آخر 10 مشاركات
إبتزاز الأمير (71) للكاتبة Olivia Gates .. كاملة مع الروابط (الكاتـب : nagwa_ahmed5 - )           »          قطار الحنين لن يأتي *مميزة و مكتملة* (الكاتـب : رُقيّة - )           »          للحب سجناء (الكاتـب : طيف الاحباب - )           »          208 - خطيبة بالإيجـار - ليندساي ارمسترونغ (الكاتـب : Fairey Angel - )           »          دموع بلا خطايا (91) للكاتبة: لين جراهام ....كاملة.. (الكاتـب : *ايمي* - )           »          [تحميل]هذيان بين جمر وجليد(أرملة أخي المجنونه)،للكاتبة/نورا ناصر"عراقية"،مميزة (الكاتـب : فيتامين سي - )           »          سجين الانتقام (الكاتـب : فاطمة بنت الوليد - )           »          جدران دافئة (2) .. سلسلة مشاعر صادقة *مكتملة* (الكاتـب : كلبهار - )           »          [تحميل] تناهيد امرأة للكاتبة/ نشوى السلطان " عراقية " ،مميزة ( Pdf ـ docx) (الكاتـب : فيتامين سي - )           »          تناهيد امرأة للكاتبة/ نشوى السلطان " عراقية " ،مميزة ( مكتملة ) (الكاتـب : فيتامين سي - )


العودة   شبكة روايتي الثقافية > قسم الروايات > منتدى قصص من وحي الاعضاء > الروايات القصيرة المكتملة (وحي الاعضاء)

Like Tree32Likes
إضافة رد
 
LinkBack أدوات الموضوع انواع عرض الموضوع
قديم 18-07-24, 02:10 PM   #21

صل على النبي محمد
 
الصورة الرمزية صل على النبي محمد

? العضوٌ??? » 404607
?  التسِجيلٌ » Jul 2017
? مشَارَ?اتْي » 2,940
?  نُقآطِيْ » صل على النبي محمد has a reputation beyond reputeصل على النبي محمد has a reputation beyond reputeصل على النبي محمد has a reputation beyond reputeصل على النبي محمد has a reputation beyond reputeصل على النبي محمد has a reputation beyond reputeصل على النبي محمد has a reputation beyond reputeصل على النبي محمد has a reputation beyond reputeصل على النبي محمد has a reputation beyond reputeصل على النبي محمد has a reputation beyond reputeصل على النبي محمد has a reputation beyond reputeصل على النبي محمد has a reputation beyond repute
افتراضي


اللهم صل على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما صليت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم وبارك على سيدنا محمد وعلى آل سيدنا محمد كما باركت على سيدنا إبراهيم وعلى آل سيدنا إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد

لا تنسوا الباقيات الصالحات

سبحان الله

الحمد لله

لا إله إلا الله

الله أكبر

لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم




صل على النبي محمد غير متواجد حالياً  
التوقيع
لا إله إلا الله وحده لا شريك له
له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير
رد مع اقتباس
قديم 20-07-24, 09:17 PM   #22

سعيدة أنير

? العضوٌ??? » 473919
?  التسِجيلٌ » Jun 2020
? مشَارَ?اتْي » 178
?  نُقآطِيْ » سعيدة أنير is on a distinguished road
افتراضي

