آخر 10 مشاركات
ومضة شك في غمرة يقين (الكاتـب : الريم ناصر - )           »          العيون الحالمة -شرقية زائرة- للكاتبة الآخاذة: Jάωђάrά49 *كاملة & بالروابط* (الكاتـب : Jάωђάrά49 - )           »          لمحت في شفتيها طيف مقبرتي تروي الحكايات أن الثغر معصية (الكاتـب : لامارا - )           »          استسلام رايدر (31) للكاتبة: Marin Thomas ..كاملة.. (الكاتـب : * فوفو * - )           »          رواية : أغلــى زمـآن ' (الكاتـب : غفوة - )           »          130 - لن اطلب الرحمه - ان هامبسون ع ق ( كتابة /كاملة)** (الكاتـب : فرح - )           »          فضيحة فتاة المجتمع الراقي (83) لـ:مورين شايلد (الجزء1 من سلسلة فضائح بارك أفينو)كاملة (الكاتـب : * فوفو * - )           »          زواج على حافة الانهيار (146) للكاتبة: Emma Darcy (كاملة+روابط) (الكاتـب : Gege86 - )           »          تَدْبِير موريتي(104) للكاتبة:Katherine Garbera(الجزء3من سلسلة ميراث آل موريتي) كاملة (الكاتـب : Gege86 - )           »          67- حارس القلعة - ريبيكا ستراتون - ع.ق (تصوير جديد) (الكاتـب : Gege86 - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات الطويلة المكتملة المنفردة ( وحي الأعضاء )

Like Tree81Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 20-10-22, 10:12 PM   #11

قصص من وحي الاعضاء

اشراف القسم

 
الصورة الرمزية قصص من وحي الاعضاء

? العضوٌ??? » 168130
?  التسِجيلٌ » Apr 2011
? مشَارَ?اتْي » 2,558
?  نُقآطِيْ » قصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond repute
افتراضي


الحلقة السادسة



لين طاهر

بابتسامتها المشرقة وعينيها الدافئتين استقبلتني مونيا بكلماتها المرحبة و بلهجتها المغربية المحببة التي باتت تطرب أذناي لسماعها. ضحكتْ مونيا بخفةٍ حين رأتْ علامات الاستفهام ترتسم على وجهي و أنا أشاهد أثاث الشقة و قد أُزيح جانباً لتظهر مساحة المكان و رحابته و حين نظرتُ إليها والتساؤل في عينيّ أجابتني أنها تحاول تخصيص مساحة كافية ليلهو أيمن بسيارته الكهربائية، غمر الدفء قلبي فور ذكرها أيمن و نطقتُ من فوري:
- " يا حبيب قلبي، و الله نفسي أركب معه في سيارته مونيا " .
المضحك في الأمر أن مونيا تظنني أمازحها لكنني كنتُ فعلاً مستعدة أن أجرب السيارة فيما لو سمحت لي. كانت مونيا قد بدأت تلتقط ألعاب أيمن فبادرتُ بأخذهم منها و أكملت تلك المهمة و أنا في غاية السعادة لأضعها في الصندوق الكبير الذي خصصته مونيا لألعاب أيمن و قد ازدانت جوانبه بتلك الشخصيات الكرتونية اللطيفة من أفلام ديزني الجميلة، فلم (Toy Story 2 )، شعرتُ بحنانٍ شديدٍ و شوقٍ كبيرٍ لأن يكون لي طفل أحبه و أهتم بأشيائه كما أحب أيمن وردّدتُ في نفسي :
" بسم الله ما شاء الله لا قوة إلا بالله"
كما علمتني أمي لكي يحفظه الله و يرعاه و يبعد عنه شر العين. صرت أتخيل شكل طفلي و أنا أضم تلك الألعاب إلى صدري متخيّلة أنامله الصغيرة و قد حطت عليها تحاول اكتشاف ملمسها و أبعادها.
فاضت عيناي بدموع حبستها بقوةٍ و أنا أرى وجه ملائكي لطفلي بعيني قلبي و قد أخذ من والده عمق نظراته و سواد شعره.
أعتصر الألم قلبي و أنا أتذكر راشد بنظراته المستعرة التي كانت أكثر ما آلمني حين تركني هذا الصباح، لا أريد لطفلي أن يأخذ قساوة راشد و تقلبات مزاجه الحادة، أعرف أنه شغوف و حنون لكنه أيضاً يتعامل ببرودة أعصاب تقهرني وتجعلني أشعر بالنبذ والإهمال دون حتى أن أعرف السبب، يثور بسرعة و يزعجه أيّ تصرف عفوي مني، آه يا نفسي المعذبة كم تحبينه!
أصبحت أتساءل.. لماذا تزوجني إذا كنتُ لا أعجبه؟، لماذا علمني كل أبجديات الحب؟، لماذا علمني معنى أن أحب رجلاً؟ رجلاً حقيقياً يسيطر بقوته الخشنة المنبعثة منه على مشاعرنا معاً، ثم و بعد أن تمكن حبه من قلبي البريء الذي ما عرف ولا شعر بنبضٍ إلا معه و له صار يتعامل معي بقسوةٍ لا أفهمها و لا أعرف لها سبباً ليتركني أضيع في هذا الفراغ الموحش بعيداً عنه. تنهيدة حارة أطلقتُها قبل أن ترتسم ابتسامة باهتة على وجهي و أنا أغلق الصندوق وأضعه في مكانه المناسب لألحق بمونيا إلى المطبخ حيث أخبرتني أنها ستحضر لنا فنجانين من الشاي الأخضر المغربيّ.
اتجهت أفكاري من أيمن إلى آية و قد اتسعت ابتسامتي و أنا أتذكر الوقت الرائع الذي قضيناه معاً و بالذات و نحن نقرر أننا يجب أن نبتاع مقلاة مثل (رابونزل) لنضرب بها الأشرار، ثم استدركت ما قالته لي آية عن ريتشيل و سفرها، و رفعت رأسي نحو مونيا لأخبرها :
- :" بتعرفي أنه ريتشيل سافرت على تركيا؟"
لا أعرف لمَ كنتُ أتمنى في قرارة نفسي أن تكون ريتشيل قد أخبرت أحداً بسفرها، لكن ردة فعل مونيا أظهرت و بوضوحٍ أنها تفاجأت مثلي بسفرها و إن حاولت بلباقتها أن تظهر عكس ذلك، فأخبرتها أن آية ابنة علياء أخبرتني أنها سمعت بسفرها من علياء شخصياً، لكن مونيا و كعادتها تحاول دائماً بث الطمأنينة في نفسي، فهي تعاملني كأنني أختها الصغيرة و تحاول أن تبعد عن أفكاري القلق والتوتر لأنها تعرف أنني أحب كل جاراتي و أهتم لأمرهن كثيراً،" يا الله كم أحبك يا مونيا " هتفت في نفسي، تعجبني شخصيتها جداً، فهي سيدة ناجحة و متميزة في عملها و الأهم أنها في بيتها تعيش مع زوجها حياة دافئة و مستقرة
" ما شاء الله"، حين نلتقي بهم أنا وراشد في مصعد العمارة أحياناً أو في مواقف اصطفاف السيارات، أشعر بالرابط السحري الذي يلفها و زوجها معاً بتناغم راقي، تعلقي الواضح بأيمن خلق بين الرجلين صداقة احترام و تقدير متبادل بينهما، و جعلني أتعرف على مونيا أكثر و أزورها في بيتها حين يسمح وقتها بذلك، كانت تصورني و أيمن و نحن نلعب معاً و حين كنتُ أسألها كانت تخبرني أن أجمل اللحظات تلك التي نخطفها بعين الكاميرا دون سابق ترتيب، لتَظهر عفوية و تلقائية و بالمشاعر الحقيقية الوليدة لحظة التقاط الصورة. مونيا لا تحب الاستعداد للتصوير و تلتقط بعينها الخبيرة صوراً لكل ما يلفتُ نظرها في هذا العالم من طبيعة خلابة و مدن و قرى و أناس عاملون و آخرون يمرحون.
سرحت بخيالي و ابتسامة حالمة ترتسم على وجهي و أنا أراها تسكب الشاي في الفناجين الجميلة بزخرفتها الجذابة بينما أتذكر قصة لقائها مع زوجها ياسر، رفعت رأسي لها حين أخبرتني أن ريتشيل قد تكون سافرت فجأة كما كانت تفعل هي أحياناً كثيرة قبل زواجها، ضحكت عالياً على ملاحظتها تلك و حركت لها حاجبيّ بشقاوة لأخبرها أنها الآن لن تستطيع أن تتحرك دون أن تقوم بمهمة إقناع السلطات العليا بذلك، ابتسامتها المرتبكة أشعرتني بالقلق الذي أحاول جاهدة أن لا أستمع لأنينه داخل جنباتي، ثم و بعد دقائق من التفكير أخبرتها بجدية أن ريتشيل عادة لا تفعل ذلك فهي فتاة هادئة و لا تقدم على أمر دون سابق تخطيط، كما أنها غالباً ما تخبرنا عما يحدث معها من أمور، ألم تخبرنا بأمر العقد الأثري؟!، لذلك أجدني مستغربة من سفرها فهي ليست من ذلك النوع المغامر، أمعنت النظر في عيني مونيا لأقول لها هامسة و أنا أشعر بأهمية ما سأقوله :
- :" لتكوني نسيتِ أنها خبرتنا عن سر العقد وأنه ممكن يكون مستهدف."
حاولت مونيا أن تثنيني عن تفكيري المقلق بتبريرها لريتشيل سفرها بأن أمراً طارئاً قد يكون السبب في سفرها المفاجئ ولم يسعفها الوقت لتخبرَ أيٍّ منا بذلك، وافقت بهزةٍ من رأسي على كلام مونيا و أنا أغرق في أفكاري مرة أخرى.
انتشلني صوت مونيا و هي تهمس بحنانها الأخوي :
- :" لين عندي إحساس قوي بِأنك كَتْعَانِي قلق وإضطراب مَاشِي غِيرْ بْسْبَبْ سَفَر ريتشيل ولكن بْسْبَبْ أمور أخرى."
يا الله بهرتني مونيا و هي تضع يدها على ما يدمي قلبي و يثقل صدري و يجعلني في حالة من الشعور بالوحدة المريرة، لم أستطع أن أنفي أو أن أصرح تماماً بما في قلبي، فاحترام الخصوصية الزوجية من أهم و أسمى ما تعلمته من أمي و ما رأيته واقعاً بين صديقاتي جاراتي في عمارة ريتشيل، أعرف أن مونيا بذكائها لم يفتها اضطرابي و قلقي، و أنها لاحظت أيضاً الحيرة والحزن اللذين ارتسما على وجهي بسبب تفكيري المستمر براشد و تصرفاته معي، نظرت إليها بشرود و قد أنهكني تخبط أفكاري بدوامةٍ من الأسئلة التي لم أجد لها جواباً، لكنني حين رأيت تعاطف نظراتها ثم سؤالها بخفوتٍ إن كان راشد هو ما يحيرني، لم أستطع إلا أن أصرح لها باختصار ما يقلقني و ما يجعل قلبي يختلج بكل هذا الحزن، أطلقتُ تنهيدةً طويلةً قبل أن أقول لها :
- "كل محاولاتي لأقرب منه بتفشل وبحسها بتبعدني عنه أكثر، ما بعرف ليش بيفكرني بعانده مع إني أبداً ما بكون قصدي هيك مونيا، مو عارفة شو أعمل؟"
عَمقّت نظراتها في عيني لتنصحني بحكمةٍ أن أتصارح مع راشد و أخبره بكل ما يختلج في صدري من ألمٍ و حزنٍ أو تساؤلاتٍ تؤرقني و تقض مضجعي لنتقارب و نتفاهم أكثر، موضحة أن الأمر لن يتم إلا باحترام كل منا لرغبات الآخر و إعطائه المساحة الكافية ليتحرك فيها دون أيّ ضغوطات.
أطرقتُ برأسي قليلاً أفكر بكلامها و نصيحتها الثمينة، صارعت دموعاً حبيسةً لتبقى في عيوني و أنا أكتم في نفسي قلقي المرهِق لأعصابي من تلك الرشا الماكرة بأسلوبها الزاحف نحو راشد، و التي بتُّ أعتقد أنّها السبب في تغير راشد نحوي، و صارت نفسي المخنوقة ظُلماً و غُبناً تستصرخ بقوةٍ لأنادي أن راشد لي وحدي، هو زوجي أنا، راشد هو وطني أنا دون سواي و لن أرضى بغير ذلك، فلتبحث تلك الرشا عن وطن بديل لها، لكن راشد أبداً.. أبداً لن يكون لها، تلك الانتهازية المتسلقة، رأته رجلاً قوياً عصامياً ناجحاً، تمتد جذوره لتعانق العرب الأشراف و يُبشّر مستقبله بالخير الكثير، نعم بالطبع، فالعلمُ الغزير و المكانةُ المرموقة و المالُ الوفير الذي يجنيه تصنع معاً في نظرها مقومات مستقبل آمن لها بغض النظر عن مسؤولياته، فالغاية تبرر الوسيلة لأمثالها .
لا لن أسمح لها و لا لسواها بمجرد التفكير بأن تتملّك ما لا تستحق أصلاً، راشد حقٌّ من حقوقي، صدره وطني و قلبه بيتي و في جذوره عزّي و نسبي.
راشد هو الأمن والأمان لي ولأطفالنا معاً، إن كنت أبدو حالمة و عفوية فهذا لأنكِ تنظرين أيتها الرشا دون أن تتأملي أو تتعمقي في نفسي و وجداني، حيث تنمو و تترعرع أرقى و أقوى المعاني التي جُبلت عليها و غُرست في عقلي و قلبي، لا استسلام و لا تسليم، و لا تفريط بأي حقّ من حقوقي المشروعة، لن أسمح باقتلاعي و تهجيري و نفيي خارج وطني، لن أشاهدكِ و أنتِ على مهل تحيكين خيوط شباككِ حول راشدي وطني، و تذكري....
" أنا لا أكره الناس، ولا أسطو على أحدٍ، ولكني … إذا ما جعتُ، آكل لحم مغتصبي، فحذار … حذار … من جوعي ومن غضبي ".
شعرت بأن صرخاتي التي ضاقت ذرعاً بصدري قد خرجت على شكل أنفاسٍ متسارعةٍ جعلتني أشعر بأنني كنتُ في معركةٍ حامية الوطيس دارت كلها في أفكاري و لم ينقذني منها إلا صوت مونيا و هي تقترب بخطواتها نحوي لتمسك يداي بأخوةٍ حقيقية و لتبث في نفسي القوة والعزيمة و هي تخبرني أن وجودنا معاً هنا في هذه العمارة كان أعظم و أروع تجارب حياتها لأنها تشعر أنها تعيش بين أهلها و أخواتها و قد جمعنا الدم العربي الشريف و وحّدنا الدين الإسلاميّ الحنيف.
لم أشعر إلا بدموعي تنساب على وجهي و لم أستطع أن أتفوه بكلمةٍ واحدةٍ لكن نشيجي المكبوت انفعالا و تأثراً بكلماتها و حنانها البالغ جعلها تبادر لضمي نحوها بعناقٍ أخوي ملأ قلبي دفئاً و أشعرني بأنني أكثر الفتيات حظّاً على الإطلاق لوجودي بين جاراتي العربيات اللواتي تملأ الطيبة و الحب والعطاء نفوسهن الكريمة، فلا غربة بين أهل كرماء وأخوات حنونات، حاولت أن أبتسم من بين دموعي و أنا أضم مونيا بدوري لأقول لها و قد شعرت بهمومي كلها تنزاح عن كاهلي :
- " والله بحبكم كلياتكم يا عصبة النون ".
شعرت فجأة بابتعاد مونيا وقد لاحظتُ علامات التفكير العميق التي ارتسمت على وجهها و بدت و كأنها قد تذكرت شيئاً مهماً فسألتني بلهفة :
- " هل زاركِ شخصين يسألان عن ريتشيل مساء البارحة؟"
أخبرتها أنني سمعتُ حديثهما مع راشد و قد جذبني صوت المرأة و هي تحادث راشد بميوعة بينما تجول عينيها في المكان و كأنها تلتقط بهما الصور.
سألتني باهتمام :
- " و هل رأيتهما لين؟".
قشعريرة خوف انتابتني و أنا أسترجع لقائي بهما قبل أن أجيبها :
- " نعم، شفتهم و حكالي راشد أنهما محققين يسألان عن ريتشيل، لكني بصراحة شعرت برهبةٍ من نظرات الرجل المتفحصة بعمقٍ غريبٍ و بنفورٍ من نظرات المرأة الجريئة".
أخبرتها أن المحققين قد أثارا حفيظة راشد لأنني رأيت الشك في عينيه و شاهدتُ صرامة تصرفاته معهما و هو يطلب بعجرفةٍ و مللٍ واضحٍ بطاقاتهما الشخصية، كما أنه لم يسمح لهما بتجاوز الباب الذي وقف أمامه بحركةٍ دفاعيةٍ متربصةٍ و قد تحفزت كل عضلاته و شعر بالاستفزاز من طريقة سؤالهما، ثم أشار لهما بالانصراف فور سماعه لردّي بأنني لم أَرَها منذ لقائنا معها.
كانت مونيا تستمع بانتباه شديدٍ لكل ما قلته عن المحققين ورأي راشد بهما و شكّه في أسلوبهما، رأيتها تفكر قليلاً قبل أن تخرج مسرعةً و هي تناديني من وراء كتفها لألحق بها.
صوت وصول رسالة على هاتفي أوقفني لأنظر بدهشةٍ إلى الكلمات التي كتبها راشد في رسالةٍ يبدو واضحاً أنه أخذ بعض الوقت ليكتبها بعد رسائله المتتالية ( ok)، " نصف ساعة أو أكثر و أكون في البيت لنتحدث ليني . " دغدغة حلوة شعرت بها في قلبي و أنا أرى اسم " ليني" في رسالته المقتضبة، مما يدل على أنه قد تجاوز غضبه الهادر و هو مستعد الآن للحديث، حسناً أيها الراشد و لكن ليس قبل أن تراضيني أيها الدفش. أرسلت له و للمرة الأولى " سأنتظرك أبو عاهد"، لألحق بعدها بمونيا التي كانت مشغولة بإخراج شريحة من كاميرا كانت تحملها بيدها. سألتها عن الكاميرا وماذا تفعل لتجيبني بأنها وضعتها خصيّصاً لتراقب مدخل بيتها و تسجل كل من يقوم بطرق بابها أو المرور من أمامه.
انتابني القلق و شعرت بالخوف يتملكني عليها و هي تخبرني بأنها إجراءات احترازية مضطرة أن تقوم بها لأنها و أسرتها معرضة لخطر كبير لا تعرف حجمه ولا وقته ولا مكانه. شغلت حاسوبها بعد أن وضعت فيه ذاكرة الكاميرا لتقرب الصورة على وجه الشخصين اللذين ظهرا على شاشة الحاسوب، عرفت فوراً أنهما المحققان اللذان شاهدتهما ذلك اليوم فرفعت رأسي لأخبر مونيا ذلك، لكنني فجأة تسمرت في مكاني و قد هالني ما رأيت فشعرت بأن الدماء قد جفت في عروقي و ارتعدت فرائصي و أنا أخفض بصري نحو ما يحمله ذلك الشخص، كان يصوّب فوّهة مسدسه نحوي و قد أعتلى قسماته الاستياء الشديد و الغضب المقيت، تسارعت أمامي صوراً كثيرةً لحياتي تركزت كلها حول أمي وأبي و عائلتي لتنتهي براشد، ثم بدأت الغرفة تضيق و كأنها ستطبق عليّ، و لم أعد أشعر بأنفاسي التي اضطربت ولا بنبضات قلبي التي تسارعتْ، جُلَّ ما سمعته كان ابتهالات لساني الذي صار يلهج بذكره سبحانه و تعالى ملك الملوك " اللهم أكفينه بما شئت و كيفما شئت إنك على كل شيء قدير "، قبل أن تصمّ أذناي صوت الطلقة النارية المدوية.


*********************



ديمة مصطفى

غربتي غربتان... غربة الوطن وغربة الفؤاد.
و سكين الألم أصابني في مطعنان، مطعن فلق قلبي قسمتين عندما أدركت بأنني لم أُحَب يوما كما ينبغي للمرأة أن تُحَب، كما تحلم الفتاة منذ مطلع أنوثتها وغرور دفين يمنحها ذلك الأمل والمطمع بفارس أحلام يمتطي فرسه الأبيض ليغرقها في دوامة العشق والوله.
ومطعن أصاب كبريائي في الصميم عندما اكتشفت بعد ثماني سنوات من الزواج.بأن زوجي يخونني.
الحل المطروح أمامي في حالة كهذه.. والمسجل في دليل المرأة الشرقية لمواجهة الخيانة الزوجية لو حدث ووجد واحدا، افتعال شجار جنوني تصل مسامعه إلى أطراف الحي اللندني الهادئ حيث نقيم ثم إذلال زوجي بجفائي إلى يوم الدين، مستمتعة باعتذاره اللامتناهي ودلاله ناسية خيانته حتى يكررها مجدداً، إلا أنني لم أستطع فعلها.. لقد عجزت حتى عن الصراخ والبكاء، لقد كنت وكأن امرأة أخرى قد احتلت جسدي لتسيرني كما تشاء..
بدلا من انتظاره ومواجهته بدليل خيانته من النظر في وجهه ورؤية الذنب يرتسم على ملامحه أرسلت له الفيديو الذي صورته له يركن سيارته إلى جانب الطريق لتحتل امرأة أخرى مقعدي أنا، مكاني أنا في سيارته، في حياته وربما في قلبه، رأيته يمسك يدها ويرفعها إلى شفتيه يقبلها بينما تطل من عينيه نظرة تطفح بالوعود، نظرة لم أحظ بمثلها منذ فترة طويلة، منذ شقت الغربة طريقها بيننا ووضعت حواجز لا مرئية لم أدركها حتى الآن.
أرسلتُ له دليل جريمته وجلست في انتظاره بعد أن أرسلت كلا من بسمة وعماد لزيارة قريبة لي تقيم في لندن مع عائلتها منذ سنوات كي أجنبهما قسوة المواجهة.
جلستُ أنتظر وأنظر بتوتر إلى باب الشقة المغلق ثم إلى ساعة الحائط التي ما انفكت تتحرك ببطء.. تيك تاك. تيك تاك. معركتي الأزلية مع الزمن.
لماذا أرسلت له تحذيرا؟ هل أمنحه دون أن أدري فرصة لاختلاق كذبة يخدعني بها؟ ماذا إن أكد لي مخاوفي.. ماذا إن قالها لي في وجهي وبكل وضوح؟ (نعم يا ديمة أنا أحب امرأة أخرى. )ماذا عليّ أن أفعل في تلك الحالة؟
أضربه؟ رباه كم أرغب بضربه.. أشعر بأصابعي تنقبض حول نفسها بحاجة ماسة لإيلامه. وهل ستكون قبضتي كافية؟ هل عليّ التسلح بالمقلاة التي اعتادت بسمة إخافة عماد والجري بها وراءه في أنحاء المنزل تيمناً بشخصيتها الكرتونية المفضلة؟ علّي ترك أثر جميل على وجهه ينفر رفيقته الحمقاء منه إلى الأبد؟
عشرات الأفكار السادية تزاحمت داخل عقلي وألهاني الغضب قليلاً عن اضطرابي وتوتري حتى فاجأني صوت مفتاحه ينبؤني بوصوله، فتوقف عقلي عن العمل تماما وأنا أقف في مواجهته. خطا إلى داخل البيت وأغلق الباب وراءه بهدوء شديد وقد تعلقت عيناه الداكنتان بعينيّ، لقد عرف بأنني سأكون في انتظاره إلا أنه بدا على العكس مني، أكثر ثباتا بوجهه الواجم وحاجبيه المعقودين وكأن التفكير قد أرهقه.. أتراه وجد كذبة أصدقها؟ يا إلهي فلتكن مقنعة! ساد الصمت للحظات طويلة لم يجرؤ أحدنا على قطعه حتى قال ببطء وبصوت حازم :- أنا لم أفعلها.
ببساطة وبدون مقدمات، لطالما كان إياد مباشراً يكره الثرثرة واللف والدوران، يضرب الهدف ويصيبه في المنتصف بحرفية، فيترك خصمه مرتبكاً، عاجزاً لا حول له ولا قوة إلا أنني لم أكن سهلة إلى هذا الحد، فأجبته بهدوء لم أشعر به :- إلا أنك أردت فعلها، فكرت بها على الأقل.
صمت آخر قبل أن يجيب باقتضاب :- ربما.
أين تلك المقلاة عندما يحتاجها أحدهم؟ بإرادة من حديد حافظت على ثبات ملامحي رغم صوتي الذي خرج مرتجفاً وأنا أسأله :- لماذا؟
ارتبكت عيناه وهو يدرسني في محاولة لقراءة ما أفكر به خلف هذا الهدوء الظاهري، لا أظن إياد قد عرفني حقاً في أي يوم من الأيام، لقد بدا وكأنه قد توقع استقبالاً عاصفاً بالصراخ والدموع، لقد توقع انهياراً عصبياً، أن يضطر لمغادرة المنزل في النهاية متهما إياي بالطفولية والجنون وربما بالبارا نويا متوعداً إياي بالغياب حتى أستعيد رشدي وقدرتي على الاستماع والنقاش بهدوء. للحظة شعرت بشيء من الانتصار المثير للشفقة لأنني لم أمنحه المخرج الذي أراده وأنا أقف منتظرة رده.
قال بتوتر :- إنها جينا كانت صديقة جيدة عندما احتجت لوقوفها معي، كانت مستمعة جيدة في حين لم تري يوماً بي أكثر من مصدر للمال والأمان من أذن تسمع شكواك وعقل يجب أن يجاري دوماً المشاكل التافهة التي تغرقينني بها.. لقد أبعدتني عنكِ ورسمتِ لي دوراً محدداً في حياتك.. احتفظتِ دوما بجزء من نفسك لنفسك فقط في حين كنت أصبو أنا إلى الشراكة الكاملة، روحاً وعقلاً، فلا تلوميني أبداً على بحثي عن مصدر آخر للعزاء و السلوى.
كدت أنفجر حقا بالضحك الهستيري عند هذه النقطة، ها أنا أعود لأكون المخطئة مجددا، دائماً أنا المخطئة، دائماً وأبدا، أنا من أقمع زوجي المسكين المحتاج إلى من يسمعه ويفهمه. بمعجزة كبتُ دموع حارقة أغشت بصري وأنا أغمغم :- اسمها جينا إذن؟
قال بنفاد صبر :- أنت تعرفين بالضبط من تكون جينا، فهي تعمل معي منذ سنتين.
كررت بنفس الهدوء :- منذ سنتين ومنذ متى تخطت حدود الزمالة لتصبح الصديقة المفضلة ثم مشروع العشيقة؟
هتف فجأة بحدة :- توقفي يا ديمة! لا تصنعي من الحبة قبة، لم يحدث شيء بحق الله!
نظرت إليه مشتتة الذهن وأنا أقول :- ما الذي تريد مني فعله؟ أن أتجاهل الأمر؟ أن أتظاهر بأنني لم أكتشف بعد ثماني سنوات بأن زوجي لا يحبني؟ بأنه غير سعيد معي، بأنه عندما أراد السلوى بحث عنها لدى امرأة أخرى، بأنه كان يخونني! ما المفترض بي أن أفعله؟ أن أعود لأتابع حياتي معك بكل بساطة وكأننا لم نكتشف لتونا أن مشكلة حقيقية تقف بيننا.
نظر إليّ شاحب الوجه، فتساءلت عن النقطة التي أثارت اهتمامه في عبارتي.
قال بجفاء :- لا مشكلة بيننا، لا تخلقي شجاراً من لا شيء. فليس هناك ما لا نستطيع تسويته. أقر بأنني مخطئ إلا أنني لم أرتكب جرماً حقيقياً. الأساس الذي جمع بيننا منذ ثماني سنوات ما يزال موجوداً كما أن هناك بسمة وعماد لنفكر بهما.. لن تحيلي حياتهما إلى جحيم لأجل أوهام لا أساس لها، لأجل غيرة ليست في محلها وخيانة لم تحصل.
قاطعته بانفعال :- ألم تحصل يا إياد؟ لقد أحببت امرأة أخرى، أدخلتها عقلك وقلبك ورغبت بها، ليس على سرير واحد أن يجمعكما كي يسمى ما تفعله بالخيانة. أنت خنتني، أهنتني وجرحتني وأنا لن أسامحك أبدا ولن أسمح لك أبدا أن تقيدني من جديد بواجبي كزوجة وأم، لن أسمح لك أن تقدم نفسك وأولادك عليّ مرة أخرى، لقد قلت بأنك لم تكن سعيدا معي، بأنك كنت غريباً عني، بأنك لم تجد ملاذاً لك بي وماذا عني أنا؟ هل أنت متأكد إلى هذا الحد بأنني كنت سعيدة معك حقا خلال السنوات السابقة؟ لا يا إياد! أنا لم أكن سعيدة معك وأنت أيضا لم تكن لي الزوج الذي أردته، كما أن حياتي معك لم تكن قط الحياة التي حلمت بها. هل كنت لتسامحني لو أنني فكرت يوماً بغيرك؟ لو أن نظري وعقلي وقلبي قد أٌسروا برجل آخر؟ لو أنني حلمت به ورغبته و..
قاطعني صارخا :- اصمتي!
تعالى صوت أنفاسنا اللاهثة ليتردد صداه بين جدران الشقة بينما كل منا يتابع النظر إلى الآخر، أنا بتحدي غاضب وهو بجنون غيرة لم يسبق أن عرفها. استعاد هدوءه وهو يقول :- ما كنت لتفعليها أبدا.
:- وما أدراك؟ لقد تبين لي بعد ثمان سنوات بأنني لم أعرفك قط، هل أنت واثق من أنك قد عرفتني يوما؟
تغير لون وجهه الوسيم وهو يردد :- أعرفكِ بما يكفي، أنت لستِ من ذاك النوع، ما كنت أبداً لتفكري برجل آخر.
اقتربت منه ببطء وأنا أقول :- لماذا؟ لماذا أنت متأكد من إلى هذا الحد؟
ارتسمت الإجابة في عينيه القاسيتين إلا أنه عجز عن قولها، ففي الإقرار بها إدانة واضحة و مهينة له، لم أفكر أبدا بأنه قادر على الاعتراف بها إلا أنه فاجئني حين قال بصوت جامد :- لأنكِ بنت ناس.
التقت نظراتنا هو كان متوتراً ومتحفزاً كهرّ في مواجهة خطر يترقبه وأنا كنت راضية كما لم أكن منذ سنوات، أشعر بثقة نشدتها طويلاً. لقد كنت منتشيه بانتصار امرأة أثبتت مكانتها دون أن تنطق بالكثير، مستمتعة بإذلال رجل واجه لتوه مدى صغره وتفاهته وبكل هدوء وبدون مقدمات قلت له :- أريد الطلاق.
الصوت القوي الذي دوى من خلفه قادماً من مكان ما داخل العمارة بدا لي للحظة وكأنه قد انطلق من فمي مع الإعلان الذي قذفته في وجهه. لم تتح لي الفرصة لأستمتع بشحوب وجهه وبمعالم الصدمة في ملامحه، إذ أن الصرخة الأنثوية الملتاعة التي شقت صمت الهواء لاحقة بالصوت أزاحت كل مشاكلنا جانبا وقد تنبأ كلانا ونحن نغادر الشقة معاً نستشعر الجنون الذي ساد الطوابق التي اكتظت فجأة بسكان العمارة.. وضجت بالصرخات الملتاعة بأن مصيبة قد حدثت للتو.


*****************



خولة سعود

كان يا مكان، في قديم الزمان، حيث تجارة الرقيق منتشرة، رجل طيب قدم لأحد العبيد وقال له محذرا "يا فلان سيدك سيقوم ببيعك يوم السبت"، فضحك العبد قائلا "لا تخف فأنا سأهرب منه يوم الجمعة" النهاية.
هذا ما فعله معي السيد خالد تماما، فعندما قررت إعلان حالة الإضراب وأن لا أطبخ اليوم، وجدته يدخل المنزل وبرفقته مازن ليقول لي ببراءة "لقد دعوتُ مازن لتناول الغداء!"، والنهاية أنني قضيت أصعب خمسين دقيقة في هذا المطبخ لأعد للسيدين غدائهما.
سمعتُ صوت الباب يُغلق، إذن فقد خرج مازن، نظرتُ إلى ساعة الحائط لأجدها تشير إلى الثانية وعشرين دقيقة، ثم بدأت بغسل الأطباق.
"هل أكلتِ؟"
لم أستطع منع نفسي من أن أجيبه ساخرة "أجل، أكلتُ مع الكابتن ماجد."
سأل بتعجب "هل أنتِ غاضبة لأنني أحضرت مازن؟" ثم أضاف مفسرا "لقد وجدته عند المصعد، وشعرت أنه كان غاضباً مهموماً وحزيناً، لذا أحببت أن أجعله ينسى همومه فدعوته للغداء"
يا لخالد الحساس! إذا كان بهذه الرقة فلماذا لم يشعر بأن زوجته المسكينة غاضبة مهمومة حزينة ومجروحة منه أيضا!
قال بدهاء بعد أن أيقن أني لن أرد عليه "لقد أغضبته مينة."
تجاهليه، تجاهليه، تجاهليه، أخذتُ أهمس في داخلي بهذه الكلمات، لكنني للأسف فشلت، فأنا لا أستطيع أن أتجاهل حديثا عن إحدى جاراتي، وخصوصا غاليتي مينة، وخالد الماكر يعرف ذلك جيداً، التفتُ إليه قائلة ببرود كاذب "وماذا فعلتْ له؟"
كرهتُ نفسي لأنني استسلمت وسألته، فقد ابتسم ابتسامة نصر شيطانية ثم قال ببساطة "لم أسأله"
أخذت أرمق بطرف عيني السكين الموضوعة على الطاولة وأنا أتساءل، هل سيظل مبتسماً عندما أغرسها في قلبه! سألته أخيرا "ولماذا لم تسأله؟"
اتجه إلى الثلاجة وأخرج منها زجاجة ماء وقال "لأنه ليس من شأني أن أتدخل في خصوصيات الآخرين"
يا إلهي! لماذا أصبح زوجي غبي لهذه الدرجة! قلت بثورة وأنا أشاهده يتجرع الماء "لو لم يكن يريد أن تتدخل لما أخبرك، لقد أراد منك أن تستمع إليه لكنك خيبت أمله بصمتك"
تنهد وهو يغلق الزجاجة ثم قال "هنالك حدود يجب ألا نتخطاها، أحب مازن وأسانده وأحاول أن أجعله ينسى، لكنني يجب أن لا أتدخل في حياته، وأعتقد أن مازن يفهم ذلك، بالإضافة إلا أن هنالك علي والذي هو أحق مني، فلو كان مازن يريد أن يناقش حياته لذهب إليه."
قلت مجادلة "وماذا لو كان علي أيضا غاضب؟"
فأجابني بهدوء "إذاً فتلك مشكلة جارتنا العزيزة مينة"
خالد يكره أن ينفجر أحد في وجهه، وقد شهدتُ ذلك بنفسي البارحة، لكنني لم أستطع أن أتمالك نفسي، فتكلمت بصوت عالي من الانفعال "مينة! مينة! مينة! إلى متى ستظل مينة المسكينة هي الشماعة التي تعلق عليها المشاكل والمآسي! حتى أنت – الذي لا تتدخل في شؤون الغير – أصبحت تراها مذنبة! مينة ضحية مؤامرات وخداع، لا أحد قادر على فهمها لأن لا أحد استمع لها، فالكل مشغول بتسييرها على هواه، حاصروها من كل الجهات مدعين أنهم يريدون حمايتها دون أن يدركوا أنها قادرة على حماية نفسها، إنها.." قطعتُ كلامي وأنا أرى عينا خالد المتسعتين دهشة، يبدو أني انفعلتُ كثيرا، لذا فضلت أن أصمت وأستدير عائدة إلى غسل الأطباق.
سمعته يقول من خلفي "بالمناسبة أنا لم أقل أنها مذنبة، أنا أحترمها كثيرا، ولم أرى أخ في حياتي يحب أخته كحب مازن لها، أما علي فأقسم أنه غارق حتى أذنيه في حبها" ثم رأيته بطرف عيني ينظر إلى خارج المطبخ، ليقول بعد ذلك "ثانياً لا توقظي صغيري بصراخك المجنون، لقد تعب من اللعب والضحك مع مازن، هل تعلمين أن مازن يقول أنه يتمنى أن ينجب ولداً وسيماً مثله؟"
همست بصوت منخفض محدثة نفسي "ليتزوج أولا ثم يفكر في الإنجاب" لكن الرادار خالد التقط كلماتي، إذ رد عليّ "لا تخافي، أعتقد أنه وضع عينيه على إحدى الفتيات "
لا يا عزيزي، فأنا لن ألدغ من نفس الجحر مرتين، لأني أعرف أني لو سألته من هي، سيقول لي بابتسامته البلهاء لم أسأله عنها، لذا سأتجاهله.
قال وكأنه قرأ أفكاري "لقد سألته من هي""
التفت إليه بسرعة الريح وأنا أسأل بلهفة "وبماذا أجابك؟"
فرأيت تلك الابتسامة ترتسم على شفتيه، فهممتُ أن أرميه بالطبق الذي أمسك به، لولا أنه قال "إحدى قريباته واسمها ندى" ثم أردف "لكنه متخوف ومتردد كثيرا إذ أنها تصغره بعشر سنوات"
قلت بلا وعي "وأين المشكلة؟ لين تقول أن فارق العمر ليس مشكلة في الزواج، وبلال ونجلاء خير دليل على ذلك"
عقد حاجبيه وهو يسألني مستفسرا "من بلال ونجلاء؟"
أنا أيضا لا أعرف من أي رواية هم من كثرة الروايات التي تقصها حبيبتي الرومانسية لين علينا، لذا قلت بمنتهى الثقة والجدية "أقرباء للين" أردتُ أن أسترسل لكني خفت أن يسأل راشد عنهما، فقلت بلا مبالاة "لا تشغل بالك"
قال لي "بالمناسبة لقد أخبرني مازن عن مكان الفاتنة ريتشيل"
قلت بحنق لتسميته لريتشيل بالفاتنة "ألن تدعني أنهي ما في يدي؟"
فتمتم ببراءة "وأنا الذي ظننتُ أنكِ تريدين أن تعرفي، لا بأس سأخرج" ثم همَّ بالمغادرة لولا أن هتفت به "لحظة، ماذا عن ريتشيل؟"
قال لي بتلقائية "لقد كنتِ محقة، أنها من المخابرات، ولقد اكتشفت بريطانيا خيانتها وهربها لتركيا، لذا فهي غاضبة جدا لدرجة أنها أرسلت إلى تركيا خطابا شديد اللهجة، طلبت فيه أن يتم تسليم ريتشيل لها وذلك باعتبار أن ريتشيل تملك الجواز البريطاني، لكن تركيا رفضت معللة أن ريتشيل تركية باعتبار أن والدها تركي وأنها مسلمة، فاحتكمت الدولتان إلى أمريكا حلالة المشاكل، وبالفعل لم تخيب أمريكا ظننا، فقررت أن تقيم مزاد على ريتشيل، ومن يدفع أكثر يأخذها، وبالتأكيد ستذهب أموال المزاد لصالح الأمم المتحدة لتبني بها منازل للفقراء، و أحزري من دفع أكثر في المزاد! إن قلتِ تركيا فأنتِ مخطئة وإن قلتِ بريطانيا فأنتِ مخطئة، لقد كانت أمريكا التي لا أحد يعلم من سمح لها بدخول المزاد وكيف. وهكذا أصبحت ريتشيل أمريكية، وعادت الأموال التي دفعتها أمريكا إلى أمريكا، وحُلت مشكلة الدولتين وعادتا صديقتين وأقامتا مؤتمر صحفي قالتا فيه بصوت واحد (شكرا أمريكا)"
سألته بملل "هل تعتقد أنك مضحك؟""
فأجابني بسخرية "أجل، خصوصا بعدما أخبرني مازن أن ريتشيل اتصلت بنبيه وأخبرته أنها تقضي إجازة بريئة في تركيا"
لا بأس، أن أخطئ مرة لا يعني أن المؤامرات غير موجودة في الدنيا، نظرت إلى خالد لأرى نظرات التشفي تلمع في عينيه وابتسامة المرح ترتسم على شفتيه، لنرى إن كنت ستظل مبتهجا يا حضرة المهندس، لذا قلت بتساؤل متعمد "سبحان مغير الأحوال، ألم تكن البارحة وهذا الصباح تتجاهلني لدرجة أنك لم تنظر إلي أو تكلمني بكلمة؟"
رأيت التغير الذي اعترى ملامحه، فتحول مرحه إلى تجهم وهو يغمغم "لم أكن غاضبا منكِ"
قلت بابتسامة ناعمة "من الجيد لي أن أعرف ذلك، وأعتقد أنه من الجيد لكَ أن تعرف أنني غاضبة منك" ثم توقفت لثواني قبل أن أصحح "لا، غاضبة ليست الكلمة المناسبة، فالكلمة الدقيقة التي تصف حالي هي مجروحة"
خلل أصابعه في شعره وهو يقول بغضب مكبوت "خولة أنا مدرك تماماً للذي قلته، لست بحاجة إلى تذكيري" ثم نظر إلى الأعلى كأنه يحاول أن يبحث له عن مخرج، ثم أعاد نظره إلي مكملا "سنتحدث عن ذلك، ولكن ليس الآن، أنا أعتقد أن أعصابنا مازالت مجهدة ومنهكة، لذا فكل ما أطلبه منكِ أن تمهليني بعض الوقت"
قلت بعناد بالرغم من أنني وجدت بعض الصحة في كلامه "لا"
زفر بتعب وهو يغمض عينيه، ثم فتحهما فجأة وكأنه تذكر شيئا، فعاد إليه إشراقه وقال باستمتاع "حسنا، إذن لن أخبركِ بالرسالة التي وصلتني في الساعة الواحدة والتي تقول حرفيا (سيد خالد... لقد أسقِط اتهامكما بالعنف الأسري، ويمكنكما استلام ابنكما أسعد من المستشفى في تمام الساعة الخامسة عصراً.. نعتذر عن إزعاجكما.. الشؤون الاجتماعية)"...
من صدمة الفرح سقط الصحن الذي كنت أحمله من يدي، فأحدث صوت عالي جدا نتيجة انكساره مما جعلني انتفض بحدة وأطلق صرخة مرعبة دون أن أشعر بخروجها من فمي، نظرت إلى الأسفل لأجد أن الصحن لم ينكسر، رفعت رأسي ببطء وأنا أدرك الحقيقة، ثم نظرتُ إلى خالد الجامد مكانه وهمست ببلاهة "لم يكن الصوت صوت الصحن ولم تكن الصيحة صيحتي"
فلمعت عينا خالد قبل أن يركض للخارج وأنا أتبعه بعد أن تناولت حجابي وتأكدتُ من أن أشرف ما يزال نائماً .


