الفرح على وحيدتها، جميلتها التي أضحت في جمال البدر ليلة اكتماله، للأم راحة خاصة مصحوبة بحزن قليل لفراق ابنتها ليلة زفافها، خاصة إن كانت بحلا وشقاوة روح تملكها تسبيح، تملك من اللسان ما يحتاج للقص لكنها مناغشة للقلب، تناغش هذا وذاك، طاقة من الحيوية تتنقل على قدمين، طاقة لا تهدأ أو تفنى بعيد الشر.
ابعدتها أخيرًا تقرأ المعوذتين تحميها شر عيون حاسدة قاصدة أوغير ذلك، بينما تلقت تسبيح المباركات من الجميع عدا شوق التي وقفت في الزاوية تراقب فرحتها بحقد، حقد طفلة زرعته أم!
في الطرف الآخر من القاعة كانت غرام تقف تراقب هديل بعد ما اخبرتها به تسبيح في الهاتف وجعلها تعود أدراجها يوم أمس!
كانت قد قررت السفر لتعرف أين رهف وأين تبيت ليلتها فأقلها مروان لمحطة القطار في الصباح الباكر بعد أن اتفقا أنها ستعود صباح اليوم لحضور عقد القران، ولولا أن رهف باتت أكثر من ليلة خارج المنزل لما سافرت، لكن اتصال تسبيح وهي تخبرها بوجوب حضورها لأن هديل جاءت لتبيت تلك الليلة متحججة بفرحها بتسبيح مما سهل التفافها حول مروان وقربها منه، جعل غرام تنزل في أول محطة وقف بها القطار وخرجت منها عندما علمت بأن أول قطر سيصل ليعود بها للمدينة التي تنشدها يجب أن تنتظره أربع ساعات كاملة، فخرجت تطلب إحدى السيارات الأجرة على إحدى البرامج الهاتفية، وفي طريقها في السيارة فتحت النقطة الهوائية لوصول شبكة النت العنكبوتية لهاتفها، وبدأت تراسل تسبيح التي أرسلت لها صورة قامت هديل بنشرها على صفحتها على إحدى برامج التواصل الاجتماعي، كانت تجمعها هي ومروان وأرسلت لها رسالة صوتية:
-الهانم التقطت لها صورة وحدها مع كل شباب وشبات العائلة، حتى تحصل على صورة لها مع مروان.
كزت أسنانها وهمست بشر، وقد سمعها السائق:
-سأقتلها تلك الـ...
بترت السبة وهي تهمس بصوت مسموع مجددًا:
-لا... لا يصح، هي ابنة عم مروان في النهاية، لكن سأقتلها!
تتذكر جيدًا دهشة مروان وهي تتصل به وتخبره:
-الزم غرفتنا حتى أعود وإلا لا تلوم إلا نفسك عندما أحول حياتك إلى جحيم، أنا في طريقي إليك.
-ماذا تقولين؟ ألم تسافري؟!
-هل وافقت على سفري وأنت على علم بأنها قادمة؟!
-من تلك؟
-تلك المسمومة هديل.
-من أخبرك؟!
صرخت بشر حاقد:
-هل هذا كل ما يهمك؟!
-أين أنت يا غرام؟!
-أنا في سيارة أجرة عائدة إلى البلدة، وأن لم تبتعد عن هديل مسافة اغلاق عشرة أبواب على أقل تقدير، سأحيل حياتك إلى جحيم.
-أنا انتظر وصولك أمام باب الدار يا غرام.
قالها بنبرة أخافتها، ورجف لها جسدها وأغلق الخط!
-مجدددددًا.
صرخت بها مما أفزع السائق وهو يتنمى أن تنتهي هذه الرحلة على خير.
عندما اقتربت السيارة من الدار ورأت مروان واقفًا وبجانبه هديل، تضحك وهو يحاول الابتسام لها.
-أنه يبتسم لها، وواقفًا بجانبها أيضًا، ماذا يود أن يثبت؟
خرجت من السيارة الأجرة وكانت قد انقدت السائق أجرته، ثم دخلت إلى البيت ترفع رأسها بأنفة وظلت على مشيتها ومروان يعتذر من هديل ليلحق بها، وعندما دخل صرخ بها وهي تنزع عنها حجابها:
-كيف لكِ أن تتصرفي مثل هذا التصرف في بلد لم تعرفيها، تأجرين سيارة وتقيلك ماذا تعرفين هنا من طرق لتثقِ بالسائق.
لم ترد وفي حركة تستخدمها منذ طفولتها لتوقف أي جدال، خلعت سماعتها مما جعل ملامح مروان تستهجن حركتها فبحث في الغرفة عن أي ورقة وقلم ولم يجد، فاستخدم الهاتف وارسل لها:
'ماذا يمكنني أن أفهم بتلك الحركة الغبية؟'
انتظرها تقرأ الرسالة وانتظرها أن تكتب، حتى اكتشف غباء انتظاره، وكتب هو:
'ماذا تفعلين؟! تحدثي وارتدي سماعتك لنتكلم مثل البشر'
وصلته رسالة منها مما أغاظه، ولم يقرأها واقترب من سماعتها يمسكها واقترب منها يحاول أن يلبسها إياها، لكنها ابتعدت في رفض واشارت إلى الهاتف، ظل يكز أسنانه وهو ينظر إليها بغضب وتنازل يقرأ رسالتها في النهاية:
'ليست سيارة أجرة عادية، أنا طلبتها من خلال البرنامج، وكنت أتابع الطريق من الهاتف، أما عن الحركة الغبية أنا لا أريد سماعك ولا أريد الحديث معك من الأساس'
'أتصدقين أنكِ أنت الغبية وليست الحركة فقط، هل تدركين إلى أي مدى أثرتي ذعري لتأتيى وتتبجحي أيضًا، ثم ما سبب عودتك لما عدتِ'
سؤالها الأخير جعلها تصرخ غير شاعرة بصوتها مما جعلها تردي سماعتها وتصرخ من جديد:
-ماذا تقصد بلما عدت تلك؟؟؟؟ هل كنت تريد أن أخلو لك المكان لتنفرد بهديل المسمومة؟؟
-تخلي لي المكان لأفعل ماذا بالضبط؟!
غافلة عن نبرة الشك الحذر في صوته صرخت:
-لتحاصرك في كل وقت طبعًا، وتكون سعيد بما تفعله بذكورية طاووسية.
ابتسم ولانت ملامحه يحاول كبت الضحك الذي أصابه، لكنه لم يستطع كبت ضحكه أكثر وهو يقول وصوت ضحكاته تملأ الغرفة:
-يا مجنونة أنتِ، من أين لكِ بكل هذا الكم من الوصف "مسمومة، وذكورية طاووسية" ماذا أيضًا.
-لا تغير الموضوع، ولا تضحك.
ازداد ضحكه وعلى بقهقهته حتى أصابتها عدوى ضحكته لتبتسم أخيرًا ليهمس عندما تهدأ ضحكاته وهو يضم رأسها داخل صدره ويمسد فوقه:
-تغارين؟!
-لا.
-حسنًا، سأذهب لهديل لتغار هي!
زمجرت وهي ترفع رأسها عن صدره فضحك مجددًا وهو يقول:
-لا تكابري، تغارين؟!
كان يقر واقع ورغم ذلك أومأت برأسها وما زال يرتاح على صدره، فابتسم ولسانه يلهج بالحمد على السعادة الذي حصل عليها أخيرًا.
༺༻
أذكريني مرة ومرة بعد اكتمال العدد
وأذكريني مرات بين كل ومضات ذاكرتك
ولكن لا تجرحي رجل عاش يفتش عنكِ بين الطرقات
لا تسلبي منه حق العيش بكِ فائزًا مهنئا مبتهجًا
يتغنى بأن كان له نصيب من الهوىٰ رحب ليسع مجرة الألوان في عينيكِ راضيًا بتألق نجمتيك
حتى وإن كانت سعادتك رضا وفرح وليس حب ملء الفؤاد ففاض به مخزونه
༺༻
خرجت من المدرسة ورأته واقفًا على الجانب الآخر من الطريق مستندًا على سيارته يضع نظارته الشمسية فوق عينيه، وملابسة مهندمة باستفزاز يجذب نظر المراهقات إليه، ألقته بنظرة غير مبالية وهي تسير خطواتها نحو طريق الموصلات العامة، لتنتظر السيارة التي تقلها يوميًّا.
أما هو لا يصدق أن عيناه تكحلت برؤيتها بكامل بهاءها دون جهد مبذول منها لإظهاره، قامتها الطويلة وألوان ملابسها المختلفة عن لون الزي المدرسي للفتيات، هو ما ميزها بينهن، غير ذلك فمن يراها يعتبرها طالبة مثلهن، بملامحها الطفولية وحقيبة الظهر التي ترتديها بنفس انتفاخ حقائب الفتيات، هيئة تجمع الطفولة ببراءتها والأنوثة المنطوية بغطاء الخجل الحي على خديها بلونه الزاهي، عندما تلاقت نظراتهما، ابعدت هي عينيها في تعال وابتعدت بخطواتها نحو طريق السيارات، في حركة لم يفهمها فسار خلفها حتى اقترب من سيرها ونادى عليها همسًا وكانت آذانها مرهفة السمع من الأساس لكونها تتوقع خطوة كتلك منه فلما جاء لغير ذلك، فاستدارت تخشى أن يلفت انتباه الجميع من حولهما وانتظرت حتى وصل لها وسألته بنزق:
-ماذا؟؟
-ماذا ماذا؟؟ لم نكمل كلامنا...
قطبت جبينها وسألته:
-ألم تغادر البلدة دون سابق انذار، في رسالة واضحة أنك تراجعت عن تلك الزيجة.
-كيف هذا؟ لقد اتصلت واعتذرت لمرض شقيقتي، كما إني اتصلت لأطمئن على وصولكم لأني جئت انتظرك هنا كثيرًا، إذا كنت تراجعت لما سأتصل مجددًا؟!
-لحظة... هل اتصلت مجددًا؟ لتطمئن على وصولنا.
-نعم فلقد تأخرتم وبيننا حديث لم يكتمل بعد.
شردت وهي تضيق عينيها وكأنها تتوعد أحدهم، والحقيقة أنها لم تتوعد واحدًا بل كانت تتوعد شقيقيها الإثنين.
طريقة نظرتها جعلت كارم يخشى قطع شرودها أو أنه أعتبره فرصة للنظر لها طويلًا دون عائق أو خجل.
استفاقت من شرودها تمسكه بالجرم ينظر لها، فتحرج وهو يسألها:
-هل نكمل حديثنا؟!
-تحدث إلى حازم وحدد معه موعد.
وغادرت وهو يشعر أن قلبه سيجرح على يديها ولكنه لن يتنازل عنها، فبحثه بين بنات حواء لم يجد بينهن من يشعر بما يشعره تجاهها.
༺༻
أغلقت دفاترها الورقية والالكترونية وانتهت من كل أعمالها، فوقفت ترتب المكتب وتغلق زجاج نوافذه وفي إغلاقها لآخر نافذة لمحت سيارة بعينها سيارة ألقتها عصرًا على هذا الباب، سيارة عاد مقعدها إلى الخلف، لم تتبين في الظلام الكثير لكن شكوكها في أنها لمحت حركة داخلها جعلتها تعود سريعًا تنتشل نظارتها الطبية وترتديها لتتأكد شكوكها بيقين وجوده داخل سيارته ينام مرجعًا رأسه للخلف في استرخاء وهدوء، همست بغباء:
-ماذا يفعل هذا المجنون في هذا البرد خارجًا؟!
خلعت نظارتها، وارتدت سترتها الطبية علها تدفئها من البرد في الخارج، أنه الخريف حيث الدفأ الصباحي والبرد الذي يصبح أحيانًا قارص في لسعته.
خرجت من البوابة الخارجية، ورآها هو من مكانه بعد أن سمع صرير البوابة لكنه لم يكن يعلم أنها هي، فخرج سريعًا من سيارته ليستوقفها إن كانت ستخرج في هذا الظلام، لكنها لم تكن لديها النية في الخروج بل كانت خطواتها ثابتة نحوه حتى قبل أن يترجل من سيارته فابتسم ببشاشة يستقبلها بها لكنها لم تبتسم وهي تسأله:
-ماذا تفعل هنا؟! لما أتيت هل حدث شيء، ولما لم تدخل لتخبرني بما حدث؟ ماذا حدث تكلم؟
ظل مبتسمًا وهو يجيبها:
-مهلًا... مهلًا كيف سأجيب أنا الآن!
صرخت بفزع راجية أن يتكلم:
-ماذا حدث أرجوك؟ أنا لست حمل صدمة جديدة.
أجابها ببساطة:
-لم يحدث شيء، ولا يوجد صدمات من أي نوع، كل ما في الأمر أني لن أتحمل ذنب أن يحدث لكِ شيء وأنا من أتيت بكِ إلى هنا.
رسم الاستنكار ملامحها الحلوة ولم يزدها إلا حلاوة تشتهيها النفس، وهمست تكظم غيظها:
-عد إلى بيتك يا حضرة الضابط، ولا داعي للذنب فأنا وسط أطفال، مع فريق كامل من الممرضات والاخصائيات، والبوابة والسور محاطين بالحرس والكاميرات، كما أني ناضجة واتحمل نتيجة كل أفعالي.
ابتسم مستفزًا لها وهو يقول:
-حسنًا يمكنك الدخول والنوم قريرة العين وسط كل من ذكرتيهم وانسي أمري تمامًا.
-كيف هذا؟!
ارتفع كتفه في علامة بديهية بأن ما قاله منطقي جدًا، فجزت على أسنانها وهي تضرب الأرض بقدمها وتعود للدار وهي تنفس لهبًا هامسة:
-عدنا لأمور الاستفزاز، وأنا قد أحرقه الآن.
اختفت عن نظره خاصة بعد أن أغلق الحارس الباب، فتراجعت بسمته وهو يقول:
-يبدو أن الطريق طويل الأمد!
༺༻
في حفل الزفاف دخلت ملاذ تتأبط ذراع زوجها، بينما ناردين تدخل مع خالتها وأمها، خالتها التي لم تبتلع رجوع ملاذ ولم تبتلع حملها، فلم تكن مشكلتها رؤية ولي العهد أكثر من أن تتخلص من ملاذ، طوال هذا السنوات الماضية ولم تستطع ملاذ كسب ودها، فلم يكفها أن ابنها اختارها زوجة، ولم يكفها رؤية ابنها سعيد يهنأ في حياته معها، لا تفكر إلا في أنها أرادت ناردين زوجة ابنها، وملاذ جاءت لتسرقه بالسحر فلم تثق أبدًا بأن ابنها هو من أحبها قبلًا وأنفق الغالي والنفيس حتى أمال قلبها وملكه بشق الأنفس.
كانت ملاذ تمشي بشموخ وعزة بين أهل زوجها الذين جميعهم كانوا يرونها الزوجة صاحبة الكرامة التي دائمًا ما كانت تصرخ مطالبة بحقوق المرأة خاصة في الجريدة التي تعمل بها، وكل نشاط تفعله، كانت تصلها نظرات التشفي في عيون البعض، ونظرات الدهشة من البعض الآخر، دهشة سببها الأول أنها دائمًا ما ترفض تعدد الزوجات ولا تراه إلا اهانة وسبة من الزوج لزوجته، كلمات قالتها واضحة في أكثر من تجمع عائلي، لذلك لم تفسر تلك النظرات إلا استهانة بها، لكنها لم تستسلم بالانهزام وهي تدخل بإباء ترفع أنفها في شموخ.
اختار أنس الطاولة لهما ولباقي أسرته وقام بجذب أحد مقاعد الطاولة وأجلسها وجلس بجانبها ولم يكلف خاطره بأن يجلسهم بلباقة كما فعل معها وهذا ما علقت به خالته بعدما استقروا جميعهم، لتبتسم ملاذ باصفرار لكن كانت البسمة لم توجه إلا لناردين، بينما همس أنس:
-خالتي، ملاذ ليست غريبة لألا تعرف مقاطعتي لكم، كما أن كل هذا الجمع يعرف تلك المقاطعة منكن أنتن الثلاثة، لذلك رأيت ألا داعي لتمثيل أدوار ليست حقيقة.
كانت والدة أنس صامتة ولا تتحدث فقط نظرات حزينة توجهها لابنها أثناء حديثه، وثم ألتقت عيناها بعينين ملاذ التي كان وجهها صفحة من الرخام البارد، فكانت نظرتها تحمل من البرود ما يصيب بالصقيع، ولا تصدر أي شعور داخلها.
ظل الجميع صامتًا يتابع الحفل بعيون ميتة، ومشاعر خالية من أي دفئ، حتى هدأت الموسيقى والرجل المسؤول عن تنظيم الحفل يدعو الجميع لتناول الطعام، فمال أنس على ملاذ يسألها إن كانت تريد الذهاب معه لكنها رفضت، فسألها مجددًا إن كانت تريد نوعًا خاصًا من الطعام، لكنها رفضت مرّة أخرى فظل ينظر لها بحزن لكنها لم تحرك ساكنًا غير أنها حولت نظرتها بعيدًا عنه، فوقف متنهدًا وكانت قد سبقته ناردين ووالدتها، فلم يتبق غير ملاذ وحماتها على الطاولة، تكلمت والدة أنس بادئة الحديث:
-لقد جئتِ لمنزل ابني دون أن تزورين والدته، ولم تحدثيني هاتفيًّا لتسألي عن أحوالي.
ابتسمت ملاذ سخريتًا وتكتفت أمام صدرها وتعود بظهرها لظاهر الكرسي وقالت:
-كنت أسأل يا حماتي، وكنت لم أبذل جهدًا كما بذلت لأكسب رضاكِ لأجل أنس، لكن الحقيقة أني اكتشفت أن لا أنتِ ولا هو تستحقوا، وآه أخبريه بما قلت فقد أخبرته بذلك من قبل!
-هل تهينين ابني أمامي يا ملاذ؟!
-نعم، فماذا حصدت بعد أن حفظت كرامته وصنتها وكنت له الزوجة ودواءه الحلو من الحياة؟! لم أحصد شيئًا صدقًا أحدثك، ولأكون صادقة أكثر لم أحصد غير كرامتي المهانة تحت أقدامكم.
رفعت ذقنها ووجها دليل اكتفائها من الحديث لتقع عينيها على ناردين وهي تقترب من أنس وتبتسم بإغواء وهي تتحدث معه بعد أن رمقتها بتحدٍ ثم أمسك بمغرفة أحد الأطباق وغرفت في الطبق الذي يحمله أنس وهي تبتسم له، وتنظر لملاذ في الخلف ولسوء حظها أن أنس لمح نظرتها فاستدار ينظر لملاذ التي رفعت ذقنها بتعالٍ، فابتعد عن ناردين وهو يطرق الطبق الذي يحمله أمامها، وذهب ليأتي بطبق جديد، فابتسمت ملاذ لناردين نظرة أودعتها كل استهانتها بها.
بعد قليل انضمت ناردين ووالدتها للطاولة مجددًا لتقول ملاذ بصوت مسموع:
-يوجد أناس يجب دعس كرامتهم يومًا لكي يعرفو مكانتهم الطبيعية!
ظلت ناردين تنظر لها قليلًا ثم شرعت في تناول الطعام، أنضم أنس وهو يضع طبق أمام ملاذ، والتي زكمت رائحة المشاوي الضأن أنفها، فانقلبت معدتها في لحظة وشعرت بغثيان الحمل الذي جعلها تهب واقفة تكمم فمها تهرول نحو الحمام، فوقف أنس يحاول اللحاق بها فقالت ناردين:
-لن تستطع الدخول إلى حمام السيدات، سأذهب لها أنا.
نظر لها أنس بشك، فهمست:
-سأرد بعضًا من جميلك يا ابن خالتي.
وبالفعل انسحبت نحو الحمام وراء ملاذ، وأخذت تبحث عنها في أكثر من حمام يوجد في هذه القاعة لكنها لم تجدها وعندما لمحتها تخرج من أحدهم رن هاتفها في يديها وكان الرقم ضروريًّا اجابته، فلما رأت ملاذ تقف على قدميها وليست بحاجة لمساعدتها استدارت ترد على الهاتف، لكن لسوء حظها أن ملاذ رأتها وهي يزداد احساسها بالدنو خاصة إنها خرجت ولم تجد أنس في انتظارها، فذهبت تخبرها بكذبها، لكن لم تكد تقترب حتى سمعت صوت ناردين وهي تصرخ محتدة:
-قلت لك ألا تتصل بي مجددًا وأني أنا من سأتصل بك، إن شعر أنس أو أمه بشيء سيضيع كل تعبنا!
ظلت تسمع لما يقوله الطرف الآخر:
-العملية القادمة ستكون تفجير إحدى دور العبادة، لا تقلق سيكون كل شيء على ما يرام، أنا انتقم لزوجي يا ياڤن، ولن يحرص على أخذ انتقامي غيري انتظر فقط اشارتي.
كانت ملاذ في الخلف تتسع عيناها بإدراك يكاد يقتل باقي تعقلها... هل ما سمعته حقيقة؟؟ هل ناردين إحدى عناصر التشكيل الذين يبحثون عنهم؟؟ هل العدو في ديارهم وقريب إلى هذا الحد كأفعى سامة تتلون حتى تقنعك بما تريد... هل يحتضنون العدو بينهم بكل إخلاص!!
حاولت اصدار أوامر لعقلها بالاستدارة هاربة قبل أن تستدير ناردين خاصة وهي تسمعها تنهي المكالمة، لكن الشلل أصاب قدميها بل كل كيانها، ومع استدارة ناردين والتي لم تحتج للكثير لتعرف ماذا سمعت بالضبط؟؟ فالنظر لعيني ملاذ في تلك اللحظة يجعلك تفهم بما لا داعي للشك أنها سمعت كارثة كبرى!
༺༻
انتهى الفصل الحادي عشر
مش هقول قراءة سعيدة
بس هقول والسلام♡
وبراحة عليا عشان أنا غلبانة وصاحبة مرض")
دمتم♡