***
الفصل السادس
مهما بلغت قوة الانسان وثقته بنفسه، تأتيه في لحظات فارقة وقت يتجرد فيه من كل ذلك ويغدو مذبذبًا مشتّتًا في موقف أقوى منه، يضعف أمامه ويعلن استسلامه له..
كحاله الآن.. يدعي الثبات ويتشاغل بـ أي شيء وكل شيء ليتسلح بثباته.. أصابعه تتلاعب تارة بساعته في معصمه وهو يتطلع إليها للمرة التي لا يعرف عددها.. وتارة تستقران على الطاولة تنقران هناك بحركات هادئة ظاهريًا.. لكنها فاقدة لتوازنها.. عشوائية دون تركيز.. قبل أن تنتقل إلى الفنجان أمامه الذي لم يُمس..فترفعه في محاولة لـ إلهاء النفس ومنحها فسحة لتنقية الافكار.. ثم تعود لوضعه مكانه وقد برُدت محتوياته وبات غير مستساغ شربه..
أكثر من ربع ساعة وهو ينتظرها..
ماذا يقول؟! بل هي نصف ساعة بالضبط..
يواجه نفسه الملهوفة بـ استهزاء..
جاء قبل الموعد بربع ساعة كأنما يخشى أن تأتي قبله فلا تجده بـ انتظارها، وتأخذها جريرة بحقه وعذر لها لـ انهاء شيء لم يبدأ بعد.. ويا ليته يبدأ فقط.. عندها يقسم أنه لن يدعه ينتهي أبدًا.. فقط تخطو بقدميها نحوه وهو مستعد لسجنها بعدها وعدم منحها أي فرصة للتراجع أو التحرّر..
لا يزال متفاجئًا وغير مصدق أن لقمان قد هاتفه صباحًا يخبره أنها تريد لقاءه.. هل كان ليحلم بشيء كهذا؟ رغم أنه أحس بتهديد ما من طلبها ذاك، إلا أنه انساق وراء نفسه التواقة للقائها في موعدهما الاول والمنشود منذ أمد..
قلبه ينتفض بين ضلوعه ويرتج بنبضاته المجنونة وهو يلمحها قادمة.. كشمس تضيء نهاره بعد ليل حالك.. كنسمة منعشة خفّفت قيظ نهاره الطويل.. عيناه معلّقتان عليها تطاردان خطواتها المتردّدة وهي تحتمي بشقيقها.. تتوارى تارة خلفه.. وتارة تظهر وتهلّ عليه وأنفاسه تلهث خلفها.. لم يشعر بنفسه متى استقام في وقفته بـ تأهب واستعداد لـ استقبالها.. وتلقّف طلّتها وعبيرها يزرعهما بين جوارحه..
" عذرًا منك يا جابر على هذا التأخير"
صوت لقمان الرزين يخرجه من قوقعة مشاعر غلفته وأغرقته.. فتكفّ عيناه اليائستان عن بحثهما عنها وهي تقف محجوبة عن أنظاره تتخذ لقمان ذرع حماية لها.. ممن سيحميها؟ منه هو؟..
شيء حارق يلسعه بسياطه..
ينظر إلى لقمان الذي أشار برأسه ناحيتها هي يبرّر له سبب تأخرهما، وقد فهمه بسرعة وهو متجلٍّ أمامه بوضوح، فالتردّد كان واضحًا عليها ولولا إصرار لقمان لكانت عدلت عن المجيء..
" لا داعي للاعتذار.. المهم أنكما هنا"
يزدرد ريقه مشيرًا بيده إليهما ليجلسا، فيجذب لقمان المقعد لها وهو يحثّها على الخروج من قوقعتها قائلًا بلطف:
" اجلسي يا وفاء وكل منكما يسمع ما لدى الآخر، وبعدها تقررّان.. سأكون بالجوار"
عند جملته الأخيرة تحركت يداها تلقائيًا لتتشبّثا بذراعه كردّة فعل مرتعبة على تركه إياها، لكنه يطمئنها مربتًّا على يدها قائلًا برصانة:
" الأفضل أن تتحدثا بمفردكما دون أي حرج، سأجلس على تلك الطاولة"
يشير إلى إحدى الطاولات القريبة ويده تسحبها وتشدها ليجلسها على المقعد بحزم، قبل أن ينظر الى جابر يوصيه بصمت على الرفق والاعتناء بها..
يواكب بنظراته ابتعاد لقمان ليتخذ طاولة ويجلس إليها، قبل أن يعود بعينيه إليها يراقب تلك الإطراقة الصامتة التي لازمتها منذ وصولها، دون أن تمنحه الفرصة للغوص في عمق عينيها والتلاشي فيهما..
" هل تشربين شيئًا؟ "
سألها بحشرجة اخشوشن لها صوته وهو جاهل تمامًا كيف السبيل الى التخلص من هذا الاضطراب والارتباك اللذيذين المسيطران عليه في حضرتها..
يطلق نفسًا محبطًا عندما هزّت برأسها تفيًا دون النظر إليه، تتمتم بكلمة "شكرًا" خافتة غير واضحة، فيتجاهل رفضها ليشير للنادل بالحضور وبعد أن أملى عليه طلباته انصرف، ليركز هو بكل انتباهه فيما سيقوله..
كيف يبتدئ معها الحديث؟ وكيف يدفعها لقول ما لديها بعد أن طلبت رؤيته؟..
تنهيدة خافتة من قبلها تزفر بها أنفاسها والتقطت أذناه على إثرها تمتمتها الخافتة بالاستغفار، قبل أن تقول فجأة بشجاعة تملكتها لجزء من الثانية:
" أنا.. لا زلت أتابع العلاج.. هل تعلم بهذا؟ "
يبهت للحظة وأذناه تلتقطان تلك النبرة الرقيقة الحذرة كأنما تخشى تهربًا سيشكل ضربة موجعة لكبريائها..
" أنا أتابع أخبارك منذ أول يوم لك مع المرض يا وفاء، وبالتالي فأنا أعرف كل المراحل التي مررت أو ستمرّين بها"
صوته الهادئ الذي بثّه حزمًا وثقة لا محدودتين يثير حفيظتها، فتحنّ وتعطف عليه أخيرًا وتنظر إليه، تعاين ردة فعله على سؤالها المباشرة الموالي:
" لا يزال أمامي وقت وبضع سنوات من العلاج.. والحمل خلالها مستحيل.. هل تدرك هذا أيضًا؟ "
عيناه لم تبديا أي استعداد للخسارة أمام عينيها.. بـ إصرار يتشبث بهما غير مستعد لقطع ذاك التواصل اللحظي الذي بثّته النظرات.. فتنسل الكلمات سلسلة من بين شفتيه يبثّها صدقه ويقينه:
" لا أريد أطفالًا في الوقت الحالي، كما لا أريد أن يشغلني عنك أو يشغلك عني أي شيء أو أي شخص.. سأحيا من أجلك وأتذوق نعيم قربك.. لن أتمنى أكثر من هذا"
ينجح في زعزعة ثباتها فتسكن عيناها اختلاجة متأثرة بالسلاسة التي تحدث بها، تسدل رموشها وقد شعرت أن الموقف بدأ يهزمها كما تخشى، لكنها لم تتخاذل عن طرح أسئلتها الوجودية والمصيرية بالنسبة لها، فتقول بـ انكسار جرح نعومة صوتها:
" قد لا يكون هناك حمل لا الآن ولا فيما بعد.. العلاج يخفف فرص حدوثه.. "
" سأستغني عن كل شيء وأكتفي بك..ما حاجتي بالأطفال وأنت معي؟ ستكونين طفلتي وسأدلّلك و..أعتني بك وأقدرك"
جملته الأخيرة المتريّثة ضمّنها قسمه ويمينه لعينيها اللتين ارتفعتا مجددًا، تستكشفان رباطة ملامحه مع كل كلمة ينطق بها..
اهتزاز مباغت في مشاعرها استطاع احداثه بذاك التصميم واليقين العميق المنبعث كالشعاع المضيء من عينيه، يتسلّط على كل مخاوفها المظلمة فيجلّيها وتسكن كأن انتفاضتها كانت مؤقتة..
ماذا تقول بعد؟ لم يترك لها ما تقول.. وهو عازم على تفنيد كل حججها بهدوئه ورزانته.. كأنه كان مستعدًا لكل ما ستقوله وحضّر إجاباته لها..
" وفارق العمر بيننا؟ "
وجملتها تلك أثارت فيه ذهولًا كأنما تكلمت بالألغاز..
" أي فارق عمر؟ إنها بضعة شهور فقط"
يلهث مزدردًا ريقه بعد جملته تلك، يعاين بوجع كيف تنكس برأسها تداري خزيًا واحراجًا كأنما ترتكب ذنبًا..
" بل هو عام.. "
همستها الخافتة عبرت عن مشاعرها المذنبة الخرقاء في عرفه.. أي ذنب؟ وأي خزي؟ وهل تقاس المشاعر بعمر الانسان؟ لا بل هل يقاس الانسان بعمره؟ أم بتصرفاته وأفعاله؟..
" إن كنت أكبرك أو تكبريني بعام.. هل يشكل هذا أي فرق في عرف العاشق؟ هل هناك أي ديانة أو مواثيق إنسانية تحرم هذا؟ العمر مجرد رقم لا قيمة له في مفهومي ولا تتوقف عنده حياتي"
هدوء ورصانة كبيرين في صوته وبثّتهما عيناه، يلقيان بها في دائرته أخيرًا حيث لا يسود إلا منطقه هو..
تحارب موجة الحرارة التي تجتاحها مصاحبة للارتباك، لتحاول قول شيء آخر بحثًا عن منفذ لها منه:
" أنت لا تعرف ما مررت به.. العلاجات والعملية تركا.. "
" كنت معك طيلة فترة علاجك يا وفاء، لكنك لم تعرفي"
يقاطع استرسالها بهدوء دون تعنت يجبرها على منحه كل وجودها وكينونتها باللين واللطف، يمحو بصبر وأناة كل تلك العوائق والحواجز التي تدأب على زرعها في طريقه منذ جلوسها.. يفند ذاك الهجوم الذي تشنّه عليه تثبط به عزيمته و تثنيه عن يقينه.. فيُفشل كل محاولاتها ليضيف بنفس التوازن والثبات:
" لا يوجد شيء لا أعرفه.. كنت معك خطوة بخطوة أراقبك من بعيد.. غير راغب في الظهور في الصورة.. لطالما كنت تقفين أمامي بكل عنفوانك قوية صامدة، ولم أشأ أن تتأثر تلك الصورة بعد مرضك، أردتك أن تظلي كما أنت ولا تشعري أبدًا بأي ضعف أو خسارة أمامي، أردتك أن تعودي أقوى من السابق لهذا أجّلت ظهوري حتى الآن، كنت أتمزق احتياجًا لأن أكون معك مساندًا لك في وقت شدّتك، لكني لم أشأ أن ينتابك مجرد إحساس -ولو كان بسيط - بأن دافعي هو العطف أو الشفقة على وضعك، لم أرد أن أستغل ضعفك ذاك وأحقق ما عجزت عن تحقيقه سابقًا.. أو أن أكون السبب في انكسار قد يطال روحك أو هوان يثبط عزيمتك، بل أردتك أن تكوني بكامل قوتك وتألقك وأنا أطلبك للزواج، لـ أمحو نظرة الانكسار والهوان هذه التي تسكن عينيك الآن.. كنت حلمي الوحيد ولا زلت يا وفاء.. حلم أتمنى أن يتحقق وسأدفع عمري كله ثمنًا له..ثمنًا لتلك اللحظة التي تعلنين فيها رضاك وقبولك.. "