**********************



مينة احمد

يتناثر شعرها بدلالٍ على كتفِه، تحتضن عنقَهُ بذراعيها النحيلتين وهي تجلس على حجرِه، تهمس بشيء بأذنِهِ فيجيبها ضاحكاً فتدسُّ وجهها في عنقِه، يُغدق عليها الحب وهم يستمتعون بجلوسهم على كرسي واحد بجانب المدفأة الحجرية.
لماذا لستُ أنا من تجلس في ذلك المكان؟ لا لا لن أترُكَ الظنون تأخذني بعيداً ربما هذا شيء جيد وأن الأمور تغيرت.. ما زلتُ أنظرُ من خلال النافذة التي أزيحت عنها الستارة قليلاً. مسحت دموعي وأنا أبتسم كي تبتسم لي الحياة. منذ تلك اللحظة التي اتصلت بها على والدي بعد خروج مازن السريع من الشقة وبعد أن أخبرني أن آتي إليه في منزله وأنا لا تسعني الأرض من الفرحة ولكن الخوف يدب بداخلي مثل دبيب النمل. يبدو أن مازن كان يعرف بما سأقوم به وهو يأتي ويذهب كل فترة لكن الشكر لخالد زوج خولة فقد دعاه للغداء عندهم.. يا خولة يا أجمل مؤامرة في حياتي، هذه المرة قدمتِ لي خدمةَ العمر، كم أحبها تلك المرأة يكفي أنها الوحيدة التي تعرف بما في داخلي عندما قلت لها كل شيء في لحظة انهيار. يا رب ارزقها الاطمئنان في حياتها، المفروض أن تكون موجودة في القمة العربية لأني متأكدة أنها ستخرج بأسبابٍ وحلولٍ أفضلَ مما وصلوا إليه.
سأبعث لعلي برسالة كي يأتي وتُحلُّ جميع الأمور، أخيراً تشجعت وضغطت على الجرس، أنتظرُ بخوفٍ وشوقٍ وأمل، وها هو يطلُّ من وراءِ البابِ وكأن الزمن مر من جانبه، فهو لم يتغير إلا قليلاً. ابتسامة مرتجفة تسللت إلى شفتيَّ قبلَ أن أنطق بالسلام ولكن سبقتها صفعة قوية منه جعلتني أرتدُّ إلى الخلف. أغمضتُ عينيّ وكل شيء يعود ونفس تلك اليد التي مرت سابقاً على خدي تعود وهي تعرف طريقها جيداً لكن لا بأس فهو غاضب لأن ما فعلته ليس قليلاً .
سحبني من ذراعي إلى داخل المنزل وتحولت ملامحه إلى الغضب وهو يقول :
- وأخيراً تكرمت المدام بتشريفنا بزيارتها، لماذا لم تنتظري سنين أكثر وربما إلى أن تنجبي أطفالاً وتأتي بهم كي يتعرفوا إلى جدهم؟.
تمتمت باعتذار: أنا آسفة، كل الأمور حصلت بسرعة وكنت خائفة على مازن.
التفتَ إلى زوجته، فهو قد تزوج بعد أن طلق والدتي بشهورٍ قليلة وتلك الفتاة الصغيرة التي كان يُجلسَها على حجرِه هي ابنته أي أختي، وهي تبدو في عمر السابعة أو الثامنة وهو يقول لها:
-خذي الصغيرة إلى الداخل!
تجلت الحقيقة واضحة وعرفت ما سيقوم به ويا للعجب هو خائف عليها أن تسمع شيئاً.
استدار إليّ وقال :
- مازن تجاوز حدوده كثيراً منذ أن أخذكِ معهُ وترككِ تكملين دراستكِ وتعملين وأنا أقول لا بأس! هو معها ولن ترتكب غلطا وفترة وستعود إلى العراق ولكن أن تتطور الأمور وتتزوجين دون علمي وأنا طوال تلك الفترة كنتُ مخدوعاً وأنا أكلف ابن عمكِ بأن يعرف أخباركِ أولاً بأول! لكن يبدو أن شريك الجريمة الأولى يشترك بالثانية، فما الذي فعلتِه من وراءِ مازن المغفل كي يزوجكِ إلى ذلك الرجل؟"
يا إلهي لهذه الدرجة يشك بي، صرخت بوجهه :
-أنا لم أفعل أي شيء ولم أكن أعرف علي قبلها ومازن ليس أحمقاً بل وثقَ بي كما لم تفعل أنت ومن المستحيل أن أخون ثقته، بربك قل لي لماذا تفعل ذلك بي؟ أي ذنبٍ ارتكبتُهُ؟ منذ كنت صغيرة وأنت تحطمني باستمرار حتى وأنا هنا، بقيتُ أخشاك وأشعرُ أنك معي في كل خطوة لم أعرف طعم الحياة لأني كنت أنتظرُ اليومَ الذي ستأتي فيه، فأنتَ لم تكن إلا مريضاً بالشكِّ الذي حطم حياتنا.
صفعة أخرى عاجل بها على صفحة وجهي ولم يكتفي بهذا بل أمسكني من كتفي بقوة وكأنه سيقتلع عظامي وهو يزمجر غاضباً :
-أنا مريضٌ نفسي أيتها العديمةُ التربية؟ أنا ترفعين صوتَكِ بوجهي وتقولين لي هذا؟ لا أستغرب حقا! فأنتِ ابنةُ أمكِ... فهي لم تكن إلا متمردة أردتُ أن أُعيد ترويضها لكن تلك النظرة المتحدية القوية التي في عينيها بقيت تلوح دائماً... مجيئكِ إلى الحياة كان كارثة لأني كنت أريدُ صبياً أخر ولكنكِ فتاة والأدهى متمردة مثل والدتكِ وتحملين نفس النظرة والشغف بالحياة حتى وإن كنتِ تُنفذين أوامري ولكنكِ تتحديني بنظرتكِ ومهما فعلت تستمرين بالنجاح مرة تلوى الأخرى، النجاح الذي أردتُه لمازن أنتِ حققتِه حتى بعد سفره كل مرة أراكِ تتسللين لغرفته ووالدتك كذلك وأرى الآية مقلوبة وأنتِ تواسينها وتبثين فيها قوة الحياة.
دفعني بقوة فاصطدم كتفي بالباب، الألم كان فظيعاً وأنا أشعر أن دموعي تحجرت و أرى كل شيء واضحاً أمامي وكل ما جئتُ لأجله لم يكن إلا وهماً كاذباً، قلتُ له وأنا أُمسكُ كتفي :
-كلكم حققتم ما تريدونه، حتى والدتي تركتنا نعاني من أجل أن تُبقي على حبها لك.
قهقه ضاحكاً وهو يقول : انظري لنفسكِ تحملين بداخلكِ كمّاً هائلاً من الأنانية، والدتكِ لم تبقى إلا لأجلكم وبالذات أنتِ، لأنها طلبت الطلاق مراراً ولكني خيرتها بينه وبين أن تبقي أنتِ معي واختارتكِ وتحملت كل شيء لأجلكِ فقط "
سقطتُ على الأرض والندم يتآكلني، كل تلك الفترة وأنا ألومها وهي تُخفي عني... سحبني من ذراعي وأوقفني وهو يقول:
- بإمكانكِ أن تأتي معي وأنسى كل شيء لكن أن تنفصلي عن ذلك الرجل وبعدها أعيدُ تربيتكِ من جديد وسأزوجكِ برجلٍ أفضلَ منه وتعرفي قيمة المرأة الحقيقة، وهو أن تعيش لأجل زوجها فقط وليس بعملها أو بنجاحها، تطيعُ أوامره وتخدمه فقط هذا دورها.
حركتُ رأسي يميناً ويساراً وأنا أرى بشاعةَ ما يحملُهُ في قلبِهِ ولم يتغير شيء منذ سنين.
-كنتُ مخطئة وأنا أظنكَ تغيرت، لكن ذلك المرض لم يفارقك.
قبل أن تهوي كفه للمرة الثالثة على وجهي أمسكتها ودفعتها عني وقلت له بغضب :
- عذراً ولكن لن أسمحَ لأحدٍ بضربي وعلي لن أتخلى عنه لأنه يحبني ويحترمني ولم يعاملني مثلك.
فتح الباب وهو يشير إلى الخارج :
-إذن أنتِ ميتة بالنسبة لي وسأتبرأ منكِ أمامَ الناس، فأنتِ ابنةٌ عاقّة!
لا أريد أن أرد عليه ليس لأني لا أملكُ رداً بل لأنه قطعَ كل أملٍ في العودة. خرجتُ وأغلق الباب خلفي بعنفٍ وتوارت كل قوتي وأنا أترنح على تلك الدرجات الثلاث، فلم أستطِع أن أقاوم السقوط فسقطت على ركبتي وشعرت بحجارة الممر الحجري تؤلمني. عاودتُ النهوض من جديد بظهر محني ليس كبراً بل ألماً وفشلاً وخيبةً كبيرة. الباب أصبح يبتعد أكثر وأكثر وكأن الأرض أصبحت هلاماً تحتي ولكني استمريت في سيري وتعثرت مرة أخرى وسقطت فبقيتُ على وضعي وأنا أبكي بكل ألمٍ على ما فاتني وما ضيعته من أجل ماضٍ لا يستحق. نظرتُ إلى تنورتي فوجدتها قد تمزقت من عند ركبتي ولطختها بقعة دم.. تحاملت على نفسي حتى أصلَ للسيارة وأنا أشعرُ أني أتجمدُ من البرد وفي نفس الوقت أتعرق ودواراً يطيح بي وأخيراً وصلت إلى كتلة المعدن وسقطت للمرة الأخيرة بجانبها وأنا أتكئ برأسي عليها في الشارع .
رنين هاتفي أخرجني من صدمتي بتلك اللحظات القليلة التي انتظرتها لسنين، كان علي وبكلماتٍ قليلة قلت له أين أنا فأخبرني أن لا أتحرك من مكاني لأنه قريب جداً. أغمضت عينيّ وأنا أعيدُ شريط الذكريات الكاذبة التي اختلقتها لنفسي حتى أشعر أنني كالباقين أحمل ذكريات جميلة. لم تمرَّ إلا دقائقَ قليلة حتى وجدت علي يهتف باسمي بقلق فأخبرته أني بخير، فلم يدعني أكمل وهو يحملني لسيارته. كان يقود بسرعة جنونية وقلت له بهدوء يعاكس غضبه:
- كل شيء هدرت حياتي من أجله لم يكن إلا وهماً وأملاً اتضح أنه سراب.
- هنيئاً على هذا الاكتشاف الرائع المتأخر كثيراً، لا بد أن أنحني لقدرتكِ الهائلة على التفريط بما لديكِ من أجل شيء لن تمتلكيه وتفكيركِ المحصور أن تثبتي لنفسك أنكِ في سلم أولوياتك والباقين لا يهمون، يبدو أني لم أكن إلا اسماً في حياتكِ قبلته مضطرة.
صعقت لتلك النظرة المخيفة و تعابير وجهه الغاضبة وأنا ظننت أني سأجد حضنه بدفئه وحنانه فقلت له :
-علي هذا ليس صحيحاً، أنت شيء مهم بحياتي وتعرف أني.. وضع كفه على فمي وهو يصرخ بي :
-إلا هذه يا مينة! لا تتلاعبي بها لأنها ليست مجرد كلمة. لو كانت حقيقة لكنتِ على الأقل لم تضربي ما حذرتكِ منه عرض الحائط وذهبتِ دون أن تخبري أحدا، أنت لم تري هيئتكِ وأنت تجلسين في الشارع وعلى وجهكِ آثار صفعاته. صدقيني لو تعرض لكِ أي من المارة لم تكوني لتقدري على الدفاع عن نفسكِ ولو بأصبعٍ واحد والنتيجة الأخيرة خيبة أمل لكِ من جانب والدكِ ولي من جانبكِ، لن أستطيع أن أعيش مع تفكيركِ بنفسك وبتحقيق ما تريدينه على حساب غيركِ، كيف ستعتنين بعائلةٍ إن كنتِ هكذا؟ متى سأحظى بوقت على جدول اهتماماتكِ؟ يبدو أننا وصلنا إلى طريق مسدود.
بصوت ضعيف من أعماق روحي المجروحة قلت له
- لكنك وعدتني أن تبقى إلى جانبي وأنا فعلت هذا لأجلنا معاً حتى أستطيع أن نبدأ من جديد وليس أن تعاقبني بأقسى كلمات، لم أتصور أن هذا الأمر سيغضبك إلى هذه الدرجة.
-لم يعد ينفع الكلام والتبرير لأني لم أعد أتحمل أن تتجاهلي كل شيء أقوله، لم تخبريني أي مرة خرجتِ فيها وكنتُ دائماً ألتمسُ لكِ الأعذار، تتجاهلين ما أريده وتفعلين العكس للأسف ستبقي مينة التي أصبحت بعيدة جداً كما كانت أول مرة ولا يهمها إلا أنانيتها.
كل التعب الذي كنتُ أشعر به تبخر في ثانية وأنا أسمع تلك الكلمة مرة ثانية :
- إذن كلامك ووعودك لم تكن حقيقية وها جاءت الفرصة لك على طبقٍ من ذهب لتتخلص من بؤرة الكآبة. نسيتَ أني إنسانة وبحاجة لأتخذ قراراتي بنفسي وأعيش تجربتي، أعرف الخطأ حتى أتجنبه وأشعر بالحزن كي أتذوق الفرح بعدها. أنتم الأنانيون لأنكم تريدونني أن أكون كما تشاؤون. صرختُ به أن يتوقف لأني لم أعد أتحمل أن أبقى معه في مكانٍ واحد لكنه رفض وأصبحت السيارة تئنُّ من جدالنا إلى أن رضخَ لطلبي وفتحت الباب ونزلتُ مبتعدة عنه لكن لحق بي وهو يزمجر غاضباً:
-إن كنتِ لا تريدين أن تأتي معي سأتصل بمازن كي يأتي ويقلكِ علكِ تتخلصين من وجهي..
بل الأصح هو من يريد أن يتخلص مني. سمعته يخبر مازن أين ذهبت وما فعلته وبأني متعبة وأرفض العودة معه. كيف يقول له كل ذلك؟ ألا يخشى أن يقلق عليّ أخي حتى يقول له كل شيء أم يريد أن يؤجج غضبه عليّ؟
بقيت واقفة على الرصيف أدير وجهي عنه ورفضت أن أنتظر مازن في السيارة وللحق كنت أشعر بالبرد وركبتي تؤلمني ولكن كبريائي يأبى أن أتنازل .
وأخيراً وصل شقيقي الذي كان وجهه شاحباً بصورة مخيفة وهو ينظر لي بصدمة ويحتضنني بقوة تفاجأت وأنا ظننت أنه سيفعل مثل صديقه وتشبثتُ به أكثر لكنه أبعدني ليمرر أصابعه برقة على وجهي وهو يقول
- يا إلهي ما الذي فعله بكِ؟ كنتُ أعرف ما ينتويه من الحاحه على رؤيتك.
كان كالمجنون وهو يسألني إن كنتُ بخير ويبدو أنه انتبه لركبتي فانحنى يزيلُ الترابَ عنها، قتلني بما فعله لأني رأيت النعمة التي حاباني الله بها فانحنيت إلى مستواه وأنا أؤكد له أني بخير ولكني سمعته يتمتم
-هنالك دم على ركبتكِ، مثلما كنت صغيرة، كل مرة تقعين وتؤذي نفسكِ وتطلبين مني أن أنظف الغبار عن تنورتكِ.
قارن قوله بالفعل وهو ينفض الغبار، فقلتُ له بدموعٍ أحرقتني:
-مازن أرجوك توقف! لا تفعل ذلك! أنا بخير ككل مرة أسقط فيها وأنهض أجدُكَ إلى جانبي.
عاد ليشدني بقوة مرةً أخرى إلى أحضانه، فشعرتُ بأني تافهة وأنا أراه هكذا، لهذه الدرجة لم أقدر خوفه عليّ وسعيت وراء ما أريده. ما الذي فعلته بنفسي وبك يا شقيق روحي؟ أمسكت يده لننهض سوية كما اعتدنا أحدنا يُسند الآخر. انسحب علي في تلك اللحظة دون كلمة وكأنه خارج الصورة ونحن مضينا في طريق وهو في طريق آخر ولا أعرف إن كانت ستتلاقى طرقنا مجددا ربما أنا أخطأت ولكن كل ما أردته أن أعيش حياة طبيعية ويبدو أننا لن نستطيع التفاهم، لماذا الآن؟ بعد أن شعرت بالحب وأردت الحياة..
ومازن لا أعرف هل هو ملاك بين البشر؟ يا رب أفرِح قلبَهُ وأنِر حياتَه بندى، لكن عليه أن يحذر من قائمتها ورومنسيتها المقلوبة. أتمنى أن لا يبقى متردداً ويُفصح عما في قلبه وخالي أول من سيفرح بذلك. كنت أنظرُ إليه بينما يقود السيارة والهموم تتكاثر عليه يقول بحزن:
-يبدو أني أخطأت في حياتي عندما تركتكِ أنتِ وأمي في تلك السنين الأربع، انشغلت بنفسي وسعيت وراء حياةٍ بعيدة عن المشاكل وتركتكما تعانيان من قسوته.
-توقف لا تقل ذلك! صدقني ما فعلته معي يكفر عن مئات السنين وليس فقط أربعة، لم يتحملني أحد مثلما فعلت كنت الأب والأخ والصديق، لكن كنتُ عمياء وأسعى وراء شيء لن يتحقق.
أوقف السيارة وهو ينظر إلى وجهي ويردف بقلق:
- مينة دعيني آخذكِ للمستشفى، وجهكِ يبدو شاحباً بقوة بالرغم من..
كأن تلك الكلمة صعبة عليه وغيره لم يتوانى عن تنفيذها..
ابتسمت بوجهه وروحي تضج بحياة أخرى
- لا تقلق! تلك الصفعات هي أثر على وجهي ولكنها حقيقة على روحي وكان لا بد من أن أشكره عليها لأنها أرتني الواقع وجعلتني أعرف من حولي ومن يهتمون لأمري حقاً. أما عن الشحوب فتذكر أني لم آكل منذ أمس وأنت اليوم ذهبت وملأت بطنك بأكل خولة ونسيتني.. سأطالبك بأن تطبخ لي عندما نعود للملاذ الدافئ.
-أي ملاذ دافئ؟
سألني باستغراب، فأجبته:
- بناية ريتشيل، أول مكان أشعر به بالارتياح رغم أننا تنقلنا كثيراً ولم نستقر بمكان لمدة طويلة لكن كما يقول المثل (الجار قبل الدار ) جمال المكان بناسِه، رأيتُ في جيراننا ما يكسر مقولة (اتفق العرب على أن لا يتفقوا ) فها نحن اتفقنا وقلوبنا على بعض ولم ندع أي مجال للخلافات بيننا. أتمنى أن يأتي اليوم سريعاً حتى نرى فيه بلداننا تتفق قولاً لا فعلا ويستمر الربيع بنشر جماله على نفوس إخواننا في كل مكان وليس بدوافع خارجية لأننا لا نحتاج أي أجنبي بيننا، فنحن أولى بإصلاح بعضنا البعض..
- تغيرتِ كثيراً منذ أن سكنا هناك، على الأقل تخرجين وتزورينهم وبالنسبة لي أصبحت أكثر اطمئناناً أن أتركك لوحدكِ في الشقة..
أكمل طريقَهُ وأنا نويت أن أكمل حياتي بغض النظر عمن سيكون معي ووضعتُ شيئاً واحداً أمامي أن أكون مثل بغداد مهما انتكست فإنها تنهض من جديد لأنها موجودة ولا يمكن نسيانها بسهولة. بعد وصولنا للبناية توجهت للمصعد ومازن قال بأنه سيلحق بي وذكرته بأن يجلب سيارتي لاحقاً. دلفتُ إلى المصعد ورأيت ملامحي بجوانب المصعد وفعلاً كان الأثر أحمراً وظاهراً كثيراً وتنورتي ليست أفضل حالاً. الحمد لله لم أصادف أحداً حتى لا يراني بتلك الحالة المزرية. وصلتُ للشقة وأنا أمسح آخر دمعة ودعت بها ماضي الطويل. أما علي فسيكون لنا خطوة أخيرة إما... أو...؟
الساعة على وشك أن تتم مولودة أخرى ويعانق عقرب الساعات الرقم ثلاثة ويحتضن عقرب الدقائق مؤقتاً الرقم اثنا عشر، وبأقل من ساعتين اكتشفت من أكون لأبٍ وأخٍ وزوج .
وضعت المفتاح في باب الشقة ويدي ترتجف قليلاً أدرته وقبل أن أفتح الباب سمعت صوت دوي ميزت بسرعة ما يكون تلتها صرخة قوية. سقطت حقيبتي وأنا أنظر للطابق الأعلى وخشيت ما في بالي. توجهتُ بسرعة إلى حيث السلم وأنا أنسى كل ألمٍ أشعرُ به لأن الخوف مما يكون صعقني.


*************



علياء عبد الحميد

:- بابا كيف جئتما بي أنتَ وماما إلى هذه الدنيا؟
باغتت آية عمرو بهذا السؤال وهي تقضم قطعة تفاح رغم نهيي لها عن هذا لأنه سيقلل من شهيتها قبل الطعام، كنت أتابع الغداء الذي أوشك نضجه، طاجن البامية بالفرن رائحته إبداع حقيقي والأرز بالشعرية المفضل لدى عمرو. أوشك على الانتهاء وكنت أقلب قطع الدجاج على الشواية بينما آية تعاود عصر أبيها بأسئلتها وثرثرتها الغير منتهية وقد جاء اليوم مبكراً ويجالسنا في المطبخ مداعباً ملاعباً على غير العادة كم أريد تقليبه ببطء كقطع الدجاج على هذه الشواية " اللهم أخزيك يا شيطان "
نظر لي نظرة لامعة أعرفها و أعلم عواقبها جيداً تجاهلتها وأنا أقطع الخضر من أجل السلطة الخضراء، قطعتها بعنف جعله يجفل ولكنه انتبه لآية مجدداً وهي تعيد سؤالها بإلحاح وصوتٌ مرتفع كي يعطيها انتباهه الكامل .
ابتسم لها وهو يخترقني مجدداً بلفتات رباعية مدروسة بين الحين والأخر بينما استغرق في حكاية عبقرية عنوانها كيف جئنا بآية إلى هذه الدنيا، كانت ليلة مظلمة بلا ملامح دعيني صامته لِمَ تنبشين الجراح يا آية؟
انتبهت على تذمر آية قائلة :- لم أفهم بعد أي شيء؟ كيف تزوجتما؟
أكمل موليا انتباهه لآية المتذمرة أملاً في أن ينهي حديثه معها :- كيف جئنا بآية حبيبة بابا سأخبرك مجدداً، بابا ذهب لجدو عبد الحميد وأخبره أنه يحب ماما ويريد أن يتزوجها، أتعلمين ماذا حدث بعدها؟
هزت رأسها نفياً وهي تتابعه:
:- تيتة رئيسة، وتيتة هدى أخذتا توزعان الشربات والحلويات على الموجودين والزغاريد ملأت البيت فقد كان حفلاً جميلاً حضر به جميع أقاربنا ومعارفنا
:- ثم؟
:- ماذا تقصدين؟
تململت آية بتذمر : أقصد وماذا بعد هذا؟
:- حددنا موعد الزفاف وارتدت ماما فستانا رائعا، كانت جميلة مثل الأميرة تلك الليلة وبابا كان وسيما أيضاً، ارتديت حلة أنيقة.. انتظري هل أُريك صور الزفاف؟
:- رأيتها من قبل، أكمل يا بابا وماذا حدث بعد ذلك؟
بدأ عمرو يرتبك وأنا أبتهج بهذا الشعور مزيجاً من الشماتة والرضا.
أكمل وقد نفذ صبره :- ماذا تريدين يا آية؟
:- بعدما انتهى الحفل وذهبتما للبيت الجديد مثل العريس والعروس في المسلسل كيف جئتما بي؟ .
ظل ينظر لها منتظراً أي لحظة سهو كي يفلت من أمامها ولكنها كانت واقفة أمامه تحاصره بالسؤال بينما تقضم أخر قضمة من التفاحة، أطرق بعدها قليلاً وبعدها قبل خدها وهو يقول :- لأن الله أراد هذا، أن تأتي آية حبيبة بابا لأنه اشتاق إليها كثيراً .
هزت آية رأسها بعدم رضا وهي تقول :- لم أفهم؟ أنا أريد شقيقا، ماذا أفعل لأحصل عليه؟
تفاجأ عمرو بالسؤال فاحتضنها وهو يضحك ويتابعني بتسلية بينما أصف الأطباق على منضدتنا الصغيرة :- من عيون بابا، سأحضر لكِ أخا جميلا؟
شهقت آية فرحاً وسألته بلهفة :- الآن؟
اشتد ضحكه لبراءة لهفتها ثم جذبني من انهماكي بما أفعله ليتحسس بطني وهو يخبرها
:- يجب أن يظل أخاكِ هنا تسعة أشهر حتى يستطيع أن يأتي ويلعب معكِ؟
صرخت آية ببهجة وقالت :- مبروك يا ماما بابا سيحضر لي شقيقا أصغر مني ليرتب لي ألعابي عندما أبعثرها مثل وليد يجعل حلا ترتب له ألعابه في الأرفف دائماً .
سألها وهو يداعب يدي بينما أسكب الطعام في الأطباق :- من وليد؟
:- وليد صديقي، إنه يسكن بجانبنا، هل تريد أن تكلمه؟
لم يستمع لها فقد كان بجل اهتمامه معي، بادلت نظراته بسخرية مختنقة، هكذا هو، يريد علياء الآن، لا الأصح هو يريد حاجته بعلياء مثل طبق الكشري، مثل قمصانه النظيفة، مثل منزله المرتب يجب أن ينفذ كل هذا وقتما يريده، تجاهلته وأنا أجذبها من يدها لتأكل وتتوقف عن الثرثرة، فقالت :- لم أعد جائعة .
انفعلت عليها قائلة :- لأنكِ أكلتِ التفاحة، كلمة واحدة اجلسي وتناولي طبقك بالكامل!
:- اتركيها حتى تشعر بالجوع .
هكذا أخبرني وهو يتبع ملاحظته بهمسة في أذن آية جعلتها تقفز فرحاً وهي تقول :- ماما عمو نبيه ينتظرني لألون معه. ثم جذبت لعبتها الإلكترونية وانطلقت نحو الباب ثم التفتت إلينا وسط دهشتي من تصرفه قائلة :- بابا قل لماما مبروك ستصبح دكتورة .
لم يعلق على ملاحظتها وتناولنا الطعام بعدما اطمأننتُ باتصال من أستاذ نبيه أن آية قد وصلت عندهفي صمت تتخلله نظرات متطلبة حارة من زوجي العزيز حتى أكملنا الغداء، هل هي لعبة يا عمرو؟ تخاصمني عدة أيام بعد تعنيفك لي وما تفعله من ورائي ثم تستعين بأمي لتحجيمي وتوبيخي كما تشتهي ثم تأتيني الآن وتبثني أشواقك الصامتة والتي لن تظل صامتة كثيراً .
أردت إلهاءه عما ينتويه، فسألته بأول شيء خطر على بالي :- ما جاء بك اليوم مبكراً؟
ليتني ما سألت سؤال كهذا فقد أجابني بحسم :- لأني اشتقت إليكِ .
غصصتُ وتوقف الطعام بحلقي ليسرع بمناولتي كوبا من الماء شربته كاملاً وبعدها أخبرته بأمر أعلم أنه سيحظى منه بنقاش طويل كافي لأن يشوش من حماس رغباته :سأستكمل دراستي مثلكَ، ذهبتُ اليوم إلى الجامعة وبدأتُ في الإجراءات .
توقف عن الطعام فعلمت أني أحرزت الهدف ونهضت لأنظف الأطباق وأنا أستمع بتوتر لكلماته المشوبة بالغضب :- ولِمَ التعب يا علياء ووجع الرأس؟
هز رأسه نفياً وهو يتقدم نحوي مردفاً :- أنا غير موافق .
لم ألتفت إليه وظللت أكمل غسل الأواني بينما أخبره بإصرار :- ولكني أريد الدراسة يا عمرو.
تقدم مني أكثر ليحتضنني بشدة من الخلف غامراً وجهه بأنفاسه الدافئة في بشرة رقبتي وهو يهمس :- هل تعلمين منذ متى لم أقترب منكِ؟
تلعثمت وأنا أخبره :- آية كانت مريضة لذا....
تجاهل كلماتي وهو يجيب سؤاله : عشرة أيام يا علياء. انشغلت أسبوعا في الدراسة وأنتِ أتممتهم عشرة بثلاثة أيام من الهجر في غرفة آية.
ضمني بحضنه مردفاً :- هل تعلمتِ الهجر يا علياء؟
دون إرادة مني ارتجف قلبي شوقاً إليه وأردت البكاء وأنا أدرك مدى عجزي وضعفي بهذا الحب، تركته يلمني بين أحضانه أكثر وقد التفت إليه هامسة :- هل اشتقت إلي حق...
أسكت كلماتي بعاطفة جامحة فتتت كل مقاومة لدي، فخذلتني قدماي وتشبثت به ليحكم حصار ذراعيه حولي، انتزعت نفسي برفق من بين أنفاسه لأتأمل وجهه الحبيب ونظراته الراغبة بي فعاودني الأمل به وأنا أهمس بخفوت :- وافق!
نظر إلي مستفهماً فأكملت :- أريد أن أكمل الدراسة، وافق حبيبي .
ظل يتأملني مطولاً كما لم يتأملني من قبل وهو يحل شعري من ربطته لينساب مرسلاً بين يديه وهو يقول دون النظر إليّ فقط يستمتع بنعومته بين أنامله :- استمعي إلي لأني لن أكرر هذا مجدداً، أخبرتك مسبقاً، لكل بيت قوانينه ولكل سفينة ربان واحد وإلا سيدركها الغرق، أردتِ التحرر من سيطرة أمي وكان لك ذلك ولكن أن تطمحي لتغيير قوانين هذه الأسرة فلا وألف لا! آية تحتاج لرعاية لن توفريها لها مع الدراسة كما أنها تشعر بالوحدة وتحتاج لأشقاء.
ثم نظر إلى عينيّ ملاطفاً وهو يردف :- ألا تشتاقين للأطفال؟
أخبرته بصوت محشرج بالدموع :- عندما يأتي الطفل لنرى حينها .
ابتسم قائلاً :- سيأتي فقط لا تتناولي حبوب منع الحمل منذ الليلة، لا منذ الآن .
حاول إعادتي لما كنا فيه ولكني ابتعدت قائلة :- سأدرس يا عمرو، لقد سأمت دور المربية ولا أريد لعقلي أن يضمحل مع الأيام، أريد مواكبة تقدمك حبيبي.
خرجت إلى الصالة وأنا أحاول جمع شتات نفسي، قلبي يقرع دون هوادة ينبئني بأن شيئاً كريهاً سيحدث وبالفعل رأيت ما سيحدث في نظراته المشتعلة بالغضب وهو يقترب بهدوء مخيف، قائلاً :- أنتِ تعجبيني كما أنتِ، ماذا أصابك؟ ومن يملأ رأسك بهذه الترهات، هل شعرتِ بالغيرة لرؤية كارول زوجة عصام تدير متجراً كبيراً أم هي صفاء ما أثارتك بأسفارها هنا وهناك، أنتِ لن تصلحي لأي من ذلك.
سألته بصوتِ باكي :- ولماذا أصلح أنا؟
:- تصلحين فقط كزوجتي، ابنة خالتي الهادئة التي اخترتها بكل اقتناع ويقين أنها ستصون بيتي .
:- وماذا ستغير دراستي من هذا؟
: - انشغالكِ بدراستك سيفتت من استقرار هذا البيت، في الماضي وافقت على الماجستير تحت ضغط من خالتي وإلحاح شديد منها، كانت تجربة سيئة لن أعيدها مجدداً.
ارتجفت وأنا أخبره:- هل قصرت مرة معك أو في بيتك أثناء الماجستير؟
ظل صامتاً فسالت دموعي وأنا أرى الحقيقة لأول مرة ساطعة، المشكلة ليست في خالتي رئيسة وتحكمها بي، المشكلة فيّ أنا، أنا من تمنحهم جميعاً هذا الحق في تطويعي كما يشاءون، لقد تنازلت مرات كثيرة وها هي رئيسة وقد خلعتها الأيام واختفت من حياتي ولكنها أحسنت التربية لفلذة كبدها، فها هو هلعاً مضطرباً لمجرد طلب بسيط طلبته، حق مشروع ولكنه اعتاد مني التنازل، الصمت والاستكانة أمام أي تعنيف منه ولكن ليس بعد اليوم يا رئيسة! ليس بعد اليوم يا عمرو! من يفرط مرة يفرط ألف مرة وأنا فرطت كثيراً .
انتبهت للمساته المهدئة لي عندما رأى دموعي وقد أغرقت ملامحي فنفضتُ يده صارخة :- لا تلمسني و أعدني إلى مصر في أقرب وقت!
:- أنتِ ملكي وسآخذ ما لي وقتما أشاء .
:- ملككَ بإرادتي فقط .
لمح باقة ورود آية فهمس بتوعد :- من أرسلَ هذه الورود؟
وجدتني أردد بآلية :- ليس من شأنك .
انتزعني بعنف لأصرخ هلعاً وأنا لا أدرك ماذا يحدث؟ هل جذبني عمرو من شعري؟ هل حقاً طرحني أرضاً ممزقاً قميصي، عمرو يغتصبني!
شعرت بوهج يغشي وعيي، وهج رأيتني فيه طفلة أصرخ باسمه بين زروع جدتي، رأيت وجه جدتي الحنون ووجهه وهو يخبرني بفرحة أن يوم زواجنا سيوافق يوم مولده، عمرو يمزق حبه بقلبي، يمزقنا معاً، جربت إيقاف اندفاعه الجنوني بوهن ولم أستطع فحاولت إيجاد صوتي لأهمس بأذنه :- لا تكمل من أجل جدتنا، من أجل آية .
ابتعد حينها كأنه استفاق فجأة، يستوعب ما آلت إليه أحوالنا، لأول مرة تخيفني نظراته، هل أماني معه انتهى؟ قلاع حبي قد تحطمت؟ كنت ألهث بهذه الأسئلة في عمق قلبي وأنا أبتعد عنه زحفاً للخلف.
حاول نطق شيء ما لكنه توقف وهو ينظر لقميصي الممزق وأنا أجمع أطرافه بيدي، أردت الاختباء بحضن أمي بعيداً عن نظراته، أردتُ أن أقول الكثير ولكن لا أعلم ما هو التصرف السليم؟ كنت أجمع شتاتي لأنطق بكلمة حاسمة، هل هي الطلاق أم العودة إلى مصر أم الاختفاء من أمامه الآن؟ ظلت الإجابات تتماوج في مخيلتي حتى توقفت أمام هذا الصوت المرعب الذي أنبئني باكتمال الخسارة، طلقة نارية ما سمعتها أليس كذلك؟، ترى هل اخترقت صدر ابنتي لتحطم بقيتي الباقية، صرخت باسمها ودون وعي جذبت سترة عمرو المستكينة أمامي على أحد المقاعد وأنا أهرع نحو باب الشقة وأتمتم ذاهلة " لا تذهبي يا آية لم تأكلي طعامكِ حبيبتي " .


****************



مونيا العلوي

كل شيء مر سريعاً. أسرع من أن تستطيع عيناي التقاط التفاصيل وأسرع من أن يستطيع عقلي استيعاب ما حدث. لأول مرة أقف جامدة لا أستطيع الدفاع عن أحبابي أو مساعدتهم حتى طلقة الرصاصة التي دوت في العمارة كلها والتي كنت قريبة منها لم أهتم للألم الذي سببته لي وكأنها ثقبت طبلتي أذني، بل أنني فقط أجفلت على إثرها بينما جسدي كان وكأنه قد تيبس في مكانه ولم تجد صرخاتي طريقها خارج حلقي إلا عندما سقطت لين فجأة أمامي، فصرخت بأعلى صوتي وفي نفس الوقت تحرك جسدي بسرعةٍ تلقائيةٍ أحاول أن أتلقفها بين يدي حتى أحميها من الأرض بمحاولةٍ فاشلةٍ مني وكأنني أريد أن أطرد من رأسي حقيقة أنها أُوذيت أمام عيني ولم أستطع حمايتها. كنتُ سريعة في الركض إليها لكنني لم أستطع أن أكون أسرع من جسدها الذي تهاوى على الأرض باستسلام كبيرٍ لكي تتلقفها الأرض الباردة بدل من ذراعي. ركعتُ على الأرض بقوةٍ أمامها حتى سمعت صوت ركبتاي وهما تحطان على الأرضية بقوةٍ لكنني لم أشعر بشيء من الألم في جسدي بل كنتُ أشعرُ بألمٍ وخوفٍ وغضبٍ يصعب عليّ الجزم بأنني شعرتُ بذلك الإحساس المقيت من قبل.
شعرتُ بشيء يحرق عيناي هل كانت الدموع؟ لا أعرف! لكن ذلك الحرق استمر في عيناي اللتان تجمدتا على إثر ذلك المنظر المرعب، غير قادرة على تحريك جفناي بالمرة " لييين " تحركتْ شفتاي بارتجاف تهمس باسمها غير قادر ة على نطقه. نظرتُ إلى عينيها المغلقتين! إنها لا تجيبني وهل سمعتْ ندائي حتى تجيبني؟ امتدت يداي حتى تهزها لكنني لم أستطع ولكنني أيضاً لم أستطع أن أتجمد في مكاني أكثر من ذلك وأنا أرى الدماء تُلطخ ثيابها "الرصاصة". نظرت إلى حيث استقرت الرصاصة وقد استطعت أخيراً تمييز مكانها من بين كل تلك الدماء التي كانت تجري سريعاً على ثيابها لكي يكتسي اللون الأحمر سترتها الجميلة تلك. شعرتُ وكأن تلك الدماء تجري بقوةٍ في جسدي أنا الأخرى. ليس خارج جسدي بل داخله. كان الأدرينالين يتصاعد بقوةٍ معي لكي أرفع عيناي إلى حيث وقف أمامنا القاتل، كنت أكز على أسناني بقوةٍ لم أعرفها من قبل وكان يمكن أن أحطم صف أسناني إثر ذلك الضغط الكبير وقد حفرتُ أظافري بشرة يدي وأنا أضغط بها على كفوف يدي لكي أقف على قدمي بقوةٍ وغضبي يتزايد ويتزايد ولم أعد أرى أمامي شيئاً سوى أن القاتل الذي عليه أن يدفع ثمن جريمته قد هرب. من كان؟ حاولت أن أستعيد ما حصل بالضبط ولكنني في كل مرةٍ حاولت فيها تذكر تلك اللحظات التي لم يمر عليها إلا دقائق معدودة وأنا أقف وأنظر أمامي وكأنني أستعيد ما حصل على أرضية الشقة - بجانب جسد لين - المستلقي عليها باستسلام كاملٍ. لم أستطع تذكر وجهه ببساطةٍ قاتلةٍ لأنني استوعبت بأنه كان مقنعاً. نظرت من حولي كالمجنونة، لست مجنونة بشغف الحياة واكتشاف خبياها لكن كمجنونةٍ لا تعرفُ لأول مرة هدفها. كنتُ أبحث في أنحاء الشقة، أبحث عنه أريد أن أغرس أظافري في رقبته. لا بل أريدُ أن أتفنن في قتله، صرختُ فجأة وبقوةٍ وقد خرجتْ من تلك الأفكار الغاضبة الإجرامية لكي أدخلْ في انهيار عصبي وأنا أقول من بين صراخي:
"ليس هي يا ربي! ليس لين! لين الرقيقة! لين صديقتي وأختي الصغيرة، لين التي تبني حياتها من جديد. ما زالت صغيرة ولا تستحق أن تموت بهذه الطريقة! لين أبسط أحلامها أن تصل لعقل وقلب راشد الذي امتلكتهما منذ زمن فقط بروده معها يجعلها تفقد الثقة في نفسها، لين التي أجمل أحلامها أن تحمل بطفل من زوجها راشد، ليس لين، ليس لين!.. "
"ليس لييييين" صرخت بذلك مرة أخرى لكي يعلو صوتي أقوى من قبل وأنا أضرب بكلتا قبضتاي يداي على جدار غرفتي عندما يئست من رحلة بحثي الفاشلة عن القاتل الذي أطلق النار عليها بلا رحمةٍ أو شفقةٍ لكي يهرب أثناء تجمدي من الصدمة أمام جسدها المرمي على الأرض.
"مو. نيا".. "مو. نيا"
استدرت وقد هدأت بطريقةٍ غريبة وأنا أصغي سمعي إلى ذلك الصوت الضعيف المتألم. ركضتُ إليها أخيراً لكي أركع أمامها من جديد غير مصدقة لعينيها اللتان كانتا تفتحان بين الفينة والأخرى. استطعت أخيراً أن أناديها بصوتٍ واضحٍ متوسلٍ:
" لين؟ "
لم تجبني، كانت تحاول أن تهمس بشيء آخر، ربما إسمي أو ربما اسم زوجها، لم أستطع أن أعرف لأنها بدأت تفقد الوعي من جديد مع أنها كانت تحاول بأقوى ما لديها أن تفتح عينيها. ألمني جداً تألمها فنزلت أخيراً تلك الدموع التي حبست في عيناي. أمسكت بيدها وأنا أضغط عليها بقوةٍ أتمنى لو أن أمدها من قوتي أو حتى روحي..
تكلمتُ بإصرارٍ كبيرٍ وتوسلٍ في نفس الوقت وأنا أأكد عليها قائلة:
" أهدئي وحاولي أن تبقي مستيقظةً. سأتصلُ بالإسعاف الآن ."
قلتها لكي أنظر أمامي وكنتُ أشعرُ بالضياع والارتباك الشديد. طنين دقات قلبي كان يشوش على تركيزي كثيراً، فقد كنتُ مصدومة من ما حصل وأرتعش خوفاً، وفي نفس الوقت كنتُ أريد أن أحافظ على قوتي وتركيزي وعلى إثر ذلك نهرت نفسي بقوةٍ:
" عليكِ التحرك مونيا! أنتِ لستِ ممن يصدمون ويشلون عن الحركة في المواقف الصادمة والصعبة، عليكِ مساعدتها، بل عليكِ إنقاذها."
"عليّ انقاذها." رددتها من جديد والدموع تنزل مرة أخرى من عيني من دون حتى أن أرمش بجفنيّ وأنا أزم شفتي بقوةٍ حتى لا تخرج شهقاتي وتفلت قوتي التي مازلتُ أتحلى بها بأعجوبةٍ.
كانت هناك أصوات قوية قادمة من الممر لكي أنتبه أخيراً للطرق القوي والعنيف على باب شقتي والجرس الذي كان يدق دون توقف. نهضت على قدمي بسرعة عندما استطعت أن أتخلى عن حذري وأنا أميز أصوات جارتي من بين كل تلك الأصوات الأخرى الصاخبة ومنها الأصوات الرجولية. فتحت الباب بسرعةٍ كبيرةٍ ومن دون أن يفارق الارتعاش جسدي وكأنني أريد مسابقة الزمن من أجل ألا يتوقف قلب لين. فتحتُ الباب لكي ينهال علي الجمع الغفير. هل كان زوج خولة من يحاول كسر الباب وزوجته بحجابها الشرعي مفزوعة ورائه وفي عينيها تدور آلاف الاحتمالات عن ما يمكن أن يكون حصل في شقتي حتى تصدر منها طلقة نارية مدوية؟ أم زوج ديمة؟ ديمة التي كانت تنظر إليّ مصدومة هي ومينة التي وضعت يدها على فمها وكأن لسانها تجمد في حلقها غير علياء التي أطلقت صرخةً قويةً حال أن رأتني أمامها. كلهم عصبة نون وسكان عمارة نون عربية انهالوا عليّ. اشتركوا معي في نفس خوفي ولكنه كان خوفاً موجهاً للشخص الخطأ، فصرخت فيهم بقوةٍ أطالبهم بأن يساعدوها هي.. هي التي تحتضر! ولم أستطع التمييز بعدها، من ركض إلى جسد لين الشبه الميتة على الأرض هذا إن لم تكن قد ماتت ولم أميز أيّ من الشهقات القوية التي انطلقت أو الصرخات المرتعبة التي ملأت أجواء شقتي. شقتي التي بدأت تفوح بدماء الموت. تعالت صيحاتهم في بعضهم البعض من يطالب بالصمت ومن يصرخ بأنها ماتت ومن لا يصدق ما يرى وما يحصل! ماتت.. ماتت! كلمات كانت تتردد وتتردد لدرجة أنني أردت إسكات تلك الأفواه، لين... لين صديقتي وأختي التي كانت دوماً تنقل لي عبير فلسطين الذي ليس له مثيل. كانت الأقرب إليّ في عمارة ريتشيل كما هي القدس أقرب لقلوب العرب جميعاً. كانت تجسد فلسطين بدمائها الشريفة من الأرض المقدسة وبطيبة قلبها كطيبة تلك الأرض وبجمالها كجمال فسلطين الخلاب والقوة التي كنت أراها في عينيها قادرة على أن تتحول للبوة حتى تدافع عن حقها وأحبائها، قوة لا يستطيع أيّ أحد رؤيتها فيها كما يظن الغرب وكما يظن المحتلون بأن فلسطين ضعيفة لكنها قوية. قوتها تكمن في طهارة تلك الأرض التي أصبحت ترتوي بدماء أبنائها الشهداء. دمائهم الطاهرة لكن لين لن يهدر دمها، ليس لين، لأنها تمثل فلسطين لي ولعمارة ريتشيل وهم لن يفلحوا في جعلنا نفقد الأمل..
"أصمتوا. أصمتوا جميعا!"
صحت بذلك عالياً فيهم وأنا أهرول ناحيتهم بسرعة كما تجاهلت تماماً التحذير الذي تلقيته من جسدي لذلك الألم الذي كان يزداد بقوةٍ في أنحاء معينة من جسدي واستعصى على عقلي تحديدها لأنني كنت أعاني من ألمٍ أكبرٍ ألمٍ في روحي، ألمٍ كبيرٍ ولدنا معه وكبرنا معه وليس له دواءً سوى أن تلتئم جروح جدور ذلك الألم. فالألم مستمر مادامت أرضنا مجروحة. جثيت على الأرض ثانية أمامها وكانت فاقدة الوعي تماماً هذه المرة، كانت تبدو لي ميتة لكنني أبداً لم أترك المجال لتلك الفكرة أن تتغلغل في أعماق عقلي فتسطير عليه كما سيطرت على نسبةٍ كبيرةٍ من العرب واستسلموا للواقع كما يقولون. لكنه ليس الواقع، الواقع بأن عقولنا أحتلوها الصهاينة. الواقع أنهم لم يحتلوا فلسطين فقط بل أحتلوا عقول العرب أيضاً ونجحوا بنسبةٍ كبيرةٍ في جعلهم يستسلمون لهم ويسلمون لهم زمام أمورهم لكن لا!. علينا أن نستيقظ من سباتنا لكي نعترف بعارنا، إن نسبة كبيرة منا أصبحوا من أتباعهم، أتباعهم بصمتهم، صمتهم في قلوبهم وليس فقط علناً. لين لن تموت وفلسطين لن تمحى من قلوبنا وعقولنا ومن أرواحنا كما يريدون.
أبعدت أيديهم التي حاولت منعي عن ضمها إليّ، أبعدتها بعنفٍ وضممتها إليّ وأنا أصرخ فيهم قائلة:
" حمقى! جميعكم حمقى! هي لم تمت ولن تموت! اتصلوا بالإسعاف! اتصلوا بزوجها، راشد طبيب وهو سيفهم ألامها وسيداوي قلبها، جميعكم لا تعرفون بأنها لم تمت! هي لم تمت! فلسطين لن تموت يوماً! فلسطين لن تحتل ولن تضيع منا! فسلطين فقط مجروحة، هي مجروحة والجرح سيلتئم، سيلتئم لكي تختفي أثاره للأبد ونحن من علينا أن نداوي تلك الجروح. علينا أن نعيدها إلينا. ماذا تفعلون؟ لماذا تحدقون بي هكذا؟ أنا لستُ مجنونة. الجنون هو أن نعتبرها ماتت، هي لم تمت."
" مونيا. أنتِ مصابة أيضاً ."
صوت باكي هدر بها، كان من خولة أم من علياء؟ ربما مينة. لم أعرف! فالغشاوة بدأت تكتسح عيناي لكي يتشوش نظري لكنني قاومت ذلك وقاومت حتى ذلك الإعياء الذي بدأ يجتاحني وحاسة سمعي التي بدأت تقل حدتها ولساني الذي بدأ يثقل وبدأ الألم يطفو على السطح أكثر لكنه أبداً لم يستطع منافسة ألم روحي. لذلك استطعت المقاومة ونجحت، نجحت وخصوصاً وأنا أسمع ديمة تصيح قائلة بارتباك ولكن بإصرارٍ أيضاً:
" معها حق، علينا الاتصال بالإسعاف."
صوت رجولي أكمل بقوةٍ لم تخلو منه الصدمة:
" والشرطة أيضاً ."
تمتمت بقوةٍ مجيبة على سؤالٍ علق في بالي لأنني شعرت به سيكون عقبة في طريقهم لإنقاذ لين:
" لستُ مصابة هي المصابة."
لكن نبرة مينة دوت بجانب أذني وهي تسألني بنبرة مرتعشة :
" ما الذي حدث؟ من فعل هذا؟"
لكنني لم أفعل شيئاً غير التمسيد على رأس لين وأنا أتمتم ببطء وقد ثقلت الحروف أكثر وأكثر على لساني معارضة إرادتي بأن أبقى بجانب لين. ولكن الإصرار خرج واضحاً في كلماتي :
" لن يهزمونا، يريدون قتلها لكنهم لن يهزمونا، علينا أن نربح، علينا نحن أن نفوز بالمعركة ولو على أرواحنا من أجل أن تنقذ هي.... هي ."
هدر الصوت الثاني الذي اختلطت عليه مشاعر الخوف والقلق كما ظهر عليه دقة الملاحظة :
" يالله ما الذي يحدث هنا؟ مينة؟ مونيا. مونيا تنزف هي الأخرى بشدة، أعتقد بأنها تجهض...."
لم أستمع لكلماتها الأخيرة إذ تلقفني عالم اللاوعي على إثر حقيقة أنني أفقد أحبائي..


****************



ريتشيل زينب

رحلة العودة بالطائرة بعد ثلاثة أيام قضيتها غارقة في أفكاري، نظرت لخليل الذي يجلس بجواري ويغط في نوم عميق، لا أصدق حتى الآن أنه طلبني فعليا للزواج!
لن أنكر بأني شعرت أنه سيفعلها ما إن وطأت أقدامنا الأراضي التركية، إصراره على أخذي لبيت عائلته ورفضه القاطع لمكوثي في الفندق، الابتسامات المغيظة المرحة التي شملنني بها أخواته ووالدته، حتى والده كان يلقي بالدعابات دوما ويسألني بفكاهة " ماذا يعجبك في ابني؟! انا أكثر منه وسامة! "
جدته الوحيدة التي ظلت عيناها الذكيتان تراقبان من بعيد، كم هي امرأة غامضة ويصعب سبر أغوارها! ترى هل شعرت بحيرتي؟ هل تقدر ما لا يقدر باقي أفراد العائلة؟ هل هي مدركة مثلي لمخاوف فشل ارتباط غير متجانس كارتباطنا أنا وخليل؟
" خليل " همسة خرجت من بين شفتي رغما عني وعيناي تتابعان ملامح وجهه الوسيم، استقرت نظراتي رغما عني على شفتيه بالذات، ودون شعور مني رفعت أناملي أتلمس شفتاي!
تنهيدة خرجت من صدري وأنا أتذكر دفء عائلته، عائلة محبوبة حقا رغم صخبها، مست قلبي في الصميم، ربما لأني أفتقد كل هذه الحميمية، حميمية العائلة والدم الواحد المشترك.
لكن.. هناك أشياء أخرى، أشياء لها أهميتها أيضا، فنظام الحياة بشكل عام مختلف تماما عمّا اعتدت عليه، نظام حياة يريد مني خليل أن أتعود عليه، خليل يريدني زوجة! زوجة تعيش معه في تركيا، كان واضحا جدا وهو يخبرني بذلك وبكل ثقة واعتداد بعد أن هدأت أنفاسنا معا من قبلتنا الأولى!
عادت أناملي لتلامس شفتي وكأني استشعر هذه القبلة والتي لم يمر عليها إلا يوم واحد، لم يكررها خليل فقد أخبرني صراحة أنه لا يحبذ فعل هذا قبل الزواج، تنهدت وأنا أمد يدي باستسلام لألامس خده الخشن، أعترف بأن شعوري نحوه تفاقم خلال الأيام السابقة، أشعر بأنني أحبه فعلا وأنني محظوظة لعثوري عليه، ولكن.. هل يجب أن أترك حياتي في انجلترا؟! عملي وبيتي وأصدقائي؟
أنزلت يدي لأعيدها إلى حجري وأنا أفكر "أنت تطلب الكثير يا خليل، لم أكن أتصور بأني سأشعر بكل هذا التردد لأقول لك نعم إذا طلبتني للزواج " أغمضت عيني وأنا أشعر بالنعاس يداعب أجفاني، فكرت براحة على الأقل رحلتي لتركيا أتت بثمارها و أعدت العقد الثمين لأصحابه، والجميع هناك كان فخورا بما فعلته.
النعاس أخذ يغلف عقلي بوشاحه الناعم وآخر فكرة خطرت ببالي قبل أن أغفو أن خليل أيضا كان فخورا بما فعلته، خصوصا بعد أن شرح الدكتور كورشان لنا نحن الاثنين أهمية هذا العقد، وأخيرا ملت برأسي لأغفو على كتف خليل.
استيقظت على مداعبة ناعمة لوجهي ففتحت عيني لتستقبلني ابتسامة خليل ثم جملته التي قالها بتملك واضح " لقد أوشكنا على الهبوط حبيبتي " كانت المرة الأولى التي يقولها لي، التزمت الصمت وشعرت به يحدق بي بغموض، غموض ذكرني بغموض جدته، إنه لا يعلم بما أسّرت لي جدته وهي تودعني " لا تكسري قلب حفيدي، لكني أفضّل أن تكسريه الآن قبل أن تكسريه فيما بعد، فالضرر سيكون أكبر "
أنهينا كل أمورنا في المطار وخرجنا لنستقل سيارة أجرة، كنت شاردة تماما لذلك أجفلت عندما لمس خليل يدي، اعتذر قائلا " آسف حبيبتي، لم أقصد اجفالك، بمَ تفكرين؟"
لأول مرة لا أجد ما يُقال! أشعر بالعجز وأنا أنظر لعينيه الجميلتين، ابتلعت ريقي وأنا أضيع بأفكاري المتوجسة، أنا أحبه وهو يحبني، سيمنحني عائلة، همس برقة " هل تجدين الكلام صعبا لهذه الدرجة؟!" أيضا ظللت أنظر إليه ببلاهة وأنا لا أعرف كيف أفسر له، هل أخبره بمخاوفي؟ هل أخبره أني لا أتصور حياتي بعيدا عن انجلترا؟
شعرت بيده تزحف لخدي فأغمضت عيني طوعاً وأنا أتنهد باستمتاع أطاح بأفكاري المظلمة، قال بعذوبة " أنا أحبك زينب، أريد الزواج منك الآن وإنجاب الكثير من الأطفال، لكني أريد أن أفعل هذا في بلدي وبين عائلتي، أقسم لك لن أجعلك تندمين، سأدلّلك وأمنحك كل ما أستطيعه" شعرت بقلبي يدوي بتأثر، فتحت عيني وقلت له بصوت خرج بحشرجة " أنا.. أنا أحبك خليل "
تأوه.. وخالف وعده بأنه لن يقبلني قبل عقد القران، قبلته لم تكن ناعمة كالأولى بل كانت متملكة وعاطفية، مست أعماقي، بل شعرت أن خليل نفسه وصل لأعماقي، ابتعد وهو يلهث وأنامله تتشابك مع خصلات شعري وقال بصوت مبحوح " لا تتخوفي من العيش في تركيا، أنا سأظل خليل الذي تعرفتِ إليه هنا في لندن، أعلم أنك ستفتقدين الكثير، ولكن ما بيننا يستحق، أنت فتاة أحلامي زينب، فتاة أحلامي الساحرة التي ألقت بتعويذتها علي ما إن ارتطمت بجسدي في صباح يوم بارد"
شيء في داخلي تحرر، شيء في داخلي أصبح دافئا ومفعما بالحياة، لم أشعر أن الابتسامة خالطت دموعي الغبية التي هطلت بغزارة، فقط شعرت بالكلمات تخرج من فمي حارة وصادقة وعفوية " سأتزوجك خليل، لن أستطيع الاستسلام لمخاوفي لأقضي حياتي بعدها أفكر لماذا لم أحاول، أنا أريد حبك وحنانك ودفئك، أنا.. " لم يمهلني لأقول المزيد ووجدت نفسي مغمورة بذراعيه ضائعة برائحته وهمساته الرقيقة تداعب أذني وهو يقول " لا أريد المزيد.. فقط ثقي بإرادتنا حبيبتي "
لم أشعر بسيارة الأجرة عندما توقفت بتردد وصوت السائق يقول باستغراب " هل هذا مكان سكنك سيدتي؟ هناك سيارات شرطة وإسعاف أمام المبنى!"