چورية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 30-08-22, 03:10 AM   #27

چورية

? العضوٌ??? » 505085
?  التسِجيلٌ » Jul 2022
? مشَارَ?اتْي » 40
?  نُقآطِيْ » چورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond repute
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة رودينا رونى مشاهدة المشاركة
لية الفصل مزلش بقاله كتير
آسفة جدا لتأخير الرد، بس كنت بمر بظروف معينة معلش


چورية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 03-09-22, 04:48 AM   #28

رودينا رونى

? العضوٌ??? » 497934
?  التسِجيلٌ » Jan 2022
? مشَارَ?اتْي » 61
?  نُقآطِيْ » رودينا رونى is on a distinguished road
افتراضي

جميل الفصل جدا متتاخريش على نزول الفصل بنستمتع على نار

رودينا رونى غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 11-09-22, 10:33 PM   #29

چورية

? العضوٌ??? » 505085
?  التسِجيلٌ » Jul 2022
? مشَارَ?اتْي » 40
?  نُقآطِيْ » چورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الثاني عشر
تسللت شمس الصباح المشعة من نافذة مكتبها، فأنارت الغرفة بغزو ذهبي يشبه ذهب خصلاتها، فداعب الشعاع الممتد وجهها الأبيض النائم، فتحت عينيها على مهل وهي ترفع كفها تمسد جبهتها تشعر بمطارق تطرق بحفل صاخب رأسها، وكيف لا وهي طوال الليل تذهب وتجيء من النافذة إلى الأريكة تراقب ذلك النائم في سيارته بأريحية نومه فوق فراشه، هبّت واقفة تتذكر وجوده في الأسفل فاقتربت من النافذة بسرعة لتجده داخل سيارته كما حاله أمس، استدارت تخرج من المكتب ومنه إلى السلم حتى وصلت للبوابة الحديدية وخرجت منها إليه.
سمع صوت صرير البوابة وهي تُفتح فنظر في اتجاهها بعيون مسبلة ورآها تخرج كعاصفة تشبه ما كانت عليها ليلة أمس، لكن هيئتها وشعرها ملفوفًا في كعكة غير مهندمة فرت منها بعض الخصلات هاربة من قيدها، سحرت عيناه... وسلبت عقله... وارتدت قلبه قتيلًا في عشقها، ظل متمسكًا بتمدده للخلف حتى استدارت حول السيارة قاصدة الوجهة التي يحتلها، فأغلق عيناه المسبلة يمثل النوم.
وقفت تراقب ملامحه ولغة جسده حتى تأكدت من ظنها، فطرقت زجاج نافذته بعصبية لترى تمثيله واضحًا في لغة جسده وهو يستيقظ، ومن أدرى بلغة الجسد مثلها! انتظرت بكل برود أعصاب تُحسد عليه حتى أتقن تمثيله في محاولة تذكره أين هو وماذا يحدث معه، وترجل أخيرًا من سيارته ينظر لها بتساؤل، دون أن يكلف نفسه عبء الحديث.
راقب تحوّل البرود في عينيها لشراسة غير مبررة من جهته غافلًا عن اكتشافها لتمثيله، مسحورًا بشعرها والنسمات الربيعية تطيره على وجهها فتنزعه بعصبية وهي تتحدث تسأله:
-لماذا لم تغادر؟ لا يصح ما تفعل... ماذا سيقول الناس إن رأوك بوقفتك هذه هنا بينما أنا أنام في الداخل.
رغم سحرها الذي خطفه على حين غرة إلا أن سؤالها استفزه لأبعد حد، فقال ببرود قنبلة تنتظر فقط فك فتيلها:
-هل أنتِ معتوهه؟! صدقًا أتحدث هل أنت معتوهه... أنت تبتين ليلتكِ خارج بيتكِ، ولا أحد من عائلتكِ يدري أين أنتٓ... وكل من في الدار معظمهم من الرجال... وتسألين بتبجح ما سيقوله الناس؟!!!
فصرخت أمام بروده وتنصيب نفسه حامي عليها:
-أولًا أنا لا أسمح لك بالاستهزاء بي... لا تقاطعني...
قالت جملتها الأخيرة بحزم قاطع وهي ترى ضحكته الساخرة ونيته في مقاطعتها ترتسم في عيناه، وأكملت ترتب كلامها:
-ثانيًّا كل الرجال في الداخل... هم الحراس المكلفين بحماية الدار، وهم يبيتون كل ليلة يحرسون الأطفال والمدرسات داخل الدار... هل سأعين حراس غير موثوق فيهم لحماية دار رعاية، وليست دار رعاية عادية أنها تكفل ذوي الهمم... ثم أن لا يحق لك محاسبتي.
كان مسحورًا بالاحمرار الطفيف المنتشر على صفحة وجهها نتيجة انفعالها، نعم فاحمرارها لم يكن نضر كما في البشرة البيضاء عادة، بل كان باهت... فبياض بشرتها الشاحب ما زال يطفو أكثر منه، تنحنح عندما لاحظ نظرتها المتسائلة نحوه وقال:
-يمكن أنه كان لا يحق لي محاسبتكِ، لكن بعد أن ساعدتكِ بمبيتك هنا وعدم اخباري لسيادة اللواء مكانكِ، يحق لي محاسبتكِ وكل ما يخطر في بالكِ حتى تقررين العودة لمنزلكِ آمنة.
-ليس لك شأن إن كنت آمنة أو لا.
-كيف ذلك؟ ضميري لن يرتاح لحظة إن حدث بعيد الشر لكِ مكروه.
اغتاظت منه ومن ردوده لذلك قالت بأعصاب قد تفقدها في لحظة:
-لكن ضميرك هذا يرتاح في الكذب والتمثيل.
نظر لها تيّم بصدمة وهمس بغباء:
-هل تحسبيني أني كذبت لأجل.
-بل لأنك تكذب عليّ أنا؛ أنا أعرف أنك لم تكن نائمًا داخل السيارة، ألا تعرف أن لغة الجسد هي تخصصي.
ابتسم بإحراج وهو يرفع يده ويمشط خصلات شعره ونظرته لها وهو مُخفض رأسه قليلًا، وهمس:
-يبدو أنكِ نجيبة في مجالكِ يا دكتور.
أجابته بذات الصرامة، تتجاهل النداء الذكوري الذي ناداها به:
-إن لم أكن نجيبة لما وصلت لأن أكون مديرة هذا الدار.
ابتسم فزادت وسامته وبالتبعية ازدادت ضوي النبض داخل صدرها، لما له أن يكون بمثل هذه الوسامة، لكن هي كبيرة كفاية لتردعه وقلبها عن الوقوع في ذات الخطأ مرة أخرى، هي حصدت نصيبها من الحب وكانت الزروع فاسدة من الجذور، أشاحت بوجهها بعيدًا كما بعد حركتها عن عمليتها المشهود بها، ذكرت نفسها جيدًا بتلك المرّة التي خرج فيها من مبنى عمله مع شابة أنيقة، كانت حزينة نعم لكنها كانت أنثى ناعمة تخطو برقة... هل يحسبها كما تلك المرأة سهلة المنال؟ هل يظن فيها السوء؟! ولما لا ومنذ قليل كان يخبرها بما في معناه أنها تبيت خارج منزلها ودون علم أهلها كفتاة تحمل العار! نظرت له عند خاطرها الأخير تسبر أغواره وتقبض على نظرته.
أما عنه فتأملها مجددًا منذ اشاحتها بوجهها بعيدًا، هذه الجميلة الرقيقة كواحدة من البسكويت خفيف الطبقات قوي المذاق في حلاوته، كيف لها أن تملك نابضه وكيانه في فترة قصيرة كما فعلت؟ أي سحر ألقته عليه في ساعة غفلة منه فغر أمامها قلبه، دائمًا ما كان متحكمًا في مشاعره، كم أوقع من فتيات في عشقه وتلاعب بالكثيرات دون قطع الوعود، كيف له بأن يسلم في حبها بمثل هذه السرعة، فالنظر لها قبلة... والسمع لها حياة... القرب منها كاقترابه لأجمل نجوم السماء وأبعدهم طريق، كم يود اختراق حيزها الآمن وسلب قلبها وعقلها وكيانها، أن يكون طريقها مداره ويصبح أحد أنفاسها أو كلها، أن يملكها كما فعلت معه تمامًا إنه يريد العدالة ولن يقبل بغيرها، فلا يحق لها بأن تكون كل اهتماماته ولا يكون محورًا في حياتها.
تلاقت نظراتهما عندما عادت بأعينها إليه، فزلزل كيانها وحار نبضها في حفل راقص كاد أن يوقف تنفسها، بينما كان يزداد قوة سحرها عليه في ضجيج لجة من مشاعر تجيش في صدره، من نظرة حزن اعتصرت فؤاده، فودّ لو كان بيده أن يحميها من كل حزن شعرته يومًا وكل وجع رسم محياها لامسًا وجدانها.
ظلا هكذا حتى وقفت سيارة أجرة على جانب الطريق خلف سيارته ولم ينتبها لها، حتى اقتربت خطوات ميسون منهما وأدارت رهف لها وصرخت بها:
-كيف لكِ بأن تجعلني أشعر بما شعرته ليلتين متتاليتين، لقد كنت أموت رعبًا.
شعرت رهف بالدوار في بادئ الأمر نظرًا لحالتها النفسية التي تمر بها منذ علمت الحقيقة، كما أن اضطرابها في النوم وشدة الصداع في رأسها ساهما أيضًا في دوارها، لكنها سمعت... وفهمت... وأدركت كل ما قالته ميسون فقالت ببرود قاسي:
-يا ليتكِ تشعرين بما جعلتينني أشعره في كل ألم تلقيته بسببك.
بهتت ميسون وشحب وجهها وهمست بخزي قليل:
-كنت أحميكِ مما هو أقصى.
ابتسمت ابتسامة وجع وهي تسألها بإقرار:
-ألا ترين أنني كبرت قليلًا لتحميني من قرار أنا الوحيدة التي من حقها اتخاذه أم لا!
-كان والدك رحمه الله أكبر منكِ عندما اتخذ قراره بالزواج بها، وماذا حدث... تزوجت أول رجل في طريقها!
-لأنها إنسان لها الحق في الحياة مرة أخرى.
-أنتِ يا رهف من تقولي هذا على أبيكِ.
صرخت بقهر:
-نعم لأنها أيضًا أمي التي لم تتخلَّ عني، بل أنتِ من باعدتِ طرقنا.
كان تيم يقف ينظر لهن في الخلف لا يعرف كيف يتدخل ليقف هذه الفضيحة التي ستكون معلنة بعد أن يكتظ الطريق بالمارة، لكن ميسون أعفته من التدخل بقولها:
-هيا بنا إلى المنزل وهناك نستطيع الحديث بحرية.
أجابتها رهف بهدوء مميت
-لن أعود إلى المنزل مرّة أخرى أنا لم أعد أثق بكم.
الألم القوي الذي احتلها هو صدى كلماتها، لكن هل لها حق العتب أو الشعور بالظلم! هذا جني زراعها، لكن ماذا كان بيدها غير ذلك، لن يعرفوا صحة ما قامت به إلا عندما يقتربوا منها وتلوث حياتهم كما فعلت مع ابنها الذي مات بحسرته على سمعته التي سقطت في الوحل.
تراجعت الجدة ميسون بخطوات بطيئة بظهرها للخلف، ثم شمخت بأنفها واستدارت نحو سيارة الأجرة التي رحلت مجرد ما أن دخلتها.
وظلت رهف تنظر في أثر رحيل السيارة والألم يطل من نظرتها بكل صورة قاسية على نفسها وأنفاسها، لماذا لم تكن الحياة عادلة معها يومًا، لماذا لم تحيا من الحياة ورديتها، لما لم تكن أكبر مشاكلها في الحياة همّ مشاجرة بينها وبين زوجها على وجبة طعام ينقصها بعض الملح، أو أن رئيسها في العمل يضيق الخناق عليها لتعمل بقدرة عشرة عمال معًا، أو أن طفلها لا يجتهد في مدرسته ويئست من إيجاد الحل لإصلاحه، عند آخر خاطرة أغمضت عينيها وهي تمسد فوق بطنها الخاوي من طفلها، لما مشاكلها معقدة وليس لها إلا الشعور بالألم النازف حتى أخر قطرة.
الوجع الذي رآه على جانب وجهها بعد أن اقترب خطوة منها، أثار شعوره بالحاجة لاحتضان أوجاعها، لكنه ظل أسير حاجته لأنه يعلم بأن العواقب ستكون وخيمة، ظل على وضعه في متابعة كل شاردتها وواردتها وكأن مهمته اليوم مراقبتها وما أجملها مهمة، حتى استدارت له وهمست بكآبة بعيدة عن البرود أو العصبية التي كانت تتحدث بها:
-يمكنك المغادرة الآن، فها هو الصباح قد حل، ولا يوجد ضير يحدث في الصباح.
راقبها وهي تنسحب بهدوء حزين وهي تفكر في صدق جملتها الذي يتمثل في الضرر الجسدي أو المادي بصفة عامة، لكن ماذا عن ضررها النفسي الآن، لقد تحملت ما هو أفظع عندما كانت ترزح تحت خاطرة "الابنة المنبوذة"، لكن يبدو أن عندما تصبح حياتك كلها كذبة في غفلة منك... هي ما لا تتحمله، كيف لها أن تغفر الآن، كيف لها أن تعاود الثقة من جديد؟!
༺༻
"فسوق"
هذه هي صورتها في مخيلته، بعدما أخبرته عن سابقتها في الحب ونسى أنها تقى ابنة بلدتهم وابنة أبيها، وتربت على كل مبادئ أمها وهو خير من يعلم تلك المبادئ، فصرامة أمها بهذا الصدد كانت تحاصرها منذ نعومة أظافرها، فحب الطفولة الحقيقي الذي وقعت به ولم يكن من الفكاك – كما ظنت – بل عاش دخلها عبر مراحل حياتها كما الجين الموروث خاملًا منتظرًا شعلةً تفجره، ولم تكن الشعلة إلا رؤيته مبتسمًا... وسيمًا... وهجًا... يخطف أنفاسها دون جهد كما يحدث الفوضى في دقات وجدانها، يختل توازنها في تمرغ بين منطق العقل الدسم في تحليله على قلبها، تكفي نظرة الغزل في عينه، والتي تطيرها بخفة تشبه خفة فراشة في تنقلها بين حقول مزدهرة الورود...
فريد لم يعد يراها النجمة الساطعة التي يمني نفسه بها...
"النجمة الساطعة"
يا له من لقب لذيذ يدغدغ مشاعرها، لقب كان يطرب آذانها في شعور كمن أتاها الحلوى وسكاكر العيد، شعور وكأنما طفلة سعيدة بفستانها الجديد للاحتفال، لقب دار عليه الزمن وتخمده تحت الرماد، دمعت عينيها لذكريات حاولت أن تدحضها بكل قوة تمتلكها يومًا.
شهقت وهي تغمر يديها في طبق ذرة الفشار تَكْبُش منه وتلتهم كبشتها وعينيها معلقة بكلمة النهاية التي زيلت شاشة التلفاز، وفي تلك اللحظة رن جرس الباب فقامت من مخدعها لتفتحه، ولم تكن غير تسبيح التي دخلت تصيح:
-أشعر بالاختناق وأود الحديث يا تقى، وحتى وإن كنت على خصام معك...
التفت لها تسبيح لترى عينيها الحمراوين متورمتين ببشاعة أخافتها، فسألت بجزع:
-ماذا حدث؟! عيناكِ تبدوان وكأنك ظللتِ تبكين دهورٍ.
رمشت بعينيها وأجلت صوتها ثم أجابتها:
-ليست دهور، كل ما في الأمر أني كنت أتابع فيلمًا حزينًا ليس إلا.