أنفاسها تتثاقل بكمية المشاعر المتضخمة في صدرها والتي خلقتها كلماته العفوية المليئة صدقًا.. تنبعث من صميم فؤاده بسلاسة وترشق مباشرة في قلبها..
كيف لم تلحظ قبلًا كمية الحب والعشق الصادقين في قلبه إليها؟
تعترف منهكة بتفوقه عليها.. لكنها تناور بمقاومة واهنة بدأ الاستسلام يزحف إليها:
" هناك احتمال أن يعود المرض في أي وقت"
" سأكون معك أساندك ولن أخذلك أو أتسبب بأي شقاء لك.. فقط امنحيني الفرصة لـ أثبت لك مدى تشبثي بك ولن تندمي.. "
قوة الإصرار والاستماتة في عينيه يشقّان الطريق إليها وبعزم يطيحان بكل تلك الحدود والسدود التي جاهدت على بنائها لتجعل طريقه وعرًا إليها، يجتاز كل عقباتها ويقف على أرضها معلنًا انتصاره وملوحًا براياته واعدًا متوعدًا بغد مشرق ومتجدد يهديه لها، ينسيها به كل ما مرّ عليها من آلام..
تطلق تنهيدتها المستسلمة معلنة أنها قد وصلت لخط النهاية معه تسلمه دفة القيادة..
" سيبلغك لقمان بقراري الأخير"
ورده كان على شكل تنهيدة حارة اندفعت من بين ثنايا روح ناضلت وجاهدت كثيرًا لتحقيق ما تصبو إليه.. فهل ستصل أخيرًا إلى مبتغاها؟
***
بعد أسبوع..
يزفر نفسًا محترقًا عبّر به عن ضيق بدأ يتسلّل إلى نفسه فيداريه.. يقطب جبينه بينما يتراجع بظهره للخلف يستغفر الله..
يطالع لقمان الهادئ في مجلسه ونظراته تتمرّد عليه بخيانة وترنو لخارج القاعة، حيث كانت تصله همهمة النسوة والدته وزوجة خاله و..وفاء..بعد أن أخلين القاعة له وللقمان ليتحدثا بالتفاصيل.. قلبه يرفرف بـ اختلاجة طفيفة عذبة.. يسترجع هيئتها الفاتنة بخفر لذيذ على الوجنتين قبل لحظات.. تجلس أمامه محتلة كل مجال ومحيط نظره.. لم تكن عيناه ترى سواها..ولم تكن تريد أن ترى سواها.. كفاه يرتفعان أمام وجهه بتضرع ولسانه يتسابق لتلاوة الفاتحة المتممة لمطلبهم في القرب وطلب الرضى والقبول..وقلبه يرفرف في صدره متابعًا لتمتمة شفتيها تعلن قبولها لذاك القيد الذي سيوثّقها به لبقية حياته..
" ولم التأجيل أخي لقمان؟ كل شيء جاهز ولا ينقصنا شيء "
يتساءل جابر أخيرًا بإحباط لم يستطع مداراته وهو يتلقّى موعد العرس الذي كان يتمنى أن يقام في أقرب وقت..
يناظره لقمان بهدوء قائلًا بمهادنة:
" هذا مطلب وفاء يا جابر ولا يد لي فيه، لو كان الأمر بيدي لـ أقمت العرس بعد أسبوع وليس بعد شهرين، لكنها طلبت خطبة فقط حتى يتسنى لكما دراسة بعضكما البعض خلال هذه المدة"
عندها يزفر جابر أنفاسه الحارة يبدي رضوخه واستسلامه على مضض:
" أنا لا أحتاج لـ أي دراسة يا لقمان، أنا مقتنع ومتشبّث بها.. لكن لا بأس ما دام هذا مطلبها هي فأنا موافق"
" ضع في اعتبارك أن الخطوبة لن تمنحك الفرصة للدخول والخروج معها وقتما تحب، كل شيء بنظام وبالأصول يا أخي جابر"
تظهر نظرة استنكار في عيني جابر بينما حملت ملامحه صرامة وحدة كأنما كلامه قد مسّ كرامته ورجولته ليقول بتحفز:
" لست بحاجة لأن تخبرني بهذا يا لقمان، أنسيت أنني من العائلة ووفاء عرضي كما هي عرضك"
تثبت عينا لقمان عليه لا تلينان رغم الارتياح الذي غزا صدره من كلماته الغيورة على سمعة شقيقته، ليسألها ممتحنًا إياه بلؤم:
" هل تفضل أن تكون الخطبة مع عقد القران؟ أم نؤجل العقد ليكون مع العرس؟ "
ملامحه المنعقدة بتكدر تعبر عمّا في داخله بينما يقول يحارب ضيقًا مستحكم:
" دعها خطبة فقط والعقد سيكون في نفس اليوم مع العرس، صبرنا لسنوات طوال ولا بأس إن صبرنا لشهرين آخرين"
يومئ لقمان برأسه استحسانًا لرده وموجة ارتياح غامرة تغزو صدره وتشرحه، وقد وجد أخيرًا من يقاسمه أفكاره الرجعية التقليدية.
***
بعد شهرين..
تقف على باب القاعة في أحد الفنادق كأميرة أو ملكة متوجة.. قفطانها المتلألئ يحفّها ذيله الطويل من الخلف وقد تمّت تسويته من قبل( النكافات) كدائرة تحيط بها، ويزين رأسها ذاك التاج الذهبي المطعم بفصوص ماسية براقة، يعلنها ملكة فعليّة على عرش هذه الليلة.
ضغطة خفيفة على كفها المستكينة في كفه ودفؤها ينشر السلام إلى روحها ونفسها.. ترفع عينيها بحياء إليه تغالب تلك الحمرة المزينة لوجنتيها، فتأسرها رجولته وحضوره القوي المهيمن على محيطها يلفّها بالأمن والأمان.. بينما عيناه الغائمتان عاطفة لها وحدها تحتضنانها بحرارة رجولية، ترسلان سؤالًا غير منطوق عن جاهزيتها واستعدادها، فتحرك رموشها بنعم تخبره بأنها تسلمه نفسها ليتولى الدفة عنها.
تنطلق حناجر النكافات بالزغاريد وبالصلاة والسلام على النبي الأكرم، بينما تتهادى خطوات العروس بهدوء وروية يواكبها عريسها المفتون، وعيناه لا تتوقفان عن الهروب إليها يستكشف وجودها بجانبه وأنه لا يتوهم..
فرح وبهجة تحيط بها من كل جهة تعكسها وجوه من اقتسموا معها كل آلامها، وها هم يحظون بنصيبهم من سعادتها أيضًا..
والدتها التي لم تتوقف عن ذرف الدموع و ابتسامتها المشعة تحكي وتفصح عن حجم سعادتها..
لقمان بكل رزانته ووقاره يؤازرها بمباركاته ويساندها بنظرات الرضى يغمرها بها ..
بينما لم تستطع آية ونجاة أن تخفيا مدى بهجتهما وحماسهما فراحتا تتراقصان أمامها بعفوية وطلاقة..
ضحكة عفوية تنطلق منها وهي ترى ملامح لقمان المتحفظة، وقد انعقدت بعبوس طفيف لا يكاد يتحكم به، يلاحق بنظرات متوعدة آية التي بدت وكأنها قد نسيت نفسها ونسيت أين هي، تحاول مجاراة نجاة في رقصها وعفويتها.. بينما تلاحقها بدورها نظرات ذاك الفارس المجهول الذي ظهر أخيرًا للعلن بعد أن تقدم لخطبتها قبل شهر، وكان مستعدًا لإقامة عرسه في نفس اليوم معهما هي وجابر، لكن نجاة آثرت الانتظار ومنح نفسها فرصة لدراسته عن كثب، دون أن تحدّد موعدًا لـ انتهاء دراستها تلك له.
" أدام الله هذه الضحكة الآسرة وسلّمها من كل سوء"
صوت جابر المبحوح بنبرة حملت افتتانًا وتدلّهًا لا ينتهي، يتسربل إليها ويرسل تلك الذبذبات المدغدغة لكل أوصالها، فترفع عينيها إليه بخفر وحياء تناظره من بين رموشها تغالب تلك الارتجافة الساكنة لابتسامتها فلا تفلح، ليتابع تغزله بها يسألها بعشق لا ينضب:
" أ أنت راضية وسعيدة يا وفاء؟ "
قلبها يرفرف في صدرها يكاد يخرج من بين ضلوعها، ونظراته تغرقها لهفة رجولية حارة تفرض حمايتها المطلقة عليها..
" وكيف لا أكون؟ ومراعاتك واهتمامك لا يخفتان لحظة.. "
تقطع كلامها وترفع عينيها إليه ووخز خفيف يناوش ضميرها يشعرها أنها لم تبح بكل شيء، لم يمنحها الفرصة لتظهر له ما وُرِيَ عنه فتحاول الكلام وما تريد قوله قرأه سريعًا في عينيها، ليضغط على كفها بحنو يغمرها بعاطفته واهتمامه:
" هذه ليلتك المميزة يا وفاء فاستمتعي بها، ولا تفكري في أي شيء"
يأسرها بلطفه ومراعاته.. يلقي بها في دائرته دون أدنى مجهود.. فتغدو مفتونة مسحورة..
ابتسامته الهادئة تزين شفتيه بينما عيناه بقتامتهما المميزة تسترسلان في غزلهما الفياض لها دون قيد أو شرط، تزيدان من تأثرها وانجذابها الصريح الذي لم يعد هناك مجال لمداراته، فتتثاقل أنفاسها والموقف يهزمها، لتسارع بالهروب من حصار عينيه تبحث عن ملجأ تستعيد فيه توازنها، فلا تجد إلا آية ونجاة أمامها.
لاهية عن كل الحضور تبتسم بابتهاج لنجاة بينما لقمان يحاول لفت انتباهها نحوه بعينيه، وقد بدا أنه على وشك التهور..
عيناها تقعان أخيرًا عليه واقفًا بوجوم وعبوس يسلّط عليها نظرات حارّة متوعّدة، فتنتبه لنفسها ماذا كانت تفعل..
زفرة حارة مهتاجة يطلقها وهو يرى كيف تضغط على شفتها السفلى استدراكًا لما تفعله، فيجعله هذا يتأكد من أنها قد انساقت وراء مشاعر سعادتها وفرحتها بوفاء ونسيت أين هي، لكن هذا لا يشفع لها عنده وقد أثارت شياطينه النزقة، وهو يلاحق كيف تحرك كتفيها ويديها بخفة توازن حركاتها مع الموسيقى الراقصة، ولم تكتفي بهذا بل كان الاهتزاز يطال خصرها وأردافها بطريقة أشعلت نيران غيرته وحميّته عليها.
يرسل لها أمرًا موجب التنفيذ بعينيه لترك مكانها والاقتراب منه، فتتلفّت حولها تخفي حرجها ثم تهمس شيئًا لنجاة قبل أن تبتعد ناحيته، تحاول رسم تلك الابتسامة التي تخمد بها نيران حنقه وغضبه.
تتسابق خطواتها نحوه لتقف إلى جانبه تدسّ نفسها إليه، تتلمس قربه لتلطف نيران غضبه منها، فتهمس بملاطفة تغازله وهي ترفع وجهها المتوهج حمرة:
" من أفسد ملامح حبيبي الوسيمة وكان السبب في هذا العبوس؟ "
تدّعي السذاجة والبلاهة وهي مدركة تمامًا للجواب على سؤالها، فتتلقى زفرته الحانقة بصمود تلفح وجهها، بينما تسلّلت يده إلى مرفقها يضغطها ببعض القوة هامسًا بتهديد ووعيد:
" لن أمرّر فعلتك هذه بسهولة يا آية، لقد تحدثنا في هذا سابقًا ووعدتني.. "
تتلفت حولها تطالع الحضور قبل أن تعود إليه وتتلمس رضاه:
" وأنا لم أخلف بوعدي لك أبدًا يا لقمان.. أقسم لك..كانت هذه المرة الاولى ولم أفعلها عمدًا، لقد كنت مبتهجة بزيادة من أجل وفاء ولم أشعر بنفسي وأنا أرقص"
ينظر بقوة في عينيها يهز كل كيانها باحتمال غضبه منها، فترتجف تلقائيًا وعينيها ترسلان رسائل استعطاف تتلمسان العفو والسماح، فلا يلبث أن يستسلم لها يزفر أنفاسه بتنهيدة حانقة ويستغفر الله قبل أن يقول بوجوم:
" لن نتجادل هنا، لنا بيت نسوي فيه حساباتنا.. "
وهذا الخيار كان مرحبًا به جدًا لديها، ففي البيت تكون قدراتها على الإقناع والتمسكن أقوى بكل فنون الإغواء والاستدراج التي تمتلكها، ولن يأخذ وقتًا طويلًا قبل أن تحصل على مسامحته لها، بل ستحظى أيضًا بـ أكثر من مجرد مسامحة.
***
لاحقًا بعد أن انفضّ الحفل، ها هو يحظى بفرصته أخيرًا معها لينفرد بها ويستحوذ على كل اهتمامها ووعيها، بعيدًا عن هرج ومرج عائلتيهما الذين غادروا كل إلى بيته بعد أن رافقوهما إلى جناحهما في الفندق، واطمأنوا إلى أنهما لا يحتاجان شيئًا.
حفيف ثوبها الملامس للارضية يواكب خطواتها المتمهلة والخجولة، ويداها ترفعان أطرافه لسهولة حركتها، وجهها المتوهج والمتقد حمرة مطرق أرضًا، بينما تسدل برموشها تخفي ما اعتمل في عينيها من مشاعر مختلفة..
يقف ممسكًا لها الباب وعيناه تلتصقان بسحر وانجذاب بوجهها، يعاين ذاك الخفر والحياء اللذيذين يزيدانها بهاءً وفتنة، ويحفظ كل تفصيلة فيه وقلبه ينتفض بصدره يهرب بنبضاته إليها.
تتجاوزه فيغمض عينيه يلتقط أنفاسًا عميقة من عبيرها يأسره بصدره يخلد وجوده هناك.. مكانه الأبدي..و بلهفة وشوق يلاحق دخولها الآمن إلى مستوطنة عشقه، يتوّجها ملكة عليها ويمكّنها من كل مقاليد قلبه ومفاتيح سعادته..
بروية ونعومة تتهادى أمامه ترفل في فستانها فيرفرف معها قلبه الولهان ملازمًا لكل حركاتها وسكناتها كالظل..
يقفل الباب ويتحرك لا يملك من زمام نفسه شيء، مأسورًا مأخوذًا متابع لها وهي تستكشف الجناح الذي ينزلان فيه، تمنح نفسها فرصة استعادة توازن اختل وفقد ثوابته.
" أ أنت جائعة؟ لم تأكلي شيئًا أثناء الحفل"
تتوقف و تستدير نحوه بقلب خافق..
نبرة اهتمامه ومراعاته الكبيرين نحوها تأسرها وترميها تحت سلطة سحره المهيمن عليها..
عيناها تغوصان في قتامة عينيه المعانقتان لها بنظرات ابتهال واجلال كأنها أهم كائن بهذا الوجود.. طريقة تعبيره عن عشقه لها تفتنها.. عشق مشمول بالتقدير يرسل موجة ثقة إلى نفسها تطبطب عليها..
وجنتاها تتوردّان وسيطرة نظراته المتملّكة تزداد عليها بهيمنة وقوة، فتنزل بنظراتها عن وجهه وقد هزمها الموقف ورأسها تتحرك نفيًا ردًّا على سؤاله..
" هل أنت على وضوء لنبتدئ بالصلاة أولًا؟ "
تبقي رأسها مطرقة وهي تومىء بها إيجابًا وتوهّج خديها يفضحها..
يلتقط أنفاسه الهاربة منه من هيبة هذه اللحظات المتملكة لكل أحاسيسه، ليسارع إلى تحضير إحدى الزوايا للصلاة فيفترش فيها سجادتين وقلبه يتضرع بخشوع لخالقه ليكمل هناؤه بهذه الليلة ويصمد رجاؤه إليها..
***
بعد دقائق كانت تجلس بين يديه تميل برأسها ناحيته بطاعة يتلو أدعيته عليها عقب الصلاة، قلبه يرفرف بنبضات مسروقة يطالع سكونها ووداعتها أمامه، تسرقه من نفسه وتلوذ بالفرار وهي لا تدري.. كيف تفعل به هذا؟..
وما إن انتهى حتى لملمت ثوبها تستقيم واقفة لتقول بحشرجة تملّكت صوتها:
" سـ.. سأغير.. ثيابي.. "
تضربها زفرته الحارة عقب كلماتها المتقطعة فيزداد توهج وجنتيها، بينما تنسحب وتتحرك بتعثر لذيذ مثير لكل حواسه وهو جالس مكانه يلاحقها بعينه كيف تغيب عنه.. كما تغيب الشمس عن نهار جميل..
يرفع يدًا مرتجفة يمسح ذاك العرق المتصبّب من جبينه، وحرارة كالجحيم تصهره من الداخل تفنيه، يخشى أن يكون كل هذا مجرد حلم جميل سيستيقظ منه في الأخير، لا يزال غير مصدق أنه قد لامس أحلامه أخيرًا وتزوجها.. هل يمكن للفرحة أن تكون السبب في نوبة قلبية تصيبه؟
***
غرفة لقمان وآية..
يفتح لقمان باب غرفتهما لتستقبله نغمات موسيقية راقصة خافتة، بينما تحتل آية مجال نظره بتلك اللوحة الفنية التي دأبت على رسمها من أجله كل فينة وأخرى، بعد أن تتيقن من أنه قد اشتاق حقًا لغنجها ودلالها في الرقص.
ترتجف ضحكته في صدره وهو يهز برأسه بقلة حيلة، فها هي تُفشل و تُثبط عزيمته التي حرّكته ليقتص منها، جرّاء ذاك الذنب الذي ارتكبته في العرس، وتقطع عليه طريقًا مهّده طويلًا وجهّز نفسه للمضي فيه دون تراجع..
" متى اشتريت بدلة الرقص هذه؟ لم أرها من قبل"
يسألها يدعي الثبات يغالب ذاك الارتجاج الذي اهتز له جسده، وهو يراقبها كيف تتحرك نحوه بحركات قدميها الرشيقة تهز ردفيها وكتفيها وتغمزه بملاوعة تقول:
" قبل العرس بأيام، أردت أن أفرغ فيها طاقتي في الرقص هذه الليلة، بما أنني ممنوعة من الرقص في العرس كباقي النساء"
يمد أصابعه يلتقط مرفقها بخشونة وقد أثاره ردها المراوغ، يهددها من بين رموشه المتوعدة:
" هل كنت ستواصلين رقصك حقًا لو لم أكن موجودًا يا آية؟ "
تغمزه بشقاوة وهي تفلت نفسها من قبضته وتكمل وصلتها، تدور حوله متلاعبة على حدود صبره وتحمله:
" ربما أكون قد نسيت نفسي وانسقت وراء إغراء نجاة وأنا أراها ترقص أمامي، لكنني كنت سأتراجع سريعًا، فالموت أهون علي من أن أكسر كلمتك يا لقمان "
" أيتها المحتالة.. "
يهمس متوعدًا نافثًا تلك الآهة المعذبة وقد استطاعت التلاعب عليه ككل مرة..
تلامس ظهره بكتفها قبل أن ترفرف على أصابع قدميها أمامه مبتعدة وهي تضيف بملاوعة أكبر:
" سأفرغ طاقتي في الرقص عندما تعود وفاء من شهر العسل، ستجتمع نسوة الحي للترحيب بها، وسيكون هناك رقص على ايقاع الدفوف والطبل.. "
" على جثتي.. هذا لن يحدث أبدًا.. "
يلهث وحمى منفعلة بدأت تسري بأوردته لمجرد التخيّل، بينما تستمرّ بالرقص على قلبه تعذبه.. تغويه.. وتتركه محترقًا..
ضحكتها المراوغة والعابثة تصله بينما تستدير نحوه تميل بجذعها للخلف وتبدأ بهز جانبها الايمن قائلة تستفز حميته:
" أنت لن تكون موجودًا ولن تستطيع منعي..الحفلة ستضم النساء فقط "
يتخلص من جموده ويتحرك نحوها ثائرًا مثارًا.. فتناوره تزيد من لوعته وتهرب منه وضحكاتها المغوية تسبقها.. يتوقف وأنفاسه تتثاقل بصدره ليهتف ببؤس وحنق:
" آية أنت لن تفعلي هذا.. عديني أنك لن تفعلي.. "
تعطف عليه وتتحرك نحوه أثناء رقصها تسأله بمكر:
" هل أنت مستعد لدفع الغرامة حتى لا أفعل؟ "
" أية غرامة؟ "
يسألها بلهاث ويداه تصلان أخيرًا إليها يلتقط خصرها يطوقه مثبتًا إياه يمنع اهتزازه، بينما تجيبه بغمزة من عينها وأنفاسها تداعب وجهه:
" أريد بدلة رقص أخرى أفرغ فيها طاقتي تلك الليلة.. هنا.. في غرفتنا.. "
" بدلتين اثنتين.. وأنا من سيشتريهما لك.. فقط أعطني وعدك.. "
تبتسم برضى تام وكفها تبحث عن كفه لتسحبه معها قائلة:
" لك مني كل الوعود والعهود التي لا يمكن نقضها.. تعالى اجلس يا مولاي لترقص لك جاريتك المُحبة"
يشدها إليه بحزم يغطيها بضخامته قائلًا بحنق متفاقم:
" رقصت بما فيه الكفاية.. أبقي بعض الطاقة من أجلي فأمامك ليلة طويلة شاقة تستميلين فيها عطفي، وتطلبين مغفرتي وعفوي"
يكتم ضحكتها المغوية بشفتيه يفرغ بعضًا من نزقه وحنقه المستحكمان به، وشحنات جسده المتوترة تعدها بأنه لن يكون متساهلًا معها، ولن يرضى عنها حتى تبذل كل ما تملك في سبيل ذلك.
***
في جناح العروسان..
غابت وأطالت غيْبتها.. والقلب أضناه الانتظار وقد أفناه لسنوات طوال.. عيناه تعدّان الدقائق والثواني وأجزاء الثانية.. وقلبه يدق بتوازن مع دقات الساعة.. وأخيرًا نزلت برحمتها عليه وأذاقته من نعيم رؤياها..
