يوم أمس, 09:11 PM | #101 | ||||
| بعد يومين يجلس متوترًا في مكانه على الأريكة التي شهدت حديثه في الآونة الأخيرة كل مرةٍ يزور فيها طبيبه ليفرغ مكنونات صدره، فيشعر ببعض الراحة رغم عدم وصوله مرحلة السلام الذي ينشدها بعد. يعلم علة نفسه ويرغب في مداواتها، يعترف أنه يتحسن تدريجيًا، فظهور ميلا إليه أصبح بمُعدلاتٍ أقل مع انخفاض معدل توتره، لكنها لازالت موجودة كما الأن، في الركن الأخير من الغرفة تناظره صامتة مع هزة طفيفة من رأسها تنهاه عن ما سيفعله، لكنه يتجاهلها كما صار يجيد مؤخرًا. كفًا رقيقًا امتد ليحط على كفه الذي يحتوي قبضته الأخرى، فيستمد القليل من القوة من هذا التلامس الطفيف من نادين الذي طلب منها مرافقته اليوم في زيارته لفاروق، وهي لم تتأخر، بل لبّت طلبه على الفور رغم عدم فهمها لسببه. خطوة قرر أن يقوم بها ولا يدري إن كان سيكملها للنهاية أم سيتقهقر كعادته، خطوة المواجهة! سيواجه الماضي بكل آلامه، سيواجه ذنبه عله يبرأ منه وإن كان ذلك دربًا من المستحيل في نظره، لكنه سيحاول.. التفكير في الأمر زاد من توتره وزادت وتيرة أنفاسه وهو يستعيد ذكرى ذلك اليوم. يسمع صدى الصمت في المكان، صمت فاروق الذي جلس بهدوء في انتظار خطوة عاصم في البدء بالحديث، صمت نادين المترقب بعد أن حرص فاروق على تنبيهها بعدم الضغط على عاصم بالحديث وترك للأخير حرية اختيار ما يبوح به. صمتٌ مشحونٌ بالتوتر قطعه عاصم الذي زاغت عيناه وشردت بالفراغ أمامه. _ميلا.. كانت فتاة غير عادية.. كانت مميزة بحضورها وشخصيتها الحيوية، وهي كانت تدرك تأثيرها الذي كان يأسر الحضور في أي مكان، وأنا لم أكن استثناء.. مال قلبي إليها وأردت الارتباط بها، وافقت و تمت الخطبة. غيرةٌ حارقة شعرت بها نادين وهي تسمع كلمات عاصم الذي حاول اختصارها قدر الإمكان عن علاقته بميلا كي لا يُسهب في تفاصيل غير ضرورية مراعاةً لتلك القابعة جواره، غيرة لم تقدر على مقاومة الشعور بها ودومًا ما كانت تراودها كلما فكرت بعلاقته بخطيبته السابقة والتي كانت مبهمة لها، تغاضت عن تلك المشاعر وحاولت عدم التركيز عليها كي تشحذ كل تركيزها معه، هي دومًا ما أرادت أن تعرف عن ماضيه، وهي الأن هنا بناءًا عن رغبته كي تسمع، كي تفهم. _يوم الحادث... همس بترددٍ والذكرى تداهمه، لكنه قاوم بكل ما أوتي من قوة. _كان يوم عيد ميلادها.. كنتُ أُعد لها مفاجأة.. كنت سآخذها إلى مطعمها المفضل واهديها ما اشتريته لها من هدية، مررت عليها بعد عملها.. وفي طريقنا.. أخبرتني أنها.. تريد الانفصال. دُهشت نادين بما سمعت من معلومةٍ لم تكن على عِلمٍ بها قبلًا، بينما عقل عاصم يسترجع ذلك اليوم ويسرده في مخيلته بكل لحظاته ومشاعره، يسترجع كلماتها التي ألقتها عليه بكل برود. _أنا لا أريد الاستمرار يا عاصم، أنا لا أشعر بأي مشاعر تجاهك. قطب حاجبيه وهو يناظرها مصدمًا، بينما أردفت هي تلقي ما في جوفها بازدراءٍ لم تتعمده _أنت لست الرجل الذي كنت أحلم بالزواج منه، أنت عادي لدرجة الملل، ومستقبلي معك سيتمثل في علاقةٍ سأكره نفسي بسببها في النهاية. كلماتها كانت كخنجرٍ مسنونٍ يطعنه في صدره طعنةٌ مُباغتةٌ لم يكن يتوقعها _هذه الحلقة التي حول إصبعي تشعرني بالاختناق، كأني سجينة علاقة تطبق علي صدري وتُزهق روحي.. لنوفر على أنفسنا إذن عناء تجربةٍ فاشلة من الأساس وننهي الأمر. ودون تأخيرٍ، خلعت حلقة الزواج من بنصرها الأيمن وأمسكت بكفه لتضعها فيه وإحساس الراحة يعتريها كأنما حجرٌ أُزيح من على صدرها، غافلة كانت عن أثر كلماتها وفعلتها عن ذلك الذي كان بجوارها ينظر إليها بجمودٍ اعتراه إثر ما تتفوه به من كلامٍ لم يكن ليخطر بباله، مطعونٌ في كبريائه وكرامته، يشعر بمراجل الغضب تعتمل داخله وهو يعتصر حلقة الزواج في يده اعتصارًا وقبضته الأخرى تشتد على مقود السيارة، لا شعوريًا يزيد من سرعة قيادته، وميلا بجواره متوجسة من هدوءه وعدم رده على ما قالت. غاضبٌ وبشدة، غاضب منها، وغاضب من نفسه، وغاضب لكبريائه الذي أهدرته بكلماتها. انقبضت عضلة فكه في توتر وأنفاسه تتسارع بينما يعيش مشاعر تلك اللحظات التي تلاها الكارثة، و دون وعي قبض كفه الذي كان ممسكًا بكف نادين وهو يفقد الإحساس بالزمان والمكان، فقط يرى الطريق الذي ينهبه بسرعةٍ جنونية وصوت ميلا بجواره تطالبه بالتروي. _عاصم هدئ السرعة، سنصاب بحادث. هتفت وتوترها يزداد، فابتسم مازحًا رغم غضبه المشتعل. _كل شيءٍ تحت السيطرة. لم يكن يرى شيئًا من غشاوة الدموع التي ملأت مقلتيه وهو يتمتم بحشرجة وجسده ينتفض وهو يعترف بذنبه _لم أستمع، كنتُ غاضبًا جدًا.. شعرت.. بالتشفي من توترها وذعرها.. فتماديت أرمم شرخ كرامتي بنشوةِ خوفها.. أفلت كف نادين ليدفن رأسه بين كفيه وهو يعتصر عينيه من ألم ثِقل ذنبه وصرخة ميلا الأخيرة تصم أذنيه _لم أحسب حساب القدر، لم أدرك حجم فجيعة تهوري إلا بعد فوات الأوان. سمح لنفسه بالانهيار أخيرًا وبكى، بكى كما لم يبكِ من قبل وهو يطلق عنان مكنونات صدره لأول مرة ، بكى وانتفض وذنب ميلا الذي عاش بداخله يكتمه ويكبته ويحاول اخماده ينفجر فتحرق نيرانه كل ذرة من كيانه. هنا ولم تقدر نادين التي كانت انسابت دموعها في صمت على تحمل معاناته أكثر من ذلك، هبطت راكعةً أمامه وحاوطت كفيه الممسكين برأسه بيديها، وأسندت جبينها إلى جبينه تشاطره ألمه في صمت ودموعها تنهمر رغمًا عنها وهي تسمعه يبكِ، وفاروق يستمع بكل تركيزه وتعاطفه معه إلى أن يفرغ من الحديث. _لم أدرك ما اقترفته يداي إلا بعد أن أفقت من اغمائي ملقى على الأرض بعد الحادث.. بحثت عنها مذعورًا.. تراجع عنها وانفعالاته تسكن للحظة ونظره يشرد بالفراغ. طيف ميلا في الزاوية تجلس أرضًا وتضم ركبتيها إلى صدرها تبكي في صمت، بينما خيال جسدها المسجى على الأرض يوم الحادث يتراءى أمامه _وجدتها.. ملقاة على بطنها.. ساكنة بطريقة مُخيفة.. بقعة دماء كبيرة أسفلها.. هرعت اليها، أدرتها لأجد... تغضنت ملامحه بالألم وتكدست الدموع مجددًا بمقلتيه وهدوءه يتلاشى ليهتف بانفعال _دماء.. الكثير من الدماء النازفة من جرحٍ غائر في بطنها.. حاولت إيقاف النزيف بيدي لكن.. لكن دون فائدة.. ولم يكن.. لم يكن هناك نبض.. لم تكن تتنفس.. كانت ماتت!! لينظر إلى نادين وكأنه يلاحظ وجودها للمرة الأولى ليهتف باكيًا. _ماتت يا نادين، ماتت! ماتت بسببي.. أنا قتلتها.. أنا السبب.. بيدي هاتين قتلتها.. يدي مخضبة بدمائها. قال وهو يرفع يديه أمام ناظريها وصورة الدماء تغطيهما، لتلتقطهما نادين بيدها قابضة على كفيه والألم يعتصر قلبها على حاله، ثم تحتضنه إليها، ليسقط برأسه إلى كتفها في استسلام، فتحتضن جسده الذي يختض وتربت على شعره في مواساة غير منطوقة، ليفرغ على صدرها آلامه وعذابه. _ماتت بسببي، بسبب رعونتي وتهوري.. ارتباطها بي كان يزهق روحها، وخلاصها مني انتهى بموتها.. أنا كنت لعنتها التي قتلتها، فأصبحت لعنتي للأبد. فشددت من احتضانه لا تدري أتأسف على شابةٍ كان كل ذنبها انها اعترضت على واقعٍ لم تعد ترغبه بعد الأن فأودى لموتها، أم تأسف على عذاب حبيبها جراء الذنب الذي ظل يُثقل كاهله حتى هذه اللحظة بسبب تهوره الطائش؟ تراجع ينظر إليها وهو يؤكد من بين بكائه. _أنا لم أقصد، لم أقصد الحادث، لم أرد لها أن تتأذى، لم أقصد ما آل إليه الأمر، لم أقصد ما حدث! لتومئ نادين وهي تربت على خده في رفق _أعرف، أعرف. اقترب فاروق ليجلس بالقرب من عاصم وقال محاولًا التخفيف من معاناته. _كان قدرها، والقدر لا مفر منه. نظر له عاصم بقلة حيلة من بين انهياره. _قدرٌ أنا السبب فيه. _أنتَ لم تكن تنوي أذيتها، أنت كنت غاضبًا والغضب أعمى بصيرتك فلم تبصر أبعاد تصرفك وتهورك. انغماسك في الماضي وذنب ما اقترفت لن يصلح ما فات أو يعيد الزمن إلى الوراء، بل سيكون قيدًا يعيق مستقبلك أنت. قال محاولًا جذبه خارج هالة الذنب التي تضيق الخناق عليه _من السهل التعثر في ظلمة ذكرياتنا السيئة التي تشبه الرمال المتحركة المهتاجة فتجذبنا بقوة لأسفل مكبلة إيانا، وتكمن القدرة في الخروج منها على الإرادة والسعي لتخطي تلك الأزمة، لكن عليك أولًا التخلص من صخرة الذنب الذي تثقل كاهلك. تجاوزُ الأزمة يكمن في الصدق مع النفس في وصف شعورها لا تجاهلها وكتمانها، واعترافك بما حدث خطوةٌ مهمة خطيتها في طريق علاجك. نظر له عاصم بيأس محاولًا التركيز على ما يقوله والتفكر فيه، بينما تربت نادين على ظهره تمده بالدعم. _ميلا ماتت لأنها كانت ساعتها، حتى لو لم تتهور يومها بالقيادة المسرعة، كان مقدرًا لها أن تفارق الحياة، نحن لا نعلم حكمة الله في تدبير الأمور، ربما كان مقدرًا لك أن تمر بهذه التجربة كي تتعلم درسًا مهمًا، كأن لا تسمح للغضب أن يعمي بصيرتك في التروي في قرارات حياتك، ربما هناك حكمة أخرى لا تعلمها بعد.. أنت لن تتغلب على الأمر بشكل تام؛ لكنك قد تُنزِله منزلة أخرى أقل ثقلًا. ولن تنساه تمامًا أيضًا؛ لكنه سيكفُّ عن اقتحام تفكيرك عنوة، وتكفُّ أنت عن التظاهر بأنه لم يؤثر فيك.. لا يمكننا محو الماضي لكن يمكننا التصالح معه وتجاوزه. ربت فاروق على فخذ عاصم برفق وهو يردف. _حاول أن تغفر لنفسك عاصم، فتلك خطوة مهمة للاستشفاء من الماضي، وتيقن بقوتك في تجاوز معركتك ضد نفسك كي تتغلب على أشباحك. وتساؤل راود الأخير وهو يستمع إليه، هل يمكن أن يسامح نفسه؟ هل يمكن أن يتجاوز ما حدث حقًا؟ .... _هل أنت بخير؟ تسأله بقلق وهي تجلس جواره بعد أن تركهما فاروق ليلملم عاصم شتات نفسه، ليطرق الأخير أرضًا غير قادر على ملاقاة نظراتها أو إيجاد كلماتٍ يجيبها بها. يشعر باستنزاف روحه بعد مواجهة ما كان يتلاشاه لسنوات، ورغم اختفاء ميلا من حوله في الوقت الحالي، إلا أنه لازال عالقًا في الذكرى، ربتت نادين على ظهره بحنان. _عاصم. يلتفت إليها بوجهه وعذابه يطغى على ملامحه. _هل تكرهيني الأن بعد أن عرفتِ أي حقيرٍ أنا؟ هزت رأسها نافية وهي تجيبه بصدق. _أنت لست حقير يا عاصم! أنا لا أراك هكذا أبدا! ثم احتضنت وجهه بكفيها وهي تنظر في عينيه. _ولا، لا أكرهك! هل يكره الإنسان نفسه؟ همست بحبٍ فاض من كلماتها. _أقسم بالذِي وهبني إياك، أنا أشعر بك دون حتى التلفظ بكلمات.. وشعوري لم ينتقص مقدار ذرة أبدًا.. أنا رأيتك بعيني وبقلبي.. فأحببتك فوق الحب حبًا.. ورأيتك بروحي فتلاحمت مع روحك دون إرادتي.. فلا تشك أبدًا بمشاعري تجاهك مهما حدث. أنتَ أخطأت، وتجلد ذاتك بالذنب لسنوات وتسجن نفسك داخله حتى السجين يلقى أحيانًا العفو بعد انقضاء العقوبة، فتيقن أني لن أزيدها أو أزيدك جلدًا. فتغضنت ملامحه تأثرًا، ليرتمي إليها فتتلقاه على صدرها مُرحبة لتكون له الوطن والسُكنى، فيسكب حزنه وألمه إليها، لتخيط شق روحه الهائل وتداويه بيديها الحانية. أراح رأسه على فخذها ولم تخذله بكرمها لاحتواء ضعفه الذي لم يجد غضاضة في تعريته أمامها هي فقط دون سواها، فمعها يشعر بالراحة والطمأنينة وهو يستشعر أمانًا غلفه باحتوائها إياه مربتةً بلمسة حانية على رأسه في رتابة ما لبثت أن أسرت الهدوء في روحه، ليغفو في استسلام لإحساس الراحة الذي اعتراه. مالت إليه مقبلة رأسه ما ان استشعرت رتابة انفاسه لتدرك انه قد غفا من ارهاق روحه، فلبثت مكانها تهدهده في حنان. حين عاد فاروق ووجد عاصم غافيًا، همت نادين بإيقاظه، فأشار لها فاروق بكفه ألا توقظه وانسحب بهدوءٍ وقرر استقبال ما تبقى من مواعيده في غرفةٍ أخرى، فتخبره مساعدته بوجود نجوان بالخارج، ورغم رغبته بالتذرع بأي حجةٍ كي لا يلقاها، لكنه في النهاية استقبلها. _غيرت مكان استقبال المرضى؟ ابتسمت وهي تجلس قبالته. _مؤقتًا. اجابها مختصرًا قبل أن يردف. _لا أظن أن اليوم موعد جلستك. لتضع ساقًا فوق الأخرى في حركةٍ أزاحت تنورتها القصيرة قليلًا وهي تهز كتفها بلا مبالاة _لا أحب التقيد بمواعيد. _للأسف هنا عليك التقيد بها، فلولا أني في فترة استراحة، ولولا أنك أخت سُمية، ما كانت لأدع مساعدتي أن تسمح لكِ بالدخول. فتقابله بابتسامةٍ ماكرة: _إذن انا أنال معاملةً خاصة.. من الجيد أن أعرف ذلك. يتجاهل كلامها ليسألها دون مواربة. _ما الذي أتى بك اليوم على غير موعد؟ هزت كتفيها مجددًا. _ربما شعرت بالملل، فكما تعلم حياتي أصبحت خاليةً الأن بعد أن انفصلت عن زوجي. _ولماذا لا تملئيها بقضاء الوقت مع سُمية؟ تقابله ابتسامتها الساخرة. _سُمية دومًا مشغولة، دومًا عندها من الأولويات ما يملأ حياتها.. _ماذا عن ابنك خالد؟ سأل مباشرة وهو يدرك حساسية علاقتها بابنها من مقتطفاتٍ فهمها من سُمية ولم يفهم أسبابها، فأي أمٍ تترك طفلها صغيرًا ولا تسأل عنه ولا تهتم أن تراعيه؟ _ما سبب توتر العلاقة بينك وبينه؟ ابتسمت لأسئلته ثم تحولت بسمتها إلى قهقهةٍ ما لبث أن تلاشت تدريجيًا وهي تقول: _أنت تنبش في ماضٍ ولّى ومضى.. تنظر إليه بتمعن ثم تميل للأمام مستندة بمرفقها الى ركبتها وهي تقول بغموض. _أحب هذه اللعبة.. سأخبرك.. بشرط.. أن أطرح عليك أنا أيضًا سؤالًا. تناور بمكرٍ أضاءت لمعته لوهلة في مقلتيها قبل أن تواريها ببراعة، مواجهةٌ بينهما كنزالٍ على رقعة شطرنجٍ لن تتوانى هي عن استخدام كل بيادقها لنيل ما تصبو من ضربةٍ مباغتة. _أنا لا ألعب، ولا أجبركِ على الإجابة.. أنا هنا فقط لأسمع ما تريدين أن ترويه.. أجابته بلا اكتراثٍ هي الأخرى. _وأنا لن أجبرك على الرد أيضًا، يكفي فقط أن تسمع. فنظر إليها مليًا قبل أن يقول. _سأسمع. ابتسامة جانبية ظافرة ظهرت على مُحياها. _وأنا سأتكلم. .... دماء... الكثير من الدماء في كل مكان.. الدماء تغطي الجسد الساكن على الأرض.. يقترب بوجلٍ وخوفٍ يعتري قلبه.. يسقط الى ركبتيه.. يده ترتعش وهي تمتد إلى الجسد المسجى بلا حراك، يديرها ليهاله منظر الدماء النافرة من جرح لا يتبين مكانه، ولكن ما هاله كان هويتها، فالملقاة دون حياة لم تكن سوى نادين! ليصرخ عاليًا مناديًا إسمها، متوسلًا إياها أن تفتح عينيها، ألا تفارقه وتتركه بعد أن ردت له الحياة، يبكي وهو يضم جسدها إليه، مكررًا توسلاته أن تجيبه، ولكن دون جدوى.. تشعر نادين به يرتعش في غفوته، فتمسد على ذراعه وجسده بحنان، بينما يدها الأخرى تمسد شعره وهي تقرأ آيات من القرآن لتهدئ روعه، تشعر بانتفاضته بين يديها مصاحبة لآناته، فتهمس بإسمه تحاول إفاقته مما يبدو أنه كابوس يداهمه. تكرر همسها له، ليشهق تزامنًا مع فتحه لعينيه وانتفاضته من نومه جالسًا، أنفاسه متسارعة ينظر حوله بتشوش محاولًا إدراك مكان تواجده، تقترب منه نادين وتضع يدها اليسرى على كتفه تمسده بلطف _عاصم، مجرد كابوس. همست وهي تلمس ذقنه بيدها الأخرى لتدير أنظاره إليها. _كان مجرد كابوس. همست مؤكدةً فينظر إليها بتيهٍ لثوانٍ قبل أن يجذبها إلى أحضانه معتصرًا إياها بين ذراعيه، ولسانه يلهج بالحمد أن كان مجرد كابوس. _الحمد لله.. الحمد لله. استكانت بين ذراعيه وهي تمسد ظهره بيدها في مواساة محاولة تهدئة روعه. _بماذا كنت تحلم؟ شدد احتضانه إليها وهو يقول بألم. _أني فقدتك. تأثرت أن يكون كابوس فقده إياها له من ذلك الأثر عليه، وشددت بدورها احتضانها إياه وهي تؤكد هامسةً _أنا هنا، لا تقلق.. أنا معك. قبل رأسها وهو يشعر بأنفاسه تستكين وروع قلبه يهدأ، ثم ابتعد محتضنًا وجهها بكفه وهو ينظر لعمق عينيها. _أنا أحبك نادين. همس بعشقٍ احتل كل كيانه وهو يتلمس خدها بحنان، بينما تنظر هي إليه مشدوهة وهي تستمع لاعترافه بحبها لأول مرة. هي شعرت بها حتى لو لم ينطق بها قبلًا، لكن أن تسمعها، كان له وقع أخر على قلبها، قلبها الذي توترت نبضاته إثر كلمتين وسبعة أحرف، لكنها منه هو لها كل الدنيا، وكأنها ملكت العالم أجمع الأن وهي تشهد اعترافه بملكيتها لقلبه. ولم يكتفي، بل زاد بما رفرفت له روحها. _أنا.. أعرف أني سيء بالحب.. لكني أحببتك رغم ما أملك من سوء همس معترفًا بما يجيش في صدره من مشاعر. _أحبك لأنك المرأة التي اخترقت انطفائي ولامس حنانها حنايا قلبي، فانتشر دفئك في كل وجداني.. أحب ابتسامتك لأنها تنير عالمي، أشتاق إليك دومًا، ويهتف قلبي بإسمك ويناجيك في جوف الليل، فتهفو ذراعاي لضمك، أنتِ أعدتِ نبض قلبي للحياة، فما عدت أتصور حياةَ دونك، وما عدت أريد إلا حياة معك أنتِ. لامس صدق كلماته قلبها، وطربت روحها بنظرات العشق التي يرمقها بها، أغمضت عينيها على همساته لثانية وهي تطرق أرضًا، تسمح لروحها أن تتشرب بهاء اللحظة، أنفاسها متسارعة من خضم المشاعر التي تجيش في صدرها إثر اعترافه، بينما نظراته لا تفارقها وهو يشعر بتضخم قلبه بحبها. نظراته تحط على شفتيها، يتذكر ملمسهما في قبلةٍ وحيدة أثارت حينها الفوضى في دواخله، قبلة بفوضى تأثيرها رممت الكثير من روحه المعطوبة حينها، قبلة سمح لنفسه بها أن يتنعم بجنة قربها ولو للحظات، قبلة يتذكر أنها أبدت استيائها منها قبلًا لأسبابٍ تفهمها، قبلة يحتل اشتياقه لتكرارها تفكيره الأن، همسه أخرجها من هالة تأثرها بالموقف وهو يناجيها، فرفعت أنظارها الخجولة إليه، وجهها متورد خجلًا من كلمات حبه، ازدرد ريقه وهمس والتوتر يعتريه. _هل.. هل يمكن أن أقبلك؟ فازداد تورد وجهها خجلًا وازدادت ضربات قلبها قرعًا وهي تعي استئذانه إياها. أخفضت أنظارها عنه في خجلٍ وهي تقضم شفتها، لا تجد ما ترد به لتبين عدم اعتراضها فتجاسر عاصم بالاقتراب وهو لا يجد اعتراضًا منها، يقترب بوجلٍ وببطء وهو يرفع وجهها إليه ولا تزال على إطراقة نظراتها، يعطيها الفرصة أن تبدي رفضها إن أرادت، إلى أن لامست شفتاه خاصتها برقة رفرفة الفراشات، فشعرت نادين بالذوبان إثر قبلته واستسلمت لسحر اللحظة وما يبثه فيها من مشاعر اجتاحت روحها التي حلقت عاليًا من السعادة، قبّلها وهو يشعر بأنه وصل إلى ملجأه وسكنه بعد طول عدوٍ أرهق روحه، قبّلها بقلبه قبل شفتيه، اخترق روحها واخترقت روحه، فتلاحما وصارا روحًا واحدة في جسدين، قبّلها وشعر بعدم الاكتفاء، ليزداد شغفًا في قبلته، ونادين مستسلمة له قلبًا وكيانًا، تذوب من عشقه الذي يغمرها به والخدر يسري في أوصالها من اجتياح عاطفته لها، وحين رأف بها وتراجع عنها لاهثًا من فرط مشاعر اللحظة، لم تجرؤ على فتح عينيها وهي تحاول التقاط أنفاسها، وجهها ينبض بحرارة خجلها، لتسمع همسه يصلها فتفتح عينيها تنظر إليه في دهشة إثر قوله. _تزوجيني نادين. نظرت إليه نادين بتشوش لثوانٍ _ألسنا متزوجين عاصم؟ ثم شهقت وهي تنظر إليه بصدمة وتتكلم دون تفكير. _أكان زواجنا زائفًا؟؟ قالت وهي تدفعه بعيدًا عنها في انفعال. _أقبلتني وأنا لست زوجتك؟؟ ليقهقه ضاحكًا من منطقها المخبول وهو يتمسك بها ويجذبها إلى صدره. _تزوجنا على يد شيخٍ في حفلٍ حضره الكثير من الجمع، وتسألين هذا السؤال؟؟ فاستكانت بين يديه ونظرت إليه بعدم فهم. _إذن ما معنى كلامك؟ لينظر إليها محاولًا ترتيب افكاره. _عندما عرضت عليكِ الزواج قبلًا، لم يكن قلبي متورطًا بالأمر.. بالأحرى كان زواجًا تقليديًا. تتوحش نظرتها وتنظر إليه بإمتعاض وتهم بإلقاء رد لاذع إليه وهو يلقي إليها بحقيقةً كانت تعلمها وتوخز قلبها، لكنه لم يعطيها الفرصة للرد وهو يضمها بين ذراعيه. _وظروف عقد القرآن وإلغاء الزفاف حال في طريق علاقتنا وطلبتي الانفصال، لكن.. نظر إليها بحب فاض من عينيه قبل كلماته وهو يردف _أنا الآن أريد الزواج منك أنتِ دون سواكِ، لأنك الجزء الدافئ مني.. روحي التي يستحيل أن أسمح لها بالانفصال عني. أنا لا أرغب في أي طريقٍ لا ينتمي إليكِ، ولا أتصور حياتي من دونك، فتزوجيني بمليء إرادتك، لأني أرغب بمشاركتك عمري بكامل إرادتي. ترقرقت عيناها بدمعِ الفرح وهي تستمع إلى كلمات عشقه، التي دومًا ما حلمت وتمنت سماعها منه، هي عشقته وهو كان ينئ عنها، أما لها أن تزيد فوق عشقها إليه عشقًا وهو يهرول إليها راغبًا؟ ابتسم ماكرًا وهو يردف. _كما أن زفافنا بعد أسبوعٍ من الأن، فخيرٌ لك أن تبدئي الاستعداد، فلا مجال لكِ للرفض، ولن أسمح أنا به مطلقًا! لتنظر إليه مشدوهة مما يتفوه _بعد أسبوع؟ كيف ذلك؟ متي حجزت؟؟ ازدادت ابتسامته اتساعًا. _يوم علمنا بإلغاء الزفاف. لتنظر إليه عاجزة عن إيجاد كلمات تعبر عن تأثرها، هي اعتقدت أنه حين أخبر والدها بإرجاء الزفاف، أنه يحاول تدارك الموقف، لم تتوقع أن يكون قد حجز موعدًا آخر بالفعل وبمليء إرادته، حك رأسه ببلاهة وهو ينظر إليها بندم وهو يتمتم _وجعلت خالد من يقوم بالحجز حينها كي نتفادى حدوث أي مفاجآت أخرى. ورغمًا عن ألم الذكرى ابتسمت، ورغمًا عن تخوفها من تكرار حدوث الأمر ابتسمت وهو يسألها مجددًا وهو هائمٌ بها. _إذن.. هل تتزوجيني نادين؟ لتتسع ابتسامتها لتكراره السؤال وتومئ له بحب وهي تهمس. _سأتزوجك. ... | ||||
يوم أمس, 09:13 PM | #102 | ||||
| _بكر السويدي.. إثنان وثلاثون عامًا، وفتاة في التاسعة عشر من عمرها.. ثلاثة عشر عامًا فارق بينهما.. هي تخطو خارج سنوات المراهقة.. هو رجلٌ في ريعان عنفوانه.. بتلك الكلمات استهلت نجوان الحديث عن زوجها الأول، والد خالد، بينما فاروق يستمع دون مقاطعة. _تزوجا.. ومنذ أول ليلة في زواجهما، نالها غصبًا. قبضت فكها وهي تستعيد مرارة الذكري، فيزداد بغضها وكراهيتها لزوجها الأول، من نحر عذريتها وأراق أحلام صباها الوردية دونما ندم. _لم يمهلها الفرصة لاستيعاب وضعهما الجديد، ولم يبالي بطلبها بعض الوقت.. بل كان همجيًا تدفعه غرائزه. قالت بكرهٍ تشعب كل خلاياها ضده. _وتكرر الأمر، كل ليلة.. مِرارًا وتكرارًا.. لا يسمع صوت آناتها ورجائها، لا يدوي بأذنيه سوى صوت رغباته.. لم يبالي بي وبما أشعر أبدًا.. كرهته من كل قلبي.. أردت الانفصال، لأكتشف حملي بطفله، طفله الذي كان رمزًا لانتهاكه إياي.. انتهاكٌ نفسيّ وجسديّ.. اتشحت نظراتها بسوادِ الذكرى وطغت كراهيتها ملامحها. _لم أكن أريده، أردت إجهاضه، ليجبرني هو على الاحتفاظ به غصبًا، حاولت التخلص منه، لكنه دومًا ما كان يمنعني، مهددًا إياي بشراسة أن لو أصاب الطفل سوء سيتهمني بقتله ويزج بي في السجن، وفي النهاية سيقتلني بطريقةٍ أو بأخرى ثأرًا لطفله، فإنصعت صاغرة لإتمام الحمل، كانت أكثر فترةٍ كرهتها بحياتي الي أن وضعت الطفل. كرهته منذ أن رأيته.. رأيت فيه صورة ذلي وهواني وانتهاكي، حتى وإن كان مُبررًا بورقة زواج.. لم أقوى على النظر إليه أو الاقتراب منه، انزويت عنه ونئيت وطلبت الطلاق من والده، ولم أحصل عليه إلا عندما ابريته من كل مستحقاتي وسافرت وابتعدت.. وكلما التقيته، أتذكر ما فعله والده بي، فيزداد كرهي لكليهما.. نظراتها تتشح ببرودٍ وقسوة فيما تردف. _الجميع رآني امرأة متحجرة القلب لأنها نبذت طفلها، الجميع دومًا يحكمون بظاهر الأمور دون معرفة بواطنها، لكن لا احد عانى كما عانيت، لا أحد تشوهت دواخله كما شوهني بكر باغتصابي مراراً وتكرارًا والاسم زوجي، الجميع قديسٌ ما دامت الحكاية ليست حكايته! ثم مالت للأمام قليلًا تستند بمرفقها إلى ركبتها تسأله _هل تظنني أنت أيضًا الأن أني متحجرة القلب؟ ُنحي فاروق رأيه الشخصي جانبًا ويتكلم بموضوعية. _أظنك انغمست في إحساسك بالانتهاك الذي لا استنكره عليك، فنسيت أن طفلك لم يكن له ذنب، فعاقبته هو بدلًا من أبيه. تتراجع نجوان للخلف تستند إلى الكرسي وكلماتها تقطر جفاءً. _هو ابنه في النهاية، بذرته التي حتمًا ستكون مشابهة لمنبتها. _وربما كان ليتشرب طباعك أنتِ بدلًا من أبيه. قالها وهو لا يدري أكان ذلك ليكون أهون على الطفل، أم أن الله كان به رحيمًا أن عاش بعيدًا عن كنف أمٍ قاسية وأبٍ أناني؟ لتقارعه نجوان بالقول، والحقد يشع من عينيها. _أنا لم أرد أطفالًا، هو فرض عليّ الوضع برمته إجبارًا متمعنًا في التمادي في قهري أكثر. _ لذا كنتِ على استعداد للتخلص منه دون التفكير في تحريم قتل النفس؟ وبنفس القسوة والبرود أجابت: _ دون ذرة ندم! يصمت قليلًا ثم يُدير دفة الحديث مجددًا: _هل فكرتِ يومًا من وجهة نظر الطرف الأخر؟ وأقصد بالأخر ابنك خالد.. تري كيف يشعر وأمه تنبذه دون سبب واضح أو مفهوم له؟ هل فكرتِ قبلًا أبعد من التفكير داخل دائرة معاناتك؟ زفرت تشيح بوجهها بعيدًا عنه، هي أبدًا لم تفكر بذلك، دومًا ما كانت تتجنب ملاقاته أو التواجد في محيطه، انتهجت الهرب والابتعاد عن كل ما يذكرها بالماضي، كل ما يذكرها بانتهاكها وضعفها أيام صباها. _ما ذنبه في ماضٍ لم يكن طرفًا فيه من الأساس؟ فهتفت والقهر يقطر من حروفها _ذنبه أنه ولده! فيجيبها مُقرًّا واقعًا ترفض هي مجابهته _أنت من اخترته أبًا له! تنفلت انفعالاتها من عقالها وهي تهتف مجددًا _إذن أنا أستحق ما عانيته وما حدث لي لمجرد أني أسأت الاختيار؟ _ أنا لم أقل ذلك، انا أحاول أن أجعلك تنظرين إلى الأمور من زاوية أخرى مبهمة إليك، أو ربما أنت تجاهلتها عمدًا كي تُسكتي صوت الضمير. تضرب قبضتها بساعد الكرسي الذي تجلس عليه: _لا تهمني رؤية الأمور من زاوية أخرى، أنا فعلت ما تحتم عليّ فعله لأتجاوز الأمر وأمضي في حياتي، دون قيودٍ تُكبلني! _ابنك حي -بارك الله في عمره- وستظل صلتك به غير منقطعة شئتِ أم أبيتِ، هربك من الماضي لن يمحي تلك الحقيقة! ربما عليك أن تُنحّي ضغائنك ضد والده جانبًا إن لم تقرري محاولة تجاوز ما حدث، لربما حينها وجدت في نفسك حنينًا غريزيًا تجاه ولدك في النهاية. أوتارها الأكثر حساسية تنبض بلا هوادة وندبات الماضي التي ظنتها اندثرت ما انفكت بتشوهاتها تنثر أشواكًا تخزها دون رحمة كلما لاحت الذكرى، أشواكًا دومًا ما كانت في طريق اي وصالٍ بين من حملته في رحمها قسرًا تسعة أشهر.. ودومًا وأبدًا سيظل وجوده ذكرى سيئة لماضٍ أُهينت فيه ولن تنساه! علاقةٌ بائسة لا تبغي او تسعى لإصلاحها مهما مر من الزمن. أخذت نفسًا عميقًا ثم زفرته ببطء وهي تحاول استعادة هدوءها المعتاد ثم نظرت إليه والابتسامة التي تلونت مكرًا تلوح على ثغرها. _دوري الأن في السؤال. كلماتها كانت دلالةٌ على انهاءها الحديث في ذاك الأمر، فأطاع رغبتها بعد التطرق بالمزيد. عقدت ساعديها إلى جذعها وهي ترمي سؤالها العابر ظاهره. _ما رأيك في الخيانة فاروق؟ نظر لها متوجسٌ خيفةً من باطن نوايا سؤالها، بينما هي لم تنتظر منه ردًا كما أخبرته سلفًا وأردفت: _وما الذي يندرج تحت مسمى الخيانة؟ نظراتها غامضة ومجددًا لم تمنحه وقت ليعطيها إجابة. _في رأيي المتواضع، الخيانة لا تطلب فعلًا مشينًا، مجرد تظاهرك عكس ما تخفي يُعد خيانةً لثقة من أمامك بك، ألا تشاركني الرأي؟ قالت بهدوء وابتسامة باردة، بينما يقبع هو أمامها يحاول استقراء ما بين سطور كلماتها. _كخيانة الشريك عندما يضمر في نواياه ما يخفيه عن الأخر. وكأفعى تدس سمها دون ذرة ندمٍ كانت، مجددًا ترمي طُعمًا في المياه الراكدة كي تُعكر صفوها. لتهز ساقها التي تعلو الأخرى في برود، ثم تُغيّر نجوان دفة الحديث فجأةً وهي تميل إلى الأمام قليلًا وهي تقول بنبرة غامضة. _هل تعلم أن سُمية حرصت على الاستئثار بخالد لنفسها. ينظر إليها متمعنًا يحاول فهم حديثها وما ترمي إليه، ولم تتركه لأفكاره كثيرًا، فأردفت: _لم تدخر جهدًا لتحرص على حصولها على تنازلٍ من بكر على وصاية خالد قانونيًا كي لا يحاول أخذه منها بالقانون.. تبتسم بمكرٍ ولمحة شماتة تلمع في نظراتها. _لكم استحق ما ألمّ به وأكثر. ينظر إليها بعدم فهم أو ربما هو ما أراد تفسير الكلمات، ورغم ذلك انتابه الفضول لمغزى الحديث. _ماذا ألمّ به؟ تبتسم بمكر وهي تدرك عدم إفصاح سُمية لزوجها عن الماضي، نقطة تستطيع استغلالها! هزت كتفيها بلا مبالاة وابتسامة هادئة ترتسم على محياها _استعانت بمن أبرحه ضربًا حينما أراد ضمه لأخوته والسفر، وهددته بضرب سمعته التجارية إن هو لم يتنازل عن حضانة خالد، فاضطر للخضوع صاغرًا لمطلبها. ثم مالت إليه قليلًا هامسةً. _لكنها لم تخبر أحدًا بالأمر، وطبعًا خالد أول الجاهلين.. هي حتى لا تعلم أني على علمٍ بالموضوع. ينظر إليها بذهول مما يسمع! ما تقوله بعيدًا كل البعد عن سمية التي يعرفها، فسارع بالقول بثقةٍ ينفي حديثها _سُمية لم تكن لتفعل ذلك! قال بجدية، فهزت نجوان كتفيها ببرود وهي تعود ستسند للخلف. _ سلها إن كنت لا تصدقني. ابتسمت بمكرٍ وظفر هي رمت الطُعم، وهو سيتلقاه شاء أم أبى. .... خرجت نجوان بعد انتهاء جلستها وعلى وجهها ابتسامةٌ ماكرة وهي تُدرك أن خطتها تسير في الاتجاه الذي تبغيه، غافلةٌ عن زوج العيون المندهشة من وجودها بالمكان هنا تحديدًا. انتهى الفصل.. | ||||