استدارت تسبيح مرة أخرى لتتأكد من الفيلم الذي أنزل ستار نهايته، ولم يكن إلا كوميديًّا ساخرًا لا يدعو للبكاء، ثم عادت لعينين تقى التي لم تبكِ يومًا على الأفلام مهما بلغت حزنها، ومنطقها كما منطق جميع من لا يبكون بأن "هذا ليس واقع"، تقى لم تتأثر يومًا بالأفلام، ماذا حدث إذًا؟! قالت تسبيح:
-إن كنتِ ستبدئين بالكذب والتنكر من جديد، فاسمحي لي بالمغادرة.
-تسبيح أنا أكره هذا الضغط، لكن كل ما في الأمر أني تذكرت الماضي.
قالتها وتحركت متهربة من نظارات تلك السابرة لأغوارها، لتجلس فوق الأريكة التي كانت تحتلها منذ قليل، وأعادت رأسها للخلف مغمضة العينين بإرهاق وتعب مضنيين على نفسها، لكن تسبيح لم تتركها لإرهاقها وجلست بجانبها تسألها بإلحاح:
-أي ماضي ذاك؟
تنهدت وهي تجيبها:
-أبي وأمي وأخي... عندما كنا نلتف حول طاولة الطعام وأنال تقريعًا لأني لا أجلس طويلًا وأظل أتحرك أثناء طعامنا... كم كنت محاطة بدفئهم، وكان البيت صاخبًا... انظري الآن إلى ما وصل حالي، وحيدة... منبوذة... أخي لا يفكر أبدًا بزياتي إلا إن كان أمرًا عائليًّا...
فتحت عينيها تنظر للسقف وما تزال ترجع رأسها للخلف، تنهدت هامسة:
-حسنًا، لا تقلقِ أنا بخير... فقط أصابتني كآبة سرعان ما ستعود أدراجها... الآن أخبريني ما الذي تودين الحديث به؟
نظرت لها تسبيح طويلًا، ومن معرفتها بصديقتها تعرف... بل على يقين أن تقى لن تدلي بحرف زائد عما تشعر به، لذلك قررت الحديث وتغيير الموضوع علها تخفف عنها ما تشعره، لذلك مالت تخطف طبق الذرة وتأكل منه وهمست:
-إنّ حازم تغير في تعامله معي يا تقى، وكأنما كان يريد أن يتم عقد القران وكفى... المهم أن أصبح له...
شردت عينيها بعيد وهي مستمرة في الأكل، فخطفت تقى منها الطبق وهي تسألها:
-دعكِ من هذا، وأخبرني كيف تغير؟؟ حازم يحبكِ ولا يفكر مثل هذا التفكير، بل هو كان يختلق الحجج ليبقى جانبك؟؟
-لا أعرف هو لم يحدثني منذ عقد القران، بل من قبلها بأيام قليلة... حتى بعد أن وصلنا إلى هنا لا يحدثني، حتى رسائله توقفت... حتى لم يعد يزورنا... سأجن.
سألتها تقى دون مواربة:
-ماذا فعلتي؟!
-لم أفعل شيء.
نظرت لها تقى طويلًا نظرة من لا يصدقها، فأجابت:
-صدقًا لم أفعل.
استمرت تقى على نظرتها، فتأففت تسبيح قائلة:
-أوووف، إن كنت قد فعلت فقد حدثته عن مخاوفي، أنا أخشى أن أكرهه يومًا!
-ما تلك المخاوف بالضبط؟!
نظرت لها تسبيح وبدأت سرد موقفها وعينيها ترسم ما حدث في مخيلتها، وعندما انتهت اعتدلت تقى وهمست مشدوهة:
-غريب لم تخطئي بشيء، ماذا بهم رجال عائلتكم يا تسبيح؟ هل عندما يكبرون يختل تفكيرهم؟
-تأدبي، هذا زوجي الآن!
ضحكت تقى وقالت من بين ضحكها:
-حتى البنات مختلات أيضًا!!! ألم تكوني تشكوه الآن؟!
ابتسمت تسبيح هامسة:
-أشكوه نعم، لكنه حازم ابن عمي، وزوجي الآن...
نظرتها الحالمة جعلت تقى تبتسم وهي تقول:
-هذا من باب أدعو على ابني وأكره من يقول آمين؟!
تنهدت تسبيح هامسة:
-نعم، شيئًا من هذا القبيل.
ضحكت تقى، ثم تكلمت بجدية:
-لما لم تحديثه أنتِ، أو أن تراسليه... ألم تخبريني أنه كان يحدثكِ، لما لم تفكري بسؤاله عن تبدل أحواله، وإن كان غاضبًا وتسألينه... أعتقد بهذه الخطوة قد تتقربين منه، وقد يهيم بكِ أكثر.
ومع آخر جملتها نظرتها أصبحت خبيثة، فابتسمت تسبيح وتعض على شفتيها السفلية حتى ابيضت، ثم همست:
-يا لكِ من ماكرة يا تقى.
وهكذا ظلتا الفتاتين متجاورتين حتى مساء اليوم.
༺༻
عيون نمرة شرسة لكن شراستها هادئة وخاملة في ابتسامة ملتوية، في مقابل عينين لـ -أم- سوداوين يظهر فيهما نبض الخوف على طفلها، مسدت ملاذ بطنها قليل الانتفاخ بحماية وتحاول التراجع بقدميها للخلف ولمحتها ناردين بعيون ثاقبة، لتقول بقوة شرسة وهي تمسك بكتفها وتديراها:
-إلى أين تحسبين نفسكِ هاربة؟! وكيف لمخيلتكِ الضئيلة تلك أن تصور لكِ أنني من الممكن أن أتركك تفرين بعد ما سمعتِ يا لكِ من غبية حقًا؟
امتلأت عيون ملاذ بالجزع والخوف المزلزل، وقالت ترجوها:
-أرجوكِ أنا لن أخبر أحد بما سمعته، فقد اتركيني وابني... أرجوكِ فقد تمنيته لسنوات ليست بطويلة لكني تعذبت حتى حصلت عليه... ماذا تريدين؟ سأطلب الطلاق من أنس إن أردتِ... هو لك... لكن أرجوكِ أتركِ لي ابني...
همست ناردين بفحيح:
-هو لكِ...
قاطعتها ملاذ بالشعور الممتن، وكيف لا وهي عتقتها وابنها معًا:
-شكرًا لكِ، وأنا سأطلب الطلاق وسأصر عليه أيضًا...
وكان لناردين تلك المرة الدور في مقاطعتها:
-لا أنا لست شريرة لأخرب بيتكما ويصبح ابنكما بنفسية مشوهه بسبب طلاقكما...
لم تكمل متقصدة جذب انتباهها وهذا ما حدث لملاذ مع التساؤل الصامت في عينيها لتكمل نارين وهي تقترب منها بخطوات بطيئة مدروسة ونظرات ماكرة في خبثها:
-ستسافرين إلى الخارج في ظروف غامضة ولا يعرفها أحد، لينشغل أنس في البحث عنكِ وأتدبر أنا أموري... فلا أخفي عليكِ سرًا، لقد جئت استفزك لتعودي إليه وينشغل في أحوالكم ومصالحتكِ... لكن يبدو أنكِ خائبة الرجاء في كل شيء.
همست ملاذ بشعور الضائع في متاهة مستحيلة الحل:
-لكن كيف سأتصرف في بلد غريب وحدي، وحملي كيف سأنجو به في مخاطر بلد غريب... ووقت ولادتي من سيكون بجانبي...
واستكملت داخلها "وما ذنب أناس يموتون ضحايا لانتقام غير مبرر"...
أجابتها ناردين بهدوء كمن يخطط منذ زمن، لكن الوضع ليس كذلك... فهي تعلمت من زوجها وخبرته "إن قالت كلمة تكون محسوبة الأركان":
-سيكون هناك من ترعاكِ، وستكونين تحت مراقبة منها ومن حراس المسكن... سيعدون أنفاسك وخطواتك... فلا تحاولين تشغيل عقلك الصدأ هذا...
قاطعتها ملاذ توقف سيل الإهانة التي لا تتقبلها في العادة، لكن يبدو أن كلمة "أم" لها من السحر بلون مفرقعات العيد، ومن الصوت هدوء يخمد ثورة الطيش الذي تتحلى به، فهمست متغاضية عن الإهانة:
-وكيف لي أن أضمن ألا تؤذيني أنا وطفلي بعد سفرنا...
-لا يوجد ضمان، لكن فلتحسبيها بعقلك... أن تبقي هنا خاسرة طفلك، أو تسافرين وربما يسعدك الهرب مثلًا.
صرخت ملاذ بهستيريا:
-لما تفعلين كل ذلك؟ ماذا فعلنا لكِ... كل ذلك لأنه لم يحبك... إن القلوب ليس لنا عليها سلطان.
-لا ليس لأنه لم يحبني... فلقد تركته ليتزوج بكِ... بحبيبته، بل تركت له البلد بأكملها، رغم أننا منذ الصغر ونحن مخطوبين وهو في فترة من فترات حياتنا مارس هذا الدور بجدارة، وكان يعد أنفاسي ولم يتوقف عن هذا إلا بتدخل أمي وهي من أوقفت تدخله في حياتي...
صمتت تلتقط أنفاسها، ثم صرخت بها:
-لكنه لم يكتف بأن رفضني، بل قتل زوجي... قتل من لملم بقايا نفسي بعد أن طعنت بسكينته، وداوى البقية تلو الأخرى داخلي...
هدأ صراخها بعد أول جملة، وأكملت بهدوء مستسلم، وعادت تصرخ من جديد:
-ماذا كنتِ ستفعلين إن كنت مكاني؟!
وجدت ملاذ صوتها أخيرًا بعد فترة صمت كانت خلالها مشدوهة لتقول بصعوبة:
-وكأنني أتحدث مع مجذوبة فقدت عقلها... أنتِ تتحدثين وكأنكِ لا تدركين من كان زو... يا إلهي أنا حتى غير قادرة على نطقها، أنتِ تزوجتِ من رجل تعرفين ما كان عليه قبلنا جميعًا... هل ما فهمته صحيحًا هل تزوجتِ رئيس تشكيل عصابي، يا إلهي!!!
استدارت ملاذ تمسد جبهتها وهي تشعر بالاختناق، فقالت ناردين وهي ترى أنس يبحث عنهم من الجهة المقابلة:
-أمامك يومان تفكيرين بهما، وتختارين بين الأمرين... إما السفر آمنة بطفلكِ أو أن يموت قبل أن يرى نور الحياة... تماسكِ قبل أن يأت أنس ويراكِ بهذا الحال فهو في الجانب الآخر، ولا داعي لتذكيركِ إني قد أمحيكِ وطفلكِ إن ذل لسانك...
نظرت لها وهي تشعر أنها تتحدث لشخص آخر ليست هذه ناردين التي كانت تتناطح معها في الحديث، كيف أوصلها حقدها عليها بسبب حبها لأنس لهذا الطريق الذي نهايته مسدودة.
وصل أنس لهما في وقفتهما وقال مبتسمًا وهو يمسد ظهر ملاذ:
-لما تأخرتما، فيما كنتما تتحدثان.
نظر لملاذ التي كانت تنظر له، والمآساة ترتسم بعينيها بقسوة ما سمعته وفي داخلها ترتج جملة:
"ماذا فعلت بنا؟ هل تزوجتها وأنت تعرف بحقيقة ما سمعته؟ ماذا فعلت بنا؟ ماذا فعلت بنا وبابننا؟!"
ظل ينظر لها وهو يحاول فهم حالتها تلك، ثم نظر لناردين وهو يفسر أنها أثارة غيرتها بشكل أو بآخر، همس في داخله:
"كيف لي بأن أعيد xxxxب الساعة يا ابنة خالتي وأمنعك من السفر بكل طريقة عرفتها يومًا؟ كيف سأدافع عنكِ... كيف سأخرجك بما ورطتِ نفسك به؟!"
همست ملاذ تجذب انتباهه:
-أريد أن أغادر أشعر بتوعك والغثيان يزداد.
نظر لها قال:
-هذا واضح على وجهك، هيا بنا.
وفي مآرب قاعة الحفل وهم يهموا بالولوج داخل السيارة أتتها رسالة على هاتفها، فتحتها وهي تنتظر أن يأت أنس ويفتح السيارة، وكان نصها:
'نسيت أن أخبرك، في كل ركن من منزلك وأنس به جهاز تصنت كما منزل سيادة اللواء، كما أن جميع هواتفكم مراقبة... أي أنكِ محاصرة، فلا داعي لعمل عقلك بطريقة أو بأخرى'
رفعت رأسها تنظر لنادين وهي تدخل مع أمها وخالتها المستندة على ذراع أنس، ودموع القهر والحسرة تلمع في عينيها.
༺༻
في المساء جلست في فراشها وتمسك بين يديها هاتفها تفكر في نص رسالة ترسل له، فهي لم تعتاد الاعتذار مطلقًا، ولولا أنها رأت في كلام تقى النصيحة السديدة لما فكرت في هذه الخطوة من الأساس، فتحت الهاتف، وبدأت تصيغ كلماتها وترتبها، تريد رؤية وجهه عندما يعرف أن الرسالة منها، وبعد أن يقرأ مضمونها:
'مرحبًا، لقد انتظرت تهنئتك لي كعروس تم عقد قرانها منذ ذلك اليوم، لكن يبدو أنك عدت لفقد معايير اللباقة من جديد، حسنًا... أريد أن أخبرك بأن حفل تخرجي في نهاية الأسبوع، وكنت أود أن يكون زوجي بجانبي، لكنه يبدو أنه ملّ مني منذ أول يوم اقترن فيه اسمينا، لذلك سأذهب ليوم تخرجي وحدي'
الدقائق تمر وتأكلها غيظًا هو ليس موجودًا على موقع التواصل من الأساس، وذلك يغيظها أكثر... ماذا يفعل في مثل هذه الساعة غير متابعة مواقع التواصل الاجتماعي.
مرت الساعة تلو الأخرى حتى غافلها النعاس، وأمر عليها سلطان النوم، فنامت والهاتف في يدها مفتوحًا...
༺༻
أما في البيت الأخر وقف فريد متخصرًا يتنفس بخشونة، ثم استدار يسأل إيمان:
-لا أفهم ما الذي تريدينه، هل تودين الزواج منه أم لا!
-لا أعرف، أخشى التجربة من جديد، أنا لم...
جن جنون فريد وظهر الشر في عينيه جليًّا، بينما ضرب حازم أحد كراسي الطاولة بقدمه وصرخ:
-تجربة ماذا؟؟؟؟؟ هل تعتبرين الزواج تجربة؟!!! أنا لم أعد أتحمل أفكارك تلك، لقد صبرت عليكِ كثيرًا متفهمًا صعوبة ما مررتِ به في "تجربة" زواجك الأول الغير مكتمل، صبرت لتتخطي الألم لكن أنتِ لا تفعلين شيء إلا الانغماس في دائرة محكمة وقع عليك الظلم داخلها لكن في قاموسك لا يجد فيه... النسيان، التجاهل، التخطي... أن أكون أقوى، أن أحارب ظلمي لأجل من حولي، رغم كل من حولك حاولوا كثيرًا مد يد العون لتخرجي من هذا...
توقف ليتنفس وتكلم صارخًا من جديد:
-الآن، أمامك للصباح لتفكيري جيدًا في قرارك النهائي، إما نعم... إما لا، وفكري جيدًا بعقلك وقلبك... فنحن نستحق منكِ ذلك.
ثم تركهما ودخل إلى غرفته، فبقى فريد ينظر لها وحين تكلم قال:
-لقد فعل حازم الكثير في سبيل اسعادكِ وخروجكِ من شرنقة سجنتِ نفسك داخلها، لكنكِ لا تقدرين إلا نفسك وفيما تشعرين، لم أكن يومًا متسامح تجاهك ولولا حازم لكنت كسرت رأسك اليابس منذ زمن، فأكرامًا لما عاناه شقيقك الكبير لأجلك أتخذي قرارًا منصفًا لمرة!
ثم تركها وحدها ودخل إلى غرفته هو الآخر، وظلت هي تنظر أمامها طويلًا ويمر شريط أيامها بعد فضيحة زواجها، صفعات مادية هبطت فوق وجنتها، وصفعات معنوية تمثلت في جمل ذابحة هبطت فوق كرامتها تدميها، لقد نزفت من الآلام الكثير أضحت لقمة مساغه في أفواه الجميع، تلوكها الألسن هنا وهناك، تحملت صدمتها في الحبيب الأول دون أن تهتز كالطود العظيم، ولم يرحموا صدمتها وما تعانيه منها حتى يطعنوا عفتها، حتى عمها حاذى حذوهم وكأنما أمانة أخيه فقدت نقائها فوجب التخلص منها سريعًا.
عند الخاطرة الأخيرة صرخت صرخة مكتومة موجوعة وهي تدفن رأسها بين يديها، ثم رفعت قدميها وهي تتكوم على نفسها، كم تحتاج أبيها بحكمته ودهاء نظرته، إن كان موجودًا لكان أخبرها ما يهدئ من شعورها، للمس أعمق ألم داخلها وطيّبه بين يداه وأهداها الراحة بين كلماته.
༺༻