بتردّد وتلكّؤ ينفتح الباب لتظهر من خلفه وتسرق من قلبه نبضة.. بل نبضتين.. عيناها تثبتان في مواجهة عينيه لغاية في نفسها تريد تأكيدها، وهي تتجرأ وتتقدم ترفل في ثوب حريري طويل عقدت حزامه حول خصرها استبدلت به ثوب الزفاف، وحجابها مستريح على كتفيها كاشفًا عن شعرها البندقي اللامع بقصة قصيرة ملامسة لعنقها..
يتصدى بقوة لنظراتها الباحثة عن تذبذب أو تراجع لن تجده في قاموسه، يأبى أن يرى أي انهزام لها أمامه.. ليس وهي في حمايته..
" يليق بك الشعر القصير"
جملة بسيطة عفوية نابعة من صميم فؤاده الولهان يقطع بها الطريق عليها، جعلتها تبهت للحظة وما أرادت إيصاله تجهل إن كان قد فهمه أم أنه يتجاهله..
منذ إعلان رضاها وقبولها وهي تحاول بشتّى الطرق إظهار بعض الجوانب التي تشعرها آثمة بحقه، لعلّه يتراجع ويعلن استسلامه، وقد طالبت بمهلة الشهرين فقط لتترك له فرصة للتراجع وإعادة حساباته، لكنه كان يثبط كل محاولاتها بالتجاهل والثبات على رأيه، وهذه كانت إحداها.. أرادته أن يعرف أن شعرها قد تساقط كليًا ولا يزال في طور نموه، لكنه يفنّد محاولتها بـ ادعائه أن قصة الشعر تلائمها.. وكأنما كانت القصة بـ اختيارها..
يتجاهل كل شيء وما تحاول الوصول إليه ليقول بلطف:
"طلبت بعض الطعام.. لنجلس ونأكل أولًا"
عيناها تحيدان ناحية الصينية فوق المنضدة هامسة:
" لست جائعة.."
" يجب أن تأكلي.. تعالي لـ أطعمك بيدي.."
يتحدث بعفوية وطلاقة وأصابعه تلتقط كفها وتشدّها إليه مقرنًا كلماته بفعل مؤازر..
مقاومة واهنة بانتفاضة متأخرة تنتشلها من تأثير الموقف عليها لتهمس بتقطع وتشتّت:
" لحظة.. هنـ.. اك شـ..يء..موضوع..مواضيع لنتحدث بها وتفهمها.. "
يتوقف وما اعتراها من زلزلة للمشاعر من مجرد لمسة انتقل إليه سريعًا، فيزدرد ريقه يهمس بتيه وقد شتّتت كلماتها المذبذبة كل انتباهه:
" لدينا العمر بطوله لنتحدث.. "
يراقب بـ احتراق حركتها المثيرة لحواسه تعض على شفتها السفلى فتزداد حمرة وافتتانًا، بينما تجاهد لـ اثبات موقفها فتقول بحزم مزعزع:
" تلك العلاجات تركت.. "
تبتلع بقية كلامها بشهقة متفاجئة عندما خطى نحوها بغتة لاغيًا المسافة بينهما تمامًا متلمسًا حرارة قربها.. صدره المتضخم بأنفاس مهتاجة يلامس صدرها الذي راح يعلو ويهبط بتلاحق..
بتعثّر تحاول التراجع للخلف بحثًا عن مهرب لها.. فتُثبط ذراعه المنسلة حول خصرها محاولتها.. بينما يهمس لها بـ احتراق وعيناه مركزتان بـ إلحاح على شفتيها:
" دعي كل شيء جانبًا.. ما يهم أنك هنا.. معي.."
يكتم اعتراضًا واهيًا لا محلّ له ولا مكان في عُرفه.. ما تريد قوله يعرفه وليس غرًا ليقف عنده ويتخلى عن سعادته بقربها من أجل أشياء ظاهرية لا معنى لها..بعزيمة وحزم يدفعها دون تمهيد يغرقها في عاطفته ويقفز خلفها مباشرة يغرق معها.. يموت فيها ويحيى في آن.. يتذوق بتروٍ.. وبصبر يستكشف ما هفّت إليه نفسه عمرًا بأكمله..يغزو مواطن السعادة والنعيم ويستعمرها.. ينهل الحياة من بين شفتيها يروي بها ظمأ أطنان من الشوق تشكّلت وبات مستحيلًا احتواؤها..
زلزال يضربه ويرتج له جسده بتأثير مدمر.. وعطر أنفاسها أخيرًا معتقل ومسجون في صدره يستمد منه الحياة.. أنّتها الخافتة تصله فتتجاوب معها تنهيدته الحارة مجبرًا نفسه على فك حصاره عنها.. ومنحهما معًا فرصة لـ استرداد أنفاسهما..
يبتعد بوجهه وذراعه متشبّثة بها كقيد يحيط خصرها يزرعها فيه فينصهر فيها.. يقرأ في وجهها حجم الاختلال المحدث في داخلها من مجرد قبلة.. وأنفاسها المتلاحقة تحكي الاعصار الذي اجتاحها وتبعثرت له كل ثوابتها..
" لد..ي ند..بة.."
عذاب ضميرها لا يرحمها ولا يدع لها فرصة لتهنأ بهذه اللحظات ويهنأ معها.. صوتها المرتجف حمل تلك الكلمات المتقطعة إليه.. خافتة معذبة.. تثير حميته عليها إلى أقصى حد.. فيشتد طوقه عليها ورأسه تميل هذه المرة على عنقها يستعذب ملمس بشرتها بشفتيه هامسًا ببحة عاشق ملوع:
" ششش.. دعي كل شيء خلف ظهرك"
"جابر.."
همستها التالية بـ اسمه أشعلت حرائق بجسده كله فتتهدج أنفاسه حارة تلفحها، وهمساته تستفيض بغزلها وتغرقها:
"لبيك يا قلب جابر ونبضاته.. ويح جابر من اسمه كيف يستعذب استوطان هذه الشفاه..جابر وقلبه تحت أمرك.. أؤمريه وعليه الطاعة.."
"أرجوك.."
همسة أخرى معذبة تجلده بسياطها فتهدر أنفاسه حارة لاهبة..وروحه تنسلخ عنه بابتعاده القسري عنها.. يرفع رأسه يطالع تلك النظرة التي لا يحب رؤيتها في عينيها.. نظرة المذنب والآثم كأنما تظلمه معها.. أي ظلم؟ وأي إثم؟ كيف يقنعها لهذه الغبية أنه يحيا النعيم بقربها بهذه اللحظة؟ كيف يقنعها أن ما يهمه وأقصى ما يتمنى هو رضاها ومنحه كل كيانها ووجودها كما يمنحهما إياها؟..
يلتقط أنفاسه بينما يبتعد قليلًا عنها يغالب توق نفسه إليها..
" لا بأس.. دعينا نرى تلك الندبة التي تعذب ضميرك"
يلعق شفتيه منتظرًا أن تكشف له ذاك السر العظيم في عرفها، والذي يعرفه جيدًا لكنها لا تفهم..
احمرار متّقد يغزو خديها وهي تتهّرب بعينيها عن عينيه بحياء، وتلك الندبة التي يطلب أن تكشف عنها تعني أن تتجرد من خجلها وتكشف عن أماكن أخرى حميمية..
أصابعها المرتبكة و المرتجفة ترتفعان إلى ردائها الحريري وتستقران على حزامه المطوق لخصرها بتردد، عندها لم يتوانى جابر عن التدخل هامسًا بلهفة:
" ربما تحتاجين لمساعدة.. "
بنهاية كلماته كانت هي تتأرجح بين ذراعيه يرفعها ويحملها بحركة واحدة ويندفع بها إلى غرفة النوم، وبحذر ورفق يضعها على السرير ويجلس أمامها يسألها ممازحًا.. يغالب لهفة وشوقًا يفيضان من جنبات روحه:
" هل أغمض عيناي؟ "
زفرة حارة من قبلها عبّرت عن ذاك الضغط الذي ترزح تحته من الموقف بالمجمل، فتستجمع شجاعتها وفي حركة واحدة كانت تسحب الحزام فتتهدل جوانب الثوب على الجانبين، وينحسر على قطعة أخرى حريرية وأكثر نعومة سلبت لبّه، فتهتز كفه مرتجفة يتخيل ملمسه تحت أصابعه.. يحاول التركيز على عينيها المثبتتان على وجهه تقرأ ردة فعله الاولية عندما ستكشف عن الندبة.. لكنه يفشل ونظراته تتسارعان وتلتهمان بياض جيدها وكتفيها وقد انحسر الثوب عنهما..
بقلب واجف نابض بجنون يراقب حركتها الموالية والمتريثة، وأصابع يدها اليسرى ترتفع -بـ إغواء غير مقصود- لتزيح تلك الحمالة الرقيقة عن كتفها الايمن فتسقط منزلقة على ذراعها، بينما تعري تلك المنطقة الحميمية بالنسبة لها وتناظره بترقب..
يعضّ على نواجذه غيظًا وهي تتولى المهمة التي كانت نفسه تتوق إليها، وتحرمه من ذاك الشعور الذي راود خياله طويلًا..
أليس نزع الثوب عنها حقًا من حقوقه الشرعية؟ كيف تسلبه إياه إذن بهذه البساطة؟..
يبلّل شفتيه وبركان مشاعر يضربه ولا يرحمه،، بينما تنتظر هذه الحمقاء أن يخفت شغفه وتنحسر لهفته إليها..
يزفر نفسًا هائجًا وحانقًا يسألها يدعي الهدوء:
" أين هي الندبة؟ "
يلتقط بنظراته اتساع عينيها بينما تجاهد لقول شيء لكن لسانها يخونها.. يلهث بينما يتوعدها هامسًا بتكدر:
" أهذا الشق الذي لا يكاد يظهر ما تسمينه ندبة؟ بربك يا وفاء! هل ترينني غرًّا وجاحدًا لأتجاهل كل هذه النعم أمامي وأركز على شيء لا ينقص شيئًا منك ومن قيمتك ومنزلتك الغالية في قلبي..أما زلت غير مدركة لقوة المشاعر الطاهرة التي أكنها في صدري إليك..ألم تدركي بعد أن هذا العشق في قلبي لا يخضع لمظاهر معرضة لتقلبات الزمن.. بل هو أعمق وجذوره ضاربة في أعماق روحي ولن تتزحزح.. يسري بأوردتي مجرى الدم.. يذوي بداخلي وأذوي معه إلى أن تفنى هذه الروح وتسلم أمرها لبارئها..هذا القلب بصدري لم يخلق إلا لينبض عشقًا لك وحدك..وأنفاسي تحيا بعبق هواك..العاشق الأصيل لا يرى حبيبه وأليف روحه إلا بعين الجمال.. وأنا والله عاشق حتى النخاع..عاشق وعابد في محرابك يرجو الوصال..فـ ارحمي من تلوّع في هواك ولا تزيدي في عذابه.. "
نظراتها تتراقص بـ إجفال من نبرته المحتدّة التي تحدث بها تحكي حميّة وغيرة تحركه نحوها..
تحاول قول شيء فلا يمنحها الفرصة.. يضع حدًا لهذرها الذي لا معنى له في قاموسه..يتلمس الطريق إلى قربها.. يبتهل لشفتيها.. تلك الشفاه الشهية يليق بهما التقبيل أكثر من الكلام.. هذه الليلة لا يريد أن يسمع شيئًا لأنه سيتولى دفة الحديث بمفرده.. سيحكي ويستفيض.. يروي حكاية صبي عشق جنية ساحرة..سلبته من نفسه بظفائرها اللامعة..وامتلكت فؤاده بالجسارة في عينيها.. فـ أخضعته لمشيئتها ليغدو تابع لطيفها ملازم لظلها.
***
الخاتمة

