آخر 10 مشاركات
قيود ناعمة - ج1سلسلة زهورالجبل - قلوب زائرة - للكاتبة نرمين نحمدالله *كاملة&الروابط* (الكاتـب : noor1984 - )           »          رهين الشك - كارول ويستون - عبير دار الكنوز [حصرياً على منتديات روايتي] (الكاتـب : Andalus - )           »          التقينـا فأشــرق الفـــؤاد *سلسلة إشراقة الفؤاد* مميزة ومكتملة * (الكاتـب : سما صافية - )           »          ومضة شك في غمرة يقين (الكاتـب : الريم ناصر - )           »          ثمن الكبرياء (107) للكاتبة: Michelle Reid...... كاملة (الكاتـب : فراشه وردى - )           »          ليلة مع زوجها المنسي (166) للكاتبة : Annie West .. كاملة (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          503 - الحب يصنع المعجزات - ميرندا لى - ق.ع.د.ن ( إعادة تنزيل ) (الكاتـب : * فوفو * - )           »          ❤️‍حديث حب❤️‍ للروح ♥️والعقل♥️والقلب (الكاتـب : اسفة - )           »          نبض قلبي/للكاتبة دانة الحمادي (الكاتـب : اريجو - )           »          لعنتي جنون عشقك *مميزة و مكتملة* (الكاتـب : tamima nabil - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء

Like Tree699Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 29-09-23, 04:05 AM   #211

فاطمة محمد عبدالقادر

? العضوٌ??? » 478303
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 752
?  نُقآطِيْ » فاطمة محمد عبدالقادر is on a distinguished road
:jded:



الفصل الحادي والثلاثون
"البدء المنخفض"

قدرٌ محتوم كنتُ به على دراية
مُنعَّمة عِشتُ وكان عَيشك غاية
بالوهم بنينا صرحًا..
وخِلسةً أملنا فرحًا ..
بخلافنا آمنت وكنا للنقيض آية
فبداية لمعانك ليَ عتمة النهاية


في ألعاب القوى، يبدأ المتنافسين من نقطة منخفضة استعدادًا للعدو .. وعند إشارة الانطلاق يتدرج الارتفاع حتى الارتقاء النقطة القُصوى، والسرعة المُثلى لبلوغ الهدف..
أهم ما في الأمر هو إجادة تحديد الهدف ووقت الانطلاق .. فالقناص الماهر لا يملك إلا رصاصة واحدة في ذخيرة بندقيته.. قد تنهي معركة بأسرها.

صف عمر سيارته على مسافة بعيدة من ذلك الميدان، فترجلت ضي أولًا لتقف أمام السيارة قائلة بغضب فيما يلحق بها عمر:
_إلى متى عليَّ الفرار والاختباء وكأنني ارتكبت جريمة؟ هؤلاء الأوغاد هم من عليهم الفرار وليس أنا!!
أكملت بانفعال وهي تحاول ضبط وشاحها بلا جدوى:
_لم أعد لآخذ سيارة عمي مختار كي لا يرصدوا أرقام لوحتها .. وأخشى العودة إلى المنزل الآن.
تنهدت بعمق صامتة هنيهة .. كيف يُعد القفز من قمة جبل إلى سفحه ممتعًا إلى بعض المغامرين بينما يداهمها الشعور ذاته الآن مشوبًا بمرارة الإحباط وعلقم الإنهاك؟
استطردت بعد قليل شاردة في الفراغ:
_أحلم بالهروب إلى مكان آمن أشعر فيه بالاطمئنان والسكينة .. هل كل ما أنا فيه لأنني كنت أمينة في نقل جريمة تحدث إلى الشرطة ولم أسلك الصمت؟ تبًا .. لم أرَ أحدًا من قبل يشقى لأنه أمين، باتت القيم عديمة القيمة.
دنا منها عمر يحيطها بذراعيه وكأنه يحميها من قسوة العالم حولها، ثم رد وقد لمست كلماتها شعورًا زاره ذات مرة:
_أنا رأيت من قبل أمينًا يشقى بأمانته .. لو تريدين رأيي فالأمر غير مثير للاندهاش .. إن كان التمسك بهذه المعايير سهلًا لما وُصفت بالسمو.. يصعب على الكثيرين سلك الطريق الصحيح لكثرة عراقيله.
سكنت ضي مقتنعة بوجهة نظره ولم ترد .. بل زحفت بأذنها على صدره قائلة:
_نبضاتك سريعة .. هل تسببتُ في قلقك من جديد؟
تنهد بابتسامة صغيرة .. قبل أن يجيب:
_نعم .. أنتِ أمانتي التي تشقيني.
رفعت رأسها إليه بعينين متفاجئتين قائلة:
_أنا؟ لم أعد أمانة لقد عدت إلى معارفي بالفعل .. لا تشغل نفسك بأمري كثيرًا لقد حدثتك كيلا تذهب حيثما اتفقنا وتصطدم بهم، أظنهم يعرفونك أيضًا وإن لم يأتوا لتحصيلك.
عقب مذهولًا:
_لا أشغل نفسي بأمرك؟
أومات برأسها مؤكدة وهي تجيب:
_نعم، كنت أحسب أنهم سيدعوني وشأني هنا، لكن يبدو أنني كنت مخطئة .. وجودك معي وحده يشكل خطورة عليك .. لديك أمك وأختك، ولديك جدك وابن عمك.. لديك عائلة عليك رعايتها والاهتمام بها أكثر مني، سأكون أنانية إذا تمسكت بك .. ليس عليك التورط معي أكثر من ذلك.
مد سبابته وإبهامه ليطبق فمها قائلًا بانزعاج:
_ربما لم تتمكني من إدراك هذا بعد، لكنك زوجتي الآن .. أي أنك فرد أساسي من عائلتي، لستُ رجلًا يترك زوجته خلفه عند تأزم الأمور.. يا حمقاء .. أنا راضٍ بالمشقة ما دامت معك ولأجلك.
استطرد حين لم يأتِه ردًا منها:
_يمكنك المجيء معي إلى المنزل لبعض الوقت حتى تهدأ الأمور بالقرب من منزلك.
طالعته بصمت .. لم تعلق ولم تصح بوجهه لجرأة عرضه .. فاسترسل مبررًا:
_كنت أقترح فقط، لا أظنك لقمة سائغة.
طفت ابتسامة على صفحة وجهها وهي تضم يسراه بيمناها قائلة بتأثر:
_شكرًا لأنك هنا.
ابتسم لها ضاغطًا على كفها برفق فاستطردت بعينين دافئتين:
_أنا لا أذكر شيئًا عن علاقتي السابقة ...
قاطعها معلقًا باستياء وقد تلاشت بسمته فجأة:
_لا تأتي بهذه السيرة الآن.
ضحكت بخفة لغيرته الواضحة وهي تشرح:
_أعني.. لا أعرف كيف كان شعوري وقتها .. لكن ما أنا متأكدة منه الآن هو أنني أختبر هذه المشاعر لأول مرة معك .. أو نبضة فرت من قلبي وحفظتها ذاكرتي كانت لك .. يبدو أنني أحببتك يا عمر .. لم أكن أعلم أن بإمكاني الشعور بالحب بهذه السرعة وفي هذه الحال .. كنت مشتتة ومتجمدة المشاعرة حتى قابلتك .. أول كلمة مطمئنة سمعتها بعد عودتي إلى الحياة كانت منك .. وأول من جاء بمخليتي عند حديثك لي عن عوض الله لنا كان أنت.. أنت في حياتي الأول والأخير.
هي من اقتربت هذه المرة لتحيط جذعه بذراعيها منصتة إلى نبضاته التي تزايدت سرعتها إثر كلماتها التي ربتت بحنان جناح فراشة على شغاف قلبه .. وضمها هو إليه ممتنًا لضعف حركة السير في هذا الطريق.. بينما قالت هي مفجرة فقاعة الحب التي أحاطتهما لوهلة:
_لكني لست لقمة سائغة كي أرافقك إلى منزلك .. سأنتظر قليلًا ثم أتسلل إلى المنزل من طريق خلفي .. فقط أتمنى أن يسامحني عمي مختار على إبقاء سيارته في ذلك الميدان حتى الغد.
∆•∆•∆•∆•∆
العقرب .. هو ذاك الكائن القميء الذي يبخ سمه على فريسته ليقتلها .. ثم يدنو منها ليلتهمها دون شك أن سمه قد ينقلب عليه ليفتك بأحشائه .. ثقته تنبع من تلك الحقيقة البيولوجية عديمة الاستثناءات ..
فإذا انعدمت الثقة، وتخلت البيولوجيا عن أحد الأجناس .. هل قد يموت العقرب بسُمِّه؟

بمجرد تكليل النيران سماء منزل ألبرت، خفت صدور وثقلت أخرى ..
بشر ودان .. كان كلاهما كمقيدٍ بسلسالين معدنيين .. يجذبه كل منهما إلى اتجاه لا يرغبه فيبقى صامدًا في المنتصف حتى يتمزق إلى نصفين .. وفي هذه اللحظة .. لا يعرفان إذا كان قيدًا منهما قد انحل، أم زادت قيود الطرف الآخر حتى كبلت عنقيهما ..
واحدة هي من لم تفقه شيئًا فسيطر عليها الفزع بقسوة كادت تسحق أعصابها المرتعدة .. كانت ديبرا تراقب بعينين جاحظتين وقد انعقد لسانها للمرة الأولى .. فنصحتها دان بالهرب فورًا من هذا المنزل .. لا علاقة لها بكل ما يحدث، ولا ذنب لها فيما سيحدث.

في حالة تأهب قصوى طفق رجال إدوارد يغزون المنزل كجيوش الاحتلال .. على رأسهم رئيسهم الذي دخل البيت في قميصٍ أسودٍ حزين .. كالأمارات التي رسمها على وجهه أمام أزاليا التي استقبلته عند الردهة قائلًا:
_يحزنني ما حدث .. قدَّس الله روحهما.
الحزن كان آخر ما تبطنت به نظرات أزاليا الواقفة قباله .. والخواء هو ما قابله في عينيها اللتين حدجتاه دون رد ..
التفت بنظره إلى بشر المترقب على مسافة منهما قائلًا بنبرة لائمة:
_لم يأتِ ببالي أنك قد تفعل شيئًا كهذا يا بشر.. لم أظن أن كرهك له سيعميك إلى هذه الدرجة!
عجيب أن نواياه كانت واضحة إلى بشر منذ اللحظة الأولى .. بجملة واحدة جعل نفسه الملاك البريئ فأضحى أمامه الشيطان الوحيد .. ولم العجب؟ لقد أحكم خطته ورسم حبكته وفرض أحداثه .. وتوَّج نفسه بطلًا لروايته الخاصة .. لم يكن باقيًا إلا تلك الخطوة ..
سار القلم فوق الورقة .. وأصبح هو شرير القصة.
التقطت أزاليا ما يرمي إليه بسهولة .. فسايرته بجبروت لم تكن تعرف مداه بداخلها، وقوة تحمل منعتها أن تطبق بكفيها على رقبته لتزهق روحه بيديها .. فنقلت بصرها إلى بشر سائلة بلا تعبير:
_هل هو من فعل ذلك؟
ارتسم الأسف بإتقان على وجهه مجيبًا:
_وهل كان يثق والدك في شخص بقدره؟ كان يشيد بذكائه .. لم يعلم أنه سيستخدمه في حفر قبره بسرية تامة.
استدار يواجهه بكليته موجهًا حديثه إليه وهو يكمل:
_كنت تتشدق بمبادئك ضد عمله الذي يخالف أحكام الدين والقانون، والآن أين ذهبت المبادئ حين قتلته؟
جزئيًا كانت كلماته تتضمن حقائق قصد تمريرها بين مكيدته .. لم تعرف أزاليا هل صمته أمام هذه الاتهامات كان استسلامًا منه، أم اعتماد على ثقتها به التي لن تسمح لها بتصديق تلك الترهات .. أم لأنه يعلم أن رده مهما كان فحواه لن يجدي.
لمح إدوارد ظل دان الواقفة بداخل المطبخ تتابع الحديث من خلف ساتر، فيما عقبت أزاليا على كلام إدوارد المبطن:
_عمله الذي يخالف أحكام الدين والقانون!
وقد صدقت نبوءة أزاليا مع رده .. لقد أراد بالفعل هدم المعبد على من به حين أجاب:
_ألا تعرفين أن والدك كان يتاجر بالبشر؟
لم تكن ردة فعلها مصطنعة إلى حد كبير، فقد ارتجفت أوصالها فعليًا إثر إجابته مستعيدة شعورها بالأمس القريب عندما تجرعت الصدمة دفعةً واحدة .. بينما أكمل إدوارد:
_أنا لم أرغب في صدمتك في هذه الحالة، لكن هذه هي الحقيقة بكل أسف.. خلافاتي الأخيرة معه كانت بسبب رفضي لأفعاله.. لم أخبرك من قبل كي لا أشوه صورته في عقلك.
فرقع إصبعيه الوسطى والإبهام معًا، ثم أبقى على رفعه لسبابته للحظة واحدة أدرك بشر مغزاها .. لا سيما حين تقدم منه رجلان ضخمي الجثة ليكبلاه .. ودخل إلى المنزل بعض رجالن ممسكين برجال ألبرت وحراسه .. كان من بينهم رونالد الذي ارتفعت نظراته ليحدق في إدوارد بغل غير مسبوق .. إحدى عينيه تفرق جفناها الواسعين بنظرته الحاقدة، بينما العين الأخرى .. في الجانب الآخر من وجهه قد طُمس كل ما حولها أسفل جلده الذائب .. حيث تجاهل تحذير بشر السابق خاصة حين تركه وغادر مباشرة دون إبداء أسباب .. لم يكن يفهم، ولم يدرك الأمر إلا حين اقترب قليلًا من السيارة فنالته بعض ألسنة اللهب التي التهمتها على حين غرة .. حين لم يكتفِ بتشويه حياته ونفسه، فكانت التتمة بتشويه وجهه وبعض من جسده.
أحكم رجال إدوارد السيطرة على كافة رجال ألبرت، فقد حان وقت تغيير صاحب الكلمة ومستحق الولاء .. بينما تحرك إدوارد نحو بشر هاتفًا:
_كيف سولت لك نفسك قتل رب عملك بهذا الجحود؟ أخبرني!
اقترب منه، فبات هتافه خافتًا، ونظراته مخيفة، وابتسامته واسعة وهو يتشدق بجملته الأثيرة:
_أخبرني .. إلى أي مدى ظننت أنني مغفل؟
ترددت تلك الجملة في أذنه مرتين.. إحداهما نُطقت للتو، والأخرى من الماضي البعيد .. كالتي سبقت رؤيته لجثة والده تسقط أرضًا في دماء نزاهته .. لكن نظرة بشر كانت تواجهه برسالة صريحة.. "لم أتوقع منك سوى ذلك." شيمته الغدر.. لم يكن ينتظر خيانته له كي يغدر به .. لقد سلب حياته غدرًا من قبل أن يعرفه.
_كيف وصل به الغباء لأن يثق بمن قتل والده أمام عينيه؟ أنا من وضعتك هنا.. لكني لم أضع بك ذرة ثقة من البداية .. كنت أنتظر هذا اليوم منذ سبع عشرة سنة .. جعلتني أنتظر كثيرًا، وهذا يضايقني.
راقب عرته اللاإرادية بجمود، ودون أن ينزع مقلتيه عنه فرقع إصبيعه مجددًا، وأبقى على السبابة والوسطى للحظة .. فأخرج أحد الرجال من جيبه سكينًا رفعه أمام رقبة بشر مباشرة، وباليد الأخرى أسقط الكوفية عن عنقه لتستقر أرضًا عند قدميه ..
جحظت عينا بشر مصعوقًا .. مهما بلغت مخيلته، لم تصل إلى هذه الدناءة ..
غاص قلب أزاليا بين ضلوعها حتى شُلت أطرافها، فيما صرخت دان راكضة خارج مخبأها:
_لاااا!
التفت إدوارد إليها رافعًا أحد حاجبيه ببطء مزيفًا الدهشة وهو يعلق:
_ها قد نطقت الخرساء!
عاد ببصره إلى بشر قائلًا:
_لم تبدو متفاجئًا؟ أخبرتك إنني سأجعلك تقتل نفسك بنفسك، أنا فقط أساعدك .. لم لا تأخذ كلامي على محمل الجد؟
علت نبرته بجملته الأخيرة قبل أن يردف:
_أعادني هذا الأمر سنوات، بعدما ظننت أن ما لديك مشكلة في التخاطب .. وقتما حضر الأخصائي قال لي جملة مجازية لم أنسها أبدًا وهو يشرح لي عن متلازمتك .. "لن يتمكن من التحكم في عراته.. ولو كان هناك سكينًا على رقبته." إنها فوائد الذاكرة القوية .. من بين الجميع كانت نقطة ضعفك ظاهرة أكثر مما يجب.
تقبَّض بعنف حتى أدمى راحة يده .. ونفرت عروقه مقاومًا عراته .. جرحته سخونة السكين بضعة مرات، ولم يتسن له حتى الأنين الصامت ..
أزاليا متخشبة مبهوتة عقلها لا يسعفها بتصرف حكيم .. ودان تراقب بذعر خطواته التي تحولت إليها بينما ينطق ببوادر غضب نادر الظهور وغير محمود العواقب:
_أنتما جرؤتما على خداعي وخداعه! وماذا أيضًا؟
وصل إليها رغم تراجع قدميها الهلاميتين، فخلع الوشاح عن رأسها بقسوة صرخت إثره متألمة .. تصاعد الغضب برأسه، إنهما مصران على إظهاره كمغفل تمكنا من خداعه بذكاء وبعض المجهود .. فقد السيطرة على انفعالاته لوهلة، فجذبها من شعرها بغتة وهو يسحب سلاحه ليضرب بمؤخرته رأسها بعنف أسقطها هامدة على الفور .. فأشار لأحد رجاله ليلقي بها من حيث خرجت، فتقدم ذلك الرجل ليجذبها إلى داخل المطبخ مغلقًا خلفها الباب وقد تلطخ محل رأسها بالدماء .. تركها لتنزف بمفردها إلى أن تلفظ أنفاسها الأخيرة دون طلقة رصاص واحدة قد تحمل أثره ..
زفر بقوة مستعيدًا بعضًا من تحكمه في انفعالاته.. ورجع بنظراته إلى بشر مستنبطًا رغبته في قول شيء ما كعبارة ختامية .. لذا أشار لرجله بديموقراطية ليبتعد بالسكين قليلًا، فشهق بشر متنفسًا بحرية للحظات ترك بها الزمام لعرة قبل أن يرفع إليه عينين حمراوتين كساهما الحقد قائلًا:
_أتفعل كل هذا أمامها لتكسب ودها؟ لتخبرها إنك شخص آخر غير ما أنت عليه، لأنك تعلم أنها لن تقبل بك على حقيقتك!
تجهم وجهه مرتدًا بخطواته إلى الخلف بينما يقول وهو يفرقع إصبعيه لمرة ثالثة وأخيرة مبقيًا على الإبهام والسبابة والوسطى:
_لقد نفذ صبري .. أعنه بجهد أكبر لننتهي من هذا الأمر الآن.
قرب الرجل السكين من عنقه مجددًا حتى سال منه خيطًا رفيعًا من الدماء، فهتفت أزاليا فجأة:
_لا تفعل.
تحولت كافة النظرات إليها في لحظة .. حتى بشر الذي منع مقلتيه قسرًا من مقابلة عينيها منذ وقت .. مجددًا رأت انعكاسها هناك، وليتها لم تتمنَّ رؤيته .. ليتها لم تره ثانية بدلًا من رؤيته في لحظة كهذه .. كان متلهفًا، ربما لتشييعها بنظرة أخيرة، أو لنطقها بشيء فيه نجدته .. وقد كان .. فقد وجهت كلماتها إلى إدوارد بنبرة جليدية لم يعلم بشر أنها قد تكتسبها منه يومها، وهتفت بعينين زجاجيتين:
_موته لا يكفي.. إذا كان يتشدق بالمبادئ كما قلت .. فأقسى ما يمكنه معايشته هو أن يجرب كونه سلعة كمن شارك في بيعهم من قبل .. ليتمنَّ الموت ولا يدركه .. أبي مات .. لكن تجارته ما زالت سارية .. دعها تبقى قليلًا بعد .. لمن يستحقها.
وقف إدوارد مجاورًا لها وقد أحاط كتفيها بذراعيه بلمحة متملكة أوقدت حريقًا في صدر مشاهدٍ مقيدٍ قولًا وفعلًا ..
قليلًا بعد .. لقد مُنح تأشيرة للعيش قليلًا بعد .. وخُتمت من إدوارد الذي وافق على اقتراحها مؤقتًا معجبًا بتفكيرها المُذل.. فأعطى أمرًا بإلقاءه في المخزن السفلي بعد أخذ مفتاحه من رونالد الذي سلَّم له قسرًا ..
جُذب بشر إلى المخزن عنوة من جهة .. وجُذبت أزاليا إلى داخل المنزل بهدوء بواسطة إدوارد من الجهة الأخرى .. عيناه تراقبناها كأبشع صورة رأتها عيناه يومًا .. وكأن كافة مخاوفه تتحقق في يوم واحد .. لم يشأ الله أن يجعله يومه الأخير.
بينما استسلمت أزاليا إلى كف إدوارد التي أوصلتها إلى غرفتها بهدوء، فودعته هناك شاكرة باقتضاب أرجعه لحالتها .. ثم دخلت إلى غرفتها وأغلقتها خلفها جيدًا، ولم تحملها ركبتاها أكثر .. فجلست بارتعاد .. كل ما فيها يرتجف بذعر .. لكنها تحاملت لتصل إلى هاتفها متصلة بوضاح .. هو الوحيد الذي بإمكانه المساعدة على الأقل عن طريق إبلاغ الشرطة .. أخبرته بكل شيء متلفتة حولها بين كل كلمة وأخرى قد تتسرب من جدران غرفتها فيكون الثمن في المقابل روحها ..
ثم أنهت المكالمة تاركة الهاتف ليقع من بين كفيها .. لتقبض براحتها على السلسال المزين لصدرها .. وتضمه في يدها محتفظة بخموده بعد أن اكتشفت قريبًا قدرته على الإنارة ..
تتحسس بأصابعها صومعتها الصغيرة، فيما تدرك أخيرًا ..
على أعتاب نهاية الأسطورة .. خبا وهج الزهرة .. حين سقطت آخر ورقة كانت تحمل أملًا للوحش.
∆•∆•∆•∆•∆
أحاطت جسدها بذراعيها تخفف من روعها لتهدئ من رجفتها مرتكنة إلى السور الخلفي للمنزل .. تدفن وجهها بركبتيها دون رغبة في رفعها مجددًا لرؤية ما يحدث حولها .. فستانها الجديد اتسخ وعاث به التراب .. حتى وجهها تلطخ بالتراب مع دموعها المرتعبة فاتسخت بشرتها لتُختم هويتها كمشردة بلا مأوى ..
سمعت ديبرا خطوات تقترب منها فزادت من احتضانها لنفسها بينما يعلو نشيجها بخوف .. شعرت بنقرات على كتفها فهمت بإطلاق صرخة ابتلعتها حين رفعت رأسها لترى هويته ..
_ماذا يحدث؟
قالها داي هيون بحاجبين معقودين مشرفًا عليها من الأعلى .. فاختض قلبها للحظة ثم شرع بالهدوء محاولة التنفس .. فيما عاود السؤال مناظرًا هيئتها:
_لم تجلسين هنا؟
قالت متجاهلة أسئلته المتعجبة:
_لا يمكنك الدخول إلى المنزل .. عد من حيث جئت .. السيدة أزاليا لن تستطيع أن تقابلك.
مد كفه إليها معاونًا إياها على النهوض .. فلاحظ الحذاء ذو الحالة الجيدة في قدميها ليعلق دون تفكير:
_هل هذا حذاء جديد؟
محت عبراتها محاولة مقاومة نوبة بكاء أخرى وهي تجيب:
_نعم.
رق قلبه لرؤيتها على النقيض من حالها الدائمة .. هذا الانهيار غريب جدًا عليها، موحش .. فقال متعاطفًا:
_لا يمكنك السير إلى أي مكان هكذا، سأوصلك .. أين منزلك؟
أشاحت بوجهها ضاغطة بكفيها على عينيها الباكيتين:
_ليس لدي.
تهدلا كتفاه ولم يجد ردًا .. فقط راقب حالتها الضائعة محاولة لملمة شتات نفسها .. حتى لمح كلاهما من يتقدم راكضًا إلى موقعهما .. كان وضاح الذي بدا متلهفًا مشتتًا على غير عادته .. فبادرته ديبرا:
_لا تدخل .. سيقتلونك قبل أن تطأ البوابة.
استشعر داي هيون خطورة الموقف دون فهم لتفاصيله، بينما اقترب وضاح من السور وهو يرد باقتضاب:
_لن أدخل من البوابة.
حاول داي هيون منعه ممسكًا بذراعه قائلًا:
_أتغامر بحياتك؟ أخبرَتك إن الدخول خطر.
_دان بالداخل!
هتف بها وضاح حين انتبه الآخر للالتياع نظراته وحدة تنفسه غير المنتظم .. فيما أردف وضاح:
_أخبرتها إنها ستكون بخير .. وإن كل شيء سيكون على ما يرام.
ثم نفض قبضته عن ذراعه وهو يهم بتسلق السور قائلًا:
_اتركني..