بينما كان حازم يقف في نافذة غرفته يتنفس من الهواء العليل عله يهدأ من ورع شعوره، لقد يئس ورفع راية الاستسلام في محاولة عودة إيمان إلى نفسها زاهية براقة لامعة، وقلبه الولع الذي ينام الليل يفكر في جميلة هربت متسللة لتسرقه وأمست عائدة إلى حيزها السالم... تنهد وتنهيدته ألمت صدره...
كان فريد يتمدد على فراشه ورأسه تتوسد يداه الاثنتين فوق الوسادة، وعينيه شاخصة في السقف ولكن ذهنه أبعد من حيزه... بعيد عند الأميرة الضائعة لسنوات وعندما تلاقت دروبهم أخيرًا، اكتشف أن الأميرة استبدلت بواحدة أخرى من جنس حواء... واحدة على النقيض من تلك التي ملكت نابضه...
وإيمان في الخارج تبكي قهرًا وظلمًا، تريد الخلاص أكثر مما يريده لها الجميع، لكن هناك شعور جاثم فوق صدرها يؤلمها، هي تريد أن تتخطى الألم أكثر من أي وقت مضى، لكن كيف؟....
༺༻
وخارج حدود هذا المنزل وعلى بعد طويل، تمددت أم حديثة الأمومة أو ليست بعد، تمسد فوق بطنها وتنظر في البعيد تحاول التفكير في مخرج من تلك الورطة، عيونها دامعة تبتهل إلى الله بصمت بأن يخرجها من بين يد الظالمين دون خسارة...
بينما أنس يجلس فوق أريكة صالة الاستقبال يفكر في كيف يحاول اثناء ملاذ عن فكرة الطلاق، لن يجازف ويخبرها حقيقة ناردين، لكن نفذت كل الحلول، وإن استيقظت يومًا تطالبه بالطلاق لا يعرف ماذا سيفعل...
༺༻
وبينما رهف تبكي في مكتبها وألم صدرها يزداد ضراوة على سنين ضاعت في بعدها عن أمها، وعن سنين غفلت فيها عن جبروت جدتها وقسوتها...
كان تيم يقف مستندًا على سيارته ينظر إلى نافذة مكتبها المضاءة ينتظر أن تطل منها كل حين كما ليلة أمس، فيبتسم لكنها لم تمنحه تلك الابتسامة...
༺༻
أما عن غرام كانت متوسدة صدر زوجها تبكي حرقتًا على رهف التي رفضت استقبالها ومقابلتها، كانت تريد أن تكون نعم العون لها في هذا التوقيت، لكن لم تسمح لها، ولها الحق، فلقد خدعتها بأن خبأت الحقيقة ولو لأيام قليلة...
ومروان كان يهدهدها كطفلة رضيعة ينظر إلى وجهها المحتقن كل حين، وكأنما كتب عليهما الحزن، وعدم اكتمال سعادتهما...
وبالغرفة المجاورة حيث تلك الجميلة التي فرت دمعتها وهي في سبات عميق، دمعة تدل على ليالٍ قضتها في بكاء، فارتبط دمعها بالتوقيت كارتباط شرطي، ففرت الدمعة تسألها الغياب...
وفي الشقة المقابلة وقفت تقى ترتبت صندوق الذكريات وتعود به إلى مكانه تحت الملابس الغير مستخدمة كثيرًا، بينما دموعها تغرق وجهها بسخاء...
༺༻
واثنان من الرجال التفا حول مائدة طعام العشاء، ولم يستطع كارم الاعتذار عن الطعام بعد أن انتظره والده لساعات طويلة، فكان يتظاهر بالأكل إلا إن افكاره تتناطح بشأن مماطلة حازم في اعطاء كلمته مما يعطيه مخيلة عن أن إيمان ترفضه وهم يضغطون عليها لتقبل، وهو لن يقبل بزوجة ترفضه حتى وإن طاف الأرض باحثًا عنها...
والكل يبكي على ليلاه
ويقف على أطلال الحبيب
جوىٰ تغرق في ظلمة حب بائس
وقلوب مهترئة في العشق
وأَجْنَانٌ أصابها الهلاك حيرة في الهيام
أفئدة ذاقت الشقاء مرة بعد المليون مرة
وهل انتهى الشقاء عند هذا الحد
تنهيدات شغلت الصدور بآلام مبرحة
وجروح يخرج قيحها...
༺༻
في الصباح عندما خرجت الشمس بنورها الوهاج تضيء الأرض وربما القلوب وتعمرهما بضجيج الحياة دون صخبها.
لم يغمض عينيه راحة، وكان يحسب الدقائق لبزوغ النهار، يريد أن يعرف قرارها النهائي ليخبر كارم أن يأت وأسرته ليطلب شقيقته رسميًّا، لا يعرف أي خيبة ستصيبه إن أخذت إيمان قرارها بالرفض، فتح هاتفه يحاول إلهاء تفكيره بعيدًا عن ذلك الموضوع.
لم يصدق عيناه وهو يرى رسالة منها، تسبيح تبادر في ارسال رسالة دون أن يراسلها، يا له من يوم! زحفت الابتسامة إلى فمه وهو يرى كلماتها وفكر أن:
"هو من لا يعرف اللباقة وهي مستشارتها بالتأكيد هل هذه فكرتها عن الصلح... آه يا تسبيحي... تسبيحي أنت أم تكفيرًا لذنوبي..."
ابتسم واقترب من النافذة يحاول الاتصال بها علّها تكون مستيقظة، لحظتان من بدء الرنين وفتح الخط، ووصله كلمة واحدة "مرحبًا" بصوتها محشرجًا، ثم انقطع الاتصال دون سابق انذار!! فهمس:
-يبدو أنكِ تكفير لذنوبي حقًا!.
༺༻
أما عنها فقد استيقظت على رنين هاتفها مجفلة تنظر له بنصف عين وقرأت الاسم حتى هبت قائلة:
-مرحبًا حازم... صباح الخير.
لكن عندما لم يصل لها صوته نظرت بدهشة إلى شاشة الهاتف، ووجدت أن البطارية قد فرغت، ضربت جبهتها بكفها وذهبت توصله بالشاحن، ولا داعي لذكر كم كارثة أحدثتها وهي تفعل ذلك، ولما نجحت اسرعت ترسل له:
'عشرة دقائق وسأتصل بك فقط يكتمل شحن الهاتف ولو قليلًا، لا تذهب'
لم تر بسمته وهو يخرج من الغرفة عازمًا معرفة قرار إيمان، وهو يقرأ رسالتها وكتب:
'لا داعي سيدة الحسن والدلال، سأمر عليكِ عند الظهيرة لأشتري لك هدية التخرج'
كانت تود الحديث معه ولو قليلًا لكن الظهيرة ليست ببعيدة.
وذهبت تتناول الفطور وقبل خروجها تذكرت هامسة:
-لم يبارك لي لعقد قراننا!!
༺༻
تجلس في شرفة منزلها بعد أن تأكدت من غلق المزلاج جيدًا فلم تعد تضمن جلوسها داخل منزلها آمنة! ما هذه السخرية السوداء؟ في أحلك أوقاتها حزنًا تسخر من وضعها في منزلها، رنين هاتفها في الداخل جعلها تقف وتجر قدميها جرًا نحوه، وجدت اسم شقيقها، تنظر له بشجن وكأنما مرّت السنين على رؤيتها لصاحب الاسم وكأن اليومين المنصرمين بكل أحداثهم الثقيلة والقوية في مذاقها المر، فتح الخط تهمس باشتياق لأخيها:
-مرحبًا يا كارم، كيف حالك؟
ابتسم كارم على الجهة الأخرى، وهمس:
-كيف حال ملاذي ذات الرأس اليابس، وكيف حال حبيب خالو...
أنزلت نظرتها لبطنها وهي تمسد فوقه بحنان وقالت:
-بخير يا حبيب أختك... نشتاق إليك كثيرًا فقط.
-إذًا دعينا نتقابل.
-حسنًا، أين نتقابل؟
-سأرسل لك الموقع.
-حسنًا.
لو في وضع آخر لكانت وبخت كارم على أنه لا يريد زيارتها في منزل الزوجية الخاص بها وأنس، لكن كيف تفعل؟ ربما وقتًا آخر بعد أن تخبره ما حل بوضعها، نعم هو كارم من سينقذها... فهو بعيد كل البعد عن المراقبة، هو خارج دائرة الانتقام وبعيد عن القوات، يمكنها اخبراه لينقذها...
وقفت تسرع نحو غرفتها ترتدي ملابسها سريعًا، وفي أول سيارة أجرة ركبت فيها لتقيلها إلى الموقع الذي أرسله كارم والذي لم يكن سوى مطعم حديث الطراز مفتوح في الهواء، جلست على طاولة اختارتها ووصل كارم بعدها بدقائق قليلة، لم تستطع الترحاب به حتى، بل مالت للأمام على المنضدة بينهما تهمس بخفوت:
-كارم أود أن أخبرك شيء في غاية الخطورة، أنا وابني في خـ...
لم تكمل جملتها وهي تلمح ناردين على بعد قليل، ثم رنين رسالة وصلت إلى هاتفها، فتحت حقيبة يداها تبحث عن هاتفها بجنون حتى وجدته، وفتحت الرسالة والتي كان فحواها:
'أي أم أنت تريد خسارة ابنها بسهولة، وأخيها أيضًا، فكل فرد سيعرف ما يحدث بينا سيلقى حتفه في لحظتها، فتعقلي يا غريمتي'
وفي نهاية الرسالة وضعت وجه يبعث قبلة هوائية.
رفعت ملاذ عينيها دامعة تنظر لها من بعيد، بينما كارم يهتف:
-ماذا هناك يا ملاذ، أنا لا افهمك، ماذا بك وبابنك.
عادت بنظرها لأخيها تهمس:
-أنا وابني نحبك كثيرًا.
لم يكن كارم مقتنعًا مما قالته، فسأل:
-هل هذا فعلًا ما كنت تودين قوله؟!
تلجلج صوتها فأومأت بالإيجاب، فقال كارم بحماس:
-لقد هاتفني حازم شقيق إيمان، وأخبرني أن أحدد موعد يناسبنا لنذهب لطلب يد إيمان، هل تصدقين؟! لقد كدت أفقد الامل في موافقتها.
رغم انعدام تركيز ملاذ في حديث، إلا أنها ابتسمت باهتزاز يشبه زيغ نظرتها المرتعبة، وسألته:
-حقًا، مبارك... مبارك يا حبيبي، متى إذًا المقابلة؟
-لم أفاتح أبي بعد، فقد بعد انتهاء المكالمة بيني وبين حازم اتصلت بك وتقابلنا...
حاولت الابتسام تلك المرة بصعوبة أكبر وهي تهمس:
-مبارك يا كارم، أخبرني موعد المقابلة.
-بالتأكيد، فأنت ستأتين معي... أليس كذلك؟!
-بالطبع، وهل لي أخوة غيرك أناكفهم في تلك مناسبات، لأضيع عليّ تلك المقابلة!
ضحك كارم وعاد رأسه للخلف ولمّا هدأت ضحكاته بقيّ جمال بسمته الوسيمة تحتل وجهه.
༺༻
ذهبت إلى الباب لتفتحه بعدما سمعت رنينه، وفي يداها كوب من القهوة المحلاة، وقفت أمام المرآه بجانب الباب تعدل هندام ملابسها البيتية المحتشمة، ومشطت شعرها المفرود بفعل الحرارة بكفها الحرة، ثم استدارت تفتح الباب ليطل حازم بطوله الباهي وعرضه العضلي السخي، رغم ذقنه النامية إلا أنا وسامته كادت تخطف نظرها، لذة النبض الثائر بين جنبات صدرها تهلكها، وقوفه المتكاسل ثم انتفاضته وهو يدخل ويدخلها قبله مع دفعه لها مغلقًا الباب ويستدير لها، ثم تكلم من بين أسنانه بغضب:
-كيف لكِ أن تقومي بفتح الباب بهذا المظهر الفج!
أنزلت عينيها إلى ملابسها المحتشمة والذي شكت ولو لحظة إنها بها ما يُظهر منها، إنها قضت يومها كاملًا في انتقاء ثوبها وفرد شعرها، ليكون انطباعه الأول عنها صورة مثالية إلى أبد الدهر، وفي النهاية يصفها بالفجاجة، فصرخت في وجهه:
-أنا لست فجة... والفجاجة هي أسلوبك بالمناسبة...
-أسلوبي أنا يا تسبيح؟؟
-وهل ملابسي هي الفجة!!!! إن شبرًا واحدًا لم يظهر مني...
-وهل هي من بأنوثتكِ، وبجمالكِ الفطري الخاطف، تنتظر لأن يظهر منها طرفها...
قالت بعناد رغم أن لكلماته سحرسلب أنفاسها:
-لكنّي كنت مختبئة خلف الباب، كما أن لا يحق لك سبّي بالفجاجة؟!
رق جمرعيناه المشتعلة بالغضب، وتأجج جمرًا من نوع آخر وهو يخبرها:
-هذه ليست سبة، إنها من معان الغزل أحيانًا...
صرخت باشمئزاز:
-لا أريد ذلك الغزل البشع في وصفه.
ابتسم حازم وهو يخبرها:
-لكل غزل يقترن بوصفك يزداد بهاءً ولمعة سيدة الفؤاد ومالكته...
بريق الحب في عينيها توهج بسمرة اللؤلؤ الأسود في قاع المحيط مجتذبًا المحار لأكله بشهية تقضي على اليابسة، وهكذا كان شعوره في أكلها كلها وتمثل ذلك في نظرته التي تتبعت ملامحها التي أصبحت بلون الخجل، ظل يمشط وجهها بنظراته بمشاعر متأججة، ومع كل نمش تقع عيناه عليه كان يقف مسبحًا وقلبه يرتل في حضرة وقعه في عشقها من جديد.
استفاقت هي من سحر اللحظة أولًا وهي تبعد وتخلص ذراعها من يده بحيث عند مرحلة ما... كان يمسك بأعلى مرفقها ويقربها منه مع تكبيل حركتها، همست وهي تنظر في كل شيء عداه ثم همست مشاكسة:
-ماذا اشتريت لي كهدية تخرجي؟!
-ستخرجين معي لنشتريها...
نظرت له ببؤس وهمست:
-ألا تنس شيئًا؟
-بالطبع أنسى.
نظرت له وكلها حماس لاستقبال سماع مباركته لها كعروس يهنأ زوجته حديثة العهد، ولم يبخل هو بل قدم تهنئته بسخاء، حيث مال على أحد خديها يقطف أول ثماره هامسًا مقابل فكها:
-مبارك زوجتي العزيزة...
أنفاسه الحارة، مع توهج عيناه منذ قليل جعلاها تنتفض مبتعدة وهي تقول:
-سأرتدي ملابسي سريعًا، وآتِ إليك مروان في المطبخ يشرب قهوته.
تركته هاربة من أشواقه، وكم شكرها لذلك... لا يعرف كم سيصمد أمام كل حسنها في فترة عقد القران هذه.
بعد قليل كانا الاثنين في مطعم راقي، يتشاغل بقائمة الطعام بعيدًا عن مشاعره التي فض فتيلها للتو على ما يبدو، أو ربما بعد كل هذا الجهد واليأس الذي عرضته له ايمان الأيام الماضية، رفع عينيه يسألها بهدوء:
-ماذا تأكلين؟!
-لم أختار بعد، ماذا اخترت أنت... أطلب لي مثلك.
ارتفع حاجبه وهو يسألها:
-أنتِ لا تعرفين ما اخترته!
-تعرف إني أحب كل صنوف الطعام فلا يهم.
ضحك حتى سارت قهقهته مسموعة، وهذه سابقة هي الأولى منذ زمن فحازم يبتسم سخرية، يضحك قليلًا لكن أن تصل للقهقهة فهذا انجاز تستحق أن تكافئ عليه، قطع أفكارها وهو يسألها:
-ألن ينتهي عشقك للأكل هذا؟!
-وهل هناك ما يستحق العشق غيره؟!
حافظ على بسمته ولكنها أمست بلاستيكية وهو يسألها:
-وهل أنا لم أرتق لمكانته في قلبك؟!
-للأكل؟؟
أومأ بالإيجاب، فأكملت:
-الأكل يعتني بي كثيرًا، لا يقاطعني... ويستمر بجانبي، حتى أنه قدم مباركته لي في ليلة عقد قراني... بينما أنت لم تفعل إلا اليوم، فعذرًا لم ترتقِ بعد.
أشار للنادل وأخبره بطلبه، فأخذ النادل طلبه وانصرف، فاستدار لها يحاول التحكم في هدوئه متحدثًا:
-حتى في العتاب مختلفة كليًّا يا تسبيح، إلى متى ستظلين طفلة هكذا...
ابتسمت وهي تسند ذقنها إلى كف ذراعها المرتاح على الطاولة، وسألت بشقاوة:
-إن كانت لا تعجبك طفولتي هكذا، لما اتممت زواجنا...
-لأن لا مفر من حبك يا ابنة عمي!
الطريقة التي قال بها جملته وأدت كل دقة مفرقعة كادت أن تملئ صدرها، فتراجعت في مقعدها ببطء بنفس بطء ضم ذراعيها في حجرها، وأدارت وجهها إلى الواجهة الزجاجية المطلة على الشارع، إلى أن سمعته يتكلم:
-لا يا تسبيح، رجاءً لا أود هذه الطريقة في الحديث بيننا يجب أن نتناقش في كل ما دار بيننا.
استدارت له مندفعة وهي تحرك يدها بعصبية تحت الطاولة وقالت غاضبة:
-من رأيي أن نغلق الحديث الآن، وأن تعود بي إلى المنزل ونؤجل الهدية لوقت آخر، فأنا لم أعد اتحمل طريقتك تلك... يبدو أن كانت وجهة نظري صحيحة.
-ألا وهي؟...
-أنك ضمنت وجودي، ضمنت أنني لك...
رقت نظرته وهو يعاتبها:
-هل هي وجهة نظرك في؟!
أدارت وجهها مرة أخرى تمتنع عن الاجابة، فاكمل:
-حتى وإن صح ما تعتقدين، فأنا لم أحصل على هدفي الأساسي بعد يا ابنة عمي... فهدفي أن يكون قلبك طوع قلبي... يسير على خطاه كما فعل طوال نبضه... فلم ينبض إلا لكِ وبكِ.
نظرت له تسبيح، وقالت:
-إذًا أين مشكلتك معي؟!
-ليس هناك مشكلة، ليلة كنت تبكين في ليلة عمي ودخلت عليكِ، أخبرتني أنكِ من الممكن أن تكرهيني...
قاطعته تنفي وصمته لها:
-لم أقل ذلك...
-فيما معناه...
قاطعته من جديد، وهي تكز على أسنانها:
-معناه من جهتك أنت، كما فهمت وفسرت أنت، لكن هذا ليس ما قصدته... أنا... أنا كنت أريد أن أقول...
-هلا اكملت كلامي من فضلك؟!
قالها بنزق، فانكمشت تعض لسانها، بينما قال هو:
-كلمة الكره، أصابت قلبي يومها، حاولت أن اتناسها... لكنها كانت تطاردني متسللة بثغرة رفضك القريب لي... لشخصي، شعرت بأني قد أخسركِ فعلًا وأن يتحول حبك الوليد إلى كره حقيقي يوأد كل طريقة حاولت بها كسب قلبكِ...
-اسكت يا حازم، فشعوري في تلك الليلة كان بعيد كل البعد عما وصلك، أنا... في تلك الليلة بعد أن رأيت ذكريات صورنا، شعرت لأول مرة أني أحبك منذ زمن... زمن بعيد جدًا، شعرت أنك قد تقسو عليّ في لحظة غضب وتهينني... كنت خائفة من أن يتبدل... حـ... حبي... نعم أنا أحبك، وصلت لمرحلة أن أخشى على هذا الحب... وكأن حبك مزروع من زمن دون دراية مني...
أخذت تتنفس بسرعة لتهدأ من فرط شعورها الشجيّ، واكملت بعد أن تحولت للنقيض:
-هل كنت تخاصمني وتبتعد... ولم تبارك لي وتدللني كأي عروس، لهذا السبب، كم أني مغفلة أني أحببتك، كيف استطعت؟!
ابتسم لحلاوة ما أذاقته، ولملامحها الشرسة التي تتحول من نقيض لآخر في الدقيقة الواحدة، وهمس يخبرها بأنفاس ما زالت ثائرة:
-أطلب السماح يا سيدة الحسن والدلال!
-لا سماح أريد أن أكل.
-ويهون عليكِ قلب أحبكِ حبًا يتعجب له مداويين قلوب العشاق.
-يهون، هيا أريد أن آكل، وتشتري لي هديتي، لأعود لمنزلي.
وقف يخرج من جيب بنطاله صندوق صغير مخملي بلون النبيذ، ثم فتحه أمام عيونها التي تفاجأت من تحضيره للهدية مسبقًا.
وما كان داخل الصندوق سوى خاتم ماسيّ، يلمع بفصوصه السوداء البراقة وهي تحيط اللؤلؤة السوداء الأكثر بريقًا... بريقًا لا ينافس بريق عيونها الشفاف من شدة اللمعان.
أخرجه من الصندوق وأمسك بكفها الصغير ويلبسه لها، يهمس:
-وضي لؤلؤاكِ لا ينافسه ضيّ، مولاتي وسيدتي... سيدة الحسن والدلال.
ويلاه من لقب كانت تخشاه، ليضحى مفعوله كمفعول التحليق عاليًّا فوق السحاب وما بعدها!.
༺༻
وقف يراقبها وهي تعد صينية المشروبات ساهمة وكأنها تحل معضلة عصية الحل محكمة الإغلاق، هو لم يعد يفهمها... شقيقته الصغرى التي هي ربيبة يداه لم يعد يفهمها ولا يفهم فيما تفكر بالضبط، تنحنح وهو يلج إلى المطبخ سائلًا:
-فيما تفكرين.
-لا شيء... أجهز الأكواب حتى لا أتأخر في دخول المشروبات عندما يأتي كارم وعائلته... لا أكثر.
-أنا لم أسألكِ عما تفعلينه، أنا أسألكِ عما تفكرين يا إيمان... هل تفكرين في التراجع؟؟ أخبريني.
-بالطبع لا... أقصد أني قد اتخذت قراري وأنت أعطيت للرجل كلمتك... أي لا تراجع.
سرعتها في تأكيد نفيها جعل السعادة تثلج صدره، لكنه أراد أن يوترها زيادة وهو يسألها:
-دعكِ من كلمتي الآن وأخبريني إن كنتِ قد تراجعتِ.
-هل تطلب مني الرفض الآن أم ماذا؟! هل ستأتي به إلى هنا لترفضه، فهم على وصول بالمناسبة... لنفرض إني تراجعت ماذا ستفعل؟
ضيق بين حاجبيه وتحدث بجدية شديدة:
-سأدق عنقكِ يا حبيبة أخيكِ.
ضحكت له وقالت بثقة:
-لن يطاوعك قلبك، فأنا لك ابنة ولست شقيقة...
ثم اندست داخل أحضانه تتمرغ بداخلها كقطة تتمسح في صاحبها، ليستقبلها بصدر رحب... رحب حتى لا تطال العين آخره ولثم جبهتها همسًا:
-ولمّا وثق المحبوب زاد في تدلله... فزيدي دلالًا لكن لا تسرفي.
༺༻
مرت الأيام سريعة واليوم هو اليوم الأول لها للخروج مع أنس في الصباح للذهاب إلى العمل بعد ليلة سهرها تقنعه بأنها بحاجة للعمل، وهو رافضًا للفكرة لتتفرغ للاعتناء بنفسها وابنهما، ووافق بعدما اتفقا أن يوصلها إلى العمل ويأتي بها، نزلت من السيارة أمام مبنى الجريدة التي تعمل بها ودخلت إلى المبنى وصعدت إلى مدير الجريدة تخبره بأن تريد مد أيام عطلتها المفتوحة بعد أن قطعتها أمس، وتحججت بأنها شعرت بالتعب من مجهود الطريق فقط، وكل هذا بتخطيط من ناردين، ولما حصلت على موافقته نزلت بعد أن أرسلت لناردين أنها جاهزة لذهاب معها لتجهيز أرواق سفرها، لحظات قليلة ووقفت سيارة ناردين أمامها لتنظر لها طويلًا قبل أن تستقل المقعد الأمامي بجانبها، فسألتها:
-هل كنتِ تنوين تغيير رأيكِ أم ماذا؟
-وهل كنتِ سترحمينني أنا أو ابني؟
-فخورة بكِ يا غريمتي، بدأتِ تعي قوانين اللعبة.
دمعت عينا ملاذ فأدارت وجهها إلى الناحية الأخرى تستنشق الهواء علّه يخفف من جوفها المشتعل، وعندما هدأت ابتلعت ريقها واستعادت رباط جأشها مستديرة لها هامسة:
-هل يمكنني تأجيل السفر لبعد خطبة أخي كارم، فأنا لا أضمن العيش أو الرجوع هنا من جديد.
ظلت ناردين تنظر أمامها في وضع جعل ملاذ تشعر بالقلق حيال قرارها، فهمست بتوتر:
-هل لا يحق لي حضور حفل خطبة أخي، قد لا أحضر زواجه...
قالت ناردين وما زالت تنظر أمامها:
-من يضمن لي أنكِ لا تكسبين وقتًا، حتى تجدين مخرجًا؟!
-أنت تعدين عليّ أنفاسي كما قلتي سابقًا، سأكون غبية بالمغامرة... حتى وإن حدث وفعلت... أنا لن أذهب بعيدًا يمكنك الانتقام مني وقتها.
-أنتِ تعرفين ما هو انتقامي.
-أجل، ولكن لن تضطرين لفعلها، فأنا سأحافظ على ابني بحياتي... يكفي المرة الماضية كنت لأخسر ابني وأخي معًا...
نظرت لها ناردين ثم قالت في الأخير:
-حسنًا، يمكنكِ البقاء لحفل الخطبة لكن في صباح اليوم التالي ستكونين على متن الطائرة.
دمعت عيناها بسعادة، يمكنها الآن الشبع ولو قليلًا من الجميع، فهمست مبتسمة الثغر رغم دموعها التي بدأت تسيل:
-شكرًا... شكرًا لكِ.
༺༻
حفل هادئ في قاعة صغيرة، كانت عروسه بهية الطلة تخطف قلب خطيبها ببساطة فستانها وزينتها، وتألق بسمتها، جلس كارم بجانب عروسه يرتدي رابطة عنق بلون فستانها، بعد أن كان هو من اختار تصميم الفستان ولونه، كانت رقيقة رغم هيبة جلستها، حضر الأقارب حتى الدائرة الثانية فحضر بعض الغير مرغوب منهم، ومنهم ذاك الغفران الذي يقف في الركن البعيد ينظر لإيمان بحزن قد يحزن أحدًا آخر، لكن حزنه وحسرته تلك أشعلت نار غير رحيمة في صدرها طوال الحفل.
وفي ركن أبعد قليلًا وقفت ملاذ تراقب الجميع بعيون دامعة... مذبوحة الفؤاد بشفرات باردة، ساعات معدودة تفصلها عن موعد إقلاع طائرتها، طائرة لا تعلم البلد التي ستحط بها، دموع قهرها وحسرتها لم تسيل على خديها بل ابتلعتها تسيل دماء فوق قلبها، توعك معدتها بدأ منذ الصباح ولا تعلم كيف ستداوي هذه الآلام.
أما في الساحة الصغيرة وسط القاعة المخصصة للرقص، وقف فريد بعصا الرقص الغليظة يدعو الجميع لرقص العصا الشهير به أهل الجنوب، ووقفت تقى بجانب إيمان، تشاهد كما الجميع خطواته الراقصة.
لحظات واشتعل الحفل بالرقص، ودعا فريد كارم للساحة الرقص فقام الأخير بجذب عروسه معه بشدة فاضطرت تقف معه وهي تحاول تخليص يدها، ولمّا نظر لها منتبهًا، حاولت أن يعلو صوتها بالعبارة الرافضة، لكن صوتها ذهب مع علو صوت الموسيقى، ليقرب كارم أذنه منها في حركة آثارت غيظ الواقف بعيدًا لتعيد جملتها:
-لا يصح أن أرقص، سأقف هنا ويمكنني التصفيق لا أكثر...
أومأ لها وخلّص كفها أخيرًا منضمًا لساحة الرقص ممسكًا بإحدى العصا ويبدأ في تقليد حركاتهم وهو يفكر أن:
"الأطباء بين صفوف الحضور قد يتهموه بأنه وصمة عار على مهنة الطب كلها".
لكنه لم يعير تفكيره أي اهتمام، وبدأت خطواته تزداد حماسة رغم فشلها، لكن ما يبهج النظر هي السعادة التي لفت الساحة بكل ما يشغلها.
بعد أن انتهت الرقصة عادت إيمان تتأبط ذراع كارم بمساعدة تقى وتسبيح في لملمت فستانها إلى مكانهما، اقترب الشقيقان من اختهما وكل قريبات العروس، بينما التف أقارب العريس من حوله خاصة ملاذ التي وقفت بجانب شقيقها تمامًا تمسد كتفه باستمرار، والحاجة زهيرة تدخل من باب القاعة تحمل صينية مذهبة فوقها حُلَى العرس، ومحبس العريس.
وبعد اكتمال مراسم ارتداء المحابس، انطلقت الزغاريد من زهيرة أتبعتها تسبيح وبعدها تقى... والتف الثلاثة حول مكبر صوت انتشلته زهيرة من منظم موسيقى الحفل، وكانت زغرودة ثلاثية النغمة في طريقة تقليدية في أفراح الريف.
اطبق حازم على ذراع تسبيح ومال على أذنها وهو يقول بغضب:
-كفي عن الزغاريد، والحماسة الطفولية تلك، لم تعودي صغيرة.
خلصت ذراعها وأطلقت أطول زغرودة أطلقت طوال الحفل، ثم نظرت له تراقص حاجبيها بينما هو يكاد ينفث الدخان من أنفه وأذنيه تزامنًا مع حركة شفتيها وكفيها وكأنها تخبره بأن هذه الحركات الطفولية الحقيقية.
بعد قليل استأذنت تقى للذهاب لمنزلها فلا يتأخر الوقت بها أكثر، وكانت في طريقها للخارج عبر الممر الخارجي وهي تتفحص ساعتها وخطواتها لا تزال سريعة، رفعت نظرها للأمام لتجد فريد في نهاية الممر يخفي كفيه داخل جيوب بنطاله، تباطأت خطواتها لكنها لم تقف عند وقفته بل اكملت طريقها إلى الخارج، لكنه هو من استوقفها قائلًا دون تمهيد:
-سأوصلك.
نظرت له متعجبة من تقريره وكأن لا أهمية لرأيها، لكنها همست بتهذيب اتقاءً لأي انفجارات هي في غنى عنها:
-لا داعي لذلك، إيمان في الداخل تحتاجكم جميعًا، أنا سأتدبر أمري...
-نعم، كما تدبرتِ أمرك بالبكاء، حتى انتفخت عيناكِ.
كانت تلك الجملة ليست بلسانه، بل كانت الراعي الرسمي لوضع الجميع في موضع إحراج... إنها تسبيح، والتي اكملت:
-أوصلها يا فريد، وأنا سآتي معكما اتقاءً للحرجِ.
ابتسم فريد بسخرية وهو يتركهم قائلًا:
-انتظروني عند المخرج سآتي بالسيارة، بالرغم أن لا داعي لوجودك يا تسبيح... فالآنسة تقى كما شقيقتي إيمان بالضبط.
كان مستديرًا نحو الخارج فلم يرى إغماض تقى لعينيها بألم، ولا الزفرة الحارة والتي خرجت على مهل وكأنها تتحاشى صرخة تخرج مزعة الطيور من أعشاشها، بينما شاهدت تسبيح كل ذلك فقالت متفشية:
-تستهلين ما هو أكثر.
-لا دخل لكِ.
وطوال الطريق، كان الحديث تتولاه تسبيح، بينما يرد فريد باقتضاب وتقى برسمية شديدة، وعندما وصلت السيارة وهمّت تقى بالترجل منها، قال فريد:
-العقبة لك يا آنسة تقى، ونجاملك إن شاء الله.
ارتسم الآلم على وجهها بعذاب، ولكنها لم يسعها سوى قول:
-ولك أيضًا.
༺༻
في الصباح، جلست على إحدى مقاعد المطار تشعر بألم معدتها يتزايد وتحتاج الذهاب إلى الحمام وناردين تخبرها على الهاتف:
"أن تتحمل لبعض الوقت، وتدخل إلى حمام الطائرة"
جلست تمسد بطنها في حركة تستمد منها الحماية، لتعطيها لطفها وعيناها شاردة في البعيد... تشعر بالآلم مرتسم على ملامحها...
وفي ظل شرودها لفت نظرها حركة من ثلاث خطوات كانت تفعلها مع شقيقها هم صغار، يقوم بها طفلين أحدهما ولد والأخرى فتاة، ابتسمت بحزن وشجن يلفها وهي في أرض الوطن... لكن ما آثار دهشتها هو كلمات تظهر على شاشة الكترونية خلف الأطفال كلمات منقوصة تكملتها في أغنية يغنيها الأطفال، وما كانت الجملة سوى:
"اذهبِ لحمام السيدات، إلى ثالث غرفة"
༺༻
انتهى الفصل الثاني عشر
قراءة سعيدة
إلى اللقاء في الفصل القادم
دمتم🔥❤