*******************


الزئبق والحرباء
الهروب والحادثة

عندما هدأت سرعة السيارة وهو يقترب ليدخل بها إلى مرأبالعمارة ... لمح راشدزوجته تخرج مسرعة من باب العمارة في صحبة رجل غريب ... اندهش .. علا وجهه الذهول ... وقف أمام باب المرأب يتابعها من بعيد... كانت تخطو مسرعة ... تتأبط ذراعهذا الأجنبي الوسيم ... يستقلان معا سيارة كانت تقف على جانب الطريق ... لتنطلق بهما مسرعة ...
لم يكن راشد يعي ما يدور حوله وهو يقف كناطور المزارع ...خاطره مسلوب ... وعقله توقف للحظات عن التفكير ... وسؤال يتأرجح في ناظريه ... سؤال ينجب من رحمه سؤال رضيع ...يبلغ السؤال رشده في لمح البصر ... لينجب سؤال ثالث ...وراشد لا يفهم ...
إلى أين تتجه زوجته بكامل زيها؟... من هذا الرجل الذي تتأبط ذراعه كعاشقة!؟... ليس هناك إلا إجابة واحدة... تقصف كالرعد في رأسه... لين خائنة... تعلم أنه لن يعود من عمله إلا بعد ساعات، فاغتنمت الفرصة لتذهب مع عشيقها ...خائنة ... خائنة ... كلمة لها طرف حاد كالإبر ... تنغرس في حناياه، لم يطل وقوفه سوى لحظة... قفز بعدها إلى سيارته من جديد.
أدار محركها بغضب...و انطلق بأقصى سرعة ليتابع السيارة التي استقلتها زوجته الخائنة مع عشيقها ... ولم يأبه لصوت سيارات الشرطة والإسعاف التي توقفت لتوها أمام باب العمارة ... حتى أنه كاد أن يصطدم بأحدها.. انطلق بسرعة جنونية خلف هذه السيارة التي سبقته ببضع دقائق... يقود السيارة وقد تملكه الغيظ والغضب .. وبرأسه كلمات يعلو صوتها على صوت المحرك ... يحدث نفسه وكأنه يحدث لين.
أيتها الخائنة... أتخونينني؟... أنا الذي كنت أعد لك مفاجأة سعيدة بعودتي إليك سريعا... لكنك خائنة حقيرة!.. علمت من رسالتي أني لن أعود إلا بعد ساعات... فاغتنمت الفرصة... كنت أخطط لأخذك لنسهر على ضوء الشموع... كنت أنوي أن أبدأ معك الليلة رحلة العشق الحالم... ويلك من ساقطة... لا تستحقين الحياة!
كان راشد يقود السيارة بجنون بينما كانت الحرباء في زي لين تجلس بجوار الزئبق وهو يقود السيارة... يجلسان في شرود يرافقهما الصمت... حتى أطلقت الحرباء ضحكتها الساحرة الساخرة وهي تقول:
- ألست جميلة في هذا الزي العربي؟
- أنت جميلة في كل الازياء، ولكنك حمقاء تضعينني دائما في مآزق دون أن تحسبي حساب.
- حساب ! أ لهؤلاء العرب أي حساب؟ ماذا ألم بك أيها الحبيب؟ أراك تعاطفت معهم.
- ليس معهم.. ولكنها ثرواتهم ... لقد أضعت علي فرصة الحصول على هذا الأثر التاريخي الثمين.. العقد!
ابتسمت الحرباء وهي تنظر إلى زي لين على جسدها... ثم ضحكت تقول... ولكني خرجت من هذه المغامرة بهذا الزي... إنها البشرى يا حبيبي... فالزي وطن البدن ... وقبل أن تكمل الحرباء حديثها الساخر... استوقفها الزئبق فجأة وهو ينظر إلى مرآة السيارة قائلا... هناك سيارة تقترب منا بسرعة... إنها تتبعنا !!
بدا الاهتمام والتحفز على وجهي الزئبق والحرباء... بينما كانت السيارة الأخرى التي يقودها راشد تحتك بسيارتهما لتدفعها للوقوف عنوة... لكن مهارة الزئبق في القيادة تفوق مهارة قائد السيارة الأخرى... تفادى الاحتكاك بمهارة... وانطلق بسرعة والسيارة الأخرى تحاول أن تسبقه لتعترض طريقه... دامت المطاردة وقت طويلا والسيارات في شوارع لندن تنحرف يمينا ويسارا حول السيارتين ...
كان الغضب يتملك راشد بينما يقود الزئبق سيارته وهو مبتسم ومستمتع وكأنه يلهو.. وعلى حين غرة... أوقف الزئبق سيارته فجأة.. فأدار راشد مقود سيارته ليتفادى الاصطدام بها... لم يكن يعلم أن الزئبق توقف ليدفعه لهذا السلوك... فيصدمه هذا اللوري القادم عند مفترق الطريق ...وتنقلب سيارة راشد به عدة مرات... فيهبط الزئبق والحرباء من السيارة في هدوء... تقدما إلى السيارة التي تنام على ظهرها وعجلاتها تدور في الهواء ...اقتربا منها... نظرا داخلها ليجدا هذا الرجل غارق في دمائه وقد غاب عن وعيه... لا يتحرك... ودماؤه تسيل بغزارة... لم يكن معه بالسيارة أي أحد آخر... ورنين هاتفه متواصل... رنين لا ينقطع ...
همست الحرباء وهي تحدق في وجه راشد... إنه زوجها!!... أظنه جاء ينتقم لمقتلها... جاء ليقتلني!... أحسنت صنعا يا حبيبي هو الملام.. فليلحق بها إذن إلى الجحيم... هذا حقنا أليس كذلك؟... أليس من حقنا الدفاع عن أنفسنا؟... نظر إليها الزئبق وهو يقول... نعم... من حقنا الدفاع عن أنفسنا... ثم احتوى خصرها بذراعه وهو يعود بها إلى سيارته ليبتعدا عن موقع الحادث... تاركا راشد ينزف دماءه .
***
وصل الزئبق والحرباء إلى شقتهما على خليج دوجلاس
، فتوجهت الحرباء من فورها إلى المطبخ تبحث عن شيءتأكله، بينما استلقى الزئبق على الأريكة أمام التليفزيون وراح يتنقل بين محطاته.. ولكنه اعتدل فجأة في جلسته واقترب من التليفزيون وصمت يستمع ويشاهد البرنامج الذي ينقل مشاهد من متحف قابي طوب التركي... بينما يعلق على التحف أحد الأثريين يدعى كروشان ...
ما إن انتهى البرنامج حتى صرخ الزئبق فرحا وهو يهتف.. لقد وجدت العقد!... لقد وجدت العقد!... لتخرج له الحرباء مسرعة من المطبخ... فيلتقطها كعصفورة بين ذراعيه... يدور بها ويدور ...وهي تطير كفراشة بين ذراعيه وذراعيها حول عنقه... بينما شفتاها الوردية ترتجف شوقا بعد طول هجر ...همس لها الزئبق... استعدي لنسافر إلى تركيا غدا... همست له بنعومة... دع الغد للغد ثم بدأت شفتاهما في هذا الصراع العنيف الذي اعتاداه... صراع الشفاه الملقب بالقبل.


*************************



سارة جوزيف

على صوت اصطدام السيارات في رأسه وعلى هزيم
عجلات عربة راشد وضع القلم بين شفتيه كعود
الأرك وراح يطل من نوافذ خياله... يبحث عن
مكان لنقطة، ينتهي عندها بحر الكلمات والصفحات تهتز وجلا منها، فالكتابة قصة عشق صفحات تحمل حروفا، لهذا يضمحل كل شيء وتبقى عاجزا عن وضع نقطة النهاية، نقطة وضعتها سارة مبتسمة لنهاية مسودة روايتها .
هدوء العمارة هذا الأسبوع ساعدها على الكتابة وإنجاز الكثير في فصول روايتها، أرسلت المسودة لـ آدم تنتظر رده بقلق وسؤال يؤرقها، هل ستعجبه الأفكار الجديدة للرواية؟
لقد رسمت تخطيطا جديدا يشبه (الشرق الأوسط الجديد) وبنفس الأدوات، بدايات وربما نهايات، تذكر حديثها مع نبيه حول هذا الموضوع، فقال لها (شرق أوسط جديد، حياة أهله في لجة باسم الحرية حيث تخفى الهلاك..)
استفزها تشبيه الحرية بالظلمة (الحرية إشراقة أمل
بحياة أفضل لعلهم يجدون حبلا ينتشلهم من تأملاتهم المضنية ويجعلها واقعا)
ارتفع صوت نبيه غاضبا (واقعا لأجمل أحلام أمريكا، انتشار الفتن حتى تستعرض عضلاتها وتكبر في الوطن وتتمطى)
(أمريكا؟!.. وما شأن أمريكا؟ ..)
هل أصبحت هي الشماعة التي تعلقون عليها أخطاؤكم؟، والغرب فزاعة يستخدمها حكامكم ضد شعوبهم.. كـ الفزعات الأخرى؛ المؤامرة، والإمبريالية...الخ ..
لفهما صمت رهيب، صمت يحتاجه ليرتب فيه أفكاره الهاربة، يريد ترجمة لواقعنا الصارخ بالتناقضات، التي نذوب فيها حتى نتلاشى ونفنى في سراديب الضياع ..
ضعنا في بيداء الحرية التي لم نعرفها يوما وطالبنا بها عمرا ونحن لم نعرف بعد كيف نعيش معها أو تعيش معنا!، نحاول عبثا أن نلتمس مواطن الراحة فيها ننشد الهدوء والسكينة، ولكنا اكتشفنا أن الحرية صخبٌ لن نحتمله لأننا لم نحمل مشعلا لها، بل كانت كرة من النار قذفت بيننا وكلما حاولنا التكيف معها حاولوا (هم) تلك الضمائر المستترة أن تعيدها للاشتعال لتحرق كل من طلبها ..الاضطراب والحسرة والكآبة بادية على قسمات وجهه التي تعكر صفوها سحب من الحزن، أغمض عينيه يتأمل صورتها في قلبه الكسير، لعل الحنين يثير الشجن ويعود ليكمل ..
صاحت به سارة جوزيف من مخيلته (ما الفرق بيننا؟؟)
صامتا كتمثال وعلى وجنتيه عبراته الساخنة، وبعد صمت قصير (هي الوطن وأنت من هاجر من الوطن؟؟الفرق بينكما كالفرق بين عرب هاجر ليصبح غربا ونقطة الاختلاف)
(الخيانة والوفاء)
(أنت مغترب أيضا؟)
أصبح ساهما متجهما...وقال (أحمل الوطن في الذاكرة .. وفي كل ما يذكرني به.. غربتي ليل أسى طويلا أعاني وأقاسي فيه فراق أحبتي.. فما عاد لي وطن، الوطن أرواح وأجساد تستوطننا ونستوطنها وليست رقعة جغرافية، وطني لا حليف لي فيه سوى من ترفل فيمخيلتي مقبلة في مشيتها خفة الغزال، تعلو شفتيها ابتسامة هادئة، حدودي شعر أشقر منسدل على كتفيها وعاصمتي عينان تحمل لون الحياة كينابيع زرقاء صافية توقظ أحاسيس في أعماق وجداني كلما أغرق فيها تناجيني رموشها) .
استسلم لخواطره الشاردة، تاه في ذكرياته، أسرف في تفكيره المضني، وترك العنان لقلم تمرد عليه وتوقف (.)


***********************


انتهت الحلقة السادسة
قراءة ممتعة



التعديل الأخير تم بواسطة كاردينيا الغوازي ; 21-10-22 الساعة 09:04 AM
قصص من وحي الاعضاء غير متواجد حالياً  
التوقيع
جروب القسم على الفيسبوك

https://www.facebook.com/groups/491842117836072/

رد مع اقتباس
قديم 21-10-22, 04:40 AM   #12

عقل

? العضوٌ??? » 495093
?  التسِجيلٌ » Nov 2021
? مشَارَ?اتْي » 117
?  نُقآطِيْ » عقل is on a distinguished road
افتراضي

ذكريات جميله تحملها لنا هذه الملحمه ‏المتميزه والمتكامله…
وكيف لا تكون بهذا التميز ، وقد قادها وأشرف عليها نخبه من كتاب ومشرفي هذا الصرح العظيم . . .
دعوه لمن لم يقرأها بعد بأن لا يفوت ‏على نفسه الجمال الذي تحويه طيات هذه الروايه . .
وقراءه ماتعه لي ولكل القراء القدامى الذين سيعيدون قرائتها بعدما ارتدت حلتها الجديده.


عقل غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 21-10-22, 09:13 PM   #13

قصص من وحي الاعضاء

اشراف القسم

 
الصورة الرمزية قصص من وحي الاعضاء

? العضوٌ??? » 168130
?  التسِجيلٌ » Apr 2011
? مشَارَ?اتْي » 2,558
?  نُقآطِيْ » قصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond repute
افتراضي

الحلقة السابعة



ريتشيل زينب

عيناي التقطتا مونيا وهي تضع يدها على فمها وجسدها يرتعد وهي تراقب بتعبير عاجز سيارة الإسعاف المبتعدة، ورغم محاولة رجل الشرطة لوضع غطاء رمادي على كتفيها الا أنها دفعت الغطاء بعنف! يا إلهي، يدها.. إنها.. إنها ملطخة بالدماء! ليس فقط يدها، بل ملابسها أيضاً!
إحساس مريع، شيء ما قبض على قلبي وغلف عقلي بسحابة دخانية سوداء! كيف انسللت من ذراعي خليل؟ لا أعلم، فقط شعرت بيدي تتلمس طريقها لمقبض الباب كي أفتحه وساقيّ تحركتا جانبيا لأترجل من مقعدي، يظهر أن الجانب العملي من عقلي الذي كان يرشد أعضاء جسدي لتتصرف، بينما الجزء العاطفي منه معطل تماما!
خطواتي كانت غير ثابتة واكتشفت أن خليل يحيطني بذراعه وهو يسير بجانبي، ما رأيته زادني تخبطا! ديمة بدت مشوشة وشاحبة جدا بينما علياء بدت في حالة أسوأ هي وزوجها! هل قميص علياء ممزق تحت السترة الرجالية التي ترتديها؟ زاد هلعي وأنا أرى مينا بوجه محمر وأثار أصابع واضحة عليه! خولة تحرك عينيها بلا ارتكاز بينما زوجها يتكلم مع زوج ديمة بقلق واضح، دكتور نبيه بشعر مشعث وكأنه كان يشده طوال الوقت وهو يتحرك بخطوات خرقاء غير قادر على الثبات بمكان أو القيام بعمل مفيد؛ كمحاولة دعم علياء التي تبدو على وشك الإغماء وزوجها غارق في إغمائه الخاص!
ما الذي حدث؟! هل هجمت عصابة مسلحة على سكان المبنى؟! وبإحساس أسوأ اخذت ابحث بهستيرية عن لين وأنا أفكر من كان على متن سيارة الاسعاف؟! وصلت لمينا أولا وقبل أن أقول شيئا رمت نفسها عليّ وأخذت تبكي وتتحدث بهستيرية منفلتة ما بين العربية والفرنسية، ورغم أني أفهم اللغتين إلا إني لم أستوعب ولا كلمة واحدة مما تقول! لكني أدركت ببساطة أن شيئا مهولا حصل، وأن لين هي من كانت في سيارة الاسعاف.
***
أسندت جبهتي على الزجاج البارد لنافذة غرفة نومي وأنا أتطلع بغير تركيز لطفل في التاسعة يركب العجلة وبجانبه طفلة ترسم بطبشور أبيض على الرصيف الرمادي، لا أصدق أنه مر أسبوع كامل على حادث إطلاق النار على لين، من يفكر بأذيتها؟! إنها قطعة شكولاتة بمعنى الكلمة، شابة يافعة حالمة لا تؤذي نملة تمر بجانبها، أقصى أمنياتها أن ترى الجميع سعداء! تبدو كمن خرج من قصص الجنيات والحكايات ذي النهايات السعيدة دوما، حيث البطل يعانق البطلة ويعيشان بهناء لآخر عمرهما.
دمعتان فرتا من عيني جعلتاني أتبنه لحالتي المستفيضة في الكآبة والشعور بالجانب المظلم من الحياة، هذا الجانب الذي نحاول جهدنا دحره والتغلب عليه لنعيش براحة حتى ولو اضطررنا لأن نمثل على أنفسنا.
صوت الجرس أجفلني فتراجعت قليلا عن النافذة وعيناي ما تزالان تراقبان الطفلين بنوع من هوس الحماية! كنت أعرف أن في داخلي شيء انكسر، احساس فارغ بالأمان والهدوء، لست غبية لأعتقد أني أعيش في بلد الملائكة، حتى أن لندن ليست من المدن الآمنة، ولكن كنت أشعرها هكذا أو تعودت على جانبها الغامض المستتر فأصبحت أشعر بالأمان حتى مع عدم وجوده بشكل كلي! تحقيق الشرطة معي بدا كحلقة هزيلة من مسلسل هابط لاكتشاف جرائم القتل، هل أنا أتوهم أم أن اهتمام الشرطة كان سطحيا؟! هل كل ذلك له علاقة بجنسية لين العربية أم إني أصبحت أعيش في ظل نظرية المؤامرة؟! وهل.. وهل..
رنّة اخرى كانت كافية لتعيدني إلى أرض الواقع تماما، الواقع الذي جعلني أمدد إجازتي لأسبوع حتى أستوعبه وأتآلف معه من جديد.
بإحساس متوجس نظرت من العين السحرية للباب لأطلق أنفاسا مطمئنة لهوية الطارق غير مطمئنة لأسباب حضوره الآن!
أخذت نفسين عميقين قبل أن أفتح الباب لأحدق مباشرة بوجه خليل، كان مبتسما لكن عينيه فضحتا توتره، كنت أعرف أنه قلق، فمنذ وصولنا لإنجلترا وصدمتنا بما حصل وأنا ابتعدت.
مدّدت إجازتي لبضعة أيام أخر ولذت بشقتي أتحصن بجدرانها، طلبت منه بصريح الكلام أن يتركني قليلا، وهو احترم رغبتي، كم كنت شاكرة له لأنه لم يلبس رداءه الشرقي ويصر على الاقتراب.
بهمهمة مرحبة رددت له تحيته وتراجعت خطوة للخلف في دعوة صامتة للدخول، كانت الوقت عصرا وبدا منطقيا أن أدعوه لفنجان قهوة لكن الكلمات تبلدت على لساني وأنا أنظر لكتفيه العريضين بينما يستدير ليواجهني، استندت إلى باب الشقة الذي أغلقته توا ووجدت نفسي أتطلع إليه بتوسل مبهم! لم أكن يوما ضعيفة لذلك فاجأني هذا الشعور الجائع بالاحتياج، شعور ترجمته خلال الليلتين السابقتين باحتضان ألبوم الصور الخاص بوالديّ، كنت خائفة، أجل خائفة، أنا ريتشيل زينب الفخورة بنفسها وبإنجازاتها والبالغة من العمر ثلاثة وثلاثون عاما؛ أشعر بالخوف، خوف من مجهول يتربص بي في الحياة، خوف من الفقد، أجل أن أفقد أناس أحبهم، أن أشعر بذلك الألم المبرح أني لم أراهم ثانية، أن أكون قاسية مع مشاعري فأجبرها على التكيف مع خسارتهم.
يد حانية أرعشت جسدي كله، كانت يد خليل، ووجدت تلك الدموع التي حبستها طويلا تعود للهطول بكثافة، كما وجدت صدر خليل ملاذا لي بدلا من تلك الجدران الباردة.
بكيت وبكيت، أجل بكيت كما لم أبكي في حياتي من قبل، كنت دوما أتحصن بقوة وهمية، فعندما كنت طفلة كان لي ملاكين صغيرين يحققان أمنياتي حتى لو كانت انتقاما طفوليا بريئا من زميلة دراسة متنمرة، عندما كبرت واكتشفت أوهامي حول هذين الملاكين ودعتهما بألم لأواجه الحياة بطريقة أخرى، لم أكن أبكي عندما يعيرني الأولاد معي بأصلي التركي وانتمائي للإسلام، بل كنت أدعي التجاهل واللامبالاة، ليس أمامهم فقط ولكن أمام نفسي أيضا.
كبرت.. وأصبحت شابة واثقة ليضحك عليّ قدري ويرمينا في غيابة خسران والديّ، ولكني لم أبك أيضا وأخرجت نفسي عنوة من هذا البئر العميق، لكني تعبت، أجل أعترف أنني تعبت، لم أعد أستطيع أن أكون القوية، وكأن خليل شعر بهشاشتي في هذه اللحظة فشدد ذراعيه القويتين حولي وهمس قرب أذني " هيا حبيبتي، أبدلي ملابسك ودعينا نذهب سوية لرؤية جارتك، قطعة الشكولاتة "

**********

علياء عبد الحميد

" ارفعوا إيديكم لفوووووق، المكان كله محااااااصر "
هكذا كانت تصرخ آية بعرائسها المرصوصة أمامها، شاهرة في وجوههم البلاستيكية وديعة التصميم مسدس مائي كلعبة تلتهي بها حتى موعد زيارتنا لـلين جارتنا الحبيبة وصديقتها الأثيرة في المشفى بعد أسبوع من الحادث المروع .
:- لين ستستطيع دعوتي لنشاهد الأفلام و نشرب الشوكولا مجدداً معاً، أليس كذلك يا ماما؟
:- لين ستشفى و تنجب ولدا و تسميه وليد، هي وعدتني بهذا، أليس كذلك يا ماما؟
:- ماما سأحضر لها معي العرائس و لعبة وليد الإلكترونية لابد من أنها تشعر بالملل وحدها.
هكذا كانت عناوين ثرثرة آية لهذا اليوم منذ علمت أننا سنذهب إليها و قد ألحت أن أعطيها الزهور لتحملها لها بنفسها .
هل مر أسبوع حقاً؟ لا أستطيع التصديق، كلما تذكرته عادت الدموع غزيرة حارقة لمقلتي، لحظة شعرت أنني بت مستباحة منتهكة من حبيب العمر، لحظة ظننتني عارية من كرامتي اخترقت الرصاصة لين لنتدافع نحو شقتها اندفاعا جنونيا، الجميع كان يبكي و يصرخ! كنت أبحث بين الوجوه المتدافعة عن وجه آية الصغير حتى رأيت الأستاذ نبيه يحملها و هي تبكي لهلع الجميع وقد ظننتني لن أراها مجدداً .
لحظة مكاشفة أزالت عنا أقنعة التأنق، و بانت الوجوه المتعبة، حين هدأت الضجة و عدنا جميعاً كلٌ إلى عالمه تساءلت حينها ألا نشبه أوطاننا؟ لين تلك الفتاة الغضة كادت تنحر بأحلامها بيننا، مونيا و ما أصابها من هستيريا أدت إلى إجهاضها، أما البقية فالرجال باتوا مرتبكين أكثر من نسائهم بعدما رأوا الدماء ساخنة طرية تنزف من كلتا الفتاتين، ديمة تبدو في سكون الموتى والدموع تلتمع في عيونها دون انسكاب، خولة متمسكة برعب بكم خالد ومينة تبدو كطفلة ضائعة بيننا. حملت ابنتي لأتأكد من سلامتها قرب قلبي و أنا أرى مصيبتنا جميعاً. كم اجتمعنا سوياً! نتجاور نتزاور، إخوة غرباء، فقد فطرونا على الاكتفاء بهموم الذات "امشي جنب الحيط، من خاف سلم، الحيطان لها ودان "، كل منا تمسك بحائطه المتهالك خشية الالتفات فربما لو التفتنا يتهالك فوق رؤوسنا بينما العدو يسرح ويمرح بين أظهرنا و كلما حاولنا الالتفات نجد المطارق الحديدية تحطم الرؤوس تأديباً " لِماذا لم تلتزم بحائطك؟، هذا الحائط هو عالمك فلا تمدن عينيك لأبعد من هذا " تصرخ بهم و تخبرهم إنه وطني، تجيبك المطارق " أي وطن؟ وطنك هو بيتك ولقمة خبزك المغموسة بذاتك و انتهاكك، أما ما تطلق عليه وطنا فتذكر جيداً يا ولدي أن الطمع يقل ما جمع، امشي جنب الحيط فالحوائط المتهالكة التي لا تعجبك اليوم بالغد لن تكون متوفرة للجميع " أحالوا صروح أوطاننا الشامخة إلى حوائط متهالكة نلوذ كالفئران بشقوقها خوفاً من الخوف .
بلاد العرب أوطاني منَ الشّـامِ لبغدادِ ومن نجدٍ إلى يَمَـنٍ إلى مِصـرَ فتطوانِ
فـلا حـدٌّ يباعدُنا ولا ديـنٌ يفـرّقنا لسان الضَّادِ يجمعُنا بغـسَّانٍ وعـدنانِ.
أنشودة جميلة أليس كذلك؟ نتغنى بها و نشق بها الحناجر في مدارسنا لترفرف الأعلام عالية خفاقة فوق أسنتها أما عيون القلوب فهي منكسة بذل الصمت و الانكسار، لنا عذر حفظناه كما النصوص المقررة أننا قد وجدنا آبائنا كذلك يفعلون، صامتون من أصلاب ساكتون، بلاد العرب أوطاني و كل العُرب إخواني، أتساءل كثيراً يا عصبة النون لِمَ تقابلنا، لِمَ جمعنا الله تحت هذا السقف، ببساطة لأن الأنشودة لم تكن أنشودة بل ميثاق متين، ميثاق ضيعه من قبلنا فضاعوا و أنجبونا ضياعاً، فهل سيظل هذا التيه قائماً فوق رؤوسنا؟ هذا التيه عقاب الله للمختلفين لمن هم في شقاقهم صغاراً يعمهون، كل في تيهه الخاص يتخبط لينظر إلينا أعدائنا هانئون مطمئنون و تطعن لين مرة أخرى و تقتل و تذبح و تنتهك و نحن دامعون، مذبوحون، منهكون ترى متى سينتفض هذا الجسد المتعب ليعتصم بحبل الله المتين؟
انتشلتني آية من أفكاري بضجتها العارمة و المعتادة عند مجيء والدها للمنزل
:- ماما.. ماما.. بابا أحضر شكولاتة للين و زهور بيضاء، أنا سأحمل الزهور لقد حجزت أولاً .
هززت رأسي موافقة و أنا أتوجه للمطبخ لأسكب له الطعام
:- هل سأتناول الطعام وحدي؟
:- أكلت آية منذ نصف ساعة لم تستطع انتظارك .
:- و أنتِ؟
:- لست جائعة، عندما تنتهي ضع الأطباق في الحوض .
لم أنتظر ليكمل و عدت لغرفتي لأجهز ملابسي و ملابس آية للنزول، جاء بجانبي يعبث بالخزانة خاصتي أغلقتها و لكنه تعلل أنه يبحث عن شيء له فيها، كان يتلمس أغراضي الخاصة أمام عيني كأنه يبثني الشوق من خلال تلك اللفتات الصبيانية، فجأة عبث بكيس خطة سحر الفيديو كليب وتنسيق الثانوية العامة فجحظت عيناي و أنا أراه يسحب منه القطع الصغيرة الملونة و المطرزة برقة قطعة.. قطعة وهو يضحك خافتاً بتسلية، لا تعلمون بالطبع ما هو سحر الفيديو كليب و تنسيق الثانوية العامة، الثانوية العامة رسمياً في مصر تعد شبحاً يفوق كل أشباح أفلام الرعب الهابطة، عندما يتسلل لبيت من البيوت يصيب ساكنيه بمرض الذعر الدائم و ضياع ثروات العائلة في إسكات عفريت آخر شقيق الشبح الأول و هو عفريت الدروس الخصوصية لن أخوض في المزيد، فحالتي لا تسمح رغم أن الحكاية شديدة المتعة و التشويق عندما يأتي موعد امتحان تلك الثانوية الملعونة تجتهد وزارة الإعلام بكل وسائلها بعرض أحدث الفيديو كليبات إثارة وأكثر الأفلام تشويقاً تشجيعاً للطالب المسكين على إلقاء الكتاب خلف ظهره والسكون أمام الشاشات المترفة بالمرح واللهو حتى ينتصر الشبح اللعين على الكثير من الضحايا المساكين وأولياء أمورهم وبالتالي تضييع الكثير من النقود التي أتلفت لإسكات عفريت الدروس الخصوصية وهكذا دواليك ودواليك، كنت أريد تطبيق هذه النظرية على عمرو و هو في ذروة انشغاله بدراسته، أرتدي هذه القطع النادرة الجمال وأنظر هل سيجدي الفيديو كليب الحي مع طوفان مشاغله أم سينتصر طوفانه علي في النهاية؟. " ما عاد يجدي.. توقف عن اللعب بأغراضي" هكذا همست لنفسي قبل أن تفزعني آية التي جاءتني صائحة فرحة بعلبة الشكولاتة الإضافية التي أحضرها لها عمرو كما أحضر للين، انتزعت غلافها بفوضوية ثم أخذت عدة وحدات و وضعت باقي العلبة بين يدي و هي تغادر لغرفتها بينما صوتها يتعالى أثناء جريها، " ماما سأرى حظي في الشكولاتة "
رغماً عني تسللت بسمة خائنة إلى شفتي وأنا أتذكر شكولاتة الحظ كما كانوا يطلقون عليها ملفوفة بقصاصات من ورق مخطوط عليها بضعة كلمات غبية، لكن يومها كم كانت تلك الكلمات جميلة ما زلت أحتفظ بتلك الوريقات في درج سري بالخزانة في صندوق أجمل من صندوق البروش الصدفي، هذا الصندوق به أي قصاصة كتبها عمرو لي، ليست رسائل بالطبع فهو لم و لن يجيد فن الغزل، أغلبها قصاصات مسائل الفيزياء الصعبة التي كانت تعلق بذهني كفخ مدبب الأسنان ولكن معه هو تستحيل قساوتها إلى عذوبة بحيرة رقراقه، أما باقي القصاصات فهي من نصيب شكولاتة الحظ!
وضعتها على منضدة الزينة و هممت بالمغادرة نافضة للذكرى من ذهني بينما يمسك يدي بتردد وهو يقول :- ألا تريدين أن أرى لكِ حظنا كيف يكون؟ .
نفضت يدي من كفه قائلة :- أقدارنا بيد خالقنا ليست ملفوفة على قطع شكولاتة لنبتلعها بينما نتفكه بقراءتها .
منذ أسبوع و أنا لم أبرح غرفة ابنتي و هو لم يطالب بغير هذا، ولكني في الليل أشعر به يأتي ويجلس ساكناً في الظلام بجوار فراش آية لا يفعل شيئا فقط يظل بجوارنا، ضبطته أكثر من مرة و بعدها ينهض مسرعاً متعللاً بأي عذر " آية عطشانة، الغطاء غير مستقر عليها، كانت تنادي بابا تعالى الحرامي جاء يقتلني مثل لين " ابتلعت أعذاره لأني لا أريد غير هذا، و إلا فماذا سأصدق؟ هل هو مشتاق في لوعة و ندم لهجراني أم يريد ما له كما أخبرني يومها؟ إراقة الكرامة قاسية يا ابن خالتي، هل أستنجد فيه بابن خالتي ليحميني من زوجي؟ لا يريد اعتذاراً؛ يريد أن نتحدث و نتغاضى لتختفي الفجوة التي اتسعت بيني وبينه و لا أدري الآن كيف أقوم بردمها و أبني جسراً لأعبر إليه أو يعبر إلي و ننجو بنا، لننجو بآية .
همس بيأس :- أعلم أن أقدارنا معلقة بإرادة الرحمن و لكنكِ صرتِ بخيلة حتى بالابتسامة.
لست بخيلة لقد تذكرت بالفعل و ابتسمت لبراءة حبي حين أحضر لي في الصغر الشكولاتة لأتخير له واحدة و بهذا تكون هذه الكلمة التي سنعثر عليها كتبت في الأقدار و ستتحقق " أحبك " كل القطع التي كانت معه كان ملفوفة بسحر هذه الكلمة الدافئة حلقت حينها مبهورة بين غيوم سعادتي في كل مرة نتعثر معاً بنفس القصاصة حتى اكتشفت من خالتي أنه عبث في جميع القطع ليورطني بحبه، ليته ما فعل!
:- ماذا تريد يا عمرو؟
اعتدلت لأواجهه وقد أذاب أسبوع من الابتعاد الغضب الذي غمرني في تلك الليلة و تبقت مرارة الحسرة عالقة في حلقي، كيف سأجليها من فمي و أتابع حياتي معه؟
لم يكن واثقاً متعنتاً كما العادة بل كان ضائعاً مثلي أو يزيد .
:- أنا أفتقدك ألا تشعرين؟ لقد أصبحتِ شديدة القسوة .
بهدوء توجهت نحو الفراش لأتمدد عليه مستسلمة و أنا أخبره بثبات :- أخبرتك ماذا تريد و لم تقل، أنا لم أمتنع عنك يا زوجي العزيز، تفضل حقوقك كاملة .
صاح منفعلاً :- لِمَ تشعريني بأنني مجرد حيوان غايته هو إشباع جوعه المؤقت بكِ؟
جلس قربي فاعتدلت جالسة بجانبه و قد أمسكت كفه بين يدي بينما استقرت نظراتي في عمق عينيه، تحرك شوقي بين حجرات قلبي و أنا أنزع عنه نظارته و أهمس له :- أعلم ما تريده، تريد أن أخبرك بها، هل تشتاق إليها يا عمرو مثلي؟.
ارتبكت نظراته المتسائلة فوق صفحة وجهي و أنا أعلنها لنفسي قبله :- أحبك .
فرح طفولي تراقص في عينيه و أنا أكررها بحسرة مراراً على مسامعه كأنه يسمعها للمرة الأولى ليجذبني بقوة و يغيبني معه في قبلة محمومة، استسلم فيها بتعب كلاً منا للآخر، لم تنفصل أنفاسنا إلا بعد أن تذوق ملوحة دموعي في فمه و لم ينظر لوجهي ليراها فقط ضمني بقوة متجاهلاً بكائي و هو يهمس لي :- أتعلمين كم اشتقت لاحتضانك؟ أراح رأسه على صدري و هو يكمل : - أشعر بالنعاس و أريد النوم، لا تبتعدي مجدداً .
أحطه بذراعي فشدد من احتضاني و أنا أجيبه همساً :- هل تشعر معي بالأمان؟.
هز رأسه إيجاباً و هو يغمر رأسه في شعري مقبلاً إياه
فهمست إليه :- هل تعلم ما أشعره الآن؟
صمتت أنفاسه لوهلة بينما يتطلع في وجهي هذه المرة، سالت دموعي و أنا أرى ارتباكه بين يدي و لكني لم أستطع السكوت فأكملت :- أشعر أني رخيصة، بلا قيمة .
انتفض غاضباً وقد أطبق بيده على فكي و هو يردد بقرف :- تشعرين بماذا؟
انتزعت وجهي من بين قبضته مبتعدة عنه و هو يردد بيأس :- لم أعد أفهمك، و لا أعرف ماذا تريدينه؟ كل هذا من أجل دراستك، تشعرين بال...
اختنق صوته وهو يكمل؛ كيف جرؤت على نطقها؟
:- لأنها الحقيقة .
جذبني من شعري بخفة ليديرني إليه قائلاً :- الآن وأنتِ بين ذراعي رخيصة .
:- عندما أعطيك ما لا تستحق أصبح رخيصة، لك كزوجي حق تأخذه كيفما تشاء وقتما تشاء أليس هذا كلامك؟، أما السحر الذي لفنا منذ قليل فذلك الحب ليس من حقك، هنيئاً يا عمرو، لقد ابتلعت حبيبتك خبأتها بأعمق آبار قلبي و لن أخرجها مجدداً، أردت أن أذيقك آخر لفظاتها قبل أن تحرم منها أبداً .
لملمت شتاتي و أنا أبتعد عنه و قد صمتت ردة فعله عن المبادرة بشيء بينما يتأملني ساكناً و أنا أنادي آية بصوت مرتفع غير مبالي :- هيا يا آية ألن ترتدي ملابسك؟.


*************



خولة سعود

كنت راكعة على ركبتي أقوم بإلباس أشرف وأسعد معطفيهما عندما سمعت صوت باب الشقة يفتح ويدخل منه خالد، فهتفت دون أن ألتفت إليه "لماذا تأخرت؟ حسبما أذكر فمتجر الورود ليس بعيدا لهذه الدرجة"
قال متجاهلاً سؤالي "واو! عرفتُ أن هذه المعاطف ستكون رائعة عليكما" طبعاً لأنه هو من اشتراها.
نهضت من مكاني و التفت إليه، حدقت به لبرهة، ثم سألته ببلاهة "أين الورود؟"
أجابني ببساطة "لم أحضرها"
سألته ثانية "و لمَ؟"
قال وهو يمد لي كيساً ورقياً جميلا وردي اللون "لأنني أحضرت هذه بدلا عنها"
تناولته منه وفتحته، فارتفع حاجبي دهشة، ثم وضعته على المنضدة و أدخلت يدي فيه لأخرج خمسة كتب، قلبتها بين يدي، وأخيراً حولت نظري إلى خالد وقلت ببرود "أنت تمزح، صحيح؟"
رد وهو يهزّ برأسه "لا أبداً "
تكلمت محاولة ضبط أعصابي "أزور جارتي في المستشفى والتي تعرضت لطلق ناري وأقدم لها روايات؟"
حك حاجبه مغمغماً "ما المشكلة في هذا؟"
هتفت فيه بحنق "خالد! لا تختبر صبري، ماذا طلبتُ أنا منك؟"
أجابني وهو ما يزال هادئاً "طلبتي ورود، لكن في الحقيقة رأيت أنها مجرد مضيعة، أولاً لأني أجزم أن جاراتك سيحضرن لها ورود، وثانياً لأنني أراها شيئاً تقليدياً"
قلت ساخرة "ولذلك خطرت لك الفكرة الجهنمية بأن تحضر لها روايات"
قال بحماس "أجل روايات، هدية جميلة و غير تقليدية، كما أنكِ أخبرتني أنها تعشقها، والآن لماذا أنتِ غاضبة؟"
حسناً أعتقد أني سأدخل المستشفى اليوم، ولكن ليس لزيارة لين، بل بسبب أزمة قلبية من السيد خالد. تنفست بعمق ثم قلت برجاء "يا حبيبي إنها مصابة في كتفها، كيف ستمسك الكتاب؟"
قال مبتسماً " أنا متأكد أنها بخير الآن، أيضا لحسن الحظ لديها كتف أخرى سليمة"
"مازالت في فترة نقاهة، إنها مرهقة ولن تقوى على القراءة"
" وحتى لو كانت كما تقولين فإنها لن ترميها، ستقرؤها عندما تتحسن، إنها أفضل من الورود التي ستذبل وستضطر أن ترميها يوماً "
زفرت بتعب، لن أستفيد شيئاً من المجادلة، ثم أعدت نظري إلى الروايات بين يدي، و قلت بفتور "على الأقل لماذا لم تطلب من المكتبة أن تقوم بتغليفها"
شهق بدهشة قائلاً "هل أنتِ مجنونة؟ الفتاة مصابة في كتفها وأنتِ تريدين أن نتعبها في نزع ورق التغليف"
أقسم أنه لولا طفليّ اللذين كانا يلعبان عند قدميه لكنتُ رميته برواياته، الآن حمل الرواية و تقليب الصفحات لن يؤذي كتفها أما تمزيق ورق التغليف فهو الذي سيجعلها تفقد الوعي!
لمحت ابتسامته الاستفزازية قبل أن يمحوها ويقول بتأني "ثم يا ذكية لم أغلفها لأنني أردتك أن تكتبي لها إهداء"
قلت له من بين أسناني "و لمَ لا تكتب الإهداء بنفسك طالما أنك من اختارها؟"
صاح مستمتعاً "واو! خوخة الغيورة ظهرت" ثم أضاف بجدية مصطنعة "بالمناسبة لقد فكرت بذلك في المكتبة لكني خفت أن يقتلني راشد" و قبل أن أنطق بشيء استدار داخلاً إلى غرفة مكتبه وهو يقول "أنا مشغول الآن، و إذا لم تعجبك الهدية إرميها وخذي أشرف وقدميه هدية لها، يكفينا شيطان واحد."
راقبته حتى توارى و أغلق الباب خلفه، آه كم هي قوية الرغبة التي تأمرني أن أعطي الروايات لأسعد وأشرف، ولكني استطعت مقاومتها، فأنا أعرف أن هذه الهدية – رغم غرابتها – ستسعد لين وأيضا لأني أعرف أن خالد سيغضب إن فعلت ذلك.
التفكير في الغضب ذكرني بالغضب الشديد الذي شعرت به طوال الأسبوع الماضي، والذي كان سببه إصابة جارتي لين الطاهر، فالحقيقة أنني لم أشعر بالحزن أكثر مما شعرت بالغضب يحرق صدري لأنني عرفت أن ما أصابها لم يكن مؤامرة. قد أكون امرأة مجنونة لكنني تمنيت أن يكون الأمر مؤامرة، لماذا؟ لأن المؤامرات تحاك وراء ظهورنا، و تُخفى عنا، ثم تنفذ بكل دقة و براعة بحيث نحسبها أمورا طبيعية ومقدرة دون أن ندري أن ورائها أيدٍ خفية والسؤال لماذا يفعلون ذلك؟ بالتأكيد لأنهم يخافون منا، يخافون أن نكتشف لعبتهم القذرة فنثور ونغضب وننتقم فنرد لهم الصاع صاعين، إذن هم يستخدمون المؤامرات لأن لنا رهبة في قلوبهم. لكن في حالة لين ماذا فعلوا؟ هل دبروا مؤامرة بحيث تصدمها سيارة سائقها مخمور؟ لا! هل دبروا مؤامرة بحيث تحترق شقتها نتيجة تسرب في الغاز؟ لا! لقد دخلوا العمارة التي تسكن فيها، وبين جيرانها وأهلها أطلقوا النار عليها دون أن يكلفوا أنفسهم استخدام كاتم الصوت، لكأنهم يقولون لنا (لم نعد بحاجة لحبك المؤامرات ضدكم بعد اليوم لأننا لم نعد نخافكم) إهانة ما بعدها إهانة! ذل ما بعده ذل! عار ما بعده عار! و معهم حق في ذلك فلماذا يحبكون لنا مؤامرات لطعن ظهورنا ونحن قد صعرنا لهم وجوهنا لكي يصفعوها وقد علمنا أن كرامتنا في وجوهنا لا في ظهورنا.
قطعت استرسالي لأني لم أرد أن أتكدر أكثر، جلست على الأريكة وتناولت قلماً من المنضدة، و شرعت في كتابة إهداء بسيط للين وأنا أفكر بماذا يفعل خالد في مكتبه! لقد أصبح يقضي معظم أوقاته فيها، وعندما أدخل عليه إما أجده يكلم أحدهم بالهاتف، والإجابة الوحيدة التي أحصل عليها عندما أسأله عما يفعل هي (عمل) هذه أول مرة يكون فيها بهذا الغموض، ولقد أعطيته أسبوعا كاملا حتى يخبرني، لكن لم يفعل، كما أنه إلى الآن لم يعتذر مني عن كلمته الجارحة تلك، تنهدت بحزن، خالد أنا أحبك وأكره أن أغضب منك وأعاملك بلا مبالاة لكن أعتقد أن هذا ما يجب أن أفعله فقد استنفذت صبري كله.
خرج خالد من غرفته يحمل جهاز اللاب توب فيما كنت أعيد الروايات في الكيس الورقي، جلس بجانبي و وضع جهازه على المنضدة، هممت بالنهوض لأني غاضبة منه، لكنه قبض بيده اليسرى على ذراعي بشدة بينما يده اليمنى تتحرك على الجهاز، قال لي مغمغماً وعينيه مركزتين على الشاشة "لحظة واحدة"
لم تؤلمني قبضته لكنني لم أرده أن يلمسني فنفضتُ ذراعي بعنف فيما سمعته يقول "هيا يا هدى"
هدى هي أخته الصغيرة التي دائماً ما يحدثها ببرنامج السكايب، تأوهت وأنا أنتفض غضباً، هل يعقل أنه يريدني أن أحدثها الآن و نحن سنخرج بعد قليل، نظرت إلى الشاشة وأنا أنوي الهروب قبل أن تراني هدى لكني تجمدت مكاني وتوقفت أنفاسي، فلم تكن هدى التي تطالعني من شاشه اللاب توب، بل امرأة كبيرة في السن، عينيها سوداوين لامعتين، وشعرها محمر من أثر الحناء، امرأة عشتُ في كنفها خمس وعشرين سنة، امرأة أناديها أمي...
سمعت خالد يكلمها مرحاً "هل رأيتها يا خالتي؟ ابنتك التي تجعلني أرى نجوم الظهر"
مازلت على نفس وضعيتي دون أن أتحرك قيد أنملة، وسمعتها بذلك الصوت الناعم الذي لم أسمعه منذ خمس سنوات تقول "خولة" يا الله! تفخيمها القوي للخاء ومدها القصير للواو و ترقيقها المنساب للام وأخيراً التنهيدة المرتاحة التي تختم بها الهاء الساكنة، بدأت الرؤيا عندي تصبح مشوشة وأنا أسمع اسمي من بين شفتيها، مازالت تنطقه بنفس الطريقة، الله يعلم كم مرة حاولت تقليدها في نطقه في الخمس السنوات الماضية علني أجد شيئاً من دفئها يصل لأذني!
وفجأة لم أعد أرى شيئاً لأن طبقة زجاجية فوارة غطت عيني، وشعرت بغصة قوية في حلقي فيما كنت أعض شفتي السفلى حتى لا تخرج شهقاتي، لم أرد أن تراني أبكي في أول لقاء لنا، حاولت أن أتماسك فلم أستطع، لذا أشحتُ بوجهي عنها ودفنته في صدر خالد و بدأت أشهق بعنف.
سمعتُ خالد يضحك برقة و يخاطبها "لا تقلقي، إنها لم تصبح بكماء لكنها مدللة فقط" ثم لم أعد أسمع شيئاً لأنني انخرطت في بكاء شديد، لطالما فكرت في لحظة لقائها، لطالما تدربت على الابتسامة الناعمة التي سأرسمها على شفتي عندما أراها، لطالما أخذت العهود على نفسي بأنني سأتمالك وأضبط أعصابي ولن أنهار، لكن أين أفكاري وتدريباتي وعهودي الآن! لقد حطمها الشوق بقسوة.
بعد مدة بدت لي طويلة جداً، شعرت بيد خالد تستقر على شعري، ثم سمعته يقول برقة "حسناً، لقد أنهيت الاتصال وأخبرت أمك أنكِ ستحادثينها بعد أن نعود من عند لين، ارفعي رأسك الآن" لم أستجب له فأضاف ببعض الاستياء "هاي، أنت تُخيفين الولدين، إنهما ينظران إليك و إذا لم تتوقفي سيبدآن بالبكاء"
توقفت ليس لأني خفت أن يبكي ولديّ ولكن لأني شعرت بأن البكاء أنهكني كثيراً، ازدرت ريقي بضع مرات، وأسندت يدي على صدره ورفعت رأسي مبتعدة عنه، فانحنى على المنضدة متناولاً علبة المناديل الورقية ومدها إليّ وهو يقول ببشاشة "لقد أصبحت كالخوخة الحقيقية"
سحبت مجموعة من المناديل وأخذت أمسح وجهي فيما قال خالد بنبرة معتذرة "آسف لأني فاجأتكِ، لقد أردت أن أخبرك أولاً، لكن صراحة لم أستطع مقاومة رغبتي في معرفة ردة فعلكِ عندما ترين أمكِ فجأة، وصراحة لم أعتقد أنكِ ستكونين عاطفية لهذه الدرجة"
كلمة (عاطفية لهذه الدرجة) كانت كل ما أنا بحاجة إليه كي أسند رأسي إلى كتف خالد وأبدأ بالبكاء مرة ثانية لمدة أعتقد أنها قاربت الخمس دقائق، بعدها توقفت و اعتدلت جالسة على الأريكة بعد أن تأكدت أن الطرف الأيسر من قميص خالد قد تبلل تماماً.
قال خالد "هل أنتِ بخير؟"
همست بطفولية و أنا أسحب مجموعة أخرى من المناديل وأمسح وجهي "أريد أمي"
أجابني بلطف "سترينها بعد أن نعود من عند لين"
لكني هززت رأسي مغمغمة باعتراض و أنا أنظر إلى قدمي "أريد أن أحتضن أمي"
ضحك خالد قائلاً "حسناً، لقد أصبحتِ أنانية" ثم أدار وجهي ليقابله و قال "هل تعلمين كم الجهد الذي بذلته حتى أجعلهما يكلمانكِ؟"
صحيح، كنت منشغلة بانفعالي دون أن أفكر كيف حدث ذلك!، نظرت إلى خالد بتساؤل، فقال بشبه ابتسامة "حسناً الفضل بعد الله يعود إلى أبي، فقد طلبت منه أن يذهب إلى قريتك و يزور والدك، ويقنعه بأن يكلمني، وبالفعل فعل ذلك، فزاره أبي ولما علم أن أبوك يحب الضيافة فقد بقي عنده ثلاثة أيام حتى إذا شعر بمكانته عند أبوكِ بدأ بإقناعه بأسلوبه الحكيم أن في الأمر سوء فهم، واستطاع أن ينتزع من والدكِ وعد بأن يكلمني، وكان والدكِ عند وعده فكلمني في اليوم التالي، بالتأكيد لم تكن المكالمة سهلة، فقد أخبرني صراحة أنه يكرهني وأنه يتصل بي لأنه وعد أبي لا غير، لكنها بفضل الله مرت على خير بسبب لين، الأمر الذي جعل مكالماتنا تستمر لبضعة أيام أخرى، وقد أتعبني فعلاً، فهو ذكي جداً ولم يترك أمراً دون أن يسألني عنه وقد حاول أن يباغتني مراراً ليوقعني، حتى اقتنع قبل يومين، والبارحة دعاه أبي إلى زيارته هو وأمك، وهكذا استطاعت هدى أن ترتب لنا الاتصال مع أمك، وسنتصل بهما معاً بعد العودة من زيارة لين"
الآن عرفت سبب تلك المكالمات طوال الأسبوع الماضي، لكن مازال هنالك شيء قاله لم أستوعبه، لذا سألته بصوت مازال أبحّاً من البكاء "ماذا تقصد بأن المكالمة مرت على خير بسبب لين؟"
ضحك بحرج مجيباً "حسناً، عندما وجدت أنه مازال على رأيه، أخبرته أن إحدى جاراتك زارتك، و أنه أثناء ذلك أتي مجرم و أطلق النار عليكما وقد أصابت الرصاصة جارتك، وسألته ماذا كان سيفعل لو أصابتكِ الرصاصة أنتِ؟، ماذا لو متِ؟، هل سينفعه شيء حينها، أخبرته أن الندم سيقتله لأنه كان غاضباً منكِ بسبب شيء تافه و خاطئ"
لو كنت في مزاج جيد لابتسمت على هذه الكذبة المتقنة، ثم سألته السؤال الذي كان يجب على أن أسأله إياه منذ البداية "لماذا؟ لماذا فعلت ذلك من أجلي"
صمت مراقباً أشرف وأسعد اللذين كانا يلعبان جوار التلفاز، ثم رد علي بجدية "من شابه أباه و قريته فما ظلم، أنا لم أنسى هذه الكلمة أبداً، وأوقن بأنها آلمتني أكثر مما آلمتكِ، ولن أقول أنني لم أقصد ذلك، فقد قصدتُ قولها لأنني كنتُ أشعر بالخوف وأردتكِ أن تتوقفي عن قولكِ أننا سنفقده، أعرف بأن هذا ليس مبرراً لكي أجرحكِ، كما أعرف أن الاعتذار لن ينفعني، فكلمة آسف ليست كفيلة بمحو جرح كالذي سببته لكِ، لذا فقد قررت أن أفعل من أجلك شيئاً يسعدك ويبهجك بحيث تغفرين لي كلمتي تلك، ولم أجد ما يسعدك أكثر من أن تعود علاقتكِ بوالديك لسابق عهدها"
بدأت أضغط على أسناني بشدة فيما الدموع تجمعت في عيني وأنا أشعر بالامتنان الشديد له، لكن قبل أن أقول أو أفعل شيئاً قفز خالد من الأريكة، وقال محذراً فيما يحمل أسعد وأشرف ويتجه إلى باب الشقة "لا، ليس مرة ثالثة، سنتأخر على لين، اغسلي وجهك و ارتدي عباءتك و الحقينا" ثم خرج مغادراً.
عجيبة هي المشاعر التي تنقلب في لحظات.
أمي وأبي! أنا أحبكما، خالد! أنا أعشقك.