كان عدد رجال إدوارد قد بدأ في التقلص عالمين باقتراب حضور الشرطة إلى موقع الانفجار .. فلم يبقَ أحدًا عند الطريق المؤدي للباب الخلفي للمطبخ .. ولحسن الحظ لم تنسَ أن تتركه مفتوحًا كما وعدته .. ففتح الباب مهرولًا إلى حيث استقرت فاقدة وعيها بالكامل .. حمرة شعرها التي يبصرها للمرة الأولى خالطتها حمرة الدماء .. وجسدها الذي لمسه للمرة الأولى حاملًا إياها بين ذراعيه كان فاقدًا لمعالم الحياة .. ارتعب عند توصيتها له بدفنها بعد أن يقتلوها، ارتعب أن المرة التي ستعانقها فيها يديه ستكون جسد بلا روح .. وفي هذه اللحظة تجدد رعبه راكضًا بها إلى الخارج .. لم يكن هناك سبيلًا للخروج إلا طريق الدخول ذاته .. فصعد إلى السطح ناظرًا من الأعلى إلى داي هيون وديبرا اللذين وقفا هناك بترقب قلق، فاتسعت عينا ديبرا بهلع حين رأت هيئة صديقتها بين ذراعيه، بينما نطق هو من الأعلى متمالكًا انفعالاته:
_تلقِّها مني.
قاست ديبرا المسافة بعينيها بحيرة، فقاطع داي هيون تفكيرها قائلًا وهو يقترب منها:
_سأحملك على كتفي، تمسكي جيدًا.
توترت في بداية قبل أن تستجمع رباطة جأشها لتصعد على كتفه بارتباك متلقية ثقل صديقتها، ثم حملها ثانية مخفضًا إياها بينما هبط وضاح بمفرده ليعاود حمل دان مجددًا، بينما تقدمه داي هيون قائلًا:
_تعالى إلى السيارة، سأوصلك لأقرب مشفى.
جذب ديبرا من كفها بغتة، وفتح الباب الأمامي لها ليدخلها على عجالة واضعًا كفه الآخر عند رأس الباب .. ثم أغلقه خلفها متداركًا وصول وضاح إليه ليفتح له الباب الخلفي، قبل أن يدور حول السيارة ليتولى القيادة.
على الأريكة استقر وضاح بوجه شاحب يضم رأسها إليه، موقفًا تدفق دماءها بيده .. يتمالك نفسه .. بصعوبة يتمالكها .. حانت منه التفاتة إلى المنزل من خلفه .. قبل أن يسأل ديبرا وكأنه يعلم الإجابة بالفعل:
_من كان بالسيارة؟
أشاحت ديبرا بوجهها ولم تستطع الإجابة .. فأدرك وضاح حقيقة ظنونه .. فصمت ولم ينبس ببنت شفه حتى وصلوا إلى المشفى .. وطوال الطريق كان ساهمًا .. لا يفرق شحوبه عن تلك الساكنة بين أحضانه .. الإشارة الوحيدة لبقاء الحياة في كليهما كانت تلك النبضات التي التقت في احتضان غير مسبوق .. وغير مرجو .. في هذه الحال، وبكل أسف .. كان غير مرجو.
∆•∆•∆•∆•∆
وقفت نارين أمام فراشها ممسكة ببعض الملابس النضيفة تطويها بعناية، بينما جلس طارق أمامها محاولًا المساعدة بطي بضعة قطع، لكنه لم يفلح .. فجذب نارين الملابس منه معلقة:
_أحيانًا عدم فعل شيء يكون أفضل طريقة للمساعدة.
رمقها طارق بطرف عينه ولم يرد .. فاستطردت هي:
_تحدث بلا تردد.
طالعها بتعجب فأردفت:
_ليس من الصعب أن أعلم أنك تفكر في شيء ما عند النظر إليك.
صمت طارق قليلًا، ثم قال:
_اقترح عليَّ السيد حسين أن أبدأ في العمل مباشرة دون دراسة أولية للوضع الحالي.. استنادًا على أن من يجد نفسه في منتصف البحر لن يستنى له سوى العوم.
رفعت نارين رأسها عن الملابس لتنظر إليه بجبين مقطب سائلة:
_من السيد حسين؟
حدجها بنظرة كانت كافية لتدرك غباء سؤالها، فقالت بانزعاج:
_لم لا تقول "جدي" مباشرةً تحاشيًا لمثل هذا الالتباس؟
أجابت بعملية استفزتها:
_"جدي" هذه في المنزل، أنا أتحدث عن العمل.
_يا للمبادئ!
عقبت متململة، ثم سألت مستفسرة:
_وأنت تريد دراسة الأمور أولًا ولا ترغب في الاستماع إلى جدك وخبرته المهنية؟ لهذا تتردد في اتخاذ قرارك بالاستماع إليه أو لنفسك؟
أومأ برأسه إليها مجيبًا:
_بالضبط.
مطت شفتيها قليلًا مفكرة في الأمر، ثم قالت:
_فكر مجددًا ستجد إحدى الكفتين تغلب الأخرى، هكذا تأخذ قراراتك دائمًا.
أمسك برسغها ليجلسها بجانبه برفق قائلًا:
_أخبرتك لآخذ برأيك، لا لتذكريني بأسلوبي المعتاد في اتخاذ القرارات.
عقدت حاجبيها متعجبة .. وساورها القلق كدأبها وهي ترد:
_أخشى أن أجعلك أن تتخذ قرارًا غير صائب قد يوفد عليك المشكلات فيما بعد، أنا لا أفقه شيئًا عن هذا المجال.
وكأن إجابته لم تكن تحتاج وقتًا للتفكير، رد مباشرة مستنكرًا سببها:
_ومن أخبرك أن قراراتي دائمًا صائبة؟ أو أنني ضليع في هذا المجال؟ أنا فقط أتدارك الأمور قبل أن تسوء عند اتخاذي لقرار خاطئ.
نظرت إليه بتردد، فزحفت ابتسامة هادئة إلى شفتيه مستطردًا:
_كانوا قديمًا يقولون إن الزواج شر لا بد منه .. أتعرفين ما الأمر الذي جعل هذه المقولة تخص الزواج تحديدًا بين كل العلاقات الإنسانية؟ هو المسؤولية يا نارين .. المسؤولية شرًا لا بد منه .. حِس المسؤولية لا يولد بداخلنا فطريًا، نحن نكتسبه دون رغبة منا .. ويتصاعد بداخلنا عند الأزمات والمنعطفات المصيرية .. يمكنك اتخاذ القرارات التي تخصك والمشاركة في القرارات التي تخصنا سويًا، ولا مشكلة إذا كان قرارًا غير صائب .. ليست نهاية الدنيا .. لا تتوقف الحياة عند أزمة معينة، حتى إذا شعرتِ بذلك آنذاك.
بادلته ابتسامة متفهمة تحمل بعض الربكة ولم تعقب .. فسأل طارق بتكهن:
_هل تخجلين من قول إنكِ تتفقين مع جدي في الرأي؟
كسا التهكم عينيها لحظيًا وهي ترد:
_اسمه السيد حسين، نحن نتحدث عن العمل الآن.
كعادته قليلة الكلام، أجابها بنظرة .. لم تكن مغتاظة أو غاضبة، بل كانت فخورة .. إنها تتعلم بسرعة فائقة!
صمتت نارين لبرهة مفكرة، ثم قالت:
_انظر .. أنا لا أنكر اقتناعي بتفكير جدك، ربما لأنني عندما يتوجب علي فعل شيء ألقي بنفسي بداخله بتهور كي لا يمكنني التراجع .. لكنك لستَ مثلي، أنت تفضل النظر للأمور بتدقيق أولًا لتشمل كل التفاصيل، هذا هو أسلوبك وهذا ما تجيد فعله ..رأيي أن تراعي نصحيته مع الاحتفاظ بأسلوبك، أي أن تدرس كل شيء أولًا ولكن مع متابعة مباشرة منك لسير العمل في هذه الفترة، كن مشرفًا في البداية.. ستصلح بعض الأمور أحيانًا، وستتعلم بعض الأمور في أحيان أخرى.
ابتسم لزاوية تفكيرها المراعية للجانبين معلقًا:
_تمسكين العصا من المنتصف، ما زلتِ في مساحة الأمان.
زفرت كأنها انتهت من عمل شاق للتو سائلة:
_هل كنت جيدة في هذا النوع من الحديث؟
مسد على خصلاتها كمن يشجع طفلة صغيرة مجيبًا:
_نعم، لست معتادًا على رؤيتك تتحدثين بهذه العملية لكنها بداية ممتازة.
ثم طبع قبلة محفزة على رأسها، فلاح شبح ابتسامة على وجهها، ثم التقطت هاتفها، فقال طارق ملاحظًا فتور مزاجها:
_تتفحصين هاتفك كثيرًا اليوم، هل حدث شيء؟
أجابته حين لم تجد جديدًا بصندوق رسائلها:
_كنت أتواصل مع وضاح وأزاليا ودان لأطمئن على أحوالهم وأحوال أمي، لا أحد منهم يجيب اليوم، وهواتفهم جميعًا مغلقة .. أحاول ألا اقلق، ربما انشغلوا في شيء ما.
لم يكد يجيبها حتى وصلتها رسالة مبهمة من أختها الكبرى
"هل تشاهدين نشرة أخبار مدينة (...)؟"
تصاعد القلق بأوردتها حين أتت على ذكر المدينة التي تعيش بها أمها.. فركضت لالتقاط جهاز التحكم عند بعد لتشعل التلفاز على القناة المنشودة ..
"مصرع رجل أعمال شهير وزوجته وإصابة ثلاثة أفراد في انفجار سيارة مفخخة في مدينة (.....)"
شرع المراسل الصحفي يسرد أحداث الواقعة آتيًا على ذكر لقب زوج أمها، ومقاطع الفيديو أمامها تذيع سيارة متفحمة شهقت مصعوقة عن رؤيتها..
شيء ما بداخلها كان يشعر أنها لن تراها مجددًا .. لكن ليس بهذا الشكل .. ليس بهذا الشكل..
أسرع طارق بإغلاق التلفاز، فيما استدارت إليه لتدفن رأسها بصدره مرتجفة وكأنها ترغب في محو ما رأته للتو ..
تلك الدموع خبيثة تسللت إليها دون شعور منها وفاضت بوفرة .. فهمست من بين شهقاتها:
_أخبرتني إنها كانت في كل مرة تودعني وكأنها المرة الأخيرة.
صمتت مزدردة غصة في حلقها .. وارتعش صوتها وهي تكمل:
_لم تودعني هذه المرة.
تعرف كل شيء .. لكنها رغبت بكل ما فيها أن تعود والدتها عن أفعالها ..وتعلم بمشاعرها الجافة تجاهها .. لكنها ما زالت أمها.. وإن أخبرتها كل خلايا عقلها إنها لا تستحق أن تبكيها .. سيظل قلبها ينتحب.
ضمها طارق بصمت .. ليس لذكره بند اتفاقهما .. بل لشعور بداخله أخبره إنها لا تحتاج إلى الكلمات الآن .. ربما كانت حقيقة أن ذلك العقد خُتم ودُمغ بداخلهما.
∆•∆•∆•∆•∆
حين حضرت الشرطة لمعاينة الواقعة، كان إدوارد وأغلبية رجاله قد غادروا المنزل بلا أثر .. لم يترك خلفه إلا نحو ثلاثة حراس أحاطوا ببعض زوايا المنزل .. ليؤمنوا الأوضاع، وليصرفوا نظر الشرطة تمامًا عن المخزن .. كانت الشرطة على أتم الاستعداد لمداهمة إدوارد ورجاله بعد عمليته الأخيرة للتخلص من ألبرت أوبراين .. لكن موعد المداهمة لم يعلم به أحد .. كما لم يعلم أحد إن كان إدوارد قد عاد إلى منزله أم فر إلى مكان بعيد ليؤمن نفسه .. أم أنه يتربص بهم وعلى ثقة من قدرته على الخروج من شرنقة الاتهامات المصوبة نحوه!
انقضى اليوم ولم يزر أزاليا النوم أبدًا رغم إرهاق جسدها ..
غادرت غرفتها مطمئنة لعدم وجود الكثير من الرجال بالخارج.. خطواتها تتكرر لكن الشعور يختلف .. الآن تسير في منزل فارغ لم يبق به إلا هي .. بعد أن كان يضج بالساكنين والزائرين .. تفتح باب غرفة مكتب والدها دون خوف من معرفته في ما بعد .. فليس هناك ما بعد .. تجذب سلاحه وكاتم الصوت، لكنه ليس لمجرد التهديد أو التسلية .. هذه المرة ملأت ذخيرته وخرجت متجهة إلى باب المنزل .. خطف بصرها الشال الأسود الملقى بالردهة منذ ذلك الحين .. فتقدمت منه، ثم مالت لتحمله معها خارجة من المنزل بأسره ..
دارت حول المبنى إلى أن وصلت إلى الباب الخارجي للمخزن بعد أن رفع والدها مستوى حمايته فزوده بسلسال وقفل متين .. فصوبت فوهة المسدس نحو القفل فانفلت موشكًا على إصدار دوي عالٍ لولا أن تلقته بكفها بحذر.
فتحت الباب، ودنت منه حتى جثت على ركبتيها مقابلة إياه .. كان مستيقظًا متأهبًا شرعت جروحه في الالتئام .. وضعت الشال حول رقبته بهدوء .. فعاجلها بالسؤال متلهفًا :
_ماذا فعل بكِ؟ ماذا حدث في تلك .. الساعات السابقة؟ تحملت مرور الثواني بمشقة فلن أتحمل صمتك أيضًا، أجيبيني أرجوكِ.
رفعت أزاليا نظراتها إليه مجيبة:
_لم يحدث شيء .. لم يمسني أبدًا.
كم كان مثيرًا للشفقة حين تنفس الصعداء براحة بدا أنه كان قبلها يعاني الأمرين بمفرده .. لكن ذلك الخواء الذي قابله بنظراتها جعله يقول:
_أنا آسف.
ردت أزاليا بصوتٍ واهن:
_على ماذا؟ ليس عليك الاعتذار، لو كنت مكانك لما استطعت النظر في وجهي طوال هذه السنوات.. حتى لو كنت أنت من دبرت كل ما حدث كما كاد لك إدوارد، لا يمكنني لومك.. ليس عليك الندم بسببي.. أعلم أن راحتك هي مصابي، لكن لا يجب أن تعزيني كي أهنئك.
صمت هنيهة، ثم أجاب سؤالها الأول مسهبًا:
_آسف على هذه النظرة .. آسف على تبدُّد روحك .. وعلى .. تفتت قلبك .. أعرف شعورك .. أعرفه جيدًا لذا أشعر بالأسف نحوك وإن لم يكتنفني الندم.
ابتسامة ضعيفة ارتسمت على وجهها .. قبل أن تنطق بتماسك من لا تملك رفاهية الانهيار:
_أنقذت حياتك كما أنقذت حياتي .. لكنك تظل المنتصر .. قُهرتَ بموت والدك ظلمًا، وأكثر ما يقهرني الآن أن والدي مات عن استحقاق .. تمنيتُ لو أمكن أن نتعادل قبل أن نفترق.
كسرت نظراتها إليه مكملة:
_عندما رأيت صورتي في المرآة، رغبت بشدة في الاعتذار عن كل مرة نعتك فيها بالآلي الذي لا يشعر .. أدركت كيف يمكن أن تكون ملامحك باردة بينما صدرك يتأجج بحريق قلبك الذي لا يُبقي من روحك سوى الرماد ..
نهضت ممسكة بكفيه ليستقيم مقابلًا إياها بينما تستطرد واضعة السلاح بكفه:
_ليس لدينا الكثير من الوقت .. غادر يا بشر .. خذ هذا وارحل إلى أبعد مكان لا يمكنهم الوصول إليك فيه .. يمكنك أن ترفض التصديق كما تشاء لكن هذا القلب جمع بينك وبين أبي .. لذلك أخبرك أن ترحل وتهم بالعيش في مكان بعيد أكثر انصافًا وطهارة من هذه الأرض .. ولا تهتم لي .. منذ وقت فهمت الأمر، وتقبلت حقيقة أن خط بدايتك سيكون عند شارة نهايتي.
ليست حمقاء كي لا تلاحظ أمارات ذبولها عند بوادر إيناعه.. وأنه عندما بدأت روحه تتقد .. شرعت روحها بالخمود.
رد رافضًا ما ترمي إليه:
_إذا أتيتِ لتخبريني أن أتركك له وأرحل فكان الأفضل أن تتركيه ليقتلني بالأمس .. ستأتين معي، ربما أستطيع أن أبقيك بجانبي أو أتركك في مكان آمن .. سواء هذا أو ذاك فيجب .. أن أوصيكِ بشيء أولًا .. إذا خرجت من هنا ولقيت مصيري عند هذا السور، تذكري دائمًا أن كان هناك رجل تعِس ضمر في قلبه حبك لسنوات عجاف، تذكري أن كل ذلك لم يكن باختياري .. وأنني لم يأتِ ببالي يومًا أن من سلب مني الحياة هو من سينجب لي حياة أخرى ستجعل طعم الموت في حلقي علقمًا بعد أن انتظرته طوال عمري بنفس راضية.
حين طلت أخيرًا لمحة الحسرة بعينيها .. أكمل آسفًا:
_أسفي الأخير أمام انطفاء عينيكِ .. أن أحببتِ رجلًا هو الظلام بذاته.
تنفست بقوة تتمالك بها انهيار وشيك .. ثم ردت ببسمة قليلة الحيلة:
_لا يمكنني الخروج معك .. ستتشتت بحمايتي عن حماية نفسك .. ولو رأى إدوارد مغادرتي معك طوعًا سيقتل كلينا.. أرجوك .. غادر ولا تهدر الوقت ..
∆•∆•∆•∆•∆
داهمت أفراد الشرطة منزل إدوارد، فلم يستسلم رجاله وعرجوا إلى سبيل المخاطرة بتبادل النيران .. في ذلك الحين، كان هو كطائر العقاب يراقب عشه من الأعلى، يرى كل شيء دون أن يراه أحد .. ومن مسافة عالية ألقى نظرة على الحديقة الخارجية للمنزل .. قرر بعدها النزول إلى الطابق السفلي .. وقبل خروجه من المنزل .. مر بالمطبخ جاذبًا معه السيدة نصيرة قهرًا بين صرخات الصغيرة آسيا تاركًا أساليبه الأثيرة على عتبة المنزل، وغادر من الباب الخلفي كالجرذ الجبان ..
خرجت آسيا من المطبخ بين طلقات النيران المفزعة حولها بعد أن خلا المنزل تقريبًا إلا منها.. فركضت نحو باب صغير حُبس خلفه داوود منذ أيام قلائل طارقة فوقه بقوة بينما تهتف:
_سيدي .. سيدي هل أنت بخير؟ سيدي ...
ظلت تطرق بخوف .. لا تعرف ما محلها من الإعراب .. قبل أن تلمح بعض أفراد الشرطة يدلفون إلى المنزل تباعًا، فتوجست وهي تشير لهم برعب إلى الباب الخلفي قائلة:
_ليس هنا، غادر منذ قليل وأخذ معه السيدة نصيرة.. وهذه الغرفة بها شخصًا محبوسًا لا أعرف إذا كان ما زال على قيد الحياة..