چورية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 02-10-22, 10:11 PM   #30

چورية

? العضوٌ??? » 505085
?  التسِجيلٌ » Jul 2022
? مشَارَ?اتْي » 40
?  نُقآطِيْ » چورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond reputeچورية has a reputation beyond repute
افتراضي

الفصل الثالث عشر
وعن قلبي فهو يعيش سعادته في حضرتِك حتى وإن بلغ خوفي ذروته
فأخشاك مرة وأحياك في الدقيقةِ الثانية ألف مرّة
أريد أن أرتشف الحب بين ذراعيك قطرة تليها قطرة
أن أتذوق لقيماته بلذة الوقوع في غرامك للمرة التي لم أعد أعي عددها
أن أتنشق الهيام معك إلى آخر أنفاسي
أن تراقصني على إيقاعِ حبٍ داوٍ، يعصف بقلوبنا معًا
حتى أسقط بين ذراعيك مسلمة بأن لا حياة لي دونك
فرفقًا بي ونابضي يدوي كالطبول القارعة
وعيناي ترسمك كلوحة الجوىٰ الناطقة
دعني أحبك مرة وأقبلك أخرى
ولا تدعني سبية العشق الذي تمطرني به فأغرق وأنا أحتضنه بين نعوم أحلامي
وتسلبه على حين غرة، فأسقط مترنحة على قسوةِ صخورك المدببةٍ
كعصفور قُص ريشه لسنين طويلة فلم يعد يعرف سبيلًا للتحليق من جديد
كالعجوز شاخت من أهوال ما رأت في حياتها وأصبحت شيبتها في هواك هي أقصى أمانيها.
༺༻
قبل ساعات
بعد انتهاء حفل الخطبة استأذن كارم من حازم ليخرج هو وإيمان قليلًا كخطيب يدعو خطيبته لتناول الطعام، وافق حازم نظرًا لأن الوقت ما يزال مبكرًا لكنه أصر أن يرافقهم فريد، الذي تذمر من أن يكون عزولًا بينهما لكن هل يستطيع الاعتراض!
كانت تجلس ساهمة وهي تفكر بأنها يمكنها الحديث معه والاعتراف بسبب حديث أهل بلدتها عنها لكن فجاءة تنبهت للطريق وفوجئت بأن المطعم الذي قصده كارم هو نفس المطعم الذي تقابلا فيه المرّة السابقة، والتي تعرفه جيدًا لكونه المطعم المفضل لدى رؤوف وكانت سبب بأن يعرفه كارم نظرت في المرآة الأمامية لترى وجه فريد الذي ارتسم عليه الشر وهو يبادلها النظر في المرآة.
"أي عمل أسود رُبط لها في قدم نملة عرجاء"
كانت تلك العبارة حديثها النفسي فقد رأت على الصفحة الخاصة لرؤوف على أحد أشهر مواقع التواصل أن مولد ابنه اليوم وهو عادة ما يحتفل بكل مناسباته في هذا المطعم، أي حظ هذا... أي حظ! عادت تنظر بالمرآة الأمامية لفريد ونظرته كانت كفيلة بأن تموتها رعبًا، وهذا ما حدث لها فقد دوي قلبها وكاد يصيبها بألم في صدرها، ناهيك عن تعرق كفيها المرتعشتين في حجرها، حولت نظرها لكارم الذي كان كامل تركيزه في البحث عن ركن مناسب لصف سيارته لكنها تموت في الدقيقة ألف مرّة وهي تفكر بأنه قد يكون يعلم بما فعلته وخططت له بلقائهما الأول ويريد معاقبتها على ذلك، وقد يكون خطط هو أيضًا للانتقام ويتركها ملوثة السمعة مطعونة الشرف من جديد، هل ستعيش هذه المآساة بنفس جرحها مجددًا؟! سمعت صوت فريد يأتيها من بعيد وهي وسط أفكارها تلك وهو يقول:
-سنترجل نحن وندخل نبحث عن مكان فارغًا وصف سيارتك في الخلفية فيبدو أن لا مكان هنا.
أقرن قوله بفعله مع قول كارم الباسم:
-حسنًا، سأصفها وآت خلفكما.
فتح فريد بابها بعد أن ترحل فحاولت أن تنزل بهدوء واتزان، لكنها لم تجيد السيطرة على رعشة كفيها وكتمت أنفاسها محاولة الابتسام لكارم وهو يبتعد بالسيارة، لكن ماتت ابتسامتها مجرد أن أمسك فريد مرفقها ويديرها له بعد اختفاء كارم بالسيارة في منحنى الطريق، ليقول غاضبًا:
-هل رأيتي نتيجة أفعالكِ إلى ما أوصلتنا؟! إلى أي مدى يمكنكِ أن تكوني قاسية دون رحمة هكذا؟! هيا دعينا ندخل لنرى نهاية هذه الليلة.
دخلت معه بخطوات إحجام وليس إقدام كفتاة في موقفها تود المضي قدمًا نحو حياة جديدة، لكنها تود الفرار من هذه الحياة قبل بدئها... أن تنشق الأرض وتبتلعها... أي شيء يخلصها من هذا الموقف، تكلم فريد وهو يدخل:
-يبدو أن هناك احتفال، والمكان مزدحم.
-إنه عيد مولد ابن رؤوف.
تردد صدى جملتها داخل أذنه يخرقها، استدار بوجهه وعيناه جمرتين مشتعلتين من جحيم يدميها واقفة وسألها بدهشة تبتلع وجهه وعدم التصديق بأن شقيقته... إيمان يخرج منها هذا:
-مما عرفتِ؟!
صُمرت نظرتها أمامها وجسدها كله يرتعد مما قد يحدث، ومما يكون كارم قد خطط له، لن تتحمل هذا الأذى من جديد، هل أفسدت حياتهم هنا أيضًا؟ لا بالتأكيد لا، هل هذا عقاب الله لها عن فعلتها بقبول حب كارم والموافقة على الخطبة له وقلبها لا يزال معلقًا في حبٍ مبتور الأمل فيه، وحتى إن كان ليس حبًا أكثر من رغبة في رؤية انتقام الله منه!!
أما فريد فكان يراقب جانب صفحة وجهها وانفعالاتها، وقد تحولت بشرتها الرائقة إلى شيء من القبح والـ...
لم يكمل الجملة في فكره فقد استعصى عليه أن يشبه أخته بمثل هذا الوصف، لكن رغم ذلك هذا هو الوصف الصحيح لما يراه على وجهها من لون أسود قبيح رغم رقة زينته.
قبض على مرفقها من جديد وأراد أن يغادر قبل وصول كارم متحججًا بازدحام المكان، لكن مع استدارته بها وجد كارم خلفه تمامًا مبتسمًا كخاطب حصل على نجمته الذهبية في خطيبته، وسأل مستفسرًا:
-لما لم تدخلا حتى الآن؟!
نظر فريد لإيمان بحقد خفي ثم جاوبه بهدوء يخفي الكثير في طياته:
-لا شيء، كنا نختار طاولة بعيدة عن صخب هذا الاحتفال.
أشار كارم نحو قاعة صغيرة في المكان ثم أشار للجهة المعاكسة وهو يقول:
-هذا الركن فيه قاعة الاحتفال، دعونا نجلس عند هذا الركن.
أومأ له فريد ودخل إلى الاتجاه الذي أشار إليه كارم، واختار طاولة وقال:
-أنا سأجلس هنا اختارا طاولتكما قريبًا من هنا.
ابتسم كارم له وقال ضاحكًا:
-حسنًا يا نسيب، لكنّي لن آكلها فهي خطيبتي في النهاية.
ضحك فريد وغلبه طبعه في مجاراة مزحته:
-تخلص منها لا تأكلها فقط.
مزحته كانت غير مقصودة المعنى الذي وصلها وهي واقفة تشعر بالخوف، فأصابت جملته كرامتها بسبب ما حدث بينهما منذ قليل وفيما مضى وهي ترى كل إهانة في عين شقيقها الأصغر، مما جعلها تتصلب ووجهها أصبح كتلة من الرماد بعدما سمعت جملته، وعندما تلاقت نظرتها بنظرة شقيقها كان يضحك صافيًّا لكن نظرتها المطعونة رغم كبريائها جعل بسمته تتلاشى رويدًا وبقيَّ شبحها وهو يفهم أي منطقة خطرة خطها بقدمه لكنه لم يهتم لآلمها فقد ألمته أكثر من ذلك بكثير، فظلت نظراتهما معلقة ببعضهما حتى سحبت نظرتها لكارم عندما سألها وهو يشير لأحد الطاولات:
-ما رأيك بالجلوس هنا؟!
نظرت للطاولة التي يقصدها ولم تعِ موقعها ولا شكلها ولا مدى بعدها وقربها من الطاولة التي يحتلها فريد، كل ما تعيه هو صدى تردد جملة من كلمتين بصوت هذا الأخير "تخلص منها".
ثم أعطته موافقتها بحركة ضعيفة من رأسها وهي تنكسه تداري خيبتها المرتسمة على وجهها أثر جرح غائر في قلبها ويبدو أن لا سبيل للشفاء منه.
"ثمة جروح تترك آثرها في روحنا؛ وكم هو مؤسف ان من تسببو ف تلك الجروح هما كانوا يومًا مداواة لها "
عبارة تتذكر أنها خطتها يومًا في دفتر أحزانها لأحدٍ لم تعنيه حتى عبارتها بالحب الوفي وذاك الأحد لم يكن غير رؤوف عندما حدثت بينهما أول مشاجرة، لكن الآن تلك العبارة هزت كيانها... عصفت بروحها... هدرت حتى صمت أذنيها... فلم يكن جرحها تلك المرّة بيد حبيب زائف، بل من كان يحمل دمائها... ونموا داخل ذات الرحم... وربتهم بنفس المبادئ.
"أنا المطعونة بخنجر الأهل"
همست بها يوم رحيلهم من بلدة لفظتهم وطعنتها، بلدة تربت وشبت بين أناسها رجالها آباءها، ونساءها أمهاتها، وأطفالها إخوة، أما الآن الخنجر كان بيد أقرب الأهل صفةً، والإخوة دماءً!
انسحبت قدماها ببطء وغير إرادتها نحو الطاولة التي اختارها كارم، ولمّا جلست أغمضت عينيها لحظات وفتحتهما وهي تشعر بتعب قدميها بسبب كعب حذاءها الذي لبسته طوال الحفل حتى الآن، ولم تشعر بآلام قدمها من قبل بسبب فرط حماسها وفرحتها بكرم الله عليها بأن عوّض صبرها بجعل نصيبها رجل مثل كارم.
أما كارم ظل يراقب صمتها الوجِل بوجلٍ ينافسه، فوجهها الذي تخبأه وهي تنزله هكذا في حزن – أم أنه يهيأ له – لكن هذا ليس خجل، إنها لم تكن مبتسمة كما حالها في المرّة السابقة وأول لقاء لهما، بل هناك حزن يظلل محياها لكنه لم يكن موجودًا خلال الحفل وكأن هناك ما عكر صفو مزاجها، فهمس يحاول اخراجها من هذه الحالة:
-مبارك يا عروسي.
رفعت رأسها ببطء بعد أن اخترقت مباركته غياهب عقلها، وفي رحلة رفع رأسها استوعبت وصفه لها، فهب رأسها المسافة المتبقية مع هبوب صوتها:
-عروسي؟؟؟؟!
قال مبتسمًا مستفزًا متقصدًا:
-ألم تكوني عروسي؟ أولم ألبسكِ خاتمي وألبستني خاتمكِ؟!
لم ترد وهي تلاحظ فريد يشير لهما بالهاتف فيما معنى أنه سيجري مكالمة هاتفية فأومأت له مما جعل كارم يلتفت له، وأومأ هو الآخر مبتسمًا وعاد لها قائلًا:
-ماذا الآن ما الذي ضايقك في الحفل يا عروسي؟!
ضحكت فأصاب الهدف، صوت ضحكتها الرقيق جعله يتنحنح موريًّا وجهه بعيدًا، ثم عاد بوجهه من جديد هامسًا في تغزل:
-اللهم صلي على كامل النور.
رفعت حاجبيها دهشةً وهي تردد الصلاة على رسولها الحبيب، فسألها:
-ما كل هذه الدهشة؟!
ابتسمت وهي تجاوبه:
-لا أعلم، لكن ظننت أن كثرة تحضرك الذي يظهر في كل شاردة وواردة منك، جعلني أتعجبك بتغزلك العفيف.
تنفست ثم أردفت وابتسامتها تتسع:
-لن أخفيك سرًّا لقد حضرت أكثر من جملة لاذعة لردع أي تطاول من جانبك حتى وإن كان بالكلام، لذلك كنت أتحضر لردعك عن كلمة عروسي.
صوت ضحكته الرصينة في هدوئها جعلت دقات النبض بين جنبات صدرها تتسرب ببطء إليه فزفرت على مهل حتى لا يلحظ تأثرها، بينما بدأ هو يصيغ كلماته:
-إن كنتِ تحسبين أن كلمة عروسي هي تطاول من جانبي، فأنتِ لا تعلمين عن التطاول شيء، فأنا أحبس داخل صدري من الغزل في بهاكِ ما يغزوكِ ولن تقدري على صد غزو تغزلي بما يمليه عليك حياءكِ بالصمتِ.
إن صمت الصخب حولهما الآن لسمع دوي الطبول داخل صدرها، فأنزلت عينيها تخفي تأثرها... ودار عقلها في متاهات السُكرِ مغيبًا مع دورات كلماته.
لكن الواقع سلب ثمل قلبها بلذة المذاق الذي يهيم به لأول مرّة بلذوع لذة الطعم الدافق للسعادة التي ترتشفها من كأس رجل يحبها حقًا وليس زيفًا، حيث ظهور رؤوف خلف كارم يقف مدهوشًا حاملًا ابنه ذي الثلاث سنوات، تحرك ببطء نحو طاولتهما... وكانت تلك أبعد لحظات تمر عليها في بطئها، فقد ماتت وحييت في الثانية ألف مرة وعقلها يخيل لها مئات السيناريوهات التي قد ينطق بها رؤوف.
وعندما وصل ابتسم وهو يرحب بها:
-مرحبًا يا إيمان كيف حالك؟ هل أنتِ هنا وحدك؟
كان كارم يراقب صفحة وجهها الذي بهت مع بهوت نظرتها وإحدتها إلى خلفه مما يثير فضوله ليعرف ماذا يحدث لها بالضبط، لكنه لم يستدير لباقةً وظل يراقب اهتزاز حدقتيها والرعب الذي بدأ ينقش نفسه على تعبيرها، لحظات وظهر رجل يحمل طفل صغير يسأل إن كانت وحدها وهذا يدل أنه يعرف العائلة ويسأل عن وجود أحدهم، حتى الآن لم يفسر تعبير الرعب الظاهر على وجهها، وسبب عدم ترحيبها بهذا الواقف.
دخل فريد في هذه اللحظة ووقف يراقب الوضع قبل أن يتدخل، فلاحظ صمت إيمان وعدم ترحيبها به، فاقترب وهو يقول ببرود:
-لا دخل لك بنا يا رؤوف، وهيا ابتعد لا وجود لك بيننا.
استدار رؤوف مبتسمًا بسماجة قائلًا:
-مرحبًا يا فريد، أنا أرحب بكم فقط هنا... لا داع لكل هذه العداوة، على كلٍ يبدو أن إيمان قد خُطِبت فأنا أرى لمعة حلقة الخِطبة في أصابع العروسين تدل على حداثة الحدث، فمبارك لهما.
واستدار مبتعدًا دون انتظار رد أو أن يلقي حرفًا زائدًا، مما أغاظ فريد فقال غاضبًا:
-هيا بنا لن نجلس أكثر من ذلك هنا.
رد كارم بهدوء:
-لا داعي لذلك، لأن خروجنا الآن سيعطي له أننا في موقف ضعف، دعنا نجلس ولا تعيره أي اهتمام.
-أنت لا تعرف... أنه كان يخـ...
تكلمت إيمان سريعًا تقاطعه:
-فريد أود أن يسمع كارم هذا مني، لو سمحت.
رنين نغمة اسمه مجردًا لم يسمعها منها من قبل وسحره لحنها... لكنه فضّل الصمت حتى يفهم ما يحدث معهما.
بينما فريد نظر لها مطولًا وهو يشعر ببداية تعقلها ورسم حياتها الجديدة بنفسها بعيدًا عن كل ماضي لفها يومًا، فأومأ مبتعدًا للطاولة التي كان يحتلها في موافقة ضمنية لكلام كارم وشقيقته معًا.