عيناه لا تفارقان صورتها الناعمة بين ذراعيه.. كيف تستكين وتستسلم لتلك الغفوة التي أحكمت سيطرتها عليها فتخضع لها جفونها طواعية.. كاشفة عن ذاك الارهاق الذي عايشته وكان باستطاعته تخيل حجمه و أفكارها وهواجسها لا ترحمها.. فخور بنفسه أنه قد استطاع محوها كلّها أو بعضها هذه الليلة.. فتركن إلى فسحة لها ترتاح فيها وترمي كل تلك الأعباء المثقلة لكاهلها.. ناشدة الراحة لروحها المنهكة..
قلبه يرق لها ويشفق على ذاك الانهاك المتمكن منها.. لكن يده الخائنة تتمرد وتسبقه يؤازرها شوقه المتعاظم في صدره لها.. برفق يزيح بأصابعه تلك الخصلات المستريحة على عينها.. يلامس برقة أعتاب رموشها المستكينة على خدها.. وتلتقط أصابعه نعومة بشرتها فتتمادى وتنتقل إلى شفتيها..
أيكون مذنبًا بشوقه الذي لا ينضب و ظمئه الذي لم يروى بعد؟..
سؤاله المعذب يتلوّى في نفسه هائمًا ضائعًا..بينما تتحرك ذراعه التي تتوسدها رأسها معلنة العصيان عليه..تشدّها وترفعها برفق يلامس بشفتيه شفتيها.. مجرد لمسة..أراد أن يكون قنوعًا..وحاول.. يقسم بهذا..لكنها لم تكن كافية..وشرهه إليها يتضخم ويفلت عن سيطرته.. يقتطف لنفسه التواقة قبلة.. قبلتين.. تململت على إثرهما وندّت عنها أنّة خافتة ورموشها تبدأ برفع ستارها عن عينيها.. لتقع سبيّة لعينيه المترصّدتين والمقتنصتين لكل اختلاجة فيهما..
تشوش يتبعه تساؤل لحظي قبل أن تتوصل إلى تذكر أين هي.. فيغزو وجهها ذاك الاحمرار المثير لكل حواسه.. فيندفع منساقًا ينهل من خديها قبلًا ولثم.. هامسًا بـ اعتذار غير مقنع:
" أيقظتك.. أنا آسف.. "
هل هو آسف حقًا؟ هل هو أناني بشوقه واحتياجه؟
يرفع وجهه مبتعدًا عنها قليلًا باحثًا عن عينيها التي تتهرب بهما بخفر.. يبحث عن ذاك الدليل الذي لمسه في لحظاتهما معًا.. تلك اللحظات المقدّسة بهيبة ارتجت له أركان القلب..فيخرّ خاشعًا خاضعًا لـ إعصار المشاعر الذي ضربهما وتبعثرا على إثره برضى واكتفاء..
"أنا جائعة.."
تهمس بـ أي شيء تهرب به من كمية المشاعر التي ترزح تحتها..يدرك هذا..واندفاعه وأنانيته لا يعطيانه الفرصة للرأفة بها أو رحمتها..
" أنا جائع أكثر منك.. "
يرد همسها الخافت بهمس محترق.. وشفتاه تسبقانه تستعذبان الارتواء من نبع شفتيها.. يغوص معها في نعيم كتب له وحده دونًا عن غير..
حمرة الحياء فوق الوجنتين لا تفارقهما رغم استجابتها الخجولة.. فيختتم هجومه المباغت عليها بلثمهما يغالب بركان المشاعر المتفجر في صدره..هامسًا بنبرة تأنيب رقيق:
" أنت من رفض الأكل.. هل تذكرين؟"
" لم.. لم أكن جائعة وقتها"
تهمس وهي تكاد تذوب حياءً بين ذراعيه.. فتزيد من افتتانه بها ليسألها بلهفة وعيناه تومضان عبثًا:
" هل تخبرينني أن شهيتك قد انفتحت الآن؟ "
يزداد توهّج وجنتيها وهي لا تزال في محاولاتها المستميتة للهروب من مواجهة عينيه، ومعاني كلماته الإيحائية بحميمية مذيبة تفتك بها.. يتنهد مقسمًا أنه يتلذّذ وينتشي بحالتها تلك.. وتتعمق في إغراقه فيها محكمة سيطرتها على قلبه الممتلئ عشقًا بها.. حتى فاض وبات صعبًا احتواؤه..
شفتاه تتلمسان طريقهما مجددًا على بشرتها يرشف شراب الورد من خدّيها وينهل الشهد من شفتيها..
" هل نسكت جوعك أولًا؟ أم جوعي أنا.. إليك؟ "
يسألها بصوت مرتجّ قصفته العاطفة وتركته مبعثرًا منتثرًا..
يعض طارف فمه حسرة ولوعة وعيناها ترتفعان إليه ترمشان بعدم فهم..
نفسه الطماعة تؤزه لتجاهل أي شيء والاستجابة للعاطفة بداخله يشبعها بها.. لكن قلبه المحتوي لحبها يحرك فيه مشاعر عطف ورحمة بها.. خاصة وأنها لم تأكل شيئًا أثناء النهار..
ينفض أي تراخٍ وتقاعس عنه وينسلخ بروحه عنها قسرًا وهو يقول:
" سيكون الطعام الذي طلبته قد برد ولن يكون طعمه مستساغًا.. سأطلب غيره"
"أنا آسفة.."
همستها تلاحقه في ابتعاده وتثنيه.. ليناظرها بـ استفهام وعيناه تتركزان على حركتها العفوية تعض على شفتها بذنب يسألها بتيه:
" ماذا قلت؟.. "
" لم أقصد أن أثقل عليك.. أنا آسـ.."
يبتلع بقية اعتذارها فيضيع في ثنايا فمه بقبلة متطلبة..
" لم أسمعك.. "
يلهث مستجمعًا أنفاسه وما يعصف به قد عصف بها أيضًا وتركها بلا حول ولا قوة.. بينما تحاول إيجاد صوتها وفك حصاره عن شفتيها لتهمس بتذبذب:
" أنا آ.. "
أيضًا يقاطع اعتذارها متعمدًا بقبلاته يوصل رسالته الواضحة لها قائلًا بمكر:
" هل سنقضي الليلة كلها في التأسف والاعتذار؟ أنا لا أمانع بل على العكس"
يغمز لها بعينه بجرأة مجبرًا نفسه على الابتعاد أخيرًا، فتغرق في خجلها مجددًا وتبحث عن مهرب لها من نظراته القوية الجريئة، التي تعري على روحها تكشف له عمق ما يختلج بداخلها من عاطفة مستحكمة، فلا تجد إلا الغطاء تسحبه وتغطي به رأسها..
تصلها ضحكته من تهربها ذاك الذي لا طائل منه ويتبعها بوعوده العابثة.. متوعدًا إياها أن لا مهرب لها منه والعمر أمامهما طويل.. يطوّع على امتداد لياليه المقمرة خجلها وحياءها.. ويعلمها كيف تعلن عن عشقها جهرًا وتجاريه في لهفته وشوقه.
***
بعد عام..
وجنتاها تتوهجان بسعادة وبريق لافت يشعّ من عينيها، كفها تستكين لدفء كفه المعانقة لها، بينما يحيطها بحرارة قربه يدثّرها بعباءة مراعاته وحمايته، يغدق عليها بـ اهتمامه يمنحها كل كينونته ووجوده.. يسيران جنبًا الى جنب خارج المستشفى بعد أن أجرت فحصها الدوري عند طبيبها، وطمئنها إلى أن الأمور كلها بخير..
غارقة في أحاديث شيقة معه مأخوذة تتابع بـ اهتمام كل ما يقوله، وعيناه لا تكفّان عن تدليلها وتتعمقان بمغازلتها.. تملآن وجودها اكتفاء..
عام مضى عليها وهي تنعم بالدلال والاحتواء في كنفه كما سبق ووعدها.. لم يخلف أيّ وعد من وعوده لها.. فقد كانت كلها ميثاق ..ويُعد كفرًا في عُرفه نقض أيًّا منها.. لم يشعرها بـ أي نقص يتخلّل حياتهما.. بل كانت أشبه بملكة متوجة على عرش سعادتهما.. رغم تلك المناورات من قبلها لذكر موضوع الإنجاب.. لكنه كان يقطع عليها الطريق دومًا مستخدمًا مناوراته الخاصة لـ إلهائها وتشتيت انتباهها..
" انتظريني قليلًا.. لن أتأخر"
يلثم كفها وعيناه ترسمان غموضًا تعرفه جيدًا، فتتشبّث أصابعها بيده هامسة بنبرة مغناجة:
" سأنتظرك العمر كله..سأشتاقك..لا تتأخر"
تنهي وصلة ملاوعتها له بغمزة شقاوة من عينيها، تركته مبهوتًا مترنحًا..
يحمحم يجلي حلقه المتحشرج وجسده يعصي أوامر العقل فيدنو منها عوض الابتعاد، متلفتًا حوله يستكشف محيطه وما حوله متمتمًا بوعيد وتهديد:
" أيتها المحتالة.. ألا تؤجلين غزلك هذا حتى نعود لبيتنا لـ أقتص منك..ماذا أفعل بك الآن؟"
عيناها تشعّان غبطة بينما صدحت ضحكتها فيتأوه ملتاعًا وينتفض جسده كله على إثرها وعيناه تتوعدانها:
" سأجعلك تدفعين ثمن مجونك هذا على الملأ.. أعدك"
لا تجيبه لكن رموشها تتحرك بـ إغواء وعيناها ترسلان سهامهما فتصيبه في مقتل..يزمجر بغيظ مفتعل وقلبه يرفرف بصدره بهجة وانتشاء..
يزفر أنفاسه بقلة حيلة قائلًا بتظلم:
" أعانك الله يا جابر على هذه الجنية التي ابتليت بعشقها.. لك الله أيها القلب"
يتحرك مبتعدًا وهو يحمحم يستعيد ثباته ورزانته أمام الناس.. يخفي تلك السعادة في صدره ويغطي بخوف عليها حتى لا تسرق منه..وقلبه يلهج بالدعاء لله حتى يتمم عليه نعمه الجزيلة..
تشيعه بعينيها حتى غاب عن ناظريها ثم تزفر أنفاسها بتنهيدة مفعمة بالرضا والاكتفاء..
تعود لتنظر أمامها تلتقط هاتفها وابتسامة متلاعبة مشاكسة تتراقص على شفتيها، تخط بضع حروف جريئة مغازلة لرجولته، شجاعتها تخونها للبوح بها بلسانها وهو أمامه وخجلها الفطري يمنعها، لذا تجد راحتها في كتابتها على شكل رسالة نصية قصيرة وترسلها.. ثم تنتظر بترقب رده الذي يغرقها بسيول جارفة من الغزل والعشق لم يخلق في صدره لغيرها..
تتوالى تنهيداتها العاشقة وأصابعها تتسابق لنقر كلمات إضافية تجاريه في عشقه، وشوقها ينافس شوقه باندفاعه ولهفته..
غارقة في عالمها المظلّل بغمامات حب مرفرفة، ولم تلاحظ ذاك الذي توقف مبهوتًا يتملكه الجمود، مذ رآها تخرج من المستشفى وضحكتها المبتهجة تسبقها..
هل هذه وفاء حقا؟
يزدرد ريقه والحيرة تملأ أركان نفسه.. ذاك التألق والنقاء المحتل لوجهها مناقض تمامًا لما انتظر رؤيته بعد نكبتها تلك..أية نكبة؟ لا يوجد منكوب هنا غيره..
نار حسرة وندم لفحته وهو يتابع بعينيه ذاك التآلف والود الجامع بينها وجابر..وعيني هذا الأخير المحتضنتان لها تفضحان ذاك الحب الخالد العميق في قلبه لها.. كان هو الوحيد الذي استطاع إدراك عمق مشاعره نحوها، لهذا يحارب بندية مستميتة للاستيلاء على قلبها له وحده..
يتخلص من جموده وذهوله ليتحرك نحوها تحمله خطواته المترددة، فتقع عيناها عليه.. اتساع طفيف في عينيها هو كل ما عبرت به عن تفاجؤها برؤيته، فتور اكتسى ملامحها بينما عيناها تقيمانه دون أن تظهر فيهما أية مشاعر منتظرة من قبله.. كالغضب أو الكره مثلًا.. أو حتى الخذلان والخيبة يثبت بها وجوده السابق في حياتها.. لا شيء أبدًا.. كأنما كان مجرد يوم سيء مظلم ومر في حياتها.. ليتبعه يوم آخر مشرق طغى على سواده الذي دنّسه..
ربما كان فيهما نفور مهين هزه من الداخل، ونفسه المتعمقة في أذيته تقارنه بتلك المشاعر النقية التي كان يراها سابقًا فيهما، وقد خسرهما بوضاعته وخسته، لتتبع خسارته تلك خسائر أخرى عديدة اجتاحت حياته وأحالتها إلى أنقاض..
" كيف حالك.. وفاء؟.. "
بتردد ينطق اسمها.. اسمها الذي يُذكّره دائمًا بغدره وخيانته مقابلًا لوفائها وإخلاصها..
تعبير بارد يكتسي عينيها وهي ترد تصحّح له بحزم:
" سيدة وفاء إذا سمحت "
ينكس رأسه خزيًا ونبرة الاستهانة والتحقير في صوتها تشعره بضآلته أمامها، فيحاول رمي بعض من تلك الأحمال المثقلة لظهره ويعبر عن أسف متأخر لم يعد يفيد أحدًا بشيء:
" أريد فقط أن أقول أني آسف على كل ذلك الأذى الذي تسـ.. "
" ولكني لست آسفة"
تقاطع محاولاته للاعتذار عن شيء لم يعد له محل في ذاكرتها، لقد محته كما محت كل ألم ووجع مرّت به، واسترسلت تقول بيقين عميق:
" لولا ما حصل لما عرفت معنى السعادة الحقيقية، لما كنت أعيش الآن أجمل أيام عمري.. أحيانًًا لابد أن نمر بتجارب قاسية تصقلنا ونعيش الألم والوجع ونحتسب مصابنا عند الله، ليكافئنا ويجزينا على صبرنا.. كانت مكافأته لي وجزاؤه على صبري عظيمة وفاقت كل توقعاتي..لقد تيقنت من أن الله هو الألطف بعباده، وهو الأعلم بكل النفوس.. فيقدم لنا الخير ويؤخر الشر.. صدّقت وآمنت بـ أن الأشياء التي نتمناها بشدة ونحزن لتأخر تحقيقها، قد وضع الله حكمته وعلمه فيها، هو وحده الأعلم بسبب تأخرها وموعد تحقيقها، لا يجلّيها لوقتها إلا هو، هو العليم الخبير.. كانت أحلامي تقتصر على نيل نجمة واحدة في السماء، لكن القدر كان يخبئ لي ما هو أعظم.. نلت السماء بكل نجومها وأجرامها..فعلى أي شيء سأتحسر وأتقبل التعازي؟ وقد منّ الله علي بعطاياه الجزيلة حتى أغرقتني "
يخرسه ذاك التألق المضيء من عينيها يحكي سر سعادة حقيقية صادقة وأفشاها بوضوح.. يغبطها ويغبط قوة إرادتها وعزيمتها.. ذاكرته تسحبه لذلك اليوم الذي تلقّى فيه خبر مرضها.. صدمته كانت أكبر من صدمتها وهي المكلومة..والجبن والهزيمة لم يحتاجا وقتًا طويلًا ليستحكما نفسه وعزيمته.. أعلن استسلامه وتخاذله سريعًا معرّيًا عن ضعف نفسه وضعف إيمانه.. بينما هي أبدت مقاومة وبأسًا أكبر منه..هل من مثله من ضعاف النفوس يستحق من في مثل قوتها وجلدها؟
" كلنا مدينون لك بـ اعتذار.. "
يبحث عن صوته المتواري خلف مشاعر الخزي والمهانة ليقول مجددًا:
" لقد ظلمناك كثيرًا.. وآذيناك وعائلتك.. "
يقطع كلامه عندما رآها لا تعيره أي اعتبار بينما تشرق ملامحها بهجة وسعادة وعيناها تقعان على القادم نحوهما، فتتحرك تلقائيًا لملاقاته تاركة إياه في دائرة اختارها بنفسه.. منبوذ مهان..
يتحرك جابر خطوتين للأمام وحميته نحوها تحمله ثم يتوقف، فيقع قلبه صريع هواها للمرة التي لا تعدّ ولا تحصى، وهي تهديه أجمل ابتساماتها وتهديه ما هو أكبر وأغلى.. اهتمامها ولهفتها..تهديه ذاك التقدير والتبجيل في نظراتها إليه..
كان يتحرك نحوها بحمائية عندما لمحه يقف يحادثها.. لم يرد أن تتعكّر روحها لرؤياه وتتذكر آلامها وأوجاعها.. لكنها فاجأته بقوة إيمانها وصمودها.. فتتسمّر خطواته وكلماتها المليئة بيقين وامتنان عميق تصل إلى مسامعه تغمره بالرضا والسرور..
يراقب مراد تلك اللهفة التي ترفرف على إثرها خطواتها محلقة بسعادة.. تلك الابتسامة المشعة تحكي عمق العشق المتملك لفؤادها.. فتنكمش نفسه بضآلة وهزال وصورته تتجلى أمامه بتصور متأخر يقف مكان جابر..كان من الممكن أن يكون هو من تسارع إلى ملاقاته بلهفة وشوق عارمين كما يراها الآن تفعل مع جابر..جابر الذي ترفّع عن النظر إليه حتى.. مجرد نظرة ازدراء وتحقير هي كل ما حصل عليه منه.. وقوفه هناك لم يعني لهما أي شيء كأنه غير موجود.. غارقان في غزلهما لبعضهما تلفهما قوقعة حبهما وتعزلهما عن العالم..
لم تمنحه الفرصة ليخبرها عما آلت إليه حياته بعدها.. وكأنها ستهتم.. لم تمنحه الفرصة ليخبرها عن زوجته التي تركته واستقرت في بلاد الغرب، بعد أن رفعت عليه قضية الطلاق لـ أنها كما أكدت واتهمته لا تنوي أن تمضي بقية حياتها مع شخص لا أمل له في الإنجاب، واجهته بقوة برغبتها في أن تصبح أم وهو لن يحقق لها رغبتها لذا ستتركه..ستتركه بعد أن دفعته لتحقيق كل مطالبها المبتزة.. تساومه بالبقاء معه أو الرحيل.. جعلته يشتري لها بيتًا في أرقى ضواحي المدينة كلفه ديونًا طائلة يرزح إلى الآن تحت أثقالها.. رغم بيعه للطابقين اللذيْن قضى ثماني سنوات في الغربة لبنائهما في بيت عائلته، ليسدّد جزءًا من الديون المتراكمة.. تركته بعد أن استنزفته ولم تبقي إلا على بقاياه المحطمة..
أراد أن يخبرها أيضًا عن والدته التي كسرت قلبها في أحد الأيام وجرحتها بقسوة، كيف أخذ الله حقها واقتصّ منها دون مجهود يذكر منها، لينفطر قلبها على ابنتها التي تخلى عنها زوجها ورماها وهي الآن في المستشفى تجري عملية استئصال ثدي بعد تفشي المرض الخبيث في جسمها.. أراد أن يخبرها كيف اقتص الله لها منهم جميعًا جزاءً على غدرهم وخستهم اللذيْن قابلوا بهما وفاءها و صبرها.. لكنها لم تهتم.. تترفّع عن مجرد استقصاء اخبارهم.. لـ أنها ببساطة قد طوت صفحتهم ولم يعد لهم أي وجود يُذكر في حاضرها.. وكل والوجود والحاضر والمستقبل بالنسبة إليها بات متجليًا في شخص واحد.. هو نفسه الذي استطاع تقدير قيمتها الحقيقية ومنحها كل كينونته ووجوده..
يوثر الانسحاب.. أو بمعنى أصح.. يستمر في انسحابه.. هو الذي انسحب من حياتها بجبن وضعف منذ البداية..اختار طريق الجبناء ضعاف النفوس.. وذاك الطريق كُتب له أن يسلكه وحيدًا بقية حياته.