بالخارج .. تقدم إدوارد خطوات محسوبة في تلك الحديقة حتى وقف على بعد خطوات واسعة من بشر الذي أشهر السلاح بوجهه، لكنه تصنم عند رؤية فوهة سلاح إدوارد عند رأس والدته ..
الآن هو يكسر مبادئه بتصويب السلاح نحوه مباشرة مستعدًا لقتله .. ولسخرية القدر عدل إدوارد عن أسلوبه المعتاد في عدم التهديد بأفراد الأسرة ..
التوى فمه بابتسامة مقيتة حفرتها مخالب الشيطان، سرعان ما تلاشت مبادرًا:
_تُدعس المبادئ بأقدام النوائب، أليس كذلك؟
لم يخفض بشر سلاحه بينما يقول:
_إياك أن تمسها بسوء .. كي لا تندم .. على معاداة شخص لم يعد له شيئًا ليخسره.
رفع حاجبًا مصطنعًا التساؤل وهو يرد متهكمًا:
_هل هذا تهديد؟
رد بشر بصلابة:
_بل هذا تحذير.. أنت لا تحتاج إلى الكلمات لتعرف أن حياتك الآن مهددة.
مد بشر يده ليجذب أزاليا من خلف جذع شجرة مصوبًا فوهة سلاحه نحوها وهو يكمل:
_لكن هذا تهديد .. أخفض سلاحك وإلا سأفجر رأسها.
رهينة أمام أخرى.. كان عليهما استغلال الأمر على أكمل درجة ممكنة، فنادت أزاليا باستغاثة:
_إدوارد!
نقل إدوارد نظراته بينهما قبل أن يقول بكياسة:
_لم لا تخفض أنت سلاحك أولًا؟
قاوم بشر عرته كي لا يغفل عنه لثانية بينما يجيب:
_لا أثق بك .. كما لا تثق بي ..
عادت ابتسامته المغيظة لتعتلي وجهه وإن أصابها غضب الانفعال المباغت بالفتور:
_إذًا دعنا ننهي هذا الأمر، وأفدِها بنفسك.
هتفت السيدة نصيرة رافضة بلوعة:
_لا تفعل يا بشر.. اصغِ لعقلك هذه المرة، أمامك الكثير لتعيشه، أما أنا فقد اكتفيت.
تمسك بشر بسلاحه بثبات رغم ارتعاد دواخله .. إذا حدث شيء لأمه .. فقد كانت كل حياته محض هباء.
_أمك لا تعرف أنني لن أتركك لتغادر حيًا حتى لو قتلتها أولًا .. الآن عليك أن تختار .. إما أن تموت وحدك أو معها.
قالها إدوارد بخيلاء لا مصدر لها في وضعه المخزي .. فهتف بشر:
_أخرج أمي من كل هذا، دعها تذهب.
رد إدوارد مشيرًا برأسه إلى أزاليا بينما يوجه سلاحه نحوه هذه المرة:
_بعدما تدعها تذهب.
دفع بشر أزاليا بهدوء لتسرع بالوقوف بجوار إدوارد .. فأكمل الأخير:
_جيد .. والآن أخفض سلاحك.
هبط بشر بقامته قليلًا إلى الأسفل وهو يهم بترك المسدس، إلا أنه عند اقترابه من الأرض، باغته بإطلاق رصاصة اخترقت قدمه، بينما ضربت أزاليا يده مسقطة سلاحه، فجثى على ركبتيه عنوة محدجًا كلاهما بنظرات نارية متأججة .. ابتعدت نصيرة سريعًا، وركلت أزاليا سلاحه بقدمها بعيدًا .. فيما تقدم بشر منه .. ليقابله لأول مرة في موضع القوة .. كم هو شعور لذيذ أن تستمتع بإذلال خصمك .. لا سيما إذا كانت كرامته هو نقطة ضعفه!
حين هم بالنهوض عاجله بشر بركله أسقطته أرضًا من جديد .. ثم رفعه ليبقى على ركبتيه ضاغطًا بقوته على موضع الرصاصة بقدمه وكأنه على وشك سحقها.. ثم همس له بفحيحه الأثير:
_ما رأيك في أسلوبك حين تكون في محل الضحية؟
نهض مستديرًا ليعاود رفع سلاحه أمام رأسه قائلًا:
_ربما أنت من ظننتني مغفلًا كي لا أدرك أن كل شيء كان في مخططك منذ البداية .. كل شيء .. اقتحامكما لمنزلنا .. تهديدكما لأبي وإرهابه أمام عائلته .. حتى ذلك التعداد الذي سبق قتلكما له .. كان كل ذلك أسلوبك، وليس أسلوب ألبرت .. تصنعت البراءة والرغبة في مساعدتي كما تنصلت مني أنا هذه المرة وتوددت إلى أزاليا.. هل كانت هي أيضًا هدفًا مؤقتًا تسعى به لما هو أكبر؟
بدأت أفراد الشرطة تحتشد بالحديقة .. فقال إدوارد بابتسامة عصبية عامدًا إلى إثارة استفزازه:
_اقتلني إذًا ..
لم يخفض بشر سلاحه وقد بدا على استعداد تام لتفجير رأسه بطلقة واحدة .. إلا أنه صبر .. بعض الوقت في هذا الوضع المذل لإدوارد كان شبه مرضٍ بالنسبة له .. وليتجرع العقرب سمه على مهل..
_بشر! لا يا بشر ...
هتفت أمه راجية .. لم يكن يريدها أن تُكلم في مصيره سواءً بالقتل أو بالسجن .. لكن الفرصة سانحة بين يديه .. والأمس سيظل يطارده ما دام في هذا الرجل نفس يتردد ..
نداءات من بعض أفراد الشرطة تحذره من أن موقفه في القضية سيضعف بشدة .. ونداء من أزاليا لم تضف عليه شيئًا .. لم تنطق إلا باسمه ..
انطلقت رصاصة لتخترق رأس إدوارد مفجرة إياه .. فعمت الصدمة للحظات .. لكنها لم تخرج من سلاح بشر .. فالتفت الأخير إلى اتجاه قدوم الرصاصة، ليرى نصف وجه جامد ألقى بسلاحه أرضًا وكأنه قد أتم مهمته للتو .. الشرطة تحاصر المكان وعلى كل حال سيزج معهم كخسيسٍ يعترض سير العدالة .. لم يكن معروفه بالكامل إلى بشر .. كان معظمه إلى نفسٍ حاقدة اشتعلت جذوتها بداخله من وقت.
اقترب أحد أفراد الشرطة ليكبل رونالد المنقاد معهم بلا تعبير يُذكر .. وألقى بشر بسلاحه متحركًا برفقة أمه وأزاليا بعيدًا عن الجثة التي اهتمت بها الشرطة ..
اقتربت نصيرة من ابنها بعينين دامعتين .. جذبته إليها بحنان تضمه إلى أحضانها .. انتهى الأمر .. انتهى عذاب سبع عشرة سنة .. تنهيدة راحة ندت منه على صدرها الحاني الذي حرم نفسه منه طويلًا .. لكنه ابتعد سريعًا .. لا يريد أن يبكي.. إذا بكى فسيفرغ حصيلة أعوام طوال ولن يكتفي .. لقد ابتلع دموعه منذ الصبى .. فلن يلفظها بسهولة.
التفت إلى أزاليا التي دنت منه ببسمة صغيرة .. عيناها تمر على ملامحه لتبقى معها في غيابه .. تفيض عيناهما بالكثير، لكن لسانيهما عجزا .. فلم يجد إلا أن يقول:
_أنا .. لا أعرف إلى أين سأذهب.
امتدت ابتسامتها إليه قليلًا وإن كانت ما زالت واهنة لتجيب:
_سأجدك يا بشر .. لا أحتاج إلى أجهزة تتبع لأعلم ذلك .. سأصل إليك أينما ذهبت .. سأجدك بقلبي.

نهاية الفصل الحادي والثلاثون



فاطمة محمد عبدالقادر غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 01-10-23, 01:26 AM   #212

موضى و راكان

نجم روايتي

alkap ~
 
الصورة الرمزية موضى و راكان

? العضوٌ??? » 314098
?  التسِجيلٌ » Mar 2014
? مشَارَ?اتْي » 6,242
? الًجنِس »
? دولتي » دولتي Egypt
? مزاجي » مزاجي
?  نُقآطِيْ » موضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond reputeموضى و راكان has a reputation beyond repute
¬» مشروبك   cola
¬» قناتك max
?? ??? ~
سبحان الله وبحمده .. سبحان الله العظيم
?? ??? ~
My Mms ~
افتراضي

الذين يشاهدون محتوى الموضوع الآن : 2 ( الأعضاء 2 والزوار 0)

‏موضى و راكان, ‏Seham elhenawy


رواية ممتعة و أحداثها مثيرة

Nour fekry94 likes this.

موضى و راكان غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 07-10-23, 12:44 AM   #213

فاطمة محمد عبدالقادر

? العضوٌ??? » 478303
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 752
?  نُقآطِيْ » فاطمة محمد عبدالقادر is on a distinguished road
افتراضي


الفصل الثاني والثلاثون
(ما قبل الأخير)
"بين الفراق والملتقى"

طائفٌ هو الإنسان لا يقر
بحنينٍ دائم وتوق مستعر
شارد العقل وفؤاده يقظ
في شبحِ ماضٍ لن يندثر

الفراق لحظة .. رُب كان بعدها لقاء يدوم .. رغم ذلك ما من طقوس تحف الملتقى بعد غياب طويل، أو شارة تلوح باقتراب الوداع .. أو قد تكون لا تُرى .. فيتكفل القلب بإقامة أفراحه وجنائزه الخاصة.
وهناك قلب ينتظر .. يأمل لقاءً جديدًا يؤمن بحدوثه .. ولو بعد مئة عام.

احتكر الهلع سائر جسده مهرولًا في رواق المستشفى حتى تلقاها أطباء الطوارئ فوق سرير محمول .. كان الوقت شاقًا وقد انفصل وضاح بذهنه عن كل من داي هيون ودايبرا المرافقين له .. يختض قلبه بينما جسده ثابتًا .. ينهار كل شيء به إلا قامته.
مر بعض الوقت قبل أن يخرج الطبيب مطمئنًا إياهم باستقرار حالتها بعد اضطرارهم لتعويض ما فقدته من دماء في وقت سابق، مشيرًا إلى راحته الخاصة أن لم يتدهور الأمر إلى حد حدوث نزيف دماغي .. حينها فقط تنفس وضاح الصعداء .. وتمكنت ديبرا بالكاد من لملمة أعصابها، فرحلت بعد قليل بصحبة داي هيون.
اقترح عليها أن تذهب معه أولًا لتستريح وتنظف آثار الأتربة والدموع العالقة بها .. فلم تجد بدًا من مرافقته إلى منزله الذي ذهلت بمساحته الواسعة رغم كونه يعيش به وحيدًا .. يخيل لها أن رأت أبواب ثلاث غرف نوم أثناء دخولها فقط!
أشار لها إلى طريق المرحاض، فأسرعت إلى هناك لتغسل وجهها ويديها، و محو ما استطاعت من تراب عن ثوبها وحذاءها .. حتى شعرها شرعت في حل رباطه ونفض ما يحتمل أنه قد علق به من غبار .. ثم أعادت تهذيبه وربطه بهدوء لتخرج إلى الردهة .. وفوجئت ما أن رأته قادمًا تجاهها بكوب من العصير .. يقدمه إليها هي قائلًا:
_أتشعرين أنك أفضل الآن؟
لوهلة ارتبكت حتى لم تعلم إن كان عليها تلقي الكوب، لطالما كانت تقدم المشروبات فقط .. فكانت حداثة الموقف موترة لها، لا سيما مع انفراط أعصابها منذ بداية اليوم، لكنها مدت يدها لتقبله منه أخيرًا مجيبة بامتنان:
_نعم.. شكرًا لك.
جلست بحذر على أريكة منزله العصرية، وتحاشت النظر إليه مفكرة بحيرة في حالها بينما ترتشف من المشروب بعطش .. أين ستذهب؟ كيف ستقضي هذه الليلة وهي لم يتسن لها حتى أخذ بعض المال معها قبل ترك المنزل؟ هل ستبقى مستيقظة تدور في عتمة الميادين طوال الليل حتى تجد نزلًا يقبل أن يأويها حتى صباح الغد؟ إنها تريد النوم بشدة..
تردد داي هيون قليلًا وهو يراقب حالتها باستياء قبل أن يسأل:
_هل لي بالسؤال عن عائلتك؟ أين هم؟ لم أنتِ وحدك هنا؟
_لقد سألتَ بالفعل.
قالتها بخفوت معلقة على سؤاله الافتتاحي عديم الفائدة، فابتسم بحرج لتعلق ببساطة قبل أن ترتشف من كوبها:
_ابتسامتك لطيفة.
لم تغادرها الجرأة رغم حالتها الواهنة، لكنه لم يتوقع منها عبارات المجاملة، وبخاصة الآن .. فبدت عليه الدهشة قبل أن يتنحنح فعلقت:
_هل أخجلتك؟ كان تعليقي طبيعيًا لما لاحظته لم أفكر لمرتين قبل النطق به، أعتذر إذا وجدته محرجًا.
رد بهدوء محاولًا مواراة فضوله نحوها:
_لا عليك، فوجئت وحسب .. يبدو أنكِ لا ترغبين في الإجابة.
امتدت شفتاها ببسمة ضعيفة قائلة:
_تريد أن تروي فضولك بحكايتي، لكن ما من حكاية .. نشأت في دار للأيتام حتى سن السابعة عشر، لم تتبناني عائلة ما لأنني كنت طفلة مشاكسة، فخرجت بحثًا عن عمل في ذلك السن ولم أجد ما يناسبني ويضمن محل إقامة دائمة لي سوى الخدمة في منزل السيد ألبرت.. ما زلت لا أصدق ما حدث.
تمتمت بجملتها الأخيرة متداركة صدمتها من أحداث اليوم.. بينما عقب باستدراك:
_أي أنك متعلمة!
أومأت له مجيبة:
_تعليم متوسط.
صمت هنيهة مفكرًا .. بينما استطردت هي بخجل بعد أن وضعت الكوب على الطاولة أمامها:
_هل يمكنك أن تساعدني؟ لا أستطيع الاستعانة بأحد غيرك الآن وقد تركت كل شيء خلفي هناك ولن أستطيع العودة في هذه الأيام.
انتبه لها منتظرًا أن تكمل موضحة طبيعة المساعدة التي ترغب بها، فواصلت بتعب:
_أريد مكانًا بسيطًا لأقيم به لبضعة أيام، وعندما أستعيد مالي من هناك سأوفر ثمن إيجاره.. حتى أستطيع إيجاد عمل جديد.. هل يمكنك أن تجد لي مكانًا لأسكنه بدءً من اليوم؟ أنا حقًا أريد أن أنام.
رغم سنوات قضتها في الخدمة وقبلها في دار صغيرة للأيتام، لكنها لم تشعر من قبل أنها في موقفٍ مخزٍ كهذه اللحظة.. بينما لم يبدُ عليه الانزعاج وهو يرد بابتسامة مريحة:
_يمكنك البقاء هنا اليوم إلى أن نبحث عن عمل ومحل إقامة بالغد منذ بداية اليوم.. أنا أسكن وحدي فلن يضايقك أحد.
نظرت إليه بتشكيك قائلة:
_ألن يزعجك أن أبقى هنا اليوم؟ ظننتك تتعجل مغادرتي!
رد داي هيون مستنكرًا عدم تصديقها:
_لم أفعل، أنتِ فقط لا تشعرين بالراحة.. أنا أكرم منك ولا أطلب من ضيوفي المغادرة كما تفعلين أنتِ.
افتر ثغرها عن ابتسامة صغيرة متذكرة مشاكساتها السابقة له، ثم ردت متلهفة لقبول عرضه:
_حسنًا .. ضعني في أي غرفة ولن تشعر بي إلى صباح الغد.. وسأكون ممتنة جدًا لك.
بدا العبوس على وجهه معلقًا بعدم رضا:
_على حالك هذه لن أشعر بك حتى في صباح الغد، ستدخلين في غيبوبة وليس نومًا .. أعني .. لا بد أنكِ جائعة، هذا يبدو واضحًا عليك بعد بكاء ومجهود اليوم .. لم تستعيضين عن الطعام بالنوم؟
مقاومة حرجها وإنهاكها معًا، أجابت ديبرا:
_لأن كل ما أرغب به الآن هو النوم وإنهاء هذا اليوم العصيب .. كما أنني سأشعر بالاستياء إذا جعلتك تجلب لي طعامًا إضافة إلى استضافتك لي في منزلك.
نهض داي هيون عن جلسته باستياء قائلًا:
_انتظري هنا.
ثم غادر بلا انتظار لإجابتها .. وعاد إليها بعد دقائق حاملًا طبق صغير يحوي إحدى أطعمة بلده السريعة، التي بالكاد يجيد طهوها ..
لكنه وضعها على المنضدة باستسلام حين وجدها غارقة في نومٍ مرهق في جلستها على الأريكة .. فتنهد متعاطفًا مع ما قاسته اليوم بلا ذنب .. إنها حتى لم يتِح لها الموقف أن تفكر في العزوف عن البقاء مع شاب غريب بمفردهما، ولم يسعفها وعيها للبقاء يقظة حتى تنأى بنفسها في غرفة منفصلة .. تردد لبعض الوقت مراقبًا نومتها لعلها تستيقظ فجأة بسبب خطأ وضعية نومها .. دقائق مرت حتى أيقن أن رقبتها قد تتشنج عند استيقاظها من هذا الوضع .. فاقترب منها، بدافع الشفقة ليس إلا، ليحملها واضعًا إياها على فراشٍ في غرفة نظيفة .. وبدافع التعاطف البحت بكل تأكيد، دثرها بغطاء ثقيل .. وبمراعاة يتصف بها لا علاقة لها بالمعنية، أغلق الضوء، وغادر إلى غرفته.