أما كارم كان مبتسم المحيا وهو يسمع طلبها من فريد بأنها هي من تريد بإخباره عن شيء أو حدث في حياتها وهذه نقطة تمحو شعوره بأنهم قد كانوا يقنعوها، فهمس بما في خاطره:
-لقد رحمني طلبكِ هذا من تفكير يكاد يفتك بي.
ارتسم تعبيرًا متسائلًا على وجهها، فأردف:
-عندما تأخر حازم في ابلاغي ردكِ، جعلني أشعر وكأنكِ ترفضيني ولا تودين قولها في وجهي واخترتِ أن يقولها لي حازم، فتوقعت أنه يحاول اقناعكِ أو شيء من هذا القبيل.
لوح بيده في آخر جملته، فابتسمت أخيرًا بعد لحظات الرعب الماضية وهي ترى تعبيراته وطريقة تذمره، وكل تعبير من هذا يخطف دقة سريعة الايقاع من بين جنباتها، فهمست بعد أن ضبطت أنفاسها:
-لا ليس كذلك بالطبع، فأنا عندما أقول كلمتي في هذا الأمر لا جدال في ذلك... فأنا رفضت من قبل ابن عمي ولم يتم اقناعي من قريب أو بعيد، حازم يقنعني في كل شيء لكنه لا يحاول في هذا الأمر، الفكرة كلها أنني كنت أطلب جلسة أخرى بيننا قبل أن أوافق أو أرفض لتعرف تفسيرًا لما سمعته عني في بلدتنا، لكن حازم كان يرفض لأنك لم تطلب تفسيرًا وأننا بذلك نتعالى عليك وطلب مني ردًا خلال مدة لذلك تأخرنا... أعتذر.
"وهي وافقت دون الجلسة التي تريد؟! هذا يعني أنها لم تغامر بخسارته لأجل تلك الجلسة التي كانت تتوقف عليها حياتها على ما يبدو، أي ربما بعض مشاعرها تنمو تجاهه"
هذه كانت أفكاره المبتهجة ولكن حاد فكره سلبًا بأنه:
"لربما أيضًا أن يكون شخصًا مناسبًا ضمن قائمة غير مناسبة"
وما أسهل من وساوس الأفكار السلبية، فتجهم وهو يحاول العودة بذهنه لها وهي تستكمل:
-هذا الشخص الذي كان يحمل ابنه مرحبًا بي مباركًا لنا، هو سبب كل كلمة سمعتها في حقي يومًا... لقد كان خطيبي يومًا ما... ولم يأتي يوم عرسنا.
༺༻
حماس داوٍ يشعل حواسها منذ ليلة أمس، لم يلقِ جفنيها النوم رغم أنها حاولت بكل حواسها ذلك حتى تكون بكامل نشاطها وحيويتها وتركيزها، إنه يوم تخرجها في جامعتها تود أن تسجل كل تفصيل في هذا اليوم داخل ذاكرتها ولا يقع منها حدث واحد، بعد أربعة أعوام قضتها بين الكتب والمذاكرة وتجميع الأبحاث، رغم أنها لم تدور بين المكتبات بحثًا عن مراجع الأبحاث كالشباب في مجموعاتها لكنها تتعب بالطبع في ربط كل معلومة بأخرى مما يأتوا به، حاولت بكل طاقتها ألا ترسب وأن تنجح كل سنة دون أن تقع منها ولو مادة واحدة، بعد أن تحدت الجميع في السفر للمدينة والدراسة بها، أربعة سنوات كانت تملأهم ذكريات شد وجذب، سعادة وحزن... مشاجرات... مضايقات... لكنها سعيدة بكل يوم قضته وصنعت به ذكريات لا تنسى... فقط أحداث بسيطة في السنة النهائية وهي الأحداث التي تتعلق بقلبها، لا تريد أن تفكر في ابراهيم وما فعله معها وما فعلته هي مع عائلتها الجميلة والتي دومًا ما ساندتها في كل عثرتها، العائلة هي الاحتواء والدفء وجدران صلبة من المحبة، لذلك هي تريد أن تبني عائلتها الصغيرة سريعًا، وتريد أن تذيقهم من عاطفتها كأم وزوجة تملأ المنزل بالكثير من الطعام الدافئ، أن ترتب منزلها بيدها... أن تذاكر لأطفالها ويكونوا أغبياء كما كانت في صغرها فتمسك بخفها المنزلي الطائر في الأجواء ولا يعرف موضع استقراره لكنه يصيب الهدف، بسبب الغباء الذي تلبسهم فجاءة وقت المذاكرة.
ابتسمت بجذل وهي تتخيل نفسها تقوم بحركة والدتها في نفض قدمها في الهواء بحركة تصعب على البهلوان فعلها، وعجز العلماء عن فحص حالة العظام في تلك الوضعية السرية الخطيرة، فتخلص خفها وتصيب الهدف.
نعم هي لن تلتفت لأساليب التربية الايجابية التي يتغنى بها علماء النفس ومن ينتهج هذا النهج، ستكون كأمها ولتكبر أبناءها كما كبرت، ويشبهونها كما شبهت أمها.
التمعت عيناها بشدة وهي تفكر أن والدهم سيكون حازمًا كما كان والدها، حازمًا طبعًا ووسيمًا، كم تود أن تغمض عينيها وتفتحهما فتجد نفسها في منزلها بين أحضان زوجها ساهرين أمام التلفاز وهي تضم طفلها الأول لصدرها بحنان، وتتناوب نظراتها بين وجه طفلها النائم ووجه والده المنشغل في التلفاز، ولمَّا ينتبه إلى نظرتها الموزعة يسألها باسمًا الوجه لعدوى بسمتها التي تبتلع وجهها:
"ماذا؟"
فتجاوبه وكأنها المنتصرة:
"أنا من تحبك أكثر مما تحبني."
فتزداد دهشته وهو يسألها عن السبب فتخبره بما أخبرتها به صديقاتها بأن:
"عندما يكون أحد الزوجين عاشقًا أكثر من الآخر تكون أطفالهما تشبه ذاك الأخير."
فيبتسم لعينيها ويخبرها بخرف عبارتها، ولكنها تُصر عليها تمسكًا برأيها فيصمت مبتسمًا حتى لا يضايقها ويعكر مزاجها الهادئ في مراقبته وطفله ومراقبة تشابههما.
ويتأخر الوقت بهم في جلستهم فتنام بتعب بين احضانه محافظة على احتضان طفلهما.
مجرد الخيال أنعش حواسها بحب، وشع غريزة الأمومة بإفاضة داخل قلبها، فابتسمت لصورتها في المرآة وهي تحكم وثاق حجابها وتخرج إلى صالة المنزل فتجد مروان جالسًا مهمومًا في الاستقبال، ابتسمت بحزن فقد سبق واعتذر عن الذهاب معها في هذا اليوم لظروف العمل لكن حزنها لم يكن لعدم مجيئه فحازم قد أخبرها من قبل أن يجب على أحدًا منهما البقاء للعمل، ومروان قد تنازل له عن البقاء بجانبها في أول مناسبة بينهما كزوجين... وهي تشكر مروان بكل جوارحها رغم حزنها لغيابه في يوم كهذا، لكن حزنها وهمومه كانت لأجل غرام التي ترفض الطعام وتأخذ من الفراش ملاذًا آمنًا حزينًا.
وجدته وقد جهز الطفلين ماجد وسيف حتى يذهبو معها لحضور حفل التخرج، فجلست بجانب شقيقها على الاريكة التي يحتلها في صالة الاستقبال، فرفع رأسه من بين كفيه بعد أن كان يغطي وجهه بينهما وسألها:
-هل انتهيتِ؟
أومأت بصمت مبتسمة الثغر، فربت فوق رأسها قبل أن يقبله ويضمه لصدره مباركًا:
-مبارك يا تسبيح الصغيرة... مبارك يا جميلة العائلة... وغالية القلوب جميعها بلا منازع.
ابتسمت والحب يرسم نفسه في عينيها وهي تمسد صدره وتربت فوقه، هامسة:
-بارك الله لي بك، يا أعظم أخ أنجبته أمي لهذا العالم.
فقال مروان ممازحًا:
-ما هذا المزاج الفائض بالعاطفة هذا... منذ متى هذا؟!
ضربت صدره تبعد عنه، فضحك لكن ضحكته لم تكن حقيقية وعرفت ذلك لعدم مسها عيناه، فهمست تسأله:
-هل لا زالت غرام تبكي؟!
ابتسم دون أن تصل البسمة لعيناه، وقال:
-لا تقلقي ستكون بخير أنا سأهتم بها، فلا تشغلي عقلك ولا تأتي إلا مقتنصة سعادتكِ.
هذه المرة هي من ضمت نفسها لحضنه وهمست:
-وأنت ستقتنص سعادتك فقط دعها تتخطى آلامها، غرام كانت ولا تزال متعلقة برهف، دعها تتعلم مواجهة أخطائها وحدها وألا تتخذ من الاعتمادية أسلوبًا لحياتها... أعرف أنها تعيش حزنها بسلبية منقطعة النظير، فدعها تحزن وعندما تفيق وترى أن المشكلة لا تزال قائمة، ولم تُحل وتنتظر الحل منها هي وليس غيرها.
تنهد مروان وغمغم لكنها سمعته:
-هذه المرة لا يجب أن أتدخل، الموضوع غير محتمل من الأساس.
-هذا ما يجب فعله حقًا يا مروان، ومنذ زمن أيضًا.
تنهد مرة أخرى وهو يقول:
-هيّا أولاد عمك على وشك الوصول، وأبي وأمي في المطار وعلى وشك الاقلاع فيجب أن توصلوا قبلهم.
ابتسمت وهي تستطيل واقفة وتتأبط زراعه سأتصور معك قبل الذهاب لحفل تخرجي، وستكون أول صوري لهذا اليوم.
ضحك بسعادة لسعادتها فأخرجت هاتفها من حقيبة يدها وتعطيه له، فأمسك بالهاتف يرفعه بينما طوقت خصره وأراحت رأسها فوق كتفه مبتسمة لعدسة الهاتف، والتقطت صورة بألف معنى ومعنى... صورة ترسم براءة صدورهم اللينة تجاه كلًا منهما للآخر، صورة تملأها فخر الأخ في نظرته، فخر يرفع هامته بأن شقيقته الصغرى كبرت مزينة الخلق والعلم، فتاة تسر النظر... لا يصدق أن تسبيح تتخرج وقد عُقد قرانها وخلال شهور قليلة ستزف لزوجها تنير منزله وتشعله بهجة كما فعلت في دارهم طوال سنين طفولتهم، والسنين القليلة التي قضتها هنا بين جدران منزله ووسط أسرته... إن لم تكن من نصيب حازم لا يعلم كيف كان سيتحمل فكرة أنها تغادرهم، وفي تلك اللحظة أيقن أن تلك القوانين التي تتحكم في مصائرهم كما يعتقدون ما هي إلا رباط السكينة التي تثلج صدورهم في توقيتٍ كهذا!، وعنصر الصورة الأجمل والألطف والأبهج على الاطلاق هي نظرة تسبيح والتي يسكنها السلام والحب والهدوء العاصف محدثًا صخب السعادة التي تدوي داخل صدرها.
دقائق قليلة وسمعا رنين هاتف مروان الذي قال بعد أن أغلق الاتصال:
-هذا حازم... هيّا لأنزل لكم حقيبة الملابس.
فقالت تسبيح وهي تُتمم على كل أغراضهم:
-إن تحسن وضع العمل لا تتردد في أن تأتي الحفل الغنائي عند الشاطئ على الأقل.
فرد مروان وهو يدخل لغرفة الأولاد ليأتي بهم بعد أن تنصلا للدخول ليختطفوا بعض الدقائق من النوم:
-سأفعل بالتأكيد إن تحسن الوضع.
بعد دقائق كانت تسبيح قد مرت على تقى تخبرها بوصول الجميع حتى يسافرن، فلم تترك أحد مما تحبوهم وقامت بدعوته، استقلت تسبيح السيارة بجانب حازم، فأدخلت إيمان أولاد مروان في الخلف وسحبت تقى من يدها حتى تركب معها وفريد حتى تتيح لحازم الانفراد بتسبيح زوجته، ولأنها تخشى تهوره كما حدث مسبقًا لأخذت الطفلين أيضًا، ابتسم فريد لإيمان – التي لا يعرف سبب تغيرها بعد لقاءها مع كارم بعد الخطبة وترفض الحديث – على فعلتها بخلو السيارة لحازم وتسبيح وغمزها، لكنه لم يحسب حساب تلك التي خشبت على بعد خطوات من السيارة في يد شقيقته، وهمس:
-تبًا، لم أكن أغمز لهذا السبب!
وكان هذا السبب ما هو إلا إدراك تقى لغمزته على أنه يشكر إيمان على ركوبها معهما لإعادة مياههما معًا في نفس المجرى.
༺༻
عاد أنس من العمل مبكرًا فاتصل بها كعادته لكنها لم ترد، فتنهد وهو يقول:
-متى يا ملاذ تعود حياتنا؟ متى؟!!!
تنهيدة أخرى مثقلة بهموم ضاق بها صدره، ثم استدار ناظرًا نحو المطبخ، وابتسم ببطء وهو يهمس:
-قليلًا من الذكريات تجعلنا أسعد حتى لو لوقت قليل!.
دخل إلى المطبخ وتوجه إلى المذياع الصغير الخاص بزوجته والذي كان لا يصمت كلما كان ذهنها رائق ضغط زر التشغيل ليعلو صوت أم كلثوم:
"ياما عيون شغلوني قبلك ولا شغلوني"
ابتسامة حزينة زينت محياه يتذكر عندما كان يدخل إليها ويجدها تشغل تلك الأغنية فيغنيها لها بصوته، فتبدأ هي الأخرى بالغناء في نغمة وصوت يصيب السامعين بالصمم، لكنهما لم يباليا بأحد.
تحرك بين أدوات المطبخ ويحاول صنع وجبة سريعة التحضير، وعندما انتهى من الوجبة نظر للأطباق التي أخلفها في المغسلة، ابتسم وهو يتذكر ملامحها في موقف كهذا قديمًا وهي تصرخ:
-ليتك لم تُحضّر لمفاجأتي، ليتك لم تفعل... يا إلهي هل سأقف لتنظيف كل هذا قبل وضعهم في المغسلة الكهربائية؟
وقتها قال مازحًا:
-أنت لا تقدرين قدراتي في المطبخ، وكيف تعبت في تحضير المفاجأة؟!
ابتسمت وقالت وهي تكز أسنانها غيظًا:
-لا تفعلها مجددًا، لا أريد مثل هذه المفاجاءات التي تكلفني غسيل كل هذه الأطباق وأنا أقف على قدماي بعد يوم عمل طويل.
جعلته يومها يساعدها انتقامًا منه لألا يستخدم كل هذه الأطباق مرة أخرى، هل ستعاقبه هذه المرّة أيضًا؟! ليتها تفعل... ليت حياتهما تعود كما سابق عهدها، ليته أوقف كل إجراء فعلته ناردين يقربها من السفر، ليته رفض سفرها من الأساس، سيظل يحمل ذنب سلكها هذا الطريق الذي لا رجعة منه.
خرج من المطبخ وأمسك هاتفه يراسلها لكنها لا ترد، كما أن هاتفها ما زال مغلقًا... وموعد وصولها مضى منذ ساعة، هل خرجت من العمل على والدها؟ أو خرجت مع إحدى صديقاتها... دون علمه!!! وهذا ما لن يسمح به قط مهما حدث ومهما أغضبها، كاد أن يترك الهاتف في عصبية وهو يكاد ينفس من أنفه نارًا حارقة، لكنه تراجع واتصل بحماه محاولًا سؤاله بتواري عن زوجته، رنين الهاتف طال ومع طوله كان يفقد كل ذرات تعقله، فتح الخط مع صوت حماه:
-مرحبًا يا أنس، كيف حالك وكيف حال ملاذ وطفلها؟ هل ذهبتم للطبيبة؟!
-أي طبيبة؟
كان ينظر إلى التقييم الورقي، فتدارك وهو يتذكر موعد طبيبة طفلهم فقال:
-آه... نعم، سنتقابل هناك بعد قليل... أنا كنت أطمئن عنك وكارم.
-نحن بخير، وانتم؟!