**************



مينة احمد

كابوس.. كابوس! نعم إنه كذلك و ليس شيئا آخر
صوت الرصاصة.. الدماء.. صرخات مختلفة.. إسعاف.. شرطة.. لين و مونيا، فتحت عيني لأتأكد إن كان حقيقة أم مجرد غزل من نسج الخيال؟
لم ينتشلني من محاولتي لإنكار ما حدث إلا صوت طرقات على باب غرفتي.. بعدها بقليل دخول مازن يقول و هو يحرك يده أمام وجهي :" هل انتهى بوذا من التأمل أم ماذا؟ ". ابتسمت له و أنا أجلس في فراشي .
تنهد ببطء و هو يردف : " مينة الجميع بخير لا تقلقي، و اليوم ستتأكدين.. اسمعيني جيداً، لكل إنسان قدره وكل شيء مكتوب، كل مرة أشعر أنك تحاولين بنظرتكِ أن تملي عينيكِ من وجهي، لا تستطيعين أن تمنعي أي شيء من الحدوث "
أجبته بهدوء :" الأمر ليس هكذا، فقط خائفة أن أفقد من أُحب، أن لا أستطيع سماع أصواتهم و لا أشعر بحنانهم، أن أندم على تقصيري في حقهم " .
أمسك كفي وهو يقول :" لأجل هذا كل ليلة تأتين لغرفتي وتتأكدين من أني أتنفس؟ سؤالك الدائم عن جيراننا وأنتِ تجبريني على الاتصال مراراً وتكراراً، حتى بعد أن زرتهم وتأكدتِ بنفسكِ؟ "
سحبني من يدي فجأة وهو يقول بنشاط :" هيا أيتها الكسولة، تنامين مثل الدجاج منذ العاشرة ولا تريدين النهوض، ستصبحين مثل الدب. اغسلي وجهكِ و غيري ملابسكِ سنتمشى قليلاً ".. هذا ما كنت أفعله طوال الأسبوع، الهروب إلى النوم .
كان أصعب أسبوع في حياتي لأنى شعرت بأنني أعيش على هامش الضياع، لا أعرف لي وطن، وغاب عني الأمان . وجود علي سابقاً ملأ حياتي كثيراً دون أن أشعر، ظننت إني أستطيع أن أبتعد وتسير الأمور كما كانت لكن لم يكن إلا مجرد كلام، لأن قلبي لم يكف عن ندائه و سفني تاهت عن شواطئها، ما بين قلبي وعقلي ضاعت روحي فأحدهما يطالب بكرامته وعدم الرضوخ لشوق الآخر في أن أذهب إليه؛ هو سُكني و مسكني.. وطني و غربتي.
رغم وجود مازن قربي دائماً حتى بات يعاملني كطفلته هو كان هكذا منذ البداية الأب قبل الأخ، إلا أن شوقي غلبني له و حتى عملي لم أذهب إليه وأخذت إجازة لمدة شهر، شعور بشع أن تشعر بقيمة من تحب بعد أن تفقدهم .
نهضتُ بتثاقل و فتحتُ الستارة، فتسللت خيوط باهتة من ضوء الشمس، ليست مثلما تشرق ببلادي بجرأة وعشق وحب تحتضن الأرض والبشر لكن هنا تخجل من التصريح .
نظرتُ إلى الخارطة التي تفرض وجودها على جزء كبير من الجدار المقابل من سريري، هكذا أردت أن يرسمها لي مازن مع وجود النهرين.. ظننت إني بهذه الطريقة أحمل الوطن معي و أجعله أمام ناظري ولكني أدركت أنه يعيش بداخلنا وتفاصيله محفورة بكل قطرة دم .
قبل أن أخرج من غرفتي حملت هاتفي وتطلعت إلى شاشته لكن لا شيء، مثل كل صباح ومساء منذ أسبوع، لم أعهده هكذا، هل يعني أن كل شيء انتهى؟ حسناً الأمر يحتاج إلى خطوة أخيرة، مثلما قالت لي أمي التي لم ترض أن تأتي إلا بعد أن أقرر زفافي، هذا إن استمر عقدنا .
خرجنا من الشقة و باب علياء واقف جامد يخفي خلفه أسرار امرأة وعائلة، كل مرة كنا نلتقي نحاول أن نترك حياتنا الشخصية وتعقيداتها جانباً، لكن محاولة القتل أظهرت الكثير، منظر علياء بجاكيت زوجها يحكي محطة ألم.
ديمة أيضاً لم تكن بحال يسر و الآخرين، مونيا آه يا مونيا هي الأصعب موقفاً لأن كل شيء جرى أمامها بحيث إنها تناست ألمها و لم تدرك ما حصل لها وهي تتشبث بلين وتؤكد أنها ستكون بخير.
هل كان أملا أم استنجادا؟ هل ذلك اليوم كان النكسة العربية؟ أما ريتشيل التي وصلت في تلك اللحظة لم تكن أحسن حالاً منا!
ما بين أسئلة الشرطة هل رأينا من فعل هذا؟ وأين كنا قبلها وأخرى لا أتذكرها .
لفحني الهواء البارد حال خروجنا من العمارة وتوقفت قليلاً. لم أخرج من هنا سوى مرة واحدة الأسبوع الماضي لرؤية الطبيب بعدما اشتد الألم في كتفي وركبتي.
حثني مازن على المسير و هو يمسك بكفي، لم يتغير شيء في شوارع لندن، الحياة ما تزال نفسها، البشر يتصرفون بآلية معينة، كنا نمشي ببطء وكأننا نستكشف الحياة بخطوات جديدة كما الطفل. مازالت الأحداث تضج برأسي وأنا أفكر بأن مكان سكننا وحياتنا هي وحدة مصغرة عن وطننا العربي، فلسطين جريحة.. كل مرة تأتيها رصاصة غدر. العرب ما يزالون يقفون ينتظرون، ومنهم من انشغل بهمه ورأى أنه ليس أقل معاناة منها ومنهم من خاف على مصالحه وآخرون تائهون لا يعرفون أين ينتمون؟ وبعضهم لا يملكون إلا أصواتهم .
لا يفهمون أن فلسطين هي الكرامة فإن سُلِبت سنبقى منكسي الرؤوس، مجرد تابعين لغيرنا.
" هل الفجوة بينكِ و بين علي اتسعت أكثر من أن تُغلق؟" صوت مازن أخرجني من تفكيري، فشددت على ذراعه وقلت له :" فجوة من صنع يدي، تركتها تكبر يوماً بعد يوم إلى أن قامت بابتلاع كل صبر لدى علي، آخر مرة رأيته بها كان لديه حق بما فعله"
بغضب أجاب :"أي حق ذاك أن يترككِ وأنتِ بأمس الحاجة إليه؟ أسبوع لم يكلف نفسه عناء الاتصال بك، عذره أرسله في رسالة قصيرة إنه مسافر "
" الحقيقة أنا أخطأت بحقه وتشاجرنا، جعلته يشعر انه على الهامش. كل شيء أنفذهُ حسب ما أريده، أفكر بنفسي وأرى ألمي هو المحور، جرحته بالصميم، فكم رجل يرضى بأن يكون على آخر قائمة زوجته؟ هذا إن وجد مكانا له، تماديت كثيراً بصدي له وأشعرتهُ بنفوري منه وأنه واقع فُرض عليَّ، نحيته جانباً وهو شريك حياتي، ومن حقه أن يكون معي بكل خطوة، سعيتُ بشتى الطرق حتى أبعده عن قلبي لكني لم أستطع وأنا متأكدة لو كُنتَ مكانه لما تحملت، ولرفضت هذا الواقع لأنه سيُعتبر جرح كرامة وإهانة للرجولة.. كلما فكرت بما كنت أفعله أخجل من نفسي. انشغلت بالوهم وتناسيت الواقع، أحرقت سنين عمري بنار الانتظار بينما غيري يستغل أصغر لحظة ويعيشها بسعادة "
توقف مازن ونظر إلي ليسألني :" هل تحبينه لهذه الدرجة؟". أومأت برأسي دون أن أستطيع النطق .
انتشلنا من صمتنا ضحكات أطفال، فرأيت تلك اللمعة بعيون أخي وأدركت كم ظلمته معي .
تناولنا فطورنا بالشقة وانتظرت إلى أن ينهى طعامه حتى أخبره بما قررت ولكنه سبقني وهو يقول :"قولي ما تريدين لأني أعرف هذه النظرة "
بتردد قلت له :" أريد أن أذهب لرؤية علي ". نعم سينفجر الآن ويبدأ بسرد الموسوعة بما يصح و ما لا يصح، صدق ظني وقد بدأ بالتغريد :" لماذا تذهبين؟ إن كان هنالك شيء تريدان حله فليأتي هو و ليس أن تذهبي إليه. كيف تقبلين هذا الشيء على نفسك؟ و وفري على نفسك الأعذار لأنه مسافر "
" لم يسافر، أقصد أنه عاد، أرجوك لا تصعب عليَّ الأمور. هذه أول و آخر خطوة بحياتنا، فإما أن نكملها معاً أو يذهب كلاً منا في طريقه ومن ثم أنا أخطأت ولا أريد أن أعيش بندم ما تبقى من حياتي لأنني لم أُصلح ما أستطيع إصلاحه، يكفيني ما قضيته في خوف وهروب "
انتظرت صدور الحكم، هذه المرة أردتُ أن تكون الأمور من بدايتها بمسارها الصحيح وليس بالخفاء. الانتظار شعور خانق لكن لابد منه .
وجاء الإفراج أخيراً حين وافق. انطلقت أغير ملابسي وقلبي يرقص على أنغام اللهفة والشوق مع الخوف أن يكون كل شيء انتهى كما قال ومن دون أن أشعر وجدت نفسي أرتدي معطفا كريمي اللون ربما هذه بداية جيدة . نظرت لنفسي بالمرآة ورأيت اللهفة تطل من عينيَ و وجهي ينضح بالحياة .
أحببتُ أن أجرب حظي وأرسل له رسالة فكتبت له: هل هو انسحاب من الحرب؟ أم إني خسرتها؟
خرجت بسرعة لمازن الذي يستشيط غضباً ولكنه لا يستطيع أن يمنعني، فالطرفان مهمان له، لم يتكلم وأنا اخترت الصمت أيضاً. بعد قليل كان يقود بتمهل يتعمد ذلك وسألني : " ألن تتراجعي؟ وليكن لقائكما في مكان حيادي " قبل أن أرد عليه وصلت رسالة من علي، فارتجفت أصابعي وأنا أفتحها لتطالعني كلماته المستفزة؛ قلت في رسالتك الأخيرة : " لقد خسرتُ الحربَ معكَ " ومتى دخلتِ الحربَ يا صديقتي حتى تخسرينها أنتِ قاتلتِ على طريقة دون كيشوتْ وأنتِ مستلقية على سريرك، هجمتِ على الطواحين وقاتلتِ الهواءْ، فلم يسقط ظفرٌ واحدٌ من أظافرك المطلية، ولم تنقطع شعرة واحدة من شعرك الطويلْ ولم تسقط نقطة دم واحدة على ثوبك الأبيضْ، أي حرب تتحدثين عنها؟ فأنتِ لم تدخلي معركة واحدة مع رجل حقيقي، لم تلمسي ذراعهْ.." اتسعت حدقتا عيني على التكملة، فلم يجد من رسائل نزار قباني المائة إلا هذه؟ لماذا يختبئون خلفه دائماً؟ أكملت القراءة وشعرت بالدخان يخرج من أذنيّ. " وإنما كنتِ تخترعين رجالاً من الورقْ وفرساناً من الورقْ وخيولاً من الورقْ وتحبين وتعشقين على الورقْ، فيا أيتها الدونكشوتية الصغيرة استيقظي من نومكِ، واغسلي وجهك، واشربي كوبَ حليبكِ الصباحي وستعرفين بعدها أن كل الرجال الذين عشقتهمْ كانوا من ورقْ "
عاد مازن يلح بسؤاله عن مكان اللقاء فقلت له : لن أغير رأيي وهذه المسألة سأحلها رغماً عن أنفه، فليهرب أينما يريد لن يكون له مني فكاكاً " اكتشفت أني قلت أكثر من اللازم، فلم أسمع إلا ضحكة شقيقي العزيز وهو يقول بتسلية :" يبدو أن الرسالة كانت منه، لسانه يغرق بلدا ومستفز بدرجة كبيرة "
لم أجبه وأنا أغلي غضباً كيف ينعتني هكذا؟ صغيرة ودونكيشوتية والأدهى أشرب كوب حليبي الصباحي حتى أني لا أحب الحليب، جبان! لماذا لا يكتب هو واستعان بنزار قباني .
لم يكن المكان بعيداً، وصلنا أمام البناية التي يقطنها. عصرية بكل ما للكلمة من معنى، لكنها باردة وغير حميمية. وعاد مازن لتجهمه وأنا أعرف بما يفكر به قبل أن أنزل قلت له " لن يأكلني اطمأن.. صحيح تذكرت أمي حضرت لك مفاجأة شقية جميلة، إلى اللقاء "
أرجو أن لا يكون هذا الرجل مثل ذاك ولا هذا الباب مثل سابقه لأن عنوان حياتي أصبح رجال خلف الأبواب. وصل المصعد إلى الطابق الثاني حيث يقيم. مرة واحدة كنت هنا مع أهل علي قبل سنة ونصف، لماذا احتلني الخوف وأنا أقف أمام الباب؟ تسارعت أنفاسي وفجأة قفزت إلى بالي كلمة دونكيشوتية فعاد تصميمي وغضبي يستعر من جديد. ضغطت على الجرس بصورة مستمرة أردتُ إزعاجه فقط وتراجعت إلى الخلف ما إن فتح الباب لتطالعني ملامحه المنزعجة وهو يصرخ :" ماذا؟" ومثلما الصدمة ألجمتني هو أيضاً كان مصدوما، شاحبا ذقنه نامية و وجهه نحيل. تلقائياً امتدت يدي لألمس وجهي فشعرت بالفرق، لهذه الدرجة أنا جرحته؟ كان هو الأسرع في تجاوز لحظة العتاب فترك الباب مفتوحاً ودخل، دعوة أم طردة؟ خطوت خطوة وأنا موقنة بأنها الخطوة الأولى .
صفعتني رائحة دخان السجائر. هل بدأ يدخن؟ ما الذي ألحقته بهذا الرجل؟ الشقة لم تكن بحال أفضل، ملابس هنا وهناك ومنفضة السجائر مليئة وأكواب القهوة فارغة .
نار الولاعة كان تشتعل بصدري قبل أن تُغرم بتلك السيجارة فتوهمها وتحرقها من لمسة واحدة. يقف عند النافذة ويوليني ظهره وكلماته تقطر غضباً يكتمه بصعوبة :" لماذا أتيتِ؟ أو الأصح ما الذي تريدينه هذه المرة؟ غاية أم وسيلة؟ ". سحبتِ نفساً عميقاً حتى لا أقوم بخنقه:
" لا هذا ولا ذاك جئت كي أعتذر لأني أخطأت بحقكَ كثيراً ". توقعت كل شيء إلا أن يقهقه ضاحكاً بسخرية وهو ينظر إلي :" لماذا لا تكتبين كلمة آسفة بورقة وترفعيها للأس مائة حتى لا تكلفي نفسك عناء قولها. لا أظن أن هنالك شيئا يستحق الاعتذار لأن الأخطاء تراكمت كثيراً والنهاية باتت معروفة "
علي العاشق الرقيق أصبح هكذا؟ كلما أصلحت حياتي من جهة تتمزق من جهة ثانية، قلتُ له :" لماذا انتظرت حتى أتيت أنا؟ لماذا هربت وتركتني وأنا بحاجة إليك؟ هل هذا هو الحب؟ أن ترميني بكلمات ليست لك؟ أن تتهمني أن كل الرجال في حياتي من ورق؟" رأيته يقترب مني وتلك السيجارة تصرخ مستنجدة من تسلطه، لن أتوقف سأقول ما أريده. نفخ الدخان في وجهي لتنتشر تلك السحابة ولكنها لم تمنع نظراتنا من التواصل. أكملت بشجاعة أكبر وتقصدت أن أستفزه :" إن كان كل الرجال في حياتي من ورق فأنت من ضمنهم، أحببتُ منهم وقاتلت ما تبقى، كل هذا في خيالي مثل دون كيشوت. أُسقطت في وهم إني أستطيع أن أنتصر لكن ليس هنالك نصر على ورق، وحتى قلبي بات من ورق ولا تنسى إن الورق أبيض نخط عليه مشاعرنا ونفرح بلون الحبر يتشرب بها ويعشقها و بعد فترة يبهت الحبر بعد أن يستغله الورق حتى يشبع جوعه فتتشوه الحروف وتختفي معالمها وحتى هذا لا يوقف الورق عند حده، يبدأ بالاصفرار ويتغذى على نفسه فتتآكل أطرافه ويصبح منظره منفراً فنحتفظ به في مكان لأجل الذكرى. يطول الزمن فيصبح عبئاً علينا أن نحفظه بكل مكان، رأفة منا نمزقه وحتى لا نعود لإلصاق أجزائه مرة أخرى نحرقه فيصبح رماداً أسودا بعد أن كان أبيضا، لن أعيش مرة أخرى على الأطلال، لأن الشمس لن تغرب من أجلي "
نعم هو على وشك الانفجار، وأنا لن أعتذر أكثر، قلت له وأنا أوليه ظهري لأغادر :" نصيبكَ في حياتكَ من حبيبٍ، نصيبك في منامك من خيال " وأنا نصيبي الآن وجهه الذي يتوشح بوجه قاتل وهو يديرني باتجاهه ويصرخ بنفاد صبر :" ما الذي تريدينه الآن؟ تتشدقين بكلماتكِ وترحلين؟ ألا يكفيكِ ما مضى؟ هل تظنين إن الأمر بهذه السهولة؟ كفي عن هذا التلاعب وقولي لماذا جئتِ؟ لماذا تصعبين الأمور؟ هل تريدين أن تفرحي لرؤيتي هكذا كي ترضي غروركِ؟ أجيبيني الآن، أي جنون جاء بكِ؟" خائفة منه وكل الشجاعة تسربت بعيداً عني ولم أعد قادرة على التماسك أكثر وأصابعه تنغرز في ذارعي.
صرخت بوجهه وما بداخلي يتفجر :" الحب هو ما جعلني آتي إليك، فأنا أحبك أكثر مما تتخيل كالداء الذي لا يرضى أن يفارقني ولا أريد الشفاء منه، يجري مع مجرى دمي ويحتل كل نفس من أنفاسي. أريد حبكَ وخفتُ منك ومن نفسي لكن أظن إن الوقت قد فات ولم يعد ينفع شيء، صحوت متأخرة جداً لكني لم أشأ أن أهرب لآخر مرة "
يقف كالتمثال بوجه جامد بلا تعابير، لملمت باقي شتات الروح ولم أنظر خلفي وأنا أتجه للسلم أخفي دمعاً لم يلامس وجنتي منذ أسبوع، منذ آخر دمعة قبل أن أسمع صوت الرصاصة .
أوقفني صوته وهو يزمجر عالياً :" كل شيء لديكِ سهل تقولين ما تريدين وتمضين و لا تبالين بأي شيء تذرينه خلفكِ " صوته أخرج أحد الجيران الغاضبين الذي تمتم بكلمات غاضبة وأغلق الباب بعنف.
أمسك بذراعي بقوة يمنعني عن الذهاب فدفعته ولكن الأمر ارتد عليَّ و انزلقت قدمي على أول درجة، أغمضتُ عينيّ حتى لا أرى مصيري، يبدو أن كابوسي يتحقق وما بين ثانية وأخرى وجدته يمسكني بقوة من ذراعي التي لم يفلتها وهو يضمني إلى صدره بقوة. وجدت نفسي داخل الشقة مرة أخرى وهو يجلس إلى جانبي على الأريكة و كأس الماء الذي تتراقص طبقاته على أثر رعشة يدي، لكني لم أكن أمسك به بل كان بيد علي .
من دون مقدمات لم أستطع أن أكتم أكثر والاختناق يفجر دموعي، فلم أكبحها وتركتها تأخذ راحتها. سمعته يهمس وهو يزرعني بصدره :" سأموت إن حصل لكِ شيء ". صرخت به دون وعي :" لا تقل هذه الكلمة إن لم تعرف معناها، أنتَ تموت ولا تفكر بمن تتركهم، لين كانت ممددة هناك والدماء تغطيها، أنكرتُ الواقع وهربت إلى ضحكاتها إلى تشبثها بأي لحظة جميلة. لم تكن تريد إلا أن تعيش لحظة سعادة وحب، صدى صوتها يتكرر في عقلي. أصبحت أرى كل مكان مرت به، كل شيء لمسته، ضحكتها التي لا تفارق شفتيها، عروس متألقة، لم أتذكر أي لحظة حزينة لها، كل شيء أريد رؤيته إلا أن تكون هنالك بأنفاسها المتلاشية. تلك اللحظة يختفي كل شيء يخصك لا تعرف من أنت بدون وجودهم. لا تكون إلا بهم ومعهم، غرق وخوف وإنكار من ذلك المصير يأخذكَ بعيداً، حتى الدموع تصبح عصية متعبة "
لم يتكلم تركني أفرغ ما بصدري وصوت شهقاتي وبكائي يريحني أكثر. ضربته على صدره وأنا ألومه :" وأنتَ تركتني لوحدي ولم تكلف نفسك حتى الاتصال أو الاطمئنان. أصبحتَ قاسياً كثيراً. كم أكرهك "!
عاد علي الهادئ بصوته الواثق :" لم أترككِ، بل وضعتكِ باختبار مع نفسكِ حتى تحددي ماذا تريدين؟ وتعرفي قيمة الجفاء والبعد. صحيح كنتُ قاسياً ولكن كان يجب أن أتحمل حتى تتخلصين من هروبكِ. أخبارك أعرفها أولاً بأول ممن يحيطون بكِ ولكن ليس من مازن. تقولين تكرهيني وقبلها قلتِ تحبيني. مجنونة حبيبتي وصدمتني بعاطفتكِ و اعترافك. لم أصدق أذناي "
وأخيراً شعرتُ براحة وعرفت مكاني من الحياة وبتبرم قلت له :" ليست مشكلتي إن حبيبي غبي ولم يفهم ولا مرة ما تنطق به عيني وصدق لساني. كيف كنت عاشقا لسنين ولا تفهم لغة العيون؟".
ضربني على ذراعي بخفة وهو يضحك :" لا تقولي على زوجكِ غبي. كيف أتوقع معكِ شيء وأنتِ كالبحر الهائج؟ "
شعرت باهتزاز هاتفي في جيبي فعرفت أنه مازن. أخذه علي من يدي وطلب أن يرد عليه لكنه ذهب إلى الشرفة ولم يتكلم أمامي، فأسندتُ رأسي على ظهر الأريكة أريحه قليلاً. لم أصدق نفسي إني تجرأت وقلت له كل ذلك. ما حدث للين جعلني أرى كل شيء دمرت حياتي لأجله لا يستحق مقابل أن نفقد من نحب .
عاد من الشرفة و صوت سعاله العالي يسبقه. يبدو أنه متعب كثيراً، أعاد لي هاتفي وهو يقول :" شقيقكِ مجنون أراد أن يقتلني عندما أجبته، يبدو إني سآخذكِ و أهرب بعيداً عنه. "
" قبل أن تهرب يجب عليك أن ترتاح قليلاً، نم قليلاً حتى نذهب لمشوار قصير "
فعلاً كان يجاهد النوم وعينيه متعبتين :" هذا يعني أنك ستبقين "!
نظرت حولي وقلت له :" سأرتب هذه الفوضى قليلاً و أعد لك فطورا. لديكَ ساعة واحدة استغلها لأن العد العكسي بدأ ". قبل جبيني وذهب لغرفته وأنا شرعت بترتيب المكان الذي ضربه الإعصار .
بعد ساعة متعبة أكملت ما بدأت به وذهبت لإيقاظه. صحيح من قال إن الرجال أطفال، ملامحه وهو نائم يشبه طفل يغرق في حنان والدته. لمست وجهه وأنا أنادي عليه بصوت منخفض، ففتح عينيه والابتسامة لم تفارق شفتيه وهو يقول :" لسنين تمنيت أن يطالعني وجهكِ عندما أستيقظ، واليوم تحققت أمنيتي "
" ستتحقق الأماني واحدة تلو الأخرى ولكن أولاً احلق ذقنك حتى لا يظنوك إرهابيا وتناول فطورك لأن الصباح لن ينتظرنا أكثر ".
بعد قليل انضم لي في المطبخ وشعره مازال مبتلاً، يسند وجهه على كفه ويقول بحالمية :" متى يصبح كل ذلك حقيقة؟ تعدين لنا الطعام وأطفالنا يركضون هنا وهناك، أحب الرقم أحد عشر وهذا سيكون عدد أطفالي"
اتسعت عينايّ رعباً والرقم يضرب بعقلي :" إن كنت تريد فريق كرة قدم فابحث عنه بعيداً عني، ما ينقص سوى أن تقول وبعدها ننجب لاعبي الاحتياط "
ضحك باستمتاع، هؤلاء هم الرجال يريدون أطفالا ولا يفكرون بتعب المرأة في إنجابهم. أنهى فطوره و بدأ بتدخين تلك السيجارة وأنا أعصابي تحترق بسببها. كيف لا يفكر في صحته؟ سعاله مخيف وهو لا ينفك عن تلك اللعينة، انتظرت إلى أن قاربت على الانتهاء و أراد أن يطفئها بالمنفضة، بسرعة وضعت يدي فوقها فلامستها السيجارة المشتعلة. حرارتها تحرق ولكن إن لم أكن مجنونة لن يتركها، صرخ برعب :" ما الذي فعلته؟ أين كان عقلكِ؟" ذهب بسرعة و جلب مرهم للحروق وشرع بوضعه على يدي قلت له :" هذا أقل شيء تفعله عندما تدخنها، تؤذيني أكثر من حرقها لأنك تؤذي نفسك قبلها. إن دخنت مرة أخرى فالأفضل أن تطفئها بوجهي ".
لملمت الأطباق وأخذتها للمجلى لكنه جاء وأبعدني بحجة حرق يدي فقلت له :" الحرق بيدي اليسرى وهو صغير لا داعي لكل هذه الجلبة. إن كنت تهتم حقاً فلا تدخن مرة أخرى "
ليس مجدداً و في المطبخ أيضاً ما ينقصنا سوى ورق العنب حتى نكون مثل أولئك في قصص لين، وجدته يلامس بشرة رقبتي بشفته، كتمت شهقتي وحاولت الابتعاد لكنه لم يسمح لي و أردف بمكر :" سأقول لكِ حسناً لكن سأكون بحاجة لما يشغلني عنها ويفضل أن تكون دمية ترتدي بنطلون لا أعرف كيف ارتدته من شدة ضيقه وبلوزة تلتصق بغصن الياسمين.. لماذا جئتِ بهذه الملابس؟ ألا تخافين أن يفترسكِ الذئب؟" دفعته على صدره لأن نيته واضحة كشمس الظهيرة، رددتُ عليه بغضب :" لا تظن إني كنت أقصد شيئاً بارتدائي تلك الملابس، هذه أول شيء وصلت لها يدي. وكنت أرتدي المعطف فوقها " تمتمت بصوت منخفض :" أدب سز " .
سأضربه بالمقلاة على رأسه إن لم يبتعد، أو ربما أقطع يده التي تتجول كيفما تريد على خصري بهذه السكين القريبة، من بين أسناني قلت له :" أبعد يدك !". لكن يبدو أن مزاجه فوق السحاب وهو يجيب :" ما بها فوزية اليوم لا تريد لأحد أن يمسكها؟". فوزية! من فوزية؟ تذكرت أخت سوسو و نادية، فقلت له :" فليسأل حنفي نفسه ما الذي يفعله؟". ضحك بتسلية وهو يديرني باتجاهه ويسند جبينه على جبيني ويغمض عينيه ويردف:" أين كنتِ تختبئين كل تلك الفترة بعنفوانك وحيويتك وشجاعتكِ؟ أن تقرري حياتكِ وتمسكي الدفة، هكذا أردتك وليس أن تكوني لي إرضاء لأحد غير قلبكِ، لكن نظرة الحزن خفت ولم تنتهي ". أمسكت طرف الحوض بيدي حتى لا أتهاوى أرضاً وقلت له :" هذا حزننا يميزنا عن غيرنا، فلا تحاول أن تمحيها ".
لم يشغله كلامي عما يريده، والدتي قالت لي اسقيه لكن لا ترويه، حسناً قطرات و ليس كثيراً.. شعرت بشيء بارد يلامس يديّ.. التفت بذعر لأجد أن الحوض قد امتلأ ماءا لأن أحد الأكواب أغلق منفذ خروج الماء. قهقهت ضحكاً على ردة فعله وهو يرغي ويزبد بأنه سيسكن الصحراء حتى لا يقاطعه هاتف أو مازن أو ماء .
متشابكي الأيدي هدفنا محل للزهور لأن اليوم ستكون زيارة لين. يبدو أن النون ستكون هذه المرة عند فلسطين الصغيرة، الحمد لله على أن إصابتها كانت بالكتف وليس بمكان آخر .
احترت أيها آخذ و علي يردد قواعد زيارة المريض بشأن الزهور البيضاء، صحيح إن لين قلبها بنقاء اللون الأبيض ولكنها أيضاً تحب الحياة بمختلف أوجهها. قلت له :" هذه القواعد لا أحبها ولا تنطبق على لين سأختار لها ألوانا تشع بالحياة ".. بدأت باختيار ألوان مختلفة ووضعتها في سلة لأني تذكرت إنها مرة اشترت السلة من بائعة الزهور بكل ما فيها. أريد أن أنقل لها ما تحبه، أعطيتهم اسم المستشفى ورقم الغرفة وأخبرتهم أن يرسلوها الساعة الرابعة والنصف وكتبت لها على بطاقة صغيرة (كوني زهرة نظرة مفعمة بالحياة ليكون ما حولكِ ربيع دائم. الحمد لله على السلامة يا أم العيون الخضراء، مينة(
وجدتُ علي يقف عند أزهار النرجس التي أعشقها فقلت له :" هي عشقي، يُشَبهون بعض الناس بالنرجسيين ولكنهم لا يفهمون إنها تعيش وحيدة لأنها رقيقة جداً ولا تحمل أشواكا لتدافع عن نفسها "
تمشينا قليلاً و وقفنا على نهر التايمز، فتنهد علي بحزن :" ليس مثل الرافدين، تعشق ضفافه أشجار الصفاف وتتوق لعناقه، لا يضاهي منظرهما شيء عند الغروب "
قلت له :" يشبهانا كثيراً، ينبعان متباعدين و يبدآن بالاقتراب حتى يوشكان على التلاقي عند بغداد ولكن شيء يحدث و يجبرهما على الابتعاد، لكن الشوق يعود يجذبهما من جديد فتبدأ رحلة الاقتراب حتى يندمجان قبل أن يغادرا أرض العراق ليرسما لحظة عشق "
عاد ينظر للأفق بعيداً :" ومتى سيكون لقائنا؟". تشبثت بيده أكثر وأنا أجيبه :" إن الصيف لناظره قريب. هناك سيكون لقائنا على أرض السواد "
وضع يديه على كتفي وعينيه حملت حزنا كبيرا :" لا أظن إنه سيكون هناك لأني لا أستطيع العودة قريباً، لا داعي لتسألي سأجيبك، آخر مرة ذهبت بها تم تهديدي بالقتل بعد اختطافي ليومين، كل ذنبي إني نقلت أحد ضحايا الجماعات المسلحة للمستشفى بعد أن ظنوا أنهم قتلوه ". سمعته يردد
للوطن نطينا ظهرنا و قفينا
شيعة لو سنة ليا وقف بينا
أرجاك يا زمن لتدور واقف بينا
عراقي وترابه حسرة عليه
قلت له :" مكاني هو مكانك و بيتي هو حضنك إن كان هنا أو في وطننا، سأبقى معك في أي مكان تريده "
وبعد ذلك قال: " و مما تشكو ليالي آذار ونيسان حتى تنتظري للصيف و لتموز تحديداً؟ " لم أجبه لأني لم أقرر بعد
.. مرت بجانبنا فتاة يبدو أن البرد لا يؤثر بها بملابسها تلك، وكزت علي بقوة في ذراعه حتى لا ينظر لها، وضع يده حول كتفي وهمس بأذني :" لو كان لديكِ وقت و خُيرتي بين قراءة كتاب و مشاهدة فيلم فماذا تختارين؟". أجبته بسرعة :" طبعاً الكتاب لأنه يعطيني مساحة واسعة من الخيال أذهب به إلى أي مكان أشاء، أما الفيلم فلن تكلف نفسك عناء التفكير لأن كل شيء ظاهر ".. أجابني :" بالضبط فأنتِ كالكتاب أتخيل كيفما أشاء لأنكِ لا تظهرين كل شيء وأمثالها مثل الفيلم لا داعي لتشغيل العقل معها " .أدركت فحوى كلامه و وقعت بفخه من جديد.
عدنا بعد أن اشترينا علبة شوكولا جميلة للين بطريقنا مررنا بمحلات لبيع فساتين الأعراس وقفت أتأملها وذلك اللون الأبيض الناصع لا تشوبه شائبة فحثني علي على المسير وهو يخبرني أن الوقت مازال مبكراً.. قلت له :" ليس مبكراً بالنسبة لي و مثل ما قلت مما تشكو ليالي آذار ونيسان؟ " رأيت الفرحة بعيونه وأنا أؤكد له إنه لم يعد هنالك داعي للتأجيل. أوصلني بسيارة أجرة و هم بأن يذهب ولكني لم أتركه و أنا أدعوه للغداء .
بالكاد يكفي الوقت حتى أطبخ الدولمة التي حضرتها مسبقاً أمس، كانت الساعة تقارب الثانية عشر ونصف، وضعت القدر على النار بعد أن أخرجته من الثلاجة، مازن و علي كانا يشاهدان التلفاز ولكنهما ليسا معا و صامتان.. أنهيت الغداء وسكبته وناديت عليهما، مازن لم يكن مسروراً بما طبخت فقال على مضض :" ألا يمكن أن تتحول إلى بامية؟". اقتربت منه وقلت له بغضب :" ما بالكم أنتم والبامية لو تذهبون لأقصى الأرض لن تنسوها، أنا متأكدة أن عقولكم أصبحت مادة خضراء لزجة ". سمعت ضحكة علي، لا أحب صمتهما هذا، فقلت لهما :" إلى متى ستبقيان هكذا؟ المشكلة كانت بسببي و قمت بحلها، سنين صداقتكما تروح هباءا هكذا؟ لا تجعلاني أترككما أنتما الاثنان ومتى تفهمان إني لستُ لعبة يحق لأحدكما امتلاكها والثاني لا، لكل منكما مكان خاص بقلبي لا يتجاوزه الآخر، لأن مشاعري باتجاه كل منكما مختلفة و لا تصح للآخر " .
يبدو أنهما يسمعان الكلام جيداً، يعجبني دور المتسلطة. عقليهما سميكان لن يفهما إلا بفرض الأمور. أنهينا غدائنا بعد أن تحركت الأمور قليلاً، وطبعنا الذي لا نتخلى عنه الشاي مباشرة بعد الغداء .
كل مرة أنظر لعلي أشعر بالقلق لأن صحته ليست على ما يرام و سعاله زاد كثيراً، يخرج إلى الشرفة حتى يستطيع التنفس، همست بأذنه :" كل هذا بسبب الليالي التي قضيتها تحت البناية تدور مثل المجنون. رأيتك أكثر من مرة وأنا متأكدة إنك رأيتني أيضاً ".. لم يجبني فقط أشاح بوجهه. يبدو أن لديهما الكثير ليتحدثا عنه فانسحبت لغرفتي ولكن قبلها أخبرت مازن أن يذهب الآن مع علي للطبيب لأن حرارته مرتفعة وهو سيرفض إن قلت له، بقيت أنتظر وبعد نصف ساعة أخبرني أنه أقنعه وسيعودان قبل أن نذهب لزيارة لين .
اليوم أشعر بأن الحياة تغيرت وتنتظرني ولم ينغصها إلا مشكلة علي، كُتِب علينا أن نبقى غرباء الوطن. فتحت خزانتي لأجد الألوان التي تجلب الكآبة فأشحت نظري عنها، و وقع بصري على لون أزرق جميل، تذكرت الفستان البسيط المحتشم الذي اشتريته و نويت أن أخرج به لكني ترددت والآن جاء وقته. ليس هنالك أفضل من هذا اليوم للتغيير .
بقيت أنتظر بقلق عودتهما بعد أن غيرت ملابسي والساعة الآن الرابعة والنصف، وأنا أتحرك من مكان لآخر من دون هدف.. صوت المفتاح بالباب أراحني قليلاً لكن وجهيهما لم يسكن قلقي، و حاولا إخفاء ذلك فتوجهت لهما بسرعة أسألهما :" ما الذي قاله الطبيب؟". اختلفت إجابتهما فلم أميز ماذا يقولان إلى أن صرخت بهما فأجابني مازن :" يحاول أن ينكر حتى لا يثير قلقكِ، لأن زوجكِ العزيز مصاب بالتهاب رئوي بسبب التدخين المستمر إضافة إلى إصابته بأنفلونزا قوية قبل أيام والنتيجة أمامكِ ". يا الهي التهاب؟، كدت أقتله! يتناقشان بغضب لأن أحدهما قال الحقيقة والثاني ينكرها. توجهت لعلي و أمسكته من ياقة قميصه وقلت له :" كف عن الانتحار وقتلي قبلها " .
ومثل ما يقول المثل (الناس بالناس و الأقرع يمشط بالرأس).سمعت مازن يصفر وهو يقول :" البحر هائج اليوم بشكل جميل جداً ". يعرف كيف يمتص غضبي. أمسكت بيديهما معاً وقلت بحنان :" جمالي وسعادتي بوجودكما معي. أنا لا شيء من دونكما، لا أتخيل أن يأتي يوم دون أن أشعر بكما حولي، كل مرة أنام مطمئنة لأني متأكدة أن هنالك من يحميني ويسندني ولن يتركني لغدر الزمن ". الآن عرفت ما هي دموع الفرح و مهما فعل الإنسان لن يستطيع أن يعيش لوحده بلا حضن يأويه وشخص يحميه و وطن يواريه.
ارتديت حجابي وتوجهت لفتح الباب والحقيقة إنه باب من حياة جديدة بانتظاري مع بداية غروب شمس اليوم..
النهاية ليست بإسدال ستارٍ أو بعض حروف تنهي حدثاً معينا، لكنها واقعاً بداية جديدة لحكاية أخرى فيها الحزن والفرح، فيها الكره والحب فيها الجفاء والحنان، وأخيراً الليل والنهار .


*************



ديمة مصطفى

:- كم مرة حذرتك من لمس أغراضي؟ اذهب و العب بعيداً!
دوى صوت أشياء تسقط بضجيج عالي. تلاه صراخ بسمة الحانق بعماد :- سأقتلك. سأقتلك أيها المشاكس. ماماااااااااااا
كنت أستمع إلى شجار بسمة وعماد من غرفتي نصف واعية وقد بدت أصواتهما الصاخبة كخلفية باهتة وكأنني قد انفصلت عن البعد الذي احتواهما و انعزلت في بعدي الخاص شاردة بأفكاري وجالسة على حافة سريري العريض، أمسك بصورة مؤطره وقعت بين يدي بينما كنت أفرغ خزانتي من أهم أغراضي.
كانت لحظة مصيرية تلك التي جعلتني أتجاوز حاجز الذاكرة و قد بنيته حولي و تمسكت به لأسبوع كامل.. وكأن أي تجاوز له كفيل بإضعاف إرادتي و إعادتي إلى حيث كنت قبل أن تبدأ النهاية، قبل سبعة أيام بالضبط عندما اكتشفت فجأة معنى أن تتزلزل قناعاتي حتى العمق، عندما أدركت أن البراءة ليست حصينة ضد القسوة، أن لا قوة للطهر على منازلة القذارة، أن الخير ليس أهلاً للشر أبداً.
أغمضت عيني محاولة ألا أستعيد مشهد الدم المتناثر على جدران شقة مونيا التي لطالما أعجبتني. الضجيج، الصراخ ثم مرأى لين الصغيرة مغطاة بالدم. أذكر إحساسي جيداً في تلك اللحظة، فلطالما كنت ضعيفة أمام منظر الدم، أمام لونه القاني و رائحته الصدأة، يخجلني الاعتراف بهذا و أنا أم لطفلين نشيطين يجرحان كثيراً. في تلك اللحظة تجمدت أحاسيسي و أنا أنظر إلى الدم فزعة، منزوية في الركن عاجزة عن قول أي شيء و فعل أي شيء بعكس إياد العملي الذي لم يكتف بالوقوف مذهولاً مثلي. من الرائع أن تحظى المرأة برجل تستطيع الاعتماد عليه في الأزمات إلا أن ذلك الرجل الذي تولى الموقف بشكل رائع و هو يرمقني بنظرات لا معنى لها بطرف عينه لم يعد لي. ذلك الرجل الذي بدا مسيطراً فعالاً لم يبذل جهداً و لو ضئيلاً في إنجاح زواجنا خلال السنوات الثمان السابقة. هل يعرف أحد جيراننا الذين لم يكفوا عن تداول بطولاته منذ ذلك اليوم المشؤوم أي إنسان سلبي متباعد هو داخل بيته الخاص؟
حسناً، تلك الليلة وعندما عدنا إلى شقتنا بعد ابتعاد سيارة الإسعاف بصوتها المدوي مكسوين تماماً بالذهول والإرهاق، ممتنين لغياب الأطفال لم يكن سلبياً تماماً.
نظرت مجدداً إلى الصورة التي نسيت أمرها لسنوات. صورتي بعد يومين من إنجابي لعماد عندما فاجأني إياد بالتقاطه لها دون أن أشعر قبل ساعات من مغادرتي المشفى، أذكر غضبي الشديد لفعلته هذه و قد كان التقاط الصور لي قبل خسارتي للوزن الذي اكتسبته أثناء الحمل يعد عملاً غير مغتفر في قانوني الشخصي و إياد الضاحك وقتها السعيد جداً بإنجابه الصبي كان يعرف هذا. بعد أيام من عودتي إلى بيتي عاد إياد من عمله حاملاً الصورة محاطة بإطار فضي ثمين حفرت عليه نقوش جميلة لملائكة مجنحة بتعابير حالمة مثبتاً لي بأنني لم أبدُ يوماً أكثر جمالاً في تلك الصورة و قد كان محقاً، فالسعادة كانت زينتي، الحب و الأمل كانا سبباً في البريق الجميل في عيني و أنا أحمل عماد الرضيع. لقد أقنعني إياد بفكرته إلا أن هذا لم يمنعني من إخفاء الصورة عن الأنظار بين ملابسي و رغبة شريرة داخلي بألا تظهر إلى الأبد إلا أنها قد ظهرت و اليوم بالذات و أنا أجمع حاجياتي لأغادر هذا المكان إلى الأبد.. بالأصح إلى أجل غير مسمى.
لقد رفض إياد تماماً فكرة الطلاق و قد جاء إعلانه المفاجئ هذا بعد قضائنا ساعات في جلوس صامت في غرفة الجلوس، يحدق كل منا في زاوية بعيدة عن الآخر، عاجزاً عن الكلام..
تكلم فجأة وقد كان صوته بعيداً، وكأنه يتكلم من عالمه الخاص :- لن يكون هناك طلاق.
لم أرد.. ظللت أنظر إليه، إلى وجهه الشاحب و ذقنه النامية، إلى قميصه الذي كان ناصع البياض قبل أن تلطخه دماء لين، كان من المفترض به أن يذهب إلى المشفى بصفته أحد أكثر الأشخاص المتواجدين في مكان الحادث تماسكاً. لقد طلب منه الأستاذ نبيه المضطرب هذا فعلياً إلا أنه رفض. قال بخشونة :- لن أترك عائلتي في ظرف كهذا، الفاعل ما يزال طليقاً.
استغربت وقتاً لأدرك بأنه كان يعنيني أنا بعائلته في ظل غياب الأطفال، لقد كان دوي هذه الكلمة مخيفاً علي. أهي ظلال التراجع؟
عندما لم أمنحه رداً قال بحزم :- ما بيننا مشكلة قابلة للحل، لن أسمح لها بالتفرقة بيننا، بإهدار ثمان سنوات من عمرنا.
نظرت إليه بجمود و قلت :- من المؤسف أن حرصك على زواجنا لم يظهر قبل الآن.
شتم و هب واقفاً. كان مضطرباً للغاية و كأنه قد سمح للانهيار بفعل الأحداث الصعبة أن يمسه أخيراً. قال بغضب مكبوت :- لا علاقة للأمر بزواجنا. بل بك أنت، أنا لا أريد خسارتك.
بحق الله! ظهر الامتعاض على وجهي جلياً، فسارع يقول بصوت خشن :- عندما رأيت ما حدث اليوم، مشهد جارتنا مغطاة بالدماء، تخيلت زوجها و مشاعره في تلك اللحظة. أصابني الرعب، لا أريد أن أتخيل أن مكروهاً أصابك. أنني قد أضطر يوماً للمرور بموقف كهذا.
إذن هي ردة فعل على ما حدث لا أكثر! و كأن غضبي كان بحاجة لما يغذيه أكثر. نظر إلي قائلاً بثبات :- لا طلاق ديمة، لا طلاق!
وكان هذا أفضل ما تمكن من الحصول عليه مني.
وضعت الصورة داخل الصندوق الكرتوني الذي رتبت فيه بعض متعلقاتي الشخصية و نظرت حولي في أنحاء الغرفة مجددا وكأنني أشيع ذكرياتي فيها. لقد كان إياد واضحاً، فهو لن يطلقني إلا أنه ما كان قادراً على إبقائي معه، ليس وأنا على هذه الحالة من الغضب المتنامي يوماً بعد يوم. توصلنا في النهاية إلى حل وسط، لن يطلقني إلا أنني سأنتقل إلى مكان آخر مع الأطفال، شقة أخرى قريبة تمكن من إيجادها لي بواسطة بعض معارفه وقد رفض إعادتي إلى الوطن في ظل الاضطرابات السياسية هناك. كان هذا أيضاً أفضل ما حصلت عليه بدوري، فلم أكن مستعدة بعد للعودة محملة بعار الفشل، عاجزة عن مواجهة مجتمع أصيب أخيراً بعدوى الثورات الشعبية دون أن تمسه الثورات الاجتماعية.
أتاني صوت بسمة تتساءل :- هل أستطيع أخذ هذه الأغراض معي أمي؟
نظرت إلى ذراعيها الصغيرتين المحملتين بألعابها المفضلة. فأجبتها بابتسامة شاحبة :- طبعاً.
ركضت ترمي بألعابها داخل الصندوق المفتوح وسارعت تلحق بعماد بنية اختلاق شجار آخر معه. لقد نجحنا أنا وإياد في إبعاد الأطفال عما يحدث بيننا، مختلقين سبباً بدا مقنعاً لهما للانتقال المفاجئ، مازالت تبهرني براءة الأطفال الشبيهة تماماً ببراءة لين.... لين البريئة... لين الجريحة.
انتزعت نفسي من غيبوبة ألمي عندما دوى صوت جرس الباب، فأسرعت بسمة لتفتحه لوالدها الذي إعتاد قرع الجرس قبل دخوله في كل مرة منذ الأسبوع الماضي و كأنه يعترف بغربته التي استحقها بأفعاله. سمعته يحمل بسمة مداعباً إياها ثم سمعت صوت عماد يصرخ حماساً وهو يحتج مطالباً بحمله هو الآخر. كبت دموع الأسف والندم وتمالكت نفسي خارجة من غرفة النوم. وقفت عند الباب أراقبه وهو يتحدث إلى الطفلين اللذين اندفعا بحماس تحت تأثير كلماته ليختفيا داخل غرفتهما ثم اعتدل ناظراً إلي، قائلاً بهدوء :- مساء الخير.
لم أجبه.. وكأنني أحمي نفسي من لطفه وهدوئه وتفهمه الذي لا يطاق خلال الأيام الماضية. استدرك بهدوء :- أظنك قد أنهيت توضيب أغراضك.
أومأت برأسي متوترة، فقال :- كنت أتمنى ألا تتعبي نفسك بلا طائل.
قلت أخيراً بعصبية :- لن تنجح في تغيير رأيي يا إياد، لقد اتفقنا على انتقالي هذه الليلة.
نظر إلي ملياً مما أزعجني، بدا هادئاً أكثر مما ينبغي. كان يراقبني وكأنه يحاول قراءة أفكاري قبل أن يقول :- لن أحاول تغيير رأيك، لقد وعدتك بإيصالك بنفسي إلى شقتك الجديدة. سبب قولي أن جهودك غير ضرورية هو أنك سرعان ما ستوضبينها مجدداً عند عودتك إلى هنا.
هتفت بسخط :- أنا لن أعود أبداً.
اقترب مني فجأة قائلاً :- هل تؤمنين حقاً بأنها النهاية؟
نظرت إليه متوترة، فأردف بابتسامة ماكرة ذكرتني بإياد القديم الذي تزوجته قبل سنوات طويلة عندما كان كل منا ما يزال غارقاً في اكتشاف الآخر، عندما كنت ببراءتي و صغر سني وبعنادي وطفولتي أشكل أجمل تحدي لإياد كما كان يخبرني.
عندما لم أجب، اقترب أكثر حتى أصبح واقفاً أمامي ينظر إلى عيني بتصميم قائلاً :- ما يحدث الآن مجرد بداية يا ديمة. لقد تهنا خلال السنوات السابقة وأضاع كل منا طريق الآخر إلا أنني قادر على إيجادك مجدداً. قد تفصل بيننا المسافات بإصرارك على مغادرة الشقة إلا أنك سترينني كثيراً خلال الأسابيع القادمة، كثيراً جداً، لأرى الأولاد بالطبع و لأراك، محاولاً كسب قلبك من جديد مع العلم أنني لم أتوقف لحظة عن حبك حتى عندما أوهمت نفسي برغبتي في غيرك.
عقد لساني و أنا أحدق به مذهولة وعاجزة عن الرد على تصريحه المفاجئ، في تلك اللحظة عادت بسمة و عماد وقد ارتدى كل منهما ملابسه بدون ترتيب، فقالت بسمة ببهجة وحماس :- سيأخذنا بابا في مشوار.
نظرت إليها ثم إليه دون أن أفهم شيئاً، فأنا لم أكن مستعدة للمغادرة بعد، ما يزال لدي أشياءا كثيرة أوضبها. مجوهراتي المخبئة.. صور عائلتي الغالية وهدايا إياد التي تناقصت مع مرور الزمن دون أن تنقص قيمتها لدي، لم يدرك إياد لحسن الحظ أن ذعري الظاهر كان نابعاً من كبر الخطوة التي أقوم بها.
قال مطمئناً :- سنعود لأخذ الأغراض لاحقاً، سنذهب الآن إلى المستشفى، أظنك متلهفة لرؤية جارتك و الاطمئنان على حالها، صحيح؟
صحيح إنما مربك أن أذهب برفقة إياد في زيارة لمريض كعائلة متماسكة.. يجعل كل جهودي و قراراتي تبدو سخيفة و طفولية. التقت نظراتنا وأدركت الأمر، إن إياد يخوض أول غزوات حربه الضروس ضد عنادي الشديد و لن أكون ديمة مصطفى إن لم أكن أهلاً لها.
تمتمت بهدوء و أنا أرفع رأسي بشمم :- دقائق وأكون جاهزة.