لتتمكن من الاغتسال في صباح اليوم التالي، أعارها من ملابسه كنزة وسروالًا قصيرًا .. لم تعاني ديبرا معهما كثيرًا، حيث لم يكن ضخم البنية، بل لم تفرق بنيته إلا بطوله الفاره واتساع منكبيه عنها قليلًا فقط .. فناسبتها الكنزة الفضفاضة واستطاعت التعاطي مع سرواله الذي بلغ نصف عضلة سمانتها تقريبًا .. ولتحجم خجلها أقنعت نفسها أن ذلك مؤقت حتى يجف ثوبها بعد غسله وترتديه ثانيةً .. ظنت أنهما سيخرجان ليوصلها إلى محل عمل جديد أو محل إقامة مؤقت كما وعدها .. لكنه فاجأها بأن طلب الحديث معها في ردهة منزله عائدين إلى الأريكة ذاتها.. ولكن الأجواء صارت رائقة عن اليوم السابق..
_سأتحدث الآن بصفتي مهندس برمجيات وليس الضيف الذي رأيتِه لأكثر من مرة في محل عملك .. سأعرض عليك عرضًا ويمكنك الموافقة أو الرفض كما تشائين.
بدأ داي هيون الحديث بعملية كثرما ينتهجها، فقالت ديبرا باهتمام:
_تفضل.
تحدث ممهدًا:
_تحتاجين لعمل وإقامة، وأنا أحتاج لمن يساعدني في عملي الحر، لذا يمكننا أن نعدها فرصة لكل منا ..
عقدت حاجبيها بعد فهم معلقة:
_لكني لا أفقه شيئًا عن مجال عملك!
أومأ برأسه متفهمًا وهو يرد:
_هذا ما أردت التحدث بشأنه .. سأخصص لكِ بعض الوقت الثابت لتعليمك مبادئ استخدام الحاسوب .. ثم التعامل مع موقع العمل، كل ما أريده منك هو الرد على العملاء سواء عن طريق الرسائل أو المكالمات وتنظيم الوقت بين المهام المطلوبة .. لديكِ شخصية اجتماعية مرحة تؤهلك لهذا النوع من الأعمال، لن تتعبي كثيرًا في التعامل مع الناس .. وفي المقابل سنتشارك المنزل دون أن تحتاجي لدفع إيجار، وستتقاضين مني راتبًا مناسبًا.. حتى تكوني مؤهلة للانتقال إلى سكن وعمل أفضل، عندها سيكون القرار لك بالإكمال أو التوقف.
لم تعرف إن كان يرغب في مساعدتها دون أن يحرجها، أم أنه بالفعل يحتاج إلى مساعدة في عمله .. لكن عرضه أصابها بالتوتر.. وبخاصة نقطة مشاركته السكن، بشكل ما كانت تستشعر الغرابة في هذا الوضع، والربكة عند تخيل الأمر .. لكن العرض مغرٍ بشدة لكرامتها ونزعتها الإنسانية في العيش براحة .. فصمتت هنيهة قبل أن تقول بتردد:
_بالنسبة إلى شؤون المنزل ..
قاطعها مرديًا تساؤلاتها:
_يأتي من يقوم بتنظيفه أسبوعيًا، لا تهتمي بهذا الأمر..
تنحنحت متحرجة من موافقتها السريعة، ثم أجابت على عرضه:
_حسنًا .. لكن دعني أتولى أمر الطعام، أشعر أن عرضك يكرمني بمبالغة، وهذا أقل ما يمكنني تقديمه.
لن ينكر _رغم توقعه_ أنه ارتبك لحظيًا عند موافقها، لكنه أومأ برأسه بلا ممانعة وهو يرد:
_كما تريدين .. لكن أولويتك للعمل، الرد على الرسائل فوريًا أهم من الأكل بمجرد الشعور بالجوع.
ضحكت بخفة معلقة:
_أنت عملي جدًا.
مدت كفها إليه بابتسامة متحمسة فشلت في كبحها قائلة:
_قبلت بعرضك.
دومًا ما تتسبب في تعجبه من اندفاعها وجرأتها، لكنه لم يتحرج من مد يده لمصافحتها مبادلًا إياها ابتسامة نعتتها آنفًا باللُطف..
_على الرحب، أتمنى أن تجدي الراحة في العمل معي.
لمعة عينيها المتقدة بشعلة حماسها أوفدت الدفء إلى مقلتيه .. فتعلقت بها لوهلة .. أخلفت حمرة لذيذة قلما يراها على وجنتيها الشاحبتين.
∆•∆•∆•∆•∆
غارق في نهرٍ وارف .. وحيد في مساحة سرمدية .. لا شيء يحاوطه سوى الماء الذي يسحبه بخبث إلى الأسفل متصنعًا السكون .. أنفاسه تنقطع ونبضاته تضعف بينما عينيه مغلقتين باستسلام .. حواسه داهمها الشلل .. لكن صوت تسلل بين الأعماق متموجًا إليه بنعومة عروس بحر تتهادى نحوه ..
نقر الصوت أذنيه وضرب صدره بقوة أغرقته إلى الأسفل بدفعة واحدة.. ففُتحت عيناه بغتة تزامنًا مع استيقاظه مجفلًا.
_وضاح .. وضاح ..
التفت إليها متلهفًا مائلًا إليها قليلًا في استلقاءها على فراش المشفى وهو يسأل:
_دان! هل أنتِ بخير الآن؟ بم تشعرين؟
زاغ بصرها بتشتت فضغط وضاح على الزر بجانب فراشها لاستدعاء الممرضة التي سرعان ما أخبرت الطبيب بإفاقتها، فحضر لفحصها سريعًا قبل أن يعطي بعض الملاحظات للمرضة مشيرًا إلى إمكانية خروجها من المستشفى رغم أفضلية بقائها قليلًا ..
غادر الطبيب بعد أن استعادت دان وعيها تمامًا، فرفعت يدها إلى رأسها لتضبط الوشاح بعد فحص الطبيب، واسترجعت بضعة لحظات قبل إغماءها .. فأمسكت بطرف الوشاح مدققة .. إنه لأمها، تعرفه جيدًا!
رفعت نظراتها باستغراب إلى وضاح سائلة:
_ماذا حدث؟
عاد إلى مقعده بجانب فراشها قائلًا ليزيد من حيرتها:
_لم يحدث شيء، وحدث كل شيء!
هل يتحدث بالألغاز أم أنها هي من لم تستوعب ما حولها بعد؟ شرع يحكي لها ما دار مراقبًا تحول أماراتها من الترقب إلى الصدمة وأخيرًا الذهول .. وعدم التصديق ..
_انتهى الأمر يا دان .. قُتل إدوارد وقبضت الشرطة على رجاله .. لم يتسنَّ له الاستمتاع بسطوته وتفرده ..
قالها وضاح ناهيًا سرده المختصر نوعًا ما، ثم استطرد:
_لقد نمتِ ليومين .. أمك وبشر كانا هنا بالأمس.. اطمأنا عليكِ قبل أن يغادرا.
تلمست طرف الوشاح تضمه براحتها فيما تسأل:
_إلى أين ذهبا؟
أجابها مفطنًا إلى نبرة الحزن في سؤالها:
_أرسلتهما الشرطة إلى بلد بعيد .. حين تستقر أوضاعهما هناك سيتواصل بشر معنا بالطبع .. لكنهما بأمان الآن .. وأنتِ أيضًا.
أومأت بعينيها إليه ممسكة بنبضة مشتاقة فرت إليهما منذ هذه اللحظة .. لكنهما بأمان، هذا هو ما يهم .. مبغاهم منذ البداية وقد حصلوا عليه أخيرًا.
دارت بعينيها في الغرفة متنفسة بعمق بينما تقول:
_إنها أول مرة منذ سنوات طويلة أستيقظ ولا أجد نفسي بغرفة الخدم سواء بمنزل ألبرت أو إدوارد .. الهواء نقي هنا.
عادت بصرها يستقر فوق صفحة وجهه، فارتسمت بسمة خاصة على ثغرها مستطردة:
_شكرًا لك .. لأنك أوفيتَ بوعدك.
أراد أن يعيد لها الشكر على انتظارها له .. وأن يعتذر لها عن تأخره .. أراد قول الكثير، لكن الكلمات لم تجد طريقها إليه .. فاستعاض عنها بعينيه .. نظراته شفافة متلألأة كما هي .. لكن لمحة شجى بطَّنتها رغمًا عنه .. فكسر نظراته قبل أن تلاحظها مازحًا:
_كنتِ قد فقدتِ الكثير من الدماء .. أردت أن أخبرك بترابط قدرنا معًا حتى أننا نتشارك فصيلة الدم ذاتها وهذا النوع من العبارات الرومانسية التقليدية.. لكن فصيلة دمك ليست نادرة، وجدوها بسهولة في المستشفى لحُسن حظك.
اتسعت ابتسامتها اللطيفة لتكلل وجنتيها وهي ترد:
_لم أظن من قبل حظي جميلًا، بل كنت أتحسر على نفسي .. معك فقط .. أجد الكون كله جميلًا.
استطردت باستجداء مصرحة:
_لا تتركني يا وضاح .. أصبحتُ وحدي ..إن كان بُعدك يخيفني سابقًا .. فأنا الآن قد أموت هلعًا إذا ابتعدت عني.
كانت كلماتها محبة حانية تربت على قلبه، إلا أن ضحكة غير محسوبة فرت منه، أعقبتها ضحكة أخرى تواري شعورًا نضحت به جملته حين نطق:
_لا تتركيني أنتِ .. فأنا أيضًا أصبحت وحدي!
اعتُصر قلبها لسخريته المريرة على حاله .. كيف غفلت لوهلة عن كونه مكلوم في أمه؟ وأنه أكثر من يحتاج الاطمئنان والحنان اللذين يغدق بهما عليها!
مدت كفها إلى رأسه لكنه ارتجف قبل أن يلمس خصلاته بتردد .. فمسدت شعره برفق فأجفل لحظيًا فيما ترد:
_بعمري لن أفعل أبدًا ... أنا آسفة .. اضطررتَ لابتلاع صدمتك كي تساعدني ..
تفتت قلبها حين جال بمخليتها أنه بات ليلتين كاملتين يصارع الأسى والجزع وحده!
ابتسم لها براحة وهو يقول:
_أنا بخير ما دمتِ بخير .. يهون كل ما عايشته طالما أنني أراكِ بصحة جيدة الآن.
هي لا تعلم كيف هو صعب عليه أن يراها الآن قد عادت إليه بسلام ولا يمكنه معانقتها فرحًا، أو حتى ضم كفها بغبطة..
صمت هنيهة طالعته فيها بشجن قبل أن يستطرد:
_سأتزوجك يا دان .. لن أفكر في شيء بعد الآن إلا أن تكوني بين يدي ويكون لي الحق في حمايتك والاطمئنان عليك ..
أردف مستغلًا صدمتها:
_لقد خطبتك من أمك وبشر بالأمس .. أليس هكذا تسير الأمور في بلدكم كي تضمنوا صدق نية المتقدم؟
اتسعت عيناها مشدوهة وكأن كل الكلمات قد هربت عن لسانها إلا اسمه، فنادت بعدم تصديق:
_وضاح!
رد دون أن يعطي لها فرصة للحديث:
_وضاح يحبك .. ويريدك معه .. المراوغة ليست من شيمه، والوقت ليس في صالحه .. لكنه أُرغم على الانتظار طويلًا.
بكلماته أراد ختامًا سعيدًا لحكاية عروس البحر، تُزف فيه للأمير الذي حمل لها على كتفيه اعتذارًا مستحقًا على تأخره في جرِّ ثقل مشاعره إليها.
∆•∆•∆•∆•∆
مرت أيام.. ربما شهر أو يزيد قبل أن يسمع بخبر عودته من السفر .. ولسوء الحظ لم يجد موعدًا متفرغًا في جدول أعماله ليقابله إلا واتفق مع موعد عمل الآخر ..
جلسا متقابلين، كل منهما يحدج الآخر بنظرة مختلفة، فأحدهما يعتلي وجهه الحنق ونيته الواضحة لا تنم عن خير أبدًا، بينما الآخر يناظره بابتسامة روتينية بدت إلى الأول مستفزة .. بينهما لافتة صغيرة وضعت على المكتب يعلوها "دكتور يحيى عواد أخصائي الأمراض النفسية وعلاج الإدمان."
بادر يحيى بالحديث مرحبًا بقريبه:
_شرفت عيادتي المتواضعة.
استطرد يحيى حين ظل طارق صامتًا دون رد:
_هل دفعت ثمن الجلسة بالخارج؟
تجاهل طارق سؤاله وترحيبه مناظرًا إياه بنظراته الضيقة وهو ينطق ببطء خطر:
_إذًا فأنت .. أخبرت زوجتي إنني شخص نرجسي لا يمكن معاشرته!
أجابه يحيى بهدوء عملي:
_ليس بالضبط، أخبرتها إنني لا يمكنني تشخيصك بناء على سرد بعض المواقف ولكن طبقًا لما شرحته هي كانت الشخصية نرجسية هي الأقرب إليك في الصفات، لذا قلت ذلك على سبيل الترجيح، وقد أخبرتها إن الأمر غير مؤكد.
علق طارق مستنكرًا:
_بعض المواقف؟ أي المواقف تلك التي تظهرني كنرجسي!
أجاب يحيى راسمًا الأسف على وجهه:
_لا يمكنني إخراج أسرار مرضاي.
ضرب طارق على المكتب أمامه مسقطًا بعض الأقلام عن موضعها بينما يعقب:
_إنها زوجتي!
أعاد يحيى ترتيب الأقلام وهو يرد بابتسامته الباردة:
_والله وإن كانت أمك، لا يمكنني القول.
تصاعد الغضب بأوردة طارق بعد أن زاد برود الآخر من غيظه، فأسقط الأقلام مجددًا بيده عن قصد هذه المرة هاتفًا:
_لكن يمكنك أن تدمر زيجة ببضعة كلمات ترجيحية منك، أنا من سأجعل من وجهك الآن مرمى للركلات الترجيحية في مباريات الذهاب والعودة..
كاد يلكمه في وجهه حتى يطمس معالمه، أو يخلع رأسه عن رقبته من فرط الاستفزاز، لكن استوقفه أن يحيى جذب مفكرة صغيرة تخصه وأحد الأقلام التي أسقطها للتو ليكتب بعض الملاحظات، ثم رفع عينيه إليه منتظرًا خطوته التالية، فتراجع طارق بريبة من سلوكه قائلًا بتذمر:
_توقف عن الكتابة في هذا الشيء بينما أحدثك!
وضع يحيى المفكرة والقلم من يده ببساطة وهو يرد:
_من عيني، ها قد توقفنا .. أخبرني منذ متى وأنت بهذه العصبية؟
تصنم طارق بذهول وقد عجز عن الرد للحظات قبل أن ينطق:
_هل تأخذ تاريخ حالتي المرضية الآن؟ أقول لك كانت حياتي وحياة زوجتي على المحك بسبب تحليلك الفاشل!
صدقًا هو لا يعرف ماذا يفعل لتصبح أعصابه باردة بهذا الشكل، لا سيما حين اعتدل في جلسته قائلًا:
_دعني أفهم الأمر .. أنت كدت تنفصل عن زوجتك لأنها ظنت بعد كلامي "المجحف في حقك" _كما تريد إيصال الأمر_ أنك شخص لا يطاق، فجئتَ اليوم لتثبت لي أنك شخص لا يطاق!
_يحيى، صدقني سأضربك!
قالها طارق بنفاذ صبر، فسأل يحيى مشيرًا إلى الجهاز بجانبه:
_أتريد الاستماع إلى الموسيقى؟
ضرب طارق بيده على جبهته متمتمًا لنفسه بيأس:
_لم جئتُ إليه في العيادة؟
ضغط يحيى على زر الجهاز، فأصبح غضب طارق على أنغام الموسيقى الهادئة .. وقد شعر بالصداع يدب إلى رأسه فجأة نظرًا لارتفاع ضغط دمه .. فيما استدعى يحيى مساعدته من الخارج لتفتح الباب قائلة باحترام:
_نعم يا دكتور يحيى.
ابتسم لها يحيى قائلًا بمجاملة لطيفة:
_من فضلك يا صباح أحضري لنا كوبين من عصير الليمون المنعش من يديكِ الجميلتين.
علَّق طارق بعد مغادرتها بعينين متسعتين ذهولًا:
_هل غازلت المساعدة للتو؟
عقد يحيى حاجبيه مستنكرًا تعبيره عن الأمر وهو يرد:
_صباح تكبرني سنًا بكثير، لكن تصرفاتها تدل على ضعف ثقتها بنفسها بعض الشيء، هذه الإطراءات تبهجها فقط.
عجز طارق عن الرد لوهلة .. لم يركز من قبل في تصرفات يحيى من هذه الزاوية النفسية، فعلَّق بالذهول ذاته:
_هل تسير في الحياة هكذا عامةً؟ تعالج كل من تقابلهم وتشتبه فيهم مشكلة نفسية ما!
أجاب يحيى بنبرة صادقة ملائكية كادت تخدع الآخر لولا أنه يعرفه:
_إذا كان بإمكاني المساعدة، لم لا أفعل؟ هدفي الأساسي من هذا المجال هو مساعدة البشر في علاج الآلام غير المرئية.
رد طارق متهكمًا:
_إذًا كان من الأولى أن تخفض ثمن جلساتك.
هم يحيى بالرد قائلًا:
_دعنا لا نخلط بين الأمور ...
قاطعه طارق يائسًا وقد نفض عن رأسه فكرة القضاء عليه .. فبهذا الكم من الاستفزااز سينقلب السحر على الساحر وربما يخرج من هذه العيادة بجلطة دماغية ..
_اصمت، سأغادر، ضغط دمي لن يتحمل المزيد من البرود..
أوقفه يحيى سائلًا:
_والليمون؟ ماذا سأفعل بالكوب الآخر؟
التفت طارق هاتفًا بسخط:
_اعزم به على صباح.
غادر طارق العيادة مدركًا بشكل ما سبب زيادة غضب زوجته في الفترة التي تابعت فيها علاجها النفسي مع ذلك الرجل .. أي أخصائي للأمراض النفسية وعلاج الإدمان يبدو بهذا البرود؟ لقد شك في ربع ساعة قضاها بالداخل أنه مدمن في حد ذاته!
رن هاتفه في طريقه للخروج، فأخرج هاتفه ناظرًا إلى هوية الهاتف .. "عالية" كالمعتاد في الآونة الأخيرة جده يتحدث من هاتفها لأنه ينسى شحن هاتفه ولا يجيد التعامل معه، قبل الاتصال رافعًا الهاتف إلى أذنه .. لكن هذه المرة .. لم يكن جده المتحدث.
∆•∆•∆•∆•∆
الفراق طبق رئيسي على مائدة الحياة، لا يستسيغه أحد، لكن يتوجب على الجميع التهامه .. يختلف طعمه طبقًا لطبيعته، لكن لم يختلف أحد على كونه أسوأ طبق على القائمة.
غادر آخر المعزيين سرادق العزاء مصافحًا كل من عمر وطارق ووالده الذي عاد من سفره عند تلقي الخبر .. فمضى كل منهم في طريقه إلى منزله، ورافق عمر عمه في الطريق إلى منزل جده ليبقى هناك حتى عودته من حيث أتى .. بينما كان طريق طارق مخالفًا لهما .. فودعهما بتجهم قبل أن يستقل سيارته متجهًا إلى منزله.