-آه، نحن بخير... بخير يا سيادة اللواء.
ضحك عصمت قائلًا:
-أصبحت لا تعرف متى تناديني عمي، ومتى تناديني بسيادة اللواء... مما قد يجعل ملاذ تفقد أعصابها يومًا.
ابتسم أنس وهو ينزل آخر درجات السلم بعد أن لملم حاجياته وخرج سالكًا الدرج دون أن ينتظر المصعد وقال:
-نعم ستحيل حياتي جحيم.
-طمأنني عندما تصل.
-أصل إلى أين؟!
-أقصد عندما تعودان من عند الطبيبة.
-حسنًا يا عمي.
وقف أمام السيارة يحاول إخراج مفاتيحها من جيب بنطاله في صعوبة، وعندما استطاع ودخل إلى السيارة حاول الاتصال بها مجددًا مرارًا وتكرارًا لكن نفس النتيجة، فأطلق سبه وقحة وهو يلعن عدم تذكره لموعد الطبيبة، كيف ينسى مثل هذا الموعد؟ ضرب على المقود عدة مرات وانطلق مسرعًا نحو العيادة.
༺༻
أيا معشر العشاق أليس لي بينكم خلوة
خلوة مزدانة بالاشتعال الحارق الذي يكوي قلبي
ومحبوبًا يقسم بالأيمان أغلظها بألا يضيع العشق بيننا
صبرت حتى جاءني نصيبًا من الهوىٰ فجزع هو مني
بعد أن تلمست فيه السكن، فتقيحت جروحي
وخرج كل ظلام قبع يومًا فوق كاهلي
حقدًا أو أشد قسوة
༺༻
داخل سيارة فريد، كانت إيمان تسبح بين أفكارها في ليلة أمس، كيف أن كارم تجهم وازداد عبوسه بما سمعه من نكبات مرّت بها، وظل صامتًا لدقائق طويلة حاولت فيها سبر أغواره لكنه كان شديد الغموض وقد أسدل ستارًا منيعًا على أفكاره، لكنه عندما تكلم سأل بغموض:
-ولما كان لقاؤنا في هذا المطعم تحديدًا في المرة السابقة؟!
تحرك بؤبؤي العسل بين محجريها في توتر ملحوظ ولم تتكلم، فسأل مجددًا:
-لأسأل السؤال بطريقة أخرى، هل لأنه المطعم الذي كنتما تتقابلا فيه؟!
رفعت بصرها بصدمة تنفي بدهشة ما يقول:
-لا... بالطبع لا، أنا لم أكن أعيش في المدينة كنت أسكن في بلدتي من الأساس وكانت آماني الدائم... حتى تركني خطيبي بفستان العُرس الملطخ بالوحل.
لم يتخل عن غموضه والحالة التي تلبسته وهو يسأل:
-هناك سبب يخصه لنتقابل في هذا المطعم في المرة السابقة، أليس كذلك؟
كانت الجملة تقريرية ويبدو أنه أضاف السؤال الأخير وكأنه يتحداها الرفض، لذلك اكتفت بالصمت إجابة، فقال مبتسمًا من جديد لكن الابتسامة تحو شيء عميق من القسوة، وصوته يعكس حربًا شعواء وكأن داخله ينزف بعد معركة دامية:
-مبارك يا عروسي، أعتقد أن هذا وقتًا كافيًا لأن أحافظ على مظهركِ أمامه، كما أنني غالبًا نفذت ما تسعين إليه دون علمي.
لكمة شديدة التسديد في منتصف صدرها أخلفت شرخًا عظيمًا، كانت الطاعنة والمتألمة في آن واحد، تقريعه كان شديد القسوة رغم بساطة الفعل، لم يكتف بكرمه معها حتى الآن، ليته أساء إلى مظهرها ليته يثور ولا يترسم هذا التألم بالغ القسوة على ملامحه هكذا، تتذكر هذا التعبير جيدًا فقد ارتسم قبلًا على وجه حازم شقيقها، قلب اخته الذي تحمّل في سبيلها الكثير، إلى أي مدى يمكنها طعن كل رجل تقبلها قبول حسن وأكرمها وكرمها انتقامًا لشبح رجل مجردًا من انسانيته وليس رجولته فقط.
أفاقها من اجترار ذكريات يوم أمس صوت فريد عندما قال مشاكسًا:
-يا بنت يا إيمان، ذكريني أن أكافئك على إخلاء السيارة لشقيقك.
وأضاف غمزة لم تفهم موقعها، الحقيقة هي لم تفهم أي شيء منذ ليلة أمس... كما لم تفهم حتى الآن هل هي مخطوبة أم انتهت الخطبة، بالطبع هي لن تكمل في هذه الخطبة لكن يجب أن تترك أمر فضها له، لن تكون قاسية إلى هذا الحد.
لم يخف على فريد شرود إيمان ورجوعها لقوقعتها من جديد، نعم لم يحترم حزنها بحرصه على ايصال سبب غمزته لتقى في الخلفية وتعرف أنها بالفعل قضت على كل السبل بينهما، شقيقته مكلومة... لكن صمتها يخبره أنها فعلت ما لم يحمد عقباه ولم ترحم قلوبهم التي قاست بسببها... عفوًا قلب حازم فقط، فإن كان الأمر متروكًا له لكان قتلها منذ زمن على هذا العقل الذي يبدو أنه يحتاج إلى تنظيف حتى يلمع من جديد.
رفع عينيه إلى المرآه أمامه ليرى تلك التي ساهمت بكل كيانها في قتله وغرز سكينًا ثلمًا فكانت آلامه مضاعفة، نعم لا زال يحبها ويؤلمه قلبه إن رآها حزينة... يحترق جوفه... ويبتلع الحنظل بأشواكٍ مسننة مع دمع عينيها، كما الآن تمامًا... فكانت تواري عينيها خلف نظارة شمسية قاتمة لكن مخاط أنفها السائل واخرجها لمنديلًا من حقيبتها تجفف به عينيها، ثم آخر استخدمته لمسح أنفها السائل فضح كتمها للبكاء الصامت، فابتسم لذكرى بعيدة أخبرته فيها أنها تكره البكاء لأن مع أول دمعة تحرق جفونها تسيل أنفها بطريقة تفقدها أعصابها... ابتسم تألمًا وهو يتذكر...
عندما كانوا أطفالًا يجرون ويلهون هنا وهناك، كان عائدًا بعد ساعات قضاها يلعب كرة القدم مع بعض من أقرانه في تلك المرحلة، ورآها تجلس في حديقة الدار تبكي وتسبيح تواسيها فاقترب منهما ليفهم سبب بكاءها، يومها لم تكن قادرة على الحديث وتمنعها شهقاتها وغصة البكاء... وسيلان أنفها؛ فتطوعت تسبيح بشرح ما حدث...
ابتسم بألم وهو يتذكر كيف كانت ضعيفة... رقيقة... قابلة للكسر رغم انتفاخ خديها الأحمرين دومًا بسبب شقاوة الطفولة وعفرتتهم في ذلك الوقت وحرقة حرارة الشمس لبياض بشرتها التي تلونت بسمرة حرارة بلدتهم...
تذكر كيف ثار في وجههما معًا وتسبيح لم تتم شرحها المفصل، مجرد أن سمع أن واحدة من أطفال البلدة ضربتها وحصلت على العروس القماشية التي تتعلق بها تقى وتعدها كنزها الثمين، وزاد صوت نحيبها وولولتها لثورته في وجهها هكذا...
وفي اليوم التالي أخذها معه في إحدى حارات البلدة التي عادة ما تكون مهجورة الأقدام وأرسل تسبيح لتأتي بالطفلة إلى هنا بمكرها المخادع...
يتذكر سعادتها جيدًا وكيف احتضنت عروسها وكأنما حياتها متوقفة عليها عندما أخذها من الطفلة وأخذ في تقريع سلوكها، ويتذكر نظراتها المتشفية للفتاة ببراءة، عندما صرخ في الفتاة ألا تفعلها مجددًا.
وبعد عودتهم ثلاثةً، قال لهما:
-لا أريد بكاءً وتفاهة الفتيات تلك مرة أخرى.
فصرخت تسبيح تمردًا:
-لسنا تافهات.
فقالت تقى برقة متناهية:
-يا تسبيح لا تفعلي ذلك، إنه ساعدنا للتو.
فلكزتها تسبيح في خصرها وهي تقول:
-لا تزيدي تفوقه الذكوري أكثر من ذلك يا بلهاء.
يومها نظرت لها تقى ببله حقيقي وهي تسألها:
-ما تفوق ذكوري هذا.
فتولى هو الحديث هذه المرة وهو يجيبها:
-لا دخل لكِ بذات الطباع النارية يا تقى، ولا تلتفتِ لما تقوله.
تسبيح دومًا ما كانت فصيحة لغويًّا منذ صغرها لكنها لديها بعض المصطلحات التي يكاد يقف أمامها مذهولًا بأن من أين لها بهذه المصطلحات؟!
يتذكر جيدًا أنهم عندما عادوا إلى الدار طلبت منه أن يأخذ العروس للفتاة وأن يصالحها ولا يجعلها تحزن، وأنها فقط فقدت أعصابها بسبب أنفها وأن الجميع شاهدها وهي تضربها فشعرت بكرامتها مهدورة لذلك هي لا تحتاج للعبتها... وفعل كما طلبت لكنه آتها بعروس أخرى تشبهها لحد كبير في خديها المنتفخين الحمراوين.
رفع عينه مجددًا للمرآة وجدها على نفس حالتها تحاول ايقاف بكاءها فضغط على عجلة القيادة حتى ابيضت مفاصله، لكنه لم يحاول تطيب خاطرها، وسؤال واحد يدور في عقله هل للأيام مهما مرت والأرض مهما باعدت سبلهم... بأن يتغير الإنسان من جذوره، فحتى إن تغيرت جميع البشر فلن تتغير تقى، فمن له مثل صفاء قلبها حتى يظهر على وجهه مثلها.
༺༻
تفادى فيما يزيد عن عشرة حوادث حتى وصل إلى المركز الطبي الخاص بالطبيبة ترجل من سيارته، ودخل إلى العيادة يسأل الممرضة عن ميعاد زوجته، لتخبره بعد أن بحثت عن اسمها على الحاسوب أمامها:
-السيدة ملاذ لم تأكد على حجز ميعاد اليوم.
قطب حاجبيه يحاول فهم ما يحدث ليست عند والدها وبالتأكيد كارم مشغولًا مع خطيبته، أين هي إذًا؟! تراجع خارجًا من العيادة وأخرج هاتفه يحاول الاتصال بها مجددًا لكن اغلاق هاتفها كانت اجابته من جديد، اتصل على هاتف محل عملها وسأل عنها وكان ليشعر بالحرج إن كانت قد تغيبت لليوم لكن الإجابة أطاحت بعقله وشعر بخطر حقيقي والموظفة تخبره:
-الأستاذة ملاذ مدت فترة العطلة بعد قطعها.
البرودة الهالكة التي تصيب العظام نخرًا... والقلب هجرًا... والصدر خواءً... أصابته ولفته بكل تلك الأعراض، لا يعرف لما شعر بالهواء يسحب من رئتيه فلم يقدر على التنفس بهدوء وراحة... شعر بأنه بحاجة للتنفس الصناعي... خوف حد الرعب وهو يتخيل أنها هجرته، لكن كيف ووالدها لا يعرف عنها شيء.
نظر للهاتف في يده وكان قد أنزله عن أذنه دون أن يشعر، بحث في الارقام ليتصل باللواء عصمت ويبدو أن الموظفة أغلقت الخط بعد أن يأست من رده من جديد، رنين ثم الآخر وانفتح الاتصال لكن دون رد من قبل عصمت الذي انتظره أن يتكلم، ليفعل وهو يسأل محاولًا الهدوء:
-أين زوجتي؟!
-ماذا بك يا أنس؟! ألم تكن تذهب لها عند الطبيبة؟!
-ملاذ لم تأكد الحجز عند الطبيبة، كما أنها لم تذهب للعمل بعد أن قطعت الاجازة... لا، ما فهمته أنها ذهبت لتمدها...
صمت يحاول كتم غيظه وسأل:
-كيف تستغفلوني كل هذه المدة؟! كيف لك أن تطاوعها يا سيادة اللواء في أن تغافلني كاذبة بأنها تذهب للعمل؟؟
-هل أفهم من ذلك أنك وملاذ على شجار؟! هل ضايقت ابنتي واتعستها في شهور حملها؟!
شعوره كرجل مطعون جعله يغفل عن نبرة عصمت المهددة، فقال:
-ألا ترى أنك تقوم بالضغط عليّ كثيرًا يا عمي؟! أن تساعد ملاذ على البعد عني والتخطيط لأن تعود لعملها ثم تمد اجازتها لتستطيع التحرك بسهولة وتنفيذ ما خططت له بسهولة ويسر وكأنني لا وجود لي في حياتها...
صرخ عصمت غاضبًا:
-ماذا تقصد؟!
ففقد تعقله وقال غاضبًا وإن لم يكن يصرخ:
-أقصد أن تخبرني بمكان زوجتي، فلا أعرف ما قد ينتج من تصرفاتي في هذه اللحظة.
-أخبرك بمكان زوجتك؟!
كانت جملة عصمت السابقة هامسة وقاتلة في آن واحد، وإن كان ما صرخ به من قبل يسمى غضب فصراخه الآن أضحى دمارًا:
-أين ابنتي يا أنس؟! هل أضعت ابنتي؟! ماذا فعلت لها؟! أمامك عشرة دقائق وتكون أمامي في مبنى القوات.
ثم أغلق الخط.
أنزل أنس الهاتف وهو ينظر أمامه بتيه والتف حول نفسه، ويشعر بوسع الشارع من حوله وكأنه يضيق به حتى يطبق فوق صدره، شعر بدوار يعصف برأسه ولا يعرف ماذا يفعل فارتكن إلى سيارته وظل ينظر أمامه واتخذ قراره بالذهاب لمبنى القوات.
وعندما وصل كان كيانه ينزف وشعور بالتيه يحتله ويجسم فوق كاهله، ويشعر بتزعزع أمانه ومأواه وراحته... يشعر بتزعزع ملاذه، كانت دومًا تخبره بأنه لها الأمان التي تغفو ما أن تشعر به يلفها، ولكنه لم يخبرها بأن التائه دونها... المتعب بهجرها... الذليل مع غيرها... لم يخبرها بالكثير مما يشعره تجاهها في الآونة الأخيرة بسبب نادرين وما تفعله من زعزعت أمن البلاد، لكن زلزلة كيانه واحتلت تفكيره بكيف يخرجها سالمة مما ورطت نفسها به، حتى خسر في سبيل ذلك حياته وزوجته وطفله الذي لم ير النور بعد.
دخل مكتب عصمت الذي مجرد أن رآه هب واقفًا يصرخ:
-ماذا قلت؟! هل فعلًا ما سمعته صحيحًا؟! هل أضعت ابنتي بسوء تصرفك؟! ماذا فعلت لها لتهجرك هكذا دون حتى اخباري؟!
قال أنس وهو يحاول التنفس بهدوء:
-أخبرني أين هي يا عمي، أخبرني ولن أذهب إليها... أخبرني أنك تعرف مكانها وأنها تحت حمايتك وستختفي حتى أحل مشكلتي مع ناردين وأطلقها... أخبرني أنك أفهمتها ما يحدث فقررت انتظاري بعيدًا.
جلس عصمت بصعوبة على كرسيه مجددًا وهو يستند على المكتب يحاول توازن نفسه وألا يسقط أرضًا، وهمس:
-أضعت ملاذ يا أنس! فرطت في أمانتي لك، نزعت كبدي... أضعت ثمرة حياتي التي ربيتها حتى أضحت وردةً تسر عين الناظر.
-عمي أرجوك أخبرني أنك تعرف أين هي... سأسامحكما لكن لا تنتقما مني هكذا... هي روحي، فلا تسلبوني إياها... أرجوك.
-أضعت ابنتي يا أنس...
مشاهدته لعصمت وقد انحنت هامته وانخفضت رأسه في جملته التقريرية، جعله ينسحب وهو يجر قدميه بصعوبة ويخرج بكآبة، كمن يحمل من الهموم أثقلها.
༺༻
انتهى الفصل الثالث عشر.
قراءة سعيدة.
موعدنا غدًا مع الفصل الرابع عشر
كونوا بالقرب ❤️


چورية غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 04:34 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.