**********************



مونيا العلوي

"ولد أم فتاة؟"
سؤال كان وسيبقى بلا إجابة، لم يكن عمره سوى أسابيع، أسابيع قليلة لم أمنح فيها الفرصة حتى لأكتشف بأنني كنت حاملاً، نزلت دمعة يتيمة من عيني لكي تتدحرج بألمها على وجنتي التي أصبحت شاحبة كعادتي، فحتى بعد مرور أسبوع ما زلت أبدأ يومي ككل يوم أعطي لنفسي مدة ليست بقصيرة أدعي فيها بأنني مازلت نائمة لكي أبكي على ذلك الصغير الذي أهدروا دمه حتى قبل أن يرى النور. كنت شاردة في ألمي الذي كنت رافضة تماماً أن أشرك فيه أحداً عندما أحسست بحركات صغيرة في غرفتي لكي أشعر بعدها بثقل يضاف على ثقلي أنا إلى السرير ، ففتحت عيني بسرعة لكي أجد صغيري يعتلي السرير ببجامته الزرقاء المليئة بالرسومات الصغيرة. لم أنتبه لتلك الدمعة الحارة التي كانت ماتزال تشق طريقها على خدي إلا عندما تكلم أيمن والدهشة تبدو على ملامحه الجميلة:" مامي، أنت تبكين؟" أعقب كلامه بالفعل عندما مد سبابته الرقيقة إلى وجنتي و مسح تلك الدمعة لكي يردف قائلاً بنبرة ازدادت استغراباً:" لكنك كبيرة مامي والكبار لا يبكون."
(أنا مكشوفة لطفلي) فكرت بذلك قبل أن أمسك بسبابته التي مسحت دمعتي وأطبع عليها قبلة طويلة لكي أستقيم في جلستي أكثر و أقربه مني قائلة:" لا حبيبي، الكل يبكي سواء الكبار أو الصغار، الدموع نعمة من الله عز وجل حتى تترجم مشاعرنا" كنت أعرف بأن كلامي صعب على طفل في سنه أن يفهمه بكل حذافيره لكن أيمن فاجئني عندما سألني بعد لحظات: "إذاً أنت مازلت مريضة، لذلك تبكين؟"
"لا أيمن حبيبي." قلت ذلك وأنا أطبع قبلة أخرى على جبينه و أضمه إلي بحنان قبل أن أردف:" أنا بخير، لم أعد مريضة لقد شفيت والطبيبة أكدت لنا هذا."
"أيمن."
صوت رجولي صدح في الشقة بهدوء ولكن بحزم، فأبعدت عني طفلي أنظر إلى وجهه ذي التعابير الطفولية الحنونة، أقول له:" والدك يناديك."
أعاد ياسر مناداة أيمن مرة أخرى بهدوء وكأنه لا يريد إيقاظي ظناً منه بأنني ما زلت نائمة بينما أيمن قال باحتجاج وتعابير وجهه يحتلها الوجوم:" بابا لا يجيد صنع إفطار لذيذ لي مثلك."
زممت شفتي بعدم رضى و أنا أمسد شعره المائل للشقار قائلة:" أيمن، والدك ترك عمله من أجلنا، لا يجب أن تتدلل عليه كثيراً، وأنت تتعبه بكثرة طلباتك."
"غير صحيح." بشفتين متبرمتين قال ذلك، فمددت يدي إليه أحاول دغدغته حتى يختفي ذلك العبوس الذي ارتسم على شفتيه والذي كرهته بشدة كما أكره دوماً أن يحتل العبوس والحزن وجوه عائلتي الحبيبة. تعالت ضحكاته الرنانة عالياً وهو يصيح طالباً مني أن أتوقف عن دغدغته، فتوقفت فجأة ليس لأنه كان يطلب ذلك لكن لأن صوت ياسر تخلل ببرود ضحكاتنا معاً في الغرفة وهو يقول لدى وقوفه عند الباب:" إذاً أنت مستيقظة."
نظرت إليه بترقب وقد توقف أيمن أيضاً عن الضحك وكأنه شعر بالأجواء المتوترة بين والديه، فتكلمت باختصار قائلة: "كما ترى."
تجاهل كلماتي تلك لكي يأمر أيمن الذي كان ما يزال بين ذراعي:" تعال أيمن، لقد أعددت لك إفطاراً سيعجبك هذه المرة."
نظر إلي أيمن بتوسل حتى أنقذه من إفطار والده الذي لم يكن يدخل المطبخ من قبل، ليس لأنه لم يكن يحب مساعدتي بل لضيق وقته الشديد لكن هذه المرة فاجئني عندما ترك أعماله التي يجري ورائها مثل المجنون وجلس في البيت يهتم بي و بأيمن الذي لم يعد يرسله إلى الحضانة بعد ما حصل ولم يكتفِ بهذا فقط بل أمر بحراسة مشددة على العمارة كلها وليس فقط شقتنا. نهض أيمن من على السرير بعد أن رمقته بنظرات أطالبه فيها بحزم ولطف بأن يذهب إلى والده، فأمسك ذلك الأخير بيده الصغيرة ومشى به خارجاً من غرفة نومنا وقبل أن يختفيا عن عيناي سمعته يقول ببرود من دون أن يستدير إلي:" أنت أيضاً تعالي لكي تتناولين إفطارك."
نهضت من مكاني بهدوء لكي أتوجه إلى الحمام وأنا أشعر بأن التعب لم يغادر جسدي بعد، مازلت أشعر بأن جسمي منهك من الإجهاض الذي آلم روحي قبل أن يؤلم بجسدي. ازدرت ريقي بصعوبة وفكرة الإجهاض تجعلني أتذكر الألم بكل حذافيره، لذلك اغتسلت بسرعة و أنا أحاول ألا أدع ما حصل يؤثر علي سلباً أو يهزمني و يحط من قوتي بل ما حصل عليه أن يقويني أكثر. سيدفع الثمن من ظن بأن هدر دم طفلي وهدر دم لين رخيص عندي، لن أرتاح حتى يدفع الثمن أضعافاً من كان السبب في ما حصل. قلت ذلك و أنا أكز على أسناني بقوة و أنظر إلى المرآة أمامي حيث انعكس عليها وجهي المبلل بقطرات المياه الباردة قبل أن أمسك المنشفة بيدي و أمسح وجهي بسرعة لكي أخرج من الحمام بعدها واضعة يدي في جيبي شورتي القطني و أنا أنظر إلى ياسر الذي كان يحاول أن يقنع أيمن بأن يكمل تناول فطيرته التي لم يقضم منها الكثير.
" أنا لا أحب الفطائر بالعسل، أمي تضع لي فيها السكر البني وليس هذا الشيء."
زفرت الهواء بضيق عندما صاح ياسر وقد نفد صبره تماما :" لا أعرف أين تضع والدتك السكر البني. أيمن تناول ما وضعته أمامك ودعني بسلام."
أخرجت يدي من جيبي و تقدمت منهما حيث كان أيمن يجلس على واحد من تلك الكراسي الطويلة الحمراء و والده يقف أمامه يحثه على تناول إفطاره بعصبية غير معتادة منه. عصبية جعلت الدموع تلتمع في عيني أيمن.
بسرعة وقفت أمامهما بحماس مصطنع و أنا أخطف قبلة من خد أيمن لكي أنظر إلى ياسر الذي لم يفارق الوجوم ملامحه بل أن تعابيره ازدادت وجوماً لحركتي تلك لكنني لم أهتم للبرود الذي كان يعاملني به منذ الكارثة التي حصلت بشقتي، الكارثة التي بدل أن تهز كياني هزت كيان زوجي والآن بعد أن تجاوز صدمته احتله الغضب العارم، غضب يكتمه لأيام لأن حبه الكبير لي جعله يسيطر عليه من أجل صحتي ولكنني أشعر بأنه سينفجر بغضبه ذاك قريباً، قريباً جداً وهذا ما يخيفني. أبعدت صحن أيمن من أمامه لكي أعد له فطيرة أخرى بالسكر البني كما يحب دوماً بينما ياسر لم يعلق بشيء و ابتعد عنا. استدرت لكي أجلب السكر البني من أحد أدراج المطبخ، فتفاجأت بأن ياسر كان قادم في طريقي بفنجان القهوة الساخنة التي أعدها لنفسه. صحت بألم عندما تطايرت بضع قطرات من القهوة الساخنة و حطت على صدري و رقبتي، فوضع ياسر فنجانه بسرعة على الطاولة وهو يعتذر:" آسف، آسف تفاجأت بك أمامي."
"لا بأس." قلتها أطمأنه و أطمأن أيمن الذي ناداني بقوة عندما هلع لصرختي وحثثته على البقاء جالساً في مكانه قبل أن يحاول النزول من ذلك الكرسي العالي، فيسقط على الأرض و يؤذي نفسه، التفت بسرعة إلى ياسر الذي كان قد أمسك بمنشفة وبللها بالمياه الباردة لكي يمررها على بشرتي برقة جعلتني أرفع رأسي إليه فأجده يحاول أن يكتم أنفاسه بصعوبة قبل أن يتمتم قائلاً وهو يرفع عينيه إلي لكي تتلاقى نظراتنا:" لو كنت تشعرين بالألم على بشرتك يمكننا الذهاب عند الطبيب."
بصوت شعرت به يهتز رغماً عني وقد اضطربت أنفاسي لاقترابه مني بشكل اشتقت إليه كثيراً؛ أسبوع وهو يتجاهلني؛ صحيح بأنه لم يتخلى عني لكنه أبداً لم يقترب من قلبي، من مشاعري ومن أفكاري كما كان يفعل دوماً ليعرف كيف كانت نفسيتي و مازالت، لو يعرف بأن جفائه هذا يدفعني لكي أخفي حقيقة آلامي وجروحي عنه أكثر..
"إنها فقط حروق سطحية."
لم نستطع أن نشيح بأعيننا عن بعضنا البعض كان هناك صراع في عينيه شوق لي و ألم لأنه فقد طفله وكاد يفقد زوجته وفي نظراتي كان هناك أيضاً ألم كبير لنفس السبب لأنني فقدت طفلي حتى قبل أن أراه وكدت أن أفقد صديقة وأختاً عزيزة علي. ما حصل لم يكن سهلاً أبداً علي، لقد كانت صدمتي كبيرة فحتى عندما أخبروني في المشفى بأنهم لم يستطيعوا إنقاذ الجنين لم أبكي ولم أصرخ ولم أقم بأي ردة فعل غير الصمت والإيماءة برأسي مما صدم ذلك ياسر بقوة. أغمضت عيني عندما لامست أنامله برقة خدي و هو يسألني:" كنت تبكين؟"
"أجل بابا لقد كانت تبكي، لقد أخبرتك بذلك قبل قليل."
شهقت بقوة لهتاف أيمن مجيباً عني وقد فاجأني صوته بشدة كما فاجأ ياسر حقيقة، فقد نسينا أمر أيمن الذي كان يراقب جميع حركاتنا، ابتعد ياسر عني بسرعة وكأن صوت طفله أيقظه من استسلامه لمشاعره و عاد إلى بروده ذاك وهو يحمل فنجان قهوته ويجلس بجانب أيمن يرتشف منها بهدوء مستفز. نظرت إلى أيمن بعدم تصديق وهو الآخر فهم معنى نظراتي لكي يجعل بعدها الابتسامة تعتلي وجهي رغماً عني عندما تظاهر بأنه منشغل بشرب العصير الذي كان في كأسه خوفاً من غضبي لأنه قام بإخبار والده أثناء غيابي عنه أنه وجدني أبكي في غرفة النوم.
أعددت الفطائر التي نتشارك التلذذ بها أنا وأيمن لكي أجلس قبالتهما وأتناول فطوري معهم. أنا و أيمن لم نكف عن الثرثرة المضحكة مع بعض بينما ياسر لم يشاركنا بحديثنا ولو حتى بكلمة واحدة وقد ظل على حركاته الرتيبة الصامتة في تناول إفطاره البسيط و ارتشاف قهوته، وعندما انشغل أيمن بمضغ ما كان قد دسه في فمه بطريقة مضحكة، قلت بصوت هادئ و أنا أحرك محتوى كأسي :"سأخرج اليوم."
أجفلت عندما وضع فنجانه بحدة واضحة أمامه حتى أصدر صوتاً عنيفاً جعل أيمن يتوقف عن مضغ فطيرته بينما يهدر بصوت كفحيح الثعبان:" إلى أين ستخرجين؟ هل علي أن أذكرك بأنك قد خرجت فقط منذ ثلاثة أيام من المستشفى؟ هل تريدين قتل نفسك؟"
بهدوء يعاكس تماماً عصبيته تلك، قلت له:" لا أريد قتل نفسي ياسر، أنا بخير كما ترى ولن يضر في ذلك شيء إن ذهبت لزيارة لين، أريد الاطمئنان عليها."
ابتسامة استهزاء اعتلت فمه وهو يجيبني:" صديقتك التي كانت ستموت بسببك، من الأفضل بأن تبقي في منزلك قبل أن يطردك زوجها من عندها."
كم أغضبتني كلماته و استفزت حفيظتي للغاية لذلك التفت إلى أيمن و ابتسامة مصطنعة على فمي أحاول إقناعه بها بأن يذهب إلى غرفته قائلة:" أيمن حبيبي، لمَ لا تذهب لغرفتك وتختار الثياب التي تعجبك بنفسك حتى ترتديها لأنك سترافقني لزيارة لين، ألم تشتق إليها؟"
" إذاً أنت مصرة على زيارتها؟"
لم أهتم لسؤال ياسر الذي ظهر في نبرته غيظه للكلام الذي وجهته لأيمن وتجاهلته و أنا أستمع لأيمن الذي هتف بحماس كبير:" أجل أريد.. أريد زيارة لين وسآخذ لها رسماً قمت برسمه بنفسي في القسم."
"حسناً إذن! هيا اذهب لغرفتك بسرعة و اختر ثياباً جميلة لنفسك حتى آتي إليك وأساعدك على ارتدائها." أطرق برأسه بالموافقة والحماسة جعلت عيناه تشتعلان بلمعان طفولي مشاغب وراقبت ياسر بهدوء وهو يساعد أيمن على النزول من كرسيه لكي ننتظر اختفائه عنا في غرفته. نظرت بعدها إلى ياسر ثم استطعت أن أجيبه بنبرة لاذعة قوية عن ما وجهه إلي قبل قليل من كلام جارح لم أتوقعه منه:" ما حصل للين و لي لا يمكن لأحد أن يلومني عليه. لقد دافعت عن الحق ومن أجل الحق علينا أن نضحي." كلامي ذاك عقب التحليلات التي توصلت إليها لوحدي، فحتى تحقيقات الشرطة لم يتوصلوا بها للقاتل بعد وهذا ما جعل ياسر في حالة قلق هستيرية دائمة علينا أنا و أيمن. قطع ياسر أفكاري الشاردة فيه لكي يهتف بعدم تصديق:" كيف تتجرئين على قول شيء كهذا؟ أنا لا أصدق مونيا بأنك تجدين موت طفلنا أمراً عادياً و إصابة لين أمر متوقع، ما هذا البرود؟ أنت مسئولة عن ذلك الجنين الذي قتل ومسئولة عن تلك المرأة الشابة التي كادت أن تفقد حياتها بين يديك وفي ذلك المكان الملعون." أشار في فورة غضبه النادرة تلك إلى المكان الذي أصيبت فيه لين في الشقة وحملوها من هناك رجال الإسعاف بجسد ميت لكن بقلب حي، نظرت إلى ذلك المكان وكتمت أنفاسي حتى أكتم تأثري به، فكلما نظرت إليه أتخيل جسد لين غارقاً في دمائه هناك. أبعدت عيني عن ذلك الركن من الشقة الذي أصبحت أهرب بأنظاري عنه مع أنه كان وكأنه لم يشهد أكثر الأحداث دموية في حياتي. موت طفلي وإصابة لين المرعبة.. أتبع ياسر بينما كنت أطأطئ رأسي بألم أمامه:" كيف تستطيعين التصرف بكل هذا البرود؟ أتعرفين كم كدت أجن عندما اتصلوا بي من المستشفى؟ أتعرفين كيف كان حالي و أنا أنتظر الطبيب في الممر حتى يخرج من عندك و أصوات الهلع والصياح من جاراتك تلعب بأعصابي حدّ الجنون؟ أتعرفين كيف كانت صدمتي قوية عندما اعتذر لي لأنه لم يستطع إنقاذ طفلي؟ طفل لم أكن أعرف بوجوده حتى؟"
قاطعته بأول شيء وجدته في طريقي حتى أدافع به عن نفسي، دفاعاً واهياً:" لم أكن أعرف بأنني حامل، لقد شككت مرة في الأمر بسب تأخر دورتي الشهرية لكنني لم أرد تصديق الأمر."
"لماذا لم تريدي تصديق الأمر؟"
صاح بذلك في وجهي بينما يقف بعدها على أقدامه، يكمل بغضب جعل وجهه يحمر غيظاً:" ليس لديك إجابة، أتعرفين مونيا؟ ما لا أصدقه أنني اكتشفت في الأسبوع المنصرم كم تغيرت، أنت كنت تخبرينني بكل صغيرة وكبيرة تحصل معك، كنا روحاً واحدة مونيا هذا كان كلامك أنت الذي جعلتني أؤمن به أنا أيضاً، لكن الآن! أشعر فعلاً بأنني أضعتك. أنت قوية، أعرف هذا لكن أن تكوني قوية لدرجة أن تتعاملي مع الهجوم على بيتك و إصابة لين و إجهاضك بكل هذا البرود، هذا ما لا أستطيع استيعابه.. أنا سأجن إن لم أخرج كل ما بداخلي الآن. أريد أن أفهم، أن أستوعب كيف أصررتِ على العودة بدم بارد إلى الشقة التي تلونت أرضيتها بدماء جنينك ودماء صديقتك المقربة، كيف.. كيف أصررتِ؟ أصررتِ لدرجة صدمتني فيها حتى شعرت بأن لساني قد أُلجم عن محاولة إقناعك بالعدول عن قرارك بالعودة إلى هنا، أفهميني الآن كيف عدت بنا إلى هذه العمارة الملعونة؟ كيف تخاطرين بي و بحياة ابنك فيها؟ ما الذي يربطك بها؟ بل ما الذي جعلني أوافق على رأيك و آتي لكي أعيش في هذا المكان؟ أنظري مونيا! هذه هي العمارة التي قلت بأننا سنعيش فيها بسعادة مع أولادنا في المستقبل بين أشقائنا العرب. لا مونيا، سعادتنا تتحطم بين هذه الجدران التي باتت تضيق علينا بأرواح أبنائنا، لقد مات هنا طفلنا بدل أن يولد ومن سيكون الضحية القادمة، أنا؟ أم أيمن؟"
نظرت إلى تلك الدمعات التي تلقفتها يداي المشبوكتان مع بعضهما على الطاولة أمامي وقد هرب الدم منهما، فينافس شحوبهما شحوب الطبشور بينما كلامه يذكرني بذلك اليوم حين عتّبنا باب عمارة ريتشيل و روحنا تشع سعادة.
***
"لما أتيت بي إلى هنا مونيا؟"
ابتسمت له تلك الابتسامة التي فهم معناها فهدر محذراً:" أها!... هل تخططين لشيء ما بمجيئنا لهذه العمارة الغريبة؟."
لم أهتم لكلماته تلك و ازدادت ابتسامتي اتساعا دون أن أحاول إنكار كلماته و حاوطت ذراعه بذراعي أشبكهما ببعض و أنا أضع رأسي على كتفه و أقول:" ياسر هذه المرة عليك أن تحقق لي طلبي الوحيد كما حققت لك طلبك في الاستقرار بلندن، تعرف بأنني لا أستطيع العيش هنا ولكنني مع ذلك قبلت، لذلك عليك أن تضحي بشيء صغير مقابل تضحيتي الكبيرة بشأن إقامتي في لندن، عمارة زينب هي التي أريد الاستقرار فيها، هي الوحيدة في كل بنايات لندن."
"أنا لن أقيم في شقة في هذه العمارة، طبعاً لا."
"ياسر" هتفت باسمه بعدم رضى و أنا أبتعد عنه. نظرت إلى جبينه المقطب وحاجبيه المضمومين لبعض، فتنفست بعمق و مددت يدي أضع إبهامي بين حاجبيه أحاول بحركات بسيطة مني أن أفك تلك العقدة التي تكونت عند حاجبيه وأنا أقول له بنبرة تعمدت أن تكون مغرية:" لا تقطب جبينك بل استغل كل لحظة من حياتك لكي تسعد بها."
فوجئت عندما أبعد يدي عن وجهه بقوة ولم أستوعب شيئاً عندما دفعني إلى الجدار الذي كان خلفنا لدرج العمارة، حاصرني بذراعيه والجدار من ورائي لم يرحمني بقسوته، فصدرت عنى ضحكة خافتة عندما استوعبت ما يقوم به وأنا أرى شغفه بي، فقلت له قاطعة عليه طريقه إلى شفتي: "ياسر أنا أريد أن أحمل في شقتي وليس على درج العمارة."
تحولت نظراته من هيام بي لمشاعر و عاطفة كبيرة تجسدت في عينيه البنيتين الغامقتين ولفحت أنفاسه الدافئة وجهي وهو يمرر أنامله على بشرة خدي برقة:" أتريدين الحمل حقاً؟ هل تتحدثين بجدية؟ لم يمر الكثير على زواجنا، ألا تظنين بأن الحمل سيعطلك عن عملك وطموحاتك؟"
حاولت التركيز على كلامه رغم حركاته التي كان يتعمد بها أن تلامس شغاف قلبي فكانت تشوش على عقلي لكنني أجبته بكل صدق و أنا أقول بحالمية لم أعرفها من قبل إلا عندما اعترفنا بحبنا لبعض:" أجل ياسر، أنا حقاً أصبحت أحلم بالأمر، أريد طفلاً منك، سأحاول بأقصى جهدي أن أكون أماً جيدة لأطفالك و لا أعتقد بأن الأمومة ستؤثر على مستقبلي أو ستطمر شخصيتي القوية بالعكس، الآن أحلم بالأمومة و أريدها لأنني أشعر بأن سعادتنا ستتضاعف بشريك صغير يشاركنا حياتنا، ياسر أنا أريد إنجاب طفل لكن حلمي أنني أريد إنجابه هنا في هذه العمارة، إن كنا سنبقى في لندن فدعنا نعيش حياتنا الزوجية في هذا المكان ونربي أولادنا هنا حتى نستطيع العودة لبلادنا، أتعرف؟ أنا خائفة من إنجاب أولادي وتربيتهم في لندن، فلن يكونوا مثلي، وسيفقدون صلتهم ببلادهم و لدينهم ولعاداتهم وتقاليدهم، لن يمتوا للعروبة بصلة وما نتميز به نحن عن الشعوب الأخرى. أريد لطفلي أن يكبر هنا بين العائلات العربية، يرى صاحبة العمارة وكيف تأقلمت واستطاعت التعايش مع حضارتين دون أن تنسى ولا واحدة منهما. أريد أن يعيش الأندلسي الصغير بشموخ تاريخه بين عبق حضارات مصر والشام وبلاد الرافدين إلى مجد الجزيرة العربية"
"انتهيتِ؟." قالها ياسر بصوت ضاحك لكي يكمل قائلاً وهو يلمس رأس أنفي بسبابته بخفة:" بصراحة حبيبتي ما تزال القائمة طويلة من البلدان العربية، ألا تريدينها أن تضاف إلى هذه العمارة أيضاً."
هتفت بقوة:" بالطبع أريد، وخصوصاً فلسطين، أتمنى عندما يولد طفلي يجد في هذه العمارة أحداً من الأرض المقدسة فلسطين."
كنت أتحدث بحماس كبير وصدق لمسه ياسر في بقوة، لذلك كنت أترقب جوابه بنفاد صبر و أنا أعض على شفتي بتوتر، حينها أنزلت عيني أحاول تتبع حركة إبهامه وهو يمررها على شفتي السفلى قبل أن يقول:" أمم إذاً علي أن أجرب العيش في شقة صغيرة في عمارة تمثل الجامعة العربية من أجل ما ستمنحينه لي."
"نعم أم لا" تمتمت بذلك و أنا أنظر إليه يبعد إبهامه عن شفتي لكى ينحني برأسه مقترباً بوجهه مني قبل أن ينهال على شفتي بقبلات مجنونة هاتفاً بخبث:" إذاً سأحقق لك أمنيتك ولن يتربى الطفل فقط بالعمارة بل ستحملين به على سلم العمارة."
""مجنون و وقح.. إياك أن تفعلها مجدداً " صرخت بذلك بأنفاس متقطعة وقد نجحت بعد لحظات من الهرب من بين شفتيه اللتين انشقتا عن ضحكة عالية سعيدة و أنا أنظر إلى الدرج أتأكد من أن لا أحد قد شهد لحظاتنا الشغوفة والجريئة تلك مع بعض بسعادة لم أتوقع يوماً بأنه سيأتي وقت و أبدأ بفقدانها.
***
"يكفي.. يكفي.. يكفي " صرخت بذلك و أنا أحيط رأسي بكلتا يداي، ليس لأنني أردت أن أمسح ذكرى وعودي لياسر بأطفال وبيت مليء بالسعادة بين جدران هذه العمارة ولأنني انتشلته من عالمه الراقي وقصوره الواسعة التي تربى فيها ولم يرفض ذلك لأنه يحبني فوافق على أن يعيش معي أينما أريد.. أردته هو أن يكف عن ذلك الكلام الذي جرحني في الصميم والذي أراد أن يمحي تلك الذكرى لا بل أن يحولها إلى ذكرى سيئة ليست أكثر من ذكرى للألم تشعرني بالذنب الكبير اتجاهه و اتجاه جميع من يقطن بهذه العمارة. أنا لست مذنبة، لست مذنبة فيما حصل، أنا أيضاً متألمة أكثر من أي أحد، متألمة لما حصل للين في شقتي التي كانت شقة أمان بالنسبة لها ومتألمة أكثر حتى من ياسر لأنني فقدت طفلي، لقد كان يحيا بأحشائي أنا لذلك لا أحد يستطيع أن يشعر بالألم مثلي أنا، لا أحد و لا حتى ياسر نفسه.
على أثر ذلك الصراع وقفت على أقدامي لكي أتقدم بخطى تنفث نيران غضب و أنا أصرخ بهستيرية:" اسمع! أنا لست مذنبة فيما حصل للين، فالآلاف يموتون كل يوم دفاعاً عن أوطانهم ولو مت أنا ما كنت أيضاً لأكون مسئولة عن ذلك ولنفس السبب مات ابني. لست مذنبة يا ياسر، أبداً لست مذنبة ولن يحطموا عزيمتي وقوتي كما يريدون بما فعلوه في قعر بيتي، هنا سأبقى وهنا سأعيش في هذا البيت الذي حضن دماء طفلي ودماء لين... هنا ياسر."
"و أنا لن أكمل حياتي في هذا المكان، إما أن تعيشي معي أنا في بيت سأؤمنه بنفسي أو استمري في حياتك لوحدك هنا."
كم كانت الصدمة قاسية! صدمني بقوة لحدٍّ ألجم لساني وتجمدت في وقفتي و أنا أنظر إليه بعينين جفت الدموع فيهما وعلقت بين رموشها. طالت اللحظات الثواني والدقائق ونحن نتبادل النظرات قبل أن أتجاوزه ببطء غير قادرة لا على التفكير ولا على نطق أي شيء مما قاله. دخلت غرفتي غير قادرة حتى الاطمئنان على أيمن الذي لم تصدر عنه أي حركة في غرفته وقد صمت البيت بكل أركانه صمتاً رهيباً إلا من صوت انغلاق الباب علي و أنا أجلس على الأرض الباردة أتوسدها ربما برودتها توقظني من حرارة الصدمة التي جعلتني فاغرة فمي غير قادرة على استيعاب ما قاله إلا بعد وقت طويل.. فنطقت أخيرا باسمه بخفوت:" ياسر."
ترددت في عقلي كلماته التي قالها لي لكي أجيبه بصمت لم يترجم أبداً لحروف: "ياسر كيف تجعلني أهزم أمامهم؟ كيف تهديهم نقطة ضعفي؟ ياسر لو تعرف بكل ما أحمله في قلبي. لو تعرف كيف أن الأسرار أصبحت تثقل قلبي، لو تعرف كم أتعذب و أنا أخفي عنك حل كل هذه العقد، كله من أجل إنقاذك أنت و أيمن، لو تعرف كم أتألم بصمت، أنت أفرجت عن آلامك أما أنا فلا، أو تعرف كم هو مؤلم أن تتعذب وحيداً؟ أنا هكذا الآن من أجلك و من أجل طفلنا، لو تشعر كم هو صعب علي أن أتحمل حقيقة أنني الوحيدة التي تعرف هوية القاتل ولكنني لا أستطيع البوح بها حتى للشرطيين الذين أعادا التحقيق معي بعد إجهاضي، تأكدت بأسف أنني كنت مخطئة وغبية في شكي في حقيقة هويتهما من قبل، فقد كنت أحوم حول الشخصين الخطأ.


*****************



لين طاهر

على مسطحٍ أخضرٍ كبيرٍ و واسعٍ كنتُ أمشي بين سنابلِ القمحِ الطويلةِ المكتنزةِ بحبّاتها الذهبية، و على مد البصر كانت هذه السنابل تملأ الحقل العظيم.
السماءُ صافيةٌ و الشمسُ مشرقةٌ، و العصافير المغردة في كبد السماء تعزف أحلى نغمات الحرية، أغلقت عيناي ورفعتُ رأسي نحو السماءِ الواسعةِ لأشعرَ بنسائم الربيع المنعشة تداعب وجهي برقةٍ و نعومة أرسلت الاسترخاء لجسمي و السلام لنفسي، ثمّ شعرت بفستاني يتحرك بفعلِ يدٍ صغيرة تهزّه بخفة، فتحتُ عينيّ لأرى أيمن و هو يحاول جاهداً لفت نظري و يشيرُ بيده لنذهب حيث تجلس جاراتي الحبيبات تحت شجرة رمان كبيرة، استغربت أنني لم أرها من قبل، وجدتُ أنَّ السنابل قد اختفت و صار الحقل زاخراً بأشجار الزيتون و التين والرمان، حيث رأيت جاراتي يلوّحن لي من تحت تلك الشجرة العالية الأغصان و قد فرشن تحتها البساط الأخضر في دعوةٍ كريمةٍ لنجلس جميعاً تحت ظلالها الوارفة، ننعم بثمارها و يلُفّنا عبق أريجها .
كنت أحُثُّ الخطى نحوهم بحماسٍ شديد حين شعرت بأن النسائم قد تحولت فجأةً لتصبح ريحاً مدوّية تحمل معها أوراق الأشجار المتساقطة، و أخافني لون السماء الذي اكتسته الغيوم الداكنة لتعلن عن اقتراب عاصفة رعدية مطرية و قد التمع البرق فيها ليضيء المكان بسناه، ثمّ سمعت هزيم الرعد المخيف كقصفٍ جوّي يهدد أمان البلاد والعباد، صرت وحيدةً تماماً في هذا المكان الموحش المظلم، كنت أرتجف من الخوف و أبكي بكاءً مريراً و أنا التفتُ يمنةً ويسرةً علّني أجد من أعرفه، شعرت بأقدامي تغوص في الأرض الطينية الموحلة و أنا أحاول جاهدةً أن أصرخ بأعلى صوتي لأنادي راشد أو إحدى جاراتي، مونيا أين أنتِ؟، راشد متى ستأتي أنا بحاجةٍ إليك؟، و في لحظةِ يقين ترسخت في خافقي رفعت رأسي للسماء أنادي، يــا رب.
من بعيد، من حيث كان هناك نور كحبة لؤلؤ، كالدانة المستديرة بصفائها و بريقها الأخّاذ، لمحت طيف جدّي... لكنه متوفى، كيف جاء إلى هنا؟ جاء يمشي الهوينا بملابسه البيضاء النقية و في وجوده ما عدتُ أسمع دويّ الرعد و لا صفير الرياح العاتية، لم أعد أرى أو أسمع إلا صوت تسبيحاته، مهلاً.. إنها ليست تسبيحات، إنه يقرأ سورة يــس، وحين وصل لآية ( و جاء من أقصا المدينة رجلٌ يسعى )، رأيت عدداً من الشيوخ و الشباب يلبسون الملابس البيضاء قد اجتمعوا حوله و كأنهم البدر في السماء. لم أعرف لمَ رأيت أمي تبكي، و رأيت راشد و قد جثى على ركبتيه فيم أمي تربت على كتفه و تقول " لا إله إلا الله"، لكن جدي (رحمه الله) قال لها بوجهٍ باسمٍ و صوتٍ خافت، " و الله غالبٌ على أمره" .
كنت قد بدأت أشعر أنني لم أعد أرى جيداً و صارت المشاهد أمامي تختفي و تداخلت أصواتٌ كثيرةٌ، تتكلم فوق رأسي لا أراها و لا أعرف مصدرها، لكن.... صوت عميق من بين هذه الأصوات ميّزته جيداً، كان صوتاً أجشاً يقترب أكثر و أكثر لأسمعه يقول " يا الله لا تفجعني فيها يارب، يا الله سلّمها لي يارب".
شعرت بأنفاسٍ دافئة تختلط بأنفاسي، ورائحةٍ مألوفة تداعب حواسي برقة ونعومة و اشتياقٍ شديد، سمعت صوته يسحب نفساً عميقاً مرتجفاً ليخرج الصوت محشرجاً مضطرباً وغريباً على مسامعي وكأنني أسمعه للمرة الأولى وهو يهمس بلهاثٍ واستجداء :
- استيقظي ليني.. آااااااه يا الله لا تفجعني، ربي يا ملاذي لا تبتليني، آااااه يا لين، أرجوكِ افتحي عينيكِ" .
راشــد..هذا راشد، لكن لمَ لا أستطيع أن أحرك لساني أو حتى أن أفتح عيناي؟ أشعر بثقل رهيب فيهم و لا تستجيب عضلاتي لرغباتي في تحريك أي من أعضائي، أشعر و كأنني ميّتة، لكنني أسمع صوت راشد، يا الله، يا مغيث أغثني.
شعرت بيد راشد الكبيرة تحطُّ على أناملي و هو يحاول تحريكهم و يلّفُ أصابعه عليهم واحداً تلو الآخر ليستشعر نبض الدماء فيهم، كنت أتمنى أن أفتح عيناي فقط لأطمئنه أنني بخير، حاولت أن أحرك أناملي في استجابة بسيطة لأنامله علني أشعره بيقظتي، لكنني لم أكن أملك الطاقة الكافية لتحريك مفصل واحد فيها، قلبي تمزّق عليه و أنا أسمع النشيج الصامت في صوته العميق، و قد اقترب من أذني و هو يردد سورة يـس بصوته الشّجي و بأنفاسه المتهالكة تأثُّراً و هماً و تعباً و على صوت الآيات الكريمة شعرت أنني أسبح مرة أخرى في ظلام دامس بعيد، و لكنني تمنّيتُ من الله العظيم أن يكون الأخير قبل الفجر الساطع، و بسلام من ربّ الأنام نمتُ بعدها ملء جفوني.
" استيقظي حبيبتي.. ليني حبيبة قلبي افتحي عينيكِ"، كان خدي يستريح على خد راشد و هو يهمس في أذني بحرارة استشعرتها من لهاث أنفاسه و اضطراب صوته الخافت، يا الله لمَ هو حزينٌ هكذا؟ تأوه بحرقةٍ قبل أن يهمس بخفوت شديد قرب أذني و أنا أشعر أنه تقريباً يطوقني بذراعيه:
- آه يا لين، سبع سنوات...سبع سنوات يا لين و أنا أنتظر... أنتظر المراهقة خضراء العينين التي فتنتي بشعرها الكستنائي و ابتسامتها الخلابة و هي توجهها لي في حفل تخرجي من الجامعة.. لأقع صريع لمعان السعادة البريء في عينيك.. سحرتني يا لين بعالمك الخاص الذي تتوهج هالته حولك دون أي إدراك منك... سبع سنوات و أنا أنتظر كلمة نعم من خالي.. و هواجس الشبان الذين يقعون صرعى براءة عينيكِ و حالمية ابتسامتك الرقيقة تقتلني في اليوم ألف ألف مرة، لم يهدأ بالي يا لين حتى أخذت وعداً من خالي أنك لن تكوني إلا لي.
شعرت برأس راشد يرتاح على الوسادة بجانب رأسي و يقبل وجنتي بخفة و أنفاسه المضطربة تخرج بحـرارة لهف لها قلبي و حاولت جَهدي أن أضغط على أنامله التي تطوق أصابعي...كنت أحاول و أحاول، مرةً تلو المرة، حتى شعرت براشد ينتفض بعنف وهو يهمس بلهفة شديدة:
- ليـــن.. هل تسمعينني حبيــبتي!
أعدتُّ الضغط على أنامله لأسمعه يهمس من جديد وباندفاع حار :
- حبيــبتي.. يا الله كم خفت عليك يا عمري! آه يا لين، مكتـــوبٌ عليَّ أن تكوني هاجسي طوال حياتي... كوني بخير حبيبتي.. كوني بخير.
شعرت بشفتيه ترتجفان بلهاثٍ محبّبٍ دغدغ به أذني :
- أحبك ليني... عودي إلَيَّ يا حبيبة قلبي.
لم أعرف كم مضى من الوقت قبل أن أجاهد نفسي بتصميم رهيب لأفتح عينيّ و أستجيب للنّداءات الحارة التي أسمعها، تارة من راشد و تارة من فتاة بلكنتها البريطانية وأخيرا من رجل غريب ذو صوت قوي كان جُلّ اهتمامه أن يؤكد لراشد أنني فقط أحتاج لبعض الوقت قبل أن أستفيق تماماً من أثر التخدير.
يا الله أشعر بجفاف مهلك و أتمنى شربة ماء أبلل بها شفتيّ، لكنني كلما حاولت أن أفتح فمي لأتكلم لا أجد الحروف و لا يتحرك لساني، لم أعرف أنني وسط صراعي مع نفسي لأكسر هذا الصمت المطبق في فمي خرجت مني همهماتٌ استشعرت بعدها أن راشد صار فوق رأسي ينادي من جديد:
- ليني.. حبيبتي.
بصعوبة شديدة بينما ما زالت عيناي مغمضتين، استطعت أن أتفوه بهمسة ضعيفة:
_ مـ.....ـا..ء
لحظات قصيرة مرّت قبل أن أشعر بأنامل راشد تبلل شفتاي قبل أن يحاول أن يرفع رأسي من الخلف بمهارته الخاصة ليسكب بضع قطرات من الماء في جوفي، ليهمس بعدها في أذني و هو ينزل رأسي بخفة:
_ حمداً لله على سلامتك حبيبتي..
رويداً رويداً كنت أفتح عينيّ و قد أتعبني ثقل أجفاني، لكن يد راشد الحانية و هي تمسح على جبيني و تربت على وجنتيّ مشجعة جعلت الدموع تتجمع في مقلتيّ لا إراديّاً حين رأيت وجه راشد قريباً من وجهي ليهمس بحنان عميق و هو يمسح دموعي بأنامله الخبيرة:
- أوووووش.. اهدئي حبيبتي.. لا أريد أن أرى دموعك الغالية.. يكفيني أنك قمتِ بالسلامة والحمد لله.. سأستدعي الطبيب المسؤول لأطمئن عليك أولاً.
شعرتُ بقبلته على جبيني قبل أن يردف:
- أنت كل حياتي ليني.
بعد أن قام الطبيب المختص بإجراءاته المعتادة شارحاً لراشد كل صغيرة و كبيرة عن كتفي المصابة، أصرّ راشد على أن أمكث في المستشفى أطول مدة ممكنة حتى تتحسن صحتي تماماً ليتأكد من التئام الجرح بشكل متكامل والذي ولله الحمد لم يكن عميقاً، لأنني حين شرحت للطبيب وضابط الشرطة الذي زارني مساءً تفاصيل الحادث هزّ الطبيب رأسه مفكّراً أن القاتل ربما اهتزت يده لسبب ما وقت إطلاق النار، وشرح للضابط المسؤول أن إصابة كتفي تؤكد ذلك بسبب قصر المسافة التي تحدّثت عنها وقت إطلاق النار، مما يفسر عدم خطورة الإصابة و احتمالية شفائها بهذا الوقت القياسيّ.
وحده راشد انتبه على الألم الذي اعتصر كياني و أراق دموعي، رغم أن زيارة الشرطي كانت قصيرة جداً مراعاةً لصحتي لكنني لم أملك إلا أن أبكي و أنا أتذكر تلك التفاصيل المؤلمة، تقدم راشد مني و أمسك كفي و هو يجلس إلى طرف السرير مقابلاً لي و قد احتضن كفي بيديه الاثنتين و أسرت عيناه عينيّ اللتين كانتا تبثانه الخوف الذي تملكني و ما شعرت به من جزع و أنا أرى ذلك القاتل و هو يقترب منا في شقة مونيا، و ما يعذبني أنني لا أذكر من ملامحه شيئاً سوى عينيه و نظراته المقيتة الصارخة بالكره والحقد و قد تنصل من آدميته و هو يرفع في وجهينا ذلك المسدس بدمً بارد، ارتجفت خوفاً و أنا أدرك أنه لولا مشيئة الله تعالى لكنت الآن في عداد الأموات .
كان راشد لا يزال على جلسته و هو يستمع إلى كلماتي الهامسة التي تخللتها دموع الحزن والألم و أنا أروي له ببطء ماذا حدث، رفع يده لخدّي و ظلّ يمسح عليه و هو يتكلم بحنان، اشتقت له و قد فاضت عيناه بأعذب المشاعر ليميل بجذعه قليلاً نحوي و هو يهمس :
- الحمد لله ليني أنك بخير.. كل شيء بعدها يهون.. المهم أنك أنتِ الآن بخير.. لا أريدك أن تفكري بأي شيء آخر.. فأنت كل شيء لي يا لين.. كل شيء .
يا الله كم اشتقت لنظراته الحنونة، و لصوته الناعس الذي يخصني به، اشتقت لكل نفس يتنفسه قربي و اشتقت لحضنه الدافئ الذي يشعرني بأمان الكون كله، لا أريد سوى أن يضمني إلى صدره فأغمض عينيّ و أنام ملئ جفوني براحة و اطمئنان، مُستَكينَةً إلى قوة ذراعيه و صلابة صدره لأشم رائحة وطني التي تشبعت بها مسامات جسده و هي تنبعث من خلاياه النابضة بالانتماء والحب لذلك الوطن الحيّ دائماً في قلوبنا، أملت رأسي قليلاً لأطبع قبلةً في باطن كفه التي تمسح خدي بالقرب من شفتيّ، و أنا أشعر بالامتنان العميق أنه معي و بقربي يغمرني بكل هذا الحب الذي أحتاجه منه لتطمئن نفسي و ترتاح أفكاري وتستقر كل أموري معه.
تأملت وجهه المتعب و ذقنه النامية والهالات السوداء التي أحاطت بعينيه لأهمس له برجاء حار:
_ أرجوك راشد اذهب إلى البيت لتستريح قليلاً، أنت متعب جداً.
نظر لي ليقول مؤكداً:
- كنتُ متعباً.. أما الآن فما دمتِ بخير.. لا أريد شيئا آخر.
حاولتُ اقناع رأسه العنيد قبل أن أعاود الاستلقاء على السرير و أنا أهمسُ بتعبٍ :
- لن تستطيع لين مهما فعلت أن تقنع راشد بأن يفعل ما تريده .
رأيته يضحك من قلبه ليجيبني:
- لين جعلت راشد يمشي و هو يحدث نفسه.. يا ليني.
رمشت بعينيّ و أنا أقاوم الألم الذي يقتلني في كتفي لأقول له و قد داعب النوم جفوني من جديد :
- راشد المتباعد المتحجر يستحق هذا..
ثقلت أجفاني و صارت الكلمات تخرج مني ببطء و سمعت نفسي أهمس:
- أنتَ.. لم..
شعرت بضغط خفيف على شفتي لأسمع راشد يقول بتفهم:
- نامي حبيبتي و ارتاحي.. كوني قوية لأجلنا معاً.. استودعتكِ الله الذي لا تضيع ودائعه.
كانت همسات راشد آخر ما سمعته قبل أنام بعمق و راحة احتاجها جسدي المنهك بعد كل تلك الأحداث العاصفة.
استيقظت صباحاً على صوت الممرضة و هي تتحدث مع راشد لتخبره أن أموري جيدة و أنني نمت معظم الليل، عرفت من كلامها أن راشد ربما قد ذهب للبيت لقضاء الليلة هناك بعد أن مكث ثلاث ليالٍ معي بتواصل أنهك أعصابه و أرهق جسده.
فتحت عينيّ و اعتدلت بمساعدة راشد لأطلب منه الذّهاب إلى الحمام، حملني برفق غير عابئ باعتراضي و خجلي من وجود الممرضة التي كانت تدون ملاحظاتها و تنتظرني لتقوم بإجراءاتها اليومية، ظلّ واقفاً معي و أنا أحاول بيدي اليسرى أن أغسل وجهي و أفرشي أسناني لأسمعه يردّ على الممرضة التي أعلمته بإحضارها صينية الافطار بابتسامة اعتادها :
- شكراً لك.. سأقوم بنفسي بتلك الفحوصات.
عندما غادرت الممرضة و تأكد راشد بنفسه من جميع علاماتي الحيوية و استقرارها، رأيته
يرفع حاجبه بمكر و هو يقيس ضغطي و يعاود قياس نبضاتي ليقول لي بتهكم ساخر:
- قلبك ينبض بجنون ليني..
اعتلت حمرة الخجل وجنتي و اشحت بوجهي عنه، اقترب ليجلس قبالتي على السرير ملتصقاً بي، و أعاد بضع خصل ثائرة من شعري خلف أذني بمداعبة رقيقة و صامتة، لم ينطق بكلمة واحدة لكن عينيهِ قالتا الكثير، فعلاً لأول مرة أرى عيني راشد تفيضان بمشاعر جياشة واضحة بهذه الطريقة، ليباغتني بعدها باقترابه المفاجئ مقبّلاً شفتاي بشغف شديد و كأنه لم يعد يطيق صبراً.
ارتجفت أنفاسي تأثراً بعاطفته الجياشة التي تفيض بها قبلته الحارة العميقة، منتبهاً ألاّ يلامس كتفي المصاب. تنهدّتُ وأنا أفكرُ سرّاً.. يا الله كم أحبه.. فمهارته كطبيب لا تغادره حتى في أكثر الأوقات حميميةً.
ابتعد قليلاً عنّي و هو يضع يده تحت ذقني رافعاً وجهي نحوه، ليأسر عينيّ للحظة قبل أن يميل نحوي ناثراً قبلاته العاطفية على أنحاء وجهي بنعومة فائقة ليبتعد مجدّداً وهو يقول بصوت أجش أعرفه تماماً:
_ متى سنعود إلى بيتنا يا ليــن.. مشتاق أنا يا لين وعندي لوعة.
لم أستطع إلا أن أبتسم لتتحول الابتسامة إلى ضحكة خفيفة و أنا أتذكر أحد أبيات الشعر الذي لا يغادر ذهني و الذي على ما يبدو أردّده دون أن أنتبه، لأقول بابتسامة بريئة أتبعتها بغمزة ناعمة:
- لاااا.. لا تقل إنك افتقدت ثرثرتي يا راشد.
أطلق ضحكة قوية قبل أن يداعبني بنظرة عاطفية ليقول لي وهو يغمض عينيه:
_ افتقدتُ كل شيء فيكِ يا لين وأكثر مما تتخيلين...
ثم أمال نفسه إلى الأمام قليلاً ليصبح وجهي مقابل وجهه تماماً ليهمس وهو يرفع حاجبيه بمداعبة ماكرة هو بارعٌ فيها:
- هل أرضيت غرورك أخيراً؟
ضممتُ ذراعيَّ إلى صدري وأنا أقول بدلعٍ يحبه:
- هممم.. ليس تماماً.. أمامك مشوار طويل بعد.
رأيته يضحك بسعادة للمرة الثانية وقد أعاد رأسه للوراء مستغرقاً في ضحكته قبل أن يقول لي:
- أعرف تماماً ما ينتظرني معك يا أميرتي الحالمة....
عضّ على شفته السفلى واعتلت قسماته تلك النظرات الناعسة الآسرة قبل أن يكمل بهمسه الحنون:
_ عروسي و اخترتها منذ سنــوات و بمحض إرادتي.
أمضيت في المستشفى ثلاثة أيام أخرى تحت مراقبة الطبيب الحثيثة ومتابعة راشد المتكاملة لحالة كتفي، ولم يسمح لي راشد بالحركة وحدي أبداً، كان حريصاً على تواجده معي في فترات الوجبات الثلاث ليتأكد و بنفسه من تناولي للطعام، و يتابع مع الممرضة أخذي للدواء و ما أطلبه ليلاً من مسكنات حين يشتد ألم كتفي، كان لطيفاً جداً معي محباً وحنوناً.
كانت شمس الصباح المشرقة تبعث على الأمل وقد اخترق ضياؤها الوهاج تلك الغيوم البيضاء الكثيفة التي غطّت السماء لتعلن ميلاد يوم جديد بسمائه الزرقاء الصافية.
كنت أنظر عبر النافذة الزجاجية لغرفتي على الأشجار الخضراء التي تزدان بها حديقة المستشفى و قد تألق لون أوراقها بندى الصباح الباكر، أغلقت الرواية التي كنت أقرؤها قبل أن أرد على راشد تحيته الصباحية و أنا أرفع رأسي لأستقبل قبلته الحانية على وجنتيّ.
شعرت بأنني أتفهّم أكثر تغيّبه عن البيت لساعات طويلة وقضائه كل هذا الوقت في المستشفى، كان هاتفه لا يهدأ من كثرة الاتصالات التي تأتيه إما من طبيب يسأله أو يشاوره، أو من مريضٍ يتابعُ حالته بعد توقيع خروجه، كانت هذه هي المرةُ الأولى لي لأرى راشد في موقع عمله و في خضم انصهاره في أداء واجبه، و ما أثار إعجابي براشد و فسّر لي تعلّق مرضاه به هو احتواؤه و انصاته لشكواهم بتفهّمٍ و تفاعلٍ إنسانيّ مع آلامهم، كنت أسرح في قسمات وجهه و هو يتحدث مع مرضاه، كيف يبتسم و كيف يسأل و كيف يستمع لشرحهم المبسط ليصف لهم بعدها دواء بديلاً أو يعمل على إقناع المريض بضرورة أخذه لدوائه باعثاً فيه الأمل و الحياة بكلمات مشجعة تبعث على التفاؤل، كنت مبهورة به و أنا أراه غارقاً حتى أذنيه بحب مهنته كطبيب، و لكن ليس أي طبيب، بل طبيب إنسان، مؤدّياً لواجبه بإخلاص و مُعطياً المريض كامل حقوقه بأمانة.
ابتسم راشد و هو يراني أتأمله بعينين جديدتين، و قلت له وأنا أشعر بفخرٍ شديدٍ لما رأيته من تفانيه في عمله:
- " أنت طبيب رائع راشد و محظوظ من يحظى بك كطبيب تعالجه لأنك ستعالج آلامه و ستريح نفسه باهتمامك الباعث على السلام" .
اقترب من سريري ليجلس على طرفه كما اعتاد أن يفعل ليقول لي وقد اكتست الجدّية ملامح وجهه الحبيب:
- " أحب يا لين أن أجسّد الطبيب المسلم كيف يكون و أن أكون سفيراً لوطني في مهنتي ".
عند الظهيرة، تصاعد رنين الهاتف في الغرفة الرحبة والتقطه راشد ليرد على المتصل و قد تهللّت أساريره و هو يرحّب بحرارة بالمتصل الذي كان الأستاذ نبيه جارنا المفكر الأديب.
سمعته يضرب موعدا معه في تمام الساعة الخامسة ليخبره أنه وجاراتي صديقاتي الغاليات سيأتون لزيارتي للاطمئنان عليّ، كان راشد سعيداً و هو يؤكد على ترحيبنا معاً بهذه الزيارة التي أسماها " عائلية" ليضيف له بامتنان عميق أنه لن ينسى وِقفة الجارات الكريمات معي في ذلك الموقف الأليم. اتسعت ابتسامتي وأنا أشعر بفرحة حقيقية لاهتمام صديقاتي و جاراتي بي، و تذكرتُ ما أخبرني به راشد عن سؤالهن الدائم عني و كيف أن هاتفه لم يهدأ و هو يرد على أزواجهنّ ليُطَمئن كل واحد منهم زوجته على صحتي و أنني و الحمد لله بخير إذ أنّ إصابة كتفي تلتئم و لا تحتاج إلاّ إلى وقت لتشفى تماماً.
رفعت رأسي وأنا أشكره سبحانه على عطائه و كرمه، وأيقنتُ أن الله تعالى له حكمة قد لا أعلمها و لا تستطيع مداركي أن تفهمها، لكنني أعرف أن الله جلّ جلاله قد أراد لنا أنا و راشد أن نتعرّض لهذا الاغتيال غير المتوقع لتتضح لنا جميعا حقائق كانت غائبة عنّا رغم بديهيّتها.
تُرى هل صحيحٌ أن نعيشَ في وطنٍ بعيدٍ عن وطنِنَا الأم فترتقي بنا تلك البلاد وتنضب من بلادنا سواعد الأمل والعطاء؟ هل نعرف كلَّ أعدائنا والمتربصين بنا؟ هل تُرانا نعلم أننا نعيش في بلدٍ (بريطانيا) كانت أهم شعاراته في تكتيكاته الاستعمارية "فرّق تسد".. لكن ما يجعل الأمر يدعو للسخرية أن البعض يشعر بالغربة وهو يعيش في وطنه، أطلقت تنهيدة وترحّمتُ على أحمد شوقي الذي قال" بلادي وإن جارت عليّ عزيزةٌ.. و أهلي و إن ضنّوا عليّ كـــرامُ".
كنتُ شاردة الذهن وقد عصفت في ذهني تلك الخواطر و لم أنتبه لراشد الذي سمعته أخيراً و هو يقول:
- ليــن! هل أنتِ بخير يا حبيبتي؟
نظرتُ مُطوّلاً في عينيه وقد قفزت صورة رشا في عقلي مجدّداً وهي تقيّمني بنظراتها صعوداً و هبوطاً و انتابني غضبٌ عارمٌ لم أستطع أن أكتمه فبادرت راشد بسؤالي:
- لماذا أخبرت رشا عن نسياني لهاتفي ذلك الصباح؟
اعتلت الدهشة قسمات وجه راشد واتسعت عيناهُ هو يحدق في عينيّ بحيرة قبل أن يسألني:
- عن ماذا تتحدّثين يا لين؟
زممت شفتاي بضيق و أنا أنظر إليه و هو يحاول جاهداً أن يفهم فوجدتُّ نفسي أخبره بما حصل ذلك الصباح حين خابرتني تلك الرشا لتسألني عنه، و كيف أنها كانت تتقصّد أن تشعرني أن ثمة تفاهم خاص بينها و بينه، لم يفتني اندهاش راشد من كلامي و لمّا حاول أن يبرّر تصرفاتها انبريت مهدّدة و أنا أرفع رأسي نحوه بإصرار لأقول بانفعالٍ كتمته في نفسي طويلاً لينفلت أخيراً من عقالهِ و لأصرخ بكل ما جاش في صدري من ألم سبّبه لي :
- لا تقل لي أنها لم تتعمد أو أنني حساسة كما تحاول دائما أن تفعل، أنا أعرف جيّداً حين تنظر امرأة أخرى إلى زوجي كيف تكون نظراتها و أفهم كل إيماءاتها و حركاتها، لست صغيرة راشد كي لا أميز نظرة المهنية البحتة عن نظرة فتاة مفتونة برجل، خاصةً إذا كان هذا الرجل زوجي.
أخذت نفساً سريعاً قبل أن أكمل وأنا أشير بسبابتي نحو صدري:
_ أنت لي أنا راشد.. زوجي أنا وحدي.. صدرك وطني وقلبك بيتي ولن أقبل بأي منافسةً مهما كانت قرابتها أو مكانتها أو حتى أهميّتها في نظرك.. سأسحقها راشد.. سأسحق كل فتاةٍ تحاول الاقتراب منك بنية وصالك يا دكتور راشد.
شعرت و كأنني كنت في سباقٍ سريعٍ و صار صدري يعلو و يهبط بسرعة لأستعيد أنفاسي التي فقدتُّها بانفجاري لأرى راشد يقترب بهدوء مخيف من سريري و هو يميل نحوي ليقول بحزم يكتم به غضبه مشدّداً على كل كلمة:
- و هل أنا أرعنٌ غبيّ حتى تحتاجي لكل هذا التهديد يا لين.. ألم تخبرك تصرفاتي بمكانتك عندي؟
نظر إلى الأرض ليستعيد هدوءه و زفر بقوةٍ قبل أن يرفع عينيه نحوي من جديد ليقول:
- أنتِ الآن متعبة و أنا لن أناقش معك مسألةً أراها تافهة و لا تستحق حتى أن أقف عندها.
وضعت يدي على كفه التي تستريح على طرف سريري لأقول له بهمس حنون:
- أنا أغار عليك راشد.. لا أملك إلا أن أغار عليك.. أنت كل شيء في حياتي؛ وصَمتُكَ و انشغالك عني يجعلني في أحيانٍ كثيرة فريسةً لأفكارٍ كتلك التي حاولت رشا أن تزرعها في رأسي بأسلوبها المستفز.. أنا اثق بك راشد.. ثقة كبيرة أعرف أنها في محلها.. لكنني أشتاق لكلمات تطمئن بها قلبي وتريح بها نفسي...
لم أستطع أن أكمل حديثي لأن راشد كان قد وضع سبابته على شفتيّ ليقترب من وجهي ويقول:
- ليني.. سنتحدث لاحقاً بكل هذا حبيبتي، لا أريد أي انفعال لك هذه الفترة، أمامنا وقت طويل إن شاء الله لنتحدث بكل ما تريدين.
همست له بينما مازالت سبابته على شفتيّ:
- أنتَ لي وحدي راشد.
لأسمعه يقول قبل أن يرفع سبابته عن شفتيّ ويقبلني بخفّة:
- لك وحدك لين... و منذ سبع سنوات.
شعرت بسلام حقيقي وأنا أدرك وعد راشد و عهده بأنّه سيكون وطني و سعادتي و أمني و أماني، كنت متحمسة جداً للقاء جاراتي و لكن أكثر ما كان يقلقني هي جارتي مونيا.. أنتظر قدوم جاراتي بفارغ الصبر لأسألهن عن مونيا التي كانت معي وقت الحادثة، لم أتأكد إن كان راشد يعلم شيئاً عن مونيا، لأنني حين سألته عنها أجابني بتهرب مدروس أنها بخير، فارتأيت أن أسأل جاراتي، علّني أعرف ماذا حدث معها.. يقلقني مجرد التفكير أنها ليست على ما يرام وأعدّ الدقائق لأطمئن عليها، فهي أختي الحنونة التي تتفهمني و التي كانت لي قلباً محباً حين احتجتها في لحظات ضيقي و حزني، أتمنى من الله أن تكون بألف خير.
كان راشد يتحدث مع سكرتيرة عيادته قبل أن يستأذن مني ليقوم بجولته المعتادة في المستشفى وقد وعدني أن يعود قبل الخامسة لاستقبال الأستاذ نبيه وضيفاتي.. استرخيت في سريري وأنا أمشط شعري وأرتب شالي الذي أحضره راشد لي من البيت مع عباءة واسعة مريحة لاستقبال زوّاري الاعزاء.
مهرجان من الحب والمودة كان اللقاء مع جاراتي فور دخولهنّ المثقل بالعواطف الصادقة العفوية ليعلن راشد بعد دقائق من وصولهنّ أن الاستاذ نبيه يريد إلقاء التحية عليّ.
تأكّدت من حجابي قبل أن أرحب بضيفنا القدير وأستاذنا المحترم السيد نبيه الذي ألقى علينا جميعاً تحيته بصوته الرخيم و حضوره المهيب و قد خصّني بنظرات أبويّة حنونة قبل أن يسألني بتعاطف كبير:
- و كيف هي ابنتنا الرقيقة التي اهتزت لإصابتها عمارة النون العربية؟
أجبته من فوري بابتسامة صافية وقلب مشرق:
- صامدون يا أستاذي القدير... حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا... سأعود قريباً إن شاء الله.


****************



سارة جوزيف
حول فنجان القهوة

يراقب العصافير الفرحة تتراقص على أشعة الشمس
تشاكس بعضها البعض أمام المقهى اللندني الهادئ، ثم عادت عيناه لفنجانه يحرك الملعقة بشكل دائري بما يشبه الدوامة، يتوقف فتتلاشى ويركد سطح فنجانه فيعاود الكرة، يمارس طقوس إذابة السكر في المرارة الصباحية، وجد فيه ما يشبه أفكاره التي تدور فتعود للركود فقد عادت سارة تغزو أفكاره بعد أن وضعت النقطة تبقى له الفاصلة، حتى يعرف ماذا بعد نهاية روايتها، ابتسم بحنين يستحضر سارة من خياله بعينيها الناعستين، حتى سمع أنفاسها المتقطعة (صباح الخير)..
رفع عينيه لعمق عينيها وابتسم (صباحاتك دائما خير عزيزتي، تأخرتِ.)
وضعت الجرائد على الطاولة وسحبت الكرسي المقابل (آسفة كان لدي ما يشغلني سأخبرك بعد أن تطلب قهوتي).
أشار نبيه للنادل وطلب فنجان قهوة كفنجانه الراكد، وضع النادل الفنجان الجديد وعندما هم ليحمل الفنجان القديم أوقفه نبيه (دعه لم أنتهي منه بعد)،،
رائحة القهوة التركية فتحت شهيته ولونها الداكن يثير
في نفسه الفضول، فكان رأس قلمه يضرب سطح الطاولة بشكل رتيب مع تلك النغمات الهاربة من داخل المقهى،
طعم القهوة بدد كل الكون القابع في كل تفاصيلها راحت عيني نبيه تراقب ملامحها الفاتنة وهي تحكي له ..
(كنت في مكتب البريد، تلقيت رسالة من دار النشر، بقبول روايتي وسأعقد اجتماعا مع أهم النقاد لنقاشها..)
أخرجت من حقيبتها الجلدية أوراقا بيضاء، فوضى الحروف تعجز عيني نبيه عن قراءة ما خلف بعثرتها، ومن بعثرها، فسألها (ما هذه النهاية سارة! كيف للشر أن ينتصر على الخير..)
ردت تصر على إقناعه بنهايتها (عزيزي ما تعجز الحواس عن إدراكه يطوعه الحرف، إن الشر يقاسم الخير في النصر، الحياة جولات؛ مرة ينتصر فيه الخير ومرة الشر..)
(الشر دائما خاسر في نظرنا، لا أتحمل أن أراه منتصرا حتى على الصفحات، كيف لك أن تسحقي عذرية الصفحات البيضاء بسواد حروفك).
(لا عليك، ستكون الصفحات سوداء والحروف بيضاء)
احمر وجه نبيه غضبا (هل تسخرين مني سارة؟، أنت
تعرفين ما أقصده..)
ردت عليه بغضب مشابه (لي الحرية التامة في كتابة ما أريد وانتصار الشر على الخير واقع نعيشه، فلم تثور على خيال سكب على الصفحات .)
لبس رداء الصمت ليصمت كل ما حولهما، وعاد الهذيان له وعاد يحرك فنجانه الراكد أفكاره (وهل تجدين النهايات المفتوحة طريقا لانتصار الشر، عندما يموت الخير محملا بكل آثام الشر، وتدور عجلات الحياة في الهواء، وهو مخصب بالدماء يمسك بمقود حياة وقد فارق الحياة، والجانب الآخر منه يصارع للبقاء بعد رصاصة غدر، وتسدلين ستار الرواية على الشر يلثم شفتي نفسه نشوة بالنصر.)
ضحكت وهي تقول (أنت تعلم بأن الحياة حكايات بين الشر والخير.. ولدي أجزاء طويلة هنا -أشارت لرأسها- لم ولن تنتهي)..
وقفت تجمع أوراقها في حقيبتها الجلدية وتصف الجرائد وتشرب آخر رشفة من فنجانها ثم تقلبه في صحنها ومدت كفها تصافحه فصافحها فاقتربت تعانقه وهي تقول في أذنيه (فلتكن نهايتنا أنا وأنت بالعناق بدلا من القبل،
فحكايتنا بنهاية مفتوحة لم ينتصر فيها أحد .. لعلنا نلتقي يوما ما ..أيها الطاعن في الحياة والموت، فأنت مولود في كفن لأنك بلا وطن..)
ابتعدت وهي تشير لفنجانها (أقرأه! لعلك تجد الجواب أنلتقي أم لا فأنتم العرب تسير حياتكم خطوط قهوتكم الصباحية...)
وقع القلم من يد نبيه يتنفس بعد أن كان تحت أسر أنامله، وتحولت نظراته بين فنجان ارتشفه مع كل نزف لحبر قلمه ارتشفته أوراقه، فقلبه ليقرأ خطوطه وابتسم للفنجان المجنون الراكد بجانبه .. ثوان وقلب الفنجان فوجد سبع خطوط طويلة داكنة لم تنقطع في خط مستقيم حتى وصلت لحافة الفنجان تنطلق من بقعة داكنة، راح يفكر بالجارات السبع كألوان الطيف وعاد يأسر القلم بين أنامله.


***********


انتهت الحلقة السابعة

قراءة ممتعة

Dodo Diab and رنا نى like this.


التعديل الأخير تم بواسطة كاردينيا الغوازي ; 24-10-22 الساعة 10:12 AM
قصص من وحي الاعضاء غير متواجد حالياً  
التوقيع
جروب القسم على الفيسبوك

https://www.facebook.com/groups/491842117836072/

رد مع اقتباس
قديم 23-10-22, 12:48 AM   #14

قصص من وحي الاعضاء

اشراف القسم

 
الصورة الرمزية قصص من وحي الاعضاء

? العضوٌ??? » 168130
?  التسِجيلٌ » Apr 2011
? مشَارَ?اتْي » 2,558
?  نُقآطِيْ » قصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond repute
افتراضي

الحلقة الثامنة والأخيرة



ديمة مصطفى

جنة جنة جنة
جنة يا وطننا
يا وطن يا حبيب يابو تُراب الطيب
حتى نارك جنة
بترابك رضينا وبأحضانك ربينا
ولترابك حنينا
بترابك رضينا
وبمجدك علينا
للعليا وصلنا
كانت الأجساد تتمايل بتناغم مع كلمات الأغنية رقيقة اللحن، بينما تعالت الأصوات تُنشدها بخشوع؛ الأعين مغمضة، وقد تعالت روحانية الموقف في الهواء لتجبر المارة على التوقف لإلقاء نظرة على الجموع المتباينة الأشكال والأعمار، التي اجتمعت في هذه البقعة وما زالت تجتمع كل يوم؛ أمام ذلك المبنى الأبيض اللون، الذي بهت بياضه وزال تألقه من كثرة ما صرخ المحتجون أمام جدرانه، لا يمنعهم عنه إلا ذلك الحشد من رجال الأمن البريطاني، خلف حواجز معدنية، يقف في حذر خشية أي محاولة عاطفية لاقتحام المبنى من أحد الشباب الثائر المحيط به
شيئا فشيئا كان الحماس يزداد؛ الأغاني ما عادت عاطفية، والمطالب أصبحت واضحة.. اعتلى شاب يافع أكتاف رفاقه،
وابتدأ يغني بأهازيج ثورية، تعالى هدير رفاقه وهم يرددون الكلمات العنيفة من ورائه.. بينما حملت أيديهم أعلاما
مختلفة الأحجام، ذات ألوان ثلاث؛ الأبيض والأخضر والأسود، تتخللها تلك النجمات الثلاثة القانية الحمرة بلون الدم..
رفعت يدي باللافتة الكبيرة التي نددت بالعنف ضد المدنيين الأبرياء بأحرف إنجليزية عريضة، وأنا أهتف بالشعارات التي ترددت بكثرة على السنة ثوار بلادي منذ أكثر من عام.. وإلى جواري صديقتان لي، عرفتهما منذ مجيئي إلى لندن قبل
سنوات برفقة إياد، إلا أن علاقتنا لم تمتن حقا حتى تحررت جزئيا من قيود الزواج، وبدأت نشاطاتي الشخصية
بمساعدتهما في الهتاف والمطالبة بحق إخوتي في الوطن؛ بالحرية والكرامة، بالحياة على الأقل..
كل منهما كانت ربة عائلة، لديها أبناء متفاوتين في الأعمار، لديها عمل أو مهام منزلية لابد أن تقوم بها.. إلا أن
الأولوية أصبحت لجميع أفراد عائلاتهن موجهة نحو الوطن، والوطن فحسب.. لأول مرة منذ سنوات طويلة أشعر بأنني
حية، بأنني ذات قيمة، بأنني أفعل شيئا يزيد عن دوري كربة منزل غبية كما كان يراني إياد؛ تطبخ وتنظف.. أنا الآن
مجرد امرأة؛ أنا امرأة حرة.. حرة إلا من قيود أمومتي لولدي، وانتمائي لوطني..
من مكاني؛ تمكنت ورفيقتاي من رؤية شابين يحاولان اقتحام الحواجز المعدنية في محاولة للوصول إلى مبنى السفارة.. وكأن القهر الذي تأجج في النفوس منذ خبر مذبحة أودت بحياة أكثر من مائتي إنسان في إحدى المدن خلال يوم واحد ؛ ما عاد محتملا..
ازداد التوتر عندما تصدى الأمن للشابين، ولغيرهما ممن حاولوا قذف الحجارة نحو السفارة التي بدت مهجورة من بعيد ؛
رغم علم كل محتج بأن صورته واسمه يلتقطان من وراء النوافذ المعتمة بدقة متناهية.. ازداد الهرج والمرج ووجدت
نفسي أتوه فجأة عن رفيقتي، عاجزة عن رؤية ما حولي بسبب الزحام.. وإذ بيد قوية تمسك بذراعي وتسحبني بعيدا عن الجموع بلا انتظار لردة فعلي.. عرفت من يكون صاحب اليد قبل أن أراه؛ فلا أحد يظن أنه يمتلك الحق في إدارتي
وتسييري بهذه الطريقة سواه، خاصة منذ فقد الحق في محاسبتي عما أقوم به، وكأنه لا يحتمل رؤيتي أزهر وأتفتح من جديد بعد ذبولي لسنوات من حياتي تحت جناحه.. انتظرت متذمرة حتى ابتعدنا عن الجموع، ودخلنا معا شارعا جانبيا بعيدا عن الضجيج.. التفت نحوي قائلاً باقتضاب: - أين الأولاد؟
قلت بنزق: في المدرسة.. ما الذي تفعله هنا إياد؟!
قال من بين أسنانه: - أراك بالتأكيد، بما أنك ومنذ أشهر لا تتواجدين إلا هنا أو برفقة أصدقائك في اجتماعاتكم
الغامضة التي لن تأتي عليك إلا بالمصائب.
سحبت يدي من بين أصابعه قائلة بجفاف: هل كنت تفضل أن أدفن رأسي في التراب كالنعامة، في انتظار
أن تحل مشاكل الوطن وحدها إياد؟!
قال غاضبا: - بل كنت أفضل أن تبذلي القليل من التفكير في نفسك، في عائلتك التي تفككت
بسببك، في زوجك المستسلم منذ شهور لنزوات العزوبية الغريبة التي تنتابك فتنسين فجأة الخطر الذي تعرضين نفسك وأولادك له بتهورك!
قلت باستفزاز: - إن لم تكن راضيا عن الوضع؛ يمكنك أن تطلقني!
كما في كل مرة كنت أنطق فيها بالكلمة؛ شحب وجه إياد، وتلاشت عصبيته وكأن عصا ساحر قد مسته.. نظر إلي بغضب يائس وكأنه يتمنى أن يضربني حقا، أو أن يسحبني من شعري إلى شقة الزوجية كما يتمنى أن يفعل منذ أشهر.. مع العلم أنه وخلال سنوات زواجنا الثمانية؛ لم يرفع يده علي مرة واحدة.
أخذ نفسا عميقا وكأنه يسيطر به على أعصابه، ثم قال: إلى متى ستظلين تُعاقبينني يا ديمة؟! أما نلتُ ما يكفيني من
الهجر في نظرك؟! أشتاق إليك وإلى أولادنا في كل لحظة أقضيها وحدي في تلك الشقة.. ألا تملكين في قلبك شيئا من
الرحمة؟!
أملك الكثير، الكثير جدا في الواقع؛ لأن شوق إياد لم يكن أحادي الجانب قط.. لابد أنه قد لاحظ كيف لانت ملامحي؛
فلامس وجنتي بيده هامسا: - ألم تشتاقي إلي ولو قليلاً؟ أما عاد يعني لك شيئا حضن إياد؛ زوجك، وحبيبك؟!
لقد كان يعبث بي؛ يستفز الجانب الأنثوي داخلي، يبتز عاطفتي وحبي القديمين له.. حبي الذي كان يتجدد شيئا
فشيئا مع قتاله المستميت خلال الأشهر السابقة لأجل استعادتي.. قتاله كما لم يفعل حتى عندما رآني أول مرة وأرادني زوجة له.. إلا أنني وكما أثبت له مرارا لم أكن ضعيفة إلى حد الانجراف وراء عاطفتي، ولحسن حظي؛ لم يعرف إياد أبدا إلى أي حد كنت أعاني وأنا أتظاهر باللامبالاة.. وكأن أشهرا من بعادي عن رجل كان لفترة طويلة تدور حياتي كاملة حوله؛ لا تؤثر بي على الإطلاق.. أبعدت وجهي عن يده قائلة بجفاف: قد أكون افتقدتك يا إياد، إلا أنني لن أعود
إليك.. ليس الآن على الأقل..
عندما ارتسم الغضب والإحباط على وجهه؛ قلت له بصلابة:- مازال الوقت مبكرا إياد.. ربما يوما ما ؛ عندما تتوقف عن النظر إلي كملكية فقدتها وترغب باستعادتها، عندما تبدأ بتقدير الإنسانة داخلي، فهم الثورة العارمة التي أحسها اتجاه حياتي واتجاه كل ما حولي.. عندما تراني كشريكة، لا كموظفة لديك تنفذ مطالبك مقابل قوت يومها وشيء من اهتمامك.. عندها، ربما..
قاطعني بفظاظة:- ربما ماذا ؟! ربما تفكرين بالعودة إلى زوجك، بإعادة الاستقرار إلى أطفالك؟ بالتعقل والتوقف عن تعريض نفسك وعائلتك للخطر بأفعالك؟!
نظرت إلى ما يظهر من نهاية الشارع الضيق الذي كنا فيه؛ إلى الهرج والمرج حيث كنت أقف مع رفيقاتي.. وفهمت بأن
جزءا من غضبه كان خوفا علي؛ لأن يد الظلم كانت تطال كل من يقول كلمة الحق، حتى لو ظن نفسه مسلحا
بحماية الغربة.. صمت قليلا وكأنني أفكر بكلماته، بينما كنت أستمع إلى صدى نبضات قلبه الصاخبة.. وقلت أخيرا
بهدوء وأنا أتحاشي النظر إليه: لقد اشتقت إليك إياد.. صدقا اشتقت إليك.
أحسست بأنفاسه تزداد عنفا، فتابعتُ بصعوبة - فأنت رغم كل شيء، رغما عني في الواقع ما زلت رجلي، زوجي وحبيبي الوحيد منذ عرفت معنى أن تحب امرأة عندما قابلتك قبل سنوات طويلة.
لامست يده وجنتي من جديد، فأغمضت عيني قائلة:- إلا أنني لن أعود إليك، لن أعود لأقوم بدور الزوجة البلهاء التي
يقتصر ما تقوم به على الركض وراء زوجها وأولادها.. أنا الآن في خضم القيام بواجب أكبر وأعظم، وصدقني، عائلتي؛
أنت وبسمة وعماد؛ السبب الحقيقي لقيامي بهذا..
فتحت عيني، ونظرت إلى وجهه الواجم المحتقن قليلاً، وقلت: - منذ رأيت لين شبه قتيلة أمام عيني قبل أشهر؛ لم أستطع للحظة منع نفسي من التفكير بأن الحظ وحده هو ما وضع لين أمام تلك الرصاصة التي كادت تودي بحياتها..
لربما كنت أنا مكانها، ولربما ما نجوت مثلها.. ثم فكرت؛ ماذا لو أصابني مكروه، ماذا لو أصابك أنت مكروه؛ ما الذي سيحل ببسمة وعماد، ما الذي سيبقى لهما من بعدنا ؟!
نظر إلي متوترا منتظرا أن أنهي كلماتي.. أكملت أخيرا بهدوء الوطن.. الوطن هو ما سيبقى لهما يا إياد، ومهمتي أنا، مهمتنا أنا وأنت، وغيرنا من الآباء؛ أن نعد هذا الوطن لرعاية أبنائنا، أن نقاتل من أجله؛ كي يكون جديرا باحتضانهم واحتضان مستقبلهم من بعدنا..
صمت إياد للحظات طويلة؛ قبل أن يقول بجمود: - ما الذي تقصدينه بالضبط يا ديمة؟
أخذت نفسا عميقا؛ ثم رميت ما لدي مرة واحدة: لن أعود إليك يا إياد؛ حتى تنتهي الأزمة في الوطن.. سأكرس نفسي تماما لقضيتي، إن أحببت أن تقاتل لأجلها معي؛ غير هذا الكثير، وإن لم تفعل؛ فما عليك إلا أن تصبر.. وتنتظر!
صمت أنا هذه المرة وأنا أنظر إلى إياد الجامد، رأيته بعين الخيال يتراجع مبتعدا، تاركا إياي أكافح وأضحي وحدي..
جمدني الرعب، وعيناي تتسعان في محاولة لالتقاط أي رد فعل منه.. رغم إيماني بكل كلمة قلتها إلا أنني كنت حقا
بحاجة إليه، بحاجة لألا يتوقف عن القتال لأجلي، لأجلنا ولأجل أولادنا... امتدت يده فجأة لتلتقط اللافتة المصنوعة من الورق المقوى من يدي بحدة، أغمضت عيني وأنا أتخيله يمزقها إربا ويرميها عند قدمي؛ إلا أنني فتحتُهما بدهشة
عندما قال ببرود: لدينا ساعة واحدة فقط قبل موعد خروج الأولاد من المدرسة، أحذرك بأنني لن أغني مع هؤلاء الفتيان ولن أرقص أيضا..
حدقت به مذهولة وكأنه قد تحدث معي باليونانية قبل أن يقول بفظاظة؛ إذا، هل ستأتين؟ أم علي أن أذهب وأحرج
نفسي هناك وحيدا؟!
شعرت وكأن شمسا تشرق الدفء والأمل في كامل جسدي وأنا أبتسم له فرحا.. تعانقت أصابعنا والتقت نظراتنا وقلت له بدفء لم أعرف مثله منذ شهور: - سآتي معك، طبعا سأفعل..
خولة سعود
نظرت إلى الساعة للمرة التاسعة؛ لكنها ما زالت لم تتجاوز الثالثة عصرا بعد، يا إلهي! لماذا يسير الوقت ببطء عندما أريده أن يسرع؟ هيا يا خالد ؛ اتصل وأخبرني ماذا حدث سابقا؟ كنت واثقة أنهم سيربحون المناقصة؛ فأنا أكثر من يعرف كم أن خالد مهندس بارع!، لكن الآن عندما حان الوقت بدأت أشعر بالقلق، نظرت للساعة للمرة العاشرة، ثم قررت أن أنشغل في النصف ساعة الباقية؛ فخالد قال أن الاجتماع لن ينتهي قبل الثالثة والنصف. جلست على الأريكة وأمسكت بالهاتف واتصلت بأمي، سألتها عن أحوالهم وسألتني عن أشرف وأسعد فأجبتها: "بخير، لكنني قد آخذهما إلى المستشفى غدا" سألتني بجزع: "لماذا ؟ هل هما مريضان؟" نفيت قائلة: "لا، ولكنهما لا يتكلمان إلى الآن" قالت بسخرية: "أعتقد أنك أنت المريضة" قلت معترضة: "أمي، لقد أصبح عمرهما الآن خمسة عشر شهرا، وفي هذا العمر يجب أن ينطق الطفل خمس كلمات" سألتني: "وكم كلمة ينطقان ؟" أجبتها وأنا أشعر باليأس: "كلمة واحدة" قالت بفضول: "ما هي؟" فقلت من بين أسناني: "بابا" ضحكت أمي، وبرغم الغيظ الذي أشعر به إلا أني ابتسمت وأنا أسمع ضحكاتها، مرت ثلاثة أشهر وإلى الآن لم أرتو من صوتها وضحكتها، فسمعتها تقول: "ألهذا أنت غاضبة؟؛ لأنهما نطقا كلمة بابا قبل أن ينطقا ماما " قلت لها: "لا، لست غاضبة؛ فهما أبناء خالد لذا من الطبيعي أن يكونا ناكرين للجميل كوالدهما، لكني فعلا قلقة من تأخرهما" قالت بحكمة: "ليسا متأخرين، فمن الطبيعي ألا ينطق الأولاد مبكرا، لذا لا داع لأخذهما للمستشفى، كفي عن الوسوسة! فرددت عليها؛ "إنها ليست وسوسة؛ أنا فقط لا أريد أن أهملهما، فلو كانت لديهما مشكلة فعلا فسيلومانني في المستقبل لأنني لم أكتشفها مبكرا، لن يسامحانني حينها" صمتت أمي فترة، ومن ثم قالت: "خولة" هذه النبرة لا تعجبني: "أريد أن أسألك سؤالا" قلت لها: "أنا أسمعك" شعرت بترددها قبل أن تقول: "في الحقيقة، كنت أريد أن أسألك منذ أول يوم كلمتك فيه قبل ثلاثة أشهر، لكنني أممم، حسنا، بدأ الأمر يقلقني ، فقلت برجاء: "قولي أمي" استجابت لي وقالت مباشرة: "هل سامحتنا ؟" ركزت نظري على ابني - اللذين كانا يلعبان بجواري - للحظات، فيما كان ذهني شاردا في سؤالها ؛ هل سامحتهما؟ أخيرا تنهدت وقلت معترفة: "لم أفكر في ذلك" سألتني بترقب: "ماذا تقصدين؟" أسندت ظهري على رأس الأريكة وأغمضت عيني هامسة: "من تظنينني؟" لم تجب علي: فكرت ساخرة، أسامحكما؟ ها ؟ ثم قلت وأنا أشعر ببعض الألم يموج في داخلي: "أمي، ماذا تعتقدين أنني كنت أفعل في الخمس سنوات الماضية؟ أنني كنت أنمي غضبي عليكما؟! قلت إنني لم أفكر في ذلك لأن جل ما كنت أفكر فيه في تلك الفترة الماضية هو متى سأسمع صوتيكما وأراكما مرة ثانية، متى سيعودان والديّ إلي؟" قالت بصوت متأثر سعيد: "حبيبتي"
فأردفت قائلة: "لكن.. لكن، بما أنك ذكرت ذلك؛ فسأكون صريحة أنا أيضا وأقول أني كنت أشعر بخيبة الأمل أحيانا اتجاهكما؛ لم أكن أتوقع أنكما ستتخليان عني وتتجاهلاني بهذه السهولة..." قاطعتني أمي بحزن: "هذا ما كنت أقصده، إذا أنت لم تسامحينا"
لكني أصررت على موقفي قائلة: "لا أمي، لقد كانت مجرد مشاعر مرت بي وقتها وزالت وانتهى أمرها"
قالت: "لقد توقعت أن تعاتبينا أو حتى ترفضي الكلام معنا"
قلت باسمة: "أوه أمي ولماذا أفعل ذلك؟ الآلام التي شعرنا بها في الخمس سنوات الماضية تكفينا، لماذا نزيدها بأمور من قبيل العتاب والكرامة وغيرها؟ لماذا نعذب أنفسنا أكثر! ما الذي كنا سنستفيده من العتاب؟! لماذا نبحث ونسعى وراء أمور تفرقنا ونحن بأمس الحاجة إلى بعضنا البعض! أحبكما وتحباني وانتهت القصة، المسألة بهذه البساطة، لا تحتاج إلى أي زيادات أو إضافات"
ثم بعد لحظة أضفت هامسة: "أو مؤامرات"
لم مازلت أقبض على هاتفي؟ كل هذا شوقا للوطن؛ نبرة أصواتهم، ملامح وجوههم، رائحة مجلسنا القديم حيث تختلط رائحة حطب السمر المخترق مع القهوة العربية بالهيل والزعفران.. تنهدت ووقفت، عندما سمعت صوت الباب؛ استقبلت خالد العابس، ابتسمت له وأنا أرى انكماش ملامحه وهددت مشهرة إصبعي في وجهه: "أعرف حيلك! لقد كسبت المشروع، لن تخدعني بهذا العبوس المزيف!"
تقدم ورمي ما يحمله من أوراق على المنضدة الصغيرة خلفي، وألحقها بحقيبة الحاسوب.. تعالت نبضات قلبي وأغرقت عيناي بالدموع، ورددت داخلي: (يا الله يا كريم! ارحمني! يا الله يا كريم..) التفت لي فصرخت به أبكي: "خالد هل؟)... توقفت الكلمات في حلقي وأغمضت عيني أبكي تعبه ليالي طويلة.. أعلم أنه صبور ومؤمن ويجب أن أكون مثله. مسحت دموعي وقلت له مبتسمة: "الخيرة فيما اختاره الله، وربما يكون شرا صرفه الله عنك؛ فقد استخرت كثيرا".. ابتسم وقال: "ظننتك ستقولين حيله ومؤامرة من المنافسين" حاولت أن أبتلع العبرة التي تسد حلقي، كيف لهذا الرجل أن يبتسم بعد خسارته لحلم حياته.. عبست مشاكسة: "أنا من صنع المؤامرة؛ طبقنا اليوم ثرید، صحيح أنك خسرت المشروع ولكنك كسبت طبقا مميزا في عاصمة الضباب" .. وقع على الأريكة خلفه يضحك بشدة: "أحمد الله لأني لم أخسر المشروع؛ كنت ستواسيني بطبق الثريد!"
.. لم أسمع من سخريته شيئا ؛ قفزت أضرب كتفه بكل قوتي وأبكي: "دائما لئيم، تحب أن تحرق أعصابي".. ثم دخلت في نوبة بكاء طويلة، بينما كان يحاول أن يحتضنني كنت أتمرد عليه وأردد: "ابتعد... أريد أن أعود للوطن.. أريد أن أقبل كفي أمي المخضبين بالحناء وكف أبي الذي يعانق المسبحة.." قبل رأسي: "سنعود بعد أربعة أشهر، وسأبدأ مشروعنا في دبي.. ستكون دبي أقرب من لندن.." رفعت رأسي من أحضانه الدافئة وسألته: "ماذا حدث في الاجتماع؟ " ضحك وقال مشاكسا: "بعد طبق الثريد سأخبرك.. أما الآن، لا كلام قبل الطعام.."


***********



علياء عبد الحميد

فتحي يا زهور فتحي،
واضحكي للنور وافرحي،
وافتحي قلبك افتحي دي النسمة عبير، مرجيحة حرير، بتقول لا اتمرجحي، واصحي وصحصحي
واضحكي وافرحي، فتحي يا زهور
هل كانت البلابل تشاركني بزقزقتها فرحتي ، أغنية دافئة من عمق طفولتي زاحمت فورة مشاعري المبتهجة لتعيدني لأيام دهشة الفرح: هذه الأيام التي كانت متعتنا الأكبر لنا _أنا وعمرو_ تلك الدقائق التي نقضيها هانئين مندهشين أمام التلفاز بصحبة ماما نجوى وبقلظها الشقي.. أهديت اليوم قطعة من الجنة، قطعة من فرح منير، كأني عدت طفلة وخطواتي تلاحق فرحتي بجانب آية، كما أشارت إلى شيء في محل الألعاب جلبته لها دون نقاش: مما أطمعها وهي تتوغل للداخل أكثر حتى خرجنا محملتين بالكثير من الأشياء.
كانت تمشي مختالة بفستانها الجديد والأكياس التي تحملها في يدها، أخبرتها ببهجة: "لم يتبق لنا إلا كعكة عيد میلاد الأميرة آية" ضحكت بحماس وهي تشير بيديها الصغيرتين المثقلتين بأكياس الألعاب مثلي: "ماما، أريدها كبيرة وبالشكولاتة" : "حسنا... اممممم تبقت هدية أخرى ستحصلين عليها "... شهقت وهي تنظر للأكياس ثم قالت بلهفة: "هدية بابا؟ : اممممم، بابا هو من دفع ثمن هذه الأشياء" : هدية من إذن؟ لو من عمو عصام لن آخذها" قالت هذا وهي تكمل سيرها أمامي ممتعضة، جئت بجانبها وأخفضت رأسي هامسة: "الهدية من ربنا : ماما في بطنها نونو" تركت الأكياس لتتناثر في الطريق بينما تضمني بذراعيها الصغيرين، وهي تقبل بطني وقد التمعت عيناها بالفرحة وهي تصيح قائلة: آية بتحبك يا ماما عشان جبتيلها النونو في عيد ميلادها. أخبرتها في غمرة فرحها أن تشكر الله الذي أنعم علينا بفرح جديد.. بصوت شديد الصخب أخذت تصيح وهي تلملم أكياس ألعابها المتناثرة في الطريق : "الحمد لله يارب، هكون أخته الكبيرة وهيسمع كلامي“.
تلفت حولي في الشارع الأنيق؛ وجدت الناس يتهامسون وهم يرمقونا بتعجب؛ حمدت الله أنهم لا يفقهون العربية، ولكن مؤكد سيشكون في سلامة قوانا العقلية، لا يهم؛ ما يهمني حقا هذا الفرح الذي أورق في قلبي بمجرد أن أكدت لي الطبيبة شكوكي.. تساءلت بداخلي ونحن نشتري الكعكة؛ هل سيغضب عمرو لأني لم أخبره أو أطلب منه الذهاب معي؟، شعرت بدوار جعلني أسرع قدر استطاعتي إلى المنزل لأستلقي على أول أريكة تقابلني، بدأ إعياء الحمل وأعراضه المملة ورغم هذا أشعر بالرضا يغمرني من رأسي حتى أخمص قدمي، أدركت اليوم كم اشتقت لأمومة جديدة تسري بدفئها في عروقي، هل سيسعد عمرو بهذا ؟، ابتلعت السؤال والرغبة في إجابته؛ كي لا أحرر أشياء أغلقت عليها قمقم القلب وجمدتها منذ ثلاثة أشهر، أجل منذ إصابة لين،،، ذكريات مختلطة اجتمعت علي؛ ليحررني من أسرها سلطان النوم وقد أثقل جفوني ورحل بي في غفوة قصيرة، حلمت فيها بأشياء كثيرة جعلتني أضحك، لم أتذكرها ولكني علمت بهذا وآية توقظني بإلحاح وهي تسألني علام أضحك؟.. اعتدلت لأجده جالسا على أريكة أخرى بجانبي، وقد بدا عليه هم بث في نفسي الضيق، التهت آية بألعابها عنا وهي سعيدة؛ لأن والدها وعدها بالاحتفال خارجا في المساء. "متى كنت ستخبريني؟" قالها بصوت مختنق ووجهه العاتب ينضح بالألم، نظراته أربكتني للحظة تماسكت بعدها وأنا أخبره: "لقد مررت قدرا على الطبيبة، وأردت إخبارك عندما تعود.” "مبروك.”
كلمة ألقاها ببرود وهو ينهض باتجاه غرفتنا، قبل أن يلفت مجددا وقد بدا عليه الإرهاق الشديد
:” أمي تبارك لك، اتصلت قبل استيقاظك و... تعرفين آية؛ أخبرتها بالتفاصيل، أيضا صفاء ستأتي في رحلة قريبة: هاتفتني كي تأتي لزيارتنا وأخبرتها أن تضبط المواعيد معك لأنك تنشغلين في الدراسة" ثم مضى للغرفة، هل ترنحت خطواته حقا أم هو دواري ما يزال يشوش رؤيتي ؟!
خطوت تجاه المطبخ كي أعد المائدة فوجدته بالغرفة مستندا بإعياء على خزانة الملابس.
جسست جبينه لأجده مشتعلا بالحمى، ورحت أتحرك بآلية؛ أخرجت بيجامة نظيفة وأنا أحل أزرار قميصه بينما قلبي يرتجف من القلق، فعمرو صحيح لا يمرض كثيرا، ولكن عندما يحدث هذا: حرارته من الصعب خفضها. اعترض بوهن للسعة برودة الكمادات على جبينه، نزعها برفق وهو يخبرني أنه تناول خافض الحرارة قبل مجيئه
: “حبيبي أنت أخذته وخرجت متعرقا للهواء البارد مجددا، من أجلي توقف عن العناد"
للحظة تعلق انتباهه بكلمة حبيبي التي أفلتت طائعة من بين شفتي، قبل أن يغمض بتعب ويسقط في نوم غير هادئ يتخلله تذمره الواهن من برودة الكمادات، ودمدمات عصبية غير مفهومة.
كانت ملامحه تبدو وديعة باسترخائها شديدة الاستسلام، سالت دموعي غزيرة لرؤيته هكذا، هو التهاب في الحلق لا أكثر ولا أقل؛ ولكني لا أحب أن أراه بهذا الوهن، قبلت جبينه المحموم وأنا أهمس: "أحبك كثيرا"
فتح عينيه في نفس اللحظة، فابتعدت بإجفال وأنا ألوذ بهذيان حرارته متمنية أنه لم ينتبه.. دمدم طلبا للماء فدسست في فمه حبتي الدواء قبل أن أسقيه والتفت هاربة من جانبه بحجة تحضير شوربة ساخنة .
: “لست جائعا تناولت وجبة خفيفة في العمل"
: “يجب أن تأكل، سأعد لك حساء ساخنا، تخل عن العناد رجاء " بصوت خافت قاطع خروجي من الغرفة
:” ألا يشفع لي المرض كي تبقي قليلا بجانبي؟ أنا أرتجف ووجودك قربي سيمنحني الدفء" قالها وهو يفسح لي المجال بجانبه. فور جلوسي أراح رأسه من على الوسادة ليتوسد حجري متعللا بأنها تؤلم رقبته، أمعن في النظر ثم قال:
"تكلمي، أريد سماعك"
: “أتكلم في ماذا؟"
: “في أي شيء؛ اشتقت لأحاديثنا سويا، لا تنسي بأن الحرارة تحبب لي الثرثرة"
ابتسمت لدعابته وأنا أخبره ": حسنا، دراستي على خير ما يرام، أذهب ثلاث مرات أسبوعيا للجامعة كما تعلم، ولكن المشكلة كانت بالبداية وتأقلمي على الدراسة والبحث والاستذكار من جديد، ولكني بدأت التأقلم.. الوضع جيد."
:” وآية؟"
:”- آية تتقدم في تدريبها على السباحة بشكل ملحوظ، مدربتها تطير فرحا بها، تقول أن ذكاءها مميز كثيرا، أتمنى أن نمنحها ما سلب منا في خضم المناهج المكدسة؛ لم يستمتع أحدنا في صغره برياضة مفيدة، لقد شبت قامتها قليلا، صارت تتباهي أمام رفيقاتها بطولها الجديد والملحوظ"
مد يده بتردد ملامسا وجنتي وهو يهمس:-" عندما تكبر أكثر ستجدينها نسخة مطابقة منك ؛ الجسد الممشوق والعينان الكحيلتان، والعناد وصلادة الرأس" صمت هنيهة وهو يمعن النظر في وجهي بعينيه الذابلتين من الحرارة ثم أردف: "لم لم تخبريني من البداية؟ أليس طفلي أيضا؟، أم أن غضبك مني حطم كل الجسور بيننا؟... والله تعبت."
: “عمرو استرح أنت مريض ولا تحمل الأمر أكثر مما يحتمل، جئت من الخارج متعبة فغفوت."
: “لو كنت كذلك لماذا كتبت الرسالة واحتفظت بها في هاتفك دون إرسالها؟... عمرو، ستصير أبا من جديد، أنا فرحة.. لماذا تبخلين علي بإخباري بخبر كهذا.، وأعلمه من خلال ثرثرة آية بجانبك وأنت نائمة، أنت تريدين مني تقبل فكرة أن نكمل كما نحن نعيش في برود؛ تقومين بأعمال المنزل، تدرسين لك ولاية، يأتي الليل تندسين بجانبي في الفراش، كل شيء مضبوط كالساعة، ولكنك قد انتزعت منه الروح"
ابتسمت بسخرية قائلة: "ألم أكن هكذا طيلة حياتنا، الزوجة الهادئة المطيعة، حتى - دراستي جعلتها صباحا لكيلا أقتطع من وقتك أنت وآية. ماذا تفتقد بي تحديدا يا عمرو؟ أنا هكذا مستريحة، وأعتقد أنت أيضا."
التمعت عيناه بدموع حبيسة وهو يقول بمرارة: "كاذبة، لست بحال أفضل مني، الفارق بيننا أني أفتقدك أنت، وأنت تفتقدين ذاتك المتسامحة وتريدين العودة لعفويتك القديمة، ولكني أيقنت أني لا أمثل لك شيئا، بداخلي حسرة لا تزول، أفتقد فيك رفيقتي، ألا تعلمين أنك
جدران عالمي، بدونك أصبح مكشوفا في العراء؛ لقد كنت لي منذ أدرك وعيي، لا أتذكر طفولة ولا شباب بدونك كيف تظنين أنك مجرد زوجة؟"
لم يتوقف عن الارتجاف انفعالا وهو يتكلم، سالت دموعي وقد حاصرني باعترافه، جففت جبينه المتعرق وأنا أحاول تهدئته قائلة: "ألا يمكننا تأجيل حديثنا حتى تهبط الحرارة؟ سأظل بجانبك لن أنصرف.”
أصر قائلا:" لن أبرأ طالما كل الأشياء معلقة بيننا، لقد تعبت، اتركيني أستمتع بحقي في الهذيان"
:-“ هو هذيان إذن؟"
: “اعتبريه كما شئت، ولكني لن أتوقف قبل أن أنتهي."
: “طالما تريد أن تكمل لمَ تجسد نفسك الضحية هنا؟! دائما تحسن ذلك، تحسن استغلال..."
: “قوليها، أستغل عاطفتك نعم أعترف، فهي أثمن ما أهديت في هذه الحياة"
تجاهلت كلامه وأنا أردف: "لطالما كنت صامتا طيلة سنوات زواجنا، تترك خالتي تفعل ما تشاء، لم تدع أقل مساحة من الخصوصية بيننا وهنا؛ عندما جئت اعتقدت خاطئة أنك تريد تغيير هذا الفتور مثلي، ولكنك استرحت لهذا الاعتياد؛ فلا تلمني!"
“: حسنا أنا أخطأت، أردت أن أزن الأمور بينك وبين أمي، اعتقدت خاطئا أن ما بيننا لا يمكن أن يزعزعه أي شيء،
كبعض تسلطات من أم تغار على ابنها الوحيد؛ لذا كنت حياديا موقنا من أنك ستحسنين التصرف ولكني أخطأت، أقر وأعترف، أنا عمرو عبد السلام أني أخطأت في حق زوجتي علياء عبد الحميد، وماذا بعد ؟ لقد اعتذرت لك مرارا طيلة الثلاثة أشهر ولكني لن أستطيع احتمال جفاءك أكثر، أمرضني هذا الجفاء وأنت لا تبالين."
:"لو لم أهتم لم أردت الإنجاب منك مجددا؟"
“: لمَ؟ أتوق لمعرفة ذلك"
: “من أجل آية، من أجل بقاء هذه الأسرة، ألا ترى أننا نسير في نفق مظلم متخبطين منذ جئنا إلى هنا ؟! أردت قمعي كما قمعتك والدتك منذ طفولتك وحدت من خياراتك حتى في دراستك و... زواجك!”
تجاهل كلمتي الأخيرة وهو يعتدل قائلا:- "حسنا لنشعل الضوء في هذا النفق كما تسميه، ونكمل حتى نجتازه."
ابتسم وقد دب في ذبول عينيه حماس متقد، وهو ينهض بتعب من الفراش حتى الخزانة؛ ليحضر الصندوق الصدفي المحتوي للبروش؛ بروش شهدزان.. جاء بجانبي وهو يخرج البروش قائلا: "أتعلمين هناك البعض يعتقدون بخرافة أن الجد نعمان اقتطف لحبيبته شهدزان نجوم السماء؛ ليخضعها في هذا البروش الثمين مخلدا ذكراها عبر أجيال عائلتنا"
اختطف مني قبلة سريعة وهو يبتسم بحبور قائلا: "هل تريدين أن أقتطف لك النجوم؟"
لامست غمازته التي أعشقها قائلة: "ولم لا؟ ربما تطل رفيقتك التي تفتقدها، وسأخبرك سرا؛ لقد منحتني اليوم اثنتين دون أن تشعر؛ هذا الطفل، وحديثنا هذا، من السهل إيجاد علياء أليس كذلك؟"
غمر رأسه ببطني مقبلا إياها قبلات صغيرة وهو يتمتم:- "حبيب بابا ! هل تعلم مدى امتناني لوجودك اليوم؟! عندما تأتي لا تنس أن تطالبني بالكثير من الهدايا"
ضحكت وأنا أجيبه: "لا تقلق! سأذكره لو غفل هذا" داعب شفتي بأنامله وهو يميل نحوي ويرفرف بي في قبلة طويلة أدرك فيها كلانا مدى عطشه وحاجته للآخر، بتمهل أعاد لي أنفاسي وهو يهمس قرب شفتي: "أحبك"
أجبت همسه قائلة: "وأنا أيضا، أنت حبيب عمري"
ضمني إليه مريحا رأسه المحموم على صدري وهو يتنهد بسعادة قائلا: "اشتقت إليك، ولاستكانتي هذه.”
نظرت في جوف أفكاري ؛ لأنظر فيما حدث، الفرصة جيدة أليس كذلك؟؛ لأنه حبيب عمري، ولأني أريد هذا الدفء بعد طول الصقيع، وأية تستحق منحها استقرارا داخليا حتى تستطيع مواجهة عالمها، أيقظني من شرودي بدغدغته لرقبتي؛ فابتعدت زاحفة للوراء قائلة
“: توقف!"
وكأنها تلك الكلمة التي نفضت عنه التعب؛ حيث انقض على رقبتي مدغدغا دون إفلات حتى اختفت أنفاسي وسط ضحكاتي وأنا أتوسل له
: “عمرو لا تنس أني حامل الآن."
: “وما شأن الحمل ؟! أنا أدغدغك في رقبتك، هل حملك في رقبتك؟" : "هل زالت عنك الحمى؟"
: “لا شأن لك.”
لم أستطع التكلم، ضاعت أنفاسي تماما، حتى خشى علي وتوقف يتأملني وأنا أستعيد أنفاسي بعد الضحك وأتمتم
: “كدت تقتلني"
اقترب مني يلملم شعري الذي شعثته معركة الدغدغة، فانتهزت الفرصة وأمسكته هو الآخر ليصرخ مستنجدا بأية؛ أخبرته أنها نائمة فاستطاع مقاومتي وتكبيلي على الفراش وكلانا يلهث من فرط الضحك؛ فهمس وقد اكتسبت ملامحه الجدية: "شقيقة روحي"
أغمضت عيني وقد استسلمت مجددا للهيب أنفاسه الذي يقترب بإصرار وتمهل نحوي..
"بااااااااا بااا إنتوا بتعملوا إيه؟"
صرخ كل منا ونحن نبتعد مجفلين، بينما هو ينهر آية لأنها دخلت دون استئذان. ارتجف ذقنها الصغير منذرا بنوبة مدوية من البكاء وأغمضت عيني عندما بدأت العاصفة
: “بتزعقوا لآية في عيد ميلادها؟ عشان بقى عندكم نونو جديد" وانفجرت في البكاء والعويل؛ اقتربت منها لأهدئها قائلة
: “ماذا كنت تريدين حبيبتي؟ " نفضت يدي من على كتفها وهي تكمل الصراخ: "لا أريد شيئا" تيتة رئيسة اتصلت مجددا وكانت تريد بابا، ولكني أخبرتها أن كلا منكما يدغدغ الآخر ولن تسمعاني لو ناديتكما" شهقت مذهولة وعمرو ينفجر ضحكا؛ فأكملت هي بقهر: "لن أكلمكما مرة أخرى، أو أرد على الهاتف مجددا.. وسأكل الكعكة وحدي.”


*****************



مينة أحمد

توجهت إلى خزانة ملابسنا وأخرجت جميع ملابسه، وبدأت بوضعها في حقيبة كبيرة.. لا أعرف لماذا شعرت بغضب يتفجر بداخلي، وأنه مستعد للتفريط بحياتنا من أجل كلام الناس.. حملت كومة الملابس ورميتها مرة واحدة في الحقيبة، أغلقتها بصعوبة وأخذتها ووضعتها جانب الباب، وتذكرت التذكرة؛ فأحضرتها وألقيتها بإهمال فوقها.. ما الذي يظنه؟! أني سأبقى أترجاه أكثر!
عدت للغرفة فرأيت فستان زفافي يقف هنالك وحيدا، تلمسته بحنين وأنا أتذكر تلك الليلة قبل شهرين في الأول من نيسان؛ لم يكن زفافا أسطوريا، ولا فستانا ملكيا ولا طرحة طولها أمتار، فقط زفافا سعيدا لم أعرف به لمسة للحزن.. فظننت أن كل الأيام ستكون مثله أنطلق على أجنحة الفرح، وجود والدتي التي أتت في منتصف آذار ووالدة علي، أحسست أن حياتي مليئة بمن أحبهم.
جلست على الأرض بجانب السرير وأنا أشعر أني عاجزة عن فعل أي شيء، وكأن الحب لا يكفي... ربما بإمكاني ردعه بطريقة أخرى، لكن لا عليه هذه المرة أن يتخلى عن هذا الشيء بإرادته وليس لأي سبب.
شعرت بدوار عند وقوفي؛ فاتجهت للمطبخ لأتناول شيئا ؛ لأن علي خرج منذ الصباح الباكر ولم أعرف أين ذهب؟ منذ أسبوع بالكاد نتكلم.. وضعت الزيت بالمقلاة على النار لكن رائحته شعرت بها بشعة؛ فركضت للحمام وأخرجت ما بجوفي، وأحسست كأن معدتي ستنتزع من مكانها.
وكأن الفرح والحزن خطان متوازيان لا يفترقان فما أن أنحرف عن خط الفرح حتى أجد خط الحزن بوجهي.. أردت أن أخبره لكن هنالك من يتخذ من تشويه حياة غيره مهنة، لن أخبره الآن؛ لأنه اختار، وعليه أن يعرف بما يضحي من أجل شيء لن يمنعه.. غريبة هي الحياة؟ أليس هو من كان يخبرني أن لا أنشغل بالماضي والوهم؛ حتى لا تضيع مني الحقيقة ولا أخسر الحاضر والمستقبل؟ استحممت وارتديت روب الحمام.. سفر مازن ترك فراغا كبيرا بحياتي، لكن هو الآخر لديه حياة يجب أن يعيشها، ترك الشقة لي لأنه عرف حبي لهذا المكان رغم ما حصل.. سافر قبل شهر والآن يريدوني أن أقنعه كي يعود إلى هنا!.. أصبحت مشتتة بين الاثنين وهذه المرة هما متفقان، فالأمر أصبح أصعب.
استلقيت على السرير، حتى المنشفة بقيت على شعري؛ لم يعد لي طاقة على شيء.. تخيلت يدين صغيرتين تتشبثان بأصابعي، وضحكة بريئة؛ تلقائيا امتدت يداي إلى بطني أحتضنها، الأمر حدث بسرعة لكن فرحتي به لن يطفئها شيء.
غفوت قليلا لكن صوت حركة بالغرفة أيقظني؛ فعرفت أنه جاء كي يحضر حقيبته ويأخذ تذكرته، لأن سفره الساعة الثانية ظهرا، أي بعد ساعتين، قلت وأنا مولية له ظهري: "لا تزعج نفسك، حقيبتك جاهزة جانب الباب ومعها التذكرة؛ حتى لا يؤخرك شيء عن ذهابك".. شعرت بالسرير يهتز تحت ثقله وهو يجلس عليه ويده تمتد إلى المنشفة التي على شعري وهو يقول: "زوجة صالحة حضرت حقيبة زوجها، ولكنها وضعت جميع أغراضه لأجل سفر لن يتجاوز أياما قليلة؛ فماذا يعني؟ أنك تطرديني ؟"
أبعدت يده بغضب عن شعري وقلت له: "أنت قررت، وأنا لي حق أن أقرر؛ إن خرجت هذه المرة فالأفضل أن لا تعود ؛ لأن الأمر لن يتوقف، وفي كل مرة سيتكرر.. يعلمون الناس وينسون أنفسهم" تمدد بجانبي على السرير ويده عادت لتعبث بشعري وهو يردف بهدوء: "تعرفين لماذا سأذهب!؛ بعرفهم أنا رجل وأي كلام يقال لن يضرني، لكن أنت قذفت بتهم كثيرة لا أستطيع أن أسكت عنها.. وزوجتي هي شرفي وسمعتي ونصفي وكياني.. فكيف أسمح لأحد أن يهدد كياني حتى لو كان والدك؟"
استقمت جالسة وقلت له: "ماذا ستفعل؟ هل ستقتل كل من تكلم عني بسوء؟! كل من قال شقيقها زوجها ليستر عليها بعد فضيحتها وتبرأ والدها منها؟ أم ستقطع لسان من قال أنها جلبت العار لأهلها فتركوها بلندن؟... لأنهم لم يعودوا قادرين على رفع رؤوسهم بين الناس! هل تظنني غبية لا أعرف بما يقال ؟! أم تظن أن الأمر سهل أن أكون السبب بجذب الكلام السيء لأهلي ولك ولعائلتك؟... صحيح والدي قال ذلك لبيت عمي بلحظة غضب ولكنه لم يخبر أحدا من الناس؛ العقربة زوجة عمي هي من كونت قصة كيفما تُريد، وبالنهاية هو لن يشوه سمعته وسمعة عائلته الجديدة.. بربك علي لا تزد الأمر علي ولا تحثني لأذهب لمكان لا تعرفوه؛ فيكفيني مازن وكل يوم هو بمشكلة بسبب هذا الموضوع.. هل تريد أن تذهب أنت الآخر كي تقتلوا كل من يتكلم؟! وأنت تعرف وضعك جيدا بالعراق، هم لن يتوانوا عن قتلك.. هذه المرة عليك أن تتركني نهائيا قبل أن تذهب!"
رد بنفاد صبر: "لا تفكري بهذا الموضوع نهائيا، أنا وأنت لبعض، افهمي هذا الأمر.. أما كلام النّاس؛ ليس سهلا أن يطعنوا بالشرف ويؤلفوا قصصا كيفما يريدون!.. هذا الشيء لا ينسى، حتى لو انشغلوا بموضوع غيره لابد أن يفتح مرة أخرى ؛ هذه هي العادات والتقاليد"
صرخت به: "العادات والتقاليد وضعوها كأنها سيف على رقابنا.. قل لي ما الذي تغير من زمن الجاهلية؟! هم كانوا يئدون الفتيات بدفنهن بالتراب، والآن يئدونهن بدفنهن بالعادات والتقاليد الخاطئة والتي لا تمت للدين بصلة! بالنسبة لي لم أفعل شيئا حراما أو خاطئا حتى أخاف؛ كل شيء بالشرع والدين.. تزوجت وانتهى الأمر، لن ينتهي هذا النقاش وسيفوتك موعد الطائرة!"
قلتها وعدت لأتمدد على السرير منهية أي مجال للكلام.. لكن هو لم يكتف: "ذكرتني بالسفر، وهذه التذكرة سأمزقها أمام عينيك؛ لأني لن أسافر، لو أعطيتني فرصة في بداية كلامنا لعرفت هذا الشيء!".. وأنهى كلامه وهو يأخذ الجانب الآخر من السرير.. شهقت فجأة وهو يسحبني باتجاهه ويطوقني بذراعيه ويهمس بأذني: "كنت مجنونا وأنا أفكر بالسفر وأركض وراء أناس عليهم وزرهم، وعقابهم بيد رب العالمين، منذ الصباح وأنا أجلس بالمسجد، وأخرست صوت الغضب، وشعرت بالطمأنينة لأني لم أقم بشيء خاطئ، وبالنسبة للذهاب للعراق؛ سأترك الأمر قليلاً لحين انتقال أهلي للشمال؛ لأن التهديدات زادت عن حدها، ربما بعد شهرين أو أقل سنذهب سوية"
قلت له بتفكير: "لن أذهب.."
لكنه فهم الأمر خطأ: "لماذا ؟! هل مازلت تهربين؟! أم أن الوطن بات لك مجرد اسم ؟"
قلت له بألم وشعرت بدموعي تحرق فؤادي: "لا تعرف ما يعنيه الوطن بالنسبة لي! كل مرة أشعر بسكين الغربة تخترق قلبي وتمزقه دون رحمة؛ أن تشعر أنك قريب ولكنك لا تستطيع الوصول، أن تكون مجرد عضو انتزع من جسد ولم يعد صالحا كي يزرع به، أن ينفيك أقرب الناس لك ويحرمونك حق العيش هناك، فقط لأنك خالفت دستورهم ..قل لي كيف أنتزع قلبي حتى لا أشعر بهذا الألم ؟وأنت الآن تريد أن تذهب وتغامر بحياتك وتتركني وحيدة بلا وطن ولا موطن!"
شعرت به يشدد من احتضاني، لكني تذكرت وضربته على صدره: "قلت لك لن أذهب لأني سأؤذي غيري".. شعرت بنظراته تدل على عدم فهمه.. لماذا يصبحون أغبياء في حالات معينة، أخذت يده ووضعتها على بطني وقلت له: "من أجل من يسكن هنا لن أخاطر به في هذه الفترة"..
أصبح يضحك كالمجنون! هذا ما كان ينقصني؛ جنون فوق جنوني وهو يقول: "طفل؟! يعني سأصبح أبا بهذه السرعة؟! سيأتي لاعب الهجوم ويتبقى لدينا عشرة، لكن لماذا لم تخبريني من البداية؟! لم أكن سأفكر بالسفر نهائيا"..
نعم ؛ هذا ما أريد الوصول له: "لم أكن أريده أن يكون
الشماعة التي نلقي عليها أسبابنا وتضحياتنا ؛ لأنه عندما يكبر ويعرف الحقيقة شعوره سيكون مؤلما وهو كان السبب في عذاب أحد .. أحببت أن تعود من أجل حياتنا معا ، التي ستكون لأجله"..
شعرت بالهدوء وكأني القيت حملا كبيرا من على ظهري ،هذا هو الهدوء ، هذا ما كنت أسعى إليه... يبدو أني سأوجل دراستي الى وقت معين لأن عندي الأهم ..قطع تفكيري صوته بأنفاسه الدافئة :
" أسبوع وبكل ليلة ألمس أطراف شعرك لأني أعرف أنك ستستيقظين بسرعة وتنزوين بطرف السرير.. تجافيني وتعرفين أن قلبي معلق بنبضات قلبك، قوتك وتصميمك على ما تريدينه، تغيظني، وتفرحني لأني مطمئن أنك ستسندينني عندما أحتاجك، من اليوم
سأشتري سريرا أصغر حتى لا تهربي مرة ثانية"..
قلت له: "لا يمكن! لأني بعد فترة قصيرة سأحتاج لمكان أكبر بعد أن أصبح مثل الدب"
أجابني بهدوء: "دب أم غزال؟ أنت في عيني وقلبي مينة واحدة؛ الصبورة على الحياة، والتي مازلت أحتاج صبرها لأن الأيام لن تكون كلها في سعادة؛ والصبر هو زادنا حتى نستقر على أرضنا، وبحضن وطننا، وبين أهلنا ؛ ليترعرع
أطفالنا هناك.."
نعم، الصبر هو ما نغذي به أنفسنا ونشيع به أملنا حتى لا نضيع في دهاليز الحياة الغريبة، ونصبح جزءا منها ؛ بعد أن نفقد القدرة على الحلم بواقع مغاير.. نتشبث بذلك البصيص حتى نستطيع أن نرفع رؤوسنا دون أن نصطدم بسقف الخوف واليأس والاستسلام.. من أجل من نحب، ولمن نحب سنوقد نار الحياة من تحت رماد الموت، وننتزع البسمة من براثن الحزن، وتتألق العيون من خلف نهر الدموع.. وقبل أن نغرق في لجة الحب والعشق؛ همس لي: "كنت أنوي أن أخطفك لأيام بعيدا عن كل ما يشغلك عني؛ إلى (Windermere) بمكان لم تزوريه قبلا، ولنا وحدنا ؛ حيث الخضرة والبحيرات والجبال.. لا تضيؤه سوى نجوم
تشع من بريق عينيك، ولا تشرق فيه إلا شمس ابتسامتك".


*******************



لين الطاهر

كان الحماس يدب في أطرافي و أنا أراقب الطريق التي تجتازها سيارة راشد الفارهة، مازال مصرا
على إخفاء وجهتنا عني، استرقت النظر إلى جانب وجهه الحاد لأجد ابتسامته الخبيثة تتراقص بمكر على شفتيه، التفت نحوي كما كان يفعل بين حين وآخر منذ انطلاقنا - لتتسع عيناه بمرح وهو يلاحظ نظراتي التي تمتلئ فضولاً والانفعالات تتسابق على ملامحي رغم الجهود
الجبارة التي أبذلها لكتمانها، تفاجأت به يرجع رأسه إلى الخلف مستغرقا في ضحكة خشنة لذيذة! شعرت بالفضول يزداد في داخلي والكلمات تتسابق على لساني و أنا أحبسها كطفلة صغيرة ترغب في أن تسأل عشرات الأسئلة؛ كان قد تحداني قبل الانطلاق أنني لن أطيق صبرا وسأبدأ بسؤاله كل خمس دقائق عن المفاجأة التي يحضرها لي، وأنني كالعادة لن أعطيه أي مجال للرد على أي تساؤل منها لأنه سيكون مشغولا جدا في التركيز على الكم الهائل من الكلمات المتشابكة التي سماها (ثرثرتي)!
بالطبع كنت على وشك أن أغضب منه إلا أنه قالها بطريقته الجديدة التي يغلفها بالحميمية وهو ينحني نحوي ليقبل
وجنتي ويضمني بحب وامتلاك نحو صدره، ولولا ذلك لكنت الآن قابعة في المنزل عقابا له على نعت حديثي الممتع
بالثرثرة! يا له من ماكر، فكرت في ذلك وأنا أسرح في تصرفاته خلال الأشهر السابقة؛ لا أنكر أنه أصبح أكثر حلما وتفهما لي بعد إصابتي بذلك الحادث الأليم إلا أن راشد لا يتخلى أبدا عن كونه قياديا متملكا ومتفردا في أغلب القرارات، لكن بدهاء بحيث لا يعترف بتسلطه ذاك ويجعل الأمور تسير كما لو أننا نتشارك في كل قرار بشأن كل صغيرة وكبيرة في حياتنا.
ابتسامة واسعة ارتسمت على شفتي وأنا أستحضر أساليبه المبتكرة في التحكم بكل ما يخصنا معا؛ إذ صار يضمني إلى
صدره ليهمس في أذني كل ما يريده من نقد أو توجيه أو أوامر ملكية، وأنا من فرط حبي له أتخدر من همساته ولمساته الحنون فأنفذ كل ما يريده دون نقاش، لكنني والحق يقال سعيدة جدا، نعم فأنا لن أنازعه على قيادة السفينة التي يبرع في تسييرها بمهارة؛ أعيش فيها بأمان وسعادة معه، فهو يستشيرني من باب اللباقة والذوق، وأعرف ضمنا أنه أحكم قراره الذي يبقى معلقا دون تنفيذ ما لم أعطه موافقتي ورضاي عن قراره الحكيم.
نسائم الليل الباردة أرسلت قشعريرة في جسدي جعلتني أضم الشال الأبيض بفرائه الناعم على كتفي، و أفكاري لا تغادر راشد و مخططاته التي أجهلها، نظرت من جديد نحوه و أنا أعض على شفتي حتى لا أسأله أي سؤال يكسر التحدي
فيفوز راشد.. من جديد!
التمعت عيناي بهجة للفكرة التي خطرت على بالي، ونظرت نحوه أخفي ابتسامة لعوبا ظهرت على شفتي لأنني أعرف
مسبقا كيف ستكون ردة فعله لما فكرت فيه، وبحب جارف همست أناديه: راشـد ..
التفت نحوي بسرعة وهو يجيبني بحنان: يا عيون راشد..
وقبل أن يفطن لما أفعله؛ اقتربت نحوه بوجهي و لثمت أسفل شفتيه بقبلة خاطفة، أبعد على أثرها وجهه بسرعة لينظر نحو الطريق من جديد وقد قطب جبينه و عقد حاجبيه مستنكرا ما فعلت، زفر بقوة قبل أن يستدير نحوي ليقول لي مؤنبا بصوته العميق والذي كان حادا بعض الشيء: ليـن.. أنا أقود سيارة على طريق سريع..
وأكمل بلهجته الأردنية التي أعشقها منه، وبالذات وهو في حالة غضب يحاول جاهدا ألا يظهره:
- "إنقعي بمكانك لين.. وودري عنك حركات المراهقة!"
ضحكت بخفوت على كلماته التي رشقني بها ولا أعرف كيف صرت منيعة هكذا أمام سيل كلماته وغضبه الحاد الذي
ما عاد يضايقني ؛ بل صارت عندي متعة خاصة لاستثارته أحيانًا لألهو قليلاً وأنا أراه كيف يتحكم بنفسه كي
لا يغضب أكثر، نعم؛ لقد استغللت إصابتي على أكمل وجه، وتحصنت بحبه ضد قسوة كلماته، وبحمايته ضد غضبه..
كان لا يزال غاضبا وهو يهز رأسه بتعجب ليردف:
- "قال بقول عقلت.. والله حالة هاي!"
لأباغته مرة أخرى بقبلة خاطفة أخرى على ذقنه النامية فيما هو مشغول بمعاتبتي وعيناه تلتهمان الطريق أمامنا.
التفت إلي مندهشا وهو يحرك رأسه بمعنى "لا فائدة!"؛ لأضحك من قلبي على قسمات وجهه التي يعلوها الاستغراب و الحيرة، أحببت منظره وقد عقدت الدهشة لسانه وهو ينظر نحوي مفكرا لثواني قبل أن يلتفت
إلى الطريق مجددا، قلت له بتهديد ناعم مبطن وقد علت الابتسامة ثغري وأنا أشعر بنشوة السيطرة على الموقف:
إن أنبتني مرة أخرى قبلتك... وهذه المرة على شفتيك..
كان دوري أنا لأتفاجأ من رده الهادئ الرصين وعيناه لا تحيدان عن الطريق وهو يقول بصوته العميق، هامسا بثقل
اقشعر له بدني توجسا: افعليها يا لين.. وأقسم أن أعيدك إلى المنزل؛ لأرد على قبلتك البلهاء بما يليق بها..
اتسعت عيناي ذعرا من الفكرة وأنا أقول له بسرعة: لا، لا أرجوك! أريد الذهاب للمكان الذي وعدتني به.
ليغمز بعينه و يهمس بصوته الثقيل الذي امتلأ عاطفة:
- إذن ؛ اجلسي بهدوء و لا تُثيريني بحركاتك التي أعلم يقينا أنك لا تدركين تبعاتها ؛ فلا تتصرفي تصرفات لا تتقنين
التعامل مع نتائجها..
نظر نحوي لثوان قليلة وعيناه الناعستان تتفرسان في وجهي وهو يحرك حاجبيه بتهديد خبيث:
- "إللي بده يلاعب القط؛ بده يصبر على تخاميشه، هيك بتحكي جدتي الله يذكرها بالخير".
لففت وجهي عنه وقد نجح تماما في إسكاتي، لأقول بهمس خافت ما ظننت أنه سمعه:
"بس بلاش قط.. وحش دفش خشن و أنت الصادق! "
ضحكته المجلجلة أجفلتني، ونظرت نحوه بريبة لأراه قد استعاد مزاجه المرح مرة أخرى؛ فاستغللت الفرصة لأقول له قبل أن أغص في الكلمة التي لم أعرف ابتلاعها غضبا من تهكمه الواضح علي: كم أنت دب نكد، لا تعرف إلا التهديد ولا تتسلى إلا على أعصابي!
امتدت أنامله نحو وجنتي اليسرى ليمسح عليها بظهر سبابته قبل أن يقبله بشفتيه وقد أسر عني بنظرته المتملكة وهو
يقول: حبيبتي.
قالها وهو يصر على أحرفها ببراعة دافئة بصوته المثقل رجولة وعمقا..
تعالت نبضات قلبي لكلمته الحبيبة وامتدت أناملي تعانق أصابعه القوية المستقرة على مبدل السرعة، ليعتصرها بنعومة وهو يرسل نحوي ابتسامته الحنون التي
أعشقها!
دخلت إلى الصالة الواسعة للمطعم الفاخر وقد أخذت بالأضواء المتلألئة حولي؛ كانت الثريات الكريستالية المتدلية
بدلال تضفي جوا من الفخامة والرقي، بألوانها الذهبية وأنوارها الساطعة، بدا المشهد كما لو كان مأخوذا من إحدى
قصص ديزني الخيالية، كاد رأسي يدور وأنا أتأمل جو الفخامة والثراء المسيطر على المكان، حتى شعرت بيد راشد على مرفقي وهو يسير بي خلف النادل الذي يقودنا نحو المائدة المحجوزة باسم راشد..
جالت نظراتي في المكان الساحر وأنا التقط تفاصيل المطعم بديكوراته الداكنة التي تناسب أجواء المساء الهادئة
وتبعث على الاسترخاء، أحببت المكان بكل ما فيه، والتفت أريد أن أشكر راشد فوجدته يتأمل انبهاري بالمكان بعيني الرضا وهو يربت على كفي الممدودة على الطاولة:
- سعيد بأن المكان أعجبك.. كان صديقي محقا في وصفه لي..
ابتسمت له وأنا أشعر بالامتنان لاهتمامه بتجهيز هذه المفاجأة الجميلة و كان الحديث خلال وجبة العشاء ممتعا؛ فراشد كان محدثا بارعا، حدثني عن دراسته في الولايات المتحدة وعمله
في المستشفى هناك ونشاطاته السياسية السلمية وانضمامه للجالية الإسلامية التي تلتقي على كلمة واحدة مع اختلاف جنسياتها.
كان يخبرني التفاصيل بحماس قلما رأيته في راشد، و شعرت أنه يريد أن يقول لي شيئا أو أنه يمهد لموضوع يشغل تفكيره، لكنني وقبل أن أسأله بادرني قائلاً:
لين، كنت أريد أن أهديك شيئا خاصا كونك ولله الحمد تماثلت للشفاء، ولا أخفيك سيرا أنني احترت كثيرا فيما
أقدمه لك..
أطلق راشد تنهيدة قبل أن يضيف:
- وجاءني الجواب وأنا أجمع أشياءك في المستشفى وقت خروجك منها ؛ فقد لفتت نظري الكتب التي أهدتها لك جارتنا
زوجة المهندس خالد ؛ حيث وجدت على الصفحة الأولى لكتاب بطاقة جميلة، وفي وسطه سلسلة فضية، أغلقت الكتاب حينها وقد عرفت هديتي كيف ستكون.
وضع راشد يده في جيب بذلته الكحلية وأخرج منها علبة من المخمل الأحمر و وضعها أمامي قائلاً:
حمدا لله على السلامة حبيبتي.. أميرتي الصغيرة.
بفم فاغر من الدهشة نظرت لراشد ثم للعلبة قبل أن أمد أصابعي المرتجفة انفعالاً لأحل الشريط الذهبي الرقيق من
عليها وأفتحها ؛ لأجد سلسلة فضية على شكل قلب منقوش عليها (My Princess).. حملتُها بين أصابعي و أنا أرى
تلألؤ الحجر الزمردي على رأس القلب الفضي ليجعل راشد من أمنيتي حين قرأت روايات الأحلام حقيقة واقعة..
شعرت بالامتنان والحب، ومددت يدي نحو كف راشد الكبيرة أشد عليها وأنا أهمس بعينين دامعتين:
- أنا ما كنت أحلم بأجمل منها راشد، هذا أكثر مما تمنيت!.. يكفيني أنك تكبدت عناء التفكير فيما أحب.. أنا حقا لا
أعرف كيف أشكرك..
اختنق صوتي تأثرا من نظراته التي امتلأت حبا وفاضت حنانا وشوقا، ليهمس لي بدوره وقد استعاد رباطة جأشه
بسرعته المألوفة:
ليس هنا حبيبتي.. في البيت عبري لي عن عميق امتنانك حتى الصباح!
نجح تماما في انتشالي من بكوتي العاطفية، وضحكت بخفوت و أنا أتراجع إلى الكرسي لأجلس باعتدال عليه وأهمس له بمكر يشابه مكره: سأنام ملء جفوني حتى الصباح..
لكن راشد رفع حاجبا ومال على الطاولة قائلاً بخبث يجيده:
- بالطبع ستنامين حتى الصباح؛ فأنت ستكونين متعبة!
صمت قليلاً قبل أن يردف وهو يتناول يدي ليقبل كفي ببطء وقد أحنى رأسه نحو الطاولة كي لا يظهر من تحركاته
شيء للعيان بينما عيناه تأسران عيني:
- متعبة وبحاجة شديدة للنوم.. في أحضاني.
شهقة خافتة صدرت مني قبل أن أسحب كفي من بين أنامله القوية التي أحكمت احتواءها لأصابعي وأنا أقول وقد
تشتت أنظاري نحو كل شيء على المائدة عدا راشد بنظراته القوية الواعدة.
اجتاحتني رغبة عارمة في إخباره عن نتيجة الفحص المنزلي الذي أجريته قبل يومين، لكنني ارتأيت أن أتريث قليلاً
لأتأكد من النتيجة قبل أن أخبره بإيجابية الفحص.
لم أشعر بمضي الوقت؛ فلقد كنت مستمتعة بوقتي أيما استمتاع، بعد دقائق قليلة وقف راشد وقد غامت عيناه بالمشاعر وهو يخبرني بأن وقت العودة إلى المنزل قد حان،
دخلت إلى غرفتي ما إن وصلنا المنزل وأنا أسمع خطوات راشد ورائي، تخلصت من حجابي
واتجهت إلى خزانتي كي أخرج قميص نوم، سمعت تحركاته البسيطة خلفي وكل تفكيري كان بضرورة ذهابي إلى الحمام كي أبدل ملابسي لأنني مازلت أشعر بخجل غريب منه..
التفت لأتفاجأ به خلفي تماما، كنت أقف أمامه أنظر إلى صدره القوي ويجابهني أول أزرار قميصه المحلولة وقد تصاعدت رائحته الخاصة الممتزجة بعبق عطره العميق الذي أحبه.
أخرج السلسلة الفضية وألبسني إياها ؛ بعدما أدارني قليلاً كي يحكم إغلاقها لأشعر بيديه تتباطأن على عنقي وكتفي
لأحس بشفتيه على بشرتي وهما تطبعان قبلة ناعمة خلف رقبتي قبل أن يلفني نحوه مجددا ليرى السلسلة وهي تزين
صدري، شعرت بالخجل من نظراته التي تحمل ألف معنى ومعنى، لأتهرب من محاصرته لي وأنا أدخل إلى الحمام بارتباك.
عدت بقميصي الأسود الطويل ووقفت أرجع خصلة من شعري نزلت بدلال على وجهي أداري شعوري بخجلي الشديد من راشد لأنني شعرت بالمبالغة بفتحة ذلك القميص الفاتن.
كان راشد يجلس على السرير وقد ارتكز على ظهره فيما كان
يعمل على جهازه المحمول، لكنه ما أن رآني حتى أغلق الجهاز و دفع به جانبا دون أن يحيد بنظراته عني، شعرت بتورد وجنتي و أنا أراه يتتبع تلك الفتحة في قميصي ليمد لي كفه بدعوة صريحة؛ بعفوية وضعت كفي على يده ليشدني نحوه و يفسح لي بجانبه وهو يلمني بذراعيه نحو صدره الدافئ، أرحت رأسي و أنا أستمع إلى نبضات قلبه المتسارعة.
ملت دون قصد نحوه لأضع رأسي على صدره الذي داعب حواسي؛ لكن يدي راشد القويتين حملتاني من خصري ورفعني نحوه؛ لأرفع بدوري رأسي وتختلط أنفاسنا قبل أن يميل نحو شفتي بقبلة طويلة.
استيقظت على صوت الهاتف الذي تتعالى نغماته بالرنة الخاصة لراشد، وتيقظ قلبي لمجرد سماعي لها ؛ فالتقطت هاتفي بسرعة وهمست له: صباح الخير..
وصلني صوت راشد القوي المفعم بالحيوية والنشاط وهو يقول لي بمرح: استيقظي أيتها الأميرة النائمة.. لا أعرفك وأنت تحبين النوم هكذا..
ضحكت بخفوت على كلماته لأقول له بخفوت دون أن تغادر صوتي بحة الاستيقاظ من النوم: ربما لأن زوجي المتوحش لم يعتقني إلا منذ ساعات، أتساءل كيف باستطاعتك الذهاب إلى عملك مبكرا بعد ساعات قليلة جدا من النوم!
ضحك بصوته العميق ليجيبها بعتب محبب:
- "احكي ما شاء الله لين! شووو بدك تطسيني عين!"
ضحكت على مداعبته وقلت من فوري: ما شاء الله.. ربي يحميك.. بس بجد يعني أنت مش نعسان!"
ضحك مرة أخرى ليقول بسرعة:
- سأعاود الاتصال بك وقت استراحة الغداء.. مع السلامة حبيبتي.
تركت سريري لأذهب للحمام، والأفكار تُلاحقني حول اختبار الحمل الذي قمت به قبل البارحة، وأردت اليوم أن أتأكد
منه قبل أن أخبر راشد بالأمر.
في تمام الساعة الثانية عشرة ظهرا، أرسلت لراشد رسالة نصية فيها:
)حضرة الدكتور راشد الحسيني المحترم، أنت مدعو لمأدبة غداء فاخرة من صنع السيدة أم عاهد حرم
حضرتك المصون.. الحضور في تمام الرابعة ولا تقبل الأعذار أبدا، والتأخير ممنوع منعا باتاً ")
استغرقت في تحضير الغداء منتقية ما لذ وطاب من طعامنا الفلسطيني والأردني التراثي؛ طبق صغير من ورق العنب المحشي بالأرز، وطبق آخر من الكوسا المحشية باللحم المفروم والمطبوخ باللبن وبجواره الأرز الأبيض (محشي كوسا)، وطبق السلطة الخضراء التي لا يستغنى عنها في
أي وليمة، عدا عن حساء الفريكة بالدجاج، بالطبع الكميات كانت قليلة تكفينا نحن الاثنين، لكنني كنت مصرة على فكرة التنويع لتبدو المائدة وكأنها في مطعم عصري..
بعد انتهائي من الاستحمام وتجفيف شعري وتسريحه بطريقة مميزة؛ ارتديت فستانا قصيرا يصل إلى ركبتي ويبرز
تناسق جسدي الذي سيستدير قريبا بسبب الحمل!
الحمل! أنا حامل.. داعبت الفكرة مشاعري بدغدغة رقيقة جعلت الدموع تتجمع في مقلتي و أنا أتحسس بطني الذي لم
يظهر انتفاخه بعد.. هل حقا سيحتوي جسدي روحا أخرى ويحملها بين جنباته ويعتني بها ؟.. روح هي جزء من روحي، وروح روحي، راشد!
أنهيت زينتي برذاذ العطر الذي يذهب بعقل راشد، كي أنتقل من غرفتي إلى المائدة التي كانت تماما كما أحب وأرضى،
وقد زينتها بالشموع المعطرة، صوت المفتاح وهو يستدير في قفل الباب بتزامن مع رنة الجرس المعتادة من راشد جعلتني
أستدير وعلى وجهي ابتسامة نابعة من القلب، ما إن التقت نظراتنا حتى انقلبت ملامح وجهه من الجدية إلى الارتياح
والطمأنينة و.. الحب، وعيناه تتجولان على هيئتي التي أعجبته كما كنت أتمنى، اقترب مني ببطء وأنا مازلت على
وقفتي وعيناه لا تحيدان عن عيني، همس ما إن تلامس جسدانا بالتصاقه المصر بي:
- مساء الخير أم عاهد!
اتسعت ابتسامتي بسعادة غامرة وأنا أسمع كنيتي المحببة منه، همست له بعاطفية:
- مساء النور.. أبو عاهد.
أنار شعاع من السعادة عينيه بطريقة عجيبة أسرت عيني وأنا أتأمله، لأشبك بعدها ذراعي بذراعه وأنا أردف:
هلا افتتحت معي المأدبة المحضرة على شرف الدكتور راشد عاهد الحسيني، والمكنى بأبي عاهد!
اقتربنا من المائدة لأسمع صفيرا من الإعجاب يفلت من بين شفتيه قبل أن يقول:
- يااه يا لين!.. أكاد أموت جوعا وشوقا لافتراس كل ما على المائدة بلقمة واحدة!
ضحكت برقة وأنا أقول: لقمة واحدة؟!
التفت إلي بحاجبه الخبيث المرفوع وهو يردف بغمزة ذات معنى: سأوفر ما تبقى لي من اللقيمات لالتهام صانعة الطعام، حرمنا المصون أم عاهد!
بعد الغداء الذي أسهب راشد في الإطراء عليه؛ أحضرت له كوبا من الشاي بالنعناع كما يحب، جلست بجواره على
الأريكة وأنا أقول بارتباك: راشد.. لدي خبر جميل لك.
التفت إلي بترقب وقد ارتفع حاجباه و أمال رأسه تجاهي وكأنه يطرق السمع؛ لأردف والدموع تتجه نحو عيني:
- أنا حامل يا راشد.. عاهد أو أخته في طريقه إلينا.
اتسعت عيناه لوهلة بعدم تصديق، لأتفاجأ بعدها بارتجاف فكه وكأنه لا يستطيع أن يصدق ما سمعه لتوه، ردد بهمس "حامل" قبل أن تزين ابتسامة ولهى شفتيه، وضمني إلى صدره بقوة وأنا أشعر لأول مرة بارتجاف ذراعيه وهو يقول لي بصوت أجش: يا لله! حمدا لله يا لين.. حمدا لله لأنه سيقر عيني بأولاد تكونين أنت أمهم!
أبعدني قليلاً لينظر في عيني ويردف بعاطفة فريدة من نوعها:
أم أحببتها وعشقتها لسنوات وأنا أتخيلها تُزين بيتي وتربي أولادي!
أعادني إلى أحضانه وقد كسا الجمود ملامحه، شعرت به يشدني إلى صدره بقوة وكأن أفكارا كثيرة تدور في خلده، أبعدت رأسي عن صدره قليلاً وهمست أمام وجهه:
- ما بك راشد ؟! أخبرني بم تفكر؟
نظر إلي للحظات طويلة وقد بدا تصميم حازم على محياه، ليقول بهدوء:
كنت أفكر أن ما كنت أقوم بتأجيله قد حان وقته الآن؛ سنذهب سوية لإتمام دراستنا في الولايات المتحدة الأميركية، سأحصل على البورد وأنت تنهين رسالة الماجستير خاصتك، لأنني قطعا لن أرضى لأطفالي أن يترعرعوا بعيدا عن عبق التاريخ الذي تزخر به بلادنا العربية، تسلحنا بعلمهم.. نعم، وهو أفضل ما لديهم.. لكنّنا لن نرضى بغير بلادنا وطنا لنا.
تأملته للحظات وإعجابي به يزداد يوما بعد يوم لأكمل:
كم أنا فخورة بعروبتك! وكم أنا سعيدة لأن دكتور محترما بعقليتك الفذة يحب بلاده ويفخر بها مثلك يا راشد،
هذا الموضوع كان يؤرقني منذ فترة، أنا أحب بلادي ولا أطيق فراقا عنها، إن كان أخيارها سيغادرونها، فلمن سنتركها ؟!
انتفض راشد من تأثير الكلمة وهو يقول بألم:
- لا تقولي نتركها لين أرجوك! فوالله ما تركتها يوما إلا كي أحصن نفسي بالعلم والفكر، كي أكون أنا وحتى أنت
قادرين على تنشئة جيل خير، جيل يصنع المستقبل لا نحن من نصنعه له!
تدحرجت دمعة على خدي وأنا أعيد نفسي إلى أحضانه وأهمس باشتياق:
مستقبل لامع، أنارته أيديهم الحرة الطليقة مهما كانت صغيرة.. صغيرة لكنها ستبني وتعمر،
ضمني راشد بقوة إلى صدره وهو يقبل شعري بينما أهمس له بعذوبة:أحبك رشودي..
ضحك بخشونة وهو يقول: أين ذهب أبو عاهد يا ليني الصغيرة!
ارتفعت نظراتي إليه لتغشاني أنفاسه اللذيذة وأنا أجيبه بدلال:
إلى المكان الذي ذهبت إليه أم عاهد يا دبي الخشن!
أسبل جفنيه وهو يتأملني بعواطفه الجياشة وهمس:
بالحديث عن الدببة؛ هناك دب يبحث عن قارورة العسل خاصته.. هل رأيتها ؟!
ضحكت بسعادة غامرة وأنا أضيف وقد زممت شفتي بدلع:
هذا الدب ستتحول قارورته إلى دبة صغيرة خلال شهور قليلة!
حملني فجأة وأنا أصرخ من المفاجأة ليقول:
أجمل وأدلع وأحلى دبة على الإطلاق أنت يا ليني!
اتسعت عيناي بغيظ وأنا أشهق بقولي:
- رااااشـد.. أنا دبة؟!
وصل بي إلى سريرنا و وضعني عليه وهو يهمس في أذني:
بل غزال صغير يستمتع الدب كل يوم بافتراسه!

**********************

مونيا العلوي

القوة، الشموخ والهيبة؛ كل ذلك تميزت به طوال سنواتي الستة والعشرين، كل تلك الصفات تسلحت بها أكثر في الآونة الأخيرة عندما حصلت لي تلك المأساة، ومازالت المأساة مستمرة..
استمرت لدرجة أنها علمتني بأنه لابد للإنسان يوما ما أن يفقد كل قوته، ويضعف ويصير إنسانا عاجزا عن حماية نفسه، حتى من كوابيسه التي أصبحت تلازمه، وستبقى تلازمه حتى يستطيع أن يقطع جذور تلك الآلام والمعاناة.. وأخيرا أعترف لنفسي بأنني استسلمت للألم الذي حاربته طيلة الثلاثة أشهر.. استسلمت.
"آه" شهقة قصيرة بصوت لا حياة فيه؛ أطلقتها لكي تتلاشى بسرعة مع الهواء الطلق، في نفس اللحظة التي قال فيها
ياسر بصوت مرح: "هل استطعت أخيرا أن أنتشلك من أفكارك التي أخذتك مني ؟!"
رفعت يدي إلى وجهي أمسح عنه قطرات المياه التي رشني بها ياسر على غفلة مني، والتي كان مصدرها النافورة الكبيرة في وسط حديقة قصر أهل ياسر، يغمرها الماء بطريقة خلابة وهو يتدحرج بنعومة على زليجها الفسيفسائي التقليدي..
رأيته يجلس أمامي على حافة النافورة بينما أنا أعيد يدي لكي أحركها بشرود في المياه التي كانت مغرية للاستمتاع
بنعومتها.. رأيته يمسك بإحدى وريقات الورود التي كانت متناثرة على المياه تزيدها جمالية راقية بحرص شديد بين سبابته وإبهامه؛ لكي يرفعها ويداعب بها بشرة خدي، وهو يقول بصوت هادئ رزين: "لقد
مرت ثلاثة أشهر مونيا، انسي ما حدث، فقط انسيه كما نسيته أنا.. واطمئني إلى أنك بخير حتى ولو لم يمسكوابالجاني بعد ؛ فأنت تحت الحماية الدائمة"
"أعرف بأنك تحميني".. قلتُها ببرود وأنا أنظر إلى البعيد؛ حيث تلك الحدائق الغناء التي كانت على الطراز الإسلامي
الأندلسي، مثلها مثل دار عائلة ياسر بمعمارها الإسلامي الأندلسي.. شعرت به ينزل بيده لكي يداعب شفتي برقة؛
ارتجفت شفتاي للحظات لمداعباته تلك؛ قبل أن أشيح بوجهي عنه؛ فابتعد عني بحنق من برودي ذاك قائلا: "جئت لكي أخبرك بأننا سنعود غدا إلى لندن.. لقد انتهت حفلة زفاف أخي البارحة، ولا داعي للبقاء هنا ؛ فعملي في لندن ينتظرني."
"أنا لن أعود معك"
"ماذا قلت؟!"
استدرت إليه، وبثقة أكثر قلت: "أنا لن أعود معك إلى لندن.. ليس إلى ذلك البيت الجديد، وليس إلى ذلك العمل
الجديد الذي وجدته لي في مجلة نسائية، كما أن كل حركة أقوم بها يرافقني فيها حراسك الشخصيون.. وأنت كنت
سعيدا وأنت تراني أنفذ أوامرك كلها، سعيدا مغترا بنفسك لأنك استطعت ترويضي وجعلي تلك الزوجة التقليدية
التي كل ما تفعله هو إرضاء زوجها حتى لو كان ذلك على حساب نفسها، والاهتمام بعائلتها وبالمناسبات الاجتماعية لا غير.. صدمتي فيك كبيرة! لم أتوقعك يوما من هذا النوع من الرجال، الذي يسعد لرؤية زوجته وكأنها جارية له"
اقترب مني من جديد لكي يقف أمامي والصدمة مرتسمة على وجهه وهو يقول: "أنا طبعا لست من هذا النوع مونيا،
كما أنني لم أجبرك على شيء.. لقد تألمت كثيرا لما حدث لك ولنا جميعا، ولا أنكر بأنني ارتحت قليلاً لأنك قبلت بأن
ننتقل من تلك العمارة إلى البيت الذي اشتريته.. لكنك أحبطت سعادتنا في بيتنا الجديد وأنت تعيشين فيه كجسد بلا روح، قبلت بتلك الحياة الجديدة بصمت غير معهود منك،، أتعتقدين بأنني كنت سعيدا وأنا أشارك نفس البيت، نفس الغرفة نفس السرير مع امرأة لم تعد تُشبه أبدا المرأة التي اخترتها قبل سنوات لكي تكون رفيقة دربي في الحياة جنبا إلى جنب مع أطفالنا ؟!.. أصبحت شاردة طوال الوقت، صامتة تعيسة كل اللحظات، لكنني مع كل هذا لا أستطيع المخاطرة بحياتك وارجاعك إلى مكان لن يكون خاصا بنا ولا أستطيع أن أحميك فيه جيدا"
"أنا سأبقى هنا إلى الأبد.. لن أستقر في أي مكان آخر غير بلدي"
"مونيا!" صرخ في وجهي عاليا فأجفلت في مكاني؛ إذ أنه ليست من عاداته الصراخ في وجهي ولا في وجه أحد ؛ فهو
كان مثالاً للهدوء والرزانة لدرجة الاستفزاز.. أضاف بغضب كنت أنا السبب فيه: "تعرفين بأن هذا مستحيل؛ عملي كله هناك لا أستطيع الاستقرار في المغرب.. مستحيل."
نظرت إليه بانكسار لم أعد أتحمل إخفاءه.. كانت الكأس قد فاضت من الألم الذي تجرعته فلم أعد أستطيع احتواء آلام نفسي؛ انفجرت له بكل مكنوناتي وقد تعبت من مداراتها عنه،
إخفاؤها كان يضاعف ثقلها على كاهلي: "لقد كان الأمر مؤلما ياسر، مؤلما لدرجة كبيرة.. لم أستطع نسيان ألمي، لم أستطع نسيان أنني أجهضت طفلي.." نزلت دمعتان حزينتان من
عيني، وبشفتين مرتجفتين وصوتا مهتز ا اعترفت بأسراري: "الأمر كان مؤلما ؛ نفسيا وجسديا يا ياسر.."
وضع يده على خدي برقة وهو يسألني وقد ظهر الألم في عينيه هو الآخر: "كنت أعرف بأنك متألمة؛ أنا أعرفك أكثر
مما أعرف نفسي.. كنت أعرف بأنك كنت تحاولين أن لا تُظهري ألمك لي أو لغيري، وهذا ما أغضبني منك؛ أردت أن
نتشارك آلامنا وليس أن نخفيها عن بعضنا البعض مونيا.."
"أنا ما عدت أستحمل إخفاء كل تلك الأمور ياسر، ما عدت أستحمل أن أتقبل فكرة أنه هزمني، وأنا أصبحت فقط شبحاً
لمونيا القوية التي لا تعرف معنى الانهزام أو الاستسلام في حياتها، يطاردها ذلك السياسي حتى في أحلامها لكي يحولها
لكوابيس توقظها فزعة سواء في وضح النهار أو في منتصف الليل؛ لكي تطمئن بهستيرية على عائلتها الصغيرة إن كانت
ماتزال بقربها ... أريده أن يعاقب على ما فعله حتى لا يؤذيني من جديد ولا يؤذي غيري، أريده أن ينهزم هو.. لا أستطيع
أن أبقى صامتة عن الحقيقة أكثر مما فعلت، لا أستطيع وهو قتل طفلي في أحشائي وكاد أن يقتل لين هي الأخرى.."
أغمضت عيني بألم، لا أريد أن أرى تلك الصدمة والذهول اللذين ارتسما بشكل جارح لمشاعري على وجه ياسر، ياسر الذي تجمد في مكانه ويده تنزل من على خدي ببطء وكأنه كان على أرض الأحلام وعندما وقع على أرض الواقع المرير؛ اتسمت الوقعة بقسوة صعب جدا تحملها.. حل علينا صمت مميت لم تتخلله سوى أصوات مياه النافورة الرنانة، وأصوات ضحك وأهازيج مصدرها قصر العائلة الفاسية التي لم ينتبه أحدهم لشجارنا ذاك في الحديقة؛ إذ كانت فرحتهم تعمي أعينهم عن ملاحظة الحزن والتوتر الذي كان مسيطرا على علاقتنا أنا وياسر.. نظرت إلى وجهه فتنهدت بضيق عندما رأيت تعبيرات ملامحه تتحول من الصدمة إلى الغضب الكبير، أمسك بمعصمي بقسوة؛ فلم أجفل لقسوته تلك إذ لم يكن علي التذمر؛ كنت أعرف بما يحسه وأعرف بأنني جرحته كثيرا لأن هذه المواجهة كانت جد متأخرة؛ فعذرته لردة فعله الهستيرية والقاسية تلك وهو يصيح في وجهي: "ألم تخبري الشرطة أمامي بأنك لا تعرفين من الجاني؟!.. ألم
تخبريني بهذا عدة مرات؟!"
تمتمت بثبات غريب في تلك اللحظة التي وضعت زواجي على الهاوية :"لقد هددني بك وبأيمن، لم يكن عندي حلا آخر"
حرك رأسه يمينا ويسارا رافضا أن يستوعب كلماتي تلك، رافضا فكرة أن ذلك السياسي قد خدعه وخان الاتفاق الذي كان بينهما، خانه وطعنه في ظهره.. تمتمت من بين دمعاتي التي كنت أحس بحرارتها على خدي: "ما كان عليك أن تثق به يا ياسر؛ من يخون بلده فتوقع منه أي شيء، لقد كان يهددني طيلة الوقت بك وبأيمن، أنا متأكدة بأنه هو الذي أرسل ذلك القاتل لكي يقوم بالتخلص مني لأنه كان خائفا بشدة من مونيا العلوي؛ فوجودي في الحياة يعني عدم وجوده هو "
بصوت أشبه بفحيح الثعبان، ومن بين أسنانه المطبقة قال بهدوء خطير لا يبشر أبدا بخير: "لماذا أنت متأكدة من أنه
هو من أرسل من هاجمك أنت ولين في شقتنا ؟"
رطبت شفتي اللتين أحسست بجفافهما بشكل غير طبيعي وأنا أشعر بندم كبير لإخفاء الأمر عنه بينما أقول له: "بعد
أيام من الحادثة تذكرت بأن الذي هاجم البيت كان مقنعا بلا شك، ولكن ذلك القناع كان قد كشف عن جزء كبير
من رقبته التي كان عليها وشم، نفس الوشم تماما كان على رقبة الرجل الإنجليزي الذي كان قد هددني أمام شقتنا
بحياتك أنت وأيمن قبل أيام من الحادثة.."
"يا إلهي!" هتف بذلك وهو غير مصدق لكل تلك الحقائق التي كنت أبوح له بها بعد مرور كل تلك المدة..
حبست أنفاسي بألم عندما أمسك بكلتي ذراعي يهزني بعنف هستيري قائلا: "لم الآن؟! لم لم تخبريني إلا الآن؟!"
نفضت ذراعي عنه بقوة بعد لحظات من هستيريته تلك، وأنا أصيح فيه بانفجار حقيقي:
"كنت خائفة ياسر، بل مرتعبة من فكرة أن يطالك أي أذى أنت وأيمن، أتعرف معنى هذا الرعب؟، أن ترتعب لفكرة فقدان أعز شخصين لديك في الحياة.. أنا أحبكما لدرجة أن حياتي لا تهمني إن كنت سأضحي بها في سبيلكما.. كنت ضعيفة أرتجف من الخوف وهو استغل ضعفي وجعلني أتصرف بأنانية وأخفي الحقائق حتى عن أقرب الناس إلي وهو أنت، جعلني غريبة في وسط عائلتي.. لكن الآن لم أعد أستطيع إخفاء الأمر أكثر، لا أستطيع العيش طوال حياتي مع هذا الخوف يا ياسر، وصلت إلى قمة الخوف والعذاب، وهذا ما جعلني أفيق من ضعفي ذاك وأرى الحقيقة؛ حقيقة أني لحمايتكما ليس علي أن أبقي فمي مغلقا، بل علي انتشال جذور هذا الرعب حتى أسترجع حياتي السابقة معكما.."
ارتد إلى الوراء خطوتين بطيئتين، وبسخرية مريرة شابت لهجته المصدومة قال: "وكيف سنسترجعها ؟! لقد ضاع الكثير بيننا يا مونيا، وأهمها الثقة التي كانت تجمع بيننا"
"الجروح تلتئم يا ياسر، تلتئم.. وجرحنا الذي تسببنا فيه لبعضنا، وتسبب فيه ذلك السياسي لنا سيلتئم إن نحن عدنا مع بعض يدا واحدة؛ روحا واحدة في جسد واحد، وسنبتدئ من بلادنا ؛ سنبقى فيها، وسيدفع ذلك السياسي ثمن ما فعله بنا غاليا وما فعله بكل شعب هذا البلد.. علينا جعله عبرة لجميع السياسيين أمثاله، الذين يفكرون فقط في مصالحهم الشخصية حتى لو كانت على حساب الملايين من البشر بانتهاك حقوقهم من أبسطها لأعلاها مرتبة في الحياة.. لا تقل لي بأننا لا نستطيع فعل شيء ولنذهب للعيش في لندن براحة وبأن اليد الواحدة لا تصفق؛ لو رحلت أنت ورحل آخر وآخر، فلن تكون هناك حتى تلك اليد الواحدة التي تحاول أن تصفق لوحدها، ولن يكون هناك أمل في بناء بلادنا ورفعها لمكانة أعلى وأعلى، بل سنكون نحن من ساهمنا في تهديمها وتلاشيها عن الوجود.. كلنا مسؤولون عن ما يحدث لها فكفانا هروبا منها أملين بأن غيرنا سيصلح من حالها؛ فغيرنا سيسلك نفس الطريق الذي اتخذناه.. دعنا نبنيها جميعنا من جديد كما بني الألمان بلادهم بعد أن هدمتهما سياسة من حكمهم في ما مضى إلى أشلاء؛ وأجزم بعدها آخرون بأن من المستحيل بناء تلك البلاد من جديد؛ لكنهم لم يفقدوا لا الأمل ولا العزيمة ولا الإرادة، لم يهربوا ولم يهتموا لما كانت تراه أعينهم من شظايا بلادهم؛ بل بقوا فيها وتخلوا عن إغراءات البلدان الثانية التي كانت تعدهم بحياة رغيدة بعيدة عن تعب السنين في محاولات لبناء بلاد هدمتها الحروب.. ونجحوا يا ياسر، نجحوا عندما اتحدوا، وليس عندما افترقوا "

**************************

ريتشيل زينب

ها أنا أجلس على مصطبة أمام البحر أتطلع لأمواجه الناعمة الغامضة، استغرق مني الأمر شهر ا لأنسحب من وظيفتي في لندن بشكل تدريجي، لم أندم على ذلك، أن أخسر وظيفتي خير من أن أخسر حياتي.
مر شهران على تواجدي في تركيا، لقد اتخذت قراري بعد أسبوع واحد من زيارتنا للين في المستشفى، ورغم خيبة أمل خليل إلا إني كنت حازمة في تمسكي بقراري، كما كنت حازمة في اختيار سكن خاص بي هنا ورفضت بشكل قاطع محاولات خليل المستميتة لأبقى في بيت عائلته كما فعلت في الزيارة السابقة.
كان يجب أن نبدأ بطريقة صحيحة هذا إذا كتب علينا البدء سوية أصلا! لقد قررت أن أعيش في تركيا لفترة غير محددة أحاول تجربة فكرة العيش فيها، لم أستطع قول نعم لطلب خليل بالزواج كما لم أستطع قول لا، لذلك استجمعت شتات نفسي وقررت خوض التجربة دون الالتزام بشيء وخليل وافق على مضض عندما قرأ في عيني أن قراري هذا لا رجعة فيه، لقد تفهم ببساطة مخاوفي من الارتباط به وبنفس الوقت كان سعيدا لأني أحاول فعل شيء لإنجاح ارتباطنا المحتمل، ارتباط لم نتكلم فيه منذ وطأت قدماي أرض تركيا، بشكل رسمي وحتى غير رسمي أنا لستُ مرتبطة بخليل.
أشعة الشمس تحدتني وهي تنعكس على الخاتم الذهبي في بنصري الأيسر، هذا الخاتم الذي توسل خليل لأرتديه دون أن يقيدني بمعناه وادّعى أن الرجال الأتراك لن يتركوني وشأني إلا إذا رأوه في يدي، شعور مدغدغ ينتابني كلما تذكرت خليل وارتباكه الدائم من أن أقرر تسليمه الخاتم والعودة لموطني، وعند كلمة موطني هذه أجدني أتلكأ كثيراً..
موطني! أي وطن هو وطني حقا؟!
نحن الغرباء على الأرض نبحث عن أوطان نغرز فيها جذورنا التي ملّت عريّها في الهواء، الجذور خلقت عاشقة لتراب الأرض، تحب الشعور بالاحتضان بين ذراته كالطفل الذي يعشق أحضان أمه، أجل.. الأرض هي الأم والجذور تبكي يتمها، بينما نحن نقف عاجزين أمام اعتراضها الواهن الذابل، هل العيب في أوطاننا أم العيب فينا؟! ما ذنب الوطن الذي تحول مواطنوه للانتماء إلى الأفراد والجماعات بعنصرية حمقاء، بينما الوطن يتوسّل إليهم العودة اليه.
شعور بسخرية حزينة انسكب في داخلي وأنا أتذكر قول جدة خليل " قلبي على ولدي وقلب ولدي عليّ مثل الحجر!"
تنهيدة خرجت من أعماق صدري وشاب منظر البحر أمامي بعض الضبابية بينما أستعيد ما حدث منذ ثلاثة أشهر، بل منذ سنوات، منذ سألت والدي ذلك السؤال؛ (لماذا لا أستطيع أن أكون متعددة الأديان مثلما أنا متعددة الجنسيات؟)، وها هي مرت سنوات طويلة لأجد نفسي أمام أسئلة أخرى أعمق وأخطر؛ هل لدينا أوطان حقاً؟ ام أن الوطن تحول لمجرد هيكل صامت نزوره ونبكي على أطلاله؟! هل الوطن بأرضه أم بناسه؟ هل نحن نصنع الأوطان أم الأوطان تصنعنا؟
الإجابة التي توصلت إليها ليست سهلة التفسير، فالأوطان تصنعنا، ولكنها في الأساس صنيعة لمن سبقونا.
ضحكت وأنا أتخيل نفسي أتكلم كالدكتور نبيه! الدكتور نبيه، كم اشتقت إليه، الدعوة التي استلمتها منه قبل يومين جاءت في وقتها فعلا.
" زينب.."
عاد هذا الشعور المدغدغ مع تسرب صوته من خلفي، شعور بالمشاكسة جعلني لا ألتفت إليه، ضحكته الخافتة داعبت أذني عندما مال نحوي ليقول " هل سنلعب هذه اللعبة كثيرا حبيبتي؟ " لم أحتمل أكثر فأطلقت ضحكتي المكبوتة وأنا ألتفت نحوه لأستند بذراعي على حافة المصطبة الخشبية بينما هبط خليل من عليائه ليجلس القرفصاء أمامي، كان يتطلع اليّ بعيني يفيض منهما الحب وشيء من التخوف والارتباك، إنه قلق، أعلم ذلك، ما يزال ينتظر.
اسند إحدى ذراعيه بجانب ذراعي ثم مد أصابعه لتلامس خاتمي أو خاتمه إن صح التعبير، قال بصوت مبحوح وعيناه تلاحق خصل شعري المتطايرة " كم تحبين اللعب بقلبي، أنت غير عادلة على الإطلاق!"
تلك النظرة وهذا الدفء فيها كان يؤثر بي أكثر من دفء الشمس الذي يضرب ظهري من الخلف، التزمت الصمت وأنا أتطلع لملامح وجهه الوسيم، لقد بذل كل جهده ليجعلني أرضى به، يمنحني الدعم والحب ومحاولة التفهم قدر الإمكان، في المقابل احترمته لإنه كان واضحا بأنه يريد أشياء في المقابل، يريد أن أتفهمه وأتفهم طبيعة بلده ومجتمعه، أراد أن أكون إما صالحة واعية بالدين حتى أجيد تعليمه لأبنائه، لقد كان يريد التكامل بيننا، أراد الأخذ والعطاء، مثل.. الوطن! أجل مثل الوطن.
تنهيدة خرجت من أعماق روحي عندما ارتفعت يد خليل لتلامس شعري، شعور كان يخالجني منذ فترة أصبح أكثر قوة، شعور بأن خليل هو وطني، فبعد كل هذه السنوات، وبعد شعوري الممزق بأني لا وطن حقيقي لي، اكتشفت أني يجب أن أكون واقعية، أن لا أحلم كثيرا، وأن أرضى بانتماء قد لا يكون بقوة الانتماء لوطن حقيقي، ولكنه على الأقل انتماء لا يستهان به، فيه التكامل الضروري؛ أخذ وعطاء، عطاء.. عطاء..
" أعطني موافقتك زينب ولا تتركيني أتلظى بنار الانتظار أكثر " صوته المبحوح بدا كتغريد البلابل في صباح رائع، وهذا قد يبدو مضحكا مع صوت خليل الرجولي لكن ربما لأن تأثير صوته عليّ كتأثير صوت الطيور المغردة، وبثقة نابعة من أعماقي قلت وأنا أبتسم بسعادة " نعم "
صوت رنين هاتفي النقال قطع هجوم خليل العاطفي السافر والذي بدا كمحاولة منه لتحطيم أضلعي بين ذراعيه، تململ خليل وهو يقول بنزق وأنفاس متلاحقة كأنفاسي " اتركيه! " لكن نظرة لهوية المتصل جعلتني أنظر إليه بتوسل وأقول له همسا " إنه الدكتور كورشان، دعني أرد عليه، أحب أن يكون أول من يعرف " تنهد بإحباط وسمح لي بالرد عليه دون أن يفلتني من ذراعيه، فتحت الخط وأنا أقول ببهجة " مرحبا دكتور، لدي.." قاطعني الدكتور بصوته المضطرب ليقول بشكل مباشر " ريتشيل! العقد الأثري سُرق!"

**********************

ختاماً

يكفيك عبثا بي، لا أطيق ظلمة صفحاتك، ما عدت قلمك المطيع يا سيدي سأثور عليك وسأجعل هذه الصفحات السوداء بألوان الربيع، أعلن تمردي عليك أيها الكاتب .. سأثور على سلطتك وأتولى السرد من تلقاء نفسي دون تحكم أو توجيه منك.. لن أكون ذلك الوسيط بينك وبين قارئك ...
ولن ألعب دور الراوي الذي يرتب أفكارك وينظم أوراقك، تحملني أحيانا أكثر مما أحتمل وتمرر من خلالي أفكاراً ومواقفا، وتكممني عن أخرى أود البوح عنها .. أتلصص على شخوصك وأبطالك
لأعرف أسرارهم وخباياهم ودواخل نفوسهم ..
نبيه .. ستكون أنت نفسك موضوع سردي وبطل حكايتي .. وسأمارس عليك ما كنت أمارسه، بتوجيه منك، من تلصصي على شخوصك الذين كانوا أكثر وفاء منك تحدثوا عنك، إنك ربما عثرت على موضوع لتزج بأفكارك وآرائك وتكتب حلما تتمنى أن يكون واقعا ..
ثبت نظـاراتك السميكة، ثم سويت ما تشعث من شعرك الأبيض بأطراف أناملك .. تترك الباب مواربا .. والأنغام تدعو الأفكار لتملأ رأسك فتتزاحم ثم ترتبها بفنجان قهوتك بعدها تعصرني بين الإبهام والسبابة على صفحاتك..
دعني أتنفس أنت تخنقني، عندما تجعلني مسيراً لأقدار شخوصك، وحملتني عبء انفعالاتهم، اخترت أحداث الرواية فجعلتها تشابه واقعك، واختلقت من خيالك (زئبقا) كالجشع الغربي الذي لا مكان له، يوماً هنا ويوماً هناك، و(حرباء) متلونة، لا لون لها كالصهاينة تدخل كل بيت هو بيتها تأكل من خيراته، تتنكر بهوية ليست هويتها وتسكن أرضا ليست أرضها، سارة جوزيف جعلتها أمريكا صديقة نعلم بأنها ليست بصديقة ونتشبث بصداقتها وترسم لنا حياة وتنسج عنا حكايات داخل حكايتنا، حتى أنت أيها العجوز المغترب كان لك دور على الصفحات تبكي الوطن وتجعل من سارة يوسف ابنة الحي الحبيبة مثالا على هجرة الوطن من الوطن، وتجعل منها خائنة كــ سارة جوزيف فكلاهما واحد، كلاهما اغترب ونسي الوطن والهوية
أما أنت فمن المغتربين الذين يقتلهم الحنين واليأس هاجر من الوطن وما زال يلحق به وطنه إلى مكان هجرته، فيجده في صوت الضاد العربية فتغرق بين الكتب تتنفس بعمق رائحة الماضي، كتبت على صفحات مظلمة عن عرب في أحضان العثمانية البريطانية، حيث توجد في بعض اجتماعات نسوية أسميتها اجتماع الـ (نون العربية).
ثم أسرتني بين أناملك لأنزف على صفحاتك التي لن تجد لها قارئا كما تتمنى يفهم؛ فما عاد أحد يقرأ في أمة اقرأ .. ولا يفهم ما يقرأ إن قرأ..
أيها الكاتب أني انسحب الآن، وأنا أضع حدا لسردي هنا .. فدوري كراوي انتهى .. وعليك أنت أن تتدبر أمر البقية .. لا شك أن القارئ ينتظر معرفة نهاية هذه الرواية التي تجمع فيها فلسفة أكثر من كاتب فهي كمسرحية لويجي ببرانديللو (ست شخصيات تبحث عن مؤلف) حيث وثق فيها المؤلف فلسفة مجنونة لا تختلف عن صفحاتك، وفيها لمحات من فوضى حواس أحلام مستغانمي فالبداية بالغلاف ونوافذ على شاشة حاسوبك، هل تكون النهاية كنهايتها غير متوقعة؟، وابحث لك أيضاً عن سارد يجيد السرد بضمير آخر .. فربما صفحاتك هذه ما هي إلا أحد كتب عبد الوهاب مطاوع مجموعة من قصص في صندوق بريده، وأخيراً عزيزي الكاتب أود أن أقول لك القصص لا تنتهي بمجرد اكتشاف الراوي..
أظنك تجمع أمتعتك لتعود للوطن بعد أن رحلت منه شاباً يافعاً فتعود شيخا عجوزا لتحمله أعباءك فاعلم أنها (العودة من أجل الرحيل). يبدو عنواناً مناسباً، لمشروع رواية آخر..
هنا.. توقف نبيه عن الكتابة .. وكأنه أفاق من غيبوبته .. هذه الغيبوبة التي انطلق فيها القلم يعدو على الصفحات رغم أنفه..
الكلمات التي كتبها على لسان روايته المتمردة كأنه يجلد بها ذاته. لحظة تصارعت فيها أحلامه مع واقعه .. عقله مع جنونه ..حدق في السطر الأخير.. تنهد.. ثم ابتسم وحرك شفتيه هامساً ..
حسنا يا سارة لن نختلف ونفترق بسببك من جديد لنكتفي بهذا القدر.. ثم مال على الصفحة الأخيرة من روايته .. وكتب وسط السطر الخالي :
" تمت بحمد الله "


*********************


انتهت الحلقة الثامنة والأخيرة
قراءة ممتعة



التعديل الأخير تم بواسطة كاردينيا الغوازي ; 24-10-22 الساعة 10:15 AM
قصص من وحي الاعضاء غير متواجد حالياً  
التوقيع
جروب القسم على الفيسبوك

https://www.facebook.com/groups/491842117836072/

رد مع اقتباس
قديم 23-10-22, 10:26 PM   #15

Fofa shine

? العضوٌ??? » 386385
?  التسِجيلٌ » Nov 2016
? مشَارَ?اتْي » 462
?  نُقآطِيْ » Fofa shine has a reputation beyond reputeFofa shine has a reputation beyond reputeFofa shine has a reputation beyond reputeFofa shine has a reputation beyond reputeFofa shine has a reputation beyond reputeFofa shine has a reputation beyond reputeFofa shine has a reputation beyond reputeFofa shine has a reputation beyond reputeFofa shine has a reputation beyond reputeFofa shine has a reputation beyond reputeFofa shine has a reputation beyond repute
افتراضي

رواية رائعة جدا متناغمه و مسلية و عمل جماعي مبدع

Fofa shine غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 23-10-22, 10:31 PM   #16

قصص من وحي الاعضاء

اشراف القسم

 
الصورة الرمزية قصص من وحي الاعضاء

? العضوٌ??? » 168130
?  التسِجيلٌ » Apr 2011
? مشَارَ?اتْي » 2,558
?  نُقآطِيْ » قصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond repute
افتراضي

الحفل



غارق في الصمت، يقود سيارته متوجها بها إلى فندق لاندمارك بحي اريليبوني الأنيق بوسط لندن..
أصابع يديه تعزف بعصبية على مقود السيارة، ديمه تجلس بجواره، مستغرقة في قراءة الصفحات الأخيرة من هذه الرواية التي أهداها لهما السيد نبيه وعلى النسخة إهداء لهما، بينما يجلس الأطفال بالمقعد الخلفي.
ترفع ديمه عينيها عن الصفحات، تختلس نظرة سريعة إلى يدي إياد المرتبكتين على مقود السيارة، ثم تعود للقراءة من جديد.. وما إن انتهت من الفصل الأخير؛ حتى تحدثت إلى إياد بصوت هادئ دون أن ترفع عينيها عن غلاف الرواية المعنون بـ "نون عربية"
-ماذا بك إياد؟! أراك منفعلا!
-لم أكن أتصور أن السيد نبيه يصفني في روايته بهذا الوصف!.. أنا أختلس النظرات إلى سيقان النساء؟!.. ومن؟ جاراتي!.. كم أود الآن أن ألكمه لكمة أحطم بها فكه على هذه الكلمات التي كتبها عني.
خضبت دیمة شفتيها بابتسامة كأنها ارتشفت سحر الحزن من عينيها، ونظرت من طرف عيونها الكواحل إلى إياد، ثم أردفت متسائلة بسخرية:-
- هات عينك في عيني، هل تجنى عليك السيد نبيه؟!.. ألست هذا الرجل؟
-ما زلت على عنادك؟!.. أنا واثق من أن نبيه لم يكتب هذا عني إلا بوحي منك أنت؛ أنت التي تعتبرينه الصديق الصدوق .. حتى أني شعرت وأنا أقرأ الرواية وكأنه كان ثالثنا ! يرى ويسمع كل ما كان منك ومني.
-هكذا انت؛ تخطئ ثم تلقي بالتبعة علي، ولكن ليس بعد الآن.. لماذا لم تقل أنه ربما رآك وأنت تفعل يوما؟.. لقد رأيت في سطور نبيه أشياء لم أكن أراها بهذا الوضوح في حياتنا معا، وقد قال نبيه على لساني ما تمنيت قوله كثيرا، ولم يمنعني إلا بعضٌ من الأمل في تغييرك.
-حبيبتي.. أقسم لك انـ..
قاطعته دیمة بحزم وهي تقول: لا تقسم بشيء، ها قد وصلنا الفندق.. ولابد أن نحضر الحفل كزوجين سعيدين..
ثم ضحكت وهي تترجل من السيارة أمام الفندق و تقول:
-لم أكن أعلم أن محشي ورق العنب الذي أصنعه يعجب نبيه إلى هذا الحد، فقد جعل مطبخي
مرتعا لشخصياته!".
***
دخلا الفندق، وقفا عند باب هذه الصالة المنيفة وأطفالهما بينهما.. فإذا بالسيد نبيه يتجه إليهما مستقبلاً بترحاب؛ ابتسمت له ديمه ابتسامة ودود وهي تقول : مبروك سيد نبيه.. رواية رائعة بحق .. فمد يده يسلم عليها بينما عيونه تنظر إلى إياد الذي تبدو على وجهه ملامح الاستياء، ولكن نبيه ضحك وتأبط ذراع إياد وهو يقول له: " هل أغضبتك روايتي يا إياد؟.. لا تخلط الخيال الروائي بالواقع يا صديقي.. على كل حال؛ بيننا حديث يطول بعد الحفل، فأنا حزين لما وصلتما إليه أنت و ديمه في الآونة الأخيرة؛ إنها إنسانة رقيقة وتحبك، وأعلم أيضا أنك مغرم بها حد الثمالة؛ ولكننا نحن العرب، دائما ما يأخذ منا العند مأخذه، كل واحد منا يريد أن يكون هو مركز الكون والباقون طوافين حوله.
قاطعته دیمة قائلة: "سأترككما لتنضما إلى باقي عصبة الواو، أما أنا فسألحق بمجلس النميمة هناك..."
وأومأت إلى طاولة في زاوية من الصالة تجلس إليها خولة وعلياء ومينة، رؤوسهن متلامسات، يتهامسن.
انضم السيد نبيه وإياد إلى الطاولة التي يجلس عليها خالد وعمرو، كانا جالسين وأمام كل منهما حلويات شرقية راحا يفترسانها في صمت؛ حتى التفت عمرو ناحية زوجته بثوبها الأحمر الأنيق، ثم همس لخالد سائلا إياه:
- زوجتك تعبث برؤوس نساء العمارة!؛ أراها منذ وصلنا وهي تصب الهمسات صبا في أذن علياء ومينة.
ضحك خالد حتى تساقطت بقايا الحلويات من فمه وهو ينظر إلى زوجته التي مالت برأسها على رأسي علياء ومينة، وكأنها لا تجلس على المقعد؛ بل منحنية وهي تقف على أطراف أصابع قدميها وتسند
جسدها بمرفقيها على الطاولة.. في يدها نسخة من الرواية، وشفتاها من خلف النقاب تكادا تلمسان أذن علياء، ورأس مينة بين رأسيهما تسمع وهي صامتة؛ فقال خالد مجيبا عمرو:
- لابد وأنها الآن تقنعهما بأن هناك مؤامرة تحاك ضدهما.. أقسم لك! إنها الآن تحدث علياء ومينة عن نبيه وروايته وما بها من أحداث، أو تفند لمينة مؤامرات علي ومازن عليها..
اقترب السيد نبيه منهما ومعه إياد فإذا بعمرو يضحك مرة أخرى بصوت عال جعل كل من بالصالة ينظر نحوه وهو يقول: "تعال هنا أيها الرجل العجوز من أين عرفت اسم رئيسه وطباعها؟!.
فإذا بنبيه يشاركه الضحك ثم يقول وهو يشير إلى آية: من رويتر العمارة! فقد كانت آية في هذه اللحظة تتوسط أطفال العمارة على طاولة الأطفال في نهاية الصالة، بعد أن انضم إليهم أطفال إياد أيضاً.
***
وصدق حدس خالد عن زوجته؛ فقد كان مجلس النميمة منعقدا، وخوله تقود دفة الحديث وكأنها حكيم صيني يقص على تلاميذه في معابد الشاولين حكمة الأقدار، بينما مينة وعلياء وديمة التي انضمت إليهن يستمعن وكأنهن يشاهدن فيلما مخابراتيا مثيرا، والحوار بينهن يدور بعفوية ومرح.
خوله: جالكم كلامي؟ صدقتوني الحين؟!.. أنا من البداية أشك في نبيه وأنه كان يتجسس علينا... لا تحاولوا تقنعوني أن الموضوع موضوع رواية وبس.. لا لا لا، ذا شغل مخابرات!.. أنتوا تظنون أن ساره ذي شخصيه من خياله؟!.. لا طبعا يا خايبة أنتي وهي، ذي أكيد مندوبة جهاز المخابرات، وحلقة الوصل.
علياء: أيوه يختي ومين سمعك.. كان بيتجسس أكيد!.. إلا حكاية الضحكه الرقيعة دي كمان!..ومش كده وبس؛ كمان بـقوم من النوم أتطوح وأترقص!!.. حتى حتة الفستان الأحمر اللي اشتريته مرة من نفسي، فضحني عليه!
ضمت مينة شفتيها وهي تتوكأ على كلماتها وتسألهن: ألم تلاحظن عنوان الرواية؟! (نون عربية).. نفس الاسم الذي أطلقته ريتشيل على اجتماعاتنا عندها؟! .. هنا؛ ألقت خولة بجسدها على مقعدها، وضاقت عيونها الحوراء الواسعة سعة المشرقين، وراحت تعبث في ذقتها بأصابع يدها من تحت النقاب؛ فقد أمسكت طرف خيط جديد المؤامرة محتملة بطلتها ريتشيل، ولكن علياء قطعت عليها لحظة الصمت المتأمل، وهي تقول..
علياء: آآه.. مش بعيد يا مينة والله... تلاقيها كانت بتعمل لنا اجتماعات عشان تعرف أخبارنا وتنقلها له!؛ والأخ يكتب براحته.. ليلتها سوده السهنه دي!
مينة: مجرد احتمال يا علياء؛ لإنها لو ريتشيل هي من نقلت له أخبارنا.. لا أظن إنها تنقل له علاقتها مع خيللو بالتفاصيل دي!
تتحدث النساء بعفويه، مشغولات بالتحليل للرواية، ولم تلاحظن أن أية انضمت إليهن وهي تقف بجوارهن منذ حين.. حتى قالت آية فجأة كلمات جعلتهن تنتبهن لوجودها..
آیة: صحيح يا ماما؟!.. هي طنط ريتشيل كانت مخبية عمو خليل في المطبخ يوم زرناها؟
علياء تقرص ذراع ابنتها : هس، اسكتي يا مقصوفة الرقبة حد يسمعك.. مش بعيد تكوني إنتي يا محتالة اللي كنتي بتتسحبي من لسانك وتحكي لنبيه على الضحك و الفستان وعن رئيسة وابنها.
آية: وأنا مالي كمان ... والله عال يا عبد العال.. في الآخر حتتهموني أنا!!
سمعت خولة هذه الكلمات الأخيرة على لسان علياء؛ فانتبهت من شرودها وتفكيرها والتفتت إلى آية بتركيز عميق، وراحت تفكر من جديد.. ولم تفق من تفكيرها إلا عندما ربتت مونيا على كتفها، والتي وصلت هي وزوجها لتوهما، ووقفت تسلم على جاراتها، بينما انضم ياسر إلى عصبة الواو.
***
وفي هذه الأثناء، عند الباب؛ كانت لين تتأبط ذراع راشد الذي يحيط خصرها النحيل بساعده. لمحهما نبيه فأسرع إليهما؛ فقد كان يحب لين كثيرا؛ لأنها تذكره بحبه المفقود، بشخصيتها الحالمة الناعمة التي تشبه معشوقة الصبا سارة.
ما إن وصل إليهما حتى تهللت أسارير نبيه وهو يقبل جبين لين: لماذا تأخرتما؟ ثم ابتسم لها وهو يقول: "لم تتعبني شخصية في الرواية كما أتعبتني لين؛ فقد كنت كلما كتبت عنك لأجعل منك إسقاطا على فلسطين، تسرقني نعومتك لأجد القلم ذهب إلى حروفه الرقيقة وصوره الناعمة؛ فأترك الحديث بلسانك وأسرع بتناول شخصية أخرى حتى لا تتوه خيوط الرواية من يدي.."
هنا قاطعه راشد مازحا: "ما هذه الحادثة الفظيعة التي دبرتها لي أيها العجوز الشرس؟ هل تعتقد فعلاً أني لا أعرف حبيبتي ولو تقمصت شخصيتها كل حرباواتك! أنا أعرف لين وأراها وأنا مغمض العينين!؛ عبيرها يدلني عليها.." ثم ضم رأسها إلى صدره وهو يكمل: "هذه بستاني الذي لا أتوه عنه يا نبيه..”
ضحك نبيه وهو يربت على كتف راشد ويقول بصوت تكسوه الحكمة: "لا تحزن يا راشد؛ فلم تكونوا إلا إسقاطا لفكرة أردت أن أرسمها على ألسنتكم ومن خلالكم ولم تكن حادثة السيارة إلا إسقاطا عن اندفاع العرب المتهور دون حساب ولا روية؛ فتكون النتيجة هزيمة ونكسة كما حدث عام 67 ..
نحن العرب يا راشد ظاهرة انفعال وردود أفعال متسرعة!.. لا نترك لأنفسنا فرصة لقراءة المعطيات والنتائج المحتملة..
وقبل أن يكمل نبيه حديثه، إذا بميكرفون المنصة ينقل صوت منظم حفل التكريم وهو يدعو الجميع للجلوس و في اللحظة التي دخلت فيها ريتشيل وخليل إلى القاعة، إلا أن نبيه أشار لهما من بعيد بالتحية وتوجه مسرعا إلى منصة الحفل ليجلس بين رجلين؛ أحدهما ناقد فني شهير، والآخر صاحب دار النشر التي نشرت الرواية.. وأنصت الجميع.. بينما أضواء الفلاشات تومض متتابعة من كاميرات الصحفيين، ولما هدأت كاميرات التصوير بدأ هذا الناشر الكبير كلمته الافتتاحية:
(السيدات والسادة.. الليلة ليلة عرس لصديقنا الكاتب الألمعي، السيد نبيه... بعد أن قرر مجلس أدباء المهجر منح روايته نون عربية لقب رواية العام، وهي تستحق عن جدارة؛ فقد تمرد فيها كاتبنا الفذ على كل أطر وتقاليد الرواية، مزج فيها الخيال مع الواقع مزجا متجانسا حتى جعلنا نقرأ الرواية ونحن لا نستطيع أن نميز أي المساحات من الواقع وأيها من الخيال.. والأبدع أنه تكلم بلسان شخصياته كما لو كان قد تقمص هذه الشخصيات وذاب في خلاياها.. حتى هذه الشخصيات التي من خیاله؛ جعلها أمام أعيننا مفعمة بالحياة والحركة.. أنا لن أخوض في تفاصيل الرواية؛ فأنتم أقدر مني على إدراك حجم الإبداع بها، ومن الأفضل أن أترك الخبز لخبازيه .. لنستمع لرأي ناقدنا حول هذا العمل الجديد من نوعه).
توقف منظم الحفل عن حديثه، وأشار إلى هذا الناقد الروائي منتفخ الأوداج ذي الكرش الممتلئ، الذي تنحنح بدوره، ثم بدأ كلمته قائلا:
(علياء، دیمة، خولة، مونيا، ريتشيل، مينة، و لين).. سماوات نبيه السبع التي عرج إليها وفيها، سبع شخصيات عشنا معهن على الصفحات على أنهن شخصيات من نسج خياله، وفي الحقيقة هن شخصيات حية تجلسن الآن بينكم في هذا الحفل وحول هذه الموائد.. بينما على الجانب الآخر هناك آخرون؟
(الزئبق، الحرباء، و سارة) هي شخصيات من خياله ولكنه بحرفية أقنعنا أنهم يعيشون واقعنا..
وفي النوعين من شخصياته؛ الواقعية والخيالية، سبح نبيه مع التيار وصده في آن واحد؛ فعادة أي كاتب ينسج شخصية من الخيال، ويقنع قراءه بأنها شخصية حقيقية.. وقد فعل نبيه هذا مع شخصياته الثلاث التي نسجهن من خياله، بينما استطاع بحرفية أن يفعل العكس بشخصياته السبع الرئيسيات؛ ليسير في عكس الاتجاه.. ويحول لنا الواقع إلى خيال روائي.. ولكن هناك شخصيتان، سرقنا فيهما نبيه بلصوصية الكتاب المخضرمين؛ فعشنا معهما على صفحات الرواية، ولم نقف عندهما طويلا.. أعلم أنكم تتساءلون أي شخصيتين أقصد؟.. إنها شخصية نبيه نفسه، وشخصية راويته سارة.. لقد استوقفتاني هاتان الشخصيتان في الرواية طويلا، واحترت طويلا في أمرهما و في قراءتهما.. علامات استفهام أقضت مضجعي واستنفرتني..
أن يكون الكاتب نفسه أحد شخصيات روايته؛ نادرا ما حدثت قبل ذلك ولكنها حدثت.. أما أن تتحول الشخصية إلى كاتب للرواية ويتحول الكاتب إلى شخصية لها؛ فهذه هي الأولى من نوعها؛ ففي
نون عربية كانت سارة هي الكاتب، ونبيه هو الشخصية.
لن أطيل عليكم في بناء الرواية؛ فما يمكن أن يقال في هذا الصدد كثير وكثير، ولا تكفيه أمسية احتفالية واحدة؛ ولكن سأخوض قليلا في المضمون..
أيها السادة.. مجمل القول علياء بفاتح أبوابها وباني حضارتها عمرو بن العاصية رئيسة، وخولة وسماحة والدها سعود، ومينة بتشتتها في حاضر هلامي لا ملامح له بين ماض من الزمان وآت، ولين الجريحة غدرا وخسة، وديمة بأزمتها التي أجلتها طويلا حتى قررت المواجهة، ومونيا المتمردة على الجميع في سعيها نحو خصوصية تأبي الانتماء لأي فصيل إلا ذاتها، وخليل الأتاتوركي اللاهث خلف ريتشيل لينتمي إليها، وريتشيل ذات الهويتين المتناقضتين.. والتي تحاول أن تجمع حولها الجارات وتكسب ثقتهم؛ هنا تأتي صرخة نبيه لجاراته، صرخته فينا قائلا:
لا تنسوا أنكم كنتم بطول التاريخ في نظرهم (بيس عرب) أي عربي قذر، ردد بروايته مقولة القوميين العرب "أفيقوا قبل أن يسلمكم تيوس الأستانة إلى ذئاب أوروبا؛ ثم لا تفلتون من أيديهم.. ثم تكتمل الصورة بهذه الشخصيات التي اختلقها من خياله؛ مس كاميليون.. الحرباء؟ هذه النهمة التي تأكل كل ما يقع تحت يدها، الشخصية التي بدأت على الصفحات محببة إلى النفوس لتكشف لنا عن وجهها الحقيقي يوما بعد يوم.. وكأن نبيه ينزع لنا عن وجهها القناع تلو القناع مع أحداث الرواية، لنراها على حقيقتها؛
هذه الحرباء التي أخضعت بأساليبها الشيطانية الغرب، الغرب الذي جسده نبيه في هذا الزئبق الذي لا يعنيه من أمرنا إلا ما نملك من ثروات...
لم تكن رواية نبيه تدور عن قصة نساء عربيات، لم تكن علياء امرأة من مصر؛ ولكنها كانت مصر بطيبها ورضاها وتحملها حتى تظن الضعف قد دب إليها، وفجأة بلا مقدمات تجد الشموخ قد دب في روحها ليتضاءل أمامها حكامها.. ولم تكن مينة فتاة من العراق؛ بل كانت العراق بكل ما يعانيه من ارتباك وبحث عن موضع لقدم ثابتة.. ولم تكن لين فتاة من فلسطين، ولكنها كانت فلسطين التي تبحث
الأمن والأمان.. وهكذا؛ لم تكن ديمة ولا مونيا ولا ريتشيل مجرد نساء من دول؛ بل كن الدول التي
تجسدت فيهن..
وقبل أن أختم حديثي؛ أتوقف طويلاً عند سارة، عند هذه المشاهد التي جمعتها مع نبيه بصفحة واحدة وكل صورة من هذه الصور.. أتوقف مذهولا! وأنا أرى نبيه قد تقمص شخصية راويته..
حالة فريدة من التوحد، تعقبها حالة فريدة من الانفصام في الشخصية؛ عندما يتنقل نفس القلم في حوار ثنائي، يخاطب نفسه ويتمرد عليها وهو متقمص لشخصية سارة، ويكون هادئ الطباع واثق الخطوة وهو في شخصية نبيه حالات من التوحد والانفصام، لا توصف إلا بـ "جنون العبقرية" أو "عبقرية الجنون "
انتهى الناقد من حديثه؛ ليمسك نبيه بالميكروفون وعلامات التأثر بادية على وجهه بسبب هذا الإطراء على عمله الذي فجر ينبوع الحياء في روحه.. قال كلمات يشكر بها المتحدثين، ولكنه أطال الحديث وهو يشكر جاراته وسط تصفيق الجمهور من الحضور، وابتسم وهو يشير إلى هذه الطفلة المرحة التي تجلس بين الجمهور وهو يقول: "وهذه آية، كثيرا ما كانت مصدري إلى الأحداث؛ كنت أسرد ما تنقله لي من حكاوي على لسان سارة وعلى لسان الشخصيات؛ فقد ساعدتني كثيرا من حيث لا تعلم.. كانتــ..."
توقف فجأة عن الحديث..
وقبل أن يكمل ماذا كانت؛ فجأة تحولت عيناه نحو باب الدخول للصالة؛ فجعل الجميع يلتفتون بتلقائية نحو الباب.. صمتت القاعة هنيهه؛ بعدها انطلقت الهمهمات، والنساء السبع تتهامسن في سؤال واحد:
"مين دي؟!"
عند الباب، كانت تقف امرأة فاتنة الجمال والأنوثة رغم بعض الشعيرات البيضاء التي تزين مفرقها..
أنها سارة يوسف؛ حب نبيه الخالد الذي لا يموت، ها هي تقف مبتسمة له من بعيد.. ترك الميكروفون، نسي الحفل، وساد الصمت من جديد..
سار نحوها مسلوب الخاطر والإرادة حتى وقف أمامها.. لم يتكلم، لم تتكلم هي؛ العيون تتعانق عناقا حارا في شوق انصهرت له حناياه، وفاض الحنين حتى تسرب دموعا من عيونها الجميلة كلؤلؤ وهاج،
فامتدت يدا نبيه إلى وجنتيها لتلتقطا لآلئها، ولكنها أمسكت يديه المرتجفتين، وبقوة العشق الكامن في الأعماق؛ ألقيا بنفسيهما في حضن طويل؛ ليقف كل من بالصالة، وينطلق التصفيق مدويا فترة طالت، بطول هذا العناق الذي يشاهدونه الآن.. العناق الذي كان حلما تشاهده الوسائد كل ليلة.
وانتهى الحفل؛ فأجتمع سكان العمارة حول نبيه وسارة، كانت ليلة غارقة في نهر المودة.. فضل الجميع أن يسيرا على الأقدام؛ تركوا سياراتهم، وراحوا يسيرون في شوارع لندن نحو العمارة، يتقدمهم نبيه وسارة تضع رأسها على كتفه وذراعها يحيط ذراعه.. بينما خولة تركت أشرف لخالد وأسعد لمينة، وراحت هي تشد الخطى خلف نبيه وسارة والفضول يجرها جرا لتكتشف ماذا يدبران..
علياء تدفع عمرو بكوعها كلما اقترب منها ليقرص خصرها وهو يقول: أنا غيران! خايف الفستان الأحمر ده يحول كل الرجالة في الشارع لثيران!.. فتهمس له وهي تتلفت مذعورة: "إحنا في الشارع يا ابن رئيسة.. إهمد بئه! .. وهناك خلفهم بمسافة؛ ريتشيل تتهادى أمام خليل الذي يسير بجوارها وكأنه يريد أن يحملها حتى لا تخطو على الأرض.. بينما سار الباقون تتوسطهم مونيا و ديمة ومينة، وحولهن جمع من رجال العمارة..
أما لين؛ فراحت تجري وتتقافز مع أطفال العمارة؛ يسبقون الجمع تارة، ويتأخرون عنهم تارة، يتضاحكون، ويوزعون الأدوار لتمثيل الرواية..
أيمن: أنا الزنبوق، وبسمة الحرباء.
آیة: (تضحك)... زنبوق مين؟!.. إسمه الزئبق يا عبيط؟
لين: وأنا مين طيب؟
أية: إنتي سارة.
لين: ليش أكون سارة؟.. ما أنا لين بطلة كمان!
آية: أنا علياء.
لين: إنتي كمان آية كنتي بطلة.
بسمة: أنا ما بحب الحرباء؛ أنا ماما، وعماد هو إياد
قالت لين: "اتفقنا؛ بسمة هي ديمة .. ثم تضحك معهم في طفولية وبراءة وتقول: ولماذا لا يمثل كل بطل شخصيته الحقيقية؟.. ألسنا جميعا أبطالاً للرواية؟.. هيا بنا إليهم لنقنعهم بالتمثيل معنا..
فتحرك آية شفتيها كامرأة عجوز، وهي تقول: "يووه! إنتي فاكرة ابن رئيسة حيرضى يلعب معانا؟! لكن لولو تعملها.."
وصل الجمع إلى العمارة، وأخذ كل زوج أسرته ليدخل شقته.. كانت ليلة ساحرة في جميع الشقق؛ قد استطاع نبيه في روايته أن يجعل كل بطل من أبطاله يرى نفسه ومن حوله بوضوح؛ فراح كل زوج يغازل زوجته ويطلب ودها في ليلة ملأ الحب فيها ردهات الصالات.. انبعثت الموسيقى الهادئة من جميع الشقق، حتى أن خولة خرجت ووقفت أمام شقتها، وأمارات التعجب على وجهها، وخاطرها يسألها ( ما الذي أصاب العمارة هذه الليلة؟!..وما هذه المؤامرة الرومانسية الجديدة التي دبرها هذا الجو الساحر!)
لولا أن خالد جذبها من ذراعها وهو يقول لها: يكفيك وقوفا بالخارج وتعالي حتى تنجح مؤامرتي!، ثم يحملها على ذراعيه..
الطابق الأول، كان هناك جذر شجرة الحب التي امتدت فروعها في شقق العمارة؛ نبيه وسارة، وثالثهما سنين من الحنين واللوعة والأمل الذي تعلق بأهداب الحياة حتى نجا.. قالت "أحسنت حبيبي.. سأظل مدينة لكل أبطالك الذين جمعوني بك من جديد.. ما إن رأيت روايتك بالمكتبات، وقرأتها، وعشت صفحاتك مع سارة جوزيف؛ حتى حملني الحنين وطار بي إليك، البحار وعبر بي السنين لأعود بين ذراعيك فتاة العشرين.. أحببت كل بطلاتك، حتى الزئبق والحرباء رغم رفضي لهما..
ثم توقفت عن الهمسات وسألته بجدية: كيف جسد خيالك هذه الشخصيات وكأنها حقيقة؟! تبسم نبيه ، ولم يجيبها؛ بل امتدت يده إلى جريدة قديمة على أحد الرُّفُف، فتحها، ووضعها أمام عينيها؛ لتقرأ على صدر الجريدة، هذا المانشيت الأحمر العريض...
لص وزوجته يسرقان عقدا أثريا من متحف طوب قابي بتركيا.
قرأت سارة الخبر، ثم ألقت بالجريدة جانبا، ووضعت رأسها على صدر نبيه من جديد وراحت تترنم مع مارسيل خليفة الذي ينبعث صوته من الجهاز على الرف ...
" أني أخترتك يا وطني "




*****************

Dodo Diab likes this.


التعديل الأخير تم بواسطة كاردينيا الغوازي ; 24-10-22 الساعة 10:16 AM
قصص من وحي الاعضاء غير متواجد حالياً  
التوقيع
جروب القسم على الفيسبوك

https://www.facebook.com/groups/491842117836072/

رد مع اقتباس
قديم 24-10-22, 09:49 PM   #17

قصص من وحي الاعضاء

اشراف القسم

 
الصورة الرمزية قصص من وحي الاعضاء

? العضوٌ??? » 168130
?  التسِجيلٌ » Apr 2011
? مشَارَ?اتْي » 2,558
?  نُقآطِيْ » قصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond reputeقصص من وحي الاعضاء has a reputation beyond repute
افتراضي

الخاتمة
من تحت رمم الأجيال وإنقاص الدهور وخرابات العصور، يسمع أنين النفوس المتألمة وعويل الأرواح جبارة مهشمة، بليت الأزمان ولم تبل بلواها، وفنيت الأجيال ولم تفن مصائبها.. وزحزحت عروش دول وبادت شعوب وأمم، ولم تزحزح عنها اللعنة ولا نقض الحكم القديم..
دائما وهي تتغنى بالكرامة، ولكنها خانعة في ذل..
تشاهد فيلم الحدود، والحلم بالوحدة العربية، ونسمع الحلم العربي والأرض بتتكلم عربي، ونردد الشعارات المهترئة.. جيل لم يتعاف بعد من الكذبة الكبيرة؛ القومية العربية التي لم تخلف لنا إلا مزيدا من الخنوع للأعداء بينما الأجداد أنها هي الخلاص من العثمنة؛ فوقعنا في مصيدة الغرب الأوربي، والرأسمالية الأمريكية، ومازلنا نضحك كلما سمعنا (نحن بنسكر وبنسكر لكن بأصول..)
"نون عربية"
قصص أحلام، نحكي فيها عن الحاضر؛ فـقصص الماضي ما عادت تعنينا، نحكيها استشرافا بمستقبل تشرق فيه شمس حريةٍ وعدالةٍ تضمن الكرامة للعربي..
مستقبل ننزل فيه عن أرجوحة النظم بين اليسار واليمين، مستقبل لا نكون فيه كقطعتي نرد في يد زئبق، ولا ورقة كوتشينة في يد حرباء.. غد نرفض فيه أن نكون إناء محاشي ونسترد فيه ثياب لين.
خاتمة نون عربية
" نون عربية "
معا كنا نمخر عباب الصفحات وقد أرخى السواد بذيوله على صفحات، وتجلت الحرية بأنوارها الساطعة بألوان الطيف في صفحات.. وكان نبض قلوبكم المحبة وعبق أرواحكم النقية، مدادا لأقلام رسمت بالخطوط العربية نسخها ورقعتها، بالكوفي والثلث والديواني؛ حرفا واحدا بقلم واحد، قسما مقدسا قرآني
النكهة.. {ن والقلم وما يسطرون}، حرف واحد لكنه حوى فاحتوى، جمع معناه الحكمة من أطرافها؛ لنختار بين حاضر محبرته ومداده لمن قرأ فوعي، وبين ماض ابتلعنا فيه الحوت..
ها هي الأقلام تصل إلى نهاية النون العربية، وضعت النقطة عليها، وعجزت أن تكتب " تمت "؛ فمازال الاختيار قائما، ومازلنا ببطن الحوت؛ فاستبدلت تمت بحمد الله، بـ لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين .
تمّت بحمد الله



التعديل الأخير تم بواسطة ~sẳrẳh ; 09-11-22 الساعة 08:34 PM
قصص من وحي الاعضاء غير متواجد حالياً  
التوقيع
جروب القسم على الفيسبوك

https://www.facebook.com/groups/491842117836072/

رد مع اقتباس
قديم 25-10-22, 12:51 PM   #18

نغم فارس

? العضوٌ??? » 470271
?  التسِجيلٌ » Apr 2020
? مشَارَ?اتْي » 76
?  نُقآطِيْ » نغم فارس is on a distinguished road
افتراضي

تسلم الايادي محلمة وطنية رائعة شكراً لك من ساهم في كتابتها♥️♥️♥️

نغم فارس غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 25-10-22, 01:08 PM   #19

نغم فارس

? العضوٌ??? » 470271
?  التسِجيلٌ » Apr 2020
? مشَارَ?اتْي » 76
?  نُقآطِيْ » نغم فارس is on a distinguished road
افتراضي

تسلم الايادي ملحمة وطنية رائعة شكراً لك من ساهم في كتابتها♥️♥️♥️

نغم فارس غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 27-10-22, 10:09 PM   #20

عربية بنعبد الله

? العضوٌ??? » 494765
?  التسِجيلٌ » Nov 2021
? مشَارَ?اتْي » 26
?  نُقآطِيْ » عربية بنعبد الله is on a distinguished road
افتراضي

تسلم الانامل الذهبية
تستحق عن جدارة ان تكون رواية العام


عربية بنعبد الله غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 11:45 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.