قابلته نارين بعد عودتها من عزاء السيدات، فتفحصت معالمه الباهتة بتعاطف لتقول:
_أنت لم تأكل شيئًا منذ الأمس، سأحضر لك الطعام.
شرع في تبديل ملابسه وهو يرد:
_ليس لدي شهية.
قالت بإصرار:
_لتشرب كوب من العصير على الأقل.
أمسك برسغها موقفًا إياها قبل أن تغادر الغرفة قائلًا:
_نارين .. أنا لا أريد شيئًا.
راقبته يبدل ملابسه برتابة ثم يسير ليجلس على الفراش بإرهاق .. صامت .. كعادته صامت دائمًا مهما تأزمت عليه الأمور ..
تبعته زاحفة خلفه على الفراش، ثم حاوطته بذراعيها بحنان هامسة:
_لم عليك أن تبقى صامتًا حتى في أكثر أوقات حزنك؟ قلبك يصرخ فجعًا .. لم تكتم ألمك؟ لستَ صخرًا لتحمل كل هذا وحدك!
استدار نحوها بكليته فضمته إليها بسكينة .. ذات الشعور الدافئ الذي منحها إياه حين جذبتها دوامة الحزن عقب موت أمها ..
ما أشبه اليوم بالأمس! وليت الغد أجمل.
_ابكِ يا طارق .. ابكِ وانفض عن رأسك مبدأ الصمود حاليًا .. يتوجب علينا أحيانًا أن نسمح لأنفسنا بالانهيار .. أنت إنسان.. ابكِ كما تشاء، ثم ارفع رأسك عن صدري وتحدث.. أو اذهب في نوم عميق براحة.
مدت يدها إلى زر قريب لتغلق الضوء .. ثمة ما أصبحت على يقين منه .. هو أن الطباع صعبة التغيير .. تمامًا كما هو صعب على رجل شرقي أن يبكي .. وإن فعل فلن يفصح عن الأمر ..
لجمت كفاه خصرها دافنًا وجهه في صدرها .. فاحتوته بحب، وكأن عبراتها تتحجج للنزول .. شاركته البكاء، وقاسمته الصمت ..
حتى بادر بالابتعاد قليلًا قائلًا:
_رأيتُ أبي اليوم.
تعجبت نارين رغم طبيعة الموقف، ورغم رؤيتها لوالدته في عزاء السيدات، فقد ظنتها عادت بمفردها كما يحدث عادةً .. لكنها تركته ليسترسل:
_كان شعوري غريبًا عندما قابلته .. لم أفكر به من الأساس منذ بداية اليوم .. حتى أنني استغربت قليلًا حين قدم الناس إليه التعازي .. لا أعرف لم فكرت بهذا الشكل، وجدتني أقارن بين حنيني إليه بعد ابتعاده لسنوات، وإلى جدي الذي فارقت جسده بالأمس .. لا أعرف .. لم أكن راضيًا عن أسلوب جدي معي، لكن أي مقارنة سأضعه فيها مع أبي لن يخسر فيها أبدًا .. فراق جدي كان له تأثير أقوى من لقاء أبي ..
عاد كلاهما إلى الصمت لبرهة .. ربما خجل أن يقولها صريحة .. لو مات والده لكان وقع الأمر أهون عليه من وفاة جده الذي قام بدور الأب في حياته ..
أمسكت نارين بكفيه مشعلة الضوء مجددًا، ثم قالت:
_"المقدر لنا دائمًا يكمن به الخير، هذا هو مفتاح الصبر، ومفهوم الإيمان، والسبيل إلى الراحة.".. هذه كانت كلماتك لي، حتى الآن هذه الكلمات تمدني بالقوة واليقين.. "لا تتوقف الحياة عند أزمة معينة، حتى إذا شعرتِ بذلك آنذاك." هذه أيضًا كانت كلماتك لي .. أعترف أنني فهمت كليهما بعد فترة وليس في وقت قولهم .. ربما كان علي اختبار ذلك بنفسي لأدرك صحة قولك.
ابتسمت بعذوبة ابتسامة أنارت وجهها حين استطردت:
_أتعرف ما يثلج القلب؟ لم أكتب شيئًا على جدار الأمنيات لهذا العام .. ظننت أنني حصلت على ما أريد ولا داعي..
جذبت كفه الأيمن بيسراها مراقبة ملامحه بينما تقربه ببطء من بطنها مسترسلة:
_لكن كرم الله ليس له حدود.. يأخذ ليعطي.
نقل بصراته بين وجهها وبطنها بترقب، فاتسعت ابتسامتها مومئة له بتأكيد .. فاشتعلت جذوة بعينيه الخامدتين .. لم يخفَ فيهما التوتر اللحظي، لكن رافقه بعض الحماس والغبطة هذه المرة .. فعاد يجذبها إلى قلبه .. شتان بين هذا العناق وسابقه!
فيما تنفست نارين الصعداء لرد فعله المطمئن قائلة:
_سيكسب أحدهم أبًا يحميه بروحه، ويراعيه بجل قدرته .. تذوب قسوته مع ضحكة صغيرة ويرفرف قلبه بانفراج جفنيه.
رفعت رأسها لتقابل عينيه مكملة باستنكار:
_بربك .. هل حقًا تخشى أنك لن تستطيع أن تكون أبًا جيدًا؟
اقتربت بخفة لتطبع قبلة قصيرة على شفتيه، ثم تراجعت مردفة:
_أعرف الآباء السيئين كما تعرفهم أنت .. لستَ منهم .. قلقك وحده يعني أنك لستَ منهم ..
ختمت كلماتها بأن ارتكنت برأسها على صدره، فضمهت إليه جيدًا .. بينما يغمغم:
_كم هي رحيمة كلمة مبارك بين التعازي ..
عم السكون قليلًا، قبل أن تكسره كعادتها منادية إياه بهمس .. فأجابها مهمهمًا، لترد:
__لا أعرف ما الذي من المفترض فعله في موقف كهذا، لم أعطِك إلا قبلة واحدة اليوم، هل عليَّ أن أكمل الثمانية دفعة واحدة قبل النوم أم أن الوضع لا يسمح؟
تلك الضحكة الصغيرة التي افتر عنها ثغره كانت ما ترجوه من تلك الجملة المداعبة، فشقت ابتسامتها وجهها إلى أذنيها متشبثة بجذعه وقد عادت تلك الهالة تكللهما بصبوة تتفاقم بلا هوادة.
∆•∆•∆•∆•∆
اللقاء يقدَّر بالملتقي .. وقيمته تثمنها اللهفة .. يقوده الشوق بلا زمام .. وعطيته تداوي جوى القلوب.
ستة أشهر مرت عليه مع والدته في هذا البلد العربي .. دولة شقيقة لوطنهما الأم .. تلاطمت بهما أمواج الدنيا بدايةً .. وشرعا في الاستقرار شيئًا فشيء ..
من يتقوقع في الظلام حياته بأسرها، قد يعميه النور عند الخروج .. إلا إذا ساير الأمور تدريجيًا .. وتكيف .. استطاع التكيف أخيرًا مع مسار حياته..
_أنا في طريقي للعمل الآن، نعم، اقتربت من المتجر، أتريدين شيئًا؟
قالها بشر متحدثًا في هاتفه إلى أمه .. لقد وجد عملًا في متجر صغير لبيع الزهور .. وكأن الدنيا تلقيه من شرقها إلى غربها دفعة واحدة، من قاع الدنس إلى قمة الطهارة ..
ردت أمه ممطرة إياه بدعواتها مع تمنيات لا معدودة بسلامته قبل أن تغلق المكالمة، فأكمل بشر طريقه إلى المتجر بنفس راضية .. كل دواخله تعايشت مع الأجواء المحببة في هذا البلد .. إلا قلبه .. ما زال يئن على قطعة منه تركها قبل رحيله ..
دخل إلى المتجر ملقيًا السلام على زميله الذي أوشك على إنهاء مناوبة عمله الصباحية .. فرد زميله السلام قبل أن يقول مستدركًا:
_جاءت فتاة لتسأل عنك منذ قليل .. إنها تنتظرك بالداخل بينما تشاهد أنواع الزهور.
عقد بشر حاجبيه معقبًا بتعجب:
_فتاة!
أجاب زميله مؤكدًا:
_نعم، تبدو أجنبية، لا أظنها عربية كانت تعيش بالخارج مثلًا.. من أين تعرفها؟
لم يكد يتم جملته حتى أسرع بشر إلى حيث أشار زميله .. قدماه تهرولان وقلبه يسبقهما .. وتسمر بمحله عندما لمحها من الخلف .. تكفي حمرة خصلاتها وتميز قامتها ليعرفها دون النظر لوجهها .. ربما احتاج بعض الوقت ليستعد لمقابلتها مراقبًا إياها بصمت .. لكن عرة غادرة تحالفت معها لتفصح عن وجوده على حين غرة .. فانتفضت ملتفتة إليه..
بعد كل ذلك الوقت .. حظت عيناه بمقابلة مقلتيها .. وتلك القطعة المفقودة بقلبه عادت لتبث فيه الطاقة الكافية ليضطرب بنبضات ثائرة ..
ضغطت على شفتيها مبصرة إياه بعينين لمعتا بكسوة الدموع .. فتنحنحت متماسكة لتتقدم منه أولًا .. ثم مدت يدها بحقيبتها متحاشية النظر إليه لتخرج قارورة متوسطة الحجم احتفظت بها طويلًا هناك .. فقربتها منه مبتلعة ريقها بثبات قبل أن تنثر قطرات العطر فوقه متمتمة:
_ما زلت لا تهتم بوضع عطر مميز.
رفعت عينيها إليه، وكادت تنطق حين قاطعها مبادرًا بكلمة فاض بها صدره، فجرفت دموعها إلى وجنتيها:
_اشتقت إليكِ.

نهاية الفصل الثاني والثلاثون.


فاطمة محمد عبدالقادر غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 09-03-24, 07:56 PM   #214

فاطمة محمد عبدالقادر

? العضوٌ??? » 478303
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 752
?  نُقآطِيْ » فاطمة محمد عبدالقادر is on a distinguished road
افتراضي


الفصل الثالث والثلاثون والأخير
"بعثٌ نقي"

مـر الصيـف يُناوبـه خريـــف
بين الغصـون يُآنسه حفيــف
عصفت والربيع في دواخلنا
سكنت الأفئدة ونبتـت أَمْنـا
فـمــا انبثـق حـرثٌ مخيــف

آثر عمر مرور ما يزيد عن شهر ونصف على وفاة جده قبل أخذ خطوة التعارف بين والدته وأخته وضي وعائلتها، رغم حرصها على تقديم التعزية إليه ومقابلته في أقرب وقت سمح لهما، فاتفق عمر مع السيد مختار بشأن الأمر، واستعدت السيدة صفا بإعداد أصناف من الطعام الشرقي الدسم وفق توصيات ابنتيها اللتان ارتأت كل منهما في والدة عمر _وفقا لحديث ضي عنها_ امرأة شعبية متسلطة ذات وجهة عقلانية راقية.
في اليوم الموعود، وقفت منة في غرفتها تضع لمساتها الأخيرة من مساحيق التجميل فوق وجه ضي التي أعارتها منة حمالة صدر من السيليكون لتعزز مقوماتها الأنثوية أمام حماتها، وقالت بخبرة:
_هكذا سترى حماتك أن مقوماتك لا تقارن، لكن احرصي ألا تختبرك اختبارًا غير لائق.
علقت ضي مستفسرة:
_ماذا تقصدين؟ كيف ستعرف السيدة إذا كانت مقوماتي غير طبيعية؟
سبقت نبراس شقيقتها بالرد:
_لا تسألي، فقط ابتعدي عنها.
أومأت ضي برأسها بلا اهتمام، ثم قالت ببعض التشكيك:
_لكن أليس هذا يعد خداع؟
أجابت منة نافية:
_هذا إن كنتِ تخدعين عريسك نفسه، لكن هذه والدته التي لا تخصها مقوماتك في شيء، هذا فقط كي تكسبي نقطة مهمة لديها، وأنا سأجلس بالقرب منك أعد لك هذه النقاط.
قالت ضي بتوعد وهي تضبط من وضعية صدرها:
_حسنًا، لأجل عمر فقط سأتحمل تسلط هذه المرأة، لكن لو بالغَت لا تلوميني على ردة فعلي.
اتفقت معها منة دون اعتراض وهي تبتعد عنها لترى نفسها في المرآة، فابتسمت لصورتها سائلة بغبطة:
_هل أبدو حسناء؟
ردت نبراس باستنكار:
_حسناء فقط؟ بل أجمل من ذلك.
بينما أجابت منة بروح الصديقة المقربة التي ترى رفيقتها بعين سحرية:
_في أروع هيئة من الممكن أن يصل إليها البشر.
ابتسمت نبراس قائلة:
_أدعو أن يمر اليوم على خير، فريد يعرف عمر ويقول إنه رجل لا غبار عليه، وهاشم أيضًا.
سألت ضي معقبة:
_من هاشم؟
أجابت نبراس باختصار:
_شقيق زوجي.
واستفاضت منة شارحة وهي تجلس على طرف الفراش بجوار شقيقتها:
_ذلك الذي خطب ضحى رحمها الله، زوجته الحالية هي ابنة خالة عمر، ويدير فرع الشركة الثاني لذلك الذي يعمل به عمر.
تبين التعجب على وجه ده وهي تستمع إلى تلك الروابط، فعلقت عفويًا موجهة حديثها إلى نبراس:
_حقًا؟ أي أن ضحى كانت ستصبح سلفتك!
همست منة إلى نبراس باستفزاز:
_أو ضرتك.
نظرت لها نبراس شذرًا وهي تلكزها بغيظ مبادلة إياها الهمس:
_سأضربك.
نهضت ضي عن مقعدها أمام المرآة قائلة وهي تهم بالخروج:
_سأنتظر بالحديقة.
سرعان ما استوقفتها نبراس محذرة:
_إياكِ، ستظن والدته أنك متلهفة على هذه الزيجة!
ردت ضي ببساطة:
_أنا بالفعل متلهفة على هذه الزيجة!
عم الصمت للحظات كلحظة سينمائية يغطيها صوت صرصور الحقل، قبل أن تتراجع نبراس قائلة:
_حسنًا، لكن بمجرد أن تلمحي سيارته عودي إلى هنا بسرعة دون أن يرونك، ولا تخرجي إلا حين يناديكِ أحد منا.
أومأت لها ضي بفهم، ثم خرجت بخطوات واسعة تسابق نبضاتها على الدرج، حتى بلغت الحديقة في دقيقة تقريبًا .. تنتظره رغم حرارة الأجواء والتقلبات المفاجئة في هذا الوقت من السنة، لكنها تعلم أنه سيأتي .. وعدها بأنه سيأتي.
انتبهت لقدوم رجل يبدو في منتصف العقد الثالث من عمره، خيل لها أنها رأته من قبل، لكن هل تذكر من هو؟ لا .. بالطبع لا.
انتبه لوجودها فتسمرت ملامحه للحظات بدهشة.. حسنًا، على الأقل علمت من رد فعله أنه كان يعرف أختها، لكنها ما زالت لا تذكر من هو.
_مرحبًا يا آنسة ضي، حمدًا لله على سلامتك.
ويعرف أيضًا بقصتها! ردت ضي باقتضاب محاولة تذكره:
_مرحبًا..
اتسعت عيناها فجأة مستعيدة بعقلها بضعة صور عرضتها عليها منة منذ أيام لحفل زفاف شقيقتها، فقالت بحماس متعرفة عليه:
_أنت زوج نبراس! انتظر.. تفيد؟
لم يعرف هل علي الرد بالتأكيد أم بالنفي على هذا السؤال الشبيه بوخز الإبرة بعد مسح قطنة التعقيم، فأومأ مؤكدًا بينما يصحح:
_فريد.
كان يبدو عليه الارتياب منها ككل من يعرف توأمها ثم يقابلها، تلك الملامح التي يصحبها تعليقات من نوع "لستِ هادئة مثل أختك." أو "لِم لستِ بعقل أختك الرزين؟" أو الاختيار الثالث والذي تفضله "أخذت أختك كل الهدوء وتركت لكِ العته."
_عفوًا.. نبراس بالأعلى، سأناديها لك.
قالتها ضي فتوقع فريد منها أن تصعد إلى غرفتها لمناداتها من الداخل كالمعتاد، إلا أنها تحركت لخطوتين حتى وقفت أسفل شرفة غرفة منة منادية بصوت جهوري:
_نبــراااس.

بالأعلى.. التفتت منة إلى نبراس في الغرفة مستكملة مشاكستها:
_ألا تقلقين أن يراها أحدهم بالأسفل في موعد عودته من العمل؟
أشاحت نبراس بوجهها عنها قائلة بإباء:
_أنا لا أغار.
مطت منة شفتيها مصطنعة الاقتناع وهي تعلق:
_نعم نعم بالطبع، لهذا تصرين على العودة بمفردك منذ جاءت ضي إلى هنا، ولم تخبريه بموعد اليوم كي لا تأتي سيرتها في حديثكما.
صمتت نبراس لوهلة، ثم ردت بإنكار مستميت:
_اصمتي يا منة، ما أفعله لا علاقة له بضي، كما أن فريد لديه عمل لوقت إضافي اليوم، أي لن يأتي ليقلني الآن، يتأخر عادةً بنهاية الأسبوع.. لذا استريحي واخرسي.
قاطع محادثتهما صوت نداء قادم من الشرفة، فأسرعت كلتاهما إلى هناك حيث استطردت ضي مشيرة إلى فريد الواقف على بعد خطوات منها:
_زوجك ينتظرك بالأسفل.
نظرت نبراس إلى المشهد بصمت غير متداركة صدمتها، حين كتمت منة ضحكة مستفزة أوشكت أن تهرب منها قائلة:
_كدت أخبرك أن اليوم هو الثلاثاء، لسنا في نهاية الأسبوع بعد.