يوم أمس, 09:18 PM | #103 | ||||
| الفصل الحادي عشر _كيف حالك نادين؟ بإبتسامةٍ قابلتها سُمية وهي في طريقها إلى عملها، فيما كانت الأخيرة تمر على دانة ليذهبا كي يبتاعا فستان الزفاف الذي فاجأها عاصم بموعده، والأن عليها أن تنجز الكثير من الأمور في وقتٍ قياسي وجعلت دانة على أهبة الاستعداد لمساعدتها في الأمر. _الحمد لله عمة سُمية، كيف حالك أنتِ؟ _بخير الحمد لله.. أتيتِ لدانة؟ أومأت بحماس: _أجل، مهمة اختطاف عاجلة لإنجاز الكثير من الأمور العالقة، من ضمنها شراء فستان الزفاف. فقطبت سُمية حاجبيها في استفهام. _ظننتك ابتعته منذ أسابيع. فهزت نادين كتفيها تتهرب من الاجابة الصريحة: _اضطررت لإلغاء حجزه حين تأجل الزفاف. بابتسامةٍ داعمة أجابتها سُمية: _لا بأس، أنا متأكدة أنك ستجدين الفستان المناسب، وإن احتجتِ لأي شيء، لا تترددي في مهاتفتي. لتومئ لها نادين. _سأفعل. وقبل أن تهم حماتها بالانصراف، سألتها الأولى بإهتمام. _هل العمة نجوان بخير؟ فاستدارت سُمية مندهشة من السؤال. _ماذا تعنين؟ _أعني.. أني رأيتها الليلة الماضية ترحل من عيادة عمي فاروق، فكنت أطمئن إن كانت بخير. دهشة اعترت سُمية إثر ما تسمع، ففاروق لم يذكر زيارة نجوان له حينما عاد أمس، بل وبكلماتٍ مختصرة على غير العادة أوى إلى النوم، ولم تدركه صباحًا قبل أن يذهب إلى عمله. ضيقٌ عارم استعمر صدرها، ضيق متمثلًا في.. غيرة؟ تغار على فاروق؟ قطعًا تغار! فهو زوجها وحبيبها وتغار عليه من أيّ امرأة يُصَور لها خيالها إن بإمكانها الاقتراب منه. أتغار من أختها؟.. قطعًا لا.. أليس كذلك؟ إذن ما سِر هذا الضيق الذي تشعره؟ ربما لأن نجوان كتابٌ مُبهمٌ بالنسبةِ لها.. فطفق عقلها يتساءل عن السر خلف زيارتها لزوجها! كل هذا دار في خلدها في ثوانٍ هو ما استغرقته للرد على نادين بابتسامةٍ مصطنعة. _لا تشغلي بالك، هي بخير. ثم اردفت تُنهي حديثًا لا تملك له إجابات. _علي الذهاب كي لا اتأخر على العمل، أراكِ لاحقًا عزيزتي. وبرحيلها كانت دانة تهم بالخروج من البيت. _أنت هنا، جيد.. أنا جاهزة، وطلبت سيارة الأجرة التي ستُقللنا إلى وسط المدينة، هيا، هيا.. قالت وهي تجذب يد صديقتها وتجرها للخارج، تنظر حولها يمينًا ويسارًا بحثًا عن السيارة التي طلبتها بتطبيق السيارات المستأجرة. _ها هي. قالت وهي تشير إلى إحدى السيارات المصطفة إلى جانب الرصيف واتجهتا إليها. فتحت دانة الباب وركبتا وهما يلقيان السلام دون النظر إلى السائق الذي قطب جبينه وهو ينظر في المرآة الأمامية إلى الفتاتين في الخلف، والتي بادرت إحداهما بالثرثرة للأخرى. _سنمر أولا على متاجر فساتين الزفاف، ثم علينا تأكيد حجز المصور و... واستمرت في ثرثرتها لثوانٍ قبل أن تلاحظ عدم تحركهم بالسيارة، لتقطب جبينها وهي تنظر إلى السائق وتقول بنزق. _لماذا لا تتحرك؟ هل أنت تائه ولا تعرف الطريق؟ هيا تحرك ليس لدينا النهار بأكمله. ليلتفت إليها السائق وهو يقطب جبينه في محاولة لفهم الموقف الذي وجد نفسه فيه بدون مقدمات. _هل أنتن صديقات أختي؟ بادرهم بالسؤال المستفهم وهو ينظر الى كلتاهما بتوجسٍ من اقتحامهما سيارته فيما كان ينتظر أخته كي يقلها للتسوق. اعتلت الدهشة الفتاتين ونظرت كل منهما للأخرى في تساؤلٍ عن جنون ذلك السائق، لتنظر إليه دانة مرة أخرى وهي تقطب حاجبيها، ثم تنظر لهاتفها إلى تطبيق طلب السيارات الذي يوضح نوع السيارة مرفقة بصورة للسائق، والذي لم يكن يشبه بأي شكلٍ ذلك الشاب الذي يحدق فيهما في ذهول، فتشهق دانة بصدمة من الموقف. _يا إلهي. وتجذب ذراع نادين هامسة لها. _أخطأنا السيارة، ليست هذه التي طلبتها. فتتسع عينا نادين من الموقف المحرج الذي وضعتها فيه صديقتها، لتفتح الباب وتهم بالإسراع خارج السيارة، ودانة تلحقها وهي تتمتم للشاب. _نأسف جدًا على الخطأ، اعتقدنا.. تشابهت علينا السيارة، عذرًا مرة أخرى. لتسمعه يرد مع ابتسامة لبقة. _لا بأس، لم يحدث شيء. ثم لحقت بصديقتها والخجل يعتريها من رأسها لإخمص قدميها. _يا إلهي ما هذا الموقف المُحرج؟ تمتمت دانة بينما نادين توبخها _كان عليك التأكد من رقم السيارة قبل أن نركب، يا إلهي مؤكد يظننا مختلتان. لتزفر دانة بضيقٍ من الموقف: _ أعرف، أعرف. ثم نظرت إلى صديقتها لثوانٍ، قبل أن تنفجر كلتاهما في الضحك من الموقف الذي تعرضتا له. _يا إلهي دانة، ألن تكفي أبدًا عن التسرع ووضعنا في مثل هذه المواقف؟ ذكريني ألا أستمع إليكِ مرة أخرى. قالت من بين ضحكاتها، لترد الاخيرة مقهقهه. _وما ذنبي إن كان يمتلك نفس نوع السيارة ونفس اللون؟ إنها غلطته هو. ثم وجدت سائق السيارة التي طلبتها يهاتفها ويخبرها بانتظاره لهما. _وصل السائق، هيا كي لا نتأخر. فتضحك نادين وهي تتبعها. _تأكدي هذه المرة من السيارة قبل أن نركب. .... تجلس إلى مكتبها منشغلة البال عما يدور حولها من نقاشٍ بين ليلي وأحد العملاء الذي يصر على موعدٍ مُحددٍ لاستلام طلبيته و ليلي تحاول إقناعه أنه من غير الممكن تنفيذ العمل في المدة الزمنية التي يريدها. عقلها يعمل دون توقف محاولة تحليل ما علمته صباحًا، أتراها المرة الأولى التي تزوره فيها في عيادته؟ أم كان هنا مراتٌ قبلها؟ ولما لم تخبرها نجوان بالأمر؟ لماذا لم يخبرها هو؟ تتفهم موقفه الى حدٍ ما، إلا إنها في الوقت نفسه تستنكر عدم افضائه بالأمر إليها. تضارب في المشاعر هو ما تشعر به، ممزقة بين تفهمها وغيرتها وفضولها. أتتصل به تسأله؟ أم تتغاضى عن الأمر؟ تهز ساقها في توترٍ حاولت التحكم فيه، لكن رغمًا عنها انفلت زمام أعصابها والجدل الدائر حولها يثير توترها أكثر، فهتفت بالعميل ثائرة بنفاذ صبرٍ على غير عادتها: _يا أستاذ شرحنا لك أن ما تطلبه مستحيل! نحن لا نملك عصا سحرية لتحقيق الأحلام! ما تطلبه يتطلب جهدًا ووقتًا أكثر مما تتوقعه سيادتك، فإن لم يكن مناسبًا لك عرضنا، يمكنك البحث عن ما تريد في مكانٍ أخر!! صمت العميل في ذهول من انفعال السيدة، بينما قضمت ليلى شفتيها في حرج من رد فعل سُمية وهي تستغرب انفلات أعصابها بهذه الطريقة النادرة الحدوث. صمتٌ متوترٌ مطبقٌ لثوانٍ ملأ ذرات الهواء، وسُمية تُدرك ثورتها وصبها جام غضبها على الشخص الخطأ، ليأتيها رد فعل العميل الهادئ على غير المتوقع. _وأنا لا أريد أن أبحث عن مكان أخر، أنا على استعداد لِتَقبّل الشروط. فاعترى الحرج سُمية من لباقته بينما تبتسم ليلى محاولة تلطيف الاجواء. _سيد إبراهيم لم تشرب شيئًا، ماذا نحضر لك؟ ليبتسم لها في لباقة. _ بعض القهوة تفي بالغرض. لتقول ليلى وهي تستقيم من مكانها. _سأطلبها لك علي الفور. ثم ألقت نظرة إلى سُمية قبل أن تذهب وأشارت إليها أن تهدأ قليلًا. أخذت سُمية نفسًا عميقًا قبل أن تزفره ببطء محاولة تمالك زمام أمورها قبل أن تقول بأسف. _أعتذر منك على انفلات أعصابي الغير مُبَرر. _لا بأس، كلنا نمر أحيانًا بأيامٍ سيئة، وأنا أخمن أن يومك ليس الأفضل. فالتزمت سُمية الصمت لوهلةٍ ولم تُعقِب على كلامه قبل أن تقول بعملية: _طلبيتك ستحتاج على الأقل عشرة أيام للتنفيذ والتسليم، صدقًا هذا أقصى عرضٍ نستطيع تقديمه. _وأنا موافق، وسأنتظر منك صور المنتجات فور أن يتم الانتهاء منها. ناولها بطاقته الشخصية وهو يردف: _هذه أرقامي الشخصية، سأكون بانتظار تواصلك معي على أحر من الجمر. ثم ابتسم محاولة اضفاء بعض السكينة للأجواء. _الحياة قصيرة ولا تستدعي أن يعكر صفو يومك ومزاجك أي شيء. تبتسم سُمية بحرج وهي تتناول منه البطاقة، وقبل أن تتمكن من التفكير في ردٍ مناسب، شردت نظراتها خلف عميلها وهي تتفاجأ بوجود زوجها بملامحه الجامدة والذي تنادى الى سمعه حديث رفيقها. _فاروق. تمتمت وهي تستقيم وتلتف حول المكتب متجهة إليه _ماذا تفعل هنا؟ _كنت في فترة استراحة، فقررت المرور علي زوجتي لإحتساء القهوة معها. قال مشددًا على حروف كلمة زوجتي، فيما استشعرت سُمية نبرته الجادة، فاكتفت بالإيماء ثم قدمت احداهما للآخر، فيسلم عليه فاروق وهو يرد بإقتضاب. _ أهلا. فتنحنح الأول وقال: _حسنًا سيدة سُمية سأنتظر تواصلك بخصوص طلبيتي، بعد إذنكم. بابتسامةٍ لبقة غادر المكان، فنظر فاروق في إثره لوهلةٍ قبل أن يلتفت إلى زوجته التي جلست إلى مكتبها تحاول أن تحافظ على واجهة هادئة رغم صخب المشاعر داخلها. _إذن ما سبب تعكر مزاجك كما لمّح السيد؟ بتهكمٍ استهل حديثه وهو يجلس إلى الكرسي المقابل لها، تهكمٌ منبعه نيران غيرةٍ اشتعلت جذوتها وهو يصل الى المكان، فيرى تباسط ملامح ذاك العميل الذي أثار استنفاره والذي كان في أوجه من الأساس نتيجة صراعه بين إرادته كزوج وواجبه كطبيب بخصوص ما سمع من نجوان. ترفع سُمية نظراتها التي اكتست برودًا تقابل تهكمه وهي تُجيب: _مجرد يوم سيء. تهكمه لا ينقشع بينما يجيبها: _يومٌ سيء ومزاجٌ عكر استدعى تعاطف السيد العميل. وما زادها تهكمه الا برودًا، رغم أنه في وقتٍ أخر كانت لتسعد بجذوة الغيرة التي تنضح من عينيه، لكنها الأن تصارع أفكارها الخاصة المتشحة بغيرتها هي والتي تتمحور وتدور حوله. _مالي أنا وتعاطفه؟ هو ألقى ملاحظة عابرة لم أتفاعل معها. _ولم تنهريه أيضًا! لتقارعه سُمية بالرد الحازم. _ثِق أني كنت لأوقفه عند حده إن كان تمادى، احترامًا لك، ولنفسي أولًا. ثم أردفت بنبرة أكثر لينًا: _لكن أحيانًا نوضع في مواقفٍ يعجز فيها العقل عن التصرف الصحيح التزامًا منا بحدود اللباقة التي نتحلى بها. يزفر محاولًا تهدئة نيران غضبه والتماس الهدوء، فيما نظرت هي إليه بتمعن وهي تشعر تغير حاله عن هدوءه المعتاد. _ما بك فاروق؟ أنت متوتر! فيتنهد وهو يرمقها بالنظرات المتفحصة، عقله يخبره بمواجهتها بما علمه وألا ينجرف وراء استنتاجات قد لا يكون لها أساسٌ من الصحة، فيقرر أن يقطع طريق حيرته. _سُمية.. أريد أن أسألك شيئًا بخصوص خالد. تضيق عينيها استغرابًا _خالد؟ ماذا به؟ ليسألها مباشرةً دون مواربة. _كيف انتهى به الأمر تحت رعايتك حين كان صغيرًا؟ سؤاله أثار المزيد من حيرتها ولكنها أجابت: _أنت تعلم.. نجوان تخلت عنه لوالده عقب طلاقهما، وبعدها هو تزوج وانشغل بأسرته متخليًا عن مسؤولية خالد، فربيته مع عاصم. _ألم يرغب والده أبدًا بضمه لإخوته؟ هنا صمتت سُمية وقد أخذها السؤال على حين غرة، ليتابع هو أسئلته. _هل رغب بذلك والسفر به، لكنك منعته من ذلك بالقوة؟ هنا إزداد توترها من سيل أسئلته التي على ما يبدو تنبع من معلوماتٍ عرفها مؤخرًا، ولكن كيف له ذلك؟ لا يوجد سوى شخصان فقط على دراية بالأمر، أحدهما المعني بالسؤال، والأخر لم يكن ليتكلم أبدًا، والسؤال في ذهنها ترجمته لكلماتٍ تحاول بها مدارة توترها. _من أين لك بهذا الكلام؟ _لا يهم المصدر، المهم المعنى. ينظر إليها بتمعنٍ محاولًا قراءة دواخلها وهو يمني نفسه أنها لم تكن لتكون بتلك القسوة! سُمية الحنون لم تكن لتفعل ذلك! _هل صحيح أنك حرمت ابن من والده وإخوته قسرًا؟ تعتصر قبضتيها في توتر وبصوتٍ حافظت على ثباته متجنبة التقاء نظراته قالت: _أنا أمتنع عن الرد.. هذا ماضٍ انتهى وولّى منذ زمن! ليُصدم من ردها الذي خاب أمله به و بها. _أنتِ لا تنفين الأمر! فتعاجله بالرد نافية. _ولا أقره!! فلتدع الأمر وشأنه فحسب. ينظر إليها فاروق لا يدري فيما يفكر وهي ترفض إعطائه فرصةً للفهم. _لا أفهم كيف أمكنكِ فعل ذلك.. بل لماذا؟ يسألها مستفهمًا بنبرةٍ مستنكرة وخيبة أملٍ تلوح من نظراته، فتجيبه هاتفة وقد تملكها التوتر: _أخبرتك أنه ماضٍ وانتهى، فلا يحق لك محاسبتي عليه وأنت لم تكن جزءًا فيه! فأنا لم أحاسبك على علاقة نجوان بك وترددها على عيادتك، رغم أنه أمرٌ حاضرٌ بيننا! ذُهل من كلامها وانفعالها الذي يُقر بفعلتها دون الحاجة لكلمات، ذهول أخر ممتزجٌ براحة لمعرفتها بزيارة أختها له والذي كان يُثقل صدره، لكنه رغمًا عنه سأل. _كيف عرفتِ بأمر زياراتها لي؟ _نادين رأتها وأخبرتني. تنظر إليه بلومٍ وعتاب: _لماذا لم تخبرني؟ _لأنها تزورني كطبيبٍ نفسي، وأنا لا أفشِ أسرار مرضاي.. من البديهيّ ألا أخبر أحدًا حتى لو كانت أنت. ثم أردف قائلًا وخيبة الأمل تغزو مُحياه. _كما أني لا أحاسبك سُمية، أنا كنت أريد أن أفهم ما الذي دفعك لفعل ذلك، فأنتِ لست بهذه القسوة! أو هكذا ظننتكِ! لكن بما أنك ترفضين البوح بالأمر، فأنا حتمًا لن أجبرك. ثم استقام وهو يردف. _وإجابة سؤالك عن كيفية معرفتي بالأمر، من نفس الشخص الذي ترغبين بمحاسبتي عن علاقتي المهنية بها. قالها بنظرة لومٍ لم يقدر على مداراتها، فكلامها كان به من الاتهام ما لم تقبله كرامته، فأردف ببرودٍ اعترى كلماته. _سليها هي كيف عرفت بالأمر.. أو لا تسأليها، هذا شأنك.. على العودة إلى العمل. ثم انصرف دون زيادة كلمات، بينما سُمية تنظر في أثره مصدومة من معرفة نجوان بالأمر، أترى بكر أخبرها؟ و منذ متى تهتم أختها بأي أمر يخص خالد؟ وعلى سيرة الأخير التقطت هاتفها تتصل بأختها، لا يجب ان يصل الأمر لخالد! لن تسمح لها بإخباره! لن تسمح لها بتشويه علاقتها به كما تحاول على ما يبدو تشويه علاقتها بفاروق دون سببٍ واضح، فاروق الذي هيأ لها الفرصة وجاء يحاسبها متأثرًا بما دسته أختها في رأسه، ولكن لكل مقامٍ مقال! والأولوية الأن لبتر الحديث عن ذاك الأمر. _أين أنتِ نجوان؟ قالتها سُمية بحزم دون تلفظٍ بسلام. _أرسلي لي العنوان فورًا. .... في المجمع التجاري للتسوق _أمرٌ غريب، ماذا كانت تفعل لدى والدي في عيادته؟ سألت دانة نادين التي كانت تجول بعينيها بين فساتين الزفاف المُعلّقة، تحاول التقاط ما يجذبها. _لا أدري، ويبدو أن العمة سُمية لم تكن تعلم بالأمر أيضًا حين أخبرتها صباحًا. ثم التقطت أحد فساتين الزفاف وهي تردف. _أُخبرك سرًا؟ أنا لا أرتاح لهذه المرأة، بها شيءٌ مُريب. _أنتِ أيضًا شعرت بذلك؟ ظننت أني وحدي من استشعر ذبذباتٍ غير مُريحة بشأنها. أقرت دانة، فتُجيبها صديقتها: _لست وحدك، لكني لا أذكر ذلك أمام عاصم، هي خالته في نهاية الأمر لكنها ليست مُقربة منهم، أو هكذا فهمت.. حمدًا لله على ذلك حتي لا يتأثروا بطباعها الباردة. قالت وهي تضع الفستان على جسدها تتفحص شكله أمام المرآة بينما دانة تشرد قائلة: _الأمر مُريب، فامرأةٌ مثلها بتلك العجرفة لن تلجأ لطبيبٍ نفسيّ من أجل علاج. فالتفتت إليها نادين. _لماذا إذن قد تزره؟ _لا أدري، لكني لا أشعر بالارتياح. قالت وهي تشرد في تفكيرها قليلًا ثم نفضت رأسها تستعيد تركيزها مع صديقتها. _هذا الفستان رائع، لما لا تجربيه؟ _أظنني سأفعل. ثم أخذت الفستان لغرفة القياس لتجربته، ثم عادت إليها وعلي وجهها نظرة عدم اقتناع وهي تنظر لنفسها في المرآة ثم إلى انعكاس دانة التي زمت شفتيها وهزت رأسها رفضًا للفستان دون كلمات قلبت نادين مقلتيها وهي تخاطب انعكاس صديقتها: _سيء، فهمت. فابتسمت دانة بسماجة وهي تومئ لها، فالتقطت نادين فستانًا آخر لم تقتنع به صديقتها، لكنها قررت قياسه على أية حال، فيما جلست دانة تتصفح هاتفها حين دخل عاصم وهو يبحث بعينيه عن زوجته. زوجته! ابتسم للخاطرة ولهفة قلبه تسبقه، فحين علم منها أنها ستحضر اليوم لاختيار فستان الزفاف، لم يستطع أن يقاوم رغبته لمرافقتها، لكنها رفضت متحججةً برغبتها أن تفاجئه يوم الزفاف بطلتها، فانصاع لرغبتها لكنه لم يقدر على كبح جماح رغبته للحضور، عله يسترق لمحة منها تهدّئ شوقه إليها. وكأن قلبه كان غافيًا تحت سطوة عقله الذي أرهقه ضجيج أفكاره التي لازمته لوقتٍ بدا كالدهرِ، وحين اتخذ قراره بعيش حاضره محاولًا تخطي قُبح ذنبه وكسر قيود أوهامه التي تزوره بين الحين والحين، انتفض قلبه مُفجرًا كل المشاعر التي حاول وأدها في مهدها تجاه مالكة قلبه، فانجرف خلف مشاعره غير مُبالي بأي قيود. رفعت دانة رأسها عن الهاتف لترى عاصم يبحث عن نادين، وحين رآها أشار إليها بتساؤلٍ صامت عن مكان نادين، فحادت عيناها تجاه غرفة القياس حيث كانت الأخيرة، فقرر دون تفكير أن يدخل إليها، همت دانة ان توقفه، فنادين حتمًا ستقتلها ان عاصم رأها بفستان الزفاف، لكنها عدلت عن الفكرة، فكم مرة تُتاح لنا الفرصة لاقتناص لمحة سعادة من العمر؟ فقررت بمكرٍ مسايرته في جنون مبادرته بأن تُلهي الفتاة المسؤولة في المتجر عن صديقتها وتسألها أن تُريها بعض فساتين السهرة كي لا تقاطعهما بالداخل. سمع عاصم صوت نادين من غرفة القياس. _أعتقد أن قياسه غير مناسب دانة. ليقتحم مكانها تزامنًا مع شهقة نادين المصدومة. _ماذا...؟ ماتت الكلمات على شفتيها وهي تنظر لانعكاس عاصم في المرآة وهو يوصد الباب خلفه، للحظة توقفت أنفاسها وهي تستدير إليه. _عاصم. لم تزد عن الهمس بإسمه في ذهول ونظرتها تتوه في بحر عينيه التي غزتها نظراتٌ لم تعتدها بعد منه والذي ذاب إثرها قلبها هو.. هنا؟ وهو.. أخذ يروي شوقه إليها وهو يشملها بنظراته العاشقة وهو يراها بفستان زفافٍ رقيقٍ مثلها هادئ التفاصيل، منديل رأسها يُخفي شعرها رغم بضع الخصلات الحمراء المتمردة التي أطلت منه كانت تبدو كالملاك في هيئتها! وكم فاق جمال الواقع أحلامه! حبيبته تقف أمامه بتوردها الذي يذوب أمامه مقاومته لرغبته للاقتراب، عينيه كانت تجوبان ملامحها التي صارت له موطنًا يود لو يسكن إليه. اقترب منها خطوة، فتراجعت نادين مثلها وهي تستوعب وجوده هنا، في غرفة القياس. _عاصم ماذا تفعل هنا؟ _اشتقت. كان كل ما همس به بقوة عاطفته وهو يقترب خطوة أخرى تراجعتها نادين فلم تجد غير صلابة المرآة خلفها بينما اقترب خطوة أخرى، قلبها يطرق بعنفٍ في صدرها وكلمته الوحيدة مع عُمق نظرته تبعثر مشاعرها شتاتًا ازدردت ريقها وتمتمت بتوترٍ _عاصم لا يصح تواجدك هنا، هيا أخرج وإلا.. _وإلا ماذا؟ قالها بابتسامة جانبية ونظرة عابثة أكثر استرخاءً وترتها أكثر فقالت مهددة إياه. _سأصرخ. _اصرخي. وكلمته غير المكترثة بتهديدها الواهي تزامنت مع اقترابه أخر خطوة تفصله عنها، فباتت تفصلهما فقط مسافة أنفاسهما التي اختلطت، اقترابه منها هذا الحد واقتحامه إياها أثار داخلها توترًا من نوع آخر، توترٌ وارتباكٌ من حضرة الحبيب، توتر من خطر ليس بخطر مُميت، وإنما خطر انهيار أعصابها من قربه منها بهذا الشكل، فهي لا تزال تستوعب تلك المشاعر المتدفقة منه إليها. _عاصم. همست ترجوه بعينيها ولا تدري ماذا تطلب، يلامس بأنامله خدها المُتورِد بتقديسٍ وهو يهمس بدوره _نبض عاصم الثائر أنتِ نادين. يميل إليها وفي اقترابه يتوتر قلبها الذي حار بين أن يطالبه بالابتعاد أو الاقتراب أكثر، يميل ويحط بجبينه على جبينها فتغلق عينيها من أثر اللحظة، وتستمع إلى آهه خافتة تهرب بين أنفاسه. _آهٍ من شوقي إليك نادين، آهٍ من شوقي لسكنٍ بين ذراعيك واحتوائك داخلي. حطت يداها على صدره تبغى دفعه، لكنها وجدت نفسها تتشبث بقميصه وحرارة كلماته تُرخي أوصالها، تراجع قليلًا لتحط شفتيه على جبينها في قبلة عشقٍ وتقديرٍ قبل أن يهمس لها. _خمسةُ أيام فقط.. خمسةُ أيام نادين. فتحت عينيها تنظر إليه برجاءٍ أن يرحم مشاعرها وهمست: _أخرج عاصم، أرجوك. فداعبت ابتسامة ملامحه وهو يومئ لها. _حسنًا سأخرج، لكني لن أرحل، سأنتظر انتهائك في إحدى المقاهي كي أوصلك للبيت. ثم مال إليها وطبع قبلةً حطت على خدها وجانب فمها، اضطرب لها قلبها أكثر وأكثر، قبل أن يتراجع وعلى وجهه ابتسامة عاشقة وينسحب خارج غرفة القياس، تضع نادين يدها على صدرها وهي تطلق سراح أنفاسها التي حبستها، تحاول تهدئة قلبها ولملمة أعصابها قبل أن تتسع ابتسامتها تدريجيًا من فرط السعادة التي تشعر بها، لا تصدق أن هذا عاصم الذي كان قبل بضع أسابيع متباعدًا عنها وهوةٌ سحيقة تفصل بينهما، والأن هي أقرب إليه من نفسه، هي الأن وبكل بساطة.. أكثر سعادة من أي وقتٍ مضي.. وفي الخارج قبل قليل كانت دانة تتفحص الفساتين و عقلها يهيم بملامحٍ وجدت نفسها تشتاق إليها، ليقفز من أفكارها متمثلًا أمامها وصوته يباغتها _اختاري الأزرق. فتنتفض مستديرة إليه متسعة العينين من تواجده هنا، وكأن قلبها استحضر تواجده حين فكرت فيه. تداركت ذهولها سريعًا وهي ترد عليه مُتشحة بالهدوء رغم توترها المُستحدث في وجوده. _ولما؟ ليرد خالد بكل بساطة وابتسامة صغيرة تداعب شفتيه. _لأنه يُعبر عنكِ، يُميزكِ. فتورد خديّها واستدارت بنظراتها عنه تلملم شتات مشاعرها وهي تتمتم. _لما أنتَ هنا؟ فتقابلها ابتسامته الماكرة. _جئت لأتسوق. فتلتفت تنظر إليها بحاجبٍ مرفوع. _في متجر فساتين زفاف؟ فيرد عليها باسترخاءٍ وكلماتٍ مبطنة مما يلوح في نيته التي صارحها بها قبلًا. _ربما ساقني القدر إلى هنا كي أُلاقي مصيري، وربما هناك زفافٌ يلوح في الأفق، فلقائنا هنا حتمًا ليس صدفةً وقد جئت لأراك. قال كلمته الأخيرة بحرارة شعرتها واربكتها، فقضمت شفتها وتورد خدها يزداد، كلماتها المشاكسة التي كانت تقذفه إياها كلما التقته تهرب منها ولا تجد ما ترد على كلماته، الصريحة منها والمستترة، ابتسامة جانبية منه تزامنت مع قوله. _أو تعرفين، ربما عليك اختيار فستان زفافٍ أبيض، فحتمًا سنحتاج أنا وأنت واحدًا قريبًا. تتسارع نبضات قلبها إثر تلميحه الصريح، ولكن تعود إليها روحها المشاكسة وهي تجده يتحدث بكل تلك الثقة، فتنظر إليه بحاجب مرفوع. _ما هذا الغرور الذي يصور لك أني موافقة؟ لتتحول نظرته المرحة إلى أخرى مُترقبة، جادة ومتلهفة، فهو لم يسمع منها ردًا على تصريحه بمشاعره إليها، أيكون قد تسرع بالاعتقاد أنها تبادله ولو قدرًا قليلًا من المشاعر؟ فيسألها بترقبٍ تمكن من مداراته. _إذن أنتِ ترفضين؟ يطلب منها ردًا صريحًا إما أن يحيي قلبه، او يرديه قتيلًا بين يديها، فما بخلت عليه بالرد العفوي الذي نبض من قلبها وان شابه التوتر. _أنا لم أقل ذلك. فتتسع ابتسامته إثر ردها بينما هي تقضم شفتها لتسرعها بالكلام. _أعني.. أقصد.. تمتمت بتوتر ونظراتها تحط على كل شيءٍ الاه، فيبتسم لجانبها الخجول والمتوتر والذي كان آسرًا له. _علي الإعتراف أني أُحبُ جانبك الخجول، بجانب بالطبع جانبك المشاكس الذي يناكفني. قالها بمرحٍ كي يمحي توترها فما كان منها الا الابتسام، ثم أردف بنظرة ولهٍ لم يقدر على مُداراتها _أما جانبك الحنون فيأسرني. فتوردت مجددًا وكلماته تغازل أنوثتها برقة، لكنها نهرته قائلة بجدية مصطنعة: _توقف عن مغازلتي، وإلا اشتكيتك للعمة سُمية كي تتصرف معك. ابتسامته تتسع مكرًا بينما يجيبها بتحدي: _ سُمية ستكون أول المؤيدين عندما أخبرها برغبتي بالارتباط بكِ، فهيا اشتكيني. قال وهو يقترب من مجالها خطوة، فتتراجع وهي تشعر بارتباك لذيذ غزا مشاعرها وهي تتمتم مُتهربة منه. _ أنا.. سأذهب لأقيس الفستان. قالتها وهي تلتقط الفستان الأزرق دون وعيها والذي اختاره لها وهربت من أمامه، فتتسع ابتسامته وهو يتابعها بعينيه حتى اختفت، ثم ظهر عاصم الذي اتجه إليه، جاذبًا إياه من ذراعه متجهًا إلى باب الخروج وهو ينوي أن ينتظر نادين في إحدى المقاهي، فيتمتم ابن خالته معترضًا وهو ينظر في أثر دانة متراجعًا بظهره مع عاصم إثر جذبه اياه. _انتظر.. أنا لم أرى الفستان الأزرق بعد.. بعد قليل أخرجت دانة رأسها من غرفة القياس، تنظر في الخارج لتري إن كان لازال متواجدًا، في نفس الوقت الذي أطلت نادين برأسها من غرفة القياس الخاصة بها تنظر في إثر عاصم، لتصطدم بنظرات دانة، فتمتمت باستغراب. _ماذا تفعلين؟ فاعترفت دانة وهي تذوب في مشاعرها: _اهربُ من خالد. فعقدت صديقتها حاجبيها في استغراب _خالد؟ فأومأت دانة بينما السعادة تغزو ملامحها. _يا إلهي نادين لن تصدقي ما حدث | ||||
يوم أمس, 09:22 PM | #104 | ||||
| _عزيزتي سُمية. بابتسامة مصطنعة فتحت نجوان باب شقتها المفروشة التي تؤجرها لتقيم بها منذ طلاقها، خطت سُمية إلى الداخل دون كلمات سلام وهي تحاول التمسك بهدوئها قدر المستطاع، طوال الطريق وهي تُفكر بطريقة لمعالجة الأمر بحكمة، نظرات الخيبة في عيون زوجها لازلت تخزها، والسبب.. نجوان! دخلت والتفتت إلى أختها تسألها دون مواربة. _ماذا تريدين من فاروق نجوان؟ فتنظر إليها الأخيرة باستفهامٍ واستغرابٍ مصطنع من سؤالها رغم توقعها إياه بينما تردف أختها: _نادين رأتك تغادرين عيادته اليوم الماضي. عقدت ذراعيها اسفل صدرها وهي تسأل بجدية والغيرة تتحكم فيها رغم استطاعتها مداراتها _هل لك أن تخبريني بما كنتِ تفعلين لديه. هزت المعنية بالسؤال كتفيها بلا مبالاة. _هو طبيبٌ نفسي أليس كذلك؟ فيما أريده لغير ذلك؟ تناظرها سُمية بتشكك وتقول بهدوءٍ رغم النيران المُتقدة في صدرها. _وهل تحتاج نجوان العظيمة إلى طبيب نفسي؟ فتُجيب نجوان والابتسامة الباردة تلوح على وجهها فيما تستشعر غيرة أختها. _كلنا مرضي نفسيين سُمية، لا أحد يخلو من المشاكل والهموم. تحاول سُمية التحلي بالهدوء والصبر واقصاء جانبها الغيور جانبًا بينما تقول ببعض اللين. _احكِ لي إذن، أنا اختك واستطيع سماعك. _أظنني أحتاج مساعدة متخصصة أفضل. تجيبها بنفس ذات البرود قبل أت تجاوزتها قائلة: _ماذا تشربين؟ قهوة علي ما أذكر. قالتها وهي تتجه للمطبخ، فلم تستطع سُمية تجاهل الأمر وهي ترى نجوان تناور كعادتها، فهتفت في أعقابها: _كيف عرفتِ بأمر خالد؟ والسؤال استوقف نجوان متسمرة لثوانٍ قبل أن تستدير لأختها التي أردفت بتساؤل: _بكر من أخبرك؟ نظرة ساخرة كانت الاجابة التي تلقتها أعقبها ابتسامةٌ جانبية _إذن الطبيب ذو الأخلاق العالية يفشي أسرار مرضاه. تعاجلها سُمية بالدفاع عن زوجها. _فاروق ذو اخلاق عالية رغمًا عن أنف الجميع! هو أبدًا لا يفشي أسرار مرضاه! لكن حينما يتطرق الأمر لأسراري أنا والتي لا تمت لكِ بصلة، فهو بذلك لم يخرق أداب مهنته! قلبت نجوان عينيها في لا مبالاةٍ جدية للأمر لأنها توقعت ما سيؤول اليه في النهاية. _كيف عرفتِ بالأمر؟ من بكر؟ _بل منكِ أنتِ عندما زرتك بعد طلاقي بسنوات.. لم تتمكني من رؤيتي حينها، لكني رأيتكما وسمعت الحديث الذي دار بينكما. ابتسامتها تزداد مكرًا وبرودًا: _ماذا كان اسمه.. ااه راشد.. عم عاصم أليس كذلك؟ هو من ساعدك في التعدي على بكر.. علي الاعتراف أني شعرت بالتشفي لما ألمّ به وكم وددت لو كنت شاهدة على الأمر. قالت بابتسامة وهي تتلاعب بخصلة من شعرها بين أصابعها بهدوءٍ مُغيظ. بادرتها سُمية بالسؤال _لم أخبرتِ فاروق نجوان؟ تتدعي الأخيرة البراءة وهي تجيبها: _ذلة لسان، لم أكن أعرف أنك لم تخبريه. ثم أردفت والخُبث مُتأصلٌ في نواياها: _أعني أنا أتفهم عدم إخبارك خالد بالأمر، حتمًا لن يَسُره أن يُصدم بمعرفة ما أقدمتِ عليه وتسببتِ بحرمانه من إخوته. فتُشدد سُمية عليها القول الجاد: _ولن يعرف نجوان! أنت لن تخبريه شيئًا! فتهز الأخيرة كتفيها بلا مبالاة. _إن عرف فلن يكون مني. وأردفت كلماتها بوعدٍ أقرب ما يكون لوعد ذئبٍ لفريسته باستئناسه وعدم الغدر. _وعد شرف. ثم تتسع ابتسامتها مغيرة مجرى الحديث. _ماذا عن القهوة الأن؟ تنظر إليها سُمية بتشكك ثم تهز رأسها نفيًا. _ شكرًا، عليّ الذهاب للعمل. ترسم نجوان حزنًا على رحيل أختها بهذه السرعة _أنتِ جئتِ للتو، ابقِ قليلًا. فتجيبها باقتضابٍ كي تُنهي تلك الزيارة التي ما زادتها الا همًا وقلقًا. _مرةً أخرى، إلى اللقاء. ثم استدارت ورحلت، فتبتسم نجوان ابتسامة خبيثة وهي تدرك أن خطتها في إفساد علاقة أختها بزوجها تسير كما تتمني، فلِم تنعم سُمية بحياةٍ هادئة مستقرة، فيما هي نجوان عانت الأمرين طوال حياتها؟ زوجٌ ينتهكها ويسيء إليها، وأخر يخونها، والأخير يتطاول عليها بالضرب، سلسلةٌ من العلاقات السيئة التي دومًا تخرج منها خاسرة خائبة الرجا، ولكن سُمية.. سُمية حظت بزوجٍ مُحب في ريعان شبابها، عاشت معه من الأيام السعيدة ما شهدته أختها ونقمت عليها لنيلها ما لم تناله هي، ثم يهديها الحظ زوجًا محبًا آخر تعيش في كنفه وتخطف من السعادة ما شهدته أختها مرةً أخرى، ليزداد نقمها على حظها هي العثِر. فأختها لديها كل شيء! زوج وأبناء وأصدقاء وسعادة ما بعدها سعادة.. وهي... ماذا لها؟ لا شيء من كل هذا أين العدل في ذلك؟ لماذا تحظى أختها بكل ما لا تملكه هي؟ حقدٌ دفين تشعر به وغيرة وحسدٌ تجاه من تشاركها دمها، حقدٌ أورثها النية أن لا تدع أختها تنعم بهذه السعادة، فتحاول تخريب حياتها. أختٌ بمنزلة عدوٍ.. و يا لها من طعنةٍ عندما تأتي من قريب على حين غرة، وهي ستنتظر الوقت المناسب لتسديد طعنتها والتي ستكون قاتلة لا محالة. .... يقود سيارته وهو يختلس النظرات الجانبية لتلك التي تجلس بجوارهِ تذوب في كُرسيها خجلًا مع توتر ذرات الهواء المُحيط بهما وهي تتذكر اللحظات التي اقتحم فيها عاصم خلوتها وهي تقيس ثوب الزفاف. تتورد خجلًا وهي لازلت تشعر بأنفاسه التي لفحت وجنتها وقبلته التي لثّمها بها قبلًا فأسكنها بها الغيمات الوردية وما عادت منها بعد. ولو التفتت إليه لانصهرت من حرارة نظراته التي يرمقها بها بين الفنية والأخرى وقد انفلت عقال مشاعره فما عاد قادرًا على مداراتها ولم تكن لديه النية من الأساس. صف سيارته وترجلا منها يصحبها إلى داخل البناية التي تقطن بها بعد إصرار والدها عليه مشاركتهما الغداء، وهو لم يتوان عن تلبية الدعوة وقلبه يرقص طربًا بمزيدٍ من الوقت بصحبتها. ركبا المصعد دون تبادل كلمات، يدها امتدت للضغط على الزر في نفس ذات اللحظة التي امتدت يده إليه هو الأخر فتعانقت الأصابع في لمسةٍ خاطفة زادت من شرارات لهفته لولا أن سحبت هي يدها إليها مع ابتسامةٍ خجول قابل إياها بابتسامةٍ عذبة من حيائها الذي ذابت فيه وذاب هو معها. ضغط الزر واستكان جوارها وهو يعقد يديه خلف ظهره مخافةً أن تخونه مشاعره فيجذبها إلى صدره ويمطرها أشواقه ولوعته ولهفة قلبه. كان قاب قوسين أو أدنى من إيقاف المصعد وليكن ما يكون، لكن وصولهما لطابق والديها كان له رادعًا عن الانصياع خلف رغبته. رحبا به والديها ثم تسلسلت نادين تتخفى منه متعللةً بمساعدة والدتها بتحضير الطعام. وبعد عشاءٍ دافئ تشاركوه وبعض السمر مع والديها، ترك الأخيران الفرصة للعروسين الانفراد ببعضهما. _ لماذا تجلسين بعيدًا؟ بنبرةٍ مُتسلية بادر عاصم وهو يراها تتخذ مجلسها في أبعد نقطةٍ عن مكانه تنكمش على نفسها منه. وبصراحةٍ مُطلقةٍ أجابت والحزم يقطر من نبرتها رغم تراقص قلبها طربًا. _ هكذا أفضل. شهقت والصدمة تعتريها وهي تراه يستقيم من مكانه مقتربًا منها ويسارع بالجلوس جوارها فلا يفصل بينهما شيء. _ بل هكذا أفضل بكثير! تزحزحت عنه مبتعدة وهي تهمس بخفوتٍ حازم. _ عاصم، إلزم مكانك! اقترب المسافة التي ابتعدتها فالتصق بها مجددًا مبعثرًا شتات أعصابها وهو يهمس بحرارة: _ هذا ما أفعل، ألزم مكاني.. أنتِ مكاني ووطني وسُكناي ولا حيلة لي إلا بقربك! أيُلام المغترب إن زهد دفئًا خارج أرض وطنه؟ كلماته زادتها وهنًا تقاومه ولازالت تبتعد عنه ولازال على اقترابه حتى وصلت طرف الأريكة، فهمّت بالقيام ألا أنه حال بذراعه أمامها يسنده إلى مسند الأريكة يحاصرها مكانها. _ عاصم.. ابتعد.. نهرت إياه بحزمٍ لكنه لم يتسمع لكلماتها وعيناه تحطان على ثغرها الذي يشتاق عناقه. _ عاصم.. والدايّ بالخارج.. قد يدخلان بأية لحظة.. حاولت إرساء بعض المنطق في تفكيره، فلاح المكر على ملامحه لكنه أرخى حصاره عنها قليلًا كي يرحم توترها الذي ينضح من حمرة خديها. _ حسنًا، سألتزم آداب الضيافة، إن أنتِ التزمتِ مكانك ولم تهربي مني. _ لن أفعل. هادنته بالقول فنظر إليها بتوجسٍ قبل أن يبعد ذراعه عنها، وما أن فعل حتى سارعت بالقيام والاسراع تجاه الباب، لكنه أدركها قبل أن تفتحه وجذبها إليه لترتطم بصدره بينما يحاصر خصرها بذراعيه وهمس جوار أذنها بخفوت: _ أيتها الماكرة! ارتباكها ازداد بينما قلبها يتقافز وثبًا في صدرها من اقترابه، فتحاول التملص منه. _ عاصم تعقل! _ أنتِ تعرفين بجنوني منذ مدة وقبلتِ بي على عيبي. قالها بمكرٍ لكنه أرخى ذراعيه عنها كي لا يثير ذعرها، فتُمسد كفيه ذراعيها بحنان. _ لكني سأكفُ حسنًا، اهدأي الأن. استكانت بين كفيه وهدأت قليلًا وهي ترى نظرته تتحول من العبث إلى العشق. _ لا أطيق صبرًا حتى يوم الزفاف. ما باله يبدو بعيد الأمد؟ أخفضت نظراتها عنه خجلًا ولا تجد من الكلمات ما تعبر به عن سعادتها بالعشق الذي يغدقها به، وكأنها في حُلمٍ ورديّ جميل لا تبغى أبدًا الاستيقاظ منه. _ ما بها أن اختطفتك الأن وتركنا كل شيءٍ خلفنا؟ حينها يذاع أن مجنونًا اختطف عروسه قُبيل زفافهما بأيام.. حتمًا سيكون حديث الساعة. قهقهت نادين من حديثه فشاركها الضحك، تأملت قسماته المسترخية فذابت به عشقًا فوق العشق وازدادت امتنانًا أن قذف الله في قلبه حبها مثلما قذفه بقلبها. _ ربما لو لم نكن بطابقٍ علوي كنتُ نفذت خطة الهرب بالتو واللحظة. ازدادت ضحكاتها وشاركها إياها مجددًا، ثم مال بجبهته لخاصتها وعيناه تسبح في مقلتيها فيتوه فيهما، صمتٌ مشحونٌ بالعواطف يلفهما، شعر خلالها أنه سينساق خلف جنون مشاعره، فمال يطبع قبلةً على جبينها يُحجم بها اشتياقه لها قبل أن يتراجع عنها قائلًا بأنفاسٍ متهدجة. _ سأرحل الأن قبل أن تداهمني إحدى نوبات جنوني بكِ فتصير فضيحةً لن أكون مسؤولًا عنها. انتابتها رفرفة الفراشات إثر حديثه بينما تراقبه وهو يبتعد عنها فتتبعه حتى خرجا من الغرفة وسلّم على أهلها يودعهما، رافقته للباب بينما قدماه تأبيان الرحيل، لكنه أجبر نفسه على ذلك، لكن ليس قبل أن يلتفت لها كي يودعها، نظراته تمشط المكان خلفها فلا يجد أثرًا لوالديها، فيخطف منها قبلةً سريعة شهقت على إثرها من الصدمة وهي تضع كفها على ثغرها مكان قبلته، ثم تناله ضربةً من قبضتها الرقيقة تنهاه عن فعلته، فيقهقه ضاحكًا قبل أن يتراجع عنها مغادرًا، ودّعته بنظراتها والابتسامة رغمًا عنها ترتسم على ملامحها من فرط سعادتها، لا تصدق أن هذا هو نفسه عاصم الذي كان بمنأى عنها قبل بضعة أشهر، والأن صارت روحه وكيانه توأمين لخاصتها. .... خرجت سُمية من غرفتهما وهي تسمع وصول زوجها للبيت، فاروق الذي كان يظهر الاقتضاب على ملامحه وهو ينظر إليها، لا يدري كيفية التعامل معها بعد ما حدث صباحًا، يشعر بضيقٍ لا يفهم سببه تحديدًا، يشعر بالحزن أنها لا تأتمنه ولا تفضي إليه. يريد أن يفهم ولا تعطه الفرصة، بل تتركه لأفكاره وخيالاته. ألقى السلام بفتور وهو يتجاوزها، تغيّره معها يلف روحها ببرودٍ قارص، وغيرتها نيرانٌ تتقد كلما فكرت أن امرأة أخرى -حتي لو كانت أختها تفضي إليه بأسرارها، أسرارٌ تأبى نجوان أن تشاركها فيها، أسرار على ما يبدو أن سُمية تجهل الكثير عنها، أسرار على ما يبدو أنها ستؤثر على حياة سُمية بطريقةٍ أو بأخري. _فاروق. نادته تستوقفه فتوقف دون استدارةٍ إليها. تقدمت تجاهه لتواجهه، ودون التطرق إلى ما حدث بينهما صباحًا طلبت منه صراحةً _خالد لا يجب أن يعرف بما أخبرتك به نجوان. ليرد عليها باقتضاب. _أخبرتك صباحًا أن هذا الأمر شأنك وحدك ولن أتدخل فيه ما دُمت تقصيني. _جيد. لا يجب أن يصل إلى مسامعه هذه الترهات. ليقارعها بالرد الساخر ونظراته بها من الاتهام ما أدماها. _ما بالك يشغلك هذا الأمر إن هي كانت ترهات حقًا؟ أم تراها ليست كذلك. لتقول سُمية بجدية: _فاروق لا تناور فأنا لم أعهدك ماكرًا. _ربما إن أخبرتني الحقيقة لن أحتاج إلى المناورة لأسبر أغوار زوجتي. فهتفت بيأسٍ وغضب استحكمها ولم تملك من القوة لاحتوائه. _أيةُ حقيقةٍ تُريد أن تسمع بعد أن جاءتك أختي تحكي لك عن ماضٍ يخصني أنا وخالد ولا دخل لها به؟.. وأنتَ.. أنتَ استمعت لها وجئت تحاسبني وتطالبني بالنفي أو التبرير. قالت والغضب يستعر من عينيها وهي تُردف بعِزة وإيباء: _أنا لن أقف أمامك موضع اتهام محاولةً شرح أو تبرير شيءٍ مر عليه زمن في انتظار نظرة تفهمٍ أنت من البداية لم تُبد أي بادرةٍ لتقديمه. كلامها الأخير يقطر حزنًا وحسرة والدموع تخز عينيها رغمًا عنها. تمتمت بأسي: _خسارة فاروق.. أنت تنصت للجميع وتسمع آناتهم بموضوعية دون أن تحكم، بينما اخترت الصمم حين تعلق الأمر بي انا.. خسارة! ثم تركته وابتعدت، تنأى بنفسها عنه في غرفة منفصلة، كي تسمح لدموعها بالانهمار، كما اعتادت دومًا في وحدتها أن تنأى بنفسها فلا يرى أحد ضعفها. هي اعتقدت أن زمن وحدتها ولّى ولن يعود، لكن يبدو أن للأقدار رأيٌ أخر، فها هو زوجها ليس معها كما ظل يعدها أنه سوف يكون، هو ليس معها.. هو ضدها. بينما وقف فاروق مبهوتًا مما سمعه منها وزفر بضيقٍ من الأمر برمته، يعترف أنه لم يكن موضوعيًا في مشاعره، لكنها لم تعطه أي فرصة، بل صدته وأقصته، والأن لا يدري كيف يتعامل مع الأمر. بضع دقائق توقف فيها يزن الأمور ويلعن نفسه لتسرعه، ثم تقدم من باب الغرفة التي تقبع فيها وقرعه وهو يناديها، قلبه ينقبض ألمًا من أنين صوتها وكلماتها في مواجهتهما قبل قليل. ناداها لكنها لا ترد، وحين حاول فتح الباب، لدهشته لم يكن موصدًا. دخل ليجد الأنوار مطفأة إلا من نور القمر الخافت الذي يخترق الشرفة ونور الصالة الذي يأتي من خلفه من الخارج، ولوهلة شك بوجودها لولا أنه رآها تدخل الغرفة، امتدت يده لمقبس الكهرباء فأتاه صوتها. _لا تضيء النور. فتوقفت يده في الهواء قبل أن يسقطها إلى جانبه ثم خطا إلى المكان الذي أتى منه صوتها، فرأها تجلس أرضًا مستندة بظهرها إلى قائم المكتب المجاور للشرفة، تضم ساقيها إليها وانظارها تسبح للخارج إلى حيث السماء المُعتمة إلا من بعض النجوم وقمرها. شعر بالألم ينغز قلبه لمرآها جالسة على هذا الحال، فقال برفقٍ _لماذا تجلسين في الظلام هكذا؟ ليأتيه صوتها أجوفًا مشوب باليأس. _أنا اعتدت الظلام. يعتصر الألم قلبه لكلامها وهو يدرك أنه السبب في حالة الحزن التي تعتريها. نزل على عقبيه أمامها وهو ينظر إلى ملامحها تحت ضوء القمر بأسف. _سُمية أنا أسف.. أنا.. لا أعلم ماذا اعتراني.. أنا عادة لا أكون سريع الحكم على أحد، عادةً ما أنظر للأمور من جميع الزوايا، لكن.. ربما صدمتي مما سمعت ولم اتخيله أن يصدر عنك أنت دون جميع الناس.. ربما هذا ما جعلني مشوش التفكير.. وهو ليس بعذرٍ لأستبق الأمور أو أصدر أحكامًا.. وليس بعذرٍ أن أحاسبك على ما مضى منذ زمن وكان طي النسيان لسنوات، فأنا لا أُلم بجميع الظروف وجميع أبعاد الأمر. لم تحد عيناها عن السماء بينما دمعة انحدرت على خدها وهي تستمع إلى كلماته، دمعة أحرقت قلبه وأدمته أنْ كان السبب فيها. امتدت يده تحط على يدها المحتضنة ساقيها. _انسِ ما حدث سُمية، وأعدك ألا أعيد ذكره مرة أخرى، فقط انسِ. بلعت ريقها تحاول السيطرة على وخزة الدموع ثم همست بصوت متحشرجٌ من غصة البكاء. _هل تعلم أني لا أحبُ الظلام؟ فصمت يستمع إليها وإلى بوحها بما لم تخبره به قط قبلًا، صمت وجلس قبالتها نفس جلستها وعينيه لا تفارقها بينما أكملت همسها _لكني اعتدته كي أدفن فيه آلامي وأحزاني وخوفي، اعتدته كي اتخفى فيه عن عين ولديّ فلا يريان ضعفي. ارتعشت شفتيها بينما هربت دمعة أخرى على خدها، وفاروق جلس يصارع دواخله التي تدفعه دفعًا لضمها واحتضانها، لكنه التزم مكانه لتتكلم وليسمع وهي تردف: _حين مات والد عاصم، صار الخوف صديقي وصاحبي! كنت أرهب الخروج ولا يُكتب لي عودة، فيصير ولديّ يتيما الأب والأم، كنت أخاف المبيت وحدي في المنزل والصمت المطبق يلف الأركان، فأُحكم إغلاق الباب خوفًا من اقتحام أحدٍ للمكان وأنا وحدي دون سندٍ أو ظهر! كنت أخاف المستقبل والمجهول، كنت أخاف اتخاذ أي قرار مصيري لربما كان القرار الخطأ.. كنت وحدي تمامًا في مواجهة العالم وفي عنقي طفلين، عاصم.. وخالد الذي تركته نجوان بعد ولادته، وتركه أبيه بعد زواجه، فربيته أنا ووالد عاصم الذي احتضنه كأبنه وأحبه كأنه منه فإشتد تعلق خالد به في صغره. قالت سُمية بشجن ثم أكملت همسها. _توليت أمره وشئونه، سهرت في مرضه، فرحت في فرحه، حزنت لحزنه.. كنت له الأم والأب الذي حُرِم منهما بينما لازالا على قيد الحياة.. كان يسرد لي عن معاملة أبيه الباردة له حين كان يأخذه لديه بضع أيام كل فترة، بل وأيضًا معاملة زوجة أبيه الجافة وتميز ابنها عليه وتفضيلها إياه دون مراعاة لمشاعر طفلٍ صغيرٍ كل همه أن يمرح ويسعد مع إخوته. كنت حين يعود أحاول تعويضه عن كل ما يعانيه من جفاء وقسوة لديهم.. ورغم ذلك كطفلٍ صغير بمشاعر نقية كان يحبهم. ثم قطبت جبينها في غضب والذكرى تُداهمها. _ثم عاد يومًا حين كان في التاسعة من عمره حزينًا مقهورًا، بعد أن ضربه أباه أمام مرأى زوجته وأخوه الصغير، إثر حادثة أصيبت فيها الصغيرة ولم يكن الذنب ذنبه.. ضربه وأهانه لمجرد انه يمتلك القوة والسلطة 'لتأديبه' على حد قوله. تغضنت ملامحها بالألم وهي تكمل: _اعتصر قلبي ألمًا عليه وعلى حاله، لكني كنت عاجزة عن التصرف، هو أباه رغم كل شيء.. أباه الذي فاجأني برغبته في أخذ خالد معه للسفر مع أسرته.. ثم التفتت تنظر إليه وكأنها تراه للمرة الأولى وهي تردف باستنكار وهيستيريا _كان يريد أخذ ابني!! نعم! خالد ابني أنا وليس ابنه!! هو لا يعلم عنه شيئًا سوى مشاركته اسمه في شهادة الميلاد، هو ليس ابنه هو، هو ابني أنا!! خالد ابني أنا!! الوالدان ليسا فقط من ينجبا الطفل، بل من يُحب ويرعى ويهتم بما يخصه، صغيرًا كان أم كبيرًا! خالد ابني وإن أنكر العالم ذلك! هتفت بها والدموع تغلبها، ثم اعتلى التصميم ملامحها وهي تستمر في البوح. _لم أكن لأسمح له أن يأخذه! لم أكن لأسمح له أن يزرعه في بيئة غير مرغوب به فيها ولن يلاقي فيها سوى القسوة والجفاء والمعاملة السيئة!! زوجة أبيه كانت تكرهه، هو أخبرني أنها تكرهه وأنه يكرهها، فكيف أترك ابني في حوزتها بكل بساطة؟؟ قالت باستنكار ثم تطلعت إلى السماء في الخارج مرة أخرى. _ذهبت إليه، وطلبت منه أن يترك لي خالد، أن يتركني أربيه مع عاصم، لكنه كان من الجبروت والعجرفة فلم يستمع إليّ، فشعرت باليأس.. قالت والمزيد من الدموع تعطل من عينيها. _يأس أم أرادوا أن يحرموها من ابنها فلذة كبدها!! كبلني العجز مجددًا وقيدني.. لكني لم أكن لأظل مكتوفة الأيدي مجددًا، قررت ألا أكون عاجزة من جديد، فاستعنت براشد عم عاصم لمساعدتي لحل الأمر، استشار محامِ صديقًا له وعرفت أنني يجب أن أحصل على تنازل منه لوصاية خالد كي استطيع الاحتفاظ به، وهو قطعًا لم يكن ليعطيني ذلك التنازل بصدرٍ رحب، فكانت فكرة راشد أن نستخدم القوة معه ونرهبه للتنازل.. فوافقت مضطرة لأني لم يكن لديّ البديل.. إما استخدام القوة، أو الحرمان من خالد. ثم التفتت تنظر إليه وهي تهتف بيأس _ماذا كنت لأفعل؟ أتركه يأخذ ابني مني فأتخلى عنه أنا الأخرى كما تخلى عنه الجميع؟ أم أتمسك به بكل ما أوتيت من قوة؟ ماذا كنت لتفعل لو كنت مكاني ها؟ أخبرني أيها الطبيب النفسيّ.. ماذا كنت لتفعل؟ هنا ولم يقدر فاروق على الصمود أكثر فجذبها إليه يخبئها داخل حضنه معتصرًا إياها محاولًا امتصاص ألمها إليه. وهي.. تشبثت به تشبث الغريق بقشة الحياة بينما انفجرت دموعها من مآقيها وأطلقت العنان لحزنها ويأسها علها تجد بعض الراحة. انهارت وانهار تماسكها فبكت كما لم تبكِ أمام أحد من قبل، مُتعبةٌ كانت من التظاهر بالقوة وقد وصلت إلى نقطة استنزفت فيها طاقتها فلم تقوى على التماسك. حتى أشد الجبال وأكثرهم شموخًا ما تؤول أحيانًا للإنهيار. تسمع بين غيابات الدمع مواساة زوجها وتربيته الحاني على ظهرها وقبلاته المعتذرة لجبينها، كلماته لا يصل صداها إليها من شدة بكائها سوى كلمتين. _أنا معك. .... أوقف السيارة وجلس صامتًا يستجمع قواه. المرة الأخيرة التي كان فيها هنا كان يصارع أشباح ذكريات يومٍ سيظل محفورًا في روحه أبد الدهر، وظل يعود لنفس المكان في نفس التوقيت كل عام ليظل يتذكر وأبدًا لا ينسي. والأن وبعد قرابة الثلاث أشهر يعود، وشتان بين عودةٍ وعودة. الأولى كان عائدًا بجسدٍ خاوٍ يحوي روحٍ ميتة أثقلها ذنبها وظَلَّ ثقل الذنب يجذبها إلى قاع الظلام الدامس إلى غرقٍ محتوم، والثانية.. بروحٍ تتنفس الحياة من جديد، لكنها لازلت حبيسة ذنبها تجاه من كانت يومًا حية. الذنب لازال موجودًا وأبدًا لن ينمحي، لكنه وبالجلسات النفسية يحاول التعايش معه. ربما يومًا ما.. يومًا ما يسامح نفسه. شرد بنظراته تجاه المقابر لوهلة قبل أن يترجل من السيارة ويخطو تجاه البوابة التي كانت مفتوحة وحارس المقابر يهتم بنظافتها. قرأ الفاتحة وانتظر انصراف الحارس. جلس إلى المقعد الرخامي ينظر لشاهد القبر المحفورٌ عليه اسمها، تترائى له بجانبه وهي تجلس جواره صامتةٌ أيضًا كما اعتاد مؤخرًا، تظهر لمامًا دون حديثٍ وكأن كلامها نَضب. جلس صامتًا لا يدري لما جاء ولا يدري بما يتفوه، لكنه شعر أنه مدينًا لها بالكلام، مدينًا لها بالاعتذار. _أنا أسف ميلا. تمتم هامسًا وعيناه لا تفارقان شاهد القبر. _لقد كنتُ أنانيًا معك، وأنانيتي كلفتك حياتك. مقلتاه تمتلأن بدموعٍ صامتة. _أعلم أنها الأقدار، لكني حقًا أسف.. أنا أبدًا لم أقصد أذيتك.. ولو عاد بي الزمان ما كنتُ لأتهور.. لكن ما باليد حيلة.. اعتصر قبضته من شدة ألم قلبه. _ذنبك سيظل ندبةً في روحي، حتى وإن تعايشت مع الأمر، فأنا أبدًا لن أنسى.. مد يده يتلمس شاهد القبر بأطراف أصابعه برهبة. _سأتذكرك دومًا ميلا.. وسأدعو الله لك في كل صلاة أن تكونِ بمكانٍ أفضل. دعا لها من كل قلبه أن يتغمدها الله برحمته، نظراته ترتحل جواره إلى حيث كان طيفها قبل قليل فلا يجد له أثرًا فالتفت إلى قبرها مجددًا يلقي عليه نظرة وداعٍ أخيرة مليئة بالأسى، ثم استقام واتخذ خطواته مغادرًا المقبرة. انتهى الفصل.. | ||||
أدوات الموضوع | |
انواع عرض الموضوع | |
|
|