تطير إليه تحملها سعادتها لتقف أمامه ترفع وجهًا موردًا مشعًا تسأله بشقاوة:
" ما هي المناسبة هذه المرة؟ "
تشير بعينيها لباقة الورود الحمراء التي يحملها، فيضعها بين ذراعيها ويحيطها بذراعه قائلًا بحب:
" كل يوم أعيشه وأنا أتنفس هواك وأحظى بقربك هو مناسبة وجب الاحتفال بها"
تسند كفها على صدرها تستقبل لثم شفتيه لجبينها مستكينة لدفئه يسري في أوردتها يملؤها اكتفاء وطمأنينة..
" ستفسدني بدلالك هذا لي.. أنا أحذرك"
تشتد ذراعه من حولها هامسًا بحرارة:
" من سواك يليق بها الدلال..لم أُخلق إلا لتحقيق كل أمنياتك"
" أنا ليس لدي أمنيات أخرى فقد تحققت كلها بوجودك في حياتي.. الحب الصادق المتين يجبر القلوب المكسورة.. وأنا قد منّ الله علي بمن حمل من صفات اسمه الكثير.. وكان لي الروح التي أحيا بها، وعطر الأنفاس التي تسكن صدري.."
ترتجف ضحكاته بصدره وغزلها له يزلزل كيانه ويفقده رزانته، ليهمس متوعدًا يردع نفسه عن التهور:
" ستعيدين على مسامعي كل هذا الكلام عندما نعود للبيت، وسأريك عندها ردّي كيف يكون"
ضحكاتها تختلط مع ضحكاته بينما تدفن وجهها المحمر خجلًا في صدره، هامسة بملاوعة:
" وأنا أريد أن أرى ردك هذا.. كيف سيكون؟ هل ستخبرني؟ "
" أولست تعرفين حقًا؟ "
بل هي من يعرف.. ولا أحد غيرها يدرك مدى عبثه الجريء.. ووقاحته المحببة..شغفه ولهفته..دفؤه واحتواؤه الرجولي لها كأنثى لم يخلق لها مثيل..أنثاه هو.. قطعة من روحه وكيانه..من هو مستعد لدفع حياته ثمنًا للإبقاء على ضحكتها مشرقة تزين أيامهما.
_تمت بحمد الله_
بتاريخ 31/12/2023



سعيدة أنير غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-07-24, 09:22 PM   #23

سعيدة أنير

? العضوٌ??? » 473919
?  التسِجيلٌ » Jun 2020
? مشَارَ?اتْي » 178
?  نُقآطِيْ » سعيدة أنير is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة فاتن مصيلحى مشاهدة المشاركة
سلمت يداكى نوفيلا رائعة جدا استمرى وإياكى والتأخير


تسلمي يارب سعيدة انها عجبتك نورتيني

ضي عيوني likes this.

سعيدة أنير غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-07-24, 09:23 PM   #24

سعيدة أنير

? العضوٌ??? » 473919
?  التسِجيلٌ » Jun 2020
? مشَارَ?اتْي » 178
?  نُقآطِيْ » سعيدة أنير is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة قلب من ورق مشاهدة المشاركة
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
يعطيك العافيه
جابر رجل المواقف أكيد يراسل نجاة يطمئن على وفاء لكن وفاء رأسها يابس رافض يفهم

منورة حبيبتي فرحانة بمتابعتك

ضي عيوني likes this.

سعيدة أنير غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
قديم 20-07-24, 09:24 PM   #25

سعيدة أنير

? العضوٌ??? » 473919
?  التسِجيلٌ » Jun 2020
? مشَارَ?اتْي » 178
?  نُقآطِيْ » سعيدة أنير is on a distinguished road
افتراضي

اقتباس:
المشاركة الأصلية كتبت بواسطة ضي عيوني مشاهدة المشاركة
مرحباً سعيده انير تشرفت فيكِ يا حلوووه ❤
نوفيلا جميله جداً ولذيذذذه وممتعه ومفيييده فعلاً فيها دروس وقيم❤
بصراحه ما قرأت روايتك السابقه والتابعه لها ،انما قرات النوفيلا منفرده وجداً اعجبننني ما خطت يداكِ وهذا الشي يشجعني ويخليني اروح ادور رواياتك السابقه ❤
معك معك حبيبتي للنهاية النوفيلا المميزه وبرواياتك القادمه بإذن الله❤


حبيبتب كلماتك داعمة جدا واتشرفت بقراءتك وان العمل عجبك اتمنى تكون اعمالي الاخرى عند حسن ظنك واتمنى الخاتمة تعحبك

ضي عيوني likes this.

سعيدة أنير غير متواجد حالياً   رد مع اقتباس
إضافة رد

مواقع النشر (المفضلة)

أدوات الموضوع
انواع عرض الموضوع

تعليمات المشاركة
لا تستطيع إضافة مواضيع جديدة
لا تستطيع الرد على المواضيع
لا تستطيع إرفاق ملفات
لا تستطيع تعديل مشاركاتك

BB code is متاحة
كود [IMG] متاحة
كود HTML معطلة
Trackbacks are متاحة
Pingbacks are متاحة
Refbacks are متاحة

الانتقال السريع


الساعة الآن 06:56 PM



Powered by vBulletin®
Copyright ©2000 - 2024, vBulletin Solutions, Inc.