هرولت نبراس إلى الأسفل تنفث النيران من أذنيها، قطعت الطريق إليه بخطوات ناهبة، ثم وقفت أمامه متمالكة غضبها غير المبرر بالنسبة إليه، ثم قالت ببعض الحدة التي انكسرت برجفة مقلتيها:
_لم أتيت الآن؟
عقد فريد حاجبيه بتعجب، ثم رد مستنكرًا:
_ما هذا الاستقبال؟
وقفت متقبضة تلتقط أنفاسها، ولم تخفَ عنه نظراتها المختلسة إلى ابنة عمها بالخارج من الشرفة الزجاجية، ولانت ملامحها قليلًا رغمًا عنها مع رده المحبط، فيما اقترب منها قليلًا ليضمها بهدوء طاح معه ضيقها، فقالت بحرج رغم تورد وجنتيها وكأنها تخبره بعبارة غير مباشرة أن المكان كله محاصر:
_أمي في المطبخ وعمي في المكتب ومنة بالأعلى وضي بالخارج.
رد بعدم اكتراث:
_وأنا زوجك.
افتر ثغرها عن ابتسامة صغيرة، ثم قالت مغمغمة:
_كنت أعني أنني استعرتُ سيارتك .. هل أتيتَ ماشيًا كل هذه المسافة؟
أجاب مستغلًا الفرصة لمغازلتها كعادته:
_بل أتيتُ مهرولًا أتلهف لرؤيتك بعد يوم عمل طويل افتقدتك به يا حسناء العينين.
نجح في اجترار ابتسامتها، إلا أنها لكزته بخفة معلقة:
_مبتذل.
انتفضت مبتعدة عنه بغتة حين جاءهما صوت أدهم الذي دلف إلى المنزل قائلًا:
_رأيت دراجتك البخارية بالخارج فظننتني أتوهم، لم نرك منذ وقت ليس بقليل يا رجل!
تنحنح فريد مستديرًا إليه ليرد:
_كيف حالك يا أدهم؟ كان العمل ضاغطًا هذه الفترة فقط.
رمق زوجته بنظرة جانبية افتعلت عدم ملاحظتها، فيما قال أدهم:
_أتيت لأحضر شيئًا لأبي، ستذهب الآن صحيح؟ انتظرني بضع دقائق لنخرج سويًا.
أومأ فريد له بتأكيد مبالغ به وكأنه يفهم تمامًا ما يقصده، ختى دخل أدهم إلى مكتب والده، فالتفت إلى نبراس بعدم فهم سائلًا:
_ما الأمر؟ لم تبدون جميعًا وكأنكم تطردونني اليوم؟
قالت نبراس متهربة من مواجهة عينيه:
_سيأتي عمر مع عائلته للتعارف بعد قليل ورتبت أمي لعزيمة انتهينا من تجهيزها منذ بعض الوقت، عليّ البقاء معها ومع ضي .. أشعر أن ذلك سيشعرها بالاطمئنان لوجود بعض من عائلتها الحقيقية حولها.
علق فريد بمفاجأة:
_لم تخبريني! كنت سأمر لأصحبك مساءً على الأقل.
عادت تشيح بوجهها قائلة بمراوغة:
_نسيت.
كانت غيرتها جلية على أمارات وجهها وتصرفاتها غير المحسوبة رغم تمسكها بقناع الثبات، فوارى فريد ابتسامة ملحة، ثم مال ليقبل جبينها في لفتة دافئة أراد بها تحرير قلبها المكبل بقيود الماضي، ثم قال:
_حسنًا، سأغادر.
شرع بالتحرك مواصلًا:
_سأنتظر أدهم بالخارج، أظن لديكن استعدادت قبل أن يحين الوقت.
قبضت على ذراعه بغتة وهي تومئ برأسها مستنكرة تقول:
_لا، انتظره هنا!
رفع حاجبه مناظرًا إياها بنظرات ضيقة، فحررت يده قائلة بتراجع:
_الشمس حارقة بالخارج، ربما تتأذى، ابقى معي هنا.
رد معاندًا:
_أتيتُ للتو من هذه الشمس!
رفعت يدها تتحسس جبينه بمبالغة قائلة باستدراك:
_صحيح! هل أصبت بضربة شمس؟ هل ارتفعت حرارتك؟ انتظر هنا لا تتحرك، سأحضر لك مشروبًا باردًا.
أوشكت على التحرك، فأمسك هو بيدها هذه المرة معلقًا بذهول:
_نبراس!!
التفتت له بترقب .. في هذه اللحظة هي لن تقتنع بحبه لها وتفردها بقلبه ببضع كلمات، تحتاج فعلًا يلين له قلبها ويذيب جليد أفكارها، فبادلها نظرات دافئة، ودنا منها ببطء أغمضت له عينيها باستسلام .. قبل أن تخرج منة من غرفتها منادية من الأعلى:
_نبـراس..
ابتعدت نبراس سريعًا مجيبة، فيما تمتم فريد بنفاذ صبر من هذه العائلة هادمة الملذات:
_سحقًا لكِ ولخطيبك في يوم واحد.
وكأنه قد أتى على السيرة، فقد خرج أدهم من غرفة مكتب أبيه مشيرًا إلى فريد الذي غادر معه مرغمًا وهو يشير لزوجته بأنه سيهاتفها لاحقًا.


بعد عبارات الترحيب المعتادة والتعارف بين الطرفين، جلست العائلتان في غرفة الضيوف انتظارًا لنزول العروس التي راسلتها منة في الوقت المناسب للخروج .. ومنعًا للفضائح، لم تحضر هي أكواب العصير.. بل تقدمت من الحضور برقة لتسلم عليهم بابتسامة جميلة، من بينهم عمر الذي رمقته بتحذير حين أوشك على الضحك ملاحظًا ذلك التغيير الطارئ عليها، ثم جلست بين نبراس ومنة التي جاورتها صفا، فبادرت والدة عمر قائلة:
_تبارك الله، عروسك جميلة يا عمر.
فردت منة إصبع السبابة خلسة مبسملة لبداية تعداد النقاط، حين ردت ضي مطرقة برأسها وهي تعيد خصلة خلف أذنها:
_شكرًا.
فعلقت والدة عمر متعجبة ممن ظنتها متأثرة بانفتاح الغرب:
_وخجولة أيضًا! ما شاء الله.
فردت منة إصبع الوسطى بارتياح، فيما نظرت عالية إلى ضي بنظرات مشككة، لقد رأت لها بعض الصور على هاتف عمر .. لم تكن معدومة الإمكانيات، بل هي في الأساس ذات مقومات أنثوية جذابة دون إفراط، لكن مقوماتها العلوية اليوم أضفت إليها لمسة مغرية تكاد تجزم أنها زائفة، ولاحظت ضي نظراتها، فحدجتها بنظرات مرعبة كمن تخيف طفلة في السابعة مستغلة انشغال والدتها في الحديث مع السيدة صفا، ورفعت يدها إلى رقبتها مشيرة إليها بتهديد (سأقتلك إن نطقتِ بكلمة) فعادت عالية في جلستها بوجل، وجذبت كم سترة عمر باستغاثة، فهمس لها عمر مطمئنًا:
_إنها تمزح معك.
فانكمشت عالية على نفسها صامتة.. بينما تحدث والدتها بنبرة ذات مغزى:
_ألا تشعرين بالبرد؟
أجابت ضي بعدم فهم:
_لا.. الجو حار اليوم!
شاركتها منة الغباء، فيما لكزتها نبراس، فاستطردت معدلة إجابتها:
_قليلًا..
همست لها نبراس بنفاذ صبر:
_ترمي إلى قصر ثوبك.
نظرت ضي إلى الربع الأخير الظاهر من قدمها بدهشة قائلة:
_إنه أطول ثوب لدي!
أنزلت منة إصبع الوسطى مكتفية بنقطة واحدة بعد الإجابة المخزية الأخيرة، فارتبكت ضي.. مظهر والدته راقيًا جادًا كسيدات الطبقة الأرستقراطية، متخشبة الوجه، حادة النظرات كناظرة لمدرسة ثانوية، وجهها لم تمسه مساحيق أبدًا لكنه دموي صحي، وشفتاها رفيعتان حادتان.. تبدو أكثر رعبًا مما تخيلته.
نطق السيد مختار بتحية مبطنة:
_شرفتمونا يا عمر.
رد عمر ببعض الحرج لاكزًا والدته خلسة:
_الشرف لنا يا سيد مختار.
عادت والدته تتحدث :
_عرفت من عمر أن عروسنا كانت تعيش بالخارج، في الحقيقة قلقت بعد علمي بهذا الأمر ألا تكون على دراية بعاداتنا وتقاليدنا، نحن شرقيون نتمسك بأصولنا وأخلاقنا منذ قديم الأزل.
ردت صفا دفاعًا عن الفتاة التي شرعت تتوتر:
_ضي على دراية كاملة بعادات وتقاليد مجتمعنا يا سيدتي.
تدخل عمر مانعًا تأزم الأجواء:
_ضي تربت في أسرة مصرية يا أمي، بالطبع هي على علم بكل شيء يخص عاداتنا، والأهم ديننا.
تدخلت ضي مجيبة عن نفسها بنبرة ملائكية:
_كنت أعيش بالخارج لكني أتمسك بأصلي الشرقي، لم أكن لقمة سائغة في فم أحدهم أبدًا، لطالما كنت صعبة المنال.
عادت منة تفرد إصبع الوسطى لإجابتها، قبل أن تكمل والدة عمر استجوابها:
_لا تؤاخذيني في تعجيلي بهذا السؤال، لكن فتاة غربية مثلك، ماذا تعرف عن إدارة شؤون منزل شرقي؟ هل يمكنك طهي أصناف طعامنا مثلًا؟
عاد عمر يكلزها متمنيًا منها الصمت، بينما أجابت ضي بسلاسة:
_أنا لستُ سيئة في تعلم كل ما هو جديد.
قالت محاجية:
_بعض الأشياء لا يمكن اكتساب الخبرة بها بسهولة.
فردت ضي بابتسامة بريئة:
_وأنا لا أبحث عن الخبرة السريعة، أتعلم قدرما أستطيع ثم سأنهل من خبرتك بالتدريج يا (ماما).
فردت منة أصابعها العشر باستحسان، حين لانت تعبيرات وجه السيدة ابتهاج معلقة:
_لا بأس.
نطق مختار مجددا بصبر قليل:
_أنرتمانا يا عمر.
رد عمر بحرج، فيما مالت منة على ضي هامسة:
_كان عليّ أن أعد النقاط لأبي، يبدو أنه على وشك أن يفقد أعصابه.
همس عمر إلى أمه من بين أسنانه:
_أمي، لا تفتعلي مشكلة ما بأسئلتك.
ردت أمه معترضة:
_أليس عليَّ أن أعرفها جيدًا لأبدي رأيي؟
همس مستنكرًا:
_لسنا في رؤية شرعية ونفكر في الزواج، إنها مقابلة عائلية للتعارف، لكن علي تذكيرك أنها بالفعل زوجتي!
تحدثت صفا بمودة قائلة:
_ضي كإبنتي، لا يقل قدرها عندي عن أدهم أو نبراس أو منة... نحن عائلتها التي ستحميها وتقف في ظهرها دومًا، لذا لا تحسبها أبدًا لقمة سائغة.
عم التأثر جدران الغرفة، والتفتت إليها ضي بعينين تلألأت بهما عبرات ممتنة، عندما مالت ابتهاج قليلًا على ابنها هامسة:
_ما حكاية اللقمة السائغة؟ هل هو داء في العائلة؟
رد مقتضبًا:
_شيء من هذا القبيل.
قال مختار جديًا:
_أنا أعرف أخلاقك يا عمر، وما زلت أكن لك كل الاحترام والتقدير لما فعلته مع ابنتنا ضي .. وأنك حتى هذه اللحظة لم تتجاوز حدود الأدب والأمانة في تعاملك معها رغم إعجابك بها ورغبتك في الزواج منها.
همست منة إلى ضي متهكمة:
_لم يرَ لقاءات خلف الشجرة.
لكزتها ضي رامقة إياها شذرًا،
_أقدر ذلك يا سيد مختار، ولأجل ثقتك هذه أعدك أن ضي ستكون في عيني، أنا لم أفكر فيها بهذا الشكل غير اللائق ولو لمرة واحدة، أنا أحبها ولن أقبل عليها أي تصرف كهذا قبل أن تكون في منزلي.
واصلا حديثهما، فيما باشرت العائلة تنسحب لترك العروسين بمفردهما قليلًا، فلم تستطع ضي إلا أن تعلق همسًا قبل أن تخرج:
_ماذا هذا النفاق العلني؟ لقد أمسكت بكم بنفسي من قبل ثلاث مرات!
دفعتها ضي لتسرع بالخروج دون إضافات، ولم تنسَ أن تشيع عالية بنظرات مهددة، قبل أن ينبهها عمر:
_توقفي، إنها تخاف بحق.
وهنا تكمن اللذة التي تشبع النزعة التنمرية بداخلها، ما الممتع في إخافة شخص لا يخاف؟ لكنها ردت ببراءة:
_حقًا؟ لم أكن أعرف، كنت أشاكسها فقط.
طالعها بعدم تصديق، قبل أن تدير دفة الحديث قائلة:
_الجو حار بالخارج، وكان عاصفًا منذ قليل، ظننت لوهلة أنك ستعتذر عن الحضور وستؤجلها.
رد عمر ساخرًا:
_ولو كان هناك جمر على الطريق كنت سآتي لكِ طيرًا.
احتلت ابتسامتها الجميلة الرائقة وجهها، وضمته بعينيها الدافئتين، فاستراح قليلًا من قلقه بشأن تأثير كلمات أمه عليها، لذا عقب قائلًا:
_لا تحزني لحدة كلمات أمي، هي فقط تحب النظام والوضوح منذ البداية، والزواج أمر مصيري بالطبع أرادت أن تكون على بينة من كافة الأمور، على الرغم من صعوبة أسلوبها.
ابتسمت للحرج الذي كسى وجهه لمرة نادرة، فقالت بتفهم:
_من حق والدتك أن تطمئن عليك.
أراحه تفهمها، وربتت ابتسامتها على قلبه، فتبسم ثغره عائدًا إلى سابق عهده وهو يخفض نظراته قليلًا قائلًا بوقاحة:
_هل غبتُ عنكِ كثيرًا؟
عقدت ذراعيها موبخة إياه دون جدية:
_تأدب!
ثم قالت مستعيدة كلمة قالتها والدته وعلقت بذهنها:
_ماذا تعني قديم الألز؟
∆•∆•∆•∆•∆
لأول مرة ترتدي فستانًا ابتاعه لها دون شعور بالحرج وامتنان الفضل، أو الخزي من الزمان والقهر على الحال، وإن كان شعور سعادة يتسرب إليها في كل مرة لينتشلها من بوتقة رثائها لذاتها، فهذه المرة شعور السعادة يعتريها بكليتها، لا يأبه بأية اعتبارات ماضية، ولا يرى في المستقبل إلا البشرى، تختال بثوب زفافها، عروس حقيقية ترتدي الأبيض، بِكر في خدرها .. نقية لم يطلها الدنس رُغم استحالة هذه الأمنية في نظرها ذات يوم .. ما كان لكافة الفتيات شيئًا طبيعيًا روتينيًا ترفضه بعضهن، كان لها حلمًا .. الدنيا بأكملها لا تسع حجم فرحتها اليوم، بلغت أجنحتها عنان السماء .. دان تزف عروسًا بكامل إرادتها في ثوب أبيض تبصر فيه الصفاء للرجل الذي تحب! هل تبدو الجملة منطقية؟ أم أن عقلها فقط هو الذي لا يستطيع استيعابها؟
تجهزت وتزينت في غرفة فندق لم تحلم أن تطأه قدميها في أعتى أحلامها، وانتظرها وضاح بالأسفل ..
لقد رتب لكل شيء، وفي كل الأحوال، دان أيضا لا يمكنها البقاء في هذا البلد بعدما حدث.. ليس وهي تعلم بخبايا أعمالهم وبحقيقة شخصياتهم، وقد غدرت بأحد كبارهم من قبل.. فحجز تذكرتين للسفر إلى بلد بعيد بعد عقد القران مباشرة .. ربما نهاية سعيدة لبداية حزينة .. أو بداية جديدة لسعادة أبدية.
وما لم يكن مرتب له هو تأخر المأذون، والذي انتظره وضاح على مسافة من الولي والشاهدين الذين كان على معرفة وطيدة بهم .. لحظات مبهجة .. حلة كلاسيكية وثوب ناصع .. صور تلتقط من شخص موثوق لتبقى ذكرى آمنة راسخة بالأذهان، ورحلة نحو المجهول!
أسرعت دان في نزولها الدرج تنظر في ساعة هاتفها بتوجس قائلة:
_هكذا سنتأخر على موعد الطائرة.
لملمت أذيال ثوبها في خطواتها المتوترة، فعرقلتها إحدى الدرجات الأخيرة، فأطلقت شهقة حين كادت تهوى مؤذية قدميها، لكنه تلقاها بذراعيه مدعمًا ظهرها للوقوف بثبات.. ورأى ملامحها عن قرب خلف زينتها الرقيقة، وعينيها اللتين ازدادتا اتساعًا وتعزز جمالهما بلمسات فنية .. كل ذلك المجهود في الثوب والزينة، ولم تسحره سوى نظراتها!
حرر خصرها مرغمًا، لكنه لم يحرر عينيها قائلًا:
_تريثي، الأميرات لا يركضن.
أهدته بسمتها اللطيفة، وقد ازدادت إشراقًا وهي ترد:
_أنا أميرة؟ وأنت أميري؟
وجاءت إجابته على هيئة سؤال:
_ألستِ عروس البحر؟
صمتت مبقية على ابتسامتها التي اتسعت وهو يكمل:
_لكني لست ذلك الأمير السطحي الغبي على حد قولك الذي سحره جمال صوت الحورية، سحرتِني دون أن تنطقي بكلمة.
تبعثرت الكلمات فارة عن لسانها، فعجزت عن النطق أمام كلماته التي بعثت الحمرة إلى سائر وجهها، فلم تجد إلا أن تتمتم بخجل:
_وضاح..
رد وضاح بتماسك مشيحًا بوجهه عنها:
_لا تناديني هكذا قبل عقد القران.
منعت ضحكة خجلة بكفها، حين لمحا المأذون قادمًا من بداية الرواق .. التفتت دان مترقبة وصوله إليهم، حين باغتتها طلقة بشرية أفزعتها بالهجوم محتضنة إياها .. ديبرا!
ابتعدت عنها لترى ثوبها النظيف، يبدو بسيطًا لكنك لن تخطئ كونه غالي الثمن، حذاؤها منخفض مدبب، تلك الأحذية العالية لا تليق بمن في حماس ديبرا، شعرها مرتب، انتشرت بعض الحمرة في وجهها الشاحب .. عيناها دامعتان تناظران رفيقة العمر كأمها التي تفتقدها في هذه اللحظة..
_يا إلهي، أتى اليوم الذي أراكِ فيه عروسًا جميلًا!
شعرت دان بالدموع تتدفق إلى وجنتيها هي الأخرى وهي تهتف بعدم تصديق:
_ديبرا!
ثم احتضنتها مجددًا باكية، فقالت الأخرى بتأثر:
_مبارك يا دان، أعرف كم تمنيتِ هذا اليوم.
ابتعدت دان فأخرجت ديبرا منديلًا لتجفف لها عبراتها كي لا تفسد زينتها، فيما ردت الأولى بابتسامة واسعة:
_ العقبى لك.
رأت داي هيون قادمًا من خلفها، فمالت لتقول عند أذنها: لتقول عند أذنها:
_ما هذه الهيئة؟ هل أوقعت بداي هيون؟
أجابتها ديبرا بذات النبرة:
_لا، بل أعمل معه .. لكني سأوقعه قريبًا.. اكتشفت أن له اسمًا انجليزيًا سهلًا، أي أن العقبات كلها زالت، لن أضيعه من يدي.
غمزت لها بعد أن ختمت جملتها، ثم التفتت إلى وضاح قائلة بمشاكستها الأثيرة:
_وجدت رب عمل يعاملني جيدًا ولا يفضِّل عليّ كوب الشاي!
ابتسم وضاح غير مواريًا امتنانه لحضورها، ثم رد بتهكم:
_أراهن أنه يخصم الخسائر من راتبك.
ضحكت دان غير مصدقة حضورها حتى هذه اللحظة .. لا تعرف كيف يمكنها ألا تراها مجددا بعد سفرها .. لن تفتقد من هذا البلد إلا هي .. كانت شريكتها في كل لحظة، وفي كل خطوة، حتى في وقت النوم كانت ساكنة الفراش المجاور .. أول ما فطنت إلى مشاعرها نحو كل شيء، وشهدت بضعة كلمات منها حين شح نطقها بالأحرف .. لعلها تسترجع أيضًا ما دار بذهنها في هذه اللحظة، لأنها لا تستطيع أن تتحكم في دموعها، تمامًا مثلها.

شرع المأذون في عقد القران، وانتقى وضاح وليًا لها ذلك الشيخ الذي أسلم على يديه، وشهد صديقان له.. وبمجرد إتمام الإجراء، برح وضاح مقعده ناهبًا الخطوات إليها .. لم يهتم بضحكات أصدقائه وصياحهما المهنئ، أو بصفير ديبرا الحماسي وتصفيقها برفقة داي هيون.. رأى دان .. الفتاة التي لم يرَها أحد من قبل، هو لم يرَ سواها.
كم حثته نفسه على فعلها مرارًا ولم يستطع، ذراعاه كانتا تعصيانه وتتخشبان قبل الالتفاف حول جذعها، اليوم هو حر، جسده طوع أمره، ذراعاه يطوقانها بقوة لم يدركها، ولم تؤذِها .. وكم تمنت هي أن تفعلها ونهرتها نفسها ونعتتها بالجشع، تمنت أن تحتضنه امتنانًا .. وهيامًا .. واعتذارًا .. وعجزًا عن التعبير عما يموج به قلبها.

ابتعدا لتجفف دان عبراتها بهدوء قائلة بضحكة حرجة:
_تأخرنا جدا جدا..
أخرج وضاح هاتفه مستقبلًا رنين أخته الملح منذ بعض الوقت، فداهمته نارين بزغرودة مباغتة جعلته يبعد الهاتف عن أذنه في الحال، قبل أن يتدارك الأمر ضاحكًا وهو يعود لاتصالها المهنئ.. حتى أزاليا راسلته صباح اليوم مباركة، لكنها آثرت عدم الحضور حرصًا منها على عدم تعقب الكاميرات لها، لا سيما بعد الفضيحة الأخيرة لتجارة عائلتها.
اقتربت ديبرا تودعها، ثم قالت بتأثر:
_سأحدثك كل يوم.
نظرت بطرف عينيها إلى داي هيون قبل أن تكمل:
_بعد العمل.
ضحكت دان تودعها بعناق أخير .. ثم استدارت في طريقها برفقة وضاح .. تأخر الوقت، وعلى طول الطريق يمطئنها أنهما سيلحقان بالطائرة، لا داعي للتوتر أو الهرولة، كانت تنتظرهما سيارة أمام الفندق، اتجهت بهما إلى المطار مباشرة، وعند ترجلهما من السيارة وإخراج الحقائب تفقدا الساعة، فتبادلا النظرات المتسعة، ثم قال وضاح بغتة:
_اركضي يا دان.
لملمت دان ثوبها على الفور راكضة معه وهي تسحب حقيبتها صائحة:
_ألم أكن أميرة منذ قليل؟
رد جاذبًا حقيبتيه الضخمتين خلفه:
_وهل أبدو لكِ كأمير؟ أسرعي!

لحسن الحظ، لحقا بالطيارة بأعجوبة، فاستقرا بمقعديهما مريحان ظهريهما .. ثم التفتت لتنظر له بعبوس، إلا أنها لم تستطع كبح ضحكاتها حين التقت عيناهما، وانفجر ضاحكًا في اللحظة ذاتها لسبب غير معلوم .. أمسك بكفها على حين غرة رافعًا إياه إلى شفتيه، ثم قال براحة نالها أخيرًا عند احتضانه المشروع ليدها:
_في كل مرة كنتِ تحضرين لي شيئًا، أو تصنعين لي طعامًا، أو تشيرين لي بكلمة ما.. كنت أتمنى تقبيل يديك هاتين.
دمعت عيناها بتأثر لكلماته، ولجلوسها الآن بجانب حلم مستحيل، هكذا كان ذات يوم.
_أحبك يا وضاح.
ابتسم لها وضاح بعذوبة، وأقلعت الطائرة عند اعتراف الحورية للأمير .. ربما نهاية سعيدة لبداية حزينة .. أو بداية جديدة لسعادة أبدية.
∆•∆•∆•∆•∆
مرت الشهور عليهما هونًا بين عمل وترتيبات، واستعدادت لرؤية نجم جديد ينير سماءهما بعد شهرين تقريبًا.
عصف جو الخريف بهما في طريق ذهابهما إلى موعد المتابعة لدى الطبيب، فتضاءل عدد المارين في الطرق، وعانى سائقو السيارات للرؤية من خلف الرياح الثائرة .. وفي منتصف الطريق هدأت الزوابع، وشرعت تمطر .. وصلا إلى موقع العيادة، فجذبت نارين مظلتها الاحتياطية لتترجل من السيارة قائلة بقلق:
_الطقس سيء جدا اليوم، أخشى أن يكون عدد كبير لم يحضر ومر دوري بعد كل هذا.
رد طارق بهدوء يناقض انفعالها تمامًا:
_لقد أتينا مبكرًا على أية حال، ادخلي أولًا، سأصف السيارة وألحق بك.
رغمًا عنها زار تساؤل ما رأسها، مر عليها كثيرًا من قبل لكنها لم تتمكن من صياغته.. هل رده الذي وصفته في رأسها للوهلة الأولى بالبرود هو في الواقع رد لا يليق بتوتر الموقف بالفعل؟ أم أن الموقف بسيط في الحقيقة لا يستدعي توترها هي؟ المثير للتعجب هنا أنها تظن قلقها المفرط أساسيًا لشعورها بالمسؤولية، لكنها تخفق عندما تحين لحظة التصرف .. بينما ينجح هو!! بذلك البرود الذي تحسبه!
آثرت الحل الثاني كي تهدئ أعصابها .. وبالفعل فلح ذلك الحل في إلهامها بعض الهدوء عند دخولها للتعامل مع الموقف في أسوأ حالاته..
تتدرب على حسن التصرف والتخلص من اعتماديتها لشهور حتى الآن، لكنها ببساطة، لم تختبر بعد! وتخشى حدوث ذلك.
منذ فترة قصيرة، وجدت عملًا عن بعد كمعلقة صوتية بعد تدربها على ضبط مخارج الحروف مرات ومرات، قيل لها إن خامة صوتها جيدة لهذا المجال، فاغتنمت الفرصة بمقابل زهيد يعلو تدريجيًا.

تقدمت من المساعدة الجالسة أمام مكتبها الصغير، فوقفت قائلة:
_هناك حجز باسم نارين حكيم الألفي.
وكأن أسوأ كوابيسها تتفنن في التحقق بتفاصيلها، فقد ردت المساعدة:
_مر دورك سيدتي، يمكنك الانتظار إلى آخر الكشف.
تغضن جبينها بانفعال مستنكرة الجملة الأخيرة، لكنها تحلت بالثبات قائلة:
_أخبرتِني على الهاتف أن آتي في الساعة السابعة، والآن الساعة السابعة إلا ربع، أي أنني جئت مبكرًا!
هنا علمت نارين صدقًا ما هو البرود، حين ردت المساعدة ببساطة دون أن تنظر إليها من الأساس:
_نعم، لكن الكثير ممن قبلك في الكشف لم يحضر.
تلك التي كانت ترغب في اختبار تدريبها على قوة الشخصية وحسن التصرف، صمتت تكافح رغبة في البكاء .. حتى تعجبت منها الفتاة، فرفعت رأسها إليها بعدم فهم لسبب وقوفها، فتماسكت متنفسة بعمق، ثم ردت:
_ليست مشكلتي.
عقدت الفتاة حاجبها متسائلة:
_ماذا تعنين؟
ردت نارين ببعض الارتجاف اللا إرادي:
_أعني أن عدم حضور الآخرين ليس ذنبي، موعدي في السابعة وأريد الدخول في السابعة.
عادت الممرضة لتنظر إلى الأوراق أمامها بلامبالاة قائلة:
_لم يتبقَ الكثير من الوقت على نهاية الكشف، ربما على هذه الحال ننتهي في التاسعة اليوم.
احتد صوتها بالغضب فارتفعت نبرته قليلًا وهي تسأل باستنكار:
_ألم تسمعيني؟
زفرت الفتاة قبل أن تنظر إليها قائلة بنفاذ صبر:
_هل تريدين افتعال المشكلات؟
أجابت نارين:
_بل ما أريده هو الدخول في موعدي، وهذا حقي.
_وأنا لا يمكنني أن أدخلك قبل هؤلاء الموجودين.
وكأنها تثير الجالسين عليها، ليتدخل بعض منهم معترضًا على رغبتها بالدخول قبلهم.. فتلفتت نارين للحظة تبحث عن طارق حين تكالبوا عليها .. لكنها عادت مجبرة لتواجه تلك الفتاة دون تراجع..
_كان دوري قبلهم بالفعل، أنا لا أعترض على الميعاد قدر اعتراضي على الموقف.. هل تعتقدين أنني أتيت إلى هنا لألعب؟
مصمصت إحدى الموجودين شفتيها، ثم علقت بصوتٍ مسموع:
_أتيتُ من سفر قبل موعدي بأربع ساعات ولم أفعل كما تفعلين!
_هذا شأنك، لا يعنينا في شيء.
دخل طارق ملقيًا تلك الكلمات في وجه تلك السيدة عند سماعه لأطراف الحديث من الخارج، فعبست بوجهها صامتة، والتفتت إليه نارين قائلة:
_تقول إن علي الانتظار إلى نهاية الكشف.
وجه طارق نظراته إلى المساعدة التي بدا عليها التوجس حين قال بنبرة جامدة:
_هل تظنينا متفرغين إلى درجة الجلوس هنا لساعات؟ إذا كنتِ لا تجيدين إدارة عملك وإعطاء المواعيد المناسبة تحسبًا لمثل هذه الظروف فهذه مشكلتك، عدم التزام الآخرين بالحضور مسؤوليتهم وليست مسؤولية زوجتي، لذا بكل هدوء هي ترغب في الحصول على حقها بالدخول في موعدها الذي التزمت بحضوره رغم سوء الأحوال الجوية، وإذا كان هذا خارجًا عن نظام عملك، فمن فضلك دعينا نتحدث إلى الطبيب الذي وضع هذا النظام بعد خروج الحالة التي بالداخل.
حاولت المماطلة معلقة:
_لكن يا سيد...
ضرب براحته على المكتب فانتفضت الفتاة لحظيًا، بينما يرد:
_بكل هدوء.
التزمت الفتاة الصمت للحظات، قبل أن تقول مستسلمة:
_حسنًا، ما يمكنني فعله هو استشارة الطبيب بعد خروج الحالة التي بالداخل.
غابت قليلًا بالداخل، ثم خرجت قائلة:
_ستدخلين بعد الحالة القادمة.
ارتسمت ابتسامة منتصرة على وجه نارين، ورفعت فخذها فوق الآخر بغرور من أسفل بطنها المنتفخ، فرمقها طارق شذرًا معلقًا ليفجر فقاعة الانتصار التي أحاطتها:
_لا تندمجي هناك رجال جالسون!
أنزلت قدمها عائدة إلى الواقع.. وعند عودتهما إلى المنزل، ظلت تحكي وتصف، وتعيد الحوار منذ البداية .. ولم تتوقف حتى في وقت الاستحمام.. ثم خرجت مسترسلة:
_هل رأيتني وأنا أرد بقوة؟ لم تحضر الموقف من البداية، وقفت أمامها ولم أهتز لأسلوبها معي.
قال ناصحًا بثقة محتال عتيد:
_إذا تأزم موقف ما ورأيت أحدًا يستخف بك جربي أن تقولي اسمك ولقبك بتعالٍ، حتى وإن كان اسم لا يعرفه سيهاب ثقتك.
رفعت حاجبًا مستحسنة الفكرة، ثم أضافت:
_وإن لم يصدق سأصطنع أنني أقوم باتصالات مهمة!
ثم أطلقت ضحكة عالية شبيهة بخاصة المدمنين مصافحة يده بيدها .. فشاركها الضحكات حتى خفتت .. لكن عيناه لم تبرح صفحة وجهها .. فتعجبت نارين سائلة:
_لم تنظر لي هكذا؟ هل تنوي رسم وجهي يا فنان؟
لمعة توهجت به مقلتاه حين أجاب:
_لستُ فنانًا، لكن عيني تهوى رسم تفاصيلك.
أُخذت نارين بكلماته .. قلما يتغزل بها بكلمات صريحة كهذه، لكنه حين يفعلها يصيب وترًا صحيحًا بداخلها.. فدنت منه طابعة قبلة رقيقة على شفتيه، لكنه أحكم إمساكه لرقبتها جاذبًا إياها إليه من جديد، ينهل من عذوبتها ولا يكتفي، وتبادله بشغف مطوقة عنقه بذراعيها الناعمتين.. إلى حد الكمال .. ولا حد للكمال!
∆•∆•∆•∆•∆
"فهمتُ أين تكمن معضلتي .. كانت أفراحي كالحبال، حين ترابطت انحلت .. لكني ما زلتُ لا أعرف لماذا ذابت!" خسرت كل شيء، التعبير الصحيح عما حدث لها هو أنها خسرت كل شيء، لا سبيل للتجميل .. كانت تملك كل شيء .. أب، نقود، نجاح، شهرة، وآخرهم الرجل الذي هواه قلبها .. خسرتهم جميعًا لأجل الأخير، ولا تستطيع الوصول إليه!
أمطرت الدنيا عليها سعادة فائضة، تلاشت عند توقفت المطر، اختلطت بالثرى وباتت وحلًا..
نأت آزاليا عن منزلها القديم، لم يعد هناك من يسكنه، ولم ترغب في دخوله من جديد، فمكثت في منزل أجرته لبعض الوقت، وباشرت أعمالها أسفل ضغط الوكالة والزملاء وتنمر الجمهور بعد انتشار الأخبار.. أصبحت هي آفة المجتمع بعد أفعال أبيها، الإدارات لم تعد تطمئن للعمل معها، والجمهور لا يطيق رؤيتها بسبب والدها .. لقد سمعت هذه الجملة من قبل .. تذكرها جيدًا .. "كلما نظرت إليكِ .. لا أستطيع أن أرى فيكِ سوى أباكِ." كم آلمتها تلك الجملة حين قيلت! وكم تشتاق لقائلها في هذا الحين!
اختطفها الاكتئاب كفريسة سهلة، ولا تذكر متى حررها، لكنها حينها شرعت على الفور تعيد الاتصال بوضاح وطلب مساعدته في الوصول إلى بشر .. كل منهما يبحث في جهه ولم يصل أي منهما إلى شيء إلا بعد قرابة النصف عام، فلم تنتظر، بمجرد تأكدهما شرعت تحجز للطيران ولمحل إقامتها في ذلك البلد، لا مجال للتفكير المسبق.
في يوم وصولها، تركت حقائبها دون رؤية المكان، وتوجهت مباشرة لرؤيته .. متلهفة .. لن تنكر .. مشتاقة.. قدر شوق تائه في الصحراء إلى نهرٍ جارٍ!
ألقت سلامًا عربيًا خرج منها متعثرًا عند مقابلتها لمن وجدته في ذلك المحل، فأجابها بترحيب، لم يكن يجيد الإنجليزية تمامًا، لكنه تمكن من التواصل معها ليخبرها إن من تبحث عنه قد أوشك على الوصول.. فتعمقت قليلًا في المكان لرؤية أنواع الزهور المختلفة .. في ركن خاص وضعت الزهور ذات المغزى الرومانسي .. مرتبة من الأسفل إلى الأعلى، تتضمن بضعة أنواع.. زهور التوليب، وزهور الفاونيا، الورد الجوري، وغيرهم .. وبالأعلى استقرت زهور الأوركيد .. بيضاء صافية، ذات مظهر راقٍ، كُتب على صومعتها عدة أسماء لها، مثل "زهور السحلب" و"زهرة عطر الملوك" وأنها تستخرج منها رائحة الفانيليا.
وقفت تتأمل بهجة ألوان الزهور وتنوع أشكالها بحس فني، هذا البلد _ليس فقط المحل_ به الكثير من المناظر الطبيعية الخلابة، من الجيد أنها أحضرت معها الهارمونيكا... انتفضت عندما طرقت مسامعها عرة أفصحت عن وجوده، فالتفتت إليه بقدمين هلاميتين..
بعد كل ذلك الوقت .. حظت عيناه بمقابلة مقلتيها .. وتلك القطعة المفقودة بقلبه عادت لتبث فيه الطاقة الكافية ليضطرب بنبضات ثائرة ..
ضغطت على شفتيها مبصرة إياه بعينين لمعتا بكسوة الدموع .. لم تخسر كل شيء .. وجدت من خسرت لأجله كل شيء، هذا عادل بما يكفي.
تنحنحت متماسكة لتتقدم منه أولًا .. ثم مدت يدها بحقيبتها متحاشية النظر إليه لتخرج قارورة متوسطة الحجم احتفظت بها طويلًا هناك .. فقربتها منه مبتلعة ريقها بثبات مستدعى قبل أن تنثر قطرات العطر فوقه متمتمة:
_ما زلت لا تهتم بوضع عطر مميز.
رفعت عينيها إليه، وكادت تنطق حين قاطعها مبادرًا بكلمة فاض بها صدره، فجرفت دموعها إلى وجنتيها:
_اشتقت إليكِ.
احتقن صوتها بغصة:
_لم تغِب عني.
ارتعش فكها بالعبرات، ولم تنزع عينيها عنه وهي تسترسل:
_بحثت كثيرا واستعنت بوضاح، لكن لم يصل أي منا لشيء .. في لحظة يائسة مني ظننت أنني لن أراك ثانية..
جذبها بشر إلى صدره مقاطعًا، فضمته بقوة تلكز ظهره بعتاب قائلة بنشيج:
_تعبت قلبي يا بشر.
وكأنه لا يملك من أمره شيئًا، وجد لسانه يفصح دون شعور:
_اكتمل قلب بشر .. برؤيتك.
ابتعدت قليلًا تتمالك نفسها حين سأل مغدقًا عليها اهتمامًا افتقدته طويلًا:
_كيف حالك؟ كيف كنت .. كنت تعيشين؟ كيف مر عليك كل ذلك الوقت؟
كانت تنوي التظاهر بالثبات أمامه، لكنها لم تستطع إلا أن تجيب صراحة:
_لم أكن بخير، لن أكذب .. كان قلبي يؤلمني .. أنا لا أكون بخير وقلبي يتألم.
أومأ إليها قائلًا:
_وأنا أيضًا.
التفتت متلهفة تسأل:
_لماذا؟ ألستَ مرتاحًا هنا؟ ما بك؟ لم لست بخير؟
جاءها رده حانيًا:
_كنتِ تتألمين.. أنا أيضًا لا.. لا أكون بخير وقلبي يتألم.
ثم استرسل:
_آلمني أن لم أكن بجانبك، كنا .. كنا نعاني سويًا.
علت وتيرة بكائها رغمًا عنها، ورغم مذاق الحنين التي أبت إلا أن يضحى لقاؤهما نديًا بالدموع، إلا أنه مفعمًا بلذعة الحرية، وإن كانت الحدود قد ضربت بنفسها فور إدراكهم للموقف، لكنها ما انفكت خاضعة لسيطرتهم الخاصة..
_أنا بخير الآن، لا أعرف فقط لم لا تتوقف دموعي، ما هذا الموقف المحرج!
قالتها باضطراب محاولة لملمة شتات نفسها، فمنحها ابتسامة زان بها ثغره، وهو يمد أطراف أصابعه ليمحي العبرات عن وجنتيها برفق، فتوقفت عيناها على ابتسامته معلقة ببسمة مبهورة:
_لم أرَ على وجهك ابتسامة كهذه من قبل!
لو كانت هذه الابتسامة فقط هي ثمن كل ما حدث، فهي راضية وشديدة الامتنان ..
سارت معه قليلًا في المكان، وحدثها عن حياته البسيطة في الفترة السابقة، وأنه يدير هذا المتجر في فترة ما بعد الظهيرة، في الصباح يعمل في مجال الترجمة لأحد المؤسسات الصغيرة التي لم تتطلب شهادة جامعية، نقطة قوته الكبرى هي لغته التي اكتسبها من عيشه بالخارج، ولأنه رفض الاحتفاظ بماله من عمله السابق وإقامة مشروع ما، فقد بدأ من نقطة الصفر من جديد.
خرجا ليقابلا زميله الذي قال بينما يجمع حاجياته للرحيل:
_انتهت مناوبتي، سأذهب الآن، أراك لاحقًا يا آرام.
آرام، ذلك الاسم الذي انتقاه لنفسه واستخرج به وثائق جديدة، هو اسم منتشر نوعا ما في هذا البلد .. لكنه أيضًا اعتمد معناه عند اختياره، أراد أن يثبتها إلى نفسه قلبًا وقالبًا .. آرام تعني السكينة والأمان، الهدوء والراحة.. وهم ما كان ينشدهم طوال حياته.
_أحببت اسم آرام، لكني أفضل اسمك الحقيقي.
قالتها أزاليا وهي تجذب هاتفه لتسجل رقمها ثم تتصل بنفسها، فيما حل بشر محل زميله سائلًا إياها:
_علام تنوين؟
فطنت ما يرمي إليه، فأجابت موضحة:
_تركت عملي قبل أن أنتقل إلى هنا.. انتشرت الأخبار كالنار في الهشيم منذ ذلك اليوم، وأثارت بضع مشكلات مع الهيئة الإدارية للوكالة التي أعمل معها، فكان علي الرحيل عاجلا أم آجلا.. استأجرت منزلًا هنا عن طريق الانترنت قبل قدومي..
طالعها صامتًا، فرفعت حاجبًا متسلطًا قائلة:
_ماذا؟ هل تريدني أن أعود من حيث جئت؟
هم بالرد حين استوقفته عرة، ثم قال بنبرة لا تحتمل التأويل:
_لن أدعك .. أدعك ترحلي، لا تفكري بالأمر.
أخفضت حاجبها مستسيغة إجابته المتملكة التي دغدغت حواسها، وقد لاحظت خفة حدة عراته عن السابق، ثم سألت فيما تجلس على مقعد مجاور له:
_علام تنوي أنت؟ لم تعمل بوظيفتين من الأساس؟
_لأن وظيفة واحدة لا تكفي لأتزوجك
أجفلت لصراحته المداهمة لحصون وجدانها، ولم تكد تتخطى تأثير جملته حتى أكمل:
_زواجي منك ليس نية، هذا .. هذا عزم ... سأتزوجك، مهما كلفني الأمر.
وكأنه تواطأ مع شجونها عليها، فقد نكأ إزماعه شغاف قلبها مرسولًا إليها بوجد شعوره، فلمعت عيناها بدموع وليدة تشيع سابقتها من نبع الحنين إلى نهر الهوى حتى مصب السكون.
∆•∆•∆•∆•∆
مرت الأيام بخيرات وفيرة، وأغدقت عليهم العطايا مدرارا، تروي ظمأ المشتاق، وتخمد لهب الثائر، وتطهر رجس العاصي..
داهم نارين المخاض في نهاية الشهر الثامن من حملها، فهلعت متصلة بطارق الذي أسرع إليها تاركًا عمله القريب لنقلها فورًا إلى المستشفى .. لم تعانِ كثيرًا في ولادتها رغم بضع صعوبات مرت بها أثناء الحمل، لكنها وضعت مولودتها بسلام، ثم أراحت رأسها جانبًا بإعياء .. لكم من الوقت نامت ومتى استفاقت لا تعلم، لكنها بدأت تشعر بألم يغزو نصفها السفلي .. رمشت بأهدابها محاولة الاستفاقة حين تقدمت منها ضي مسرعة بابتسامة واسعة وهي تنادي كلًا من طارق وعمر مخبرة إياهم باستعادتها لوعيها.. أخبرتها إن أمها مارية وشقيقتيها ذهبن قبل قليل لجلب بعض الأشياء لأجلها ولأجل الطفلة من المنزل .. يبدو أنها نامت كثيرًا، حتى أنها وصل إلى مسامعها بعض من مسامرة طارق مع ابن عمه بشأن العمل الذي تركه لبضعة ساعات ومن يتولى الأمور عنه بكياسة وما إلى ذلك .. استعادت وعيها بالكامل مشتركة مع ثلاثتهم في الحديث الخافت _بعدما جلبوا صغيرتها إلى أحضانها_ حتى أديرت دفته إلى اسم مولودتهما، فقالت نارين مبررة:
_اقترحتُ العديد من الأسماء، لكنه فضل من بينهم اسم فيروز.
ارتسم الاندهاش على وجه عمر الذي ظنها تولت أمر التسمية، فالتفت إلى طارق معلقًا:
_لماذا؟ لم يكن ذوقك رفيعًا من قبل.
رد طارق بمزاج رائق على صديقه مقتبسًا جملة الأخير:
_ماذا قالت فيروز؟
رد عمر مقلدًا إياه:
_قالت الكثير، أيهم تريد؟
أجاب طارق مشيرًا إلى صغيرته النائمة على صدر والدتها:
_قالت "أنا والقمر جيران".
ابتسمت نارين خجلة من مغازلته اللطيفة لها أمامهما، فيما علق عمر متفاجئًا:
_يا ابن اللعيبة!
ناظرته ضي بعبوس قائلة:
_تعلم!
صُعق من تلك الكلمة التي لم يتوقع حتى في أسوأ كوابيسه أن يسمعها بسبب طارق، فنظر إليه معلقًا بذهول:
_أتى اليوم الذي يُقال لي فيه أن أتعلم منك! هل اقتربت الساعة؟
لم تطل ضي البقاء آثرة تركها لترتاح قليلًا مع اقتراب عودة أهلها، فاستأذنت للمغادرة برفقة عمر الذي قال بينما يسيرا مغادرين:
_ما المشكلة إن حُجزت جارة القمر؟ يمكننا أن نسمي ابننا في المستقبل نيشان، كان يقدم برنامج (أنا والعسل) أيضًا!
رمقته بشرارات نارية قبل أن تسبقه بخطوات متسقة، فلحق بها مناديًا وهو يكتم ضحكة مستفزة:
_ضي، انتظري!!

اقترب طارق من فراش نارين ليجلس على طرفه، فقالت نارين متأملة صغيرتها التي بدأت في الاستيقاظ متململة:
_عيناها بنيتان، وشعرها أسود، أظنها ستشهبك.
رد طارق مخفيًا تهيبه من الأمر:
_عساها تأخذ ملامحك.
ابتسمت نارين بسكينة مراقبة نظراته الدافئة نحو طفلته، قبل أن يحملها بين كفيه مقبلًا إياها بحنو ..
هجوم مفاجئ من أختيها وأمها قطع خلوتهما بمولودتهما، فاقتربت ذهب تقول له بينما تفترس الصغيرة بعينيها المتقدتين بحماس:
_استقيظت! هاتها.. سألعب بها حتى الصباح.
شرعت تمد يدها لتحملها عنه بينما يعلق بامتعاض:
_حسنًا، تمهلي، ابنتي هذه التي تريدين اللعب بها!
احتلت عائلتها المكان فاضطر للنهوض حين جلست السيدة مارية بجوار ذهب التي تداعب الصغيرة في أحضانها، فيما جلست يسرا على الجانب الآخر من أختها قائلة:
_انظري كم هي لطيفة! أريد أن أضعها في شطيرة وآكلها.
لم يكد يتدارك صدمته من هذا التعليق، حتى باشرت ذهب تهدهد الصغيرة قائلة بابتسامة مخيفة شديدة الاتساع:
_سآكلك، سآكلك.
ضحكت نارين لصدمته البينة من تعليقات أختيها المتوحشة في نظره، وما زاد من الشعر بيتًا أن بدأت كلتاهما في غناء "آكلك منين يا بطة آكلك منين، فيه فراولتين في شفايفك حلوين حلوين!!!"
علقت مارية بحنين:
_كنتما تفعلان هذه الأفعال ذاتها في نارين حين كانت صغيرة.
نظرت ذهب ويسرا لبعضهما بتأثر.. فانسحب طارق تاركًا المساحة لهذه العائلة للتعبير عن شعورها بأريحية .. ومطمئنًا على ابنته من عدم افتراسها من قبل خالتيها!

Seham elhenawy likes this.

فاطمة محمد عبدالقادر غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 09-03-24, 08:01 PM   #215

فاطمة محمد عبدالقادر

? العضوٌ??? » 478303
?  التسِجيلٌ » Sep 2020
? مشَارَ?اتْي » 752
?  نُقآطِيْ » فاطمة محمد عبدالقادر is on a distinguished road
افتراضي


الخاتمة

سعادتنا لا تُربط بالصخب
أو بفرقعة كؤوس النخب
هنـا لو فـاض بـك الفـرح
أرسـاك بشـاطـئ اللهــب
وتناثرت بالقلـب الشهب
فوق ساحـة قبـر التـرح
على إيقـاع سعـده هَـبّ

بضع شهور استطاع فيها بشر توفير إيجار منزل صغير كبداية، تعرفت أزاليا على والدته عن قرب، وشعرت بالألفة معها، تلك السيدة التي اعتادت أن تكون أمًا لكل من طرق بابها محتاجًا .. فتمت مراسم الزواج في هدوء محيط وصخب داخلي .. ترتدي فستان زفاف بسيط يضم قوامها بنعومة، وتمسك بباقة من الزهور انتقاها خصيصًا لهذا اليوم.. وفي ذلك المنزل الدافئ، وقفت أزاليا أمامه قائلة بابتسامة لم تغادر وجهها منذ بداية اليوم:
_أردت سؤالك من قبل، إذا جلبت لي باقة من الزهور، ماذا ستختار؟ لكني آثرت أن أرى بنفسي.. الأوركيد.
رد بشر:
_تشبهك .. أنتِ زهرة أوركيد ساحرة بصفائها، أريجها .. أريجها الأخاذ يسكرني.
اتسعت عيناها مأسورة بدلال كلماته .. فقالت متأثرة:
_في وقت ما كنت أراك تمثالًا يمر به الشعور ولا يخترقه.. سأندم إذا اقتربت منه... الآن عيناك تنطقان يا بشر .. تخبراني إن اقترابي كان الشيء الوحيد الذي لن أندم عليه في حياتي.
عم الصمت إلا من نظراتهما التي باحت بسخاء .. قبل أن ينطق بشر سائلًا:
_لو كنتِ.. كنتِ تختارين نوعًا من الزهور بنفسك .. ماذا كنتِ ستختارين؟
ندت عنها ضحكة رقيقة وهي تجيب دون حاجة للتفكير:
_الأوركيد.
دنا منها ملتهمًا ما تبقى بينهما من مسافات .. وأعدم القيود ساحقًا إياها بعناق قوي، عزفت فيه شفتيه على ثغرها وعنقها سيمفونية خاصة لُحنت بأوتار اللوعة والشغف ..
كلاهما كان حارسًا لزنزانة الآخر ذات مرة، وكلاهما هو من أنقذ الآخر في النهاية .. تلك لعبة محسومة الأدوار من قبل مصير دقيق .. وقعت الجميلة في غرام الوحش الذي حبسها بين جدران قلعته، فأضحى لها أميرًا وسيمًا، وأحيلت القلعة كنفهما الدافئ.
∆•∆•∆•∆٠∆
دلف إلى منزله بعد يوم عمل طويل، لم يجازف بالنداء على زوجته، فهدوء المنزل يشير إلى أن صغيرتهما نائمة.. فتقدم إلى الداخل باحثًا عن زوجته بالغرفة فلم يجدها، لكنه تحرك نحو فراش طفلته الصغير ليقبلها بحنو أولًا .. ذلك الذي ظن أنه سيكون أبًا سيئًا، أصبح ينجز في عمله أكثر كي يعود مبكرًا للبقاء معها لمدة أطول خلال اليوم.
خرج من الغرفة باحثًا في أرجاء المنزل .. لا صوت، لا حركة، لا دليل على وجودها في أي مكان حتى بعدما شرع يناديها راميًا بحذره عرض الحائط.
فوقف مفكرًا بجدية وقد عُقدا حاجباه بتأهب:
_أين ذهبت في هذا الوقت؟
أخرج هاتفه متصلًا بها، لكن لا حياة لمن تنادي، فعلق وقد بدأ يداهمه القلق:
_كل شيء يخصها هنا.. وهاتفها مغلق .. هل خُطفت؟؟
خيل له أنه سمع همهمة بسيطة من مكان قريب، فوقف صامتًا تمامًا لبضع لحظات ليستبين مصدر الصوت .. تحرك بخطوات بطيئة مقتربًا من ذلك المصدر، ثم فتح الخزانة على حين غرة، فشهقت فزعة للوهلة الأولى، بينما أمسك طارق بمؤخرة عنق ثوبها كمن قبض على لص غسيل للتو، ومسح وجهه براحة يده الأخرى مستلهمًا الصبر، ثم نطق بخطورة:
_ماذا تفعلين؟
نظرت له بعينين متسعتين محاولة تدارك غضبه وهي ترد:
_أنا سأشرح لك.. انتظر انتظر لا تتهور، سأشرح.
ثم أسرعت موضحة:
_وجدت عملًا كمقدمة برنامجًا إذاعيًا قصيرًا عبر الانترنت، لكنهم أرادوا سماع صوتي في بعض النصوص التي اختاروها بأنفسهم فتوجب علي التسجيل الآن في هدوء، وإذا سجلت بالخارج سيحدث تشويش، فاغتنمت الفرصة بعد أن نامت فيروز.
علق مستنكرًا:
_في الدولاب!!!
ارتسمت ابتسامة مصفرة على وجهها وهي تجيب:
_جودة الصوت من الداخل كأني في استوديو صغير.
تمالك غضبه زافرًا قلقه السابق بين أنفاسه، فترك ملابسها قائلًا بنفاذ صبر:
_اخرجي، اخرجي.. كيف دخلتِ عندك أصلًا!
استشعرت قلقه، فتخطت عتبة الخزانة لتظهر ملابسها بالكامل من قميص نوم أحمر قصير، يعلوه مئزر من الستان ناعم، وضعت على شفتيها طلاء باللون ذاته لتبرزهما، ثم نفضت شعرها المموج بيدها بحركة مغرية لتلهيه عن غضبه السابق قائلة بمشاكسة:
_الصلح عندي يأتي فوريًا.
ثم طوقت عنقه بذراعيها بعد أن أبصرها بنظرة علمت أنه ألم فيها بكافة تفاصيلها.. فاعتقل خصرها سائلًا:
_منذ متى وهي نائمة؟
أجابت ببعض الإرهاق:
_نصف ساعة تقريبًا، دعها تبقى نائمة لبعض الوقت إنها لا تنام لساعتين كاملتين، لقد اكتفيت، الخطوة القادمة سأحقنها بمنوم!
ختمت جملتها ساخرة .. قبل أن يميل طارق ليدفن وجهه في عنقها محتضنًا إياها، تحيته الخاصة في كل يوم.. لكنه تأخر اليوم .. فربتت على ظهره قائلة:
_أنت مجهد .. إذا كنت لا تريـ ....
كما توقعت قاطعًا مجيبًا سؤالها الذي لم يكتمل:
_أريد.
أخفضت ضحكتها الرقيعة وهي تضرب كتفه بخفة معلقة:
_أيها الوقح.. لا تفوت فرصة!
ابتعد متفحصًا هيئتها من جديد .. واحتل العبث مقلتيه، ليعلق برخامة صوته التي تسري رعشة في أطرافها:
_ليس بهذا القميص، كان الأبيض يجعلك ملاك الحسن، لا أعرف إن كنت سأجيد استخراج لقبًا شيطانيًا لأجل هذه الهيئة الحمراء، لكني سأعمل جاهدًا على ذلك.
أسقطت يداه مئزرها بحركة واحدة، لم تكد تتداركها حتى جذبها بقبلة محمومة بلهيب مشاعره الذي يتأجج يومًا بعد يوم، فانجرفت معه ككل مرة إلى رحلة جديدة لعالم سماؤه الصبوة وأرضه الوله .. لا يضم سواهما.
أنهى الطير رحلة بحثه حين ألف شريكه، واطمأن أنه ما كان من العواسق المحلقة في البراري، فأدفأت أنثى طائر الحسون عشها، وأمنت في سربها.
∆•∆•∆•∆•∆
ساعتان تقريبًا هما ما قضاهما في حفل الزفاف، فالعروس غير معتادة على هذه الأجواء الشرقية، ولا تعرف أي من الأغنيات التي سمعتها، إلا القليل الذي عرفته من ابنة عمها، والعريس لا يجد سببًا لخطوة كحفل الزفاف من الأساس، جل ما يهمه هو ما يعقب هذا الحفل..
عند دخولهما إلى المنزل في نهاية اليوم، لاذت ضي بالمرحاض بتبديل ثوب زفافها، والذي تمسكت باختيار تصميم غربي له، حيث كان مائلًا للون السكري، مرصعًا بأوراق الورود البيضاء البارزة .. استبدلته بقميص أبيض من الشيفون يبرز بشرتها المرمرية، يضم نهديها بطبقة مبطنة خفيفة، بينهما استقرت على منتصف صدرها عقدة بيضاء رقيقة، وفوقه مئزر من الخامة ذاتها بنهايات من الدانتيل المنقوش بورود صغيرة .. الفتاة التي ليست لقمة سائغة ترتدي قميصًا قصيرًا، وتكلل منتصف فخذها بشريط من الدانتيل الأبيض المزخرف، تعلوه عقدة (فيونكة) صغيرة تشبه تلك التي على صدر القميص.
مرت عليها نظرات عمر من الأعلى إلى الأسفل، مصاحبًا إياها بجملته التي خرجت متحشرجة مأخوذًا بما أبصره:
_ضي يا ابنة جمال الفقي.. أنتِ اليوم لقمتي السائغة.
تقهقرت ضي خطوتين إلى الخلف وقد اعتراها الارتباك على حين غرة قائلة بلوم:
_لا تخيفني يا عمر!
قهقه عمر لخجلها اللذيذ، ثم دنا منها يضم كتفيها بيديه، ثم تنهد قائلًا:
_ماذا يمكنني أن أقول الآن؟ ماذا يقال بعد ما قالت الست؟
سألت بفضول:
_ماذا قالت؟
فاتسعت ابتسامة هادئة على شفتيه مجيبًا:
_يا فاتنا لولاه ما هزّني وجدُ.. ولا طعمُ الهوى طاب لي.
طفت ابتسامتها الجميلة على وجهها فاقدة بعضًا من توترها الطبيعي، فيما أكمل بابتسامته العذبة التي بلسمت روحها مردية قلقها:
_لا تخافي .. ابتسمي يا ضي .. ابتسامتك ستنير لي طريقي لأقودك إلى سبل لم تسيري بها، ومشاعر لم تختبريها من قبل .. سنسير سويًا، ونختبر تلك المشاعر سويًا .. أعدك أنني لن أؤذيك أبدًا .. لذا ثقي بي.. وابتسمي.
تدانى منها ببطء حتى اختلطت أنفاسهما، فلثم شفتيها بعذوبة بينما وجدت يداه سبيلها إلى خصرها مطوقًا إياه برفق من أسفل مئزرها ممسدًا جذعها صعودًا وهبوطًا بنعومة أسكرتها .. فذابت بين يديه باستسلام محبب .. فلا مجال للتشكيك بعد أن وعدها، ولمرةٍ لا تذكر عددها .. صدقت بكل جوارحها.
حين جلست بجانب البلورة متشبثة بأسطورتها الوردية ظنت نفسها واهمة، لم تكن تدري أن نقاء البلورة سيجذبها إلى عالمه الخيالي، لتلحق في فضائه الباهر بلا جناحين.
∆•∆•∆•∆•∆
على الجانب الآخر .. خارج القاعة التي تم فيها حفل زفاف العروسين .. ركضت تلك الفتاة بأقصى ما لديها من سرعة متلفتة خلفها برعب، الطريق أمامها فارغ، وخلفها أيضًا.. لا تراه .. ولا تعرف من أين سيداهمها فجأة، لكنها واثقة من كونه يتعقبها .. أسرعت في خطواتها لاهثة بشدة، كادت تتعرقل لكن غريزة البقاء بداخلها دفعتها لأن تواصل العدو .. التفتت خلفها مراقبة الطريق من خلفها مجددًا، لكنها حين عادت برأسها إلى الأمام، أطلقت صرخة كاد يدوي صداها في الشارع الفارغ، لولا أن رجلًا ما .. تحديدًا من كانت تخشى ظهوره الآن .. مد يده إلى فمها كاتمًا صرختها في حلقها.

لم تُرفع الأقلام..
وإلى لقاءٍ قريب♥️

Seham elhenawy likes this.

فاطمة محمد عبدالقادر غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 03:23 